Galen: In Hippocratis Epidemiarum librum II (On Hippocrates' Epidemics II)
Work
,
(Ἱπποκράτους ἐπιδημιῶν βʹ καὶ Γαληνοῦ εἰς αὐτο ὑπομνήματα)
English:
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 850 and 873
Source
Uwe Vagelpohl. Galeni in Hippocratis Epidemiarum librum II commentariorum I-VI versio arabica. Corpus Medicorum Graecorum. Supplementum Orientale 5/2. Berlin (Walter de Gruyter) 2016, 76-966
شرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الأولى
المقالة الأولى من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا. ترجمة حنين بن إسحق.
(١) قال أبقراط: الجمر الصيفيّ الذي كان بقرانون: جاءت أمطار جود مع حرّ الصيف كلّه وكان أكثر ما يكون مع الجنوب ويصير تحت الجلد صديد فإذا احتقن سخن وولد حكّة ثمّ كانت تخرج فيه نفّاخات شبيهة بحرق النار وكان يخيّل إليهم أنّ ما دون الجلد يحترق احتراقاً.
قال جالينوس: إنّ أبقراط وصف في المقالة الأولى أمر ثلاث حالات من حالات الهواء حدثت عنها أمراض ووصف في المقالة الثالثة من هذا الكتاب بعينه أمر حال واحدة وبائيّة. فقدّم أوّلاً في وصف تلك الحالات كلّها صفة تغيّر الهواء المحيط بالأبدان وخروجه عن طبيعته ثمّ أتبع ذلك بصفة طبائع الأمراض التي حدثت لكثير من الناس عن تلك الحالات.
ولم يفعل ذلك في هذه المقالة على هذا المثال لكنّه ذكر أوّلاً المرض الذي حدث ثمّ ذكر الوقت الذي حدث فيه من أوقات السنة ثمّ ذكر البلد الذي حدث فيه ثمّ ذكر مزاج ذلك الوقت والخلط الذي تولّد في أبدان الناس عن ذلك المزاج ثمّ وصف طريق فعل ذلك الخلط الذي به حدث السبب المولّد للجمر ثمّ ذكر العرض الذي تقدّم ذلك والعرض الذي كان معه في تلك الحال والعرض الذي حدث فيه بعد تزيّده والعرض الذي حدث فيه عند بلوغه منتهاه.
والسبب في تقديمه ذكر المرض على خلاف عادته ثمّ ثنى به فذكر حال الهواء قصده للإيجاز فقد نجد الواضع لهذه المقالة أبقراط نفسه كان أو ثاسالوس ابنه حريصاً على الإيجاز. ولا فرق عندي فيما نحن بسبيله بين أن يقال إنّ هذا الكتاب لأبقراط وبين أن يقال إنّه لثاسالوس.
وأنا ملخّص هذه الأشياء التي ذكرتها مجملاً فأقول إنّ فاتحة هذه المقالة كأنّه جعلها شبيهة بما تقدّم من الرسم قبل الشيء الذي يقصد لصفته كأنّه قال: «إنّ الجمر الذي حدث في الصيف بمدينة قرانون» ثمّ تقطع إذا قرأتَ هذا وتبتدئ من الرأس وتقرأ: «جاءت أمطار جود» حتّى تفهم في هذا الكلام الأوّل من عندك أنّه كان على هذه الجهة كأنّه قال: «إنّ الجمر الصيفيّ الذي كان بقرانون كان على هذه الجهة: جاءت أمطار جود مع حرّ الصيف كلّه وكان أكثر ما يكون تلك الأمطار مع الجنوب».
«والجمرة» هي قرحة تكون من تلقاء نفسها وعليها خشكريشة في أكثر الأمر سوداء وربّما كانت بلون الرماد. ويكون معها في المواضع التي تحيط بها حرارة شديدة حتّى يحسّ من يلمسها منها بحرارة كثيرة فضلاً عن أن يحسّها صاحب القرحة. والمواضع أيضاً التي حول الخشكريشة ليست بصادقة الحمرة كما يكون في الورم الحارّ الذي يسمّى «فلغموني» لكنّه يكون مائلاً إلى السواد والصلابة أيضاً فيه أزيد كثيراً.
وعلى هذه الصفة رأينا نحن الجمر الذي حدث بكثير من الناس بمدينة برغامس ورآه غيرنا في سائر مدن آسيا كلّها إلّا الخطاء كالذي خبّرنا به من رآه. ولهذا منذ كان أربعون سنة لم ير فيها حدوث عامّ آخر شبيه بذلك من هذا الجمر. وكان ذلك الجمر الذي كان بعقب حال من الهواء جنوبيّة رطبة مع سكون من الرياح. وهذه هي جملة صفة الحال التي وصفها أبقراط أيضاً فإنّه قال: «إنّه جاءت أمطار جود مع حرّ الصيف كلّه».
وحدوث المطر «في الصيف كلّه» خارج عن المجرى الطبيعيّ ولا سيّما إذا كان المطر «جوداً». فإنّ ذلك لو كان في الشتاء لجعل مزاجه مزاجاً رديئاً فإن كان
مع ذلك حرّاً أعني ألّا تهبّ رياح قويّة فإنّ الحرّ لا يكون في الصيف إلّا بهذا السبب فإنّ الآفة تكون أعظم. وذلك أمر قد كان عرض بقرانون فإنّه قد كانت الرياح في ذلك الوقت وإن هبّت في الأحايين فإنّها إنّما كانت تكون «جنوبيّة». وهذه الريح من أعون الرياح على إرخاء قوّة البدن كما وصف أبقراط في كتاب الفصول وعلى أن تحدث أمراض العفونة. وقرانون أيضاً هي مدينة من بلاد ثساليا من قبل أنّها في وهدة وهي أيضاً مع ذلك في ناحية الجنوب توافق ما كانت عليه تلك الحال من الإفراط.
ولذلك وقت تلك الحال من أوقات السنة الذي دلّ عليه بقول «الجمر الصيفيّ» يعني الجمر الذي كان حدث في الصيف على أنّ قوماً فهموا من قوله هذا لا أنّه كان في ذلك الوقت بل أنّه يكون كذلك دائماً وأنّ هذا أمر خاصّ لتوليد الجمر. ولا فرق في ذلك الجمر الذي كان في ذلك الوقت إذا كان تولّد الجمر إنّما شأنه أن يكون في الصيف أو كان إنّما حدث بقرانون في الصيف.
فإنّ الذي يكتفي به هذا فقط أن تعلم من أمر حدوثه أنّ مزاج الهواء الذي حدث فيه كان حارّاً عديماً للرياح رطباً. فقد نرى عياناً أنّ جميع الأجسام تعفن
عند هذه الحال وإن لم نعلم السبب في ذلك. إلّا أنّ أبقراط قد بيّن السبب في ذلك بقوله «ويصير تحت الجلد صديد فإذا احتقن سخن». فإنّ معنى قوله «احتقن» إنّما هو أنّه بقي في البدن داخلاً فلم يستفرغ استفراغاً ظاهراً للحسّ ولا استفراغاً خفيّاً لكنّه لبث داخلاً فعفن ومن قبل ذلك سخن سخونة خارجة عن الأمر الطبيعيّ.
فلمّا كان ذلك «ولد» أوّلاً «حكّة» والحكّة تكون من أخلاط لم تسخن سخونة شديدة جدّاً لكنّها قد ابتدأت أن تسخن. فلمّا تمادى به الزمان ونفذ أرقّ ما كان في ذلك الخلط الذي عفن من أسخف أجزاء الجلد بسهولة واجتمع تحت الصفيحة الخارجة منه لكثافتها ولد «النفّاخات». فأمّا الشيء الأغلظ من ذلك الخلط فإنّه لم ينفذ إلى أن يبلغ إلى الصفيحة الخارجة من الجلد لكنّه احتقن داخلاً تحت الجلد واجتمع هناك فعفن وسخن سخونة شديدة حتّى «كان يخيّل إلى صاحبه أنّ ما دون الجلد يحترق احتراقاً». ثمّ من بعد هذا فإنّ النفّاخات كانت تتمدّد من كثرة الرطوبة التي فيها وتتأكّل من حدّتها فتنقص. والجلد الذي من تحتها كان يحترق من ذلك الخلط المفرط الحرّ فيحدث منه فيه شبيه بالخشكريشة التي تحدث من الكيّ. وهذه الأشياء أشياء تعمّ جميع الجمر.
وأمّا الأشياء التي خصّت ذلك الجمر الذي حدث في ذلك الوقت فكانت شدّة إفراط الحرارة التي فيما دون الجلد وتولّد النفّاخات. وإنّه ليس يجب ضرورة أن يتقدّم حدوث الجمر حدوث النفّاخات ولذلك عبّر أبقراط عن هذه المعاني بألفاظ مختلفة الأزمان. فوصف الأعراض التي تعمّ الجمر بحدوثها دائماً بألفاظ تدلّ على الوقت الحاضر منها قوله «ويصير تحت الجلد صديد» وقوله «فإذا احتقن سخن وولد حكّة». فأمّا الأعراض التي خصّت ذلك الجمر الذي كان في ذلك الوقت فلم يعبّر عنها بمثل هذه الألفاظ لكنّه عبّر عنها بألفاظ تدلّ أنّها إنّما عرضت مع ذلك الجمر فقط من ذلك أنّه قال في النفّاخات: «كانت تخرج فيه نفّاخات» وقال في الحرارة الخارجة عن الأمر الطبيعيّ: «وكان يخيّل إليهم أنّ ما دون الجلد يحترق احتراقاً.»
والعجيب أنّ هذه النسخة يعرفها جميع القدماء ولا يزال من فسّر هذا الكتاب يبحث عن السبب الذي دعا أبقراط إلى أن يستعمل ألفاظاً تدلّ على أزمان مختلفة. وتقدّم أرطاميدوروس وأصحابه على أن غيّروا هذه الألفاظ فجعلوها كلّها تدلّ على زمان واحد على هذا المثال: «وكان يصير تحت الجلد صديد وكان إذا احتقن سخن وولد حكّة».
وأنا مجمل قولي من أوّله ثمّ أقطعه فأقول إنّ أبقراط دلّ بقوله «جاءت أمطار جود مع حرّ الصيف كلّه وكان أكثر ما يكون مع الجنوب» على السبب الذي يسمّى «البادئ» الذي منه يكون تولّد الجمر وهذا السبب هو سبب خارج عن
الأبدان التي نالتها الآفة. ودلّ بقوله «ويصير تحت الجلد صديد» على السبب الذي يسمّى «المتقادم» الذي منه يكون تولّد الجمر وهو السبب الذي يحدث في البدن أوّلاً. ودلّ بقوله «فإذا احتقن سخن» على الجهة التي بها يحدث ذلك السبب الجمر وذلك هو إفراط حرارة الخلط الغالب في البدن وغليانه بسبب العفونة. وسمّاه «صديداً» من قبل أنّه كان خارجاً عن الطبيعيّة خروجاً رديئاً خبيثاً. فأمّا قوله «وولد حكّة» فهو عرض يتقدّم حدوث الجمر.
فأمّا ما بعد هذا فأعراض لزمت ذلك الجمر خاصّة الذي حدث في ذلك الوقت وهي حدوث «النفّاخات الشبيهة بحرق النار» وإحساس من الحرارة الشديدة فيما دون الجلد حتّى «يخيّل» إلى صاحب القرحة «أنّ ذلك الموضع منه يحترق احتراقاً». وقد تقدّم فدلّ على أنّه يحدث منه إذاً قرحة ذات خشكريشة منذ أوّل كلامه حين قال: «الجمر الصيفيّ الذي كان بقرانون». فإنّ اسم «الجمر» إنّما يدلّ على قرحة هذه حالها مع التهاب يكون حولها كما قلت.
(٢) قال أبقراط: إذا كان حرّ ولم يكن معه مطر لم يحدث في الحمّيات عرق في أكثر الأمر. فإن جاء شيء من المطر في الحرّ ولو يسير كان العرق في الحمّيات أكثر.
قال جالينوس: إنّ هذا القول من أبقراط قول ينتفع به من علمه مفرداً على حدته في أن يتقدّم فينبئ بالعرق الحادث فإنّ تقدمة المعرفة بالعرق الكائن في الأمراض تكون من أعلام كثيرة وأحد تلك الأعلام هو الذي وصف.
وفي هذا القول أيضاً دليل شاهد على صحّة القول المتقدّم الذي قال فيه: «ويصير تحت الجلد صديد فإذا احتقن سخن». وذلك لأنّه متى كان مزاج الهواء يابساً انفشّت ونفدت الرطوبات التي في البدن ومتى كان مزاج الهواء رطباً اجتمعت تلك الرطوبات فلم تنحلّ. وتلك الرطوبة تخرج من البدن في أوائل الحمّيات لا على طريق البحران فإنّ البحران لا يكون دون أن تنضج الأخلاط التي في البدن لكنّها إنّما تخرج من قبل أنّ البدن لا يطيق أن يحويها لكثرتها حتّى تفيض وتندفق. ولذلك أضاف قوم إلى هذا القول شيئاً ممّا يتلوه وهو قوله «في أوائل الأمر» فجعلوه آخر هذا الكلام وقوم جعلوا ذلك أوّل الكلام الذي يتلو هذا على هذا المثال:
(٣) قال أبقراط: منذ أوائل الأمر البحران يكون مع هذا أعسر ممّا يكون مع غيره إلّا أنّه على حال يكون أقلّ عسراً متى كان بسبب هذا ولم يكن بسبب حال المرض.
قال جالينوس: يعني أنّ أمراض من يصيبه العرق «منذ أوّل» مرضه يكون البحران فيه لا محالة عسراً إلّا أنّ ما كان منها كذلك «بسبب حال المرض» «فعسر» البحران فيه «أزيد» وما كان إنّما يحدث فيه منها العرق «في أوّله» من قبل الهواء «فعسر» البحران فيه «أقلّ» يعني أنّ مدّة هذه الأمراض وتطاولها تكون أقلّ.
(٤) قال أبقراط: الحمّيات المحرقة تكون في الأوقات الحارّة أكثر وقد تكون في سائر الأوقات إلّا أنّها في الصيف تتزيّد يبساً.
قال جالينوس: إنّا نجد في بعض النسخ «〈في〉 الأوقات الحارّة» ونجد في بعضها «في الأوقات الصيفيّة» ولا فرق بين الأمرين لأنّ المعنى في هذا القول معنى واحد وهو المعنى الذي وصفه في كتاب الفصول كلّيّاً وجزئيّاً أمّا الكلّيّ فقوله: «والأمراض كلّها تحدث في أوقات السنة كلّها إلّا أنّ بعضها في بعض الأوقات أحرى أن يحدث ويهيج» وأمّا الجزئيّ فقوله: «فأمّا في الصيف فيعرض بعض هذه الأمراض ومحرقة».
فأمّا ما قاله في آخر هذا الكلام وهو قوله: «إلّا أنّها في الصيف تتزيّد يبساً» فهذا معناه لقول إنّ الحمّى المحرقة أبداً حارّة يابسة إلّا أنّها في الأوقات الحارّة
الصيفيّة تكون أزيد يبساً لأنّ الرطوبة التي في أبدان أصحابها من حرارة تلك الأوقات تنفشّ وتنفد.
(٥) قال أبقراط: أكثر ما يتولّد السبعيّ ووجع الفؤاد في الخريف.
قال جالينوس: إنّ في وقت الفواكه خاصّة يتولّد من فساد ما يؤكل منها ومعها من الأطعمة أنواع الدود في البطن وهي ثلاثة أحدها رقيق يكون فيما يلي الدبر شبيه بدود الخلّ والآخر غليظ مستدير شبيه بالحيّات يكون في الأمعاء الرقاق والآخر عريض في جوفه قطع شبيه بحبّ القرع يكون في الأمعاء الغلاظ.
وأراد بقوله أبقراط أن يحصر هذه الأنواع الثلاثة في اسم واحد فسمّاها «السبعيّ» يعني الحيوان الخبيث. وقد قال قوم إنّه يريد «بالسبعيّ» الجذام لأنّ اليونانيّين يسمّون الجذام باسم «الفيل» والفيل أحد الحيوانات الخبيثة المستطعمة فإنّ الجذام أيضاً أكثر ما يكون في الخريف. وقال قوم إنّه يريد «بالسبعيّ» الوسواس السوداويّ لأنّ تلك العلّة لا تجعل صاحبها في بدنه شبيهاً بالسبع كما يفعل الجذام لكنّ في نفسه ورأيه. وقال قوم إنّه يريد «بالسبعيّ» السرطان لخبث السرطان وصعوبة أمره. وقال قوم إنّه يريد شيئين من هذه أو أشياء منها أو كلّها. ويجب
ضرورة أن يقع مثل هذا الاختلاف في الكلام الغامض إذ كان معنى صاحبه فيه ليس يوقف عليه وقوفاً صحيحاً.
وأمّا وجع الفؤاد فقد اتّفق عليه الجميع أنّه عرض يعرض في فم المعدة الذي قد كان القدماء يسمّونه باسم «الفؤاد» وهذا الوجع يكون بسبب الدود المتولّد في البطن إذا ارتفع فصار في هذه الناحية من المعدة ويكون أيضاً بسبب خلط رديء لذّاع وهو الخلط الذي يكون منه الدود المتولّد في البطن.
(٦) قال أبقراط: وما كان من هذا فهو أيضاً أقلّ آفة من أن يكون المرض نفسه بهذه من الحال.
قال جالينوس: يعني أنّ هذا الوجع العارض في الفؤاد متى كان في الوقت المشاكل لحدوثه بمنزلة ما تقدّم فوصفه كان أقلّ آفة من أن يكون بسبب المرض نفسه. وقد يوجد في بعض النسخ هذا الكلام على هذا المثال: «وما كان من هذين أيضاً فهو أقلّ آفة من أن يكون المرض نفسه بهذه من الحال» حتّى تفهم الآفة العارضة من العلّتين اللتين ذكرهما وهما الدود ووجع الفؤاد. ومنفعة هذه الأقاويل كلّها هي نافعة في الاستدلال على سلامة الأمراض وخبثها.
(٧) قال أبقراط: وحال الدود أيضاً الصغير الذي يكون في أسفل الأمعاء بالعشيّ شبيهة بالحال في هذا وفي ذلك الوقت من اليوم يؤذي ذلك أيضاً في أكثر الأمر لا من قبل أنّه يوجد الوجع أزيد فقط ولكنّ بسببه خاصّة أيضاً.
قال جالينوس: يريد أنّ حال وقت «العشيّ» والمساء من اليوم كلّه مثل حال الخريف من السنة كلّها وذلك أنّ وقت الغداة شبيه بالربيع والوقت الذي بعده شبيه بالصيف ووقت العشيّ كما قلت قبل شبيه بالخريف ووقت الليل شبيه بالشتاء. فحركة «الدود بالعشيّ» في قوله شبيهة بما تقدّم والذي تقدّم هو أنّ الدود أكثر ما يتحرّك في الخريف.
وأمّا قوله في آخر الكلام «لا من قبل أنّه يوجد الوجع أزيد لكنّ بسببه خاصّة أيضاً» فمعناه فيه ما أصف: يقول إنّ هذا الدود في ذلك الوقت من اليوم يكون أكثر ذلك لا من قبل أنّ أبدان الناس تجد الأوجاع في ذلك الوقت أزيد فقط ولكنّ من قبل أنّ الدود نفسه أيضاً من شأنه في طبيعته أن يتحرّك في ذلك الوقت.
(٨) قال أبقراط: أحدّ ما يكون الأمراض وأقتلها في الخريف وذلك شبيه بهيجانها بالعشيّ في أكثر الأمر لأنّ للسنة دوراً من الأمراض مثل ما لليوم دور من المرض.
قال جالينوس: قد قيل معنى هذا الكلام فيما تقدّم وهو أنّ أبقراط يريد أنّ بين السنة وبين اليوم مناسبة. وأعني «باليوم» في كلامي هذا الزمان الذي بين طلوع الشمس وبين غروبها لا كلّ الزمان الذي منذ طلوعها إلى أن تعود فتطلع وقد سُمّي ذلك «يوماً وليلة».
(٩) قال أبقراط: الحال في كلّ واحد من أمزجة الهواء بعضها عند بعض شبيهة بالحال في هيجان المرض بالعشيّ ما لم يتجدّد شيء في الطبيعة العليا فإنّه إن كان ذلك كان هذا ابتداء حال أخرى فيجب أن تكون السنة بقياس نفسها على هذا المثال.
قال جالينوس: أمّا معنى هذا الكلام فليس بالغامض وذلك بسبب ما قيل فيما تقدّم إلّا أنّي أظنّ أنّ الألفاظ قد وقع فيها خطاء. فإنّه إنّما يريد أنّ حال الخريف في «مزاج الهواء» في كلّ واحدة من السنين شبيهة بحال كلّ واحد من الأمراض
في «هيجانه بالعشيّ» وذلك يكون إذا حفظت السنة مزاجها على نظامه في أوقاتها. فقد قال في كتاب الفصول: «متى كان في أيّ وقت من أوقات السنة في يوم واحد مرّة حرّ ومرّة برد فتوقّع حدوث أمراض خريفيّة». والأشياء التي «تتجدّد في الطبيعة العليا» يعني في الهواء المحيط بالأبدان هي أمور مزاجه كما دلّ في أوّل هذه المقالة فيما ذكر من أمر الجمر الذي حدث بقرانون.
(١٠) قال أبقراط: إذا كانت أوقات السنة لازمة لنظامها وكان في كلّ وقت منها ما ينبغي أن يكون فيه كان ما يحدث فيها من الأمراض حسن النظام حسن البحران. وإذا كانت أوقات السنة غير لازمة لنظامها كان ما يحدث فيها من الأمراض غير منتظم سمج البحران من ذلك ما يكون بمدينة بارنثس متى نقص شيء أو زاد فيها إمّا من الرياح وإمّا من عدمها وإمّا من المطر وإمّا من عدمه وإمّا من الحرّ وإمّا من البرد ثمّ يكون الربيع في أكثر الأمر على أفضل حالات الصحّة وأقلّ ما يحدث الموت.
قال جالينوس: أمّا الجزء الأوّل من هذا الكلام فقد قاله أبقراط بهذا اللفظ في كتاب الفصول إلّا أنّه في هذه المقالة أضاف إليه شاهداً محقّقاً من مثال وصفه وهو قوله «من ذلك ما يكون بمدينة بارنثس متى نقص شيء أو زاد فيها» من
الأشياء التي وصفها من أنّ الأمراض لا تبقى عند ذلك منتظمة فقد ينبغي أن تفهم هذا مضافاً إلى قوله.
وأمّا قوله «وثمّ يكون الربيع على أفضل حالات الصحّة وأقلّ ما يحدث الموت» فقد يمكن أن تفهم «في الربيع» نفسه فقط كأنّه قال: «إنّ الربيع إنّما صار أصحّ الأوقات لأنّه ليس تحدث فيه تغايير عظيمة كما تحدث في الخريف» إلّا أنّ هذا المعنى ليس بالمشاكل لِما قصد له في هذا الكلام كلّه. ولذلك أقول إنّ الأجود أنّ هذا القول إنّما هو شهادة مصحّحة للقول الكلّيّ الذي تقدّم من قول جزئيّ.
وقوله «وثمّ» يحتمل في لسان اليونانيّين أن يكون معناه «من ثَمّ» أيْ «من قبل ذلك» ويحتمل أن يكون معناه «هناك» فهو على المعنى الأوّل يقوم مقام «من قبل» وعلى هذا المعنى الثاني يقوم مقام «هناك» حتّى يكون قوله كلّه في هذا الموضع على هذا المثال: «من ذلك ما يكون بمدينة بارنثس متى نقص شيء أو زاد» فسد نظام الأمراض الجاري في العادة على أنّ ذلك البلد أعني بارنثس من أصحّ البلدان ومن أعظم ما يستدلّ به على ذلك أنّ الربيع فيه «على أفضل حالات الصحّة».
وقد حذف قوم من هذا الكلام قوله «وأقلّ ما» على أنّه قد يوجد في جميع النسخ القديمة وقالوا إنّ قوله «وثمّ يكون الربيع على أفضل حالات الصحّة» كلام داخل في الوسط فإذا عزل كان اتّصال الكلام على هذا المثال: «من ذلك ما
يكون بمدينة بارنثس متى نقص شيء أو زاد يحدث الموت على أنّ الربيع هناك على أفضل حالات الصحّة».
(١١) قال أبقراط: ينبغي أن تتفقّد الأمراض في أوائلها هل تبلغ منتهاها سريعاً وذلك يتبيّن من تزيّدها وتزيّدها يُعرف من أدوارها وأمر البحران أيضاً من ذلك يُعرف.
قال جالينوس: قد وقع في أوّل هذا الكلام بين النسخ اختلاف إلّا أنّ معناه وإن كان الكلام مختلفاً معنى واحد والجميع متّفق عليه وهو أنّ أبقراط يتقدّم إليك أن يكون أهمّ الأشياء إليك أن تتفقّد وتنظر منذ أوّل الأمراض أمر «منتهاها» متى يكون. فإنّ أبقراط قال في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة: «إنّما يقدر تدبير المريض كلّه بالنظر في هذا الباب» أعني في منتهى المرض متى يكون وقال: «إنّ ذلك ينفع في تدبير الأمراض ومن منتهى المرض يعرف أمر بحرانه أيضاً».
وقد بحثت عن هذا القول بحثاً شافياً واستقصيته عن آخره في كتابي في البحران وأنا واصف لك في هذا الموضع جملته وهي أنّ البحران التامّ لا يكون في وقت من الأوقات قبل منتهى المرض كما بيّنت في ذلك الكتاب. ولذلك يجب ضرورة على من أراد أن يعلم متى يكون هذا البحران أن يرتاض في تقدمة المعرفة بمنتهى المرض. وقد بيّن أبقراط ذلك في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة وإنّ
بذلك يستدلّ على تقدير أمر الغذاء كلّه. ولذلك زاد في قوله أيضاً فقال: «وأمر البحران من ذلك أيضاً يُعرف». وذلك أنّه ليس هذه الفائدة فقط نستفيد من تقدمة المعرفة بمنتهى المرض متى يكون ولكنّا قد نستفيد قبل ذلك منها فائدة أعظم من هذه وهي حسن تدبير المريض وتقدير أمر غذائه. وقد بيّنت أيضاً في كتابي في البحران أنّ من الأمراض ما يأتي فيه البحران من قبل منتهاه لقوّته وصعوبته فيكون ذلك البحران بحراناً رديئاً.
(١٢) قال أبقراط: ينبغي أن تقاس نوائب الحمّى في أدوارها فينظر هل بعضها يتقدّم بعضاً تقدّماً أكثر أم لا وهل زمان لبثها أطول أم لا وهل هي أكبر أم لا.
قال جالينوس: إنّ أوّل هذا القول أيضاً قد يوجد مختلفاً في النسخ ويوجد قد أضيف إليه شيء من الكلام المتقدّم إلّا أنّ الذي ينتفع به في الطبّ من النسختين جميعاً ما أنا واصفه وهو أنّ اسم الدور يجري في عادة اليونانيّين على الشيء الذي يعود فيما بين أوقات متساوية. وقد استعمله الأطبّاء على طريق الاستعارة والتشبيه في نوائب الأمراض إذا كانت على هذا الطريق أعني إذا كانت بين أوقات محدودة. إلّا أنّ ذلك الوقت ليس هو وقتاً محدوداً على الصحّة لا متى كانت النوبة تكون في كلّ يوم ولا متى كانت تكون غبّاً أو ربعاً وذلك أنّ في أكثر الأمر
من عادة النوبة أن تتقدّم قليلاً أو تتأخّر قليلاً وربّما لزمت وقتاً واحداً بعينه على الصحّة من النهار أو من الليل كان ابتداؤها فيه.
وهذه الأدوار إذا تمادى بها الزمان فليس يخلو من أن يبقى عدد الساعات فيها سواء أو يختلف. مثال ذلك أنّه إن ابتدأت نوبة الحمّى في اليوم الأوّل في الساعة الثامنة ثمّ ابتدأت في الثالث في الساعة السادسة ثمّ في الخامس في الرابعة فإنّ شكل هذه الحمّى شكل حمّى غبّ نوائبها تتقدّم. وإذا كان ذلك تفقّدت النوبة التي تكون في اليوم السابع فإنّها لا يخلو أن يكون تقدّمها على ما لم تزل بساعتين أو أكثر من ذلك أو أقلّ منه. فإن وجدت تقدّمها إنّما هو ساعتان على ما لم تزل علمت أنّ الحمّى باقية على حالها التي كانت عليه منذ أوّل الأمر. وإن وجدت تلك النوبة قد تقدّمت مكان ساعتين ثلاث ساعات علمت أنّها قد زادت تقدّماً. وإن كان تقدّمها مكان ساعتين ساعة علمت أنّها قد تغيّرت إلى ضدّ تلك الحال. وعلى هذين النوعين من التغيير دلّ أبقراط بقوله «فينظر هل بعضها يتقدّم بعضاً تقدّماً أكثر أم لا».
وقد يمكن إذا كانت النوبة تتقدّم تقدّماً أكثر أن يكون زمان لبثها على المريض متساوياً وأن يكون أزيد من المدّة التي كانت تلبث وأن يكون أقلّ منها وعلى ذلك دلّ أبقراط بقوله «وهل زمان لبثها أطول أم لا». ويمكن أيضاً أن تكون الحمّى أقوى ممّا كانت وأن تكون أضعف وعلى ذلك دلّ أبقراط بقوله «وهل هي أكبر أم لا».
وعلى هذا القياس متى تأخّرت النوبة عن وقتها بقياس الساعات التي كانت تبتدئ فيها قبل فقد يمكن أن تلبث مدّة أطول وأقصر وأن تكون أقوى وأضعف. وقوّة النوائب قد يمكن أن تكون بفعل شدّة الحمّى ويمكن أن تكون بقوّة الأعراض أو بزيادة عددها. وكذلك أيضاً ضعف النوائب يمكن أن يكون بنقصان عظم الحمّى نفسها ويمكن أن يكون بنقصان عدد أعراضها أو بغضّها. وتقدّم نوبة الحمّى إذا كانت أزيد بقياس ما تقدّم من أوقاتها ومدّة لبثها إذا كانت أزيد طولاً وقوّتها إذا كانت أشدّ وأعراضها إذا كانت أكثر أو أصعب فتلك علامات التزيّد وأضداد هذه علامات انحطاط المرض وتنقّصه.
(١٣) قال أبقراط: إنّ ممّا يعمّ جميع الحمّيات الدائمة منها والمفارقة والمزمنة والجراحات والنفث المؤلم وأورام الخراجات وسائر ما يعرض بأخرة ولعلّه أيضاً يعمّ أموراً أخر أنّ ما كان منها أسرع كان أقصر وما كان منها أبطأ كان أطول.
قال جالينوس: قد بيّنت في كتاب الفصول أنّه يعني «بالحمّى المفارقة» الحمّى التي تقلع حتّى ينقّى البدن منها. والأمر بيّن في هذا الموضع أيضاً أنّه إنّما يريد «بالمفارقة» هذا المعنى فإنّه لم يرد بتسميتها «مفارقة» أن يفرق بينها وبين الحمّى المطبقة التي يسمّيها اليونانيّون «سونوخوس» لكنّه أراد أن يفرق بينها وبين كلّ حمّى لا تقلع حتّى ينقّى صاحبها منها لأنّ الحمّى المطبقة يخصّها هذا أنّ تلك الحمّى ليس تكون فيها أدوار أصلاً.
ثمّ ذكر بعد الحمّيات المفارقة «الحمّيات المزمنة». على أنّه لم يذكر الحادّة لكنّه بذكره «الحمّيات الدائمة» دلّ على جنس الحمّيات الحادّة لأنّه محصور فيها. وقال إنّ في جميع هذه قد تدلّ الأعلام التي تقدّم ذكرها على وقت منتهى المرض وأعني بقولي «هذه كلّها» أصناف «الحمّيات» التي ذكرت وأصناف «الجراحات» وأصناف «النفث المؤلم» يعني بذلك الجراحات التي تكون في الصدر والأورام وذات الجنب والأمراض التي من جنس الأورام التي تكون في قصبة الرئة وفي الحنجرة «والخراجات والأورام».
ولم يكتب هذان الاسمان كما كتبتهما أنا في هذا الموضع لكنّهما يوجدان مكتوبين أحدهما منسوب إلى الآخر أعني «أورام الخراجات». ولعلّ ذلك يكون لخطاء وقع في النسخ منذ أوّل الأمر ولعّله أن يكون أبقراط ضمّن الاسمين أحدهما في الآخر ليفهم منهما جميعاً معنى واحد لأنّ الورم في لغة اليونانيّين اسمه مشتقّ من «الالتهاب» فيجوز أن يكون أراد الالتهاب الخلط الخارج عن الطبيعة. فإنّ
القدماء إنّما كانوا يعنون بهذا الاسم الذي يسمّي به أهل دهرنا الورم وهو «فلغموني» الالتهاب فقط. فأمّا هذه العلّة التي جرت العادة بين من أتى بعد أن يسمّيها بهذا الاسم فإنّ القدماء كانوا ربّما سمّوها على هذا المثال التي سمّاها أبقراط في هذا الموضع وربّما سمّوها بأسماء أخر ليست بنا حاجة إلى ذكرها في هذا الموضع وتلك العلّة هي ورم مؤلم.
«وما يظهر أيضاً بأخرة» في المرضى كيف كانت حالهم في مرضهم فإنّ اختبار أمرهم في بلوغها منتهاها يكون على هذا الطريق بعينه. وأتوهّم أنّه يعني بذلك الخراجات وبعض الأعراض التي تلحق الأمراض فيما بعد مثل السهر والعرق والسعال والاختلاف وما أشبه ذلك.
قال: «ولعلّ ذلك يعمّ أموراً أخر أن يكون ما كانت حركته منها أسرع كان أقصر وما كانت حركته منها أبطأ كان أطول». فقد نجد نشوء النبات والحيوان يكون على هذا المثال أعني أنّ ما كان منها أقلّ مدّة فهو أسرع نشوءاً وما كان منها أطول مدّة فهو أبطأ نشوءاً.
قال: وكذلك الأمر أيضاً في الأدوار فإنّ النوائب كلّما كانت أزيد تقدّماً كان ذلك من خاصّة المرض القصير اليسير المدّة ومتى كان الأمر على ضدّ ذلك كان
ذلك دليلاً على أنّ المرض طويل بعيد المدّة. ولمّا كان هذا الكلام الأخير مختلفاً في النسخ كان الأجود أن نفرده ونبحث عنه على حدته.
(١٤) قال أبقراط: وفي الأدوار إذا كان دور أزيد تقدّماً من دور آخر فذلك تزيّد عند سكون المرض.
قال جالينوس: هذه إحدى النسخ التي يكتب عليها هذا الكلام وبحسب هذه النسخة يكون التفسير على هذا المثال: إنّك إذا تفقّدت الأدوار فوجدت نوبة الدور الثاني دائماً أزيد تقدّماً على نوبة الدور الذي قبله فتلك علامات تدلّ على تزيّد المرض. فأمّا قوله «عند سكون المرض» على هذه النسخة فليس يمكن أن يكون معناه «عند انحطاطه وتنقّصه» لأنّ القول حينئذ يكون متناقضاً وإنّما معناه [عند] من قبل هذه النسخة «عند سرعة حركته التي يكون بها انقضاؤه». وهذا التأويل تأويل بعيد ليس بالمألوف لأنّ قول القائل «عند سكون المرض» أولى وأشبه بأن يدلّ على وقت انحطاط المرض وتنقّصه من أن يدلّ على وقت تزيّده تزيّداً سريعاً حتّى يكون بذلك سرعة انقضائه.
وهذا الكلام يكتبه قوم على نسخة أخرى على هذا المثال: «وفي الأدوار إذا كان دور أزيد تقدّماً كثيراً فذلك تزيّد كثير دفعة» ومعنى هذه النسخة على قول من قبلها إنّك إذا تفقّدت الأدوار فوجدت نوبة دور منها قد تقدّمت تقدّماً كثيراً دلّ ذلك على أنّ المرض قد تزيّد تزيّداً كثيراً دفعة. وأكثر النسخ القديمة ليس توجد فيها هذه الزيادة التي زيدت وهي «كثير» لكنّ النسخ التي فيها هذا الكلام على
هذه الحكاية موضوعة على هذا الرسم: «وفي الأدوار إذا كان دور أزيد تقدّماً فذلك تزيّد كثير دفعة». وهذه النسخة غير موافقة لِما ذهب إليه أولائك من أنّ هذا يدلّ على «تزيّد كثير دفعة» لأنّه ليس متى كانت نوبة دور من الأدوار أزيد تقدّماً بحسب ما يتقدّمها من النوائب فواجب أن يدلّ ذلك وحده دون غيره على أنّ المرض قد زاد زيادة كثيرة دفعة وإنّما يستدلّ على ذلك متى كان ذلك التقدّم تقدّماً كثيراً.
وقد توجد نسخة ثالثة هي عندي أفضل هذه النسخ وتفسيرها أصحّ من تفسير تلك وتلك النسخة على هذا المثال: «وفي الأدوار إذا كان دور أزيد تقدّماً على آخر فذلك تزيّد أو سكون من المرض». ولا فرق عندي بين أن تزيد في هذه النسخة تلك اللفظة التي زادها أصحاب النسخة التي قبلها وهي «كثير» وبين أن تحذفها لأنّ معنى هذا الكلام زدتها أو نقّصتها معنى واحد وهو ما أصف: إنّك متى قستَ دورين كلّ واحد منهما بالآخر فالدور الثاني بقياس الدور الأوّل ربّما كان أسبق منه وربّما كان متأخّراً عنه. فإذا كان أسبق منه فاعلم أنّ المرض في تزيّد بحسب ما تدلّ عليه هذه العلامة وإذا لم يكن أسبق منه بل كان متأخّراً عنه فبحسب ما تدلّ عليه هذه العلامة أيضاً ينبغي أن تتوهّم أنّ المرض في الانحطاط.
فكيما لا تقيس دائماً الدور الثاني بالدور الأوّل كما قلت الآن يمكن أن تجعل المقايسة مطلقة بين كلّ دورين متواليين. لذلك فيما أحسب قال فأوجب أنّ تزيّد التقدّم من دور على دور ربّما كان دليلاً على تزيّد المرض وربّما كان دليلاً على تنقّصه وانحطاطه أمّا على تزيّده فإذا كان الدور الثاني يبتدئ قبل وقت الدور الأوّل
وأمّا على تنقّصه وانحطاطه فإذا كان الدور الأوّل يبتدئ من قبل وقت الدور الثاني. ولذلك أطلق القول فقال: «وفي الأدوار إذا كان دور أزيد تقدّماً على آخر» وقد كان يمكنه أن يقول: «على الدور الذي قبله» فترك أن يقول ذلك واستعمل لفظة تدلّ على شيء أعمّ وهو قوله «على آخر» لأنّ قوله «على آخر» عامّ محتمل لأنّ يحمل على الأوّل والثاني لأنّه قد يصحّ فيهما دائماً أن يقال إنّ أحدهما أيّهما كان إذا كان أزيد تقدّماً على الآخر فذلك دليل على تزيّد المرض أو على تنقّصه لأنّ الثاني إن سبق كان ذلك دليلاً على تزيّد المرض والأوّل إن سبق كان ذلك دليلاً على تنقّص المرض.
فيصير نسق هذا الكلام كلّه على هذا المثال: «إنّك إذا قستَ الأدوار بعضها إلى بعض فوجدت ابتداءها يكون في وقت واحد ثمّ قستَ بعد فوجدت ابتداء واحد منها قبل ابتداء آخر فذلك يدلّ إمّا على تزيّد المرض وإمّا على سكون منه يعني تنقّصه وانحطاطه».
(١٥) قال أبقراط: ومن ذلك أنّ الذين يهلكون سريعاً البحران فيهم أسرع لأنّ آلامهم أسرع وأحدّ وأقوى.
قال جالينوس: هذا القول موافق للقول الذي قيل قبله وهو الذي قال فيه: «إنّ ما كان من الأمور أسرع كان أقصر وما كان منها أبطأ كان أطول». وقد دلّك بهذا القول أنّ اسم البحران قد يقع عنده على من يموت كما قال أيضاً في المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا فإنّه في تلك المقالة يستعمل اسم البحران على كلّ
انقلاب سريع في المرض يميّل بالمريض إلى حال من الأحوال ويقول: «إنّ البحران يؤول بالمريض إلى السلامة أو إلى الهلاك أو إلى الميل إلى الحال التي هي أمثل أو إلى الحال التي هي أرخى».
(١٦) قال أبقراط: الأشياء التي يكون بها البحران إلى الحال التي هي أفضل لا ينبغي أن تظهر على المكان.
قال جالينوس: «الأشياء التي يكون بها البحران» منها ما هي أعلام تدلّ عليه ومنها ما هي أسباب فاعلة له وقد وصفنا الصنفين جميعاً صفة شافية في كتاب البحران. وأنا واصف الآن أيضاً شيئاً من أمرها على طريق المثال فأقول إنّ طبيعة الأعلام والأعراض «التي يكون بها البحران» هي على هذا المثال الذي أنا واصفه. والأجود أن تكون صفتي لِما أصفه من هذا المثال من كلام أبقراط فقد قال أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة: «إنّه متى كانت في الرأس والرقبة أوجاع وثقل مع حمّى أو من غير حمّى فإنّه يحدث أمّا لأصحاب الورم الحارّ في الدماغ فتشنّج في العصب ويقيؤون مراراً شبيهاً بلون الزنجار وكثير من هؤلاء يعاجله الموت. وأمّا في أصحاب الحمّى المحرقة وفي سائر الحمّيات فمتى كان في الرقبة وجع وفي الصدغين ثقل ورأى المريض قدّام عينيه ظلمة وأحسّ فيما دون الشراسيف بتمدّد
ليس معه وجع فإنّه يصيبه رعاف. ومتى كان ثقل في الرأس كلّه ووجع في الفؤاد وكرب فإنّه يصيب المريض قيء مرار». فهذه وأشباهها أعلام البحران. وأمّا أسباب البحران فهي الأشياء التي تدلّ عليها تلك الأعلام أعني الرعاف والاختلاف والقيء والعرق وسائر أشباه ذلك. فأمّا الأعلام التي تدلّ بنفسها أوّلاً على النضج وتدلّ بالعرض على أنّ بحران المريض يسرع فهي غير هذين الصنفين جميعاً.
وقد وصفت جميع هذه الأشياء في كتابي في البحران وفي مقالة وصفت فيها أمر أوقات الأمراض فشرحت أمر الأعلام المأخوذة من البول أو من النفث أو من الاختلاف أو من غير ذلك الدالّة على النضج أنّه قد ابتدأ أو أنّه في التزيّد أو أنّه قد استكمل. وقد بيّنت أيضاً أنّه لا يكون بحران محمود قبل أن ينضج المرض فلذلك لا ينبغي أن تظهر أعلام البحران ولا أسباب البحران منذ أوّل المرض. فأمّا أعلام النضج فظهورها محمود في جميع أوقات المرض ولذلك قال في كتاب الفصول: «مثال ذلك ما يظهر في أصحاب ذات الجنب أنّه إن ظهر النفث بدءاً منذ أوّل المرض كان المرض قصيراً».
(١٧) قال أبقراط: إنّ الأعراض التي تكون في وقت البحران إذا ظهرت ثمّ لم يكن بحران ربّما دلّت على الموت وربّما دلّت على أنّ البحران يعسر.
قال جالينوس: إنّ من عادة أبقراط إذا أطلق اسم «البحران» فلم يستثن في ذكره فيقول «إلى الحال التي هي أفضل» أو «أمثل» كما قال في القول الذي قبله
أن يعني به ذلك البحران بعينه. فقد يستعمل في تسميته الوجهين جميعاً أعني أنّه ربّما قال «بحران محمود» أو «جيّد» أو «إلى الحال التي هي أفضل» أو «أمثل» وربّما أطلق اسمه من غير استثناء. وأمّا البحران الرديء فليس من عادته أن يطلق اسمه من غير أن يستثني فيقول «بحران رديء» أو «إلى الحال التي هي أردأ» لكنّه يستثني ذلك دائماً فيه وربّما سمّاه «عسراً» أو «صعباً». فأمّا كلامه في هذا الموضع فهو في الأشياء التي تكون في وقت البحران المحمود وهي التي قال فيها إنّها متى كانت فلم يكن معها بحران فلا يخلو من أحد أمرين إمّا أن ينذر «بموت» وإمّا أن ينذر «بصعوبة من البحران» يعني أنّ البحران لا يكون تامّاً لكنّه إمّا أن تبقى منه بقيّة لم تنضج فتطول مدّتها وإمّا أن يسكن في العاجل حتّى يظنّ بها أنّه قد أقلع بأسره ثمّ لا يلبث أن يعاود.
(١٨) قال أبقراط: الأمراض التي يتقدّم بحرانها إن تمّ فيها البحران عاودت وإن لم يتمّ لم يكن بحران. وقد تكون قتّالة إذا كانت ليست باليسيرة.
قال جالينوس: قد كتب هذا الكلام على نسخ مختلفة غير هذه النسخة إلّا أنّ المعنى في جميعها معنى واحد وهو أنّ أبقراط يريد أنّ الأمراض التي يبتدئ فيها البحران قبل الوقت الذي ينبغي أعني قبل النضج المعتدل «إن تمّ البحران فيها»
يعني إن انقضت فإنّها «تعاود» «فإن لم تنقض لم يكن بحران». يعني بذلك إمّا لا تنقضي في ذلك الوقت وإمّا لا يكون فيها بحران محمود لكنّ رديء أو ناقص. «فإن كان المرض ليس باليسير» فليس يؤمن منه إذا كان البحران فيه قبل وقته أن «يقتل» صاحبه. وذلك أنّ الأمراض إذا كانت يسيرة ثمّ كان فيها بحران رديء فإنّ من عادتها أن تجلب ضرراً إلّا أنّها لا تقتل فإن كانت عظيمة فإنّها تقتل.
(١٩) قال أبقراط: الأعلام التي تدلّ على البحران قد تكون بأعيانها أعلاماً تدلّ على صعوبة البحران وعلى خلاف ما كانت تدلّ فتكون عند ذلك أعلام سوء وليس فقط قد تنذر بعودة من المرض لكن قد تنذر بانقلاب المرض عن طبيعته إلى ضدّها كما قد تنقلب الأعلام الخبيثة إلى الضدّ.
قال جالينوس: إنّ أبقراط استعمل اسم «البحران» في هذا الكلام على المعنى الخاصّ الذي يدلّ عليه اسم «البحران» المنقسم من المعنى العامّ. والمعنى العامّ الذي يدلّ عليه اسم «البحران» هو انقلاب المرض إلى أيّ الأحوال من غير أن يُستثنى فيه هل ينفع أو يضرّ والمعنى الخاصّ الذي يدلّ عليه اسم «البحران» هو الانقلاب الذي يكون معه انتفاع. فقال إنّ الأشياء التي من شأنها أن تحدث البحران المحمود أو تدلّ عليه إذا لم يكن معها بحران أو كان معها بحران رديء فتلك «علامة رديئة». وذلك ربّما كان مع «عودة من المرض» فقط وربّما كان مع «انقلاب طبيعته إلى الضدّ» يعني أن يصير قتّالاً أو إلى أن يبلغ صاحبه منه إلى أن يشرف على الموت.
فإنّ المرض كثيراً قد «ينقلب عن طبعه الأوّل إلى ضدّه» ومعنى ذلك أنّه إن ظهرت الأشياء التي يكون معها البحران والمرض بعد مبتدئ فإنّ تلك الأشياء التي كان ينتفع بظهورها إذا ظهرت في منتهى المرض لا ينتفع بها بل تجلب مضرّة وربّما كانت تلك المضرّة ليست باليسيرة. ونظير ذلك أنّ «الأعلام الرديئة قد تنقلب» كثيراً «إلى الضدّ» فإنّا ربّما رأينا المريض يتقيّأ شيئاً في لون الزنجار أو أسود أو أخضر أو يختلف اختلافاً بهذه الألوان وربّما كان منتناً عفناً ولا تعرض له من ذلك مضرّة بل يخرج به عن مرضه الخروج التامّ. وذلك أنّ هذه الأعلام تلحق دائماً الأمراض الرديئة إلّا أنّه ربّما كان بها انتقاص جميع ذلك الفضل الذي في البدن حتّى ينقّى منه وذلك يكون إذا ثابت قوّة الطبيعة حتّى تظهر على ذلك الفضل فتدفعه.
(٢٠) قال أبقراط: وينبغي أن تجعل النظر من هذه الوجوه: من الألوان ومن الضمور ومن انتفاخ العروق ومن ميل المواضع التي دون الشراسيف إلى فوق وميلها إلى أسفل.
قال جالينوس: إنّ في بعض النسخ «أن تجعل النظر» وفي بعضها «وينبغي أن تجعل النظر» والمعنى في النسختين جميعاً معنى واحد وهو أنّ أبقراط يتقدّم إليك
أن تمتحن الأمراض وتختبرها وتستدلّ عليها من «الألوان» أوّلاً. وقد وصف في كتاب تقدمة المعرفة أعلاماً كثيرة جدّاً مأخوذة من الألوان منها ما وصفه في أوّل كتابه في الوجه الذي يدلّ على الموت ومنها ما وصفه بعد في سائر الأعضاء ومنها ما وصفه من الأعلام المأخوذة من ألوان ما يبرز من البدن مثل البول والقيء والاختلاف.
ثمّ تستدلّ من بعد اللون من مقدار «ضمور» البدن أو «انتفاخه» وقد وصف في ذلك الكتاب أمر ضمور البدن كلّه وضمور الوجه وخموص المواضع التي دون الشراسيف. ووصف أيضاً الحال التي هي ضدّ هذه أعني الانتفاخ بأكثر ممّا ينبغي كان ذلك في عضو واحد من البدن أو كان في جميعه. وأمّا في هذا الموضع فأضاف إلى ذكره «الانتفاخ» اسم «العروق» وكأنّه جعل ذلك مثالاً يستدلّ به على الأمر العامّ الذي قصد لتعليمك إيّاه فإنّه يريد أن تتعرّف حال كلّ واحد من الأعضاء بما يظهر فيها من الانتفاخ والضمور.
وأمّا «ميل المواضع التي دون الشراسيف إلى فوق» فهو كأنّه شيء من جنس تشنّج العصب والعضل يعرض في ذلك المواضع. وقد نعلم أنّه يدلّ إمّا على ورم يكون نحو الحجاب وإمّا على يبس شديد يكون هناك. وقد نجد في بعض النسخ «وميلها إلى أسفل» وهذا الاسم يدلّ على حال مضادّة للحال الأولى.
(٢١) قال أبقراط: ومع ذلك أيضاً من أشياء كثيرة شبيهة بهذه مثل أنّ المرأة قبل أن تسقط تضمر ثدياها.
قال جالينوس: أمّا هذه الأحوال التي ذكرها في هذا القول فقال إنّه ينبغي أن يستدلّ من مثلها فقد وصفتها وصفاً كافياً في تفسيري لكتاب الفصول وأمّا سائر الأحوال الأخر فقد وصفتها في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة وقد قلت منذ أوّل ما ابتدأت لتفسيري هذا الكتاب إنّ تلك الكتب ينبغي أن تقرأ قبل هذا الكتاب.
(٢٢) قال أبقراط: وليس يضادّ ذلك أنّ السعال المزمن قد يسكن بورم يحدث في الأنثيين.
قال جالينوس: إنّ الثديين يضمران عند هلاك الجنين بسبب الاتّصال والمشاركة التي فيما بينهما وبين الأرحام. والرطوبات التي تحدث السعال أيضاً وربّما انتقلت إلى أعضاء التوليد وكان بذلك البرء من السعال. فليس ينبغي أن تعجب من هذا أيضاً ولا تتوهّم أنّه مضادّ للأمر الطبيعيّ فإنّ جميع هذه الأشياء تابعة للاتّصال
والمشاركة التي بين أعضاء التوليد وبين الصدر التي ذكرها أبقراط في القول الذي بعد هذا.
(٢٣) قال أبقراط: ورم الأنثيين بسبب علل السعال يذكر بالمشاركة بين الصدر والثديين والمولّدة والصوت.
قال جالينوس: إنّ قوماً فهموا من قول أبقراط «المولّدة» الأرحام وقوماً فهموا منه أعضاء التوليد وقوماً فهموا منه المنى. وقد قال أبقراط في كتابه في المفاصل عند ذكره أسفل الصلب: «إنّ المثانة والمولّدة والموضع الرخو من الدبر في ذلك الموضع». وقد يكتب هذا الاسم في ذلك الكتاب على نوعين أحدهما على الواحد «المولّد» والآخر على الكثير «المولّدة» فإن كان على الواحد فهو على الرحم فقط وإن كان على الكثير فهو على جميع أعضاء التوليد. وأمّا المعنى في هذا الكلام الذي وصفناه قبيل فهو ما أصف: قال إنّه قد يحدث الورم في الأنثيين بسبب العلل التي يكون معها السعال فإنّه قد قال قبيل: «إنّ الورم الحادث في الأنثيين قد يبرأ به السعال المزمن».
قال: وإن كان ذلك ففيه دليل قويّ على «المشاركة بين أعضاء الصدر وبين أعضاء التوليد». وقد ينبغي أن أصف سبب ذلك الاتّصال فأقول إنّه ينبت من العرق العظيم المعروف «بالعميق» في الموضع الذي يبتدئ منه الودجان عرقان فيتّصلان بالقصّ من باطنه وينحدران إلى أسفل على الاستقامة حتّى ينتهيا إلى الغضروف
الذي في طرف القصّ الذي يشبه بالسيف. ثمّ إنّ كلّ واحد منهما من بعد ذلك يتعرّج فيميل إلى جانب وتتشعّب منه شعبة فتصير إلى الثدي. ثمّ ينحدر باقيه فيتّصل بطرف عرق آخر من عرقين يصعدان من أسفل من الجانب الأيمن والأيسر وهذان العرقان الشاهقان منشؤهما من العرقين اللذين ينحدران إلى الرجلين قبل أن يتّصلا بالحالبين في المواضع خاصّة التي تنشأ منها العروق التي تأتي إلى أعضاء التوليد من هذين العرقين بأعيانهما. وهذه العروق كلّها التي ذكرت غير ضوارب وتجري معها كلّها أيضاً عروق ضوارب.
وفي الثديين عرقان آخران من ظاهرهما تحت الجلد ليس معهما عرقان ضاربان ينبتان على مثال العرقين الباطنين من ذينك العرقين اللذين يبرزان من الصدر. وذانك العرقان أيضاً متّصلان بعرقين آخرين يرتفعان من أسفل. والعرقان اللذان من خارج ينبتان من ظاهر العضل الذي على البطن والأوّلان ينبتان من باطنه والاتّصال والمشاركة من العرقين اللذين من خارج هي فيما بينهما وبين العرقين المتّصلين بالجلدة المحيطة بالأنثيين في الذكورة وأمّا في الأناثى فبالعرقين المتّصلين بالفرج والعرقين الباطنين هي بينهما وبين العرقين اللذين ينحدران إلى المواضع السفليّة فيتّصلان بالقضيب من الذكر وبنظيره من المرأة.
فقد علم من هذا كيف الاتّصال «والمشاركة بين الصدر والثديين وبين أعضاء التوليد وبين الصوت» مشاركة بسبب هذه العروق فلذلك ما يعرض في وقت واحد للذكر إذا ابتدأ يُنبت وللأنثى إذا ابتدأ يجيء منها الطمث فإنّ الذكر يعرض له في تلك الحال التغيّر في صوته لرطوبة آلات الصوت ويعرض للأنثى اتّساع الثديين منها كما يتّسع الأنثيان في الذكر في هذا الوقت.
(٢٤) قال أبقراط: الخروج يكون إمّا بالعروق وإمّا بالعصب وإمّا بالعظام وإمّا بالأوتار وإمّا بالجلد وإمّا بأنواع أخر من الميل.
قال جالينوس: أمّا الخروج فيعني به ما تدفعه الطبيعة إلى موضع من المواضع دفعة فبرز أو تحيّر فبقي ويحدث منه الداء الذي يقال له «الخراج». وذلك يكون لا بالأعضاء التي لها تجويف بيّن محسوس فقط لكن قد يكون أيضاً بالأعضاء التي ليس فيها تجويف بيّن محسوس. ولهذا السبب فيما أحسب رأيت من اختلف مِدّة كانت فيما بين صدره ورئته فسلم وقد رأيت ذلك غير مرّة ورأيت أيضاً قوماً آخرين كانت بهم المدّة فيما بين الصدر والرئة فبالوها فانتفعوا.
والمعنى في كلامه هذا كلّه بيّن فأمّا الأعضاء التي ذكرها فيه فمنها «العصب» ومنها «الأوتار» وقد ينبغي أن يتبيّن ما الفرق بينهما. فأقول إنّ أبقراط يقول بعد قليل في الزوج السادس من العصب المنحدر من الدماغ: «إنّ عصبتين تنحدران من الدماغ إلى جانب عظم الفقرة العظمى» فيشبه أن يكون يعني بالعصب ما ينبت من الدماغ والنخاع ويعني بالأوتار ما ينبت من العضل.
وأمّا آخر هذا الكلام فيكتب على ضربين وذلك أنّ في بعض النسخ «وإمّا بأنواع أخر من الميل» وفي بعضها «وإمّا بأنواع أخر» فقط. والمعنى في كلّ واحد من النسختين بيّن: إنّ النسخة الأولى تدلّ على أصناف الاستفراغ التي تكون في وقت دون وقت ومن موضع دون موضع وأمّا النسخة الثانية فتدلّ على أصناف الاستفراغ فقط.
(٢٥) قال أبقراط: والصالح منه ما كان من المرض إلى أسفل مثل الدوالي وثقل القطن.
قال جالينوس: من عادة أبقراط إذا قال «خروج صالح» أن يعني به المحمود الجيّد الذي ينتفع به والخروج الذي هو كذلك هو الذي يكون «من أسفل». وأضاف إلى هذه مثالين يدلّ بهما على الخروج الذي يكون من أسفل أحدهما اسم مرض وهو قوله «الدوالي» والآخر اسم موضع واسم عرض فأمّا الموضع «فالقطن» وأمّا العرض «فالثقل» العارض فيه.
والدوالي هي عروق تتّسع على خلاف الأمر الطبيعيّ وبعض اليونانيّين يسمّي هذا العرض «قيرسوس» وبعضهم يسمّيه «قريسوس» ولا فرق عندي بين أن يجعل الياء قبل الراء أو بعدها ويكفي أن تعلم من خبر هذا الاسم في هذا الموضع أنّه يوجد في تفسير جميع من فسّر هذا الكتاب وفي جميع النسخ القديمة الياء منه قبل الراء ويفرد أرطاميدوروس الذي يسمّى قافيطن وديوسقوريدس وأشياعهما بأن كتبوا الياء منه بعد الراء. وإنّما يكتب كذلك أهل أثينية وليس يكتب كذلك في كتب أهل أيونيا الذين منهم أبقراط.
(٢٦) قال أبقراط: أحمد الخروج ما كان من فوق إلى أسفل أقصى ما يكون وما كان دون البطن وما كان في أبعد موضع من موضع المرض.
قال جالينوس: هذا المعنى هو المعنى الأوّل إلّا أنّه أعاده بشرح أبين فقال إنّه ليس «الخروج المحمود» هو الخروج الذي يكون من أسفل مطلقاً لكنّ الخروج من أسفل يكون محموداً إذا كان المرض فوق حتّى تكون العلّة قد انتقلت «من فوق إلى أسفل». فإنّه إن كانت العلّة في القدم أو في الساق أو في الفخذ لم ينتفع عند ذلك بالخروج الذي يكون في الأعضاء السفليّة.
وقال في الخروج الذي يكون «من دون البطن وفي أبعد موضع من موضع العلّة» إنّه «محمود» ومعناه في قوله بذلك شبيه بمعناه فيما تقدّم من قوله إلّا أنّه كرّره لكثرة الانتفاع بهذا المعنى الذي وصفه.
(٢٧) قال أبقراط: وما كان منه يجري سيلاً فهو أحمد مثل الدم من المنخرين والمدّة من الأذنين والبزاق والبول اللذين يجريان سيلاً.
قال جالينوس: إنّ اسم «الخروج» عند أبقراط البحران الذي يكون بشيء «يجري سيلاً» أعني بالاستفراغ أو البحران الذي يكون بالخراج. فقال في هذا الكلام إنّ ما كان من البحران بالاستفراغ فهو أحمد ممّا يكون بخراج وضرب لذلك مثلاً من «الدم» الذي يجري «من المنخرين» كأنّه قال إنّ الرعاف صنف من أصناف الخروج الذي يجري سيلاً «والمدّة» التي تجري «من الأذنين» صنف آخر «والبزاق» صنف آخر «والبول» صنف آخر على أنّ هذين أمران طبيعيّان. ولعلّ أبقراط إنّما استثنى في آخر قوله بعد ذكره «البزاق والبول» فزاد «اللذين يجريان سيلاً» وهو يريد أن يدلّ بهما على كثرة الاستفراغ لأنّ البزاق والبول إن لم يستفرغ منهما شيء كثير لم يكن ذلك مستحقّاً لأن يسمّى باسم «الخروج».
(٢٨) قال أبقراط: ومن لم يصبه هذا أصابه أصناف من الخروج مثل الذي يكون في الأسنان والعينين والأنف والخراجات التي تحتقن من خارج تحت الجلد مثل تعقّد
العصب وما يتقيّح به والقروح والبثور وما أشبه ذلك والجرب المتقشّر وسقوط الشعر والبهق والبرص وما أشبه ذلك.
قال جالينوس: أرى أنّ الذي ينقص هذا الكلام حتّى يكون كلاماً تامّاً واضحاً حرف واحد وهو «أخر». فإنّه إنّما أراد أنّه «من لم تصبه تلك الأصناف من الخروج» التي ذكر أصابته أصناف أخر من الخروج فحدّث ما ذكر كأنّه قال إنّ بعض الخروج يكون بما يجري سيلاً فيستفرغ مثل البول والعرق وسائر ما ذكره معهما وبعضه يكون بشيء «يحتقن» في بعض الأعضاء وذلك يكون من أخلاط مختلفة في أوقات مختلفة مثل الذي يصير «في الأسنان وفي العينين» وفي غيرهما ممّا ذكر. فمن لم يصبه في مرضه صنف من أصناف الخروج الذي يجري سيلاً فإنّه يصيبه صنف من أصناف الخروج الذي «يحتقن» إذا كان مرضه من الأمراض التي لا يكون انقضاؤها إلّا بخروج.
(٢٩) قال أبقراط: ما كان من الخروج وكان ميله دفعة وليس بناقص الميل ومعه سائر الأشياء التي ذكرت فلا شيء إن لم يكن بحسب مقدار المرض. من ذلك ما عرض لبنت أخت تامانيوس التي أعقبها المرض الشديد الذي أصابها إذ مال الفضل إلى إصبع من أصابعها فلم تكن الإصبع محتملة لقبول المرض فعاودها فماتت.
قال جالينوس: ما أبعد عندي من قال إنّ هذه المقالة لم يكتبها أبقراط على أن يجعلها كتاباً يقرؤه غيره من الناس وإنّما جعلها تذكرة لنفسه. فإنّ عبارة كلامه فيها ناقصة عن أن تؤدّي المعنى الذي قصد إليه به على الشرح التامّ. فذلك جائز أن يكون ممّن إنّما يكتب لنفسه ذكوراً ولا يجوز أن يكون ممّن يكتب كتاباً يقرؤه الناس وإن كان في غاية التواني.
وكذلك الحال في هذا الكلام الذي قصدنا لتفسيره الآن فإنّ المعنى فيه ليس بغامض إلّا أنّ ألفاظه ليست بمشبعة. والمعنى الذي قصد إليه هو ما أصف: إنّ الخروج يعني البحران وإن كان الميل فيه إلى عضو من الأعضاء دفعة فإنّ ذلك أفضل من أن يكون الميل مختلفاً ناقصاً وكانت فيه سائر الأمارات المحمودة التي وصفت قبل أنّه ينبغي أن تكون موجودة في البحران الذي ينتفع به مثلَ أن يكون اندفاع ما يندفع من الأخلاط التي أحدثت المرض وأن يكون إلى عضو ليس بالشريف من عضو شريف وأن يكون إلى أبعد الأعضاء منه وفي أقصى موضع من أسافل البدن. فإنّه وإن جمع هذه الأشياء كلّها فليس بالمحمود «دون أن يكون بحسب مقدار المرض كلّه» يعني مقدار قوّته ومقدار الفضل المولّد له.
وضرب لذلك مثلاً من شيء حدث في زمانه وهو أنّ بنت أخت تامانيوس أصابها مرض شديد فاندفعت مادّة المرض إلى إصبع من أصابعها يعني من أصابع القدم وكان الفضل فيها قد مال إلى أقصى موضع من أسافل البدن وأبعد موضع من الأعضاء الشريفة التي كانت العلّة فيها. وخليق أن يكون كان ذلك في الوقت الذي
كان ينبغي أن يكون فيه ولم يكن ينقصه شيء إلّا أنّ العضو الذي مال إليه الفضل المؤذي لم يكن يسعه ولذلك عاد فرجع إلى موضعه الأوّل فحدث الموت بسبب ذلك لأنّ الإصبع إذ كانت عضواً واحداً صغيراً لم تكن محتملة لقبول الأخلاط التي اندفعت إليها مع كثرتها.
(٣٠) قال أبقراط: الخروج يكون إمّا بالعروق وإمّا بالبطن وإمّا بالعصب وإمّا بالجلد وإمّا بالعظام وإمّا بالنخاع وإمّا بسائر المجاري: الفم والفرج والثديين والمنخرين والرحم. والذي يولد لثمانية أشهر يكون بحرانه كأنّه للغد ويكون في القطن وفي الفخذ وفي الأنثيين.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً يدلّ دلالة بيّنة واضحة على أنّ هذه المقالة لم تجعل كتاباً يقرؤه الناس وإنّما جعلت تذكرة. وممّا يدلّ على ذلك أنّه كرّر أشياء قد ذكرها قبيل وليس بينها وبين تلك إلّا خلاف يسير في المثالات الجزئيّة. ومع ذلك أيضاً أنّ بعض ما وصفه من تلك المثالات غامض جدّاً مثل الكلام الذي أتبع به ذكره «للرحم» حين قال: «والذي يولد لثمانية أشهر» أو «في الذي يولد لثمانية أشهر» فإنّ هذا الكلام قد يكتب على هذين الوجهين وهو كلام غامض جدّاً مستغلق ولذلك فُسّر بأصناف شتّى من التفاسير كما يفسّر اللغز.
وأنا واصف بعض تلك التفاسير ومقدّم التفسير الذي فسّر به هذا الكلام على أنّ نسخته على هذا المثال: «الفم والفرج والثديين والمنخرين والرحم. والذي يولد لثمانية أشهر يكون بحرانه كأنّه للغد». فأقول إنّ كلامه كلّه في أصناف الخروج الذي بها يكون البحران. فعدّد أوّلاً أعضاء يكون فيها ذلك الخروج ثمّ ذكر بعدها «الرحم». وقد يكون بالرحم صنفا الخروج جميعاً الذي يكون بهما البحران أعني الخروج الذي يكون باستفراغ والخروج الذي يكون باحتقان.
فلمّا ذكر الرحم ذكر بعده «المولود لثمانية أشهر» وهو يريد أن يدخله في عداد الخروج الذي يكون به البحران لأنّ المولود لثمانية أشهر لا يعيش في حال من الأحوال. وأمّا قوله «كأنّه للغد» فيشبه أن يكون إنّما قاله من قبل أنّ البحران الأوّل يكون للجنين في الشهر السابع ومتى كان الجنين لا يمكن أن يعيش كان خروجه يكون في الشهر الثامن كما لو كان شيء لم يتهيّأ له الخروج في اليوم السابع فيخرج من غده. وذلك أنّ الشهر السابع نظير اليوم السابع والشهر الثامن نظير غده. فهذا هو تفسير هذا القول على هذه النسخة.
وأمّا تفسيره على النسخة الأخرى التي فيها «وفي الذي يولد لثمانية أشهر يكون بحران كأنّه للغد» فمعناه إذا كان فيه اسم «البحران» فإنّما المعنى الأوّل وهو أنّ
بحران الجنين المولود لثمانية أشهر يكون في ذلك الشهر كما يكون بحران واندفاع الفضول التي يقذف بها في اليوم الثامن من المرض.
فقد يوجد في بعض النسخ مكان اسم «قريسيس» وهو البحران «قيرسوس» وهي العروق التي تتّسع التي تسمّى «الدوالي». وأصحاب هذه النسخة يريدون أنّ العروق التي تنتهي إلى الرحم تتّسع في ذلك الوقت ويقولون إنّ أبقراط قد وصف هذا بعينه في قول قاله بعد وهو هذا: «اللبن أخو الطمث إذا تمّت الثمانية الأشهر وفاض الغذاء». وأنت قادر على أن تعلم علماً يقيناً أنّ العروق المشتركة بين الثديين والرحم تمتلئ من الدم قبل وقت الولاد فتتّسع وتنتفخ من تشريح بعض الدوابّ. فقد رأينا ذلك دائماً يوجد بهذه من الحال متى رمنا أن نكشف الرحم عن الجنين وأمّه بالحياة. وبسبب إملاء تلك العروق يصير إلى الثديين دم كثير فيستحيل في اللحم الرخو الذي في الثديين فيصير لبناً. وهذا القول صواب إلّا أنّ القول بأن يصير الدم إلى الثديين يكون على طريق الخروج قول لا يقبله أحد.
فقد أضاف قوم اسم «الدوالي» إلى ما بعده وهو قوله «كأنّه للغد» وهم يريدون أنّه تعرض للمرأة الدوالي بعد إسقاط الطفل لثمانية أشهر وأنّ أبقراط يعدّ ذلك صنفاً
من أصناف الخروج وتلك الدوالي تكون للمخاض والطلق والتزحّر الشديد الذي يكون في وقت الولادة كيما يخرج الطفل. ويقولون إنّ ما قاله أبقراط موافق لهذا المعنى فإنّ الكلام نصّ على هذا المثال: «كأنّه للغد ويكون في القطن وفي الفخذ وفي الأنثيين».
وأمّا قوله «وفي الأنثيين» فيقولون إنّه يحتمل أن يفهم على وجهين أحدهما أن يضاف إلى الأعضاء التي ذكرها في النساء من قبل أنّ للمرأة أيضاً أنثيين والآخر ألّا يضاف إلى ذلك ويكون الكلام في المولود لثمانية أشهر قد انقضى وعاد أبقراط إلى ما كان فيه من تعديد الأعضاء التي تكون فيها الخراجات.
(٣١) قال أبقراط: وربّما كانت علّة الأنثيين من علل السعال وربّما كانت من ذاتهما.
قال جالينوس: قد قال قبيل إنّ الخراجات التي تكون في «الأنثيين» تكون من الأمراض التي يكون معها «السعال». وأمّا الآن في هذا القول فأذكر ما تقدّم من قوله في ذلك وذكر خراجات أخر ترم فيها الأنثيان من ذاتهما من غير أن يكون لصاحبهما سعال.
(٣٢) قال أبقراط: ما كان من الخراجات التي تكون مع علل السعال من دون البطن فهي أسلم وما كان منها من فوق البطن فليس كمال السلامة فيه على مثل ذلك.
قال جالينوس: إنّ جملة هذا القول قد قاله أبقراط فيما تقدّم عندما قال: «إنّ أفضل الخروج ما كان من المواضع العالية إلى أقصى موضع من المواضع السفليّة». فإنّه إن كان ذلك أفضل الخروج فواجب أن يكون ما كان بالقرب رديئاً.
(٣٣) قال أبقراط: الرعاف الكثير في أكثر الحالات تكون به السلامة ومن ذلك أمر إيراغورس الذي لم يعرفه الأطبّاء.
قال جالينوس: يقول إنّ كثيراً من الأمراض إذا كان فيها «رعاف كثير» قويّ كان ذلك البرء منها. ثمّ إن أبقراط وصف في ذلك مثالاً فذكر ما عرض لإيراغورس فإنّه عرض له رعاف كثير قويّ حتّى خاف الأطبّاء عليه منه ويشبه أن يكونوا راموا قطع الدم قبل الوقت الذي ينبغي. ومن البيّن أنّ الحمّيات التي معها حرارة قويّة في أبدان الشباب تحدث في الدم شبيهاً بالغليان فإذا كان ذلك ارتفع إلى الرأس وكثر في العروق التي فيه فمدّدها فإمّا أن ينصدع منها شيء وإمّا أن ينفتح بعض أفواهها. وممّا يعين على ذلك أنّ الدم إذا سخن عند هذه من الحال انحلّ وتولّدت فيه ريح وإذا كان ذلك في العروق حدث الرعاف.
(٣٤) قال أبقراط: الخشونة التي تكون في الصوت أو في اللسان أو في غيرهما من جميع ما يخشن بسبب الأمراض التي تكون معها صلابة هي بمنزلة الخشونة التي
تكون بالطبع. فأمّا ما كان ليّناً فهو أبطأ قبولاً لعدم الملاسة وإنّ الطبيعة الأولى لعظيمة النفع.
قال جالينوس: الخشونة هي اختلاف يكون في جسم صلب بسبب اليبس. وقد وصف أبقراط أنّ هذه الحال إنّما تكون في جسم صلب ولم يضف إلى ذلك أنّها إنّما تكون عند إفراط اليبس على الجسم لأنّه خليق أن يكون لم يقصد لذكر هذا لأنّه أمر بيّن. لكنّه أضاف إليه شيئاً جعله تذكرة لنفسه وهو أجلّ قدراً من ذلك وهو أنّ «خشونة الصوت» تكون على طريق واحد «بسبب المرض وبالطبع» وكذلك «خشونة اللسان» وجميع الأعضاء التي تقبل الخشونة. فإنّه قد يخشن الجلد من بعض الأبدان مثل أبدان الحصّادين والملّاحين الذين جلودهم بالطبع يابسة. فإنّ هؤلاء إذا طال لبثهم في شمس حارّة حدثت لهم في الجلد خشونة والجرب المتقشّر منه وغير المتقشّر. يخشن الجلد بسبب اليبس لأنّه إنّما يحدث من خلط سوداويّ أرضيّ. واللسان والحنجرة إذا كانا في طبعهما أزيد صلابة كانت الخشونة إليهما أسرع وإذا كانا [إلى] «ألين» لم تكن الخشونة تعرض فيهما.
ثمّ أتبع هذا بأن قال: «وإنّ الطبيعة الأولى لعظيمة النفع» على أنّ هذا الكلام يكتب على نسختين مختلفتين إحداهما هذه النسخة التي وصفتها ومن يتولّاها يزعم أنّ أبقراط إنّما أراد أن يصحّح ويؤكّد أنّ «الطبع الأوّل» الأصليّ «عظيم المنفعة». والنسخة الأخرى يضاف إليها شيء من الكلام الذي بعد هذا وهو قوله «ينبغي أن تتفقّد وتنظر» فيكون نسق الكلام في هذه النسخة على هذا المثال: «وينبغي أن تتفقّد وتنظر هل للطبيعة الأولى عظيم نفع».
(٣٥) قال أبقراط: وينبغي أن تتفقّد وتنظر مع ذلك فيما يكون من قبل التدبير.
قال جالينوس: إنّ «التدبير» ويعني به ما يؤكل ويشرب ربّما خشّن اللسان والحنجرة فجعل الصوت منهما خشناً. وبالواجب أشار «بتفقّد» هذا حتّى يكون الطبيب متى سمع صوت المريض وفيه خشونة يتفقّد أوّلاً ويبحث لعلّ صوته كان بالطبع كذلك ثمّ من بعد ذلك يبحث وينظر لعلّ تلك الخشونة إنّما حدثت في صوته بسبب تدبير يدبّر به من مطعم أو مشرب. فإنّه إذا بحث عن ذلك فوجد أنّ صوته لم يكن كذلك بالطبع ولا حدثت له الخشونة فيه بسبب تدبير يدبّر به لم يبق إلّا أن ينتج الخلّة الثالثة وهي أنّ صوته إنّما صار بتلك الحال بسبب مرضه وأنّ ذلك المرض أورث آلات الصوت صلابة بسبب إفراط اليبس عليها.
(٣٦) قال أبقراط: طوال الرؤوس طوال الرقاب من قبل الانحناء.
قال جالينوس: إنّ ظاهر هذا الكلام يخيّل أنّه إنّما أراد به أنّ الحيوان الطوال الرؤوس الطوال الرقاب إنّما يتبيّن طول رؤوسها ورقابها من قبل انحنائها أيْ إذا حنت رقابها. ومن فهم هذا المعنى من هذا الكلام لم يجد له كثير محصول ولا ما يشبه عظم همّة أبقراط ولا أمراً ينتفع به في الطبّ. فإن فهم من هذا الكلام أنّ هذه الحيوانات إنّما طالت رؤوسها ورقابها بسبب ثنيها لها كان ذلك أمراً خارجاً عن الحقّ بعيداً عن مرتبة أبقراط في العظم والفهم.
قال حنين: إنّي وجدت النسخة اليونانيّة التي ترجمت منها هذا الكتاب تنقص باقي تفسير كلام أبقراط هذا الذي وضع قبيل وتفسير قول آخر بعده لأبقراط فتكلّفت استتمام ما نقص من عند نفسي بحسب ما رأيت جالينوس ينحو نحوه في تفسير أشباه هذا الكلام وعلى الأصول التي أخذتها عنه من كتبه.
قال: فيشبه أن يكون أبقراط إنّما قال هذا وهو يريد أن يدلّ على الحاجة إلى طول الرؤوس والرقاب في الحيوان الطويل الرأس الطويل الرقبة التي قد بيّنت في كتاب منافع الأعضاء. فقد بيّن في ذلك الكتاب أنّ الرقبة إنّما خلقت بسبب الحلقوم والحلقوم هو آلة الصوت والنفس جميعاً إلّا أنّ الخالق [تبرّك وتعالى] يتلطّف للشيء الذي جعله بمنفعة من المنافع حتّى يجعل فيه منفعة من وجه آخر. ومن ذلك أنّه جعل الرقبة في كثير من الحيوان تقوم مقام اليد للإنسان وكذلك ما كان من الحيوان يتناول الغذاء بفيه من الأرض. وذلك هو السبب الأعظم في
خاصّة انثناء الرأس والرقبة: جعل له من الطول في الرقبة أو في الرأس كلّه أو في جزء منه مثل المنقار والشفة أو فيهما جميعاً يعني في الرأس والرقبة بمقدار طول قوائمه.
فأمّا الإنسان وما أشبهه من الحيوان فجعلت له الرقبة بسبب الحلقوم وجعل له الحلقوم بسبب الصوت والتنفّس ولذلك جعل لرقبته من الطول مقدار ما كان يحتاج إليه الحلقوم في الأفعال التي لها جعل. ولذلك صار السمك لمّا لم يكن له حلقوم ولم تكن له رقبة فإنّ السمك إمّا ألّا تكون له رقبة وإمّا أن تكون رقبته قصيرة جدّاً وتركيبها من الفقارتين الأوّلتين فقط. وكما أنّ الرقبة في السمك إمّا أن تكون قصيرة جدّاً وإمّا ألّا تكون موجودة أصلاً كذلك في الحيوان الذي تقوم له الرقبة مقام اليد للإنسان بمدّه إيّاها جعلت الرقبة طويلة. وجعلت الرقبة معتدلة في الحيوان الذي جعلت له الرقبة لموضع الصوت وأضيف إلى ذلك الارتفاق بها فيما ينبت منها من العصب الذي ينحدر إلى اليدين وإلى الحجاب.
فيكون معنى أبقراط وقصده أن يذكر بالقول الذي يعتقده وهو أنّ خلقة الأعضاء كلّها إنّما هي بحسب ما يحتاج إليه في استعمالها. وينبّه مع ذلك على التفقّد والنظر بالعين والفكر في أمر الأعضاء التي تطول معاً كالذي قيل في قول آخر يأتي
بعد هذا. وذلك أنّك تدرك ببصر العين أنّ الرقبة توجد طويلة في الحيوان الطويل القوائم وليس تقدر أن تدرك ببصر العين أيّهما يطول بطول الآخر لكنّك تحتاج في ذلك إلى الفكر والرؤية.
(٣٧) قال أبقراط: وسعة العروق وغلظها من سبب واحد وضيقها وقصرها ودقّتها من الضدّ.
قال جالينوس: قد وصفت في كتاب المزاج أيّ المزاج هو المزاج الذي يكون بسببه اتّساع العروق أو ضيقها على الشرح التامّ. وأنا واصف في هذا الموضع جملة ذلك بإيجاز فأقول إنّ المزاج الحارّ وخاصّة إن كان معه يبس ليس بالقويّ ولا بالمفرط يوسّع العروق وضدّ هذا المزاج يضيّق العروق. ويتبع سعة العروق غلظها وتتبع ضيقها دقّتها ويتبع دقّتها قصرها إلّا أنّ أكثر أجزائها يخفى بما يغطّيها من اللحم والشحم. والسبب في خفائها دقّتها في أنفسها وكثرة ما يغطّيها من الشحم واللحم الزائدتين في صاحب هذا المزاج. فإنّما قال: «إنّ سعة العروق وغلظها
يكونان من سبب واحد» لأنّ غلظ سائر البدن الذي يذكره بعد ليس يكون من الحرارة مثل غلظ العروق لكنّه إنّما يكون من البرد.
(٣٨) قال أبقراط: الذين عروقهم واسعة فإنّ بطونهم وعظامهم واسعة وأولائك هم القضاف فأمّا السمان فبخلاف ذلك. وعند الجوع ينبغي أن تختبر وتعلم أمر المقادير المعتدلة من هذه الأشياء.
قال جالينوس: ليس من هذه الأشياء فقط ينبغي أن تعرف تقدير الغذاء في أوقات الحاجة إلى الحمية لكنّ من هذه الأشياء بحسب طبيعة البدن تتعرّف ذلك لأنّ لتقدير المقادير المعتدلة من التدبير عند الحاجة إلى المنع من الطعام أعراضاً أخر غير هذه وهي كمّيّة الأخلاط وكيفيّتها ومقدار القوّة في شدّتها وضعفها. وقد وصفت في كتابي في المزاج أيّ المزاج هو المزاج الذي بسببه تكون البطون واسعة أو ضيّقة وصفاً شافياً. وأنا ذاكر من ذلك في هذا الموضع جملة فأقول إنّ المزاج الحارّ لا سيّما إن كان معه شيء من اليبس ليس بالقويّ ولا بالمفرط يوسّع البطون أعني التجويفات والذي هو ضدّ هذا يضيّقها. وتتبع المزاج الأوّل قضافة البدن ويتبع المزاج الثاني غلظ البدن. فلعلّ ظانّاً يظنّ أنّ صاحب البدن الغليظ الخصب أحمل للجوع وليس الأمر كذلك من قبل أنّ من كان بدنه هذا البدن فجوهره سريع إلى التحلّل كما أنّ الرطب أسرع سائر الأجسام إلى التحلّل بل
صاحب المزاج اليابس هو أحمل للإمساك عن الطعام لأنّ جوهر بدنه جوهر باقٍ ثابت بمنزلة الحجارة والخشب.
(٣٩) قال أبقراط: ينبغي أن تنظر في تقدّم كلّ واحد ممّا يتزيّد في تزيّده أيّ شيء ينقص بتزيّده وفي تنقّص كلّ واحد ممّا ينقص أيّ شيء يتزيّد بنقصه وفيما يتقدّم في التزيّد أيّ شيء يتزيّد بتزيّده وأيّ شيء يقوى بقوّته وفي نبض العروق أيّ شيء منه يعمّ.
قال جالينوس: أمّا قوله «التقدّم في التزيّد» فقد يدلّ على التزيّد الذي يكون قبل الوقت الذي ينبغي إلّا أنّ من يريد معناه في قوله هذا كلّه علم أنّه ليس يريد التقدّم في الزمان لكنّه إنّما يريد التقدّم في القياس وهو إذا وجد عضواً من الأعضاء أكثر تزيّداً بقياس سائر الأعضاء التي هي موجودة من بعض الحيوان. ولم يبعد من أدخل في هذا الباب الأعضاء التي هي موجودة في بعض الحيوان دون بعض مثل الحوافر والأظلاف والقرون والصياصي والمحاسن — أعني بالمحاسن عُرف الديك ولحيته.
فإنّ هذه الأعضاء أيضاً منها ما بينها من المشاركة أنّ الحيوان الذي يوجد فيه الواحد منها والآخر فيه موجود ومنها ما هو بالعكس أعني أنّ الحيوان الذي يوجد فيه أحدهما لا يوجد فيه الآخر ومن الأعضاء أعضاء «يتزيّد» بعضها مع بعض ومنها ما «ينقص» بعضها بعضاً.
فتكون المشاركة والمضادّة بين الأعضاء صنفين أحدهما في الوجود والآخر في المقدار. أمّا الأعضاء التي بينها مشاركة في الوجود فمثل المحاسن من الديك والصيصية فإنّه ليس يوجد واحد منها في إناث جنسه والأخرى لا توجد في غيره من أجناس الحيوان. فقد تبيّن أنّ هذه الأعضاء يوجد بعضها مع بعض ويبطل بعضها مع بعض والصيصية أيضاً والمحاسن من الديك تحدثان مع الخصى وتبطلان معها ومتى خصي الديك صار بمنزلة الدجاجة لأنّه لا ينبت له صياصٍ قويّة ولا لحية ولا عُرف.
وهذا أمر يعمّ جميع الحيوان أعني أنّ الذكر دائماً إذا خصي يشبه الأنثى حتّى إن كانت الأنثى في ذلك الجنس أعظم قرنين من الذكر صار قرنا الذكر إذا خصي أعظم وإن كان قرنا الأنثى في ذلك الجنس أصغر فإنّ الذكر إذا خصي صغر قرناه. وكذلك العرف والذنب يصغران في الذكر دائماً إذا خصي بمثل حالها في إناث ذلك الجنس. والصدر أيضاً في الذكورة أعظم وفي الإناث أصغر وكذلك حاله فيما خصي من الذكورة. وأمّا في الناس فإنّ اللحية أيضاً تبطل ببطلان الأنثيين وعلى ضدّ ذلك حال شعر الرأس فيمن يخصى. وذلك أنّ شعر الرأس ينبت ببطلان الأنثيين حتّى لا نكاد نجد خصيّاً أصلع.
ومع تزيّد عظم الصدر أيضاً يتزيّد العرف الذي على العنق والثديان والشعر. ومع تزيّد عظم الرأس يتزيّد خاصّة عظم فقار الصلب كلّه ويتزيّد أيضاً عظم كلّ واحد من سائر العظام. وهذه الأعضاء توجد في مقدارها يتزيّد بعضها مع بعض ويتنقّص بعضها مع بعض. وكذلك أيضاً يكون مع الصدر الضخم قلب ضخم ومع القلب الضخم تكون العروق الضوارب عظاماً وكذلك متى كانت الكبد عظيمة كانت العروق التي ليست بضوارب عظاماً ومتى كان الدماغ وافراً كان النخاع أيضاً وافراً وكان العصب غليظاً.
وما كان من الحيوان أيضاً له أكثر من بطن واحد فإنّه يبطل مع ذلك أن يكون له الصفّ الأعلى من الأسنان ويتولّد له مع ذلك في أكثر الأمر القرون ومع القرون أيضاً يتولّد لا محالة البطون الكثيرة وتبطل أيضاً الأسنان التي من فوق كلّها وكذلك أيضاً في الأسد يزيد مع تزيّد صدره جميع ما في مقدّم بدنه من الأعضاء وأمّا الأعضاء التي في مؤخّر بدنه فتقضف. وكذلك الحال في الثور وجميع الحيوان الذي يغلب عليه الغضب والشجاعة والنجدة. وكذلك في الإناث من الحيوان لأنّ الأعضاء التي في مقدّم أبدانها أنقص من أعضاء الذكران والأعضاء التي في مؤخّر أبدانها أغلظ وأعظم.
ونظير الأعضاء التي في مقدّم أبدان الحيوان ذي الأربع القوائم من الإنسان الأعضاء التي هي منه في أعلى بدنه ونظير الأعضاء التي هي من تلك في مؤخّر أبدانها ما هو من الإنسان في أسفل بدنه. وإذا قستَ الناس بعضهم إلى بعض وجدت الرجل أوسع صدراً من المرأة وأعظم أكتافاً وأعظم رأساً ووجدت المرأة أعظم عجزاً من الرجل وأغلظ أفخاذاً وسوقاً.
والأعضاء التي يتولّد ويحدث بعضها مع بعض ويتزيّد بعضها مع بعض فهي لا محالة يقوى بعضها مع بعض أعني أنّ الواحد منها إذا قوي فقد قوي الآخر. والأعضاء التي هي على ضدّ ذلك فهي ينفسد وينقص بعضها مع بعض كما قد بيّنت بهذه المثالات. ومن تدبّرها استدلّ بها على أشياء أخر كثيرة نظائر لها وخاصّة في تشريح الحيوان.
وقد استقصيت الأمر في التشريح في كتابي في علاج التشريح. من ذلك أنّ كلّ حيوان يكون اللحيّ منه عظيماً فإنّ عضلة الصدغ تكون عنه عظيمة وكلّ حيوان تكون أسنانه أسناناً قويّة وفقار رقبته شديدة فإنّ تلك العضلة تكون منه قويّة وتكون مع ذلك أعظم ممّا هي في غيره. وكلّ حيوان أيضاً اللحيّ منه أعظم فإنّ
اللسان منه أعظم وفيما كان من الحيوان كذلك فإنّ الأجسام التي تسند وتدعم وتثبت العظم الذي يشبه بحرف اللام من كتاب اليونانيّين تكون قويّة عظيمة وثيقة. وكلّ حيوان يكون اللحيّ منه صغيراً جدّاً فإنّ اللسان منه يكون صغيراً ولا يوجد فيه لذلك العظم الشبيه باللام دعامة عظيمة أصلاً خلا رباطات دقاق ويحيط بجميع هذه من العضل ما هو أقلّ عظماً وعدداً من العضل الذي في الحيوان العظيم اللحيّ.
وأمّا في السباع فإنّ اللحيّ متوسّط بين الكبر والصغر وكذلك اللسان. وعضلتا الصدغين منها قويّتان عظيمتان والأجسام التي تدعم العظم الشبيه باللام ليست بالعظيمة والعضل الذي بها يحيط من العدد والعظم مقدار متوسّط بين الحيوان الذي لحيّه عظيم جدّاً وبين الحيوان الذي لحيّه صغير جدّاً.
وإذا بطلت أيضاً الرئة بطل معها ضرورة الحلقوم والحنجرة والرقبة والصوت والبطن اليمين من القلب فإنّك لن تجد هذا البطن فيما يكون من الحيوان لا رئة له. وقد بيّنت في كتابي في منافع الأعضاء أنّ ببطلان الرئة تبطل جميع هذه إلّا أنّ ببطلان واحد من هذه تبطل الرئة. وقد وصفت في ذلك الكتاب الأسباب التي من أجلها صار بعض الأعضاء يحدث بعضها مع بعض وبعضها يبطل بعضها مع بعض وبعضها يتزيّد بعضها مع بعض وبعضها ينقص بعضها مع بعض ومنها ما يقاوم بعضها بعضاً في حدوثها وتزيّدها.
وأبقراط يأمرك أن تبحث عن جميع هذه الأشياء وتتفكّر فيها الفكر الذي يؤدّيك إلى حقيقة أمورها. وذلك أنّك قد تجد في التشريح أنّ الرئة تبطل مع بطلان البطن الأيمن من بطني القلب إلّا أنّه قد يحتاج إلى أن تستعمل الفكر فتبحث هل بطلان الرئة كان بسبب ذلك البطن أو بطلان ذلك البطن كان بسبب تلك الرئة لأنّ هذا أمر لا يمكن أن يدرك ببصر العين. وكذلك الأمر في الرقاب فإنّك قد تدرك ببصر العين أنّ الرقاب توجد طويلة في ما كان من الحيوان طويل القوائم كما قد قلنا آنفاً وليس تقدر أن تعرف ببصر العين سبب تزيّد أيّهما يزيد الآخر.
«وفي نبض العروق أيّ شيء منه مشترك»: إنّ بعض ما قد اتّفق عليه أنّ القدماء قد يطلقون اسم «العروق» وهم يريدون «العروق الضوارب» وخاصّة متى ذكروا معها النبض. فكأنّه في هذا القول يأمر بأن تبحث عن المشاركة التي للعروق الضوارب فيما بين بعضها وبين بعض وفيما بينها وبين الأحشاء.
وقد يوجد في بعض النسخ مكان «ديسفوكيس» وهو النبض «دياسفنكيس» وهو الشدّ. وعلى حسب هذه النسخة يكون المعنى الذي يقصد بهذا الكلام إليه أمر فصد العروق لأنّ فصد العروق قد يجوز أن يسمّى باسم «الشدّ» من العرض اللازم له لأنّا متى أردنا أن نفصد عرقاً شددنا العضو الذي فيه ذلك العرق.
وإن كان يعني «بالعروق» العروق غير الضوارب فتعرّف ما بينها من المشاركة وبين الأعضاء التي فيها العلّة عظيم المنفعة جدّاً كما قد بيّنت في الأقاويل التي
وصفت فيها أمر فصد العروق. وإن كان يعني «بالعروق» العروق الضوارب ثمّ كان بحثنا عن أمر المشاركة فيها بسبب فصدها فإنّ ذلك أمر نافع. وإن كان بسبب تقدمة المعرفة من النبض فكأنّه ليس يحتاج إلى البحث عن ذلك كبير حاجة لأنّ العروق كلّها تنبض على مثال واحد إلّا أن يعرض في بعضها خلاف من قبل خلقة طبيعته. إلّا أنّه إن عرض في مرض من الأمراض أن يخالف نبض عرق من عروق صاحبه نبض عرق آخر من عروقه فإنّه ينبغي حينئذ أن تبحث عن المشاركة التي فيما بين الأعضاء وبين ذلك العرق أو العروق التي خالف نبضها نبض سائر العروق.
قال حنين: إنّي وجدت في هذا الموضع أيضاً من الكتاب اليونانيّ الذي ترجمته منه نقصان قول من أقاويل أبقراط يتلو قوله المتقدّم وبعض تفسير جالينوس فيه فوضعت ذلك القول الناقص من كلام أبقراط وأضفت إليه من التفسير ما ظننت أن يشاكل مذهب جالينوس في تفسيره له ويتّصل به.
(٤٠) قال أبقراط: الفتوق التي تكون في المراقّ ما كان منها نحو العانة فهي في أكثر الأمر لا يلحقها ضرر في أوّل الأمر وما كان منها فوق السرّة قليلاً في الجانب
الأيمن فإنّها مؤلمة تورث كرباً وقيء الرجيع كالذي عرض لفطاقوس. وذلك يكون إمّا من ضربة وإمّا من جذبة وإمّا من وثبة آخر عليه.
قال حنين: إنّ أبقراط يعني «بالمراقّ» في هذا الموضع الغشاء الممدود على البطن كلّه الذي يسمّيه اليونانيّون «باريطوناون» وما كان من «الفتوق» العارضة في هذا الحجاب «فوق السرّة قليلاً» «فإنّه مؤلم يورث كرباً وقيء الرجيع». وذلك واجب من قبل أنّ الأمعاء الرقاق في ذلك الموضع. وتلك الأمعاء أضيق ومن قبل ذلك هي أحرى أن تحتبس فضول الطعام إن بدرت من فتق ذلك الغشاء وذلك إذا كان عرضت «الأوجاع والكرب وقيء الرجيع». وقال إنّ ذلك خاصّة يعرض متى كان الفتق «في الجانب الأيمن» لأنّ هناك موضع المعاء المعروف «بالأعور» وجزء أيضاً من المعاء الذي يقال له «قولن». فأمّا الفتق الذي يكون من أسفل «نحو العانة» في موضع الأمعاء الغلاظ التي هي أوسع فهو أقلّ ضرراً في أوّل الأمر وإنّما استثنى فقال «في أوّل الأمر» لأنّها بأخرة تصير أردأ ولا تزال دائماً في تزيّد من الاتّساع.
قال جالينوس: وذلك لأنّ الغشاء الممدود على البطن لا يزال يتزيّد تخرّقاً وتفتّقاً بسبب ثقل الأجسام التي فوقه. ثمّ قال أبقراط إنّ هذه الفتوق تكون في ذلك الغشاء إمّا من «ضربة» شديدة تصيب الإنسان عليه وإمّا من «جذبة» يعني من تمدّد شديد يعرض لتلك المواضع وذلك يعرض خاصّة لمن يروم أن يعلّي من الأرض شيئاً ثقيلاً. وذلك أيضاً قد يكون من ركلة شديدة تقع على البطن وهذا هو المعنى الذي قصد إليه أبقراط بقوله «وإمّا من وثبة آخر عليه».
وقد غيّر قوم ممّن فسّر هذا الكتاب حرفاً من هذا الكلام وهو قوله «أطاروا» ومعنى هذا الحرف «آخر» فزادوا فيه نوناً فصار «أنطاروا» ومعنى هذا الحرف «المعاء». فقالوا مكان «وإمّا من وثبة آخر عليه» «وإمّا من وثبة المعاء عليه» وزعموا أنّه يريد «بوثبة المعاء» شدّة ضغطه وجهده الذي يكون عند شدّة امتلائه. وهذه الاستعارة قبيحة مستنكرة.
(٤١) قال أبقراط: وفي أولائك المواضع التي بين المراقّ وبين الجلد تنتفخ وتطمئنّ.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام ينبغي أن يضاف إلى الكلام الذي تقدّم في فتوق الغشاء الممدود على البطن حتّى يكون نسق الكلام على هذا المثال: إنّ أولائك
القوم الذين حدث بهم فتق الغشاء الممدود على البطن فعرض لهم انتفاخ فيما بين ذلك الغشاء وبين الجلد وذلك الانتفاخ متى غمز اطمأنّ من ساعته من قبل أنّه ليس له مدافعة. وقد رأينا كثيراً شبيهاً بهذا الانتفاخ يعرض لبعض من أصابته جراحة في البطن في المبارزة ثمّ لم يلتزق الغشاء الممدود على البطن إلّا أنّ ذلك ليس يعرض في كلّ موضع من البطن. وذلك أنّ الانتفاخ الذي يكون من هذا الجنس أعني من فتق الغشاء الممدود على البطن في أسفل البطن ليس الشيء الذي يملؤه ريحاً لكنّه جرم الأمعاء ولذلك قد يدافع ويقاوم اليد إذا غمزت عليه.
فيشبه أن يكون أبقراط في هذا الكلام ليس يقصد إلى كلّ فتق يكون في الغشاء الممدود على البطن فيقول: «إنّ الموضع الذي فيما بين ذلك الغشاء وبين الجلد ينتفخ ويلطأ» ولكنّه إنّما يقصد إلى الفتق الذي يكون فيه من فوق فقط الذي بعد أن ذكره أتبع ذكره إيّاه في هذا الكلام فقال: «إنّ في أولائك المواضع التي بين المراقّ وبين الجلد تنتفخ وتطمئنّ» حتّى يكون كأنّه قال: «إنّ ما كان من الفتوق في الغشاء الممدود على البطن في أعلى البطن فإنّها ليست بسليمة من الآفات ومن عرضت له تلك الفتوق فإنّ الموضع الذي بين المراقّ وبين الجلد ينتفخ ويلطأ».
وقد جعل قوم هذا الكلام ابتداء القول الذي يتلو هذا فوصلوا الكلام وجعلوه قولاً واحداً على هذا المثال: «وفي أولائك الذين ينتفخ ويطمئنّ فيهم الموضع الذي بين المراقّ وبين الجلد فينبغي أن تبحث عن أمر الألوان مثل لون فولوخارس».
ومتى وصل الكلام على هذا المثال كان معناه هذا المعنى الذي أصف: إنّ فيمن ينتفخ منه الموضع الذي فيما بين المراقّ وبين الجلد ثمّ يطمئنّ قد ينبغي أن تبحث عن لون البدن كلّه فتنظر هل يضرب إلى البياض أو الخضرة أو الصفرة أو هو على خلاف ذلك. وليس ممّا يضطرّ إليه ولا ممّا ينتفع به أصلاً عند انتفاخ هذا الموضع الذي ذكر عن لون البدن لأنّ في ذلك شروطاً تخصّه والاستدلال من اللون مفرد على حدته كان البطن منتفخاً أو كان خامصاً لاطئاً. وكذلك لو كان انتفاخه يتحرّك تحت الغمز أو كان يدافع فينبغي أن تجعل الاستدلال من اللون ابتداء مفرداً عن أمر انتفاخ البطن على هذا المثال:
(٤٢) قال أبقراط: أمر الألوان ينبغي أن تبحث عنه على هذا المثال مثل لون فولوخارس الذي يضرب إلى البياض والخضرة والصفرة. إنّ كلّ لون في هذا الطريق يكون من الكبد وتستدلّ منه على أمراض في الكبد وفي أولائك يكون اليرقان الذي من الكبد مائلاً إلى البياض والاستسقاء والتربّل الأبيض. وما كان من ذلك من الطحال فهو أزيد سواداً. والاستسقاء واليرقان والقروح الرديئة تعرض للذين يفرط عليهم البياض ولأصحاب النمش وأولائك تتشقّق جلودهم وشفاههم كالذي عرض لأنطيلوخوس وأليواس.
قال جالينوس: إنّ كلام أبقراط في هذا الموضع هو في «الألوان» الخارجة من الأمر الطبيعيّ الذي يكون في البدن كلّه وليس في جميع الألوان لكنّ فيما يكون منها بسبب ضعف «الكبد» «والطحال». وهذا القول من أصحّ الأقاويل وإن كنتَ ممّن قد نصب نفسه لعمل الطبّ بحرص واجتهاد ثمّ امتحنت هذا القول عجبت من صحّته. وذلك أنّك تجد الأبدان متى ضعفت الكبد ربّما اصفرّت كما قال أبقراط في موضع آخر وربّما وجدتها تضرب إلى البياض والصفرة على نحو ما وصف في هذا الكلام الحاضر «مثل لون فولوخارس». فإنّ لون هذا الرجل فيما ذكر لم يكن أصفر مفرداً لكن كان يخالط صفرته بياض.
وذكر «الخضرة» واشتقّ اسمها من لون الخضر من العشب وغيره وليس كلّ الخضر لكنّ ما كان منها قد غلبت عليه الرطوبة حتّى مال إلى الصفرة وزال عنه لونه الطبيعيّ الذي هو الأخضر المحض. وإنّما ذكر هذا اللون لأنّ لون البدن كلّه يصير بهذه الحال متى كانت الكبد عليلة. فأمّا متى كان «الطحال» عليلاً فإنّ اللون يكون أميل إلى «السواد».
وأبقراط يأمر أن تتفقّد ألوان المستسقين كيما تستدلّ في أيّ الأحشاء أصل العلّة أفي الكبد أم في الطحال إلّا أنّه لا تقدر فيهما على الوصول إلى الاستبراء للأمر إلّا بالمجسّ. وقال «إنّ اليرقان» أيضاً «الذي يكون من الطحال أميل إلى السواد» فدلّ بذلك على أنّه ليس الاستسقاء فقط قد يعرض بسبب الطحال لكن
قد يعرض بسببه اليرقان أيضاً. وإن أنت تفقّدت أعمال الطبّ بعناية واستقصاء رأيت هذا عياناً في المرضى. ولأبقراط في هذا ما يفوق به جميع الأطبّاء أعني في الحرص والاجتهاد والاستقصاء في تفقّد ما يعرض للمرضى.
فمتى رأيتَ البدن قد غلب عليه «البياض» غلبة شديدة مع صفرة فاعلم أنّ في بدن من تلك حاله نقصاناً من الدم وخلطاً رديئاً غالباً على البدن كلّه وسبب تولّد ذلك الخلط الرديء ضعف الكبد لأنّ فعل الكبد توليد الدم. والدم دون سائر الأخلاط أحمر اللون فإذا لم يتولّد غلب على البدن البياض والصفرة. ومتى رأيتَ أيضاً «قروحاً رديئة» قد عرضت في أبدان قد غلب عليها «البياض» أو في الأبدان التي قد غلب عليها «النمش» فينبغي أن تتفقّد الأمر فيها على هذا المثال فإنّ أمرها يدلّ من قبل أيّ الأحشاء كان تولّد الخلط الرديء المولّد لتلك القروح. وذلك أنّ من كان البياض قد غلب عليه فالكبد هي الضعيفة فيه كان ذلك في طبيعته أو عرض له ذلك في وقت من الأوقات.
فأمّا من كان النمش غالباً عليه فإنّ الضعف منه إنّما هو في طحاله لأنّ الأبدان التي قد أفرط عليها البياض إنّما تصير بهذه الحال لنقصان اللون الأحمر فيها وهو لون الدم والأبدان التي يغلب عليها النمش إنّما تصير بتلك الحال بسبب مخالطة الخلط السوداويّ للدم. وقد بيّنت في كتابي في القوى الطبيعيّة أنّ الدم إنّما يتولّد في الكبد من الغذاء الذي يتأدّى إليه من المعدة وأنّ الفضول من المِرّتين أعني السوداء والصفراء تتميّز منه وتنتقض. فإذا ضعفت الكبد في فعلها كان امتناع تولّد
الدم على ضربين كما يكون امتناع استمراء الطعام في المعدة على ضربين أحدهما بأن يتفقّد فقط الشيء الذي كان من شأنها أن تحدثه أوّلاً لمّا كانت صحيحة والضرب الآخر أن يكون مع ذلك في ذلك الوقت فساد. وهذا الضرب يجعل الدم أصفر وبسبب ذلك يصفرّ لون البدن كلّه وأمّا الضرب الآخر فإنّه يجعل اللون مفرط البياض بسبب نقصان الدم وفي أكثر الأمر. فإنّ اللونين جميعاً يعرضان معاً لأنّه لا يتولّد دم محمود والدم الذي كان في البدن يفسد.
فأمّا الطحال فإذا لم يقدر على تنقية الخلط السوداويّ بسبب ضعف يكون فيه فإنّ ذلك الخلط ينفذ مع الدم إلى البدن فتعرض منه في أوقات مختلفة علل مختلفة وربّما تولّد منه الجذام وربّما تولّد منه الوسواس السوداويّ أو التقشّر أو الجرب أو السرطان أو غير ذلك ممّا أشبهه. «والنمش» أيضاً هو من هذا الجنس وتولّده من فضل سوداويّ يندفع إلى الجلد وكذلك البهق الأسود.
وذكر أنّ بعض من له النمش يعرض له «تشقّق في الشفتين». وبيّن أنّ ذلك يعرض لمن كان مزاجه بالطبع أزيد يبساً لأنّ من كانت هذه حاله فهو مستعدّ متهيّئ لقبول العلل المتولّدة من اليبس وإحدى تلك العلل «تشقّق الشفتين». وقد نرى ذلك أيضاً يعرض في الحمّيات الحادّة اليابسة إذا أفنت من البدن كلّ ما فيه من الرطوبة المحمودة وقد يتشقّق عند ذلك ليس الشفتان فقط لكنّ اللسان أيضاً على أنّ اللسان أرطب من الشفتين.
«والجلد» أيضاً قد يتشقّق في العلّة المعروفة «بالتقشّر» ولذلك يتشقّق أسفل القدمين فيمن يفرط عليه اليبس في تلك المواضع. وما ذلك بعجب إذ كنّا نرى الأرض في البقاع التي ليس يغلب عليها في طبعها الرمل قد يتشقّق في الصيف. والحطب أيضاً إذا جفّ جفوفاً شديداً دفعة من لهيب نار أو من شمس يتشقّق وكلّ ما سوى ذلك ممّا تفنى رطوبته فإنّ تلك حاله.
فإن كان ما قيل من أنّ الخلط السوداويّ أرضيّ يابس في مزاجه صواباً فواجب أن تكون الأبدان التي مزاجها بالطبع أزيد يبساً تتشقّق بسببه. وذلك ينال الشفتين أوّلاً وذلك أنّ الشفتين تنقبضان ثمّ تفترقان وتتبسّطان إلى مسافة بعيدة في كثير من أفعالها ولذلك وجب أن تتشقّقا إذا عرض لهما اليبس مثل السيور اليابسة فكما أنّ السيور تحتاج في ألّا تنقصف إذا تمدّدت إلى رطوبة ما كذلك الشفتان لهذا السبب بعينه إذا جفّتا تشقّقتا لأنّهما لا تحتملان عند ذلك ما يحدث فيهما من التمدّد بسبب انبساطهما. ومتى أفرط اليبس حدث التشقّق في الجلد فضلاً عن الشفتين.
وبالواجب صار هذان الصنفان من الأبدان «خبيثي القروح» وأمّا أصحاب «النمش» فبسبب الخلط الرديء الذي فيهم وأمّا أصحاب «البياض المفرط» فبسبب نقصان الدم. فإنّ هذين هما السببان في عسر برء جميع القروح التي يعسر
برؤها أعني الخلط الرديء الذي يأكل العضو ويقشّره ونقصان الغذاء المحمود الذي منه ينمي ويتولّد ما كان تأكّل وقُشّر.
(٤٣) قال أبقراط: والدلائل من الأخلاط التي تبرز من البدن أمّا الملحيّ فيدلّ خاصّة على أنّه تحت الجلد أو من الرأس إذا سخّنته الرئة.
قال جالينوس: إنّ أبقراط ذكر في هذا الكلام جنساً آخر من «الأخلاط» سمّاه «الملحيّ» لقرب طعمه من طعم الملح. والعرق في أكثر الأمر في جميع الأبدان بهذه الحال وتبيّن ذلك بياناً واضحاً ظاهراً لمن اتّفق له أن يعرق في الحمّام ثمّ سال من عرقه شيء فدخل إلى فيه فمن اتّفق له ذلك من تلقاء نفسه فقد عرف حقيقة الأمر في هذا فأمّا غيره فهو قادر أن يجرّبه بأن يجمع عرقه في الحمّام ويذوقه بإصبعه. وأصحاب اليرقان لغلبة فضل الصفراء فيهم فإنّ عرقهم إلى المرارة أقرب منه إلى الملوحة وليس يخلو عرق أولائك أيضاً على حال من أن تتبيّن فيه الملوحة. فأمّا من ليست به هذه العلّة فعرقه لا محالة مالح إلّا أنّ ذلك يوجد يتفاضل في الكثرة والقلّة.
وقد نجد الماء إذا سخن فضل سخونة من نار أو شمس كأنّه يميل إلى الملوحة إلّا أنّ المياه تتفاضل في قبول الملوحة بقدر طبائعها الأولى ومن المياه ما تسرع إليها الملوحة إذا سخنت وتغلب عليها غلبة شديدة لا يمكن معها أن تشرب.
وبركساغورس يسمّي هذا الطعم «بورقيّاً» من اسم «البورق» لأنّ البورق أيضاً مالح ويقول في هذا الطعم إنّه يتولّد من الحرارة إلّا أنّ تلك الحرارة المولّدة له ليست بمفرطة قويّة كالحرارة التي تولّد المرارة. وفي ذلك دليل على أنّهم لم يصيبوا في تسميتهم هذا الطعم «بورقيّاً» لأنّ المرارة في البورق أغلب من الملوحة. فالذي يسمّي هذا الطعم بالاسم الذي هو أولى به هو أبقراط وأفلاطون فإنّ أبقراط يسمّيه «الملحيّ» وأفلاطون يسمّيه «المالح». وسأصف لك بعد قليل قول أفلاطون في طبيعة هذا الطعم.
فأمّا الآن فينبغي أن أخبر برأي أبقراط فيه. وليس ينبغي أن تروم تصحيح الأمر بأنّه يتولّد في البدن خلط يغلب عليه الملوحة بالقياس لكنّه إنّما ينبغي أن تتعرّف ذلك بالحسّ من العرق كما قلت ومن النزل الذي ينحدر «من الرأس» فإنّه قد يحسّ من بعضها بملوحة بيّنة. وأبقراط يقول إنّ ذلك يكون «إذا سخنت الرئة للرأس» ودلّ بذلك دلالة بيّنة أنّ هذا الطعم يكون من حرارة قد جاوزت المقدار الذي ينبغي إلّا أنّها لم تفرط في القوّة. وممّا يدلّ على ذلك أنّ العسل وهو من أحلى الأشياء إذا جاور النار مجاورة طويلة جدّاً صار مرّاً ومتى كان لبثه على النار أزيد من المقدار المعتدل قليلاً صار مالحاً. والمرق كلّه أيضاً إذا أطيل طبخه صار أوّلاً مالحاً ثمّ يصير بأخرة مرّاً.
وإذ قد وصفت قول أبقراط في ذلك فإنّي واصف قول أفلاطون في كلّ واحد من هذين الطعمين أعني المالح والمرّ. فإنّه يقول إنّه يعمّهما جميعاً أنّهما جلّاآن إلّا أنّ المرّ أقوى جلاء. ويضادّ هذين الطعمين طعمان آخران يعمّهما القبض إلّا أنّ أحدهما أزيد قبضاً وهو العفص والآخر أنقص قبضاً وهو القابض. وهو يقول في هذين الطعمين إنّهما أرضيّان ولذلك هما باردان ويقول في الطعمين المضادّين لهما إنّهما حارّان أعني المالح والمرّ. فلمّا فرغ أفلاطون من ذكر العفص والقابض وصف بعدهما المالح والمرّ فقال فيهما بهذا اللفظ: «فأمّا ما يجلو تلك ويغسل كلّما نجده على اللسان فإنّه إن أفرط في فعله ذلك وبلغ من فعله أن يذيب شيئاً من طبيعة اللسان مثل قوّة البورق فإنّ جميع ما كان كذلك يسمّى ‹مرّاً›. فأمّا ما كانت قوّته أنقص من قوّة البورق وجلاؤه يسيراً فإنّه يسمّى ‹مالحاً› وليس معه مرارة خشنة ونجده لذيذاً مقبولاً شهيّاً».
فقد بيّن أفلاطون في هذا الكلام أنّ ما كان من جنس الأشياء التي تجلو الذي هو ضدّ جنس الأشياء التي تقبض أقوى جلاء فإنّه مرّ مثل البورق وما كان أضعف جلاء فإنّه مالح. وممّا يدلّك على أنّ هذين جميعاً حارّان وخاصّة المرّ إذابتهما ما يذيبانه من جوهر ما يلقيا به فإنّه ليس شيء ممّا يذيب يخلو من أن يكون حارّاً في
طبيعته كما أنّه ليس يخلو شيء ممّا يجمع ويقبض جوهر الأجسام من أن يكون بارداً.
(٤٤) قال أبقراط: ينبغي أن تطلب الأسباب التي منها ابتدأت العلّة كان الوجع في الرأس أو في الأذن أو في الجنب وممّا يدلّك على ذلك الأسنان واللحم الرخو.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يتقدّم إليك أن تبحث «وتطلب الأسباب» في جميع الأمراض ومثل في ذلك مثالات فذكر وجع الأذن ووجع الرأس ووجع الجنب. فقد نجد كثيراً ممّن وصف الأدوية التي تعالج بها هذه الأوجاع قد استعمل من التقدّم وقلّة المعرفة أن أطلق ذكره لها فقال «دواء لوجع الرأس» «ودواء لوجع الأذن» ولغيرهما من أوجاع سائر الأعضاء. وأكثر ما نجد أشباه هذه من الأدوية في الكتب المرسومة باسم أفلونيوس التي فيها ذكر الأدوية التي يسهل وجودها. ولذلك قد نجد بعض من يتعالج بتلك الأدوية ينتفع بها ونجد بعضهم يناله منها مضرّة عظيمة جدّاً وذلك أنّا نجد تلك الأدوية مختلطة غير مميّزة حتّى نجد دواء مسخناً موصوفاً لعلّة من العلل وإلى جانبه آخر يبرّد وواحداً مهيّجاً وآخر مسكّناً وواحداً محلّلاً وآخر
محقّناً معاقداً وواحداً مرطّباً وآخر مجفّفاً. وقد كان ينبغي لهم أن يفردوا للصداع الذي يكون من كثرة الأخلاط أو من الرياح الغليظة أدوية على حدة وللصداع الذي يكون من البرد وللصداع الذي يكون من الحرارة المفرطة أدوية أخر وكذلك فعلنا نحن في كتاب حيلة البرء وفي كتابنا في الأدوية التي أجملناها لمرض مرض وعضو عضو.
وضرب أبقراط في ذلك مثالات من الأمراض ومن الأعضاء «وجع الرأس ووجع الأذنين ووجع الجنبين» وأشار بأن «تبحث» فيهما «عن الأسباب» المحدثة للأوجاع كيما تستخرج منها الأدوية التي ينبغي أن يعالج بها.
قال: «وممّا يدلّك» دلالة بيّنة على أنّه ينبغي لك أن تفعل ذلك «الأسنان» أوّلاً يعني الأسنان التي يعرض فيها الوجع فإنّه ليس يجهل أحد من أمر الأسنان أنّ الوجع ربّما حدث فيها من قبل ورم وربّما حدث من قبل تأكّل وربّما حدث من قبل برد شديد وربّما حدث من فضلة تنصبّ إليها من الرأس. وممّا يدلّك على ذلك أيضاً «اللحم الرخو» وذلك أنّ اللحم الرخو الذي في الإبط والجانب قد يرم في الأوقات المختلفة من أسباب مختلفة فربّما ورم من فضلة تتجلّب إليه وربّما ورم بسبب ورم أو قرحة تكون في بعض الأعضاء التي في الجانب الذي هو فيه وربّما ورم بسبب آفة تكون في بعض الأحشاء. فكما أنّ علل «الأسنان» وعلل «اللحم
الرخو» تكون من أسباب كثيرة مختلفة كذلك «وجع الأذن ووجع الجنب» والقولنج ووجع الكلى وأوجاع سائر الأعضاء. وأبقراط يأمر أن «تطلب تلك الأسباب» وتبحث عنها وقد بحثنا عن جميعها في الكتب التي تخصّها.
(٤٥) قال أبقراط: القروح التي تكون فيكون معها بحران الحمّيات والخراجات إذا كانت فلم يتبعها ذلك دلّ ذلك على سوء البحران.
قال جالينوس: إنّ هذا القول هو أحد الأقاويل الجزئيّة التي تعمّها الجملة التي تقدّم ذكرها قبل حين قال: «إنّ إشارات البحران إذا كانت ثمّ لم يكن معها بحران فربّما دلّت على الموت وربّما دلّت على سوء البحران». وإشارات البحران منها ما هي أعلام تدلّ على البحران كما قلت ومنها أسباب للبحران.
«والقروح التي يكون معها بحران الحمّيات» من إشارات البحران على الوجهين جميعاً أعني على طريق الدلائل وعلى طريق الأسباب. أمّا على طريق الدلائل فمن قبل أنّا قد رأينا مراراً كثيرة أنّه إذا أردفت الحمّى قروح انقضت الحمّى فإن رأينا ذلك الآن رجونا أن تكون الحال فيه مثلَ الذي رأيناه مراراً كثيرة. وأمّا على طريق الأسباب فمن قبل أنّ الخلط الرديء المولّد للحمّى إذا مال إلى عضو أو أعضاء من البدن حدثت في تلك الأعضاء قروح وتحلّلت تلك الأخلاط فانفشّت وانتقلت مع ذلك من الأحشاء إلى ظاهر البدن فكان بذلك انقضاء الحمّى. فإن عرض في تلك الأوقات أن تنتقل الأخلاط والحمّى باقية فينبغي أن تبحث عن السبب الذي
من قبله لم ينتفع المريض بما حدث له هل هو أنّ العلّة باقية على حالها أو أنّه بقي في البدن سبب آخر غير الأخلاط الرديئة من قبله تكون تلك الحمّى. فهذه قصّة «القروح التي يكون معها انقضاء الحمّى».
وذكر أبقراط في قوله [في] هذا «الخراجات» وقد ينبغي أن تبحث عنها هل ذكره لها على نحو ما ذكر علّة الحمّيات أو على نحو ما ذكر علّة القروح. فإنّ «الخراجات» قد يجوز أن تكون ممّا هو بحران لغيره ويجوز أن تكون ممّا غيره بحران له. وأمّا بحران لغيره فللحمّيات إذا كان حدوثها على طريق دفع الطبيعة وأمّا غيره بحران له فللقروح. فإنّ الخراجات قد يمكن أن تبرأ بأن تخرج قروح في أعضاء أخر بانتقال الخلط المولّد لتلك الخراجات إلى تلك الأعضاء وربّما كان ذلك بحدوث القروح في تلك الأعضاء أنفسها التي فيها الخراجات.
فقد نرى كثيراً تحلّل الفضل المولّد للخراجات يكون على هذا الطريق. وقد ذكر ذلك أبقراط في كتابه في المفاصل حين قال: «إنّه متى حدثت خراجات بطيئة النضج في الفقار فحدثت منها حدبة فإنّ برء تلك الحدبة يكون كثيراً باختلاف الدم» وهو يعني اختلاف الدم الذي يكون من قرحة تحدث في الأمعاء.
(٤٦) قال أبقراط: الذين تبقى بهم بقيّة فالعودة فيهم أصحّ ما يكون وأسرعه.
قال جالينوس: يعني أنّ «الذين تبقى بهم بقيّة» من مرضهم فإنّ المرض «يعاودهم» ضرورة «سريعاً». وأراد بقوله «أصحّ ما يكون» أنّ ذلك يكون في كلّ
حال وأنّه لا محالة واقع سواء قال هذا القول أم قال «إنّه يكون ضرورة». وإنّما قال ذلك على نحو ما يوجبه نفس الشيء لأنّ الذي يعالج حتّى يبقى من تلك «البقيّة التي بقيت به» من مرضه فقد يمكن ألّا يعاوده مرضه. وذلك أنّ البقيّة التي بقيت من المرض متى كانت ذات قدر وكانت بعيدة من النضج جدّاً ثمّ عولج صاحبها منها على ما ينبغي فإنّ المرض وإن عاود فإنّه يكون أهون من المرض الذي يعاود من لم يعالج أصلاً فإن كانت تلك البقيّة التي بقيت من المرض يسيرة ولم تكن بعيدة من النضج جدّاً فقد يمكن ألّا يعاود ذلك المرض أصلاً.
(٤٧) قال أبقراط: إذا كان البراز نيّاً رقيقاً فإنّ الجاورس الثخين المطبوخ بالزيت يعقله مثل الحال في ابن نوطس وفي موريوخوني.
قال جالينوس: لا أحسب أنّ آل ديوسقوريدس علموا أنّ اسم «قنخروس» وهو «الجاورس» ليس يذكّره القوم الذين ينسبون أنفسهم بالباطل إلى معرفة لغة اليونانيّين. فإنّهم لو كانوا علموا ذلك بعد كانوا في هذا الموضع أيضاً قد استعملوا الشيء الباطل الذي من عادتهم استعماله فغيّروا قول أبقراط «ثخين» فأنّثوه كما غيّروا اسم «قيرسوس» وهو الدالية الذي نجده في جميع الكتب مكتوباً الياء منه
قبل الراء وغيّروه آل ديوسقوريدس إلى لغة أولائك القوم الذين ذكرت يجعلوا الراء منه قبل الياء. وقولي ما قلت من هذا فيهم إنّما جرى منّي على طريق العذل.
فأمّا أنت أيّها القارئ لكتابي هذا فينبغي أن تستخفّ بالأسماء وتُعنى بمعرفة الأدوية وتبحث في أيّ الحالات ينبغي أن تستعمل «الجاورس» المقول بهذه الصفة فإنّ أبقراط لم يقل في هذا الموضع إنّه ينبغي أن يستعمل فيمن ذكر حاله دائماً لكنّه إنّما أخبرك بقوّة هذا الدواء خبراً مطلقاً حتّى تقدر أن تستعمله بعد أن تميّز وتخلّص هل ينبغي لك أن تستعمله أم لا. فإنّه كثيراً ما يكون «البراز» على الحال التي وصف فلا ينبغي حبسه وقطعه قبل الوقت الذي ينبغي.
وقوله في «الجاورس ثخين» يدلّ على صنعته وعمله يعني أن يكون دقيق الجاورس المطبوخ غليظ القوام. فليس بمعلوم أيّ الأمرين أراد أبقراط بقوله «المطبوخ بالزيت»: إنّما أراد أن يطبخ دقيق الجاورس كما من عادتنا أن نطبخه بالماء أوّلاً ثمّ يلقى عليه بأخرة الزيت فيكون ذكره الزيت إنّما هو صفة تطييبه أو إنّما أراد أن يخلط دقيق الجاورس منذ أوّل الأمر مع الزيت ثمّ يطبخ. إلّا أنّي أرى أنّ هذا الطريق من الطبخ يقبض وقد اتّفق جميع الناس على أنّ مع الجاورس قوّة مجفّفة وقد وصفت ذلك من أمره في كتابي في الأدوية المفردة.
والبحث عن موريوخوني هل هو اسم تلك المرأة أو صفة لحال نفسها فضل في صناعة الطبّ لأنّك إن فهمت من ذلك الاسم أنّ تلك المرأة كانت تستعمل
اللعب في كثير من أحوالها ولذلك سمّيت بهذا الاسم أو فهمت غير ذلك لم ينفعك ذلك شيئاً في مداواة المرضى ولا من غير هذا الاسم من سائر الأشياء التي ذكرها ويذكرها أبقراط في اقتصاصه أمر كلّ واحد من المرضى. وإنّما يذكر أبقراط تلك الأشياء ليجعلها تذكرة له بما رأى أو لأصحابه الذين عادوا معه أولائك المرضى. فإنّ الذكور إنّما كانت القدماء تثبتها لأصحابهم الذين كانوا يحضرون معهم عند المرضى.
(٤٨) قال أبقراط: امرأة كان يوجعها فؤادها ولم يكن يسكّنه عنها شيء إلّا بسويق الشعير مع ماء الرمّان وكانت تكتفي بأن تغتذي مرّة في اليوم ولم تكن تتقيّأ كما كان يتقيّأ خاريون.
قال جالينوس: إنّ الاختلاف بين النسخ قد وقع ليس في هذا القول فقط لكنّ في أقاويل أخر كثيرة جدّاً من هذه المقالة. والسبب في ذلك أنّ الذين قصدوا لتفسيرها غيّروا الكلام على أنحاء شتّى على نحو ما ظنّ كلّ واحد منهم أنّه يوافق تفسيره. وقد نجد في النسخ اختلافاً في أقاويل فيما ليس بينها في المعنى خلاف وإن كان اللفظ مختلفاً. من ذلك أنّ في هذا القول يوجد في بعض النسخ «خيريون» وفي بعضها «خاريون» ويوجد في بعضها «كما كان يتقيّأ» وفي بعضها
«كالذي كان يتقيّأ» وهذا من الاختلاف ما لا ينبغي أن تلتفت إليه لأنّ الذي ينتفع به القارئ في الكتاب ليس هو أسماء أولائك المرضى لكنّه إنّما هو نفس المعنى الذي قصد إليه.
والمعنى الذي قصد إليه في هذا القول إنّما هو أنّ امرأة كان بها وجع في فم المعدة من أخلاط لذّاعة اجتمعت فيه قليلاً قليلاً. وإنّما قلت ذلك من قبل أنّه لو تقدّم حدوث ذلك سبب قويّ لما كان أبقراط بالذي يدع ذكره في كتابه بل كان سيذكره لا محالة كما من عادته أن يفعل. أعني بالسبب القويّ مثلَ احتباس الطمث أو إسقاط الطفل أو علّة في الكبد أو في المعدة أو نزلة من الرأس أو تناول أغذية مستنكرة أو سهر أو غمّ أو تعب أو تخم. وبيّن أنّ ذلك الخلط اللذّاع الذي أحدث الوجع إنّما اجتمع في فم المعدة من بعض هذه الأسباب إلّا أنّه ليس سبب قويّ يستحقّ أن يذكر ولذلك فات الحسّ حتّى لم يعلم أنّ ذلك الخلط هو داء يجتمع.
ولذلك لم يحتج أبقراط في علاج ذلك إلى شيء أكثر من أن يفني ذلك الخلط «بسويق الشعير بماء الرمّان» ويجعل منها دواء مركّباً معه تجفيف وتقوية لأنّ العلّة كانت تحتاج إلى الأمرين جميعاً. فلمّا فنيت تلك الأخلاط المولّدة «لوجع الفؤاد» فقوي ذلك العضو حتّى صار لا يقبل فضلاً ينجلب إليه من موضع من
المواضع ولا يتولّد فيه وإن صار فيه فضل يسير دفعه وقذفه برئت تلك المرأة وحقّ لها أن تبرأ.
والاقتصار أيضاً على تناول الغذاء «مرّة في اليوم» نافع في جميع أمثال هذه العلل إذا فهم مع «تناول الغذاء مرّة» قلّته. فقد أعرف كثيراً من الناس يأكلون في مرّة واحدة طعاماً كثيراً جدّاً ويظنّون أنّهم ينتفعون بذلك فقد ينبغي في علل المعدة خاصّة أن يكون مقدار ما يتناول مقداراً معتدلاً على الاستقصاء فإنّه ليس عضو من الأعضاء يحتمل وهو عليل أن يقبل مقداراً كثيراً وخاصّة المعدة والكبد.
فأمّا قوله في آخر كلامه هذا «ولم تكن تتقيّأ كما كان يتقيّأ خاريون» فإنّما ينتفع به الذي كتبه فقط ليكون له تذكرة. وأمّا نحن إذ كنّا لا نعرف خاريون ولا هذه المرأة ولا حالها فليس ننتفع بذلك وذلك أنّا لا نعلم هل كانت لا تتقيّأ أصلاً أو قد كانت تتقيّأ شيئاً لأنّه قد يمكن أن تكون لم تكن تتقيّأ شيئاً أصلاً وقد يمكن أن تكون قد كانت تتقيّأ إلّا أنّ ما كانت تتقيّؤه لم يكن شبيهاً بما كان يتقيّؤه خاريون أو خيريون أو كيف شئتَ أن تسمّيه.
(٤٩) قال أبقراط: تغيّر الاستفراغ ممّا ينتفع به إن لم يكن إلى شيء رديء مثل الذي يكون عند القيء بالأدوية في الحمّيات.
قال جالينوس: إنّ عند «الاستفراغ» الذي يكون من «الأدوية» إنّما يستفرغ أوّلاً الخلط الملائم للدواء الذي يشرب ثمّ يتبعه بأخرة خلط آخر «فتغيّر الاستفراغ» إذاً يدلّ على أنّ الخلط الذي بسببه سُقي صاحبه الدواء قد استفرغ ونُقّي البدن منه. ولذلك قد ينتفع بهذا اللّهمّ إلّا أن يكون الشيء الذي تغيّر إليه الاستفراغ خراطة الجوف أو شيئاً من جنس الدم أو من جنس المرّة السوداء أو صرفاً جدّاً أو منتناً لأنّ هذه الضروب من الاستفراغ إمّا أن تدلّ على عفونة وإمّا أن تدلّ على إفراط من الاستفراغ وإمّا على حرارة مفرطة قد غلبت على البدن وأمّا على العفونة فالشيء المنتن وأمّا على إفراط الاستفراغ فالخراطة وما هو من جنس الدم وأمّا على الحرارة الكثيرة المفرطة فالشيء الصرف. وأمّا قوله «مثل الذي يكون عند القيء بالأدوية بسبب الحمّيات» فهو مثل ضربه لهذا القول الذي قد كتبه في كتاب الفصول أيضاً.
(٥٠) قال أبقراط: الاستفراغ الذي يصير بأخرة صرفاً يدلّ على عفونة كما كانت الحال في داكسبس.
قال جالينوس: إنّ من عادة القدماء إذا قالوا «خلط صرف» أن يعنوا به الخلط الذي هو حافظ للطبيعة على حقّها وصدقها. وإذا كان الخلط كذلك فهو لا محالة غير مخالط لغيره من سائر الأخلاط ولذلك يقال له «صرف». وإنّما تصير الأخلاط كذلك إذا أفرطت عليها قوّة الحرارة الخارجة عن الطبيعة لأنّ هذه الحرارة هي التي تعفن الأخلاط في أبدان الحيوان كما أنّ الحرارة الطبيعيّة تصلح الأخلاط وتنمي البدن وتغذوه وتقوّيه. ولمّا كان أبقراط قد تقدّم فقال إنّ تغيّر الاستفراغ إلى الحالات الرديئة ليس بمحمود أردف ذلك بمثال دلّ به على جنس تلك الأشياء الرديئة وهو «الاستفراغ الصرف».
وأضاف إلى ذلك أيضاً السبب في قوله إنّ ذلك الاستفراغ رديء بذكره للعفونة إذ كان قوله ذلك إنّما هو فيها. ومن قبل أن يظهر في ذلك الاستفراغ النتن فإنّه قد يدلّ أيضاً دلالة بيّنة على عفونة مستأنفة بجنس أصناف الاستفراغ الصرف إذا كلّها جنس واحد وهو العفونة وهي تخفى في أوّل الأمر ولذلك يتوهّم أنّ ذلك الاستفراغ إنّما يكون من إفراط الحرارة فقط.
(٥١) قال أبقراط: سارافيس من بعد استطلاق بطنها تربّلت وحدثت بها حكّة ولست أدري بعد كم يوماً كان ذلك من مرضها. وقد كان بها أيضاً خراج نحو الخاصرة ثمّ اسودّ ذلك الخراج فقتّلها.
قال جالينوس: إنّا قد نجد في كثير من النسخ مكان «الخراج» «ورماً» وليس في النسختين اختلاف في المعنى كثير فرق. وجملة هذا القول إنّما هو تذكرة بأمر التربّل الذي يكون بعقب استطلاق البطن إذا انقطع. وذلك أنّ الشيء الذي كان ينبغي استفراغه لمّا انقطع قبل الوقت الذي كان ينبغي فاحتقن في بدن تلك المرأة مال منه شيء نحو الجلد فأحدث فيه «حكّة» وانصبّ أكثره إلى بعض الأعضاء الباطنة فأحدث فيه بليّة بسببها كان «التربّل». «والخراج» الذي خرج بتلك المرأة فيما يلي «الخاصرة» أيضاً دليل على كثرة المادّة وسواء كما قلت كان خراجاً أو ورماً. وما ذكر من «سواده» أيضاً يدلّ على رداءة ذلك الخلط الذي انصبّ إلى ذلك الموضع.
فليس ينبغي لك إذاً متى «استطلق البطن» أن تقطعه قبل الوقت الذي ينبغي ولا إن انقطع من تلقاء نفسه أن تدعه ينقطع لكن تتفقّد وتنظر كيف حال الأخلاط وما مقدارها في البدن كلّه. وممّا يدلّك على أنّ الآفة التي حدثت بهذه المرأة إنّما حدثت باحتباس ما كان ينبعث منها بالبراز افتتاحه كلامه في القول الذي بعد هذا «بالواو» وإضافته إلى «الواو» من بعد قوله «أيضاً». فإنّ أبقراط وسائر القدماء إنّما يفتتحون كلامهم هذا الافتتاح في الأقاويل التي جملة المعنى فيها الذي يوصف أو يبيّن جملة واحدة متّصلة.
(٥٢) قال أبقراط: وأمة سطومرجس أيضاً أصابها استطلاق شديد فلبث أيّاماً يسيرة ثمّ قطعته وأسقطت بعد قطعها إيّاه بنتاً وبرئت بعد أربعة أشهر ثمّ إنّها تربّلت.
قال جالينوس: قد يكتب هذا القول أيضاً على نسخ مختلفة ويفسّر بتفاسير مختلفة إلّا أنّي أنا فراراً من التطويل أقصر قصراً فضل تلك النسخ والتفاسير وأضيف إلى هذا القول ما ينبغي أن يضاف إليه حتّى يصحّ ويتبيّن حتّى يكون على هذا المثال: «إنّه عرض لأمة سطومرجس استطلاق البطن وكان يجيء منها شيء كثير وبادرت فقطعته قبل الوقت الذي كان ينبغي فيه قطعه حتّى لم تلبث فيها إلّا أيّاماً يسيرةً ولذلك عرض لها بعد انقطاعه أوّلاً أن أسقطت ثمّ لبثت عليلة أربعة أشهر ثمّ برئت ثمّ إنّها بأخرة تورّمت الورم الرخو الذي يقال له ‹التربّل›». وبيّن أنّ ذلك كان من قبل أنّه نالت بعض الأحشاء آفة من ذلك الشيء الذي احتقن في البدن ومن قبل ذلك عرض «التربّل» في الأعضاء التي يمكن أن يحدث فيها.
(٥٣) قال أبقراط: مسخوس كان به من تولّد الحصى أمر قويّ ثمّ حدث به في جفنه الأعلى شعيرة نحو أذنه ثمّ حدثت له قرحة من خارج وتقيّحت من داخل في الخامس والسادس وانفجر سريعاً من أسفل وانحلّ بالخراج الذي عند الأذن. وكان من أسفل في الرقبة خراج آخر بحذاء الخراج الأعلى.
قال جالينوس: لمّا كان «تولّد الحصى» الذي كان بمسخوس لا يشارك بوجه من الوجوه «الشعيرة» التي تولّدت «في جفنه» متى فهمنا «من تولّد الحصى» حقيقة ما يفهم من هذا الاسم قال قوم إنّ أبقراط إنّما يعني «بتولّد الحصى» في هذا الموضع تولّده في الجفن لا تولّده في الكلى أو في المثانة وقالوا إنّه يعني «بتولّد الحصى» في الجفن تولّد الرطوبة الجامدة التي تتحجّر فيه التي تسمّى «البرد» ثمّ إنّ المادّة المولّدة لذلك انتقلت إلى مواضع أخر فحدثت به الشعيرة وسائر العلل التي ذكر أنّها عرضت له.
وكيف كانت حقيقة الأمر فلسنا نصل إلى أن ننال من هذا القول شيئاً ينتفع به في صناعة الطبّ. فأمّا من رأى مسخوس وعرف حاله كلّها فهو قادر من تذكرة ما عرض له أن ينتفع ضرباً من المنفعة.
(٥٤) قال أبقراط: أخو امرأة أرسطيوس كانت به سخونة وكان كائناً دائماً يتعب في السفر ثمّ حدث به في ساقه البثور التي تسمّى «البطم» ثمّ أعقبته من بعد ذلك حمّى دائمة. وأردفه من غد عرق ولم يزل العرق يتعاهده في سائر الأيّام الأزواج. وكانت حمّاه باقية وكان مطحولاً وكان لا يزال يصيبه الرعاف من الجانب الأيسر في كلّ قليل وأتاه البحران قليلاً قليلاً. وأصابه في اليوم الرابع ورم عند الأذن من الجانب الأيسر ثمّ من غد من الجانب الأيمن أيضاً إلّا أنّ هذا كان أقلّ. وكانت سخونته تتزيّد وانحلّت تلك الأورام من غير أن تتقيّح.
قال جالينوس: لولا أنّا وجدنا في قصّة هذا الرجل أنّه «كان مطحولاً» لما كنّا ننتفع أوّلاً بهذا القول أيضاً. وذلك أنّه ليس متى رأينا أشياء [إذا] عرضت لقوم انتفعوا بها أو أضرّت بهم كما ترى عوامّ الناس نصل بذلك على الإطلاق إلى ما ينتفع به في صناعة الطبّ لكنّا إنّما نصل إلى ذلك إذا تفقّدنا كالذي يأمر أبقراط أمر الطبائع والمهن وحالات أنفس الناس ثمّ من بعد ذلك في شيء شيء ممّا يعرض لكلّ واحد منهم وذكر أكثر هذه الأشياء قد ألقي في هذه المقالة لأنّها ليست كتاباً وضعه أبقراط ليدفعه إلى غيره لكنّه إنّما هو تذكرة جعلها لنفسه.
إلّا أنّه لمّا ذكر في قصّة هذا الرجل أنّه «كان مطحولاً» قدرنا على الوصول إلى الانتفاع بما ذكر من أمره وذلك أنّه قال إنّ رجلاً مطحولاً كان عرض له «سفر متعب» ولم يكن بدنه بالنقيّ من الحمّى لكنّه «كانت به سخونة» يعني حمّى دقيقة ليّنة. وقد علمنا أنّ الفضل السوداويّ يجتمع ويكثر في أبدان المطحولين فلمّا [أن] اجتمع ذلك الفضل في بدن ذلك الرجل فانحدر منه إلى الأعضاء التي كان التعب عليها أشدّ حدث منه في الساقين «البثور التي تسمّى ‹بالبطم›» وهي بثور صغار شبيهة بثمر البطم في اللون والمقدار ولذلك سمّيت به.
ولم يكن بدّ من أن تصعب حمّى هذا الرجل عليه وتشتدّ على طول الأيّام لأنّه لم يكن يتدبّر التدبير الواجب ولا كان يستقرّ ويسكن ولا يعالج طحاله بما كان
ينبغي أن يعالجه به فلمّا كان ذلك حدث له بعد اليوم الذي صعبت عليه فيه حمّاه «عرق» إلّا أنّه لم يَنْجُ من الحمّى.
قال: «وكان لا يزال يعرق في سائر الأيّام الأزواج» من غير أن تنقص حمّاه. وذلك واجب من قبل أنّه لم يكن يمكن أن يتخلّص من حمّاه التخلّص التامّ بالعرق وحده دون أن يبرأ طحاله ولا الوقت الذي حدث فيه ذلك العرق كان في وقت بحران لأنّه إنّما ظهر في أوّل المرض قبل أن ينضج. إلّا أنّ الذي انتفع به إنّما كان الرعاف الذي كان يصيبه من ذلك الشقّ أعني من جانب طحاله من المنخر الأيسر. وقد حدثت أيضاً فيه أورام عند أذنيه على طريق البحران إلّا أنّ تلك الأورام لم تكن تتقيّح لأنّ بدن ذلك الرجل قد كان استفرغ بالرعاف. وفي قصّة هذا المريض شهادة مصحّحة على أنّ هذا «العرق» الذي حدث به في أوّل مرضه دلّ من مرضه على طول مع ما كان به من «علّة الطحال» وعلى أنّ «الرعاف» الذي لم يزل يحدث «من جانب العلّة» حلّل المرض في مدّة طويلة قليلاً قليلاً.
(٥٥) قال أبقراط: الرجل الذي قدم من عند ألقيبيادس أعقبه بعد حمّاه قبل البحران قليلاً ورم في خصيته اليسرى وكان به طحال عظيم دائم وأتاه البحران من حمّاه
تلك في اليوم العشرين إلّا أنّه بعد قد كان لا يزال يسخن في وقت بعد وقت وكان يقذف شيئاً مائلاً إلى الحمرة.
قال جالينوس: لم يقل في هذا «إنّه كان مطحولاً» كما قال في الرجل الذي قبله لكنّه قال فيه: «إنّه كان به طحال عظيم دائم». ولذلك لمّا أتاه البحران على أنّه كان بخراج من جانب العلّة لم يستتمّ له من صلاحه ما يسلم به من الحمّى لأنّ أمر «الطحال العظيم الدائم» البقاء أمر غليظ واندفع إلى الرئة أيضاً بعض تلك الأخلاط المولّدة للحمّى. وممّا دلّ على ذلك النفث الذي كان ينفثه مدّة طويلة وقال «إنّه كان مائلاً إلى الحمرة» وأراد أنّه لم يكن بلون السوداء بالصحّة ولكنّه كان بلون مختلط من لون السوداء ومن لون الدم.
(٥٦) قال أبقراط: الجارية التي أصابها في يدها اليمنى ورجلها اليسرى بعقب علل السعال أصابتها — وسعلت سعالاً يسيراً ليس بقدر علّتها — استرخاء على طريق الفالج ولم يتغيّر منها شيء أصلاً غير ذلك ولا وجهها ولا ذهنها ولا كان ما عرض لها من الاسترخاء بشديد ابتدأ ما عرض لها أن يميل إلى الصلاح نحو يوم العشرين. وكان ذلك بالقرب من انبعاث الطمث ويشبه أن يكون ذلك كان أوّل انحداره لأنّ الجارية كانت بكراً.
قال جالينوس: يذكر أنّ جارية بكراً قد بلغت وقت التزويج إلّا أنّه لم ينحدر منها بعد الطمث اجتمع في بدنها كثرة من الأخلاط فعرض لها من قبل ذلك سعال كما يعرض لغيرها من النساء الأبكار والمتأهّلات عندما يحتبس الطمث فتجتمع في البدن أخلاط كثيرة وتميل نحو الصدر. ثمّ إنّها شارفت أن تعرض لها السكتة ثمّ استرخت قليلاً يدها اليمنى ورجلها اليسرى «على طريق الفالج». واسم «الفالج» يدلّ على الاسترخاء وليس كلّ استرخاء فالج لكنّ الاسترخاء الذي يكون من السكتة فقط. فلمّا كان «نحو يوم العشرين بدأ ما عرض لها يميل إلى الصلاح بطمث» كثير استفرغ دفعة فإنّ اسم «الانبعاث» على ذلك يدلّ.
وقد استفدتَ من هذا القول إنّ الجارية البكر التي قد حان لها وقت التزويج تحتاج إلى الاستفراغ وإنّ جميع النساء اللواتي لا تؤمن عليهنّ الأمراض الحادثة من الامتلاء يحتجن إلى مثل ذلك. واستفدتَ أيضاً أنّ يوم العشرين أولى بأن يكون من أيّام البحران من الواحد والعشرين وقد تكلّمت في ذلك كلاماً شافياً في كتابي في أيّام البحران.
(٥٧) قال أبقراط: أفامنطوس وأبو النجّار الذي انكسر رأسه ونيقوسطراطوس لم يسعلوا ولكن كان بهم وجع في موضع آخر أعني في الكلى.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً فيما أرى إنّما كتبه أبقراط وهو يريد أن يذكر نفسه بأنّه قد كانت حدثت حال من الهواء عرض فيها لكثير من الناس «سعال» ولم يخل منه إلّا هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم بأسمائهم لأنّ السبب المولّد للسعال في غيرهم مال فيهم إلى ناحية «الكلى».
(٥٨) قال أبقراط: من المسائل هل الامتلاء من الشراب أسهل من الامتلاء من الطعام.
قال جالينوس: إنّ الأمور التي يسأل عنها هي الأمور التي يبحث الإنسان عنها هو نفسه ويتوهّم فيها ما يتوهّم ويحزم ما يحزم ويشكّ بما يشكّ ويناظر بما يناظر ويستخبر بما يستخبر. وليس يدلّ كلّ واحد من هذه الأشياء على أنّ طبيعة كلّ واحد من هذه الأشياء التي تدلّ عليها مختلفة لكنّها إنّما تدلّ على اختلاف فعلنا في تلك الأشياء. وممّا يدلّك على ذلك أنّ الأمر الذي سمّاه في هذا الموضع «مسئلة» جعله في كتاب الفصول حزماً فقال: «إنّ الامتلاء من الشراب أسهل من الامتلاء من الطعام».
وأمّا في هذا الموضع فقوله قول رجل هو بعد في الطلب والبحث عن هذا الأمر وذلك يدلّك على أنّ هذه المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا إنّما هي تذكرة من تذكراته. ولذلك إنّما ينبغي لك أن تقرأ هذه المقالة ونحوها من جميع كتب أبقراط
إذا وجدتَ مهلة من الزمان وبعد قراءتك لها من الفضل بعد أن تكون قد قرأت سائر كتبه التي يحزم فيها حزماً على الحقّ من قبل أنّه قد عرفه واستقصى أمره وليس هو بعد في البحث والطلب والتفسير عنه.
شرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثانية
المقالة الثانية من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: الأوجاع الصعبة جدّاً يقدر المتعرّف أن يتعرّفها بهذا الطريق بالرعب اللازم بحسن التخلّص بالخبرة بالجبن.
قال جالينوس: إنّ الناس قد يحتالون لأسباب كثيرة فيوهمون أنّ بهم وجعاً شديداً وقد يظنّ أنّه ينبغي للطبيب في جميع أشباه هذه الأحوال أن يستخرج ويعلم حقيقة الأمر من باطله. وعوامّ الناس يطالبون الطبيب بأن يميّز بين المدّعي للعلّة بالباطل وبين المحقّ لأنّهم لا يعلمون أنّ الأطبّاء قد يمكنهم أن يتعرّفوا ويميّزوا بين الورم الحارّ والجمرة والورم الرخو الذي يحدث بالتعمّد بالأدوية التي تستعمل من خارج وبين نظائرها من العلل التي تهيّج من نفس البدن وكذلك قد يمكنهم هذا في علل أخر غير هذه وليس يمكنهم أن يتعرّفوا ويميّزوا في جميع العلل على ذلك
المثال حتّى يفرقوا بين الوجع الذي يجده صاحبه بالحقيقة وبين الذي يدّعيه بالباطل.
وقد يمكن الأطبّاء أن يفرقوا أيضاً بين نفث الدم الذي يكون من نواحي الفم وبين الذي يكون من المريء أو من المعدة أو من إحدى آلات التنفّس. ومن ذلك أنّه قد افتضح قوم كانوا يسعلون ثمّ يقذفون في آخر سعالهم دماً وكانت القصّة فيهم أنّه كان ينفتح لهم عرق في اللثة بسهولة متى أرادوا ذلك إذا مصّوه باللسان فكانوا متى أرادوا نفث الدم مصّوا ذلك العرق وسعلوا فقذفوا على المكان دماً كأنّه شيء صعد من أسفل. وقد احتال قوم أن خلطوا في كلامهم وتجنّنوا وفعلوا أشياء أخر غير هذه ليس هذا وقت ذكرها. وعوامّ الناس يظنّون أنّه قد يجب على الأطبّاء أن يستخرجوا جميع هذه الأشياء وأشباهها ويعرفوها ويميّزوا بينها ويعرفوا مع ذلك الوجع الصعب الشديد وقد يظنّ أنّ هذا من أعزّ ما يفطن له.
وإنّي لأعرف رجلاً دعاه أهل مدينة إلى أن يحضر مجلس قوم اجتمعوا للمناظرة فاحتال فأوهم أنّ به وجع قولنج كيما لا يحضر ذلك المجلس لأنّه رأى ذلك أجود. فتوهّمتُ عليه في ذلك الوقت أنّ ما يدّعي من الوجع باطل ثمّ إنّه بأخرة أقرّ لي بذلك بلسانه لأنّه كان أنسأني وكان لا يزال يشاورني فيما يحتاج إليه من علاج الطبّ. وعندما دعاني في ذلك الوقت سألني أن أكمّده مرّة بمناديل مسخنة ومرّة بصوف ومرّة بأكياس فيها جاورس مسخن ولم أكن أراه تمادى في
طلب العلاج على أنّي قد كنت أعرفه قديماً جباناً مفرط الجبن خواراً يهوله الشيء اليسير جدّاً.
وكان قد علم أنّي قبل ذلك الوقت بأيّام يسيرة دعيت إلى رجل كان به وجع القولنج فسقيته شيئاً من دواء فِيلُن فسكن عنه الوجع من ساعته فعلمت أنّه لو كان يجد وجعاً بالحقيقة لقد كان لا محالة يتطلّب منّي أن أسقيه من ذلك الدواء. ثمّ صحّح ذلك ما كان بعد وذلك أنّه لمّا أن انقضى ذلك المجلس كفّ ذلك الرجل عن الصراخ وأوهم أنّ الوجع قد سكن عنه ثمّ لم يلبث أن دخل الحمّام فاستحمّ. ونظرت أيضاً فيما تقدّم من تدبيره فوجدته تدبيراً لا يمكن معه وجع القولنج لأنّ هذه العلّة إنّما تكون في أكثر الأمر بسبب تخم وبرد ولم يكن عرض لهذا الرجل قبل ذلك الوقت شيء من هذا.
فلمّا أن تفكّرت في هذه الأشياء كلّها وتدبّرتها قنعت نفسي أنّه ليس بمحقّ فيما يدّعي من وجع القولنج فخسرت وكان صديقاً. فقلت له لمّا أراد أن يأوي إلى فراشه: «لقد لطفت وأحسنت الحيلة في دعواك ما ادّعيت من الوجع للتخلّص من أن تقضوك جماعة أهل المدينة على أمر لا تهواه وما كنت لتسلم منها لولا أنّك احتلت لنفسك هذه الحيلة». فدعا الرجل إظهاري استحسان حيلته ومدحي له عليها إلى أن أقرّ بها.
فمعرفتي أنّ الوجع الذي كان يشكوه غير ملائم لِما تقدّم من تدبيره كان من الخبرة بأمور الطبّ وظنّي به أنّه إنّما احتال فادّعى تلك العلّة بسبب تلك الجماعة التي اجتمعت وإظهاري استحسان حيلته ومدحي له عليها ليس هو أمراً خاصّاً بعلم الطبّ لكنّه إنّما هو من القوّة التي تسمّى «العقل العامّيّ». وهذه القوّة تعمّ جميع الناس إلّا أنّها لا تكاد توجد مستكملة إلّا في أفراد من الناس حتّى يتخلّصوا عند كلّ حال من الأحوال ويتأتّوا لما ينبغي أن يفعل ويقال. وبهذا الطريق تخلّص ذلك المتطبّب الذي دُعي إلى علاج امرأة كانت تظنّ أنّها قد بلعت حيّة فسقاها دواء مقيّئاً ثمّ ألقى في الطست الذي قاءت فيه وهي لا تشعر حيّة ميّتة فخلّصها من ذلك التوهّم.
والطبيب الآخر الذي دعي إلى علاج رجل كان قد توهّم أنّ ميّتاً من الموتى صوّت به باسمه فنالته من ذلك حيرة في نفسه ولزمه غمّ وأرق وحمّى فخلّصه من ذلك التوهّم بحيلة شبيهة بتلك الحيلة. وذلك أنّه لمّا أتاه أوهمه أنّه قد عرفه وأنّه الرجل الذي كان صاح به يستجير به من لصوص كانوا قد وقعوا عليه فشلّحوه في مقبرة على باب المدينة ثمّ قال له: «إنّي رأيت أن أمنعك المعاونة على مرضك كما منعتني معاونتك إيّاى على أولائك اللصوص على أنّي قد استجرت بك
وصوّتُّ باسمك». وذلك يحكى عن أراسسطراطس فأمّا القصّة الأولى فتحكى عن خروسبس معلّمه.
وقد دعيت أنا أيضاً إلى علاج امرأة كانت قد بُلِيَت بعشق فكانت تسيح منه وتذوب فتخلّصتُ إلى أن علمت من تهوى فضلاً عن أنّ علّتها من عشق. وقد يحكى عن أراسسطراطس أنّه وقع على علّة كانت بابن ملك كان في زمانه من عشق وكان وقوعه على ذلك فيما أحسب بهذا الطريق الذي وقعتُ به على علّة تلك المرأة أنّها من عشق وهو شيء مركّب من الخبرة بأمور الطبّ وممّا يُتخلّص ويُتأتّى له بالعقل العامّيّ إن شئتَ أن تسمّيه عقلاً وإن شئتَ أن تسمّيه ذهناً أو رؤية أو فكراً. فقد وصفنا هذه الأشياء في مقالة مفردة وصفنا فيها أمر تقدمة المعرفة.
وأمّا الآن فإنّي راجع إلى ما قصدت إليه ومذكّر بما قلت إنّ الخبرة بأمور الطبّ والتخلّص والفطنة للأحوال إذا اجتمعت للرجل قدر أن يستخرج ويعلم أشياء كثيرة ممّا يدّعيها الناس من علل البدن بالباطل وممّا يوهمون به أنّهم يجدونه من الوجع الشديد. فإنّ أبقراط لم يطلق القول فيقول: «إن الأوجاع يقدر المتعرّف أن يتعرّفها بهذا الطريق» لكنّه استثنى فقال «الصعبة جدّاً» فإنّ «الرعب» اللازم لصاحب العلّة ليس يكون من الوجع اليسير لكنّه إنّما يكون من الوجع الصعب الشديد جدّاً.
من ذلك أنّ الرجل الذي أوهم أنّ به وجعاً شديداً بسبب تلك الجماعة التي اجتمعت للمناظرة كان بعض ما فضحه أنّه لم يكن مرعوباً وأنّ ذلك كان وهو في
طبيعته ليس بالنجد ثمّ كما قلت «الخبرة» بالطبّ «وحسن التخلّص» بالذهن. أمّا «الخبرة» بالطبّ فمن قبل أنّه لم يكن يتقدّم شيء ممّا كان يمكن أن يحدث بذلك الرجل وجعاً شديداً ومن قبل أنّ سكون وجعه لم يكن ليكون بذلك التكميد اليسير الذي كُمّد به لو كان وجعاً شديداً. وأمّا «حسن التخلّص» فينبغي أن تتوهّم أنّه يعني به التخلّص للأشياء التي تدلّ على أنّ دعواه للوجع باطل كالحال التي كانت في الرجل الذي اقتصصتُ قصّته من الجماعة التي كانت جمعت ومن أنّه متى انقضى ذلك المجلس زعم ذلك الرجل أنّه قد سكن عنه وجعه.
وقد رأيت غلاماً مرّة يدّعي أنّ به في ركبته وجعاً شديداً وكان ذلك الغلام بعض العبيد الذين يعدون خلف مواليهم. وأحسست لمّا رأيته أنّ ذلك منه حيلة وكان ممّا وهّمني ذلك فيه أنّ مولاه كان قد همّ في ذلك اليوم بأن يسافر ومن أنّي قد توسّمت في الغلام أنّه غير بعيد ممّن يتكذّب ويموّه هذا التمويه. وصحّ ذلك عندي أيضاً بأنّي دعوت غلاماً من غلمان مولاه ليس يحبّ ذلك الغلام فسألته: «هل يهوى ذلك الغلام امرأة يدعوه هواه لها أن يكون إنّما تخرّص ما يدّعي من الوجع لئلّا يخرج مع مولاه في هذا السفر البعيد الذي قد وجّه به فيه ويبقى في موضعه؟» فوجدت الأمر كذلك. وكان في ركبة الغلام ورم عظيم يهول الجاهل بالطبّ ويعرفه الخبير بالطبّ معرفة بيّنة أنّه إنّما هو مصنوع بالدواء الذي يقال له «ثافسيا» وهو الينتون. وذلك أمر خاصّ «بالخبرة» بأمور الطبّ وليس هو ممّا «يتخلّص» من يرى.
ومن تلك الخبرة أيضاً أنّه لم يكن تقدّم حدوث ذلك الورم شيء يحدثه بعد وذلك أنّ الغلام لم يكن عدا عدواً مجحفاً ولا ضرب على ركبته ولا وثب ولا ظفر خندقاً فناله من ذلك سوء. ولا كان في بدنه شيء من علامات الامتلاء ولا كان أيضاً ما تقدّم من تدبيره مشاكلاً لحدوث ذلك الورم وذلك أنّه لم يكن خلط ولا أكثر من المطعم والمشرب ولا تودّع فأفرط في التودّع. ولمّا سألناه أيضاً عن وجعه كيف يجده وأيّ نحو هو تلكّن وتلجلج وتناقض فقال مرّة: «إنّي أحسّ في ذلك المفصل منّي كلّه بتمدّد» وقال مرّة أخرى: «إنّي أحسّ في باطنها بضربان» وقال أخرى: «إنّي أحسّ كأنّه ينشب فيها سهم» وقال أخرى: «إنّي أحسّ كأنّه انتخس نخساً» وقال: «إنّي أحسّها ثقيلة كالحجر» ثمّ قال: «إنّي أحسّ بالوجع في الرجل كلّها على هذا المثال» ثمّ قال: «إنّي أحسّ بوهن في العظم». فلمّا أن خرج مولاه قلت: «إنّي أطلي على ركبتك دواء فيسكن ما بها من الوجع على المكان» ثمّ طليت عليها دواء ليس معه من تسكين الوجع شيء أصلاً وإنّما شأنه
تبريد تلك الحرارة التي تولّدت من الينتون فقط. فلم يلبث ذلك العبد إلّا سويعة حتّى أقرّ أنّ وجعه قد سكن عنه أصلاً. ولو كان ذلك الوجع بالحقيقة من ورم حارّ من سبب من داخل لكان ذلك الدواء المبرّد سيزيد في شدّة الوجع فضلاً عن أن يسكّنه.
فقد عُلم من هذا مبلغ الانتفاع «بالخبرة» بالطبّ في هذا الباب إذا أضيف إلى ما «يتخلّص» بالذهن والفكر ويحتال فيه لتعرّف الوجع الشديد الصعب.
وقد يوجد هذا الاسم الذي يدلّ على «حسن التخلّص» وهو باليونانيّة «أوبوريا» بالباء مكتوباً في بعض النسخ بالفاء «أوفوريا» وهذا الاسم المكتوب بالفاء يدلّ على «خفّة البدن وهدوئه» والمعنى على حسب هذه النسخة أنّ خفّة البدن وهدوءه علامة تدلّ على أنّه ليس بالمدّعي للوجع منه شيء شديد صعب. فإنّ ذلك ممّا قد يكون كثيراً ألّا يفطن الموهم بأنّه يجد الوجع الشديد بأنّه ينبغي له أن يضطرب ويقلق ويلقي نفسه يمنة ويسرة ويتشكّل بأشكال مختلفة حتّى يوهم أنّ به من الوجع ما يقلقه ويكربه وإذا لم يفطن لذلك ووجد قارّاً هادئاً دلّ ذلك على أنّه ليس به من الوجع ما يدّعي.
وفي نسخ ديوسقوريدس وقافيطن إنّما نجد هذا الاسم بالفاء مكتوباً حتّى يدلّ على الراحة والقرار والهدوء لا بالباء حتّى يدلّ على حسن التخلّص والاستخراج
والتأتّي وقد يدلّ هذا الاسم إذا كتب بالباء في لسان اليونانيّين أيضاً على الجدّة واليسار.
وقد غلط قوم ممّن فسّر هذه المقالة في معنى هذا الاسم في هذا الموضع منهم إيراقليدس الذي من أهل طارنطس على أنّه قد أحسن في جلّ ما فسّره إلّا أنّه غلط في تفسير هذا الاسم. وهذا قوله فيه أيضاً: «وأمّا قوله أوبوريا فيعني به أنّ الذي له جدّة ويسار وعيشه عيش رفيه مترف إذا صبر على الاقتصار على شرب الماء وسويق الشعير وخبز الخشكار والكبر والزيتون وما أشبه ذلك واحتمل مع ذلك النصب والحرّ والبرد والجوع دلّ ذلك على أنّ به وجعاً شديداً». ثمّ إنّ إيراقليدس بعد أن قال هذا القول أتبع ذلك بأن قال: «أو يكون يريد بهذا الاسم أنّه ينبغي لنا أن نتخلّص لما ينبغي أن نعالج به كلّ واحد من المدّعين للوجع الشديد بحسب حاله في ذات اليد فإن كان موسراً نظرنا إلى تلك الأشياء التي كان يضربها عن نفسه قبل ذلك فحمّلناه عليها كلّها وإن كان فقيراً حمّلناه على أن ينفق نفقة مجحفة في ثمن الأدوية والأغذية التي يأخذ اليمن». فهذا قول إيراقليدس.
وبعض ما قال أولى بأن يُنسب إلى «حسن التخلّص» بوجود الدلائل من أن ينسب إلى الجدّة واليسار وبعضه أولى بأن ينسب إلى الاسم الآخر الذي ذكره أبقراط في كلامه هذا وهو «الجبن» فإنّ «الجبن» إنّما يدلّ خاصّة على ما يعرض للمرضى من الخوف عند ذكر العلاج الشاقّ المؤذي. فإنّ المريض إذا كان به من الوجع أمر شديد صعب حمل نفسه على احتمال كلّ علاج وسبق هو فسأل المتطبّب أن يفعل به ما شاء حتّى يبرأ من وجعه فإن كان ما به من الوجع يسيراً أو لم يكن به وجع أصلاً فإنّه يفرّ من كلّ علاج صعب ولا يحتمل الإمساك عن الطعام مدّة طويلة ولا الأدوية الحادّة القويّة. وقد ينبغي متى ادّعى إنسان أنّ به وجعاً شديداً وأردتَ استبراء حقيقة الأمر من باطله أن تقول له إنّه لا يبرأ إلّا بذلك العلاج الصعب وتلك الحمية الشديدة وإنّه يحتاج مع ذلك إلى أن يُبطّ ويُكوى ويُسقى الخربق ويُحسم عن الطعام والشراب كلّه الذي هو به مشغوف. فإنّ من الناس من هو مشغوف بشرب النبيذ ومنهم من هو مشغوف بالطعام ويختلفون في أنواع ما يشغفون به ومنهم من هو مشغوف بالاستحمام في الحمّام ومنهم من هو مشغوف بالجماع أو بغير ذلك ممّا يُسمع أو ممّا يُبصر أو من غير ذلك.
وقد فهم قوم من اسم «الرعب» الذي ذكره أبقراط في أوّل هذا الكلام بهذا المعنى بعينه. وليس يمكن أن يكشف خطاء من فهم «الرعب» على هذا المعنى من تفسير هذا الاسم لأنّ الأشياء المرعبة الهائلة مقرونة «بجبن» المريض إلّا أنّ اللفظة التي أضافها إلى «الرعب» وهي قوله «اللازم» لا يجوز أن يُفهم على الرعب الذي يحدث للمريض عند ذكر المتطبّب له حاجته إلى العلاج الشاقّ المؤذي
لكنّه إنّما يجوز أن يفهم عن الرعب الذي يكون «لازماً» للمريض من قبل شدّة وجعه وصعوبته لأنّ «الرعب» الذي يلحق الوجع الشديد يكون معه منذ أوّل الأمر فأمّا «الجبن» الذي يظهر من المريض عند ذكر المتطبّب له حاجته إلى العلاج الشاقّ فإنّه إنّما يحدث من بعد.
فأنا عائد في جميع ما قلت ومجمل له بإيجاز ليسهل حفظه فأقول إنّا نقدر أن نعرف المحقّ من المبطل ممّن يدّعي أنّ به وجعاً شديداً من شدّة خوفه من ذلك الوجع الشديد ومن الدلائل المأخوذة من «الخبرة» بأمور الطبّ. ومن تلك الدلائل أن يكون المريض يقلق ويضطرب وتبرد أطرافه ويصفرّ لونه وربّما عرق عرقاً بارداً ويختلف نبضه. واختلاف النبض لازم ضرورة صاحب الوجع وإن قلّ والذي يخصّ صاحب الوجع الشديد منه أن يكون عدد النبضات الصغار فيه أكثر من عدد النبضات الكبار وعدد النبضات الضعيفة أكثر من عدد النبضات القويّة.
وإذا سئل صاحب تلك الحال أيّ صنف من أصناف الوجع يجد وصف الصنف الذي يشاكل منه العضو الذي يشكو فيه الوجع. فإنّ من الأعضاء أعضاء يمتدّ فيها الوجع إلى مواضع كثيرة ومنها ما وجعه ثابت راكد في موضع واحد ومنها ما وجعه نخس ومنها ما وجعه ضربان ومنها ما يخيّل وجعه كأنّه شيء يمزق ومنها ما يحسّ مع وجعه بخدر ومنها ما يحسّ معه بثقل ومنها ما يهيّج وجعه قيئاً ومنها ما يهيّج مع القيء اختلافاً ومنها ما يهيّج وجعه دواراً وظلمة العينين وغشياً وسدراً. وقد وصفت أمر هذه الأعضاء وأوجاعها الوصف الشافي في كتابي في تعرّف علل الأعضاء الباطنة.
ومن «الخبرة» بأمور الطبّ أيضاً كما قلت أن تقيس بين ما يذكر الإنسان أنّه يوجعه وبين ما يتقدّم من تدبيره وأن يدبّر أمر ما يعالج به فتنظر عند أيّ علاج يذكر أنّه يجد الراحة وأيّ العلاج يذكر أنّه يضرّه.
ومن الدلائل كما قلت دلائل تستخرج من أشياء خارجة من الطبّ بالفطنة والذهن مثل أن تنظر أيّ سجيّة سجيّة ذلك الإنسان وأيّ حال حاله في نفسه وفي أيّ حال هو. فإنّك إن وجدته صاحب حيل ومكر وكذب وتخرّص ووجدته في حال يخاف فيها من مولاه أو من سيّده أو من جماعة أو من والٍ أو من ملك أو من إنسان من الناس يمكنه أن يضطرّه إلى فعل ما لا يهواه علمت أنّه خليق بأن يكون ما يدّعيه من الوجع إنّما هو حيلة فإن وجدت الأمر ليس كذلك علمت أنّه لا يشبهه أن يكون ذلك منه حيلة. ومع هذه الأشياء كلّها أيضاً إن وجدت ذلك الإنسان طيّب النفس بأن يغرم الغرم الثقيل الفادح في الإنفاق على الأدوية ويحتمل التدبير الشاقّ والعلاج المؤلم طلباً منه لأن يسكن عنه ذلك الوجع الشديد علمت أنّه خليق أن يكون ما يدّعيه من الوجع صحيحاً فإن وجدت الأمر بخلاف ذلك علمت أنّه خليق أن يكون ذلك إنّما هو حيلة وليس به بالحقيقة وجع شديد.
(٢) قال أبقراط: من المسائل هل الامتلاء من الشراب أسهل من الامتلاء من الطعام.
قال جالينوس: إنّا نجد هذا القول مقدّماً قبل القول الذي وصفناه قبيل حتّى يكون نظام القولين على هذا المثال: «من المسائل هل الامتلاء من الشراب أسهل من الامتلاء من الطعام. الأوجاع الصعبة جدّاً يقدر المتعرّف أن يتعرّفها بهذا الطريق». وقوله «من المسائل» يعني به ممّا ينبغي أن يطلب ويبحث عنه. وفي هذا أيضاً دليل شاهد مصحّح على الأمر الذي قد قلناه مراراً كثيرة وقاله كثير غيرنا ممّن بحث عن كتب أبقراط فأحسن البحث: إنّ رأيهم ورأيي أنّ المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا هي كتاب جعله أبقراط ودفعه إلى الناس ليقرؤوه وكذلك المقالة الثالثة منه فأمّا هذه المقالة الثانية والمقالة السادسة فإنّما كتبها ثاسالوس بن أبقراط يجمع فيها جميع ما وجده لأبيه مكتوباً في صحف وقطع أو قراطيس.
ويقال أنّ ثاسالوس قد زاد مع ما وجد لأبيه أشياء من عنده ويقال أيضاً إنّ قوماً جاؤوا بعد فدلّسوا في هاتين المقالتين كلاماً ليس هو لأبقراط ولذلك قد نجد أقاويل كثيرة في هاتين المقالتين لهذه الأسباب التي ذكرنا غامضة مستغلقة جدّاً. وذلك أنّ أبقراط إنّما أثبت ما أثبت منها لنفسه ليبحث عنه أو ليذكره كما قد نفعل نحن كثيراً فإنّا قد نكتب أشياء هي عندنا بيّنة وإن كان ذكرها شبيهاً بالرمز ومن قرأها من الناس سوانا كانت عنده غامضة مستغلقة. وأمّا ما دُلّس من الأقاويل في هاتين المقالتين فأمره بيّن أنّ أصحابه تعمّدوا به الإغماض والإغلاق وإنّما أرادوا ذلك لئلّا يوجد تفسيره إلّا عندهم فقط فينشر لهم بذلك الذكر ويفخروا به. وهذا
القول منّي عامّ في هذا الكلام وفي جميع الأقاويل التي قيلت بعده في هذه المقالة الثانية.
وأنا راجع إلى ما قصدت إليه فأقول إنّ هذا الشيء الذي ذكره الآن أنّه ممّا ينبغي أن يبحث عنه وهو الشيء الذي حكم به في كتاب الفصول حكماً بيّناً قد وجده بالحقيقة وصحّ عنده فأطلق القول فقال: «لأن يُملأ البدن من الشراب أسهل من أن يملأ من الطعام» ولم يستثن أبقراط عندما قال هذا القول في كتاب الفصول فيقول إنّ هذا «من المسائل».
وقد تقدّمت ففسّرت ذلك الكتاب وبيّنت في تفسيري له أنّ قوله «أسهل» ليس يعني به أنّه أجود أو أنفع ولكن إنّما يعني به أنّه أهون وأسرع حتّى يكون معناه في هذا القول هو معناه في القول الذي قاله في كتابه في الغذاء بهذا اللفظ: «من احتاج إلى الزيادة السريعة فشفاؤه الشيء الرطب ومن احتاج إلى زيادة أسرع من ذلك فشفاؤه يكون بالرائحة».
(٣) قال أبقراط: الماء الذي يسخن سريعاً ويبرد سريعاً هو أخفّ دائماً.
قال جالينوس: إنّ هذا من دلائل «الماء الخفيف» وأعني «بالماء الخفيف» وهو المعنى الذي قصد إليه أبقراط لا الذي هو في وزنه خفيف وإن كان قوم قد
جعلوا هذا دليلاً من دلائل فضيلة الماء لكن إنّما عنى «بالماء الخفيف» الذي هو في قوّته كذلك. وعلى هذا المعنى يقال في الأطعمة أيضاً إنّ منها ما يثقل على المعدة والبطن حتّى يحسّ المتناول لها كأنّ في جوفه طيناً ومنها ما يقال إنّه خفيف حتّى يحسّ المتناول لها من الخفّ في معدته وبطنه ما يحسّه من لم يأكل شيئاً أصلاً. والماء أيضاً ما كان منه ثقيلاً فإنّه يثقل على فم المعدة ويضغطه وما كان منه خفيفاً فإنّه لا يحسّ له أثر في المعدة أصلاً.
ومن الماء ما ينفذ عن المعدة نفوذاً سريعاً ومنه ما يثبت في المعدة مدّة طويلة حتّى يفسد وإذا كان ذلك كذلك فواجب أن يقال إنّ من المياه مياهاً سريعة الاستحالة بمنزلة الأطعمة المريئة ومنها مياهاً عسرة الاستحالة بمنزلة الأطعمة التي يعسر استمراؤها. ولن يبعد من خبر من قال إنّ حال المياه حال الأطعمة فإنّ بعضها يسهل استمراؤه وبعضها يعسر استمراؤه.
وما كان من المياه كدراً عكراً أو متغيّر الرائحة أو يحسّ من طعمه بقبض أو بمرارة أو بملوحة أو بغير ذلك من الطعوم حسّاً بيّناً فليس يستحقّ ذلك أن يسمّى باسم «الماء» مفرداً لكنّه إنّما يسمّى «ماء مرّاً» أو «ماء شبّيّاً» أو «ماء كبريتيّاً» أو
«ماء قيريّاً» أو «ماء مالحاً» أو «ماء طينيّاً» وكذلك جرت عادة الناس في تسميته. وإنّما يسمّى باسم «الماء» مفرداً ما كان سليماً من هذه الآفات كلّها وليس متى كان كذلك وجب لا محالة أن يحكم أنّه ماء جيّد محمود كما يحكم في تلك المياه الأخر التي تقدّم ذكرها أنّها مياه رديئة.
فهذا الشيار الذي وصفه أبقراط في قوله هذا إنّما هو شيار يختبر به ذلك الماء الذي هو بالحقيقة ماء لا الماء الدوائيّ. وقد يحتاج في بعض الأوقات إلى تلك المياه على طريق الدواء وليس ذلك ممّا يفسد هذا القول الذي نحن فيه فقد نسقي كثيراً الأفسنتين والخربق وأدوية أخر كثيرة نطلب بها الصحّة فنخلطها بالماء. وتلك المياه لجميع الأصحّاء ولأكثر المرضى رديئة جدّاً فأمّا الماء الصحيح الذي لا يشوبه شيء من قوّة الأدوية فهو موافق لجميع الأصحّاء والمرضى أيضاً.
(٤) قال أبقراط: جرّب الأطعمة والأشربة هل لبثها لبث سواء.
قال جالينوس: إنّ من الأشياء أشياء تستخرج وتعلم من طبيعة الشيء وذلك يسمّى «استدلالاً قياسيّاً» ومن الأشياء أشياء يحتاج فيها إلى أن تجرّبها حتّى تعلمها. وكذلك فيما أحسب قال أبقراط هذا القول وهو شبيه بالقول الذي قاله من بعد أراسسطراطس في المقالة الأولى من كتابه المعروف بالأقاويل الكلّيّة حيث قال: «إنّ الطعام الواحد قد يُطلق البطن في بعض الناس ويعقله في بعضهم وإنّي
لأعرف قوماً يستمرئون لحوم البقر بأسرع من استمرائهم لسائر الأطعمة». وذلك أيضاً أنّ هذا رأيه في هذا الباب في قول آخر قاله وهو أن قال: «إنّي لأعرف رجلاً كان متى تناول من خمر لسبوس فضلاً قليلاً اعترته هيضة». ومن كانت حاله هذه الحال فليس يمكن أن يتعرّف أمره إلّا بالتجربة وقد يجب ضرورة أن تنظر بالحكم عليه كيف حاله مع شيء من الأشياء وأن تجرّب ذلك الشيء فيه إذا أردت أن تعلم هل طبيعته فيه مثل طبيعة سائر الناس أو يخالفهم فيه وتستعمل ذلك في كلّ واحد من الأشياء على هذا المثال فإنّا قد نجد أفراداً من الناس يخالفون في طبائعهم طبيعة العامّة.
فقوله «سواء» إنّما عنى به المثل وجملة الأمر أنّ أبقراط يتقدّم إليك في هذا القول أن تتفقّد فتنظر في كلّ واحد من الناس هل يستمرئ أو لا يستمرئ الأطعمة والأشربة على ما يستمرئه الناس أو لا يستمرئه الناس.
(٥) قال أبقراط: ينبغي أن تحتجّ بأنّ الدم إذا جرى اخضرّ صاحبه واصفرّ وبسائر ما أشبه هذا فإنّك قد تقدر أن تحتجّ بأشياء كثيرة من أشباه هذه الأشياء في أمر الترطيب والتجفيف والتسخين والتبريد.
قال جالينوس: إنّ اسم «الخضرة» التي ذكر أبقراط مشتقّ في لسان اليونانيّين من اسم «الخضر» ولا يشبه أن يكون أبقراط يعني اللون الشبيه بلون الخضر كلّها مطلقاً لكنّه إنّما يعني اللون الشبيه بلون الخضر الرديئة. وذلك اللون يكون إذا لم يقو الزرع الذي يلقى في الأرض على أن يستولي ويقهر الرطوبة وكذلك يعرض في الأوقات التي تجيء فيها أمطار كثيرة قويّة من بعد الزرع. وهذا اللون الذي يشبه لون الخضر الرديئة يكون من ضعف الكبد وإنّما يتولّد إذا لم يغيّر الكبد الغذاء الذي يصل إليها من المعدة على ما ينبغي حتّى يصيّره دماً مستحكماً.
وممّا يدلّ على ذلك أن قال في هذه المقالة: «إنّ اللون الذي يضرب إلى الخضرة والصفرة والبياض يكون من الكبد». وقال في ذلك الموضع من هذه المقالة أيضاً: «إنّ في أولائك يكون اليرقان الذي من الكبد مائلاً إلى البياض والاستسقاء والتربّل الأبيض وما كان من ذلك من الطحال فهو أزيد سواداً». ولذلك خليق أن يكون من مال إلى أن يبحث هل إنّما عنى بالخضرة لون الخضر نفسه التي هي باقية على طبيعتها على سبيل من الصواب لأنّ هذا اللون لون بين الأحمر والأدكن.
والقول الذي قاله أفلاطون في كتابه المنسوب إلى طيماوس في الموضع الذي تكلّم فيه في المرار والصديد قد يُظنّ أنّه يدلّ على هذا المعنى فينبغي أن تتدبّر
قوله وهذا هو بلفظه: «وربّما صار اللون الأسود يدلّ على المرار خاصّة إذا زاد عمل التلطيف في المرّ وربّما انصبغ المرّ بالدم فكأنّه يكون لونه أزيد حمرة فإذا خالط هذا اللون اللون الأسود كان منه اللون الأخضر». فقد دلّ أفلاطون في قوله هذا دلالة بيّنة أنّ اللون الأخضر الذي هو لون الخضر بين اللون الأسود وبين اللون الأحمر.
ولذلك قد يكثر تعجّبي ممّن ظنّ أنّ أبقراط إنّما يعني في قوله هذا بقوله «أخضر» أيْ لان بطنه من أنّه تعمّ الخضر التي اشتقّ من اسمها هذا الحرف ولين البطن الرطوبة واللين. والقول بأنّ من أصابه في حمّاه رعاف كثير فإنّ بطنه يستطلق عندما ينقه فيُغذى فقد وصف ذلك أبقراط في كتاب الفصول بهذا اللفظ: «من انفجر منه دم كثير من أيّ موضع كان انفجاره فإنّه عندما ينقه فيغذى يلين بطنه بأكثر من المقدار». إلّا أنّ كلامه في هذا الموضع ليس يقصد به لهذا لأنّ قوله «أخضر» إنّما يدلّ على اللون لا على الرطوبة واللين.
وقد يحتاج فيما أرى إلى بحث شديد حتّى يُعلم إلى أيّ الأمرين قصد أإلى لون الخضر التي هي باقية على طبيعتها أو إلى لون الخضر التي قد فسدت لأنّ حقيقة الأمر محتملة للمعنيين جميعاً لأنّا قد نرى الذين يفرط عليهم سيلان الدم كان ذلك في مرض أو في صحّة مثل الذي يكون من انفتاح أفواه العروق في السفلة أو
في الجراحات يحدث لهم لونان فمنهم من يحدث له لون شبيه بلون الخضر ويشبّه ألوانهم الأطبّاء بلون الرصاص ومنهم من يعتريهم مع هذا اللون صفرة ومنهم قوم يخالط ألوانهم هذه بياض.
وحدوث كلّ واحد من هذه الألوان واجب وذلك أنّ الكبد تضعف لغلبة البرد عليها بسبب سيلان الدم ولذلك لا يتغيّر فيها الغذاء الذي يأتيها من المعدة حتّى تصير دماً مستحكماً.
وذلك الغذاء ليس هو واحد لأنّ الناس تختلف أطعمتهم وإن كان ذلك الغذاء في طبيعته إلى البلغم أميل مال اللون إلى البياض بالواجب وإن كان الغذاء في طبيعته إلى المرّة السوداء أقرب كان اللون إلى السواد أقرب وذلك هو اللون الذي يشبه بلون الرصاص.
والمرّة الصفراء أيضاً تميّزها يكون في الكبد وكثيراً ما لا يلتئم تميّز المرار كما لا يلتئم تولّد الدم وربّما كان تولّد الدم لا يلتئم وكان تميّز المرار على ما ينبغي أن يكون. فمتى كانت فضلة الصفراء تستنظف على ما ينبغي كان لون البدن كلّه لوناً مفرداً وربّما كان إلى السواد أميل وربّما كان إلى البياض أميل. وإن كان استنظاف فضل الصفراء ليس يكون على ما ينبغي فإنّ اللون إمّا أن يميل إلى الصفرة والبياض وإمّا أن يميل إلى الصفرة والسواد. وقد يكتفي في أمر الألوان بما وصفنا.
وقد ينبغي أن تعلم أنّه ليس قصد أبقراط في هذا الكلام أن يخبر بأمر الألوان لأنّه قد تقدّم تخليصه لها. وإنّما جملة هذا القول الذي نحن في تفسيره أنّ من جرى منه دم كثير قد تراه عياناً يغلب على بدنه البرد. ولو كان اعتدال الحرارة التي
في أبدان الحيوان لا ينفع شيئاً في أفعال الأعضاء لقد كنّا سنجد الذين يجري منهم الدم الكثير يستمرئون طعامهم في المعدة على نحو ما كانوا يستمرئونه ويستحيل فيهم بعد إلى الدم المستحكم كما كان يستحيل قبل أن يجري منهم ذلك الدم ولسنا نرى ذلك يكون كذلك من قبل أنّا نجد الدم الذي يتولّد فيهم ليس بالمستحكم الجودة كالدم الطبيعيّ. فقد وجب إذاً أنّ القول بأنّ اعتدال الحرارة الطبيعيّة لا ينفع شيئاً في الأفعال باطل.
فإن كان القول بأنّه ينفع صحيحاً كان في هذا دليل شاهد على صحّة ما بيّنّاه في المقالة التي وصفنا فيها أمر الأركان على رأي أبقراط وفي أوّل كتابنا في الحيلة للبرء. وقد بيّنّا هناك أنّ جوهر كلّ واحد من هذه الأجسام التي نشاهدها إنّما يحدث عن الحارّ والبارد والرطب واليابس إذا امتزجت بالمقدار الذي ينبغي ولمّا كانت أفعالها إنّما تكون بخاصّة جوهرها تبيّن من ذلك أنّ ضرر الأفعال في جميع الأجسام المتشابهة الأجزاء إنّما يكون بسبب إفراط هذه الأركان الأربعة وخروجها عن الاعتدال. ولذلك يجب ضرورة أن يكون برء الأعضاء التي تعتلّ من هذا الوجه بالمضادّة للآفة التي دخلت عليها حتّى يسخّن العضو الذي قد برد ويبرّد العضو الذي قد سخن ويجفّف العضو الذي قد رطب ويرطّب العضو الذي قد جفّ.
فإنّه لو كان ما ظنّ قوم حقّاً بأنّ الحرارة في أبدان الحيوان إنّما تتولّد من الحركة لما كان مانع يمنع أن تتحرّك القلب وسائر الأعضاء فتولّد ما كان تولّده من الحرارة من بعد سيلان الدم الكثير.
فإنّهم إنّما يدّعون هذا أيضاً أنّ جرم القلب هو الذي فيه القوّة التي ينبسط وينقبض بها كما أنّ في جرم المعدة القوّة التي يكشف بها الطعام ويتقبّض عليه. فما كان بالذي يعسر على قول من قال هذا أن يتناول البدن الذي نالته تلك الآفة غذاء سريع الانهضام فيستمرئه ويحسن استمراؤه له ولا يظهر في لونه تغيّر ومن قبل هذا قد انكشف باطل قول من ظنّ أنّ الحرارة إنّما تتولّد في أبدان الحيوان من احتكاك الأجسام التي تتحرّك فيها وليست تجري فيها المجرى الغريزيّ ويتبيّن أنّ تلك الحرارة غريزيّة في أبدان الحيوان والاحتكاك والحركة إنّما هما ممّا يزيدان فيها لا ممّا يحدثها. وذلك أنّا قد نجد الأجسام التي تتحرّك إذا غلب عليها البرد عدمت فعلها المخصوص لأنّ فعلها إنّما صار لها من قبل اعتدال مزاجها.
ومن أبين دليل يستدلّ به على ذلك أنّ كثيراً ممّن يسافر في الشتاء فيبلغ منه البرد يموت من غير أن يكون ناله في بدنه استحالة غير البرد وكذلك من شرب لبن الخشخاش أو اليبروح أو البنج أو غير ذلك من الأدوية المفرطة البرد. وقد رأينا قوماً احتملوا في المقعدة شيافاً من لبن الخشخاش وهم يريدون به تسكين الوجع
يحدث عليهم منه الموت. وكلّ ذلك يدلّ على أنّ طبيعتنا إنّما قوامها باعتدال المزاج.
وكما بيّنّا هذا الذي يكون بإفراط البرد كذلك قد نرى الأمر يكون عند إفراط الحرّ فيمن يسير في شمس صيفيّة أو يلبث فيها بالجملة لبثاً كثيراً فإنّ قوماً من أصحاب هذه الحال يصيرون من الضعف وسقوط القوّة إلى الغاية القصوى حتّى لا يقدرون أن يتحرّكوا وحين يستنقعون في الماء البارد يقوون على المكان. وكذلك يعرض لمن يعطش عطشاً شديداً فإنّه يضعف حتّى يسترخي ولا يطيق الحركة فإذا رُطّب بدنه بالاستحمام بالماء أو بشربه قوي على المكان. ولست في حاجة إلى أن أذكر من قد أثقل بدنه كثرة الرطوبة وإنّه إذا عرق عرقاً غزيراً أو بال بولاً كثيراً أو استفرغ بغير ذلك من أنواع الاستفراغ كلّما استفرغ بدنه ازداد قوّة.
فمن هذه الأشياء وممّا بيّنّاه في كتابنا في أمر الأركان على رأي أبقراط قد تبيّن بياناً واضحاً أنّ طبيعتنا إنّما قوامها باعتدال مزاج الحارّ والبارد والرطب واليابس وإذا كان ذلك كذلك فإنّ أمراضنا أيضاً إنّما قوامها وحدوثها بخروج هذه الطبائع عن الاعتدال والبرء أيضاً من تلك الأمراض يجب ضرورة أن يكون بأضدادها. وذلك أنّه لا يمكن في شيء قد برد أن يعود إلى اعتدال مزاجه الطبيعيّ دون أن يسخّن ولا في شيء قد سخن دون أن يبرّد وعلى هذا المثال فإنّ برء الشيء الذي قد رطب على غير اعتدال إنّما يكون بالتجفيف وبرء الذي نالته الآفة من قبل اليبس يكون بالترطيب.
ولذلك قال أبقراط: «إنّك قد تقدر أن تحتجّ بأشياء كثيرة من أشباه هذه الأشياء في أمر الترطيب والتجفيف والتسخين والتبريد» وبيّن من هذا أنّ قصده [كان] في هذا الكلام الذي نحن في تفسيره لم يكن الإخبار عن الألوان التي تعرض لمن أفرط عليه سيلان الدم لكنّ هذا إنّما جعله أحد الدلائل التي تدلّ على صحّة رأيه في الأركان الأربعة ويتبع الأمر في الأركان الأربعة أمر طريق العلاج.
ونحن قادرون أن نحتجّ بحجج كثيرة تشهد على صحّة الأمر فإنّه ينبغي أن تُسخّن وتبرّد وترطّب وتجفّف أمراض الأجسام المتشابهة الأجزاء التي منها نفسها تكون الأفعال. فأمّا الأعضاء الآلية كما قد يدلّ اسمها فإنّما قياسها قياس الآلة عند تلك التي تفعل بأنفسها. وقد وصفنا أمر أصناف الأمراض في مقالة قد أفردناها لوصفها ووصفنا مداواة جميعها في كتاب الحيلة للبرء.
فهذا هو معنى هذا القول الذي قصدنا لتفسيره ولا بأس عندي بأن أذكر أيضاً من فسّر هذا القول على ضدّ معنى أبقراط. وذلك أنّهم قالوا إنّ قول أبقراط في هذا الموضع إنّما هو القول الذي يوجد في الكتاب الذي رسمه في الطبّ القديم وواضع ذلك الكتاب ينصره ويصحّحه وهو أنّه لا ينبغي في قوله أن تُجعل الأغراض في مداواة الأمراض الحارّ والبارد والرطب واليابس — كأنّا ليس نجد أبقراط في كتابه في طبيعة الإنسان يبيّن أنّ طبيعتنا إنّما هي مركّبة من هذه الأشياء وليس نجده في كتاب الفصول وغيره من كتبه الصحيحة قد ذكر هذه الأشياء مراراً كثيرة ذكر ما ينتفع به في العلاج.
وقد كان ينبغي لمن فسّر هذا التفسير وإن كان لم يقرأ تلك الكتب فلا أقلّ من أن كان يفهم من أمر هذه المقالات أعني مقالات كتاب إفيذيميا أنّه إنّما قصد
أبقراط فيها إلى أن يصحّح ويبيّن أنّ الحارّ والبارد والرطب واليابس من الهواء المحيط بأبداننا ومن نفس أبداننا هي الأشياء المحدثة للأمراض إذا خرج واحد منها عن الاعتدال وهي الفاعلة للصحّة ما دامت باقية على اعتدالها. ومع ذلك أيضاً فإنّ تفسيرهم غير مقبول ولا مفهوم لأنّه ليس ممّا يُقبل ولا ممّا يُركن إليه أن يكون [أنّ] الدم إذا سال من البدن غلبت عليه الصفرة فلا ينبغي أن يقصد في العلاج قصد الحارّ والبارد والرطب واليابس لأنّ الذي يدلّ عليه كلام أبقراط هو ضدّ هذا بعينه كما قلت.
(٦) قال أبقراط: سقط ابن ستّين يوماً ذكر بعد الامتناع من الولاد صحيح.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام يكتب على نسختين مختلفتين فبعضهم يكتبه على هذه النسخة التي تقدّمت التي فيها «بعد الامتناع» وبعضهم يكتبه ويحذف «بعد» ومن أصحاب هذه النسخة إيراقليدس الذي من أهل طارنطس وهو أحد من المفسّرين القدماء وذكر أنّه وجد ذلك في نسخة قديمة وقسم هذا الكلام فجعله قولين أحدهما أنّ «سقط ابن ستّين يوماً ذكر» والآخر أنّ «الامتناع من الولاد صحيح» والنسختان جميعاً لوجازة الكلام فيهما غامضتان مستغلقتان. وذلك أنّ الشيء الذي إنّما يكتبه كاتبه تذكرة لنفسه فهو عند غيره بمنزلة الرمز واللغز.
وهذه الأقاويل كلّها كما قد قلت مراراً كثيرة إنّما هي تذكرات كتبها أبقراط لنفسه. وتفسيرنا لهذه الأقاويل وأشباهها إنّما يجري على طريق الإقناع بالتقريب والحدس لا بالعلم الصحيح. من ذلك أنّ «الامتناع من الولاد» يحتمل أمرين أحدهما انقطاعه أصلاً حتّى لا تحمل المرأة بتّة في وقت من الأوقات والآخر فترة تكون بين ولادين. وليس يُعلم أيضاً من أمر تلك المرأة أيّ الأمرين يعني هل يعني أنّها كانت لا تحمل أصلاً أو كانت تحمل ولا يتمّ حملها ثمّ أسقطت ذلك «الطفل الذكر ابن ستّين يوماً».
والذين فسّروا هذه المقالة يقولون إنّ أبقراط إنّما عنى «بالامتناع من الولاد» انقطاع الحمل أصلاً وكثير من المفسّرين يزعم أنّ هذه العلامة كانت علامة محمودة. وذلك أنّه لمّا كان الطفل «ذكراً» ولم يكن أنثى وكان قد بقي حتّى أتى عليه شهران كان ذلك أجود من ألّا تحمل تلك المرأة أصلاً. ويفهمون من قوله «ولاد» حمله ولا أدري ما دعا جميع من فسّر هذه المقالة إلّا الخطاء إلى أن تأوّل هذا التأويل إذا كان الولاد إنّما هو خروج الجنين المحمول والحمل هو تولّد الجنين في الرحم. إلّا أنّه متى كان الكلام كلاماً غامضاً مستغلقاً فخليق أن يكون المفسّر له حقيقاً بأن يساهَل ويُقدر وإن فسّره بتأويل رديء على أنّ الأجود كان أن يُقرّوا أنّهم لا يعرفون حقيقة الأمر من أن يتأوّلوا تأويلاً مستغلقاً.
فإن سلّمتَ أنّ أبقراط إنّما يعني في قوله هذا «بالولاد» الحمل فيشبه أن يكون أبقراط إنّما قصد في هذا القول لأن يخبرنا أو يذكّر نفسه بأنّ امرأة كانت لا تحمل فحملت وبقيت في حملها شهرين ثمّ أسقطت فدلّ ذلك منها على حال الصحّة لأنّه دلّ على أنّ الرحم قد ابتدأت تمسك المنى وتعمل فيه إلى أن تقلبه إلى الحال التي يتصوّر فيها ويتخلّق. وقد قال قوم إنّه لم يقصد إلى أنّ هذا دليل يدلّ من تلك المرأة على صحّة لكنّ هذا ممّا ينبغي أن يفهم عنه من خارج.
وأمّا الشيء الذي قصد لإثباته تذكرة لنفسه فقوله إنّ المرأة حملت بذكر صحيح سليم فأسقطته. وأمّا على النسخة الأخرى فيشبه أن يكون المعنى أنّ المرأة أسقطت طفلاً «ابن ستّين يوماً» وكان ذكراً حتّى يكون قصده أن يدلّ بقوله إنّه كان ذكراً أنّه قد كان تفصّل وتصوّر الفرج منه فضلاً عن سائر أعضائه في مقدار شهرين لأنّ هذا الخبر من الأخبار التي يحتاج إليها في الكلام في خلق الجنين وتصوّره الذي تكلّم به في كتابه في طبيعة الطفل.
وأمّا ما بعد هذا فيكون قولاً آخر منقطعاً عن الأوّل على هذا المثال: «الامتناع من الولاد صحيح» لأنّ المرأة التي لا تكون بين الحمل والحمل منها فترة لكنّها تُردِف حملاً بحمل تضعف سريعاً. وإن يحقّ تأويلنا «الامتناع من الولاد» على
المرأة التي لا تحمل أصلاً جاز أن تقول إنّ تلك المرأة تكون صحيحة البدن لأنّها تكون أقوى كثيراً من المرأة التي تحمل وخاصّة من التي تحمل حملاً متواتراً.
وقد انفتح من هذا الموضع باب بحث عن شيء ممّا يحتاج إليه وهو هل البدن المسقام هو البدن الضعيف الذي تسرع إليه الشيخوخة والبدن المصحّح هو البدن القويّ الذي لا تسرع إليه الشيخوخة أم لا لأنّا نرى المرأة التي تحمل أقلّ أمراضاً من العاقر إلّا أنّها تكون أضعف منها بدناً وأسرع شيخوخة. وأمّا العاقر فنجد الأمراض المتولّدة من الفضول إليها أسرع لأنّ بدنها في أكثر الأمر لا يستنقي من الفضول على ما ينبغي إلّا أنّها في جميع المدّة التي بين أمراضها تكون شابّة وتكون الشيخوخة أيضاً مع ذلك لا تسرع إليها.
(٧) قال أبقراط: فأمّا إيراقليا فخرج منها في الثامن ومعه رائحة رديئة وكان بها اختلاف دم لا زحير.
قال جالينوس: إنّ هذا القول ليس هو قول يعرفه جميع من فسّر هذا الكتاب ولا يوجد في جميع النسخ ولا الذين كتبوه أيضاً متّفقون في نسخة. وذلك أنّ قوماً قالوا إنّ هذا القول قول وضع بإزاء القول الأوّل مخالفاً له وقوماً جعلوه كلاماً مفرداً
على حدته. ورجل اسمه إيراقليدس وقافيطن وديوسقوريدس وأشباههم قالوا إنّه قول وضع بإزاء القول الأوّل وقوينطس وغيره جعلوه كلاماً مفرداً. فأمّا الذين قالوا إنّه قول وضع بإزاء القول الأوّل فقالوا إنّ أبقراط ذكر في هذين القولين امرأتين إحداهما وهي التي تقدّم ذكرها أسقطت طفلاً ذكراً صحيحاً قد أتى له شهران والأخرى وهي التي ذكرها في هذا القول أسقطت طفلاً سقيماً ابن ثمانية أشهر. وممّا يدلّ على سقمه قوله «إنّه كانت معه رائحة رديئة» يعني رائحة العفونة.
ثمّ إنّه أتبع ذلك بأن قال: «وكان بها اختلاف دم لا زحير» وهذه الزيادة مشتركة للنسختين. وقد أفرد قوم هذه الصفة في «اختلاف الدم» وأسقطوا ذكر «الزحير». والنسخة التي تنحو إلى ما وُصف في هذا القول وضع بإزاء ما وصف في القول الأوّل من الطفل الصحيح كان معها بعض القبول فأمّا النسخة التي فيها ذكر إيراقليا فليس بمستفاد منها شيء لأنّ كلّ الناس يعلم أنّ أكثر من به اختلاف الدم يخرج منه شيء منتن. وذلك يعرض لجميعهم أو لمن لم يكن به منهم زحير لأنّه قلّ ما يخرج من صاحب الزحير شيء منتن لأنّ القرحة في صاحب الزحير
إنّما هي في المعى المستقيم الذي يتّصل بالدبر فأمّا أصحاب اختلاف الدم فالقرحة منهم في ما فوق ذلك من الأمعاء.
وقد كتب بعض الناس هذه القضيّة الأخيرة وأسقط منها «لا» وجعل مكانها «واواً» على هذا المثال: «وكان بها اختلاف دم وزحير» وأرادوا أنّ العرضين جميعاً عرضا لتلك المرأة التي وضعت بإزاء المرأة التي ذُكرت قبلها وهي إيراقليا. فإنّ المفسّرين إذا وقعوا على كلام غامض مستغلق تقدّم كلّ واحد منهم فغيّره على نحو مذهبه وفسّره على تأويل مشاكل للنسخة التي أجراه عليها.
(٨) قال أبقراط: المرأة التي كانت ترضع وخرجت بها بثور في بدنها كلّه عندما قطعت الرضاع برئت في الصيف.
قال جالينوس: ذكر أبقراط «امرأة» كانت بها «بثور» في الجلد كلّه ما دامت كانت «ترضع» صبيّها. وذلك يعرض كثيراً إذا دفعت الطبيعة فضلاً رديئاً إلى ظاهر البدن لتخرجه من الجلد كما قد تدفع بالقيء والاختلاف والبول والعروق التي تنفتح من أسفل. ومتى كان ذلك الفضل الرديء الذي دفعته الطبيعة إلى الجلد رقيقاً في قوامه لطيفاً خرج بالعرق ومتى كان غليظاً احتقن في الجلد لأنّ الجلد أكثف من جميع ما دونه وعند ذلك يحدث في الجلد الأورام والبثور من جنس القوابي والجرب والتربّل والجمرة. وليس لهذه الأشياء كلّها اسم يعمّها وإن كانت
قد تسمّى «خراجات وبثوراً». وإنّما عرض لهذه المرأة التي وصف حالها هذا الذي ذكر أنّه عرض لها من قبل فضل رديء كان قد اجتمع في بدنها.
وينبغي أن نبحث ما بالها ما دامت كانت «ترضع» كانت بها تلك «البثور» فلمّا قطعت الرضاع برئت من تلك البثور فنقول إنّ ذلك قد يمكن أن يكون بالاتّفاق أعني أنّه اتّفق أن يكون قطعها للرضاع في الوقت الذي كان قد تهيّأ لتلك البثور أن تتحلّل ولذلك ذكر في آخر قوله «الصيف» لأنّ ذلك وقت يتحلّل فيه البدن كلّه. ويمكن أيضاً أن تكون تلك المرأة لمّا خرجت بها تلك البثور لزمت الحمية والتدبير المستقيم وقد كانت قبل ذلك تتوانى فتخلط في تدبيرها.
ويجوز أيضاً أن نقول إنّ تلك المرأة ما دامت كانت ترضع كان أجود ما في دم العروق وأطيبه ينصرف إلى تولّد اللبن فينفد فيه فكان لا يبقى في العروق إلّا الفضل الرديء منه فقط وكانت الطبيعة تتأذّى به فتهيّج لدفعه. فلمّا انقطع الرضاع كان ذلك الدم الصافي الجيّد لا ينفد فكان إذا بقي استغرق الفضل الرديء حتّى يخفى في جنبه لقلّته حتّى لا يحسّ وخاصّة إذا كان قد تحلّل من ذلك الفضل الرديء قبل ذلك ما تحلّل. ولعلّ المرأة أيضاً قد تكون احتمت واستعملت التدبير المستقيم.
وقد أضاف قوم ذكر «الصيف» الذي في آخر هذا القول إلى أوّل القول الذي بعده على غير الصواب لأن ليس لذكره «الصيف» معنى في القول الثاني كما له في القول الأوّل.
(٩) قال أبقراط: امرأة الإسكاف الذي كان يعمل الغلف ولدت وظنّت أنّها قد نُقّيت النقاء التامّ ثمّ بدا منها شيء من جنس الأغشية ثمّ انحدر في اليوم الرابع على ما ينبغي. وكان أصابها حين حملت تقطير البول وكان الذي ولدت ذكراً. وكانت لها سنون كثيرة وكانت بأخرة لا ينحدر طمثها. فلمّا كان بعد الولاد سكن عنها تقطير البول زماناً يسيراً.
قال جالينوس: إنّا نجد في بعض النسخ أنّه «بدا منها شيء من جنس الأغشية» وفي بعضها أنّه «احتقن فيها شيء من الأغشية». وبيّن أنّه يعني بذلك المشيمة وكيف كان الأمر بدت أو لم تبد فقد صرّح أنّ المشيمة بقيت في الرحم بعد ولادها ثلاثة أيّام ثمّ خرجت في الرابع وذلك أنّه قال: «ثمّ انحدر في اليوم الرابع على ما ينبغي». وهذا أيضاً يوجد في النسخ مختلفاً على ضربين وذلك أنّ بعضهم يكتب «على ما ينبغي» وبعضهم «على غير ما ينبغي» ويشبه أن تكون النسخة التي فيها «على ما ينبغي» أصوب لأنّ ذلك شبيه بما ينحو إليه قوله. وذلك أنّ كلامه يدلّ على أنّ المشيمة خرجت كلّها لأنّه لو كان بقي منها شيء لقد كان أبقراط سيذكر عرضاً أو أعراضاً من الأعراض التي تحدث منه عفونة ما يعفن فإذا لم يذكر شيئاً من هذه الأعراض فقد دلّ على أنّ انحدار المشيمة كان على ما ينبغي.
وقد نكتفي بما وصفنا من هذا في أمر اختلاف النسخ في هذا القول فينبغي أن نأخذ الآن في صفة المعنى الذي قصد إليه بهذا القول. فنقول إنّ أبقراط إنّما ذكر
أسماء الناس وأسماء صناعاتهم ليجعل ذلك لنفسه تذكرة لأحوالهم وربّما ذكر مع ما يذكر أعمالهم كما ذكر الآن حين قال: «الذي كان يعمل الغلف». والبحث عن تلك «الغلف» هل هي قوالب الكرّ التي كان اتّخذها أبقراط ليكون بها تمديد عظام الرجل التي حدث فيها الكسر أو غير ذلك فضل. وإنّما الشيء الذي بسببه ذكر هذا أمر «تقطير البول» الذي كان أصاب امرأة «عندما حملت» ثمّ «سكن عنها من بعد ولادها مدّة يسيرة» ثمّ عاودها.
قال «وكانت لها سنون كثيرة» وهو يعني بذلك إمّا سنّها وإمّا منذ الوقت الذي عرض لها تقطير البول على نحو ما فهم قوم على أنّ أبقراط إنّما قال: «إنّه كان أصابها حين حملت تقطير البول». إلّا أنّ ذلك قد يختلف في النسخ فبعضهم كان يكتب: «وكان أصابها حين حملت تقطير البول» وذلك يدلّ أنّه أصابها عند حمل واحد وبعضهم يكتب: «وكان يصيبها حين تحمل تقطير البول» وأصحاب هذه النسخة يريدون أن يُفهم منها أنّ ذلك كان يصيبها عند كلّ حمل كانت تحمل وأنّها قد كانت حملت مراراً كثيرة لا تزال عند كلّ حمل تحمله يصيبها ذلك التقطير من بعد حملها. وإذا كان الكلام على هذا وافقه أن يقال «إنّه كان لها» منذ أصابها تقطير البول «سنون كثيرة».
ويعمّ الفرقتين جميعاً الطلب والبحث عن سبب «تقطير البول» العارض بسبب الحمل وهذا العرض قد يدلّك اسمه فضلاً عمّا سواه أنّه إنّما هو خروج البول قطرات أعني قليلاً قليلاً من أصحاب هذه العلّة ولم يُخبر أحد منهم بالسبب الذي له صارت المثانة في أصحاب هذه العلّة لا تلبث إلى أن تجتمع فيها من
البول كمّيّة ذات قدر لكنّها حين يصير فيها شيء منه تهيّج لدفعه وإن كان يسيراً جدّاً.
وقد ادّعى قوم منهم أنّ السبب في ذلك مزاحمة الحمل للمثانة على أنّ أبقراط إنّما قال: «إنّه كان أصابها حين حملت تقطير البول» يعني منذ أوّل حملها من قبل أن تنتفخ الرحم وتخفو. وقد نرى أيضاً من النساء من يكون لها بطن عظيم وتكون حبلى بتوءم ولا يعرض لها تقطير البول ولو كان انتفاخ الرحم هو سبب تقطير البول لقد كان ذلك سيعرض لتلك لا محالة وكان حدوثه بها أولى. وادّعى قوم أنّ السبب في ذلك كثرة الدم وادّعى آخرون أنّ السبب فيه غلظ الدم وآخرون أسباباً أخر غير هذه ممّا هو أبعد من أن يقبل ويقنع به.
ولم يصل أحد منهم السبب البعيد الذي ادّعاه بالسبب القريب المتّصل بهذا العرض وذلك أنّه بيّن أنّ المثانة إنّما تُخرج ما ينحدر إليها من الكلى من البول إخراجاً سريعاً من قبل أنّها لا تقدر على إمساكه مدّة أطول وإنّما يعرض لها ذلك إذا لم تحتمل كمّيّته أو كيفيّته وكذلك نرى القيء يكون والاختلاف. وقد نرى قوماً يغلب على نواحي المثانة منهم البرد فيعرض لهم على المكان تقطير البول فإذا سخنت تلك المواضع منهم سكن ذلك العرض. فأشبه الأمور أن تكون المثانة إنّما تصير ألّا تطيق احتمال فضل قليل من البول ولا تلبث حتّى يجتمع فيها منه مقدار كثير لكن تدفع أوّلاً فأوّلاً ما ينحدر إليها منه إمّا لضعف يحدث فيها حتّى ينالها من ثقل 〈الشيء〉 اليسير ما كان ينالها من ثقل الشيء الكثير عند اجتماعه كان فيها وإمّا للذع يحدث فيها من قبل كيفيّة البول إذا كان حادّاً رديئاً. وحدوث
الضعف في المثانة إنّما كان يجب أن يكون إذا غلب عليها البرد أو الحرّ أو غير ذلك ممّا يشبهه.
والحمل في طبيعته خارج عن هذا كلّه. فأمّا حدوث اللذع في المثانة بسبب كيفيّة البول ففي المرأة الحامل غير بعيد من أن يحدث إذا كان قد اجتمع في بدن المرأة من قبل أن تحمل خلط رديء ثمّ إنّه بعد الحمل يجتذب الطفل أصفى الدم وأجوده ويبقى في العروق أردؤه. وما يجتمع من ذلك في أوّل وقت من الحمل يكون مع رداءته أيضاً كثير المقدار.
ولهذا السبب بعينه يشبه أن يكون ما يحدث للحبلى في ذلك الوقت من الشهوات الرديئة التي تكون من آفة ما تعرض في فم المعدة بسبب فضول رديئة تتجلّب إليها. وذلك أنّ الطمث يحتقن في المرأة إذا حملت والذي ينصرف من الدم فينفد في غذاء الطفل في أوّل وقت الحمل يسير لصغر الطفل ولذلك يفضل من الدم في العروق مقدار كثير فإذا اتّفق أن يكون ذلك إلى الرداءة أميل ثمّ يجلب إلى فم المعدة عرضت منه للمرأة الشهوات للأطعمة والأشربة الرديئة المنكرة التي تعرض للنساء في وقت الحمل.
فإن مال ذلك الفضل الرديء إلى المثانة وجب أن يعرض تقطير البول فإذا كان الولاد ونُقّي بدم النفاس البدن من جميع ذلك الفضل الرديء سكن ذلك التقطير. ولذلك قال في آخر قوله: «فلمّا كان بعد الولاد سكن عنها تقطير البول زماناً يسيراً».
وممّا يدلّك على صحّة ما قلنا ما قال أيضاً من أنّها «كانت بأخرة لا ينحدر طمثها» فقد تبيّن من ذلك أنّها كانت أوّلاً يجيء منها الطمث مجيئاً ناقصاً ولذلك
كان دائماً يجتمع في بدنها فضل رديء، ثمّ إنّ بأخرة انقطع طمثها فقوي فيها ذلك الخلط الرديء وعرض لها تقطير البول بسبب انقطاع الطمث. وقد قلنا مراراً كثيرة إنّ انحدار الطمث ليس يقوم للمرأة مقام الاستفراغ فقط لكنّه قد يقوم لها مع ذلك مقام ما ينقّى بدنها من أشياء التي هي رديئة في كيفيّتها. ولذلك قد يجب متى انقطع انحدار الطمث أن يكون ذلك الدم الذي يجتمع في البدن ليس أزيد من المقدار الذي ينبغي فقط لكن يكون مع ذلك رديئاً فإذا مال كما قلت ذلك الفضل الرديء إلى المثانة حدث تقطير البول بسبب ما ينال المثانة من اللذع.
(١٠) قال أبقراط: امرأة كان بها وجع في وركها قبل أن تحبل فلمّا حبلت سكن عنها ذلك الوجع ثمّ إنّها ولدت فعاودها الوجع في يوم العشرين وكان الذي ولدت ذكراً.
قال جالينوس: هذه القصّة أيضاً إنّما كتبها أبقراط ليبحث عن السبب الذي من أجله كانت تلك المرأة ما دامت كانت حاملاً في سكون من «الوجع» الذي كان بها «في وركها فلمّا ولدت عاودها الوجع». ونحن لمّا كنّا ليس نعلم حال تلك المرأة وهل كان طمثها ينحدر على ما ينبغي أم لا من قبل أن تحبل فإنّه ليس يتبيّن لنا أمر السبب في ذلك. وذلك أنّه إن كانت تلك المرأة قد كان طمثها لا ينحدر على ما ينبغي فالسبب كان في وجع وركها امتلاء بدنها وأنّه كان سال إلى ذلك العضو بعض الفضل الذي كان في بدنها وإن كانت قد كان ينحدر طمثها على ما ينبغي فقد يعسر وجود السبب الذي من أجله أصابها ذلك الوجع.
وقد رأى قوم أنّ ممّا يقرب من الإقناع أن يكون ذلك «الوجع» الذي عرض لتلك المرأة «في وركها» إنّما كان من قبل البرد فكان ذلك البرد إذا استفرغ الدم يتزيّد بها وإذا اجتمع في البدن انتفعت به والدم يجتمع ويكثر في وقت الحمل. وقوله إنّها كانت حبلى «بذكر» شاهد مصحّح لما قيل لأنّ الدم في المرأة التي هي حبلى بذكر يكون أسخن.
(١١) قال أبقراط: امرأة حبلى أصابها في ساقها الأيمن من أسفل خراجات إمّا في الشهر الثالث وإمّا في الرابع وكنّا نستعمل فيها دقاق الكندر وفي يدها اليمنى عند الإبهام. ولا أدري بأيّ شيء ولدت وذلك أنّي خلفتها ولها من الحمل ستّة أشهر. وكانت تسكن فيما أحفظ نحو آل أرخالاوس نحو الصخرة.
قال جالينوس: إنّ أبقراط كتب لنفسه ذكراً أمور النساء اللاتي أصابهنّ في حملهنّ شيء مخالف لما يصيب النساء فكتب فيما كتب من ذلك قصّة هذه المرأة وهو يهمّ أن يبحث فيما بعد ويتعرّف من حالها هل سكنت تلك الخراجات التي كانت خرجت بتلك المرأة في وقت حملها من بعد ولادها. وذلك أنّها إن كانت سكنت فإنّه يكون ما عرض لها شبيهاً بما عرض للامرأة التي كانت ترضع فإنّه قال في تلك إنّه سكنت عنها البثور التي كانت تخرج بها عند قطعها الرضاع.
وذكر أيضاً بعد ذلك تقطير البول ووجع الورك فقال في تقطير البول إنّه حدث في وقت الحمل وقال في وجع الورك إنّه سكن في وقت الحمل. فقصّة هذه المرأة مشاكلة لقصص النسوة اللواتي تقدّم ذكرهنّ إلّا أنّه لم يأت بالقصّة على آخرها لأنّه «خلف» المرأة «وهي من حملها في الشهر السادس».
(١٢) قال أبقراط: امرأة أنطيجانس من آل نيقوماخس ولدت طفلاً كلّه لحميّ إلّا أنّ أعظم أعضائه كانت قد تفصّلت فكان مقداره نحو أربع أصابع ولم يكن فيه عظم وكانت مشيمته غليظة مستديرة. وكان أصاب هذه المرأة قبل أن تلد ربو ولفظت في وقت ولادها مِدّة يسيرة شبيهة بما يخرج من الدمّل.
قال جالينوس: قد ظنّ قوم أنّ قوله «ولدت» إنّما يعني به «أسقطت» وقال قوم إنّه يعني بقوله «ولدت» حقيقة ما تدلّ عليه هذه اللفظة ولهذا السبب كتب هذه القصّة أعني أنّ الولاد كان في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون فيه وكان الطفل الذي وُلد لم تتفصّل منه أعضاؤه الجزئيّة. إلّا أنّا نجد في هذا القول شيئاً كأنّه يناقض هذا وهو قوله «وكان مقداره نحو أربع أصابع» ولو كان قد أتت عليه تسعة أشهر لما كان بالذي يبقى على هذا المقدار. وليس يمكن أيضاً أن يكون ذكره «للأصابع الأربع» إنّما هو أنّ ذلك الطفل إنّما كانت له في كلّ كفّ وقدم أربع أصابع والخامسة ناقصة لأنّه قال: «إنّ أعظم أعضائه» فقط «كان قد تفصّل» وتصوّر وليس الأصابع من «أعظم الأعضاء».
وقد قال قوم إنّ ذلك الطفل كان من الصغر بهذا المقدار وقالوا إنّ ذلك هو السبب في ذكر أبقراط لهذه القصّة لأنّها قصّة عجيبة إذ كان الطفل قد ولد في الوقت الذي كان ينبغي أن يولد فيه وكان لم يتفصّل ويتصوّر التصوير التامّ. والمخالفون لأصحاب هذا القول يقولون إنّ الأشياء العجيبة أيضاً التي تكون في الندرة قد تخالف بها الأشياء التي حدوثها محال. ويقولون في هذا إنّه ليس من الأشياء التي تكون في الندرة ولا من الأشياء العجيبة البديعة لكنّه من الأشياء التي لا يمكن أن تكون أعني أن يكون الولاد في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه ويكون مقدار الطفل الذي يولد أربع أصابع. وإذا كان قد يعسر الحكم فيما اختلف فيه هؤلاء حتّى يوفّق منه على المعرفة الصحيحة فإنّا ندع البحث عن الشهر الذي كان خروج ذلك الطفل فيه أيّ شهر كان ونروم استخراج سبب يقبل ويقنع به لما يمكن أن نستخرج له سبب.
فنقول إنّ من قول أبقراط إنّ مشيمة هذا الطفل كانت «غليظة مستديرة» قد يشبه أنّ الدم في هذه المرأة في وقت حملها كان أميل إلى البرد وإلى طبيعة البلغم ولذلك كان الجنين الذي تولّد منه فيها جنيناً يعسر تخلّقه وتصوّره «وكانت مشيمته غليظة مستديرة». وبالواجب أصاب تلك المرأة لمّا أن حضر ولادها «الربو» عندما ارتفع ذلك الدم المائل إلى طبيعة البلغم الذي كان غالباً في بدنها في العروق المشتركة بين الرحم والصدر إلى آلات الصدر.
قال: «ولفظت تلك المرأة في وقت ولادها مِدّة يسيرة بمنزلة ما يخرج من الدمّل» ويشبه أن يكون قوله في هذا الموضع «لفظت» إنّما أراد به «قذفت بالسعال» وذلك أنّا نجده في كتاب الفصول قد استعمل هذه اللفظة بعينها فقال: «من لفظ دماً زبديّاً فقذفه إيّاه إنّما هو من الرئة». وممّا يُعرف من الإقناع أنّ بعض ذلك الخلط الذي ولّد الربو استحال فتولّدت منه المِدّة وكان قذف ذلك ببثور البدن كلّه في وقت الولادة.
(١٣) قال أبقراط: المرأة التي ولدت ابنتين توءمين ولم تستفرغ كثير استفراغ تورّم منها البدن كلّه ثمّ إنّها من بعد ذلك عظم بطنها وسكن ورم سائر أعضائها وجعل ينحدر منها شيء أحمر حتّى كان الشهر السادس ثمّ كان ينحدر منها بعد ذلك شيء رقيق كثير جدّاً في المدّة التي بعد ذلك كلّها وكان الذنب مائلاً إلى أفروديسيون.
قال جالينوس: أمّا القدماء ممّن فسّر ألفاظ أبقراط مثل بقخيوس وغلوقياس أو معاني كتبه مثل زوكسس وإيراقليدس الذي من أهل طارنطس وهما من فرقة أصحاب التجارب وإيراقليدس الذي من أهل أروثرا وغيره من فرقة أصحاب القياس فليس يعرفون هذا القول يكتب إلّا على هذه النسخة التي نسخته عليها. فأمّا من أتى بعدهم فقد غيّر هذه النسخة على أنحاء مختلفة ومثّلها كلّ واحد منهم نحو المعنى الذي يظنّ أنّه أقرب إلى القنوع والقبول فأمّا أنا فلا أمنع متى كان الكلام لا يُفهم لخطاء وقع في كتابه من الأصل أن يغيّر منه الحرف ويزاد فيه وينقص منه حتّى يصير مفهوماً.
فإنّا قد نرى الآن أيضاً أشياء كثيرة ممّا بمثلها يقع فيها الخطاء والسقط بسبب قلّة أدب الكتّاب وتوانيهم إلّا أنّي لست أحمد من الذي يغيّر شيئاً من أشباه هذه الأشياء أن يكون إذا غيّره لا يعلم كيف كانت النسخة القديمة. وقد نجد هذا الكلام على هذا النسخ الذي فيه كان موجوداً في الأصل في جميع النسخ واحتجّ فيه قوم بأنّه إنّما هو شبّح في ظاهر الأمر ووراءه المعنى ثمّ إنّ قوماً أتوا بعد فخسّروا وغيّروه وكتبوه على هذه النسخة: «المرأة التي ولدت بنتين توءمين ولم تستفرغ كثير
استفراغ تورّم منها البدن كلّه». وهذا الكلام وإن كان غُيّر فإنّ معناه باقٍ على حاله.
وأمّا القول الأخير الذي في هذا الكلام وهو قوله «وكان الذنب مائلاً إلى أفروديسيون» فقد غيّره كلّ واحد منهم بنوع من التغيير فتغيّر معه معناه. وسننظر في ذلك بعد قليل بعد أن ننظر أوّلاً فيما قبله وهو أن قال: «إنّ امرأة ولدت ابنتين توءمين ولم تستفرغ كثير استفراغ فتورّم بدنها كلّه ثمّ إنّها بعد صارت إلى أن عظم بطنها» وسائر ما وصف من حالها بعد. وامتناع ذلك الاستفراغ قد يمكن أن يكون قد كان من أسباب شتّى وأولى الأمور أن يكون من قبل أنّها «ولدت ابنتين» لأنّ الطفل الذكر يكون ولاده أسهل وأسرع فأمّا الإناث فيبطئ خروجهنّ.
وقد نجد في بعض النسخ أنّه عسر على تلك المرأة ولادها حتّى يكون الكلام على هذا المثال: «المرأة التي ولدت بنتين توءمين وعسر عليها ولادها ولم تستفرغ كثير استفراغ». وإذا كانت النسخة على هذا لم تحتج أن تستخرج بالقياس من أنّها ولدت بنتين أنّه عسر عليها ولادها إذ كان أبقراط قد صرح بذلك. والمرأة إذا عسر عليها ولادها فإنّ الدم الذي يجري في وقت النفاس في أكثر الأمر يحتبس عنها وذلك أنّ أعضاء التوليد منها ترم للشدّة التي تنالها بسبب عسر الولادة. وإذا
احتقن دم النفاس فقد نرى كثيراً من النساء تعرض لهنّ الأورام والتربّل في البدن كلّه على نحو ما يعرض من التربّل والأورام لمن ينقطع عنه الدم الذي يجري من أفواه العروق التي تنفتح من أسفل.
قال: «ثمّ إنّ تلك الأورام سكن منها ما كان في سائر الأعضاء وبقي ما كان في البطن» لأنّ العلّة التي حدثت في أعضاء التوليد كانت باقية على حالها ولذلك حدث بتلك المرأة النزف وكان ما تنزفه «إلى الشهر السادس أحمر» ثمّ إنّه منذ ذلك صار مائيّاً. وهذه الأشياء كلّها بيّنة واضحة.
وأمّا ما قاله بعد هذا فليس يمكن أن يوفّق منه على حقيقة. والقدماء ممّن فسّر هذا الكلام على هذه النسخة يعرفه ويكتب: «وكان الذنب مائلاً إلى أفروديسيون» ثمّ أتى بعدهم قوم فكتبوا مكان «أفروديسيون» «أفروديسيا» ومعناه الجماع ثمّ إنّ آخرهم وهو أرطاميدوروس الذي لقّب بقافيطن غيّر هذا القول تغييراً شديداً بتبديل أحرف من الأحرف المتقاربة في لسان اليونانيّين حتّى صار معناه أنّ ذلك النزف كان يضرّ في الجماع. وإن كانت هذه النسخة صحيحة فإنّ معناها مقبول قريب من الإقناع وهو أنّ ذلك النزف الذي كان بتلك المرأة كان يمنع من الجماع ولذلك لم يمكن فيها أن تحبل إلّا أنّ هذا الرجل غيّر الكلام تغييراً شديداً.
فأمّا إيراقليدس فغيّر من هذا الكلام شيئاً يسيراً جدّاً فحال عن معناه إلى معنى آخر. وأقرّ بأنّه وجد في النسخ «أورا» وهو الذنب إلّا أنّه سأل أن يؤذن له كيما يقوم تفسيره على النحو الذي يُقبل ويقنع به أن يكتب مكان «أورا» «ثورا» وهو الباب بأن يغيّر الألف فتصير ثاء. وقال إنّه إنّما دعاه إلى ذلك أنّ التفاسير التي فُسّر بها هذا القول على النسخة التي فيها «أورا» وهو الذنب بعيدة من الإقناع.
وقد وصف تلك التفاسير وهذا قوله فيها بلفظه: «وقد قال قوم إنّ أبقراط استعمل في هذا الاسم الاستعارة التي يسلك فيها طريق التشبيه وإنّما أراد أن يدلّ به على حركة المرأة للباه فكنى عن ذلك واستعمل ألفاظاً تحسّن في قوله ‹إنّ الذنب كان مائلاً إلى الباه› وذلك أنّ الحيوان الذي يبول من خلف وذلك هو الإناث من جميع الحيوان ومن الذكورة كما قال أرسطوطاليس الأسد والأرنب والنوع من القردة الذي يقال له ‹لنكس› والجمال إذا هاجت للسفاد تحرّك أذنابها وتحكّ بها الفروج لأنّ الفروج منها قريبة من الأذناب. قالوا: فلِعِلم أبقراط بذلك قال في هذه المرأة ‹إنّ الذنب كان مائلاً إلى الجماع› فنقل الشيء الذي يعرض للحيوان الذي ذُكر بالاستعارة على طريق التشبيه إلى المرأة ودلّ على ما عرض لها من الشيء الذي يعرض للحيوان الذي يبول من خلف».
ثمّ إنّ إيراقليدس لمّا أن قال هذا القول أتبعه بأن قال قولاً آخر بهذا اللفظ: «وقال قوم إنّ هذا الحيوان يكون نزوه بأن يربض الذكر على الأنثى فقد قال أندرياس إنّ ذلك يركب بمنزلة ما يركب الديك على الدجاجة فإنّ الأنثى تربض على الأرض ويربض عليها الذكر فيلقى منها صلبها ببطنه. والذي يعرض لهذا الحيوان شبيه بالذي يعرض للطير فقد نرى أنّه يجب ضرورة أن يقلب ذنبه إلى فوق في وقت النزو لقرب الذنب فيه من أعضاء التوليد فذكر أبقراط من هذا حين قال: ‹إنّ الذنب كان مائلاً إلى الجماع› إنّما أراد أن يدلّ به على التهييج الذي حدث لتلك المرأة إلى الباه. وهذا التفسير تفسير بعيد وهو عندي على غير ما ينبغي».
ثمّ إنّ إيراقليدس من بعد أن كتب هذا قال هذا القول: «وقال قوم إنّ أبقراط إنّما أراد بهذا القول خروج الرحم إلى خارج وعنى بقوله ‹أفروديسيون› فرج المرأة وعنى بقوله ‹الذنب› فم الرحم كما قد يسمّى فرج الرجل بطريق الهزل ‹ذنباً›. وأنا بعيد جدّاً من قبول هذا القول».
ثمّ إنّ إيراقليدس بعد أن قال هذا قال: «وقد ينبغي أن نذكر مع ما ذكرنا لنستتمّ اقتصاص ما اقتصصنا من هذا التفسير الذي أخبر عنه بقخيوس فإنّه في المقالة الثانية من المقالات التي فسّر فيها ألفاظ أبقراط وضع هذا القول ثمّ قال معنى
أبقراط كان في قوله ‹إنّ الذنب كان مائلاً إلى أفروديسيون› أنّ تلك المرأة في ذلك الوقت كانت مائلة إلى الجماع. ولست أدري كيف يوافق هذا القول قول أبقراط لأنّه ليس فيه شيء ممّا يدلّ على هذا المعنى الذي قال ولا فسّر قول أبقراط». فهذا قول إيراقليدس [ثمّ قال إيراقليدس] وغيره من المفسّرين.
فأمّا هو فيرى أن يُكتب مكان «أورا» وهو الذنب «ثورا» وهو الباب حتّى يكون قول أبقراط على هذا المثال: «وكان الباب مائلاً نحو أفروديسيون» واحتجّ في هذا فقال: «إنّ من عادة أبقراط أن يذكر المواضع التي كان المرضى يسكنونها فيكون ذلك تذكرة له على أولائك المرضى. فقد كتب في بعض المواضع: ‹إنّ قلاأنقطيدس المريض الذي كان مُلقى فوق إيراقليون› يعني هيكل إيراقليس ‹اعترته حمّى› وقال في موضع آخر: ‹إنّ غلام المريض الذي كان ملقى في سوق الكذّابين› وذكر في موضع آخر في آخر اقتصاصه حال مريض والموضع الذي كان يسكنه كما قال قبيل في القول الذي افتتحه بأن قال: ‹امرأة حبلى أصابها في
ساقها الأيمن من أسفل خراجات› فإنّه قال في آخر هذا القول: ‹وكانت تسكن فيما أحفظ نحو آل أرخالاوس نحو الصخرة›».
قال: «فيشبه أن يكون قال في هذه ‹المرأة التي ولدت بنتين توءمين› إنّ باب منزلها كان نحو هيكل أفروديطي فإنّ من عادة اليونانيّين أن يسمّوا هيكل أفروديطي أفروديسيون كما يسمّون هيكل أرطاميس أرطامسيون ويسمّون هيكل ديونيسوس ديونيسيون». فهذا تفسير إيراقليدس وما تفسيره بعيد ممّا يقبل ويقنع به على أنّه لم يغيّر من النسخة القديمة إلّا شيئاً يسيراً جدّاً. وذلك أنّه ليس بين «أورا» وهو الذنب وبين «ثورا» وهو الباب خلاف إلّا في الحرف الأوّل والحرف الأوّل من اسم «أورا» يكتب في لسان اليونانيّين بصورة شبيهة بالدائرة على هذا المثال Ο والحرف الأوّل من اسم «ثورا» يكتب بصورة تلك إلّا أنّه يقطعها خطّ في العرض على هذا المثال Θ فقد يمكن بالحقيقة أن يكون ذلك الخطّ المعترض امتحى ودرس إمّا بذوبان نقشه وإمّا بسبب غير ذلك فصار مكان «ثورا» وهو الباب «أورا» وهو الذنب.
ثمّ جاء بعد إيراقليدس قوم ففسّروا هذا القول على أنّه إنّما يوجد فيه «ثورا» وليس توجد نسخة غير هذه إلّا على أمر إيراقليدس كان المخلّص لها ثمّ قالوا إنّه إنّما عنى «بثورا» وهو الباب فرج المرأة وإنّه قد عرض لتلك المرأة فيه لذع فكان ذلك اللذع يهيّج تلك المرأة إلى الجماع. وغيّر هؤلاء اسم «أفروديسيون» ومعناه كما قلت هيكل أفروديطي فجعلوا مكانه «أفروديسيا» ومعناه الجماع وقد أضاف قوم إلى أوّل اسم «أورا» قاء مكان الألف وكتبوا مكان «أورا» «قورا» ومعنى هذا الاسم الجواري وقالوا إنّ أبقراط إنّما قال بهذا القول إنّ ذلك النزف دام بتلك المرأة وطالت مدّته حتّى شبّت ابنتاها التوءم وحان لهما أن تتزوّجا.
(١٤) قال أبقراط: في زلق الأمعاء المزمن الجشاء الحامض الذي يحدث بعد أن لم يكن قبل فهو علامة محمودة كالذي أصاب ديمنيطس. ولعلّه قد ينبغي أن يحتال ويتلطّف بحدوثه لأنّ ما يكون على هذا الطريق من التثوير والاضطراب قد يغيّر ولعلّ الجشاء الحامض قد يبرئ زلق الأمعاء. وكان برء ديمنيطس بشرب الخربق.
قال جالينوس: أمّا في كتاب الفصول فأطلق أبقراط هذا القول فقاله على هذا المثال: «إذا حدث الجشاء الحامض في العلّة التي يقال لها ‹زلق الأمعاء› بعد تطاولها ولم يكن قبل ذلك فهو علامة محمودة». وأمّا في هذا الموضع فلم يقتصر على أن جعل «الجشاء الحامض» علامة تدلّ على انقضاء تلك العلّة لكنّه جعله مع ذلك سبباً لانقضائها بقوله: «ولعلّه قد ينبغي أن يحتال ويتلطّف لحدوثه». وأضاف إلى ذلك أيضاً الفكر والقياس الذي قاده إليه فقال: «لأنّ ما يكون على هذا الطريق من التثوير والاضطراب قد يغيّر» ويعني بذلك «التثوير والاضطراب» الحركة التي تقدر أن تبعث أعضاء البدن التي قد استرخت لضعف القوّة التي فيها على فعلها.
فأمّا سائر ما ينبغي أن يقال في تفسير هذا القول فقد وصفته في المقالة السادسة من كتاب الفصول. وممّا يوافق ذلك أنّ ديمنيطس برئ بشرب الخربق يعني الخربق الأبيض لأنّ من شأنه أن يثير القوّة التي في المعدة ويبعثها ويقوّيها في صاحب هذه العلّة إذا كانت فيه باردة إمّا بمزاج مبرّد غلب عليها وإمّا بسبب بلغم كثير لاصق راسخ في طبقاتها.
(١٥) قال أبقراط: لوقيس في آخر أيّام مرضه أصابه طحال عظيم وأوجاع وحمّى ووجع في المنكب وكان العرق الذي في المأبض من جانب الطحال متوتّراً وكان كثيراً ما يضرب وربّما لم يكن يضرب. ولم يُقطع لكنّ الشيء جاء مع عرق من
تلقاء نفسه وبرز شيء إلى خارج. وكان في طحاله تمدّد في الجانب الأيمن وكان نفسه يتضاعف ولم يكن ذلك بعظيم وكان يسهو ويتقبّض وكانت الرياح تحتقن في بطنه حتّى لا تنفذ فتخرج من أسفل وكان مع ذلك لا يبول أصلاً ومات. من قبل الولاد ما حدث في الحلق من جانب لم تتبعه قرحة وانتقل إلى الجانب الأيسر وانتقل الوجع إلى الطحال عن غير بحران. أتى إيارون البحران في اليوم الخامس عشر.
قال جالينوس: أمّا القدماء من المفسّرين فكتبوا الاسم الذي في أوّل هذا الكلام «لوقيس» بالسين وهذا الاسم إذا كتب على هذا المثال دلّ على اسم رجل. وأمّا قوم ممّن أتى بعدهم فليس يكتبون هذا «لوقيس» بالسين لكنّهم يكتبونه «لوقي» بالياء وهذا الاسم إذا كتب على هذا المثال دلّ على اسم امرأة.
وهذا الكلام على رأي القدماء قسمين أحدهما ينقضي عند قوله «ومات» والقسم الثاني يبتدئ من قوله «من قبل الولاد». وأمّا الذين كتبوا «لوقي» وهم يريدون القصّة إنّما هي في امرأة فبعضهم رأى أنّ انقضاء القسم الأوّل قوله «من قبل الولاد» وألزقوا ذلك بقوله «ماتت» فقالوا: «وماتت من قبل الولاد» وجعلوا ابتداء القسم الثاني قوله «ما حدث في الحلق من جانب» وبعضهم جعل هذا الكلام كلّه قولاً واحداً.
وأنا مبتدئ بالتفسير على نحو النسخة الأولى التي فيها «لوقيس في آخر أيّام مرضه أصابه طحال عظيم». وكأنّه يشير بقوله «في آخر أيّام مرضه» إلى أنّ لوقيس هذا كان مرض مرضاً طويلاً ثمّ آل مرضه بأخرة إلى ورم في «الطحال» مؤلم لزمته بسببه «حمّى وألم منكبه» بمشاركة طحاله يعني بالمنكب الذي من جانب الطحال وذلك ممّا يدلّ أيضاً على عظم ذلك الورم الذي كان في طحاله.
وحقيقة الأمر في هذه المشاركة في الألم أنّ الوجع أوّلاً يتّصل بالترقوة خاصّة ثمّ بالمنكب لاتّصاله بالترقوة. وكما أنّا قد نرى في أصحاب ذات الجنب الوجع يتراقى كثيراً إلى الترقوة وربّما اتّصل مع ذلك بالمنكب كذلك قد نرى في الندرة هذه المواضع تألم بمشاركة الطحال إلّا أنّ أصحاب ذات الجنب إذا كانت العلّة فيهم في الغشاء المستبطن للأضلاع فليس بمستنكر أن يتراقى الوجع فيهم إلى الترقوة. فأمّا عند علل الطحال فإنّ المشاركة الأولى تتّصل بالغشاء الممدود على البطن فتصل به إلى العضلة التي يقال لها «الحجاب» والمشاركة الثانية تكون باتّصال الحجاب بالغشاء المستبطن للأضلاع والمشاركة الثالثة تكون باتّصال ذلك الغشاء بالترقوة والمشاركة الرابعة تكون باتّصال المنكب بالترقوة.
قال: «وكان العرق الذي في المأبض من جانب الطحال متوتّراً» وبيّن أنّه يعني «بالعرق الذي في جانب الطحال» العرق الذي في اليد اليسرى. ومن عادة أبقراط
أن يصف هذا المعنى «بالمحاذاة» ويحمد الرعاف الذي يكون على المحاذاة إذا كان في علّة الطحال من المنخر الأيسر وفي علّة الكبد من المنخر الأيمن. ولذلك ظنّ قوم أنّه يرتفع في الجانب الأيسر عرق من الطحال كما يرتفع في الجانب الأيمن عياناً عرق من الكبد وهو العرق الذي يعرف «بالعميق». وليس نرى في التشريح هذا العرق الذي رآه هؤلاء في المنام.
ومن قبل ذلك غلط قوم آخرون أيضاً فلم يصدّقوا بأمر الخراجات والرعاف والمشاركة في الألم الذي يكون على المحاذاة ثمّ سألوا من صدّق أنّ ذلك يكون على أيّ وجه يكون. فإذاً ما لم يجدوا عندهم من الجواب ما يدلّ كيف يكون ذلك ظنّوا أنّهم قد قهروا وظفروا ولم يعلموا أنّ وصف الشيء الذي يُرى على الحال التي يرى عليها غير وصف السبب الذي يكون منه.
وقد ترى أشياء كثيرة لا يحصى عددها كثرة تكون عياناً وليس يعرف لها سبب مثل جذب حجر المغنيطس للحديد فقد ترى الحديد عياناً حين يوضع بالقرب من هذا الحجر يجري إليه حتّى يماسّه وإن رفع الحجر وأمسك رأيت الحديد متعلّقاً به من غير رباط وليس بينه وبينه من الاتّصال إلّا مماسّته له. وكما أنّ هذا عند كثير ممّن لم يره لا يُقبل ولا يُصدّق به وهو عند كلّ من رآه مقبول مصدّق به كذلك الحال في المشاركة في الألم الذي يكون على المحاذاة فقد نرى ذلك عياناً يكون دائماً. فأمّا السبب الذي من أجله يكون وليس يخرج من الطحال عرق أصلاً
كما يخرج من الكبد العرق المعروف «بالعميق» فيحتاج إلى بحث شديد وسنبحث عن ذلك في كلام يفرد له.
فأمّا الآن فينبغي أن يقال الشيء الذي يُرى. ومن ذلك أنّ أبقراط قال إنّه حدث في الطحال ورم عظيم فلمّا كان ذلك «كان العرق الذي في المأبض» الأيسر «متوتّراً» وهو بيّن أنّ ذلك كان لمشاركة الطحال في الألم.
قال: «وكان يضرب» وقد اختلف المفسّرون في معنى هذا وذلك أنّ بعضهم قال إنّه عنى أنّ العرق الذي ليس بضارب كان متوتّراً ويضرب وبعضهم قال إنّه قال ذلك في العرق الضارب لأنّ القدماء قد كانت تطلق اسم العرق للعرق الضارب وفهم أيضاً بعضهم من قوله «يضرب» كلّ حركة يكون للعرق الضارب وفهم بعضهم من ذلك خاصّة الحركة العظيمة الشديدة التي تكون فيه حتّى يُحسّها المريض مثل الحركة التي تكون في الأعضاء التي فيها ورم حارّ. وكيف كان الأمر قد كان ينبغي في تلك الحال أن يُفصد العرق فيُستفرغ شيء من الدم وقد قصر في ذلك من كان يتولّى علاج ذلك المريض فأمّا الطبيعة فلم تقصر.
قال: «لكنّ الشيء جاء مع عرق من تلقاء نفسه» ودلّ بهذا القول على أنّه جاء عرق ورعاف «من تلقاء نفسه» وقد فهم قوم أنّ ذلك المريض عرق من غير أن يرعف. فأمّا قوله «وبرز شيء إلى خارج» ففهم منه جميع من يعرف هذه النسخة على هذا ما خرج البراز. والذي يعرف هذه النسخة القدماء من المفسّرين وممّن أتى بعدهم من تحرّى ألّا يزيد ولا ينقّص ولا يغيّر على نحو ما يهوى وقصد لتفسير
ما وجده على نحو ما وجده. وقد أتى قوم بعد فحذفوا هذا الكلام كلّه وأتبعوا قول أبقراط حين قال: «إنّ الشيء جاء مع عرق من تلقاء نفسه إلى خارج» أن كان سكون علّته بذلك «وكان في طحاله تمدّد في الجانب الأيمن». وإنّما قالوا ذلك لأنّ ذلك الرجل قد كانت سكنت عنه حمّاه وخرج من مرضه بعد الاستفراغ الذي أصابه إمّا بالعرق وحده وإمّا بالعرق مع الرعاف ثمّ إنّه بعد إمّا بخطاء منه وإمّا لعظم ورم طحاله عاوده مرضه ثمّ لم يزل يزداد سوء حال قليلاً قليلاً حتّى «مات».
ولمّا وصف أبقراط جميع ما عرض لذلك الرجل كان بعض ما وصف من حاله أن قال: «وكان في طحاله تمدّد في الجانب الأيمن» وعنى بذلك أنّ الورم كان من طحاله في جانبه الأيمن لا في جانبه الأيسر «وكان نفسه يتضاعف» ومعنى هذا القول أنّ إدخاله النفس أو إخراجه كان ينقطع ثمّ يعود أو إدخاله أو إخراجه جميعاً. وقد وصفت جميع أصناف التنفّس الرديء في كتاب غير هذا جعلته في ثلاث مقالات وأنت قادر أن تعرف من ذلك الكتاب جميع أمر أصناف التنفّس.
وأمّا الآن فيكتفي أن نقول أنّ بين الطحال وبين الحجاب مشاركة في الموضع وذلك أنّ الطحال مجاور للحجاب فإذا ورم الطحال ضغط الحجاب وزحمه. وبينه وبينه مشاركة أيضاً من قبل أنّ الغشاء المحيط به متّصل بالغشاء الذي يستشعر الحجاب من أسفل ولذلك يألم الحجاب بمشاركة الطحال. ومن قبل هذا قد يعرض لبعض من تصيبه علّة في طحاله أن «يتضاعف نفسه» بمنزلة نفس الصبيان
إذا بكوا وذلك أنّ الصدر إذا انبسط يتحرّك بحركته الطحال الوارم فيعرض له من قبل ذلك وجع فإذا عرض من ذلك الوجع سكن الصدر قليلاً عن انبساطه ثمّ إنّه يعود وهو يريد أن يستكمل ما بقي من انبساطه فينبسط حتّى يبلغ إلى غاية انبساطه. ومن قبل ذلك يصير النفس أعني دخول الهواء متضاعفاً أعني قسمين إلّا أنّ هذا العارض «لم يكن بالعظيم» في ذلك المريض يعني أنّ صدره لم يكن يلبث مدّة طويلة ممسكاً عن الانبساط لأنّ العلّة لم تكن فيه.
وقد تأوّل قوم قوله «ولم يكن ذلك بعظيم» أنّ «نفسه لم يكن بالعظيم». والنفس العظيم عند أبقراط هو إذا كانت آلات التنفّس تنبسط غاية انبساطها وتنقبض غاية انقباضها فكأنّه يقول عند هؤلاء إنّ ذلك لم يكن في هذا المريض على أنّ نفسه قد كان ينقطع ومن عادة النفس أن ينقطع في أكثر الأمر إذا كان عظيماً. وقد بيّنت في كتابي في رداءة التنفّس أنّ «النفس العظيم» إنّما يكون ممّن اجتمعت في صدره حرارة كثيرة ومن تغيّر عقله. فلمّا كان هذا المريض سليماً من الخلّتين وجب أن يكون نفسه ليس بالعظيم.
وينبغي أن يفهم من قوله بعد «إنّه كان يسهو» أنّه قد كان أصابته في ذهنه آفة إلّا أنّها كانت يسيرة. وذلك أنّه ليس يكاد أصحاب علّة الطحال أن يعرض لهم بسببه اختلاط في الذهن وذلك وإن كان قد يعرض في الندرة فإنّه إنّما يكون بمشاركة الحجاب للطحال في الآفة.
فأمّا قوله «ويتقبّض» فقد فهمه المفسّرون لهذا الكتاب على أنحاء مختلفة فمنهم من فهم ذلك على الثياب فقال بعضهم إنّه يعني أنّه كان يلتمس أن يتغطّى بثيابه ويستتر بها بأكثر ممّا ينبغي فكان ذلك هو جملة ما ظهر منه من التغيّر في ذهنه وقال بعضهم إنّه يعني أنّه كان يتغطّى ويتدثّر بالثياب لبرد كان يجده. ومنهم من فهم «التقبّض» على البدن فقال إنّه يعني أنّ الأشياء التي تجرج من البدن كانت محتقنة أو كان سطح البدن الخارج مستحصفاً كثيفاً ثمّ إنّ هذا المريض بأخرة آلت حاله إلى أن كانت «الريح لا تخرج منه من أسفل ولا يبول» فلم تزل تلك حاله حتّى «مات».
فإن كان الصواب أن يكتب الاسم الذي في أوّل هذا القول «لوقيس» بالسين وقد قلت إنّه إذا كتب بالسين يدلّ على أنّه اسم رجل فواجب أن يكون انقضاء قصّة هذا المريض عند ذكره أنّه «مات». وإن كان الصواب أن يكتب ذلك الاسم «لوقي» بالياء وقد قلت إنّه إذا كتب كذلك يدلّ على أنّه اسم امرأة فقد يجوز أن يكون انقضاء قصّة تلك المريضة عند ذكره أنّها «ماتت» ويجوز أن يضيف إلى ذلك ما قيل بعده فيقول إنّها «ماتت قبل الولاد» فيفهم جميع ما تقدّم من القول إلى هذه الغاية أنّه قيل في امرأة حامل.
وقد أضاف قوم إلى ذلك ما قيل بعده وعزله قوم فأفردوه على حدته والمعنى فيه هو ما أصف: «إنّ ما حدث في الحلق من جانب» من العلل أو من الأوجاع «لم
يتبعه قرح» وينبغي أن يفهم عنه من قوله «ما حدث في الحلق» كما قلت إمّا العلل وإمّا الأوجاع ومن قوله «من جانب» أن تكون العلّة أو الوجع من الجانب الأيمن دون الأيسر أو من الأيسر دون الأيمن. وقد تبيّن في هذا الموضع أنّ العلّة كانت في الجانب الأيمن ثمّ إنّها «انتقلت إلى الجانب الأيسر» حتّى صارت في «الطحال». وهذا القول إنّما جعله صاحبه تذكرة لنفسه وأمّا نحن فليس نستفيد منه كبير علم.
(١٦) قال أبقراط: أتى إيارون البحران في اليوم الخامس عشر.
قال جالينوس: قد وصل قوم هذا القول بالكلام الذي قبله ويعزله آخرون عنه ويقولون إنّه يدلّ على أمر لا يكاد يكون إلّا في الندرة وذلك أنّه لا يكاد يكون البحران في اليوم الخامس عشر. ومن عادة الناس أن يذكروا خاصّة الشيء الغريب البديع الذي لا يكاد يكون إلّا في الندرة.
(١٧) قال أبقراط: أخت قووس تورّمت كبدها على مثال ورم الطحال وماتت.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً إنّما هو تذكرة أثبتها أبقراط لنفسه فهي بيّنة عنده وليست بيّنة عندنا. وقد يجوز أن يكون عنى بقوله «على مثال ورم الطحال»
أنّ ذلك الورم الذي كان في «كبد» تلك المرأة كان عظيماً جدّاً ويجوز أن يكون عنى أنّه كان صلباً جاسئاً ويجوز أن يكون عنى أنّه كان مستطيلاً. ولذلك «ماتت» تلك المرأة من ذلك الورم لأنّ مرتبة الكبد والطحال في القوّة عند بقاء الحياة ليست مرتبة واحدة كما أنّه ليس مرتبة الطحال والرجل مرتبة واحدة وعلى حسب مرتبته شرف كلّ واحد من الأعضاء التي تحدث فيها العلّة وخطره يكون بمقدار زيادة الخطر أو نقصانه في علّته وإن كانت العلّة متساوية في العضوين.
(١٨) قال أبقراط: بِيُن بال بولاً كثيراً جدّاً إلّا أنّه لم يكن فيه ثفل راسب وأصابه أيضاً رعاف من منخره الأيسر وذلك أنّه كان طحاله متحدّباً صلباً إلى فوق وتخلّص بعد عودة من مرضه.
قال جالينوس: إنّ قصّة بِيُن هذا لقصّة كانت حقيقة لأن تُذكر وذلك أنّه أصابته علّة في «طحاله» ثمّ أصابه عليها «رعاف من الجانب الأيسر» فانتفع به وأعان أيضاً معونة ليست باليسيرة على تخلّصه من مرضه «بول كثير باله». وكان ينقصه خلّة واحدة حتّى يكون بحرانه تامّاً وهي نضج الأخلاط الذي يدلّ عليه «الثفل
الراسب» في أسفل البول. ولذلك أتاه بحران إلّا أنّه لم يكن بالحريز الوثيق لكنّ «مرضه عاوده» لأنّ بوله لم يكن نضيجاً إذ كان لم يكن فيه ثفل راسب. وذلك أنّ أبقراط يقول: «إنّ النضج يدلّ مع سرعة البحران على وثاقته».
وأمّا قوله عند ذكره الطحال «إلى فوق» فقد يمكن أن يكون معناه أنّ الطحال كان «متحدّباً صلباً» قد زاد إلى الناحية العليا خاصّة ويمكن أن يكون معناه أنّ الأعراض التي وصف كانت من الطحال في الجزء الأعلى منه ولذلك كان أحرى بأن يحدث بسببه الرعاف لأنّ العلل إذا كانت إلى الناحية العليا أميل كانت أحرى أن يكون برؤها بالاستفراغ الذي يكون من أعلى البدن وإذا كانت العلل إلى أسفل أميل كان برؤها بالاستفراغ الذي يكون من أسفل أولى.
ثمّ إنّ الكلام الذي يتلو هذا القول الذي تقدّم ليس يوجد في جميع النسخ على مثال واحد. وذلك أنّا نجد في أكثر النسخ من هذا الكلام المتقدّم القول الذي افتتحه بأن قال: «إنّ الأعراض التي كانت تصيب أصحاب الذبحة كانت ما أنا واصفه» ونجد القدماء من المفسّرين كلّهم يفسّرون بعد الكلام المتقدّم هذا القول وكذلك أيضاً نجد أكثر من جاء بعدهم من المفسّرين يفعل. ونجد قوماً منهم يكتب فيما بين الكلام المتقدّم وبين ذلك القول قولاً آخر افتتاحه على هذا المثال: «الذي كانت أصابته ذبحة من سعال شديد وكان ينفث مع سعاله شيئاً يسيراً عفناً لا يخرج إلّا بكدّ» وما يتلو ذلك. وهذا القول بيّن أنّه قول ليس قيل في
هذا الكتاب وليس هو من أقاويل أبقراط الصحيحة ولذلك لست أرى تفسيره لأنّ من تدبّر ما تقدّم من قولي وما أشباهه من القول لم يعسر عليه أن يعلم صواب هذا القول من خطائه. وليس ينبغي أن تطيل اللبث على ما لا يحتاج إليه ولذلك أنا تارك هذا القول ومقبل على القول الذي اتّفق عليه أنّه لأبقراط.
(١٩) قال أبقراط: وكانت الأعراض التي عرضت لمن أصابته الذبحة ما أنا واصفه وهو أنّ خرز الرقبة كان مائلاً إلى داخل وكان ميله في بعضهم أكثر وفي بعضهم أقلّ. وكان يظهر في الرقبة من خارج موضع غائر وكان يوجعهم ذلك الموضع إذا لمس. وكان ذلك في بعضهم دون الموضع المعروف «بالسنّ» ولم تكن علّته في الحدّة على مثال علّة غيره. ومنهم من كان ذلك الموضع منه مستديراً جدّاً استدارة أعظم ممّا لو كان ذلك ليس في الموضع المعروف «بالسنّ». وكان الحلق ليس بالوارم لكنّه كان لاطئاً وكانت المواضع التي دون اللحيّين منتفخة لكنّ انتفاخها لم يكن على مثال انتفاخ الموضع الوارم. ولم تكن الغدد أيضاً ترم في واحد منهم لكنّها كانت خاصّة باقية على طبيعتها. وكانوا لا يديرون ألسنتهم بسهولة لكنّ اللسان كان يخيّل أنّه أعظم وأنتأ إلى خارج وكانت العروق التي تحت اللسان تظهر ظهوراً بيّناً.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد ذكر اسم «الذبحة» في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «إنّ أردأ الذبحة وأسرعها قتلاً ما لم يظهر فيه منها في الحلق ولا في العنق شيء بيّن وكان معه وجع شديد جدّاً وربو» فدلّ بقوله ذلك أنّه يعني «بالذبحة» كلّ علّة تعرض في الحلق فيحسّ صاحبها معها فيه بضيق. وهذا الاسم اسم عامّ بجميع أنواع الذبحة الجزئيّة كان يظهر في الحلق ورم أو كان لا يظهر. فقد وصف أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة صنفاً ثانياً من الذبحة بعد الصنف الأوّل فقال: «فأمّا ما كان فيه منها من الوجع مثل ما في الأوّل إلّا أنّ معه ورماً وحمرة في الحلق فإنّه وإن كان قتّالاً جدّاً فهو أطول مدّة من الأوّل» ثمّ وصف أيضاً صنفاً ثالثاً من الذبحة بعد الصنفين الأوّلين فقال: «وأمّا ما كان فيه منها حمرة في الحلق والعنق فهو أطول مدّة» فهذه الثلاثة هي أصناف الذبحة الأُول ويعمّها كلّها ضيق المجرى الذي يدخل فيه هواء التنفّس ومن قبل ذلك يعرض لهم الاختناق. وذلك
يعرض لبعضهم أكثر ولبعضهم أقلّ إلّا أنّ جميعهم إنّما يحسّ بالجهد من هذا الوجه خاصّة.
وقد أتى بعد أبقراط قوم أفردوا كلّ واحد من هذه الأصناف باسم خاصّ وظنّوا أنّهم قد عملوا في ذلك عملاً وما عملوا شيئاً أكثر من أن كثّروا علينا الأسماء من غير أن يزيدونا خبراً لا بتقدمة المعرفة ولا بمداواة المرضى. وإنّما الطريق من التعليم الذي ينتفع به في تقدمة المعرفة وفي مداواة المرضى والتلخيص الذي ينتفع به هو التلخيص الذي يلخّصه أبقراط حين ميّز بين أصناف الذبحة التي يسهل برؤها وبين التي يعسر برؤها باختلاف الأعراض التي تعرض فيها.
واختلاف تلك الأعراض أيضاً يدلّ على المواضع التي بحدوث العلّة فيها تكون الذبحة. وذلك أنّ الموضع الذي ينتهي عنده تجويف الفم كأنّه خليج فيما بين بحرين هذا الموضع الذي يسمّى «الحلق» وذلك الموضع يرى رؤية بيّنة متى فتحت الفم فتحاً كثيراً وغمزت اللسان إلى أسفل. وفي ذلك الموضع فوهتان لمجريين أحدهما المريء والآخر الحنجرة والحنجرة موضوعة من خارج تحت الجلد والمريء متّصل بها من باطنها ثمّ من وراء المريء العضل الذي يلي الرقبة
إلى قدّام ممدود على باطن الفقار. وكلّ ذبحة لا يظهر فيها ورم في موضع من المواضع فينبغي أن تعلم أنّه لا يخلو أن يكون الورم إمّا في العضل الذي داخل الحنجرة وإمّا فيما يلي ذلك الموضع من المريء وإمّا في العضل الذي من وراء المريء. ويتّصل بذلك العضل رباطات تنبت من فقار الرقبة وأعصاب تنبت من النخاع وتنقسم في ذلك العضل فتلك الأعصاب والرباطات تتمدّد إذا ورم ذلك العضل وإذا تمدّدت جذبت إليها الفقار والنخاع.
ويشبه أن يكون الورم 〈الذي〉 كان في هذه الذبحة التي وصفها أبقراط في هذا الكلام كان في هذا العضل وممّا يدلّ على ذلك أنّه قال: «إنّ خرز الرقبة كان مائلاً إلى داخل» «وكان يظهر في الرقبة من خارج موضع غائر». وعنى بقوله «إلى داخل» ما يلي باطن البدن وبقوله «من خارج» ما يلي الجلد ولذلك قد سمّى نواحي الرقبة من قدّام أو من خلف ومن الجانب الأيمن والأيسر «من خارج» بإزاء باطن البدن. وعلى هذا المعنى كتب ديقليس وإيراقليدس الذي من أهل طارنطس
عند آيات كتبهم في العلل الظاهرة وفي العلل التي من خارج. فأمّا في هذا الموضع فإنّما يعني أبقراط بقوله «من خارج» ناحية القفا فإنّك إذا فهمت الأمر على هذا وجدت قوله «إنّ خرز الرقبة كان مائلاً إلى داخل» موافقاً لقوله «وكان يظهر في الرقبة من خارج موضع غائر» ولقوله أيضاً «إنّه كان يوجعهم ذلك الموضع إذا لمس».
وأمّا قوله بعد هذا «إنّه كان ذلك في بعضهم دون الموضع المعروف ‹بالسنّ›» فمعناه فيه ما أصف وهو أنّ في الفقرة الثانية من الرقبة زائدة قائمة منتصبة شبيهة بالناب. وقد شبّهها بعضهم بنواة الزيتونة وسمّاها باسم مشتقّ من اسمها ومن قبل ذلك ربّما سمّوا تلك الفقرة كلّها باسم «السنّ». ولهذا السبب «ليس تكون العلّة» إذا كانت فيما دون الفقرة الثانية «من الحدّة على مثل ما تكون علّته» إذا كانت فوقها وذلك أنّ النخاع عند الفقرة الأولى والثانية لقرب ذلك الموضع من الدماغ سريع إلى قبول الآفة التي لا يؤمن معها التلف السريع.
قال: «ومنهم من كان ذلك الموضع منه مستديراً جدّاً استدارة أعظم ممّا لو كان ذلك ليس مع الموضع المعروف ‹بالسنّ›» يعني أنّ الورم في أصحاب تلك الحال كان قد اشتمل على موضع السنّ أيضاً.
قال: «وكان الحلق لاطئاً» يعني أنّه كان خامصاً غير منتفخ «وكانت المواضع التي دون اللحيّ منتفخة ولكنّ انتفاخها لم يكن على مثال انتفاخ الموضع الوارم» وذلك أنّه لم يكن في تلك المواضع علّة تخصّها لكنّها إنّما كانت تندفع إلى قدّام من المواضع الوارمة التي من ورائها.
قال: «ولم تكن الغدد أيضاً ترم في واحد منهم» وفي ذلك دليل على أنّ العلّة لم تكن من كثرة الدم خاصّة لكنّها كانت خاصّة من أخلاط باردة لزجة نيّة أو يكون مع ذلك أيضاً قد غلب البرد على ذلك الموضع. وكما قال قبيل «إنّ الحلق ليس بالوارم» فلم يقتصر على ذلك حتّى استثنى فقال: «لكنّه كان لاطئاً» فعبّر عن معنى واحد بألفاظ مختلفة ليصحّ ويتبيّن كذلك لمّا أن قال: «ولم يكن الغدد أيضاً ترم في واحد منهم» استثنى فقال «لكنّها باقية على طبيعتها» وعنى بذلك أنّ من عادة تلك الغدد أن ترم في مثل تلك الحال وأنّها لم ترم في تلك الحال.
قال: «وكانوا لا يديرون ألسنتهم بسهولة لكنّ اللسان كان يخيّل أنّه أعظم وأنتأ إلى خارج» ولم يذكر أنّه كان فيه وجع. وفي ذلك أيضاً دليل على أنّ الأخلاط
التي انصبّت إليه كانت أخلاطاً باردة وليس بمنكر أن يكون اللسان عند قبوله ذلك الفضل الذي انصبّ إليه «كانت العروق التي تحته تظهر ظهوراً بيّناً» لامتلائها.
(٢٠) قال أبقراط: ولم يكونوا يقدرون على أن يزدردوا شيئاً فإن ازدردوا شيئاً كان ازدرادهم إيّاه بغاية الصعوبة حتّى كان يرتفع إلى المنخرين متى استكرهوه استكراهاً شديداً وكانوا يتكلّمون من آنافهم.
قال جالينوس: إن كان المريء لم تكن فيه علّة تخصّه وإنّما كان ارتفاع ما كان «يرتفع» من الشراب «إلى المنخرين» بضغط العضل الذي وراءه ومزاحمته إيّاه بسبب الورم الذي كان فيه فواجب أن يكون أصحاب هذه العلّة لم يكن نفسهم متغيّراً في سائر الأوقات التي لم يكونوا يرمون فيها «ازدراد شيء» وإن كان قد كان في المريء أيضاً ورم في الناحية التي يشارك فيها باطن الحلقوم فقد كان ينبغي أن يكون نفسهم متغيّراً في سائر الأوقات.
وأمّا قوله «إنّهم كانوا يتكلّمون من آنافهم» فإنّما يكلّم به على العادة الجارية في كلام العوامّ فإنّ من عادة العوامّ أن يعبّروا عن هذا المعنى الذي قصد إليه أبقراط بلفظ إن استقصيتَ حقيقته وجدته يدلّ على ضدّ الحقّ. وذلك أنّ الأنف من أصحاب هذه العلّة ليس بسليم من العلّة وليس يخرج الكلام منه لكنّ الأمر
بخلاف ذلك فإنّ جميع النغم التي يكون خروج أكثر هذا الصوت فيها من المنخرين يكون مخرجها مخرجاً رديئاً إذا انسدّ الأنف. وأنت قادر أن تتبيّن ذلك وتعرفه بأهون سعي بأن تجمع منخريك وتضغطهما بأصابعك حتّى يكون نفسك وكلامك من الفم فقط فإنّك إذا فعلت ذلك علمت أنّه لا يمكنك إخراج النغم التي يجتمع فيها الميم مع النون ولا النغم التي يجتمع فيها النون مع اللام ومع الباء أو مع غيرها من الأحرف المصوّتة. فإن كان مجرى الأنف منه مسدوداً بسبب من الأسباب أو كان شيء يضغطه فإنّه يعرض له ألّا يخرج تلك النغم على ما ينبغي. وعوامّ الناس يعبّرون عن هذا المعنى بلفظ ليس بصواب فيقولون فيمن هذه حاله إنّه يتكلّم من منخريه والواجب كان أن يقولوا إنّه لا يقدر أن يتكلّم من منخريه.
(٢١) قال أبقراط: ولم يكن نفسهم بالعالي جدّاً.
قال جالينوس: قال إنّ أولائك الذين أصابتهم الذبحة في ذلك الوقت الذي كلامه فيهم «لم يكن نفسهم بالعالي جدّاً» وفي مثل هذا خاصّة يخالف اقتصاص العالم بالصناعة اقتصاص الجاهل بها. فإنّ الجاهل بالصناعة قد يذكر أشياء قد دخلت في أشياء قد تقدّم ذكرها ويدع ذكر أشياء هي من أعظم ما ينتفع بذكره فأمّا العالم بالصناعة فإنّه لا يذكر شيئاً قد دخل ذكره في شيء قد ذكره إلّا أن
يعلم أنّ في ذكره كبير درك أو يكون ممّا يغمض ويذكر أشياء ممّا لم يكن فيخبر أنّها لم تكن كما فعل أبقراط في مواضع كثيرة وفي هذا الموضع.
وليس طريق أبقراط في هذا الموضع كطريق أنطيماخس الذي يذكر ما لم يكن موجوداً أصلاً وإنّما يذكر أبقراط ممّا لم يكن موجوداً الأشياء التي توجد كثيراً ثمّ عرض في الندرة أن لم توجد. فمن أشباه هذه الأشياء في هذه العلّة أعني أنّها من الأشياء التي تكون كثيراً في أصحاب علّة الذبحة ولم تكن بأصحاب تلك الذبحة التي حدثت في ذلك الوقت.
فينبغي أن تفهم عنه من قوله «نفس عالٍ» أحد أمرين إمّا النفس الصغير الذي لا يمكن أن يمتلئ به فضاء آلات التنفّس كلّه وهذا التنفّس يكون إمّا بسبب وجع وإمّا بسبب شيء يضيّق هذه الأعضاء التي كلامنا فيها ويزحمها وإمّا النفس الذي ترى فيه المواضع العالية من الصدر مع الكتفين تتحرّك وذلك ممّا قد يعرض كثيراً لمن يتغيّر نفسه. والسبب الذي من قبله «لم يكن النفس عالياً جدّاً» في أصحاب هذه الذبحة التي كلامه فيها أنّ نفسه لم تكن نالته آفة عظيمة وذلك لأنّه لم يكن في شيء من آلات التنفّس علّة تخصّه وإنّما كان ينالها ضغط ومزاحمة بمجاورة الأعضاء التي كانت فيها العلّة لها.
(٢٢) قال أبقراط: ومنهم من كانت عروقه التي في الصدغين والرأس والرقبة دائرة منتفخة.
قال جالينوس: إنّ هذا ممّا يعرض في أكثر الأمر في العلل التي يعرض منها الاختناق. ولمّا كانت هذه العلّة التي كلامه الآن فيها ناقصة في هذا الباب أعني في الاختناق كان توتّر «العروق وانتفاخها» يعرض للبعض دون البعض وهذا يكون بحسب اختلاف طبائع المرضى وميلها إلى الحرّ أو البرد وبحسب كمّيّة الأخلاط وكيفيّتها وبحسب مقدار العلّة.
(٢٣) قال أبقراط: والذين كان مرضهم من هؤلاء في الغاية القصوى من الصعوبة كان يوجد الصدغان منهم فيهما حرارة يسيرة على أنّه لم تكن بهم حمّى.
قال جالينوس: إنّ أفراداً من أصحاب هذه العلّة كانت أصداغهم تسخن «على أنّه لم تكن بهم حمّى». ووصف أولائك الآحاد الذين كانت تعرض لهم تلك السخونة فقال إنّ ذلك كان يعرض «لمن كان مرضه في غاية الصعوبة» فأمّا سائرهم فلم تكن أصداغهم تسخن لأنّ الأخلاط المولّدة لتلك العلّة لم تكن شديدة السخونة.
(٢٤) قال أبقراط: وكان الاختناق لا يعرض لأكثرهم إلّا عند ازدراد الريق أو غيره.
قال جالينوس: لمّا كان الحلق والحنجرة لا علّة بهما لم يكن ما كان «يعرض» من «الاختناق» لأصحاب هذه العلّة بمنزلة ما يعرض لسائر أصحاب الذبحة إلّا أنّه لمّا كان المريء قد كان شارك العضل الذي كانت فيه العلّة في علّته لمجاورته له كانوا إذا راموا «الازدراد عرض لهم الاختناق». والمريء أيضاً إذا لم يكن الورم الذي فيه عظيماً جدّاً لم يحدث بسببه تغيّر في النفس في الأوقات التي يروم صاحب العلّة فيها ازدراداً.
(٢٥) قال أبقراط: ولم تكن أعينهم بالمستقرّة.
قال جالينوس: لمّا كان أصحاب الذبحة بسبب ما يعرض لهم من الاختناق نتؤوا أعينهم وكان قد قال في أصحاب هذه العلّة إنّه لم يكن يعرض لهم الاختناق 〈و〉استثنى فقال: «إنّ أعينهم لم تكن بالمستقرّة» كيما لا يتوهّم متوهّم أنّها كانت باقية على طبيعتها. وهذا معنى قوله «مستقرّة» وذلك أنّه يجعل «المستقرّة» بإزاء الناتئة الجاحظة ولم يقل إنّها كانت كذلك لكنّه إنّما قال: «إنّها لم تكن مستقرّة» فقط فدلّ بذلك على أنّها كانت زالت عن موضعها الطبيعيّ إلى خارج زوالاً يسيراً.
(٢٦) قال أبقراط: ومن كان ورمه منهم ذاهباً في الطول على الاستقامة وليس هو مائلاً إلى جانب فإنّه لم يكن يصيبه فالج. وإن رأيت أحداً ممّن هذه حاله قد هلك فسأذكر أمره وأمّا من رأيته منهم إلى هذه الغاية فإنّه سلم.
قال جالينوس: إنّ من عادة أبقراط أن يستعمل اسم «الفالج» في مواضع كثيرة على كلّ استرخاء يكون في موضع من البدن بسبب علّة تكون في الصلب. ولمّا كانت مخارج العصب إنّما هي في جنبي الفقار وجب أن تكون الأورام التي كانت في موضع الوسط لم يحدث منها من الضرر في أصول ذلك العصب ما يحدث منه استرخاء فأمّا الأورام التي كانت من جانب فإنّه كان ينال العصب منها الضرر حتّى يحدث منه الاسترخاء.
(٢٧) قال أبقراط: ومن تلك الأورام ما كان يتحلّل سريعاً وأكثرها كان تطول مدّته نحو الأربعين يوماً وأكثر هؤلاء لم تكن بهم حمّى. ومنهم قوم كثير كانوا يلبثون مدّة طويلة جدّاً وبهم بقيّة من ذلك الورم وكانت الآفة تتبيّن في الازدراد وفي الصوت وكانت اللهاة تذوب وتدقّ دقّة رديئة من غير أن تكون كانت تتبيّن فيها آفة.
قال جالينوس: قد قلت فيما تقدّم إنّ هذه الذبحة التي كلامنا فيها إنّما حدثت في ذلك الوقت من قبل أخلاط هي إلى البرد أميل ولذلك «تطاولت» العلّة بأكثرهم. ومن كان فيه منهم من ذلك الخلط شيء يسير فإنّه كان يتحلّل عند تلك الذبحة سريعاً ولبرد تلك الأخلاط كان «أكثر» من يصيبه تلك العلّة «لا تعرض له» معها «حمّى».
قال: «وكثير منهم كان يلبث زماناً طويلاً وبه من العلّة بقيّة» من قبل أنّه كان يبقى فيهم شيء من ذلك الورم وكان الازدراد والصوت لا يكونان فيهم على الحال الطبيعيّة وكانت «اللهاة تدقّ» وتجفّ وتصير كأنّها تسترخي حتّى يدلّ منظرها أنّها تريد أن تنقطع.
(٢٨) قال أبقراط: فأمّا من كان ورمه مائلاً إلى أحد الشقّين فإنّه كان يصيبه الاسترخاء لا في الجانب الذي مال منه الفقار لكنّ في الجانب الذي إليه مال فأمّا الشقّ الآخر المقابل له فإنّه كان ينجذب.
قال جالينوس: إنّ من كان «ورمه» من الجانب الأيمن أو من الجانب الأيسر فإنّ «الاسترخاء» كان يعرض له «في الشقّ الذي مال إليه الفقار» فأمّا «الشقّ المقابل له فكان يعرض له الانجذاب» والتمدّد وذلك لأنّ أصول العصب التي
في «الشقّ الذي مال إليه الفقار» كان يعرض لها من ذلك الفقار أن يضغطها ويزحمها ويشدخها وبحسب ميل تلك إلى ذلك الشقّ الآخر كان يعرض لأصول العصب المقابلة لها التمدّد.
(٢٩) قال أبقراط: وأبين ما كان يكون ذلك في الوجه والفم وفي الخدّ الجاري مع اللهاة واللحيّ الأسفل أيضاً كان يعوج على هذا القياس.
قال جالينوس: قال إنّ تلك الأعراض التي كانت مع الاسترخاء والتمدّد «أبين ما كان يكون في الوجه وفي الفم وفي الخدّ الجاري مع اللهاة وفي اللحيّ». ويعني «بالخدّ الجاري مع اللهاة» الخدّ المتوسّط من أعلى الحنك الجاري مع الشأن الأوسط من اللحيّ الأعلى فإنّ الغشاء المستبطن على الحنك فيما بينه وبين ذلك الشأن اتّصال بأغشية رقاق وبهذا الخدّ ينفصل الجانب الأيمن من الجانب الأيسر. وإذا استرخى نصف الوجه فإنّك إذا افتتحتَ الفم غاية فتحه وغمزت اللسان إلى الأسفل رأيت ذلك الغشاء نصفه مسترخياً ويتبيّن ذلك فيه بفضل رطوبة تراها فيه وتغيّر من لونه وترى نصفه الآخر على ضدّ تلك الحال.
(٣٠) قال أبقراط: والفالج الذي كان يكون من علّة تلك الذبحة لم يكن يعرض في البدن كلّه كالفالج الذي يعرض من علل أخرى لكنّه كان ينتهي عند اليد.
قال جالينوس: أمّا الفالج الذي يكون في الشقّ الواحد من البدن كلّه فكثيراً ما يكون بسبب العلّة التي تعرض بالسكتة وربّما كان من أورام تحدث في أوّل النخاع من ضربة أو جراحة إذا كانت العلّة إنّما نالت منه النصف من فوق إلى أسفل بالطول إمّا من الجانب الأيمن وإمّا من الجانب الأيسر. ومتى كان النخاع سليماً لا علّة به ثمّ عرض لأصول العصب الذي ينبت منه ورم صلب يحدث فيه استرخاء فإنّ العلّة عند ذلك إنّما تحدث بالموضع الذي ينقسم فيه ذلك العصب الذي استرخى فقط فبالواجب قال إنّ الاسترخاء كان «ينتهي» في أصحاب هذه العلّة «عند اليد» ولم يكن يجاوزها إلى ما دونها لأنّ العصب الذي ينبت من الرقبة إنّما ينقسم وينبثّ في نواحي الرقبة واليدين.
(٣١) قال أبقراط: وهؤلاء كان ما يقذفونه من الشيء النضيج يسيراً بكدّ فأمّا من كان ورمه مستقيماً فإنّه قد كان يقذف.
قال جالينوس: أمّا الذي كان يعرض له الورم في أحد الشقّين فمن قبل أنّ عصبه كان تناله الآفة فإنّه كان يعسر نفث ما ينفث من الأخلاط التي تنضج فأمّا
«من كان ورمه» في الوسط «مستقيماً» فإنّ عصبه كان يسلم من الآفة فكان «ينفث» ما ينضج من تلك الأخلاط بسهولة.
(٣٢) قال أبقراط: فأمّا من كانت مع علّته حمّى فكان أمره في ذلك أعسر وكان رداءة التنفّس تعرض له أكثر وكان إذا تكلّم ينضح بريقه وكانت عروقه أشدّ دروراً وكانت أقدام جميعهم باردة وخاصّة أقدام هؤلاء وكان هؤلاء أشدّ عجزاً عن القيام على أرجلهم أعني من كان لا يعاجله الموت. ولا أعلم أحداً منهم سلم.
قال جالينوس: قال إنّ الذين عرضت لهم الأعراض التي ذكر «مع حمّى» كانت صعوبة القذف فيهم أزيد وكان «نفسهم» يكون أردأ «وكانوا إذا تكلّموا نضحوا الريق» 〈لا〉 لأنّ الرطوبة كانت فيهم أكثر لكنّ من قبل أنّ جميع تلك المواضع التي تلي اللحيّ والشفتين كانت مسترخية. «وكانت عروق هؤلاء أزيد دروراً» وذلك لأنّ نفسهم كان أصعب. وكانت «أقدام» من ساءت حاله منهم «أزيد برداً» وذلك واجب لأنّ العلّة كلّما كانت أصعب كان العرض الرديء فيها أقوى وكان هؤلاء خاصّة لا يقدرون على «القيام على أرجلهم» وذلك بهذا السبب بعينه. وقد يوجد في بعض النسخ مكان «ينضح ريقه» «كان ريقه مرّاً».
في الحال التي كانت للهواء بمدينة بارنثس
(٣٣) قال أبقراط: دخلتُ بارنثس نحو المنقلب الصيفيّ قليلاً.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام ناقص وإنّما يريد أنّ دخوله مدينة بارنثس لم يكن مع «المنقلب الصيفيّ» سواء لكنّه كان مقارباً له قليلاً وذلك يمكن أن يكون على وجهين إمّا قبله قليلاً وإمّا بعده قليلاً.
(٣٤) قال أبقراط: وكان الشتاء هادئاً جنوبيّاً وكان الربيع والصيف كلّه عديمين للمطر إلى غروب الثريّا ومتى كان شيء من المطر فإنّه كان يكون كالرذاذ والرياح الحوليّة لم تهبّ كثير هبوب وما هبّ منها كان هبوبه منقطعاً.
قال جالينوس: ما أدري كيف ألقى ذكر الخريف «وغروب الثريّا» إنّما يكون في آخر الخريف ولعلّه يكون وقع في هذا الكلام غلط ويشبه أن يكون نقص منه واو حتّى يكون على هذا المثال: «وكان الربيع والصيف كلّه عديمين للمطر وإلى غروب الثريّا». وممّا يدلّك على ذلك أنّه قال فيما بعد: «إنّه كان يغلب عليهم السبات والنعاس في الصيف وإلى غروب الثريّا» كما لو قال: «إنّ النعاس والسبات كانا غالبين على تلك النسوة في الصيف وفي الخريف» فإنّ زمان الخريف يمتدّ إلى وقت غروب الثريّا وفي بعض البلدان يتجاوز هذا الحدّ قليلاً.
(٣٥) قال أبقراط: تولّدت في الصيف حمّيات كثيرة محرقة ولم يكن معها قيء وكانت بطونهم مستطلقة وكانوا يختلفون شيئاً رقيقاً مائيّاً ولم يكن يغلب عليه المرار
وكان فيه زبد وكان كثيراً ومنه ما كان يرسب فيه شيء إذا بقي موضوعاً وكان ذلك إذا تُرك حتّى يستقرّ في الهواء يرسب فيه شيء شبيه بالنيلج.
قال جالينوس: إنّ السبب في تولّد تلك «الحمّى المحرقة» التي كانت بالحال التي وصف كان مزاج الهواء الذي وصف أنّه كان حدث. وذلك أنّ «الشتاء كان جنوبيّاً هادئاً» — يعني «بالهادئ» أنّه لم تهبّ فيه رياح قويّة ولا كانت فيه أمطار قويّة غزيرة — ثمّ كان بعده الربيع عديماً للمطر. ولم يكن فيه حال أخرى تستحقّ أن توصف ولو كانت حدثت فيه حال تستحقّ أن توصف لقد كان وصفها فقال إنّه كان كثير الرياح أو عديم الرياح أو كثير الغيوم كما من عادته أن يقول.
وكان الصيف شبيهاً بالربيع وأضاف إلى ما وصف من حاله أنّ الرياح الحوليّة لم تهبّ فيه كثيراً 〈و〉هذا يدلّك على أنّه لم يعرض في الشتاء والربيع تغيّر عظيم إلى حال خارجة من الطبيعة إلّا أنّ الوقتين جميعاً كانا أزيد يبساً وأقلّ رياحاً ممّا ينبغي فكان يجب على حسب هذا ألّا تحدث في الصيف أمراض رديئة وأن تكون الأمراض التي تتولّد فيه أزيد يبساً. ولذلك قال: «إنّه تولّدت في الصيف حمّيات كثيرة محرقة» إلّا أنّ تلك الحمّيات المحرقة لم تكن بخالصة ولا بخبيثة. وذلك أنّه إنّما قال إنّ مزاج الهواء كان يابساً ولم يقل إنّه كان فيه رمد ولا حرّ كما من
عادته أن يستثنى ذلك وأمثاله ولهذا السبب لم يكن أصحاب تلك الحمّيات «يتقيّؤون» مراراً كما يتقيّأ أصحاب الحمّيات المحرقة الخالصة ولا كان «الغالب على اختلافهم المرار».
وكان بعض ذلك «الاختلاف يرسب فيه شيء شبيه بالنيلج» وهذا الاسم يدلّ على لون يشتقّ اسمه من اسم «النيلج» ولون النيلج أخضر أميل إلى السواد من لون الخسّ أعني أنّه أقرب إلى الدكنة. وكثيراً ما يرسب في البراز في الحمّيات المحرقة شيء شبيه بهذا وذلك يكون من احتراق المرّة الصفراء التي إذا أفرط عليها الاحتراق صارت مرّة سوداء خبيثة رديئة. فأمّا قوله «وكان ذلك إذا ترك حتّى يستقرّ في الهواء» فعنى «بالهواء» الهواء البارد لأنّ الهواء البارد من شأنه أن يميّز سريعاً من الرطوبات المختلطة الشيء الرقيق المائيّ من الشيء الغليظ.
(٣٦) قال أبقراط: وكان كثير من هؤلاء يعرض لهم السبات والدهش ومنهم من كان ذلك يعرض له من النوم وكانوا إذا انتبهوا فهموا جميع أمورهم.
قال جالينوس: إنّ الرأس متى غلبت فيه أخلاط من جنس المرار حدث من ذلك الأرق واختلاط العقل ومتى غلبت على الرأس أخلاط باردة نيّة بلغميّة حدث من ذلك «السبات» والنسيان وإن كانت الأخلاط التي غلبت على الرأس متوسّطة بين الحالين عرض من قبل ذلك «السبات مع الدهش». ولمّا كان «الشتاء» في تلك الحال «هادئاً جنوبيّاً» لم يكن يمكن أن يكون كان الرأس يابساً خالص اليابس نقيّاً من الفضول كما يكون في حالات الهواء الشماليّة. ولم يكن أيضاً في الربيع رياح شماليّة فأمّا في الصيف فقد قال هو «إنّ الرياح الحوليّة لم تهبّ كثير هبوب» فذلك يدلّ على أنّ الرأس من أصحاب تلك المدينة بقي بحاله من الامتلاء إلّا أنّ ذلك الامتلاء كان يسيراً من الأخلاط ميلها إلى المرار ميل يسير ولذلك كما قلت «عرض لهم السبات مع الدهش». وكان «السبات» يحدث من كثرة تلك الرطوبة التي كانت فيهم وكان «الدهش» يحدث من قبل أنّ تلك الأخلاط التي كانت فيهم كانت مائلة قليلة إلى طبيعة المرار وإنّما يعني «بالدهش» اختلاط العقل اليسير. ومنهم قوم كان يعرض لهم ذلك «الدهش» عند «انتباههم من النوم» ويلبث مدّة يسيرة ثمّ إنّهم كانوا يفهمون ويرجع إليهم عقولهم.
قد علمتَ أنّ الأخلاط في وقت النوم تغور إلى عمق البدن وتنتشر في وقت اليقظة من عمق البدن نحو الجلد بخلاف حركتها في وقت النوم.
(٣٧) قال أبقراط: فكان نفسهم عالياً إلّا أنّه لم يكن بشديد العلوّ.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يعني بالنفس العالي في هذا الموضع النفس العظيم — فإنّ الصدر كلّه في هذا النفس يتحرّك وليس كما في النفس الصغير يتحرّك منه الحجاب فقط والمواضع التي فيما بين الأضلاع — ولم يكن بالعظيم جدّاً وذلك أنّ اختلاط عقولهم لم يكن بالقويّ. والنفس العظيم ليس يدلّ على اختلاط العقل وحده مفرداً لكنّ بأن يكون معه تفاوت كما وصف أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة.
(٣٨) قال أبقراط: وكان البول في أكثرهم رقيقاً يسيراً إلّا أنّه لم يكن غير ملوّن.
قال جالينوس: إنّ سلامة هؤلاء بعد أن تطاول مرضهم قليلاً إنّما كان من هذا الوجه وذلك أنّ «رقّة البول» علامة تدلّ على عدم النضج والنضج إنّما يلتئم في مدّة طويلة وصبغ البول يبشّر بالسلامة والنجاة.
(٣٩) قال أبقراط: وكان الرعاف لا يكون به البحران إلّا في اليسير منهم.
قال جالينوس: إنّ ذلك كان لأنّ تلك الحمّى المحرقة لم تكن بالقويّة.
(٤٠) قال أبقراط: وكذلك الأورام التي عند الآذان.
قال جالينوس: يعني أنّ أصحاب هذه العلّة لم يكن يصيبهم بحران «بالأورام التي تكون عند الآذان» وليس تكاد تكون هذه الأورام في الحمّيات المحرقة الخالصة ولا في الأمراض التي تتولّد من أخلاط شديدة الغلظ والبرد لأنّ الأورام إنّما تحدث في أصحاب هذه العلل في أسفل البدن وإنّما تحدث تلك الأورام فيمن حاله حال متوسّطة بين الحالين فقط. وكذلك كانت حال هذه الحمّى المحرقة
التي عرضت في ذلك الوقت ولذلك ذكر هذه «الأورام» فقال إنّها لم تحدث وإنّما لم تحدث لأنّ مزاج الهواء كان يابساً فلم يكن في أبدان أولائك الذين كانوا مرضوا كثير فضل.
(٤١) قال أبقراط: ولم يرم الطحال ولا كان في الجانب الأيمن لا وجع شديد ولا تمدّد كثير إلّا أنّه قد كان تبيّن فيه على حال شيء.
قال جالينوس: إنّ ذكره للكبد «والطحال» يجري منه على الوجه الذي ذكر علّة أورام الآذان وذلك أنّه إنّما ذكرهما لأنّه قد كان يمكن أن يحدث فيهما الورم بحسب كيفيّة تلك الأخلاط التي حدثت منها العلّة إلّا أنّه لم يحدث بها ورم. وقال في «الطحال» إنّه «لم يرم» أصلاً وقال في «الجانب الأيمن» إنّه ورم ورماً يسيراً وإنّما كان ذلك لأنّ الأخلاط الغالبة في ذلك الوقت كانت إلى المرار أميل.
(٤٢) قال أبقراط: وكان البحران يصيب جميعهم إلّا الخطاء نحو الرابع عشر وقليل منهم كان يصيبه ذلك مع عرق وقليل مع نافض.
قال جالينوس: ما هو بالبيّن هل يريد بقوله «جميعهم» جميع من وجد في الجانب الأيمن شيئاً أو جميع أصحاب هذه العلّة أعني الحمّيات المحرقة حتّى يكون قد عمّ من وجد في الجانب الأيمن شيئاً وغيره ممّن ذكره. والأجود عندي أن يفهم ذلك على هذا المعنى الثاني أعني أنّه أراد «بجميعهم» جميع من كانت به هذه الحمّى المحرقة.
«وأصاب» أصحاب جميع تلك الأمراض التي حدثت في ذلك الوقت «بحران» حتّى لم يمت منهم أحد ولا برئ بغير بحران وكان ذلك يعمّ جميعهم ويعمّ أكثرهم أنّ البحران كان يصيبهم «في الرابع عشر» وهؤلاء أيضاً كان «قليل منهم» يصيبه البحران «بعرق وقليل بنافض» وكان أكثرهم يصيبه البحران بالاختلاف وقد يعلم أنّ الحمّيات المحرقة الخالصة يعرض في أوّلها رعاف ثمّ بأخرة تعرض فيها نافض وعرق فيكون به أكثر ذلك البحران.
(٤٣) قال أبقراط: وكان من يعاوده المرض منهم قليلاً جدّاً.
قال جالينوس: إنّ المرض إنّما «يعاود» من تلقاء نفسه عن غير خطاء يكون من المريض من بعد البحران الذي تبقى بعده في البدن فضلة لم تنضج فبالواجب كان ذلك لا يعرض في ذلك الوقت إلّا في الندرة لأنّ البحران إنّما كان يحدث بعد نضج الأخلاط لا وهي بعد لم يستكمل نضجها.
(٤٤) قال أبقراط: وفي الأوقات التي كان يكون فيها من المطر شيء ولو يسير في الصيف كان يحدث لأصحاب الحمّيات عرق وقد كان العرق ربّما حدث منذ أوّل الأمر فلم يكن بالرديء والذين مرضوا في ذلك الوقت أصابهم البحران بالعرق.
قال جالينوس: قد كان قال أبقراط في أوّل هذه المقالة: «إنّه إذا كان حرّ ولم يكن معه مطر لم يحدث في الحمّيات عرق في أكثر الأمر فإن جاء شيء من
المطر في الحرّ ولو يسير كان العرق في الحمّيات أكثر». وكلّ من كان ابتداء مرضه «في الأوقات التي كان يحدث فيها شيء من المطر ولو يسير كان يحدث له منذ أوّل مرضه عرق» إلّا أنّ ذلك العرق «لم يكن بالرديء» وهذا موافق لما قال قبيل حين قال: «إنّ منذ أوائل الأمر البحران يكون مع هذا أعسر ممّا يكون مع غيره إلّا أنّه على حال يكون أقلّ عسراً متى كان بسبب هذا ولم يكن بسبب حال المرض» فإن كنتَ ذاكراً تفسيرنا لذلك الكلام فليست بك حاجة إلى أن نزيدك شيئاً في هذا. وقال إنّ جميع «من مرض في تلك الأوقات أتاه البحران مع عرق» فأمّا الخشونة التي عرضت في البدن كلّه للنساء فذكرها بعد.
(٤٥) قال أبقراط: وكانت تعرض في الحمّيات الصيفيّة نحو السابع والثامن والتاسع خشونة في البدن شبيهة بحبّ الجاورس أشبه شيء بمواضع قرص البقّ ولم يكن يعرض معها حكّة شديدة وكان ذلك يلبث إلى أن يكون البحران. وما رأيت ذلك خرج بذكر أصلاً وما رأيت امرأة عرض لها ذلك فماتت أصلاً.
قال جالينوس: إنّ خروج ما خرج من هذه «الخشونة الشبيهة بحبّ الجاورس» كان واجباً أن يكون في الصيف في تلك الحمّيات في أبدان النساء، وذلك أنّ النساء أميل إلى طبيعة البلغم وكان مزاج الهواء في تلك السنة يابساً ولم يكن بالحارّ ولا بالبارد لكنّه كان معتدلاً بين الحرّ والبرد ولذلك كانت تلك البثور صغاراً
والسبب كان في خروجها رطوبة أبدان النساء وفي صغرها مزاج الهواء «ولم يكن معها حكّة شديدة» لأنّ الفضلة المولّدة لها لم تكن شديدة الحدّة. ولمّا نُقّي باطن البدن من أولائك النساء أتاهنّ البرء والسلامة.
(٤٦) قال أبقراط: وكان ذلك إذا كان عرض لهنّ ثقل في السمع وسبات ولم يكن قبل ذلك يكاد يعرض السبات لمن كان يعرض له ذلك منهنّ.
قال جالينوس: إنّ هذه الأعراض التي ذكر أعني «السبات وثقل السمع» إنّما تكون إذا ارتفع إلى الرأس خلط بلغميّ فلم يكن «السبات» يكاد يعرض لأولائك النسوة حتّى تعرض الحمّى في ذلك الفضل فترفعه إلى الرأس.
(٤٧) قال أبقراط: وما كان ذلك السبات والنعاس يقلع عنهنّ الصيف كلّه وإلى غروب الثريّا ثمّ إنّه كان يعرض لهنّ من بعد أرق.
قال جالينوس: قال إنّ «السبات» لم يكن «يقلع» أصلاً في تلك الحمّيات عن النساء ولم يزل بهنّ ذلك «الصيف كلّه وإلى وقت غروب الثريّا» وذلك لأنّ الجنوب لم يزل يهبّ في تلك المدّة كلّها خلا الأوقات اليسيرة التي كانت تهبّ فيها الرياح الحوليّة. وقد قال: «إنّ الرياح الحوليّة لم تهبّ كثير هبوب» فدلّ بذلك على أنّها قد هبّت إلّا أنّه لم تهبّ منها ما يقوى على إصلاح ما حدث من سكون
الرياح فيما تقدّم. فلمّا طالت المدّة بأولائك النساء عفنت تلك الأخلاط وتزيّدت حدّتها فعرض من ذلك لكثير من أولائك النساء «أرق» وسهر.
(٤٨) قال أبقراط: ولم يكن الناس يموتون في تلك الحال أصلاً.
قال جالينوس: قد أخبرنا فيما تقدّم بالسبب في هذا وقلنا إنّ تلك السنة كانت إلى اليبس أميل فلمّا كان ذلك وجب أن يكون أمراضها كانت تكون أسلم وأقلّ عادية.
(٤٩) قال أبقراط: ولم يكن يستقيم حبس البطن ولا بالطعام لأنّه لم يكن أحد يرى أنّه ينبغي حبسه على أنّ بعضهم قد كان يختلف اختلافاً كثيراً جدّاً.
قال جالينوس: إنّه لم يكن ينبغي «حبس البطن» من ذلك «الاختلاف» وقطعه «بالطعام» الذي معه قوّة يسيرة من الحبس فضلاً عن الأدوية. وقد قال في صفته لما عرض في أوّل هذه الحال: «إنّه كانت بطونهم مستطلقة وكانوا يختلفون شيئاً رقيقاً مائيّاً ولم يكن يغلب عليه المرار وكان فيه زبد وكان كثيراً» إلّا أنّه لمّا كان يخرج شيئاً خارجاً من الطبيعة كان الصواب تركه يخرج عند أهل العقول. فأمّا ثاسالوس وأصحابه فلعلّهم لو صادفوا مثل هذا الاستفراغ لكانوا يرون قطعه لأنّه
عندهم من أمراض الانبعاث. وذلك أنّهم لا يعلمون شيئاً من أمر طبيعة الأمراض ولا يتفقّدون الأشياء التي تظهر عياناً التي اقتصر عليها أصحاب التجارب فلمّا علموها امتنعوا من أن يحبسوا الاستفراغ الذي يكون على هذا الوجه. وذلك أنّهم جرّبوا أنّه متى قطع عرض لصاحبه حمّى وورم في كبده خاصّة وربّما عرض له الورم في غير الكبد من أعضائه.
تمّت المقالة الثا〈نية〉 من تفسير جالينوس 〈للمقـ〉ـالة الثانية.
شرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثالثة
المقالة الثالثة من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا. ترجمة حنين بن إسحق.
ما وجد مكتوباً بعد صفة الحال الحادثة بمدينة بارنثس
(١) قال أبقراط: الاستلقاء في موضع بارد والإنسان متدثّر حتّى يستنشق هواء بارداً ويسخن بدنه بالدثار وجه من أفضل وجوه التدريج.
قال جالينوس: قد وصف أبقراط من أمر التغيير كلّه بقول مجمل إنّه لا ينبغي أن يصير دفعة من الضدّ إلى الضدّ وبيّن ذلك في مواضع كثيرة وشرحه وجرّده في
كتاب الفصول حين قال: «استعمال الكثير بغتة ممّا يملأ البدن أو يستفرغه أو يسخّنه أو يبرّده أو يحرّكه بنوع آخر من الحركة أيّ نوع كان خطاء وكلّما كان كثيراً فهو مقاوم للطبيعة فأمّا ما يكون قليلاً قليلاً فمأمون متى أردت الانتقال من شيء إلى غيره ومتى أردت غير ذلك».
وأمّا في هذا الموضع فجعل كلامه في صنف واحد من التغيير وهو التغيير الذي يكون من الحرّ إلى البرد وجعل هذا كأنّه مثال يفهم به جملة القول في هذا الباب وجعل قوله فيه قولاً وجيزاً لأنّه إنّما جعله تذكرة لنفسه ولم يقصد به لتعليم غيره كما فعل في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة. فإنّه في ذلك الكتاب شرح وبيّن بكلام واسع أنّه لا ينبغي أن يستعمل من التغيير شيء دفعة من الشيء إلى ضدّه ولا فيما معه قوّة يسيرة فضلاً عمّا فيه قوّة عظيمة.
وأمّا في هذا الموضع فجعل كلامه كما قلت في التغيير الذي يكون من الحرّ إلى البرد وليس في هذا التغيير كلّه ولكنّ فيما يكون منه من الهواء فقط. فإنّه قد يكون من التغيير صنف آخر يكون بطريقين أحدهما طريق استعمال الأدوية والآخر طريق التدبير ولم يذكر ذلك التغيير في هذا الموضع ولكنّه إنّما ذكر التغيير الذي
يكون من الهواء المحيط بالبدن. وهذا التغيير يكون على جهتين إحداهما باستنشاق الهواء والآخر بملاقاته بسطح البدن الخارج. وأبقراط يقول إنّه لا ينبغي متى احتجت إلى أن تغيّر حال البدن أن تغيّره بالوجهين جميعاً معاً ولكن تغيّره أوّلاً بأحد الوجهين إمّا بطريق الاستنشاق وإمّا بطريق ملاقاة الجلد حتّى يكون المريض في المثل متى احتاج أن تنقله من بيت فيه هواء حارّ إلى بيت فيه هواء بارد لا تقصد لتبريد بدنه بالوجهين جميعاً دفعة حتّى تبرّده من خارج بملاقاة الهواء البارد للجلد ومن داخل باستنشاق الهواء البارد لكن تبرّده أوّلاً بأحد الوجهين فإذا مدّت به على ذلك مدّة صالحة استعملنا الوجهين جميعاً.
ولسنا نملك أمر استنشاق الهواء متى كان هواء البيت بارداً وذلك أنّه لا بدّ من أن يستنشق بالحال التي هو عليها فأمّا أمر الدثار فنحن نملكه. فلا ينبغي أن يكون ما يغطّى به البدن منذ أوّل الأمر يسيراً حتّى يناله التبريد من الوجهين جميعاً فيصير بغتة إلى مزاج ضدّ المزاج الأوّل الذي كان عليه. وأنت قادر من هذا أن تفهم
التغيّر الذي يكون من البرد إلى الحرّ كيف ينبغي أن تنزله قليلاً قليلاً وذلك أنّك إن نقلت صاحب تلك الحال من بيت بارد إلى بيت حارّ كشفت بدنه حذراً من أن يسخن دفعة من الوجهين جميعاً أعني باستنشاق الهواء من داخل وبالدثار الكثير من خارج.
وضدّ التغيير الذي يكون دفعة التغيير الذي يكون قليلاً قليلاً بطريق «التدريج» ولمّا كان كلام أبقراط في هذا التغيير وجب أن يكون كلامه من فنّ المداواة. فأمّا إيراقليدس الذي من أهل طارنطس فقال إنّه قد يجوز أن يكون هذا الكلام إنّما قصد به أبقراط الاستدلال وذلك أنّه متى كان المريض يشتاق إلى استنشاق الهواء البارد لأنّه يحسّ في الأعضاء الباطنة من بدنه بتلهّب شديد ويحتاج من خارج إلى دثار كثير لبرد يحسّه فذلك ممّا يدلّ على أنّ مرضه مرض رديء قتّال. وقوله هذا حقّ وهو ممّا ينتفع الطبيب بمعرفته إلّا أنّه غير موافق للفظ كلام أبقراط في هذا القول لأنّ قوله «التدريج» إنّما هو بإزاء ما يكون بغتة ودفعة وهو موافق للتفسير الأوّل الذي قلناه وليس يوافق هذا التفسير الثاني الذي فسّره إيراقليدس.
(٢) قال أبقراط: وأن لا يعرض للطبيعة عارض أصلاً والذي يعرض لمن يعرض وأيّ الدلائل يظهر وأن يكون أكثر وأن يكون أقلّ من ذلك التثاؤب والسعال والعطاس والتمطّي والجشاء والريح من الأسفل وجميع أشباه هذه.
قال جالينوس: وصف من الأعلام التي تدلّ على أنّ التغيير الذي قلناه كان على طريق التدريج «التثاؤب والسعال والعطاس والتمطّي والجشاء والريح التي تخرج من أسفل» وما أشبه ذلك من سائر الأعراض كلّها. وقد وصفت أسباب الأعراض كلّها في ثلاث مقالات مع سائر القياس فيها وأنا ذاكر في هذا الموضع جمل ما وصفته هناك من أسباب تلك الأعراض بإيجاز.
فأقول إنّ «التثاؤب» «والتمطّي» يكونان عند استفراغ الطبيعة فضلة بخاريّة من الأجسام العضليّة «والسعال» يكون عند تنقية الطبيعة لفضول آلات التنفّس «والعطاس» يكون عند تنقية الطبيعة للفضول التي تكون في المنخرين أو في بطون الدماغ التي من مقدّمه فأمّا «الجشاء والريح من أسفل» فيكونان عند استفراغ الطبيعة ريحاً غليظة نافخة من الفم أو من المقعدة. وجميع هذه الأعراض تدلّ في
الصحيح السليم على مرض وتدلّ فيمن به بعض الأمراض على الصحّة وإنّما قلت «بعض الأمراض» لأنّ هذا القول ليس يصحّ في جميع الأمراض.
وأنا مبيّن لك ذلك بمثال من أوّل شيء ذكره وهو «التثاؤب» فأقول إنّ «التثاؤب» يكون عند توتّر العضل الذي فيما يلي اللحيّين كيما يستفرغ رياحاً غليظة. وهذا العارض متى عرض للصحيح فهو علامة رديئة ومتى عرض لمن قد غلب على بدنه البرد أو التكاثف حتّى لا يتحلّل من بدنه شيء أو يكون ما يتحلّل من بدنه يسيراً فهو علامة محمودة. وذلك أنّ الطبيعة التي في أبداننا متى كانت قويّة لطّفت الرطوبات التي تجري من الجلد حتّى يسهل استفراغها ومتى كانت ضعيفة ساقطة في غاية السقوط لم ترم تلطيف تلك الرطوبات أصلاً وإذا كانت في حال متوسّطة فيما بين غاية القوّة وغاية الضعف رامت أن تحلّ وتذيب تلك الرطوبات ولم تقو أن تبلغ من تلطيفها لها أن يسهل تنفيذها لها وإخراجها من البدن لكنّها تكون قد نضجت بعض النضج ولم تستحكم. فتحتاج الطبيعة إلى أن تعاون على تنفيذها وإخراجها فتلتمس الطبيعة تلك المعاونة بتوتّر الأعضاء التي تفعله عند «التثاؤب والتمطّي». وعلى هذا القياس تكون هذه الأعراض متى عرضت للصحيح تدلّ على أنّ حال بدنه قد مالت إلى الرداءة وتدلّ فيمن يعسر تحلّل بدنه بسبب البرد على أمر محمود.
«والسعال» علامة محمودة في ذات الجنب وذات الرئة والمِدّة التي تكون في الصدر متى كان أصحاب هذه العلل لا يقذفون شيئاً وهو علامة غير محمودة في الأبدان المتهيّئة ليحدث بها نفث الدم وكذلك حاله في الأبدان الصحيحة. «والعطاس» أيضاً على هذا المثال يكون علامة محمودة متى تبع مرضاً من الأمراض الحمّائيّة من بعد نضجه وتكون علامة غير محمودة متى دلّ على نزلة وزكام. وكذلك الحال في «الريح» فإنّ الأجود ألّا تتولّد في البطن رياح غليظة فإن تولّدت تلك الرياح في البطن لضعفه فالأجود أن تستفرغ «بالجشاء» أو «من أسفل» ومتى كان ذلك فهو علامة محمودة.
فقد تبيّن أنّ الشيء الواحد بعينه بقدر الحالات التي تقدّمت فحدثت في البدن يكون مرّة علامة محمودة ومرّة علامة مذمومة وهذا المعنى ينتفع به في نفسه وينتفع به أيضاً في معرفة حال من انتقل من هواء إلى هواء غيره. مثال ذلك أنّك إن كنت نقلت المريض من بيت بارد إلى بيت حارّ فلا التمطّي فيه علامة مذمومة ولا التثاؤب وإن كنت نقلت المريض من بيت حارّ إلى بيت بارد فهذه الأعراض بعينه أعلام مذمومة وذلك من قبل البرد إذا غلب على البدن حتّى يجمعه ويكثّفه تكثيفاً شديداً لم ترم الطبيعة التحليل أصلاً ومتى كان اللحيّ وما أشبهه من الأعضاء رخواً منفوشاً وكان الجلد سخيفاً وكان الهواء المحيط بالبدن حارّاً حرّت وتحلّلت
الفضول التي ترقّ وتلطّف بأهون السعي. فقد بقي أنّ الحال المتوسّطة بين هاتين الحالتين وهي أن تلطّف الرطوبات ولا تتحلّل بأسرها إذ كان يتولّد فيها رياح بخاريّة تحدث منها «التمطّي والتثاؤب».
وكذلك الحال في التغيّر الحادث من الأدوية ومن أصناف الاستحمام والرياضة والتدبير كلّه وذلك أنّ كلّ تغيير يكون من البرد إلى الحرّ فكلّ واحد من هذين العرضين فهو علامة محمودة وكلّ تغيير يكون من الحرّ إلى البرد فكلّ واحد من هذين العرضين فيه مذموم. وبيّن أنّه إنّما ينبغي أن يحكم بذلك بعد أن ينظر إلى حال الأبدان التي تحدث بها تلك الاستحالات. وبهذا الطريق صارت الحكّة والقوابي والبثور التي تخرج في البدن ربّما دلّت على أمر محمود وربّما دلّت على أمر غير محمود وذلك أنّها في الصحيح تدلّ على أنّه قد تولّد في بدنه خلط رديء وفي المريض الذي مرضه من الخلط الرديء تدلّ على أنّ ذلك الخلط الرديء سوداء يستفرغ أو ينتقل من أعضاء هي أشرف إلى أدنى أعضاء البدن أعني من الأعضاء الباطنة إلى الجلد.
وقد وصف أبقراط من حال الجشاء الحامض هذا المعنى بعينه وهو أنّ «من به زلق الأمعاء إذا أصابه جشاء حامض لم يكن يعرض له قبل كان ذلك علامة محمودة» ومتى عرض للصحيح دلّ على أنّ المعدة قد بردت ومالت إلى حال أردأ. وكذلك الذرب متى عرض للصحيح دلّ على فساد طعامه أو على ضعف في كبده أو في معدته وأمّا في المرضى الذين يحتاجون إلى أن تنقّى أبدانهم من فضول فيها فهو سبب محمود وعلامة محمودة. ونجد أعراضاً أخر كثيرة يجري أمرها مجرى هذه الأعراض التي وصفنا وقد بيّنّا ذلك من أمرها في كلامنا فيها ولذلك بعد أن وصف أبقراط ما وصف في هذا الكلام أتبع ذلك بأن قال: «وجميع أشباه هذه».
(٣) قال أبقراط: المرأة التي تسقط ولدها في الحمّى التي يكون معها قلق ونافض يعرض لها في الوجه حمرة ويصيبها إعياء ووجع في العينين وثقل في الرأس واسترخاء ويعرض ذلك أيضاً عند انحدار الطمث وخاصّة في المرأة التي لم تكن تطمث قبل وفي الأبكار أيضاً وفي المتزوّجات إذا كان وقت الطمث.
قال جالينوس: هذا القول إن فهمته مفرداً على حدته استنبطت منه معرفة شيء ينتفع به في تقدمة المعرفة وما هو ببعيد من أن يكون جزء من القول الذي تقدّمه
وهو الذي تقدّم فيه أبقراط إلينا ألّا يكون نظرنا في كلّ واحد من الأعراض مفرداً لكن نضيف إلى ذلك أن ننظر في أيّ الانحدار يحدث أعني كيف حال البدن في وقت حدوثه. من ذلك أنّ «حمرة الوجه» ربّما دلّت على أنّ المرأة تسقط وربّما دلّت على رعاف وربّما دلّت على كثرة الدم وربّما دلّت على حدوث ذات الرئة أو البرسام أو الحمّى الحادّة التي يمتلئ فيها الرأس دماً حارّاً يعلى. فإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن يكون حكمك على ما يدلّ عليه هذا العارض حكماً مطلقاً لكن تنظر مع ما تنظر فيه في أحوال الأبدان التي تعرض لها في النساء أوّلاً ثمّ في الرجال.
ويكون نظرك في كلّ واحد من الجنسين على هذا الوجه: متى كانت المرأة صحيحة فعرضت لها «حمرة في الوجه» ولم يكن ذلك من سبب من الأسباب الخارجة فإنّ هذا ممّا ينبغي أن تفهمه دائماً وإن لم تستبينه فليس يخلو الأمر من أحد شيئين إمّا كثرة دم وإمّا فضل حرارة في الوجه الذي هذه حاله. وينبغي أن تنظر هل احتبس طمث تلك المرأة حتّى اجتمع في بدنها كلّه دم كثير أو الطمث يجري على ما ينبغي وإنّما السبب في سخونة الرأس وارتفاع الدم إليه تعرّض للشمس الحارّة أو غضب أو إكثار من شرب النبيذ أو تناول دواء حارّ وتمييز ذلك يكون بالأعراض التي وصف إذا كانت موجودة أو لم تكن موجودة وذلك أنّه متى
كانت هذه الأعراض التي وصفها أبقراط في قوله هذا موجودة ثمّ حدثت «الحمرة في الوجه» دلّت على «انحدار الطمث» وخاصّة متى كان قد عرض للطمث احتباس.
ثمّ انزل أنّ المرأة في «حمّى»: أقول إنّه ينبغي أن تنظر هل تلك المرأة حامل أو غير حامل. وانزل أوّلاً أنّها غير حامل: أقول إنّه ينبغي أن تنظر هل تدلّ تلك الحمرة على ذات الرئة أو شيء من سائر الأمراض الحادّة التي تكون في الرئة ممّا قد كان أو يكون وكذلك أيضاً فانظر هل يدلّ هذا العارض على ذبحة أم على «انحدار طمث» كما قلت قبيل. ثمّ انزل أنّ تلك المرأة حامل: أقول إنّه قد ينبغي أن تنظر هل «تسقط» تلك المرأة. والوجه في النظر من الأعراض المشاكلة لكلّ واحد من هذه الأمور وأمّا في ذات الرئة فمن الأعراض التي تكون فيها وفي الذبحة من أعراضها وفي المرأة التي «تسقط» من الأعراض التي ذكرها في هذا القول فإنّه متى «عرضت في الوجه حمرة وكانت بالمرأة حمّى معها قلق ونافض» وفي البدن كلّه «إعياء ووجع في قعر العين وثقل في الرأس» فيشبه أن تكون تلك المرأة «تسقط».
وقد ذكر في آخر قوله «الاسترخاء» وأشار إلى أنّه ربّما عرض أيضاً للمرأة التي هي مزمعة أن تسقط. وليس ينبغي أن يتوهّم أنّه يعرض للمرأة في تلك الحال استرخاء مستحكم حتّى تبطل من عضو من أعضائها حركته وحسّه وقد يمكن أن يكون أبقراط متى شارف العضو بطلان الحركة والحسّ حتّى تعسر حركته وحسّه سمّى تلك الحال منه «استرخاء» وذلك يكون في هذه الحال بمشاركة العضو في العلّة للرحم.
فقد تبيّن أنّ هذا القول متّصل بالجملة التي قدّمها أبقراط قبيل وهي قوله إنّه لا ينبغي أن تقتصر على النظر في الأعراض التي تعرض في الأبدان أيّ الأعراض هي دون أن تنظر لأيّ الأبدان عرضت. من ذلك أنّ «حمرة الوجه» تكون من كثرة الدم ومن الحمّى الحادّة المحرقة ومن الذبحة ومن ذات الرئة. وإن كانت المرأة حاملاً فانظر في سائر الأعراض التي وصفت في هذا القول فإن وجدتها فتوقّع لتلك المرأة أن «تسقط» فإن كانت المرأة ليست حاملاً إلّا أنّ طمثها محتبس فتوقّع لها «انحدار الطمث» وخاصّة إن كان الوقت الذي من عادة طمثها أن ينحدر فيه قد قرب.
وقد رأينا «أبكاراً» كثيرة عرضت لهنّ أمراض حمّائيّة ثمّ ظهر فيهنّ اجتماع هذه الأعراض التي وصفت فانحدر منهنّ الطمث أوّل انحداره فالذي يستدلّ عليه في النساء من اجتماع تلك الأعراض هو إمّا «انحدار الطمث» وإمّا «إسقاط» الجنين وربّما استدللنا به فيهنّ على الرعاف.
فأمّا في الرجال فإنّ حمرة الوجه إمّا أن تدلّ على الرعاف وإمّا على الامتلاء في الرأس أو على الأعراض التي من شأنها أن تتبع الامتلاء وربّما كانت تلك الأعراض سباتاً ونسياناً وربّما كانت اختلاطاً وبرساماً وربّما عرض هذا العارض في الوجه من ذات الرئة أو من الذبحة وتمييز ذلك يكون كما قلت من الأعراض التي تشاكل كلّ واحدة من هذه العلل.
(٤) قال أبقراط: وفي المرأة التي ليس ينحدر طمثها في الوقت الذي جرت عليه عادتها أو على ما ينبغي ثمّ إنّه يعلوها شيء من صفرة.
قال جالينوس: يعني أنّ هذه الأعراض التي تقدّم ذكرها إذا ظهرت كان ظهورها في امرأة يأتي طمثها في وقته على نظام محدود أو كان يأتي في غير أوقاته على غير نظام محدود وعلى غير ما ينبغي فينبغي أن تتوقّع درور الطمث. فقد رأينا كثيراً من النساء لا يأتيهنّ الطمث على درور محدود منتظم ولا بالمقدار الذي ينبغي وكثيراً ما يعرض لهنّ إذا استفرغن بأكثر ممّا ينبغي أن يظهر في ألوانهنّ بعض الصفرة يعني أنّه يتبيّن في ألوانهنّ صفرة يسيرة. وينبغي أن تتوقّع عند ظهور تلك الأعراض التي ذكرت فيمن حاله هذه الحال أيضاً من النساء درور الطمث وأحرى أن يتوقّع ذلك في المرأة التي يأتي طمثها على نظام محدود إذا حضر وقته.
(٥) قال أبقراط: وملاك الأمر في جميع ذلك أن يكون متوالياً وأن يكون في وقته وفيمن ينبغي أن يكون فيه.
قال جالينوس: لمّا كان كلامه في استفراغ الطمث رأى أن يضيف إلى ما قال من أمره هذا الذي وصف لأنّ فيه تذكرة أمر ينتفع به فقال: «إنّ ملاك الأمر
وعظمه في جميع هذا» يعني استفراغ الطمث «أن يكون متوالياً» يعني في كلّ شهر ولا يغبّ وأن يحفظ وقته حتّى يكون من الشهر الآن في الوقت الذي كان يكون فيه قبل. فإنّ الطمث إذا اختلفت أوقاته على غير نظام من عادته كما لا يحفظ مقداره من الزمان كذلك لا يحفظ مقداره من الاستفراغ وذلك أنّه ربّما كان أقلّ ممّا ينبغي وربّما أفرط فكان أكثر ممّا ينبغي.
وأمّا قوله «فيمن ينبغي أن يكون فيه» فينبغي أن يفهم أنّه يعني به أنّه ينبغي أن يقاس مقدار الاستفراغ بحسب الأبدان التي يستفرغ منها. فإنّ من النساء البدينة السمينة ومنهنّ المهزولة القضيفة ومنهنّ الطاعنة في السنّ فإن قيس ما يستفرغ من الطمث من هؤلاء النساء إلى ما يستفرغ منه من النساء التي مقدار اللحم فيهنّ معتدل وسنّهنّ سنّ الشباب أوهم ذلك أنّه أقلّ من المقدار الذي ينبغي. وليس ينبغي أن تجعل قياسك على هذا الوجه لكنّه إنّما ينبغي أن يمتحن مقدار ما يستفرغ من الطمث في كلّ واحدة من النساء بحسب حال بدنها التي تخصّها.
وقد عزل قوم هذا الكلام عن الكلام الذي تقدّم وأضافوا إليه الكلام الذي بعده فجعلوه على هذا المثال: «وملاك الأمر في جميع ذلك أن يكون متوالياً وأن يكون في وقته وفيمن ينبغي أن يكون فيه أعني أنّ من كان المرار غالباً عليه جدّاً
فاستفراغه خاصّة في الحمّى نحو الرجلين» وقد حذف قوم من هذا الكلام قوله «وفيمن ينبغي أن يكون فيه» ووصلوا الكلام على هذا المثال: «وملاك الأمر في جميع ذلك أن يكون متوالياً وأن يكون في وقته فيمن المرار غالب عليه جدّاً واستفراغه خاصّة في الحمّى نحو الرجلين» فقالوا إنّ معنى ذلك أنّ أحمد الأمور فيمن غلب عليه المرار جدّاً أن يستفرغ منه المرار استفراغاً متوالياً أيْ أيّاماً كثيرة متوالية متّصلة نحو الرجلين.
(٦) قال أبقراط: من غلب عليه المرار جدّاً فاستفراغه خاصّة في الحمّى نحو الرجلين.
قال جالينوس: هذا القول من أبقراط قد يجوز أن يكون على طريق المشورة بما ينبغي أن يفعل في الأبدان التي «المرار عليها غالب جدّاً» إذا عرضت لها «الحمّى» ويمكن أن يكون على طريق الخبرة بالشيء الذي يصيب أصحاب هذه الطبيعة فينتفعون به ونصل بامتثالنا إيّاه من فعل الطبيعة إلى أن يكون قد أثبتنا ما ينبغي أن يفعل.
والبدن الذي «غلب عليه المرار جدّاً» ينبغي أن يفهم منه إمّا البدن الذي ذلك فيه بطبيعته وإمّا البدن الذي صار بهذه الحال في وقت من الأوقات ومن كان كذلك فإنّه يأمر فيه بأن يحدر ما كثر وغلب فيه من المرار في وقت صحّته وأحرى أن يفعل ذلك خاصّة إذا عرضت له «الحمّى». وإذا أطلق اسم «المرار» فإنّه يعني به المرار المرّ الذي يكون أصفر ويكون أحمر فأمّا المرار الأسود فليس يسمّى «مراراً» مطلقاً.
(٧) قال أبقراط: وضروب الأدوية التي منها تكون قد نعلم أنّها هذه كيف هي وما هي فإنّها ليست كلّها متشابهة لكنّ تركيب بعضها على خلاف تركيب البعض فإنّ هذا أيضاً قد يكون منه اختلاف ومن أن يتقدّم في تناولها أو يتأخّر وفي صنعتها أيضاً مثل أن تجفّف أو أن تطبخ أو أن تدقّ وما أشبه ذلك. وأدع ذكر ما هو أكثر من ذلك وكم لكلّ واحد وفي أيّ الأمراض ومتى من المرض وبحسب السنّ والسحنة والتدبير والوقت من السنة أيّ وقت هو وكيف يجري أمره وما أشبه ذلك.
قال جالينوس: إنّ بعضهم يكتب «قد نعلم أنّها» وبعضهم يكتب «لنعلم أنّها» ويريدون أن يكون قوله قول من يشير لا قول من يخبر. ومنهم من يصل هذا الكلام بالكلام الذي قبله فيجعل فيما بينهما حرف «الواو» ومنهم من يقطع هذا الكلام
ويفرده ويسقط «الواو» حتّى يكون افتتاح هذا القول على هذا المثال: «ضروب الأدوية التي منها تكون قد نعلم أنّها هذه». وهذه النسخ وإن كانت مختلفة فإنّ معناها واحد وهو أنّ الأدوية المركّبة يخالف بعضها بعضاً في طبائع الأدوية المفردة التي تركّب منها وفي كيفيّاتها وفي أوقات التقاطها فإنّ منها ما يلتقط وقد نضج ثمره ومنها ما يلتقط وثمره فجّ.
وتختلف أيضاً في «صنعتها» يعني في عملها وحصر ذلك في ثلاثة أصناف جنسيّة فقال: «أن تجفّف أو أن تطبخ أو أن تدقّ». والتجفيف يكون بأنواع كثيرة وذلك أنّه ربّما جفّف الشيء في الشمس وربّما جفّف عند النار وربّما جفّف في هواء يابس وربّما كان تجفيفه بطول مدّة الزمان. وأصناف الدقّ تختلف بتفاضل دقّ الأدوية وسحقها فإنّ من الأدوية ما ينبغي أن تستعملها وهي جريشة ومنها ما ينبغي أن تستعملها وهي مدقوقة مسحوقة سحقاً ناعماً حتّى تصير كالغبار ومن الأدوية ما ينبغي أن تستعملها وهي في حال متوسّطة بين ذلك وهذه المتوسّطة يخالف بعضها بعضاً في الكثرة والقلّة كما بيّنت في كتابي في تركيب الأدوية. وفي الطبخ أيضاً أصناف كثيرة مختلفة وذلك أنّ منه ما يكون كثيراً ومنه ما يكون يسيراً ومنه ما يكون بنار قويّة ومنه ما يكون بنار ليّنة ومنه ما يكون في إناء مضاعف ومنه ما يكون في إناء مفرد كما قد لخّصنا ذلك أيضاً. والذي يكتفي به في هذا الموضع أن نبيّن موافقة ما وصفنا من هذا لِما وصفه أبقراط بألفاظه.
فأقول إنّ قوله «كيف هي» يدلّ على اختلاف الأدوية في كيفيّاتها وقوله «وما هي» يدلّ على جواهر الأدوية. وأنا ممثّل لك ذلك في الأدوية المسهلة إذ كان قوم قد يصلون هذا الكلام بالكلام المتقدّم فأقول إنّ قوله «ما هي» إنّما أراد به أيّما الأدوية المفردة التي ينبغي أن يؤلّف منها الدواء المركّب حتّى يستفرغ البطن من فوق أو من أسفل. مثال ذلك أنّ الأدوية التي تستفرغ المرّة الصفراء ينبغي أن تكون دواء كذا وكذا والأدوية التي تستفرغ السوداء دواء كذا وكذا والأدوية التي تستفرغ البلغم دواء كذا وكذا والأدوية التي تستفرغ الفضول المائيّة دواء كذا وكذا. وينبغي أن تنظر أيضاً في كلّ واحد من هذه الأدوية «كيف هو» فإنّ منها ما يسهل إسهالاً أكثر ومنها ما يسهل إسهالاً أقلّ ومنها ما يسهل من غير أن يضرّ بالمعدة ومنها ما يسهل مع الإضرار بالمعدة ومنها ما يسحج الأمعاء ويحرق المعدة.
فقد تبيّن أنّ الذين يثبتون هذا الكلام بخلاف النظام الأوّل أصوب فعلاً وذلك أنّهم قدّموا قوله «ما هي» على قوله «كيف هي» من قبل أنّه ينبغي أن يعلم أوّلاً الجوهر ثمّ يعرف من بعد الاختلاف الذي فيه الكيفيّة. وأمّا ما قاله بعد هذا ووصله به وهو قوله «فإنّها ليست كلّها متشابهة لكنّ تركيب بعضها على خلاف تركيب البعض» فيتبيّن أنّه إنّما يريد به ضروب الأدوية لا أبدان المستعملين لها كما ظنّ قوم.
وأمّا قوله «ومن أن يتقدّم أو يتأخّر» فمنهم من يكتبه مطلقاً ويفهم من خارج «في تناولها» ومنهم من يكتب ذلك كتاباً وقد اختلفوا في فهم «تناولها» ففهم بعضهم من ذلك تناول المرضى لها وفهم بعضهم «تناولها من الأرض» أيْ التقاطها وهذا المعنى أشكل وأليق بهذا الكلام كلّه الذي نحن بعرضه. وذلك أنّا نجتني الأدوية بعضها إذا ورّدت وبعضها بعد أن ينتثر وردها وبعضها وعليها حملها وتلك أيضاً يلتقط بعضها وثمره قد نضج وبعضها وثمره لم ينضج وبعضها وقد يبس ثمره.
وقوله «في صنعتها» يعني به «في عملها» ووصف أصناف عملها فقال: «أن تجفّف أو أن تطبخ أو أن تدقّ» وينبغي أن يفهم مع هذه الأصناف الثلاثة الكلّيّة الأصناف الجزئيّة التي فيها ولذلك قال: «وأدع ذكر ما هو أكثر من ذلك» وذلك أنّ الأصناف الجزئيّة كثيرة وقد وصفتها في الكتاب الذي ذكرته قبيل ولم يكن غرض أبقراط أن يصف تلك الأصناف.
فلمّا فرغ من ذكر الأدوية وتصنيفها على الجمل والإيجاز وصف من بعد طريق استعمالها على الإيجاز والجمل فقال أوّلاً «وكم لكلّ واحد» يعني كم ينبغي أن يقدّم لكلّ واحد من المرضى من الدواء الذي ألّف وذلك أنّه لمّا كان طبائع الأبدان مختلفة وجب أن يكون مقدار كلّ واحد من الأدوية التي تستعمل فيها مختلفاً ثمّ إنّه من بعد ذلك أمر أن ينظر في الأمراض كيف ينبغي أن يستعمل الدواء الذي يستعمل لها.
فإنّ من قبل هذا أيضاً قد يختلف مقدار ما يستعمل منه في الكثرة والقلّة ومع ذلك أيضاً من قبل الوقت الذي يستعمل فيه وقد دلّ على ذلك بقوله «ومتى من المرض» ثمّ إنّه من بعد تقدّم أن ينظر في «سنّ» المتناول للدواء «وسحنته» وحال بدنه. وقد جرّد القول في كتاب الفصول فقال: «إنّ المهزول ومن يسهل عليه القيء ينبغي أن يستفرغ من فوق» ووصف أيضاً في مواضع أخر كثيرة حال البدن في احتماله للاستفراغ بالأدوية.
وأمر أيضاً أن ينظر في «التدبير» كيف كان أوّلاً وكيف ينبغي أن يستعمل الآن. وأمر أيضاً أن ينظر في «الوقت من السنة أيّ وقت هو وكيف يجري أمره» يعني كيف مزاجه فإنّه من طبع الصيف أن يكون مزاجه حارّاً يابساً أكثر من جميع أوقات السنة ومن طبع الشتاء أن يكون بارداً رطباً أكثر من جميع أوقات السنة ومن طبع الربيع أن يكون معتدلاً أكثر من جميع أوقات السنة ومن طبع الخريف أن يكون رديء المزاج مختلفاً والغالب فيه البرد واليبس للحرارة والرطوبة.
ولمّا كانت الأشياء الجزئيّة التي ينبغي أن ينظر فيها عند استعمال الأدوية كثيرة أضاف إلى ذلك أن قال: «وما أشبه ذلك» وقد أحسن في هذه الزيادة وذلك أنّه عدّد جميع هذه الأصناف الكلّيّة وأراد أن يدلّ على أنّه إن كان ترك ذكر شيء
من الأشياء الجزئيّة فلم يسمّه فقد ذكره في جملة تلك الأشياء الكلّيّة فاستثنى فقال: «وما أشبه ذلك».
(٨) قال أبقراط: زويلس الذي كان يسكن عند السور أصابته بعد سعال نضيج كان به حمّى حادّة وحمرة في الوجه وكان بطنه معتقلاً ولم يكن يجيء إلّا بجهد وكان به وجع في جنبه الأيسر وكان في أذنه المقابلة له وجع شديد جدّاً وفي رأسه ولم يزل هذا ينفث هذا النفث وذلك أنّه كانت به العلّة التي ينفث فيها صاحبها المدّة إلّا أنّه أصابه بحران من علله الأخر وسالت من أذنه مدّة كثيرة نحو الثامن والتاسع ولا أدري كيف كان أوّل وجع أذنه من غير نافض وأصابه أيضاً بحران من هذا وعرق رأسه عرقاً كثيراً جدّاً.
قال جالينوس: يعني «بالسعال النضيج» السعال الذي يكون ما ينفث معه نضيجاً وهو «المدّة» التي ذكرها أبقراط بعد. وذكر أيضاً فيما اقتصّ من حال هذا المريض أنّه «كان به وجع في جنبه الأيسر» في موضع الأضلاع فدلّ بذلك على أنّ الشيء الذي كان ينفثه مع السعال ثَمّ كان أصله إلّا أنّه لم يتبيّن أيّ الحالين كانت حال هذا المريض أكان أصابته ذات الجنب فيما تقدّم ثمّ أتاه «بحران» سلم منه من حدّة مرضه وبقيت فيه بقيّة من مرضه ثمّ أصابته من بعد تلك الحمّى الحادّة أو كان به وجع في جنبه في موضع الأضلاع من غير حمّى منذ أوّل أمره وكان به مع ذلك سعال فلمّا نضج ذلك السعال ابتدأت به حمّى. وأشبه الأمرين
عندي أن يكون كانت أصابته ذات الجنب ثمّ خرج من الحمّى وقذف بعد ذلك شيئاً من جنس المدّة ثمّ اعترته حمّى حادّة.
«وأصابه أيضاً بحران» من حمّاه تلك بأن اندفعت تلك الأخلاط المولّدة لحمّاه إلى أذنه اليسرى وهي الأذن المقابلة للجنب العليل. ولمّا مال الدم الذي في العروق إلى فوق «احمرّ الوجه واحتبس البطن» ولمّا نضجت الأخلاط التي ارتفعت إلى الأذن خرج من تلك الأذن اليسرى «مدّة كثيرة». فلمّا كان ذلك سكن عن زويلس ما كان يجد وبقيت العلّة التي كانت به في جنبه. فإنّ هذا هو ما أشار إليه بقوله «إلّا أنّه أصابه بحران من علله الأخر».
وأمّا قوله إنّه لم يكن مع علّته في أذنه «نافض» فإنّما قاله من قبل أنّ من شأن الأورام إذا تقيّحت أن يكون معها في أكثر الحالات نافض. ولم يكن ذلك في هذه العلّة وذلك لأنّ العارض الذي عرض فيها لم يكن على طريق علّة ابتدأت ابتداء وإنّما كان على طريق نقلة شيء ارتفع من الجنب إلى الأذن. ولم يكن «البحران» الذي أصاب زويلس «بالمدّة» التي اجتمعت في أذنه وجرت منها فقط لكن كان مع ذلك «بعرق كثير» أصابه في «رأسه» بل بعرق أصابه في بدنه كلّه إذ كان عرقاً
كان به بحران إلّا أنّه كان أكثره في «رأسه» لأنّ أكثر الفضل إنّما كان منه في الرأس.
(٩) قال أبقراط: أمبادوتيمي أصابها احتراق ووجع في الجنب الأيسر مع الأذن ووجع شديد في الكتف ومن قدّام أيضاً وكانت تنفث في أوّل الأمر شيئاً ملوّناً وإلى نحو السابع والثامن ثمّ إنّها قذفت شيئاً كالنضيج وكان بطنها معتقلاً إلى نحو التاسع أو العاشر وسكن الوجع في الثامن وأصابها فيه بعض الرشح إلّا أنّه لم يكن به بحران وكان الأمر يتبيّن في الخروج وفي غيره وذلك أنّه نحو ابتداء حدوث وجع الأذن استطلق البطن وجرى الشيء من الأذن في التاسع وأتى البحران في الرابع عشر من غير نافض وكان في ذلك اليوم أيضاً نفث وجرى من الأذن شيء أقرب إلى النضوج ولم يزل من بعد ذلك العرق يكون في الرأس إلى مدّة طويلة وخفّت. وفي هذا ما دلّك أنّ الأمراض التي تسكن عن غير إنذار يعسر أمر البحران فيها مثل الورم المعروف «بالحمرة» الذي أصاب جارية بولومارخس.
قال جالينوس: إنّ قصّة أمبادوتيمي تشبه في بعض الحالات قصّة زويلس التي ذكرها فيما تقدّم وذلك أنّ «الجنب الأيسر» منها كان عليلاً «وجرى من أذنها» مدّة وأصابها بذلك «بحران وتعرق» كما أصاب زويلس ويعمّها أيضاً وزويلس أنّ أكثر العرق كان «في الرأس».
وقد يحتاج بعض ما ذكر في اقتصاصه من حال هذه المرأة إلى شرح وتفسير من ذلك قوله في أوّل اقتصاصه «احتراق» وينبغي أن يفهم عنه من قوله «احتراق» إمّا حمّى حادّة محرقة وإمّا التهاب في الأحشاء وإمّا احتراق من أخلاط. وأمّا قوله في النفث إنّه كان «ملوّناً» فيشبه أن يكون يعني به أنّه كان مصبوغاً بلون المرّة الحمراء. وأمّا قوله «إنّ الوجع سكن» فإنّما كان ذلك السكون على طريق النقلة ولم يكن بتلك النقلة بحران على المكان حين كانت لأنّ الطبيعة ضعفت عن أن تقدر أن تنضج عند ذلك ما يحتاج إلى أن ينضج وتدفع ما يحتاج إلى أن يدفع ممّا كانت تتأذّى به. فقد قال إنّه كان «بعض الرشح» ودلّ بهذا الاسم على قلّة العرق ولم يمكن أن يكون بذلك الرشح بحران ولذلك قال أبقراط أيضاً: «إنّه لم يكن به بحران».
ثمّ قال من بعد: «إنّ الأمر كان بيّناً من الخروج ومن غيره» وعنى بالخروج إمّا خروج العرق من الجلد لأنّه كان يخرج قليلاً قليلاً أو خروج البراز فإنّه أتبع هذا بأن
قال: «وذلك أنّه نحو ابتداء حدوث وجع الأذن استطلق البطن» ولم يكن يمكن أن يكون العرق تامّاً والبطن مستطلق وكذلك لا يمكن أن يكون البحران بالاختلاف تامّاً فيمن يعرق عرقاً كثيراً. فأمّا ما قاله بعد هذا فهو بيّن عند من تدبّر ما شرحناه قبل من أمر المريض الذي قبل هذا.
وأمّا قوله «جفّت» فأولى الأشياء أن نفهمه عن الأذن وإنّ أبقراط إنّما أراد بقوله «جفّت» أنّ المدّة التي كانت تجري منها انقطعت وسكنت وكفّت. وقد قال قوم إنّه يجوز أن يكون أراد الفضلة من الأخلاط التي كان عنها المرض لأنّ تلك الأخلاط استفرغت بالعرق وبالمدّة التي انفجرت من الأذن.
وأمّا القول الذي أردف به هذا الكلام فهو قول قد قاله أبقراط مراراً كثيرة وهو: «إنّ الأمراض التي تسكن من غير إنذار يعسر أمر البحران فيها» ويعني بقوله «من غير إنذار» أيْ من غير أن تتقدّم فتظهر علامات تنذر بالبحران. وذكر في هذا الموضع مثالاً جزئيّاً يستدلّ به على هذا القول الكلّيّ وهو «الورم الذي أصاب جارية بولومارخس» فدلّ بذكره لهذا على أنّ ذلك الورم سكن من غير أن تظهر علامات الإنذار بسكونه فعسر أمر البحران فيها أيْ عاود وبقي مدّة طويلة وهو يتزيّد رداءة.
(١٠) قال أبقراط: كلّ حمّى تكون بعقب ورم اللحم الرخو الذي في الحالبين وغيره ممّا أشبهه فهي رديئة إلّا أن تكون ذات يوم وكلّ ورم من ذلك الجنس يكون بعقب حمّى فهو أردأ في الحادّ منها في أوّل الأمر وإذا انحطّ.
قال جالينوس: إنّ المعروف «بذات يوم» إنّما هو خاصّة في الحمّيات التي تكون يوماً واحداً من سبب ظاهر وقد يجوز أن تسمّى «أورام اللحم الرخو» «ذات يوم» إذا كانت من جرح ظاهر يكون من غيره أو من غيرها ومعنى قوله هذا هو ما أصف: إنّ أورام اللحم الرخو والحمّيات التي تكون من سبب ظاهر لا خطر فيها وأمّا ما سوى ذلك فهو رديء لأنّه يدلّ على ورم باطن. وقد وصف ذلك في كتاب الفصول إلّا أنّه أضاف إلى ما وصفه هناك ما في هذا الكتاب: «إنّ أورام اللحم الرخو أيضاً التي تتبع الحمّيات رديئة» بل لم يطلق القول فيقول إنّها «رديئة» لكنّه قال إنّها «أردأ» بقياس الحمّيات التي تقدّم ذكرها وذلك أنّه متى كانت الحمّى بعد أن تتمادى يعقب ورم اللحم الرخو فإنّ ذلك يدلّ على أنّ حال المريض قد ازدادت رداءة.
وإنّي لأعرف رجلاً كان مرضه يخيّل أنّه قد انحطّ ثمّ أصابته أورام في اللحم الرخو فلمّا كان بعد ذلك كرّت عليه الحمّى بحدّة فلم يلبث أن مات وبيّن أنّ
ذلك كان من قبل أنّ الأخلاط التي كانت في عروقه في ذلك الوقت انصبّت إلى بعض الأعضاء الشريفة. فقد يتبيّن لي في ذلك المريض أنّ كبده كانت تورّمت ولمّا كانت القوّة قد ضعفت وخارت من قبل حدوث ما حدث لتقادم العلّة لم تحتمل النقاء إلى أن ينفشّ ذلك الورم ولذلك ينبغي أن يفهم قوله «في أوّل الأمر أو إذا انحطّ» على هذا الوجه: كان أبقراط يقول إنّ ورم اللحم الرخو الذي يكون بعقب الحمّى أردأ ممّا يكون منه قبل الحمّى كان ذلك من أوّل المرض أو كان بعد أن يخيّل أنّه قد انحطّ.
وقد غيّر قوم هذه النسخة فجعلوا مكان قوله «في أوّل الأمر أو إذا انحطّ» هذا القول: «إذا كان في أوّل الأمر ينحطّ» وقالوا إنّ هذه علامة رديئة إذا كان ورم اللحم الرخو الذي يأتي بعقب الحمّى ينحطّ منذ أوّل أمره أيْ يسكن حين يظهر على أنّ سكونه مطلق ليس هو بعلامة رديئة لأنّه يدلّ على أنّ السبب الذي حدث منه إمّا أن يكون قد انقضى وإمّا أن يكون قد تنقّض. وقد قبل قوم ممّن فسّر هذا الكتاب هذه النسخة بعينها وزعموا أنّ قوله «إذا كان في أوّل الأمر ينحطّ» إنّما أراد به أنّه يذهب حتّى لا يرى منه شيء على غير الأمر الواجب.
وقد فسّر قوم من بعد هذه التفاسير ممّا يقبله العقل إلى أن جعلوا هذا القول افتتاح القول الذي بعده حتّى يكون الكلام على هذا المثال: «إنّه ينبغي أن ينظر في أمر الرياح التي فيما دون الشراسيف» مع سائر الأشياء التي تذكر بعد في أوقات المرض التي ذكرت كأنّه قال: «إنّه ينبغي أن ينظر في الأمراض الحادّة منذ
أوّلها إلى آخرها في أمر الرياح التي فيما دون الشراسيف» وفي سائر ما ذكر معها. إلّا أنّ الكلام يكون من أخبث الكلام وأردئه إذا أقرّ قوله «في أوّل المرض أو إذا انحطّ» على حاله ولم يجعل مكان «أو» «و» ثمّ فهم على هذا المعنى الذي قصد هؤلاء إليه فالأجود كان إذا فهموا الكلام على هذا المعنى أن يكونوا قد بدلوا الحرف الذي ذكرت وهو «أو» وجعلوا مكانه «واو» حتّى يكون الكلام على هذا المثال: «في الأمراض الحادّة في أوّل الأمر وإذا انحطّت فينبغي أن ينظر في الرياح التي فيما دون الشراسيف».
وقد قطع قوم الكلام عند ذكره «الرياح» وجعلوا ما يتلو ذلك ابتداء قول ثانٍ حتّى يكون معنى الكلام على هذا المثال: في الأمراض الحادّة منذ أوّلها إلى انحطاطها ينبغي أن ينظر في الرياح يعني «في النفس» لأنّ من عادة أبقراط أن يسمّي النفس «رياحاً».
وقد ادّعى قوم أنّه عنى «بالرياح» النبض ثمّ جعلوا الكلام الذي بعد هذا كما قلت منفرداً على حدته وفسّروه على هذا الطريق حتّى يكون افتتاح الكلام الثاني على هذا المثال: «فيما دون الشراسيف والفارغ الذي فيه انتفاخ ليّن».
(١١) قال أبقراط: الرياح فيما دون الشراسيف والفارغ الذي فيه انتفاخ ليّن والتمدّد الذي ليس هو في حدّ واحد من الجانبين والعالي المستدير في الجانب الأيمن
كاستدارة المتقيّح والآخر المستطيل جدّاً والآخر المنبسط والآخر المائل إلى أسفل والتمدّد من الجانبين إلى السرّة.
قال جالينوس: يعني أنّه ينبغي لك أن تتفقّد «ما دون الشراسيف» من الجانبين وتنظر كيف حاله هل فيه «رياح» غليظة نافخة مجتمعة حتّى «يتمدّد» منها موضع البطن كلّه أو ذلك الموضع كلّه «فارغ» يعني رخواً لاطئاً إلّا أنّه يتبيّن فيه تحت المجسّ «انتفاخ ليّن» يعني أنّك إذا غمزت عليه انخزل وهو الانتفاخ الذي يسمّيه الحدث من الأطبّاء «التربّل». وأمّا «التمدّد الذي ليس هو في واحد من الجانبين» فيعني به التمدّد الذي لا يكون إلّا في الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف ولا في الجانب الأيسر.
وذكر بعد هذا «العالي» فيما بين ذكره «التمدّد» وفيما بين ذكره «المستدير في الجانب الأيمن» وينبغي أن يكون عنى «بالعالي» المعنى الذي قصد إليه بقوله «كاستدارة المتقيّح» كأنّ أبقراط أراد أن يدلّ بقوله «العالي» على الورم الذي يرتفع وينجذب إلى فوق ومن شأن ذلك أن يكون في الأورام التي تتقيّح. ثمّ ذكر من بعد هذا ورماً حاله في شكله ضدّ هذا وسمّاه «المستطيل» وأضاف إلى «المستطيل» زيادة فقال «جدّاً» وهو يريد أن يدلّ على أنّ صورته مضادّة جدّاً لصورة الورم الذي ذكره قبله. ثمّ ذكر من بعد هذين ورماً آخر هو فيما بينهما في شكله وذلك
أنّ الورم الأوّل كان «مستديراً» شاهقاً إلى فوق منجذباً والورم الآخر كان «مستطيلاً جدّاً» وأمّا هذا الورم الذي ذكره بعد وسمّاه «المنبسط» فهو متوسّط فيما بينهما في شكله. وذكر أيضاً ورماً آخر رابعاً فقال: «والآخر المائل إلى أسفل» يعني المواضع السفليّة ممّا دون الشراسيف ثمّ ذكر مع هذه الورم «الممتدّ من الجانبين» يعني من الأيمن والأيسر «إلى السرّة».
وقد وصل قوم هذا القول بالقول الذي بعده وقرؤوهما متّصلين على هذا المثال: «والتمدّد من الجانبين إلى السرّة في حُزُم البدن كلّه إلى فوق» وفي بعض النسخ مكان «حُزُم البدن» «محاذاة البدن» وأسماء هذين الشيئين متقاربان في اللسان اليونانيّ. والأجود أن تجعل قوله «في حُزُم البدن كلّه إلى فوق» افتتاح الكلام الذي يأتي بعد هذا.
(١٢) قال أبقراط: في حزم البدن كلّه إلى فوق إن يتلفّف شيء إلى الاستدارة فإنّه إن كان ريحاً لطّف بالتكميد عن غير استفراغ فإن أفلت من هذا فإنّه يميل نحو التقيّح.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يعني بهذا الكلام الأورام التي تكون فيما دون الشراسيف التي يحسّ فيها صاحبها كأنّه شيء «يتلفّف» وقال إنّ هذه الأورام إن انفشّت وتحلّلت «بالتكميد من غير استفراغ» ظاهر فإنّ في ذلك دليل على أنّ ذلك العارض إنّما سببه «رياح» استكنّت في ذلك الموضع ويكون ذلك سبباً لبرئه
فإن تخلّص ذلك الورم من فعل ذلك العلاج فإنّه ينتقل إلى «التقيّح». وليس هذا بواجب لأنّه قد يكون من الأورام الحادّة فضلاً عن غيرها ما يسكن عن غير تقيّح. ونفس العبارة أيضاً التي عبّر بها على هذا المعنى حين قال: «فإن أفلت من هذا فإنّه يميل إلى التقيّح» عبارة رديئة خبيثة لأنّه إنّما يقال في الشيء إنّه «يفلت ويتخلّص» من الشيء الضارّ لا من الشيء النافع والتحلّل «بالتكميد» من الأشياء النافعة فيشبه بحسب ما وصفت من هذا أنّ هذا القول إنّما دُلّس في هذا الكتاب كما دلّس فيه أقاويل أخر كثيرة فيما بعد.
(١٣) قال أبقراط: التنفّس منه الصغير المتواتر والعظيم المتفاوت والصغير المتفاوت والعظيم إلى خارج والصغير إلى داخل والصغير إلى خارج والعظيم إلى داخل والذي يمتدّ والذي يسرع والعودة المتضاعفة إلى داخل كالذي يستنشق استنشاقاً بعد استنشاق والحارّ والبارد.
قال جالينوس: إنّ أبقراط وصف في هذا الكلام أصناف «التنفّس» الرديء وقد وصفت تلك الأصناف الصفة التامّة المستقصاة في ثلاث مقالات وضعتها في رداءة التنفّس. وأمّا الآن فإنّي إنّما أصف من أمرها ما يصحّ به هذا الكلام فقط فأقول إنّ «التنفّس» بحسب طبيعته ومنفعته تركّب من جزئين أحدهما إدخال الهواء
والآخر إخراجه ولزمه بالعرض سكونان أحدهما من بعد إدخال الهواء من قبل أن يروم إخراجه والآخر بعد إخراج الهواء من قبل إدخاله. «والتنفّس العظيم» هو التنفّس الذي يدخل فيه من الهواء أكثر ممّا يخرج «والتنفّس الصغير» هو الذي على حال مضادّة لهذا. ومتى كان الصدر يسكن سكوناً أكثر من السكون الطبيعيّ كان التنفّس «متفاوتاً» ومتى كانت مدّة سكونه قصيرة كان التنفّس «متواتراً». وإذا تركّبت هذه الأصناف الأربعة بعضها مع بعض كانت منها أربعة تراكيب الواحد منها أن يكون التنفّس «متواتراً صغيراً» والآخر ضدّه وهو أن يكون التنفّس «متفاوتاً عظيماً» والثالث هو الذي يكون التنفّس فيه «صغيراً متفاوتاً» والرابع هو الذي يكون فيه التنفّس «عظيماً متواتراً».
وقد سقط ذكر هذا التنفّس الرابع فلم يُذكر في هذا الكلام وقد ذكر في المقالة السادسة وفي هذا ما دلّك على أنّ نقصانه في هذا الموضع إنّما هو خطاء وقع في الكتاب الأوّل ثمّ بقيت النسخة على ذلك الخطاء إلى هذه الغاية كما قد نجد مواضع كثيرة قد وقع فيها الغلط في كتب كثيرة من الأوائل وبقي ذلك فيها إلى هذه الغاية. وقد وصفت الصفة الكاملة المستقصاة ما يدلّ عليه كلّ واحد من هذه التراكيب الأربعة في كتابي في رداءة التنفّس ووصفت ذلك أيضاً في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة وأمّا في هذا الموضع فإنّه إنّما غايتي كما قلت أن أذكر ما يتبيّن به هذا الكلام ويصحّ.
ومن بعد أن ذكر أبقراط ما ذكر من هذا قال: «والعظيم إلى خارج والصغير إلى داخل» يعني أن يستنشق هواء يسيراً ويخرج هواء كثيراً ثمّ ذكر ضدّ هذا فقال: «والعظيم إلى داخل والصغير إلى خارج» يعني أن يستنشق هواء أكثر ويخرج هواء أقلّ. ثمّ قال بعد هذا: «والذي يمتدّ والذي يسرع» وكأنّه أراد «بالذي يمتدّ» الذي يكون في مدّة أطول وأراد «بالذي يسرع» الذي يكون في مدّة أقصر. ثمّ قال بعد هذا: «والعودة المتضاعفة إلى داخل كالذي يستنشق استنشاقاً بعد استنشاق» ثمّ لم يتبع ذلك بنظيره في إخراج التنفّس وهو الذي ذكره في كتاب تدبير الأمراض الحادّة حين قال: «التنفّس الذي يتغيّر في خروجه» وقد ألغى ذكر هذا التنفّس أيضاً في المقالة السادسة من كتاب إفيذيميا.
وأمّا ما ذكره في آخر هذا الكلام وهو قوله «والحارّ والبارد» فدلّ به على أصناف التنفّس في الحرّ والبرد ولم يفهم ذلك عنه أرطاميدوروس وأصحابه فغيّروا هذا الكلام وكتبوه على هذا المثال: «كالذي يستنشق استنشاقاً بعد استنشاق بارد بعد حارّ» وليس نجد أحداً من قدماء المفسّرين يعرف هذه النسخة وقد جرّد أبقراط القول في كتاب تقدمة المعرفة فقال: «إنّ التنفّس البارد الذي يخرج من المنخرين والفم مهلك جدّاً». وقد تقدّمت ففسّرت كتاب تقدمة المعرفة في ثلاث مقالات
ووصفت هناك ما وصفته في كتابي في رداءة التنفّس ولذلك لم أر أن أعيده ثالثة في هذا الكتاب.
(١٤) قال أبقراط: دواء التثاؤب الدائم طويل التنفّس.
قال جالينوس: إنّ الأشبه كان أن يقول «طول التنفّس» لا «طويل التنفّس» لأنّ «طويل التنفّس» هو الإنسان الذي يتنفّس ذلك التنفّس «وطول التنفّس» هو الفعل الذي يسمّى الفاعل له «طويل التنفّس» مثل ما يقال من التنفّس «متنفّس» ومن الاستنشاق «مستنشق» فبالواجب يُذمّ هذا الطريق من الكلام وينسب إلى خبث الكلام ورداءة العبارة وكتب أبقراط الصحيحة بعيدة من هذا الطريق جدّاً أعني كتاب الجبر وكتاب ردّ الخلع وكتاب تدبير الأمراض الحادّة وكتاب الفصول وسائر ما أشبه ذلك والمقالة الأولى أيضاً والثالثة من كتاب إفيذيميا بعيدتان من هذا الطريق.
وكذلك ما قيل في هذه المقالة الثانية منذ أوّلها إلى مدّة كثيرة منها فإنّ كلامه في ذلك فإن كان فيه في بعض المواضع شيء من الغموض إلّا أنّه بعيد من خبث الكلام وسوء العبارة مثل الكلام الذي قد قدّمه قبل هذا في رداءة التنفّس فإنّه كلام وجيز ولذلك هو غامض إلّا أنّه ليس برديء العبارة. وليس يخلو الأمر من أحد شيئين إمّا أن يكون ثاسالوس بن أبقراط وهو الذي ذكروا أنّه جمع هذه المقالة
من تذكرات كان كتبها أبقراط ألحق مع ما جمع من ذلك هذا الكلام وشبيهه وإمّا أن يكون إنسان آخر من السوفسطائيّة جاء بأخرة فأحبّ أن يتكبّر عند تلاميذه بأنّه يقدر وحده دون غيره أن يفسّر شيئاً ليس يفهمه أحد غيره فألحق هذا الكلام المستنكر. وكيف كان هذا فإنّي تارك الكلام فيه وأروم ما أمكنني أن أقرب من معنى القائل لهذا الكلام.
فأقول إنّ «طويل التنفّس» هو الذي يتنفّس تنفّساً طويلاً. وقد عدّد أبقراط في القول الذي قبل هذا أصناف رداءة التنفّس فسمّى «عظيماً وصغيراً» ولم يذكر «طويلاً وقصيراً» أصلاً. فأمّا القائل لهذا القول فيعني «بالتنفّس الطويل» إمّا التنفّس العظيم وإمّا التنفّس الذي يكون في مدّة من الزمان طويلة وهو الذي ذكره في القول المتقدّم حين قال «والذي يمتدّ» وجعل بإزائه «الذي يسرع».
وقد يجوز أن يكون عنى «بالتنفّس الطويل» التنفّس الذي يكون معه سكون طويل المدّة من آلات التنفّس وجميع من فسّر هذه المقالة إلّا الخطاء فهموا هذا القول على هذا المعنى ورأوا أنّ معناه في قوله هذا أنّ حبس النفس مدّة طويلة دواء التثاؤب الكثير وقد يستعمل أصحاب الرياضة ذلك وهو أيضاً دواء الفواق. وذلك أنّ هواء النفس إذا حصر فبقي في الصدر مدّة طويلة ولم يطلق للخروج سخن ولطف
وانبسط فاضطرّ إلى أن ينفذ في المجاري التي لا يدركها الحسّ لكنّها تعرف بالقياس فإن كان في تلك المجاري رياح غليظة بخاريّة دفعها ذلك الهواء وأخرجها معه من البدن وفي هذا الفعل أيضاً تزداد الأعضاء التي تفعله قوّة. فإن كان ما قلناه صواباً من أنّ الرياح الغليظة إذا احتقنت في الأجسام العضليّة استفرغت من الطبيعة بعضها بالتثاؤب والتمطّي فواجب أن يكون «طول التنفّس» دواء لهذه الأعراض.
(١٥) قال أبقراط: وفيمن لا يشرب أو بكدّ قصير التنفّس.
قال جالينوس: أمّا القول الذي قبل هذا فكان سوء العبارة فيه في لفظة واحدة وهو قوله «طويل التنفّس» فأمّا هذا القول فهو في جملته سيّء العبارة. وذلك أنّه إن كان يعني «بمن لا يشرب» أصحاب السرسام لأنّه قال في كتاب تقدمة الإنذار: «إنّ أصحاب السرسام قليلو الشرب تروعهم الأصوات يرتعشون» وإن كان يعني «بمن لا يشرب» أصحاب الذبحة لأنّه قال فيهم إنّهم «بكدّ» ما يشربون لأنّهم إذا شربوا ارتفع ما يشربونه إلى مناخرهم فإنّ الأجود كان أن يصرّح فيقول «أصحاب
السرسام» «وأصحاب الذبحة» من أن يسمّي المرض من عارض يعرض لبعض أصحابه كأنّه يتعمّد الإغلاق واستعمال اللغز.
وقد نجد هذا القول مكتوباً في بعض النسخ على هذا المثال: «وفيمن لا يشرب أو بكدّ ما يشرب قصير التنفّس» وكان الأمر عندي أوّلاً أنّه ليس لهذا القول نسخة سوى هذه النسخة ولذلك ذكرت هذا القول في كتابي في رداءة التنفّس على هذه النسخة فقط ثمّ إنّي بعد وجدت في نسخ كثيرة مكان «قصير التنفّس» «طويل التنفّس» ووجدت أيضاً كثيراً ممّن فسّر هذه المقالة يعرف تلك النسخة. فلمّا رأيت ذلك دعاني ما رأيت منه إلى تفسير هذا القول على الوجهين جميعاً أحدهما الوجه الذي فسّرته عليه في كتابي في رداءة التنفّس والآخر الوجه الذي فسّرته عليه من قبل النسخة التي فيها مكان «قصير التنفّس» «طويل التنفّس».
وقد وقع أيضاً بين من قبل هذه النسخة اختلاف وذلك أنّه قد يجوز أن يقال في الإنسان «إنّه طويل التنفّس» من قبل عظم تنفّسه ومن قبل طول المدّة التي يكون فيها ومن قبل طول المدّة أيضاً على وجهين إمّا من قبل طول مدّة زمان الفعل وإمّا من قبل طول مدّة زمان السكون ولذلك عسر اختبار صحّة تفسير هذا القول.
وقد وقع مع هذا اختلاف ثانٍ في هذا القول من قبل أنّ قوماً فهموا قوله «دواء» في القول الذي تقدّم هذا مشتركاً بين ذلك القول وهذا القول وقالوا إنّه كما قال في ذلك القول: «إنّ دواء التثاؤب الدائم طول التنفّس» كذلك قال في هذا القول:
«إنّ دواء من لا يشرب أو بكدّ ما يشرب هو طول التنفّس». وقوم فهموا أنّه ليس يعني أنّ طول التنفّس دواء لهؤلاء ولكنّه إنّما يعني أنّه عرض لازم لهم.
فينبغي أن يجعل التفسير على الوجهين جميعاً ونبدأ أوّلاً بالنسخة التي فيها «قصير التنفّس». فأقول إنّ أصحاب السرسام وأصحاب الذبحة وهم الذين «لا يشربون إلّا بكدّ» إذا تغيّر نفسهم فصار إلى القصر كان ذلك علامة محمودة وذلك أنّ أصحاب اختلاط العقل يتنفّسون نفساً متفاوتاً وقد وصف ذلك أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة. وأصحاب الذبحة لضيق مواضع الحلق والحنجرة لا يقدرون أن يستنشقوا بسرعة من الهواء بمقدار ما يحتاجون إليه فإذا لم يقدروا على ذلك كان استنشاقهم له في مدّة أطول. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون القول بأنّه يعرض لهم طول التنفّس صحيحاً وإذا كان هذا واجباً أن يكون من نفس المرضى فواجب أن يتوهّم أنّ انتقاله إلى الضدّ علامة محمودة. وضدّ طول النفس هو قصر النفس أعني أن يكون النفس في مدّة قصيرة من الزمان وذلك يدلّ على أنّ مواضع الحلق والحنجرة قد عادت إلى حالها الطبيعيّة وليس يعرض فيها من الضيق بسبب الورم ما كان يعرض. ومن بردت منه أيضاً أعضاء التنفّس ولذلك يتنفّس نفساً صغيراً
متفاوتاً فقصر النفس فيه أيضاً علامة محمودة وسبب محمود. وذلك أنّه إذا فهم قصر النفس على قصر زمان سكون آلات التنفّس لا على زمان فعلها فقد يبيّن لك قبح الكلام الغامض أنّه مذهب اللغز من هذا أيضاً وهو أنّ الذين فسّروا هذا الكلام يعمدون إلى صنف واحد بعينه من أصناف التنفّس الرديء فينسبونه إلى نعوت متضادّة. من ذلك أنّ التنفّس يكون فيمن قد بردت منه نواحي القلب متفاوتاً صغيراً فيجوز بسبب تفاوته أن يسمّى صاحبه «طويل التنفّس» وبسبب صغره أن يسمّى «قصير التنفّس».
وأنا راجع إلى ما كنت فيه فأقول إنّ المريض الذي قد وصفت حاله إذا صار إلى حال لا يكون بين النفس والنفس منه مدّة طويلة يسمّى بحسب هذا «قصير التنفّس». ويصير تواتر تنفّسه كما قلت علامة محمودة فيه وسبباً محموداً لأنّ الحرارة الغريزيّة تنمي وتشتعل إذا روّحت ترويحاً متواتراً فإنّه كما أنّ الحرارة الغريزيّة إن كانت ملتهبة فمن شأن دخول هواء التنفّس أن يبرّد كذلك إذا كانت قد بردت فمن شأن دخول ذلك الهواء أن يشعلها وينميها بترويحه لها فعلى هذا الوجه تفسير النسخة التي فيها «قصير التنفّس» إذا فهمنا أنّه يعني أنّ قصر النفس علامة أو سبب لبرد صاحب قلّة الشرب.
فإن فهمنا قصر التنفّس أحد الأعراض التي تلزم صاحب هذه العلّة فليس يمكن أن يفهم ذلك في أصحاب اختلاط العقل وذلك أنّ التنفّس فيهم عظيم متفاوت وليس يمكن أن يسمّى واحد من هذين «قصيراً». وقد يمكن أن يفهم ذلك في أصحاب الذبحة على زمان السكون وذلك أنّ أصحاب الذبحة يكون منهم التنفّس إلى داخل وإلى خارج في زمان أطول لضيق نواحي الحنجرة والحلق فيجب من قبل ذلك أن تكون المدّة التي فيما بين الفعل والفعل فيهم قصيرة. فأمّا فيمن يتنفّس تنفّساً صغيراً متفاوتاً بسبب غلبة البرد على الحرارة الغريزيّة فقد يمكن أن يفهم قوله «قصير التنفّس» على قصر إدخال هواء النفس.
وإذ قد فرغنا من تفسير هذا القول على النسخة الأولى فإنّا نأخذ في تفسيره على هذه النسخة الثانية ونبحث وننظر هل «طول النفس» «فيمن لا يشرب أو بكدّ ما يشرب» علامة محمودة وسبب محمود أو ليس هو علامة ولا سبب لكنّه عارض من الأعراض التي تلزم ضرورة. فأقول إنّ طول التنفّس لأصحاب اختلاط العقل عرض لازم من الوجهين جميعاً أعني من طريق عظم تنفّسهم ومن طريق تفاوته لأنّه قد يجوز أن يكون عنى «بالنفس الطويل» النفس العظيم ويجوز أن يكون عنى به النفس المتفاوت وذلك أولى وهو النفس الذي يكون في مدّة طويلة. فأمّا في أصحاب الذبحة فإنّ طول التنفّس يكون عرضاً لازماً لهم على طريق حقيقة
استعمال هذه اللفظة وذلك أنّ النفس يمتدّ ويطول فيهم كما قلت ويكون أيضاً طول التنفّس فيهم علامة محمودة من قبل أنّ الورم إذا انتقص نقصت المدّة التي يكون فيها نفس الفعل وبحسب قصر تلك المدّة يكون طول المدّة بين كلّ فعلين وهو الوقت الذي يسكن فيه آلات التنفّس السكون التامّ. وفيمن يتنفّس أيضاً نفساً صغيراً بسبب غلبة البرد متى تزيّد ذلك التنفّس فقد يمكن أن يكون هذا علامة محمودة وسبباً محموداً كما قلت قبل عندما وصفت أنّ الحرارة الغريزيّة التي قد جمدت وطفئت تنتعش وتشتعل إذا حرّكتها وروّحتها آلات التنفّس.
(١٦) قال أبقراط: بإزاء أوجاع الأضلاع وتمدّدها دون الشراسيف وغلظ الطحال على المحاذاة يكون انبعاث المنخرين.
قال جالينوس: إنّ الذي يقصد إليه أبقراط بهذا الكلام هو هذا المعنى الذي نصف أنّ الرعاف إنّما يكون في أكثر الأمر «بإزاء» العضو الذي فيه العلّة على المحاذاة يعني من الجانب الذي هو فيه وإذا كان كذلك انتفع به في «أوجاع الأضلاع» وعند «التمدّد» الذي يكون «فيما دون الشراسيف» وعند ورم «الطحال».
(١٧) قال أبقراط: ما يبقى بعد البحران فإنّ من شأنه المعاودة. من ذلك أنّه قد يحدث في الطحال ورم متى لم تنصبّ الفضلة إلى المفاصل ولم يكن رعاف وقد يحدث التمدّد في الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف متى لم يدرّ البول فإنّ ذلك هو امتناعهما وعودتهما.
قال جالينوس: أمّا الجزء الأوّل من هذا القول فقد قاله أبقراط في كتاب الفصول وأمّا في هذا الموضع فأضاف إليه سببه بالشرح له من مثالين وضعهما وذلك أنّ البقايا التي تبقى من الأمراض كثيراً ما تحدث «في الطحال ورماً» وذلك يعرض لمن لم يسل إلى مفاصله فضل ولا أصابه «رعاف». وكثيراً ما يحدث من تلك البقايا «تمدّد في الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف» وأكثر ما يكون ذلك إذا كان لم يجر من المريض «بول» كثير.
وأمّا ما ألحقه في آخر هذا الكلام وهو قوله «فإنّ ذلك هو امتناعهما وعودتهما» فمعناه فيه ما أصف وهو أنّه ذكر عضوين تحدث بهما العلّة عند العودة جعلهما بمثالين للقول الذي قدّم أحدهما «الطحال» والآخر «الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف». وقال في علّة أحدهما أعني «الطحال» إنّه ليس يكون إذا كانت «المفاصل» قد سبق فجرى «إليها الفضل» أو كان الدم قد جرى وقال في علّة الآخر وهو «الجانب الأيمن» إنّه لا يكون متى كان «البول» قد «درّ» على ما
ينبغي. وذلك أنّ العودة تمتنع من أن تكون إذا بردت تلك البقايا فجرت بالرعاف أو بالبول أو انتقلت فصارت في المفاصل وتحدث العودة إذا لم تكون هذه الأمور. فيعني «بالامتناع» امتناع هذين أعني ما ينصبّ إلى الطحال وما ينصبّ إلى الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف «فالامتناع» هو امتناع حدوث تلك العلل والعودة تكون إذا لم يكن ذلك «الامتناع».
ومن عادة اليونانيّين أن يستعملوا هذه اللفظة أعني «الامتناع» إذا سبق قوم أعداءهم إلى مدينة أو بلد إذا تمكّنوا منه كانوا على أعدائهم ظهروا وهذا هو حقيقة هذه اللفظة عندهم وقد يستعملونها بالاستعارة على طريق التشبيه في أمور أخر كما استعملها أبقراط في هذا الموضع. وقد يمكن أن يفهم «الامتناع» على احتقان ما يستفرغ «بالرعاف» أو «بالبول» أو «بالانصباب إلى المفاصل» فإنّ هذه الأشياء إذا احتقنت ولم تستفرغ ولم تنتقل حدثت «عودة» المرض عندما «تنصبّ الفضول» إلى «الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف» أو إلى «الطحال».
(١٨) قال أبقراط: فقد ينبغي لك أن تعلم أنّه ينبغي لك أن تعين على الخروج وتميّل بعضه قليلاً إلى حيث ينبغي أن يكون. ومتى كان قبلته إذا كان حيث ينبغي والذي ينبغي وبمقدار ما ينبغي من غير أن تعينه وتمنع بعضه متى كان من جميع الوجوه لا ينتفع به. وأولى الأشياء أن يمتنع ذلك إذا كان مستعدّاً أن يكون فإن لم يكن ذلك فحين يبتدئ.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يأمرك أن تتفقّد أمر الأبدان التي تبقى فيها بقيّة من المرض بعد البحران وتنظر فإن كانت الطبيعة ليس تفعل شيئاً ممّا ينبغي أن تفعله لمنفعة البدن لا «بخروج» شيء ينفّذ من البدن ولا «بخروج» شيء يقبض في موضع من البدن هيّجتَ الطبيعة واستدعيتَ منها أن تفعل ذلك بعد أن تتدبّر الأمر وتنظر أيّ الخروج أحرى أن تنتفع به. فإنّه ربّما كان الأجود أن تستدعي من الطبيعة دفع الفضل إلى المفاصل وربّما كان الأولى أن تفتح أفواه العروق التي في المقعدة أو تدرّ الطمث أو تدرّ البول. وربّما كانت الطبيعة قد تحرّكت لدفع شيء إمّا أن تنفّذه وتخرجه وإمّا أن تقذف به إلى موضع يحدث فيه منه خراجاً إلّا أنّ العضو الذي تحرّكت الطبيعة لتدفع إليه ذلك الفضل ليس هو العضو الذي ينبغي أن تدفعه إليه فينبغي لك عند ذلك أن «تميّل» الفضل «قليلاً» إلى عضو آخر أقلّ خطراً من العضو الذي مالت إليه ولا يكون ذلك العضو ببعيد من العضو الذي مالت إليه.
فإنّ قوله «تميّل بعضه قليلاً» إنّما دلّ به على أنّه ينبغي أن يكون العضو الذي تستجرّ ما يسيل إليه عضواً بالقرب من العضو الذي مالت إليه الطبيعة وقد وصف أبقراط هذا الفعل في كتابه في الأخلاط. وشرحت أمر الخروج كلّها شرحاً تامّاً في تفسيري لذلك الكتاب وقد وصفت شيئاً منه في تفسيري لكتاب الفصول فقد ينبغي في هذا الموضع أن نصف جمل ما شرحناه هناك بإيجاز.
فقد قال أبقراط بعد أن قال ما قدّمت إنّه ينبغي أن يميّل من «الخروج ما كان حيث ينبغي» وكان الشيء «الذي ينبغي» أن يخرج «وبالمقدار الذي ينبغي» أن يخرج من غير أن تتكلّف شيئاً. وقد نصب أبقراط في هذا الكلام لك ثلاثة أغراض إذا قصدت قصدها ونظرت فيها علمت ما ينبغي لك أن تفعل وذلك أنّك إن رأيت أنّ الفضل إنّما يصير إلى الموضع الذي ينبغي أن يصير إليه ورأيت أنّ الشيء الذي يندفع هو الشيء الذي تعلم أنّه الفاعل للمرض ورأيت أنّ مقداره مقدار الشيء الذي حدث عنه المرض لم تحتج أنت حينئذ أن تتكلّف شيئاً. فإن أخلّ شيء من هذه الوجوه التي وصفت فينبغي أن تستصلحه فإن رأيت الخروج غير موافق في جميع الوجوه فينبغي أن تمنع من حدوثه. وإنّما يكون الخروج غير موافق في جميع الوجوه متى كان الموضع الذي مال إليه الفضل ليس ببعيد من الخطر وكان الشيء الذي يندفع إليه ليس هو الخلط الذي حدث عنه المرض ولا هو بمقداره فهذا الخروج خروج رديء وينبغي أن تمنعه «إذا ابتدأ» أن يحدث أو «إذا استعدّ أن يحدث». إلّا أنّ الخروج الذي قد ابتدأ في الخروج قد تمكّنّا تعرّفه فأمّا الخروج الذي لم يبتدئ بعد ولكنّه مزمع أن يبتدئ فليس تعرّفه من فعل الطبيب لكنّ من
فعل العرّاف فإن قال قائل إنّه متى حدث ثقل في عضو من الأعضاء أو حمرة أو غير ذلك ممّا أشبهه فذلك دليل على أنّ الفضل صائر إليه فليس ذلك ممّا يدلّ على خروج مزمع أن يكون لكنّه دليل على الخروج الذي قد ابتدأ أن يحدث.
فالذي ينبغي لك أن تفهم عنه فيما أحسب من قوله «إذا كان مستعدّاً أن يكون» هو ما أصف: فقد ترى كثيراً قوماً ينفثون الدم من قصبة الرئة أو من الصدر ومنهم من يقذفه من المعدة فمتى رأيت أحداً قد أصابه ذلك ثمّ برئ ثمّ عرض له في وقت من الأوقات مرض من الامتلاء فينبغي أن تحرص الحرص كلّه أن تباعد الفضل عن تلك الأعضاء الضعيفة إلى أعضاء أخر والأجود متى كان ذلك الامتلاء كثيراً أن تستفرغه.
وقد ترى أيضاً من النساء من تحتبس طمثها فيعرض لها من ذلك نفث الدم فإذا احتبس طمثها بعد فينبغي أن تخاف عليها وتحذر من مصير الفضل في تلك الأعضاء التي كان منها نفث الدم وعلى هذا المثال في صاحب الصرع ينبغي أن تتقدّم في إبعاد الأخلاط التي تكثر في بدنه عن الرأس وفي أصحاب أوجاع الكلى أن تباعد الفضل عن تلك المواضع التي تسرع إليها الآفة وكذلك تفعل فيمن ينصبّ الفضل الذي يجتمع في بدنه إلى عينيه أو إلى عضو آخر من أعضائه وقد رأيت ذلك قد حدث به مراراً كثيرة.
فإنّه ينبغي لك في مثل هؤلاء أيضاً أن تباعد الفضل إلى أبعد موضع تقدر عليه من المواضع التي تسرع إليها الآفة وفي سائر أشباه ذلك على هذا القياس. وقد يمكنك أن تستدلّ من خلقة البدن أيضاً على الأعضاء التي هي منه سريعة إلى قبول الآفة وإن كانت لم تحدث بها قبل ذلك الآفة. مثال ذلك أنّك متى رأيت بدناً الصدر منه ضيّق حتّى يكون الكتفان منه ناتئين بمنزلة الجناحين توقّعت لصاحب تلك الحال أن يحدث به نفث الدم.
(١٩) قال أبقراط: الرعاف الذي يكون في الرابع يعسر البحران معه.
قال جالينوس: فينبغي أن نبحث وننظر كيف قال أبقراط هذا وهو يقول في كتابه في تقدمة المعرفة هذا القول: «وقد يحدث لهؤلاء في الدور الأوّل رعاف فينتفعون به جدّاً» وقد قال أبقراط في ذلك الكتاب إنّه يعني «بالدور الأوّل» اليوم الرابع. فأقول إنّه يشبه أن يكون قول أبقراط في هذا الموضع «إنّ الرعاف الذي يكون في الرابع يعسر البحران معه» قولاً أثبته لنفسه تذكرة وهو يريد أنّ الرعاف الذي يكون في الرابع ولا يكون بالغزير يعسر البحران معه. وذلك أنّه قد تقدّم فقال في هذه المقالة التي نحن في تفسيرها قولاً آخر بهذا اللفظ: «الرعاف الكثير في
أكثر الحالات تكون به السلامة» فاكتفى في هذا الموضع بأن أطلق اسم الرعاف ولم يضف إليه أنّه «كثير» أو «غزير» ورأى أنّ في ذكره الرعاف مطلقاً من غير أن يستثني فيقول «كثير» أو «غزير» دلالة كافية على أنّه يعني به الرعاف المتوسّط بين قطر الدم من المنخرين وبين انبعاثه كثيراً دفعة وهو الذي دلّ عليه بقوله «الرعاف الكثير». فإنّ أحد هذه الثلاثة الأصناف وهو قطر الدم من المنخرين علامة رديئة والرعاف الكثير علامة محمودة من أقوى أسباب البحران والاستفراغ الذي بينهما بقدر نقصانه في الجودة عن أحمد الرعاف كذلك فضله على أردئه ولذلك «يعسر معه البحران». وعنى في هذا الموضع «بالبحران العسر» إمّا البحران الناقص وإمّا البحران الذي ليس بمأمون وأعني بغير المأمون البحران الذي ليس بالصحيح ولا موثوق به ولا يؤمن معه عودة المرض. وإلى هذا الموضع القول عامّ مشترك في الرعاف الذي يكون في كلّ يوم بحران إذا لم يكن بغزير.
فأمّا ذكره «للرابع» دون غيره فيجوز أن يكون على طريق المثال كما رأى قوم وسواء ذكر «الرابع» أو لو كان ذكر غيره من سائر أيّام البحران ويجوز أن يكون ذكر «الرابع» لأنّه مع ما هو يوم بحران هو مع ذلك منذر بالسابع إلّا أنّا قد نجد أبقراط يقول إنّ الحادي عشر أيضاً والسابع عشر من أيّام الإنذار فلعلّه إنّما ذكر «الرابع»
دونها لأنّه أوّل أيّام الإنذار. وأمّا أنا فأرى أنّه إنّما ذكر «الرابع» دون غيره لأنّ الأمراض الحادّة في أكثر الأمر إنّما يكون البحران فيها في الأيّام الأفراد والأمراض المزمنة يكون البحران فيها في الأزواج. ومن شأن البحران بالرعاف أن يكون في الأمراض الحادّة ولذلك قلّ ما يكون الرعاف في اليوم الرابع فأمّا في اليوم السابع والخامس فالذين يصيبهم الرعاف فيهما كثير جدّاً وبعدهما في التاسع والثالث فإذا رامت الطبيعة البحران في الرابع فلم تقدر أن تستتمّه طال المرض بطريق أنّ الرابع من أيّام الأزواج ولذلك قال: «إنّ الرعاف الذي يكون في الرابع يعسر البحران معه».
(٢٠) قال أبقراط: التي تغبّ يوماً وتأتي في الآخر بنافض تكون مع البحران من الخمسة إلى السبعة.
قال جالينوس: إنّ جميع من فسّر هذا القول إنّما يعرف نسخته على هذه من الحال خلا أرطاميدوروس وأصحابه فإنّهم كما غيّروا كلاماً كثيراً من كلام أبقراط كذلك غيّروا هذا القول أيضاً وكتبوا مكان «تكون مع البحران من الخمسة إلى السبعة» «نحو السابع». وكيف كتب هذا القول فهو قول غامض مستغلق شبيه
باللغز وخليق أن يكون من الأقاويل التي دلّست في هذا الكتاب وممّا يصحّح ذلك أنّا لم نجد إيراقليدس الذي من أهل طارنطس وهو أوّل من فسّر هذا الكتاب فسّر هذا القول ولا ذكره أصلاً.
وقد عرض لكثير ممّن فسّر هذا الكتاب في تفسيره هذا القول الشيء الذي قلت مراراً كثيرة إنّه يعرض في تفسير الكلام الغامض إلّا أنّ الذي أتوهّم أنّه عنى به هو ما أصف: إنّ الذين بهم حمّى تتركهم يوماً ثمّ تنوب عليهم في الآخر مع نافض قد تصيبهم النافض مع البحران أيضاً وذلك البحران ربّما كان في خمسة أدوار وربّما كان في سبعة أدوار.
وينبغي أن يفهم من قوله «تغبّ الحمّى يوماً» الحمّى التي تفارق وتقلع أصلاً في يوم تركها وفي هذه الحمّى تكون في أكثر الأمر في اليوم الآخر أعني في يوم نوبة الحمّى «نافض». ولا نكاد نجد حمّى الغبّ لا تكون معها نافض ولا نكاد أيضاً أن نجد من حمّى الغبّ ما يجاوز أربعاً وعشرين ساعة فتقلع إقلاعاً صحيحاً.
وقد يمكن أن يفسّر هذا القول بتفسير آخر على هذا الطريق وهو أنّ الحمّيات التي تفارق إذا كانت تنوب في اليوم الآخر مع نافض فبحرانها يكون في خمسة أدوار أو في سبعة حتّى يكون قوله «وتأتي في الآخر بنافض» استثناء فصل به هذه الحمّى من غيرها لأنّه ليس كلّ حمّى غبّ يكون البحران فيها كذلك أعني في
سبعة أدوار أطول ما يكون. وإنّما يكون البحران كذلك في حمّى الغبّ الخالصة فقط وهي التي ينقّى فيها البدن في اليوم الأوسط من الحمّى وتنوب فيها الحمّى بنافض غبّاً فإنّه إنّما ينبغي أن نفهم من قوله «وتأتي في الآخر بنافض» أن كانت تأتي في يوم نوبتها بنافض.
فأمّا الذين ظنّوا أنّه ليس يعني «بالخمسة» «والسبعة» الأدوار وإنّما يعني بها الأيّام فقد أخطؤوا وذلك أنّ أبقراط قال: «إنّ حمّى الغبّ الخالصة يكون البحران فيها أطول ما يكون في سبعة أدوار» فأمّا التي ليست بخالصة فقد تجاوز ذلك.
(٢١) قال أبقراط: سقوباس أصابته علل زكام ومرار وورم حلق فأثخنته واحتبس بطنه وأصابته حمّى دائمة واحمرّ لسانه وأصابه أرق وعرض له تمدّد في المراقّ شديد مستوٍ ينزل قليلاً قليلاً إلى أسفل في الجانب الأيمن وكان نفسه كالمتواتر وكان يجد ألماً فيما دون الشراسيف عند التنفّس وعند الحركة إلّا أنّ ذلك كان من غير سعال. فلمّا كان في اليوم الثامن من مرضه سُقي شيئاً من الدواء الذي يقال له «بابلس» فدفع ممّا يلي الشراسيف إلّا أنّه لم يخرج شيئاً. فلمّا كان من الغد عولج بشيافتين فلم ير لواحدة منهما أثراً إلّا أنّه بال بولاً غليظاً كدراً كدورة ملساء مستوية
ثابتة. فلمّا كان نحو العشاء صار بطنه ألين ممّا كان ووجد طحاله وارماً مائلاً إلى أسفل وكان شرابه الشراب الحلو المرّ. فلمّا كان في العاشر انبعث منه دم مائيّ من الجانب الأيسر ولم يكن بالقليل جدّاً ولا بالضعيف حينئذ وبال بولاً فيه ثفل راسب وتحته شيء مائل إلى البياض لاصق في أسفل القارورة رقيق ولم يكن يشبه المنى ولا كان مختلفاً وخرج من هذا شيء يسير. فلمّا كان من غد أتاه البحران وأقلعت عنه الحمّى. وانحدر منه شيء لزج في اليوم الحادي عشر وشيء سيّال من جنس المرار وكان بعض البول كثيراً في مقداره وفي الثفل الراسب فيه ومن قبل أن يشرب الخمر كان الثفل أبيض ثمّ إنّه بعد أن شرب الخمر قارب أن يكون بمنزلة زهرة الشراب. وخرج في اليوم الحادي عشر شيء كان لقلّته لزجاً شبيهاً بالبراز كدراً. وينبغي أن تنظر هل يكون بمثل هذا البحران لأنّ كذا كان الأمر في أنطيجانس.
قال جالينوس: أمّا أوّل هذا الكلام عند ذكره «الزكام والمرار» فمشكل وذلك أنّه يجوز أن يكون عنى أنّه عرض لسقوباس هذا زكام غريب لا يكاد أن يكون وهو أن كان ما كان يخرج من المنخرين شيئاً من جنس المرار لا شيء مائيّ كالذي من عادته أن يستفرغ من المنخرين في الزكام ويجوز أن يكون يعني أنّ الزكام الذي عرض له كان على نحو ما يكون عليه الزكام من أنّ الذي كان يستفرغ من المنخرين قد كان مائيّاً وكانت به أعراض من غلبة المرار في «ورم حلقه وحمّاه
الدائمة وحمرة لسانه وأرقه» فإنّ «الأرق» إنّما يكون ممّا هو من هذا الجنس من الأخلاط. فأمّا «اعتقال البطن» فليس يكون ضرورة من المرار وذلك أنّ المرار إن انصبّ إلى البطن عرض من ذلك ضدّ اعتقال البطن وإنّما يدلّ «اعتقال البطن» مع غلبة المرار على ميله إلى أعلى البدن وعلى مثل ذلك يدلّ «الأرق وورم الحلق وحمرة اللسان».
قال: وكان بسقوباس هذا «تمدّد في المراقّ» وإنّما قال أبقراط «المراقّ» وهو يريد به الغشاء الممدود على البطن مثل ما عنى في قوله: «إنّ ما كان من خروق المراقّ ممّا يلي العانة فهو في أوّل الأمر يسير الآفة على الأمر الأكثر» وربّما استعمل هذا الاسم أعني اسم «المراقّ» وهو يريد به جميع ما دون الصدر من ظاهر البطن وعلى هذا المعنى استعمل اسم «المراقّ» في هذا الموضع.
قال: كان في هذا الموضع بسقوباس هذا «تمدّد شديد في الجانب الأيمن» ولم يكن ذلك الورم في الكبد. وممّا يدلّك على ذلك أنّه قال: «إن التمدّد كان مستوياً ينزل قليلاً قليلاً إلى أسفل» والكبد إذا كان فيها ورم يتبيّن بالمجسّ فإنّه يكون بالمستدير أشبه منه بالمستطيل الذاهب إلى أسفل.
قال: «وكان نفسه كالمتواتر» وقد نجد النفس يزداد تواتراً بسبب الأورام المؤلمة التي تكون فيما دون الشراسيف لأنّ العضل الذي هنالك متّصل بالصدر. ولمّا قال «إنّه قد كان يجد ألماً فيما دون الشراسيف» استثنى فقال: «إلّا أنّ ذلك كان من غير سعال» وإنّما أراد بذلك أن يدلّ أنّ جميع آلات الصدر والرئة كانت سليمة لا آفة فيها في سقوباس هذا.
ولمّا كان بطن هذا المريض معتقلاً فسُقي بعض الأدوية المسهلة إمّا أن يكون أبقراط نفسه سقاه أو غيره ممّن كان يتولّى علاجه وسمّى ذلك الدواء في هذا الكتاب «بابلس» وسمّاه بعينه في كتاب تدبير الأمراض الحادّة «بفليون». إلّا أنّه لم يسهل بطنه على أنّ الدواء قد كان انحدر من المواضع العالية التي نحو الشراسيف إلى ما دون ذلك إلّا أنّ طبيعته لم تُجب إلى الإسهال إمّا لخصوصيّة طبع ذلك المريض وإمّا لقلّة ما سُقي من ذلك الدواء. ولعلّه أن يكون كان في موضع من أمعائه ثفل يابس صلب قد لحج وغصّ فيه فكان يحتاج إلى أن يستفرغ بحقنة قبل أن يسقى ذلك الدواء المسهل فإنّ الدواء المسهل إذا كان ضعيفاً لم
يقو على دفع الثفل العتيق اليابس الصلب الغاصّ اللحج في الأمعاء فلمّا لم تجب الطبيعة في سقوباس هذا إلى الإسهال «عولج بالشيافة» واحدة بعد أخرى.
وقال في «الشياف إنّه لم ير له أثراً» إمّا لأنّه ذاب وإمّا لأنّه اختطف وانتسف من قبل يبس الثفل. ولعلّه أن يكون لمّا كانت الطبيعة قد تحرّكت ومالت نحو البول من قبل ذلك لم يعمل الدواء المسهل ولا الشياف وازداد البطن يبساً.
فقد نجد أبقراط يقول: «إنّه بال بولاً غليظاً كدراً كدورة ملساء مستوية ثابتة» يعني أنّها كانت لا تتثوّر ولا ترسب ولذلك لمّا أن بال هذا البول «صار بطنه ألين» ممّا كان كما حكى أبقراط فلمّا انتقص ذلك التمدّد الذي قال قبل إنّه كان به في مراقّ بطنه تبيّن «طحاله» للمجسّ فوجد وارماً مائلاً إلى أسفل. وبسبب ذلك رعف من المنخر الأيسر فانتفع به وبسبب هذا أيضاً شرب «الشراب الحلو المرّ». ويعني «بالشراب الحلو المرّ» إمّا السكنجبين وإمّا ماء العسل المتّخذ من الشهد بعد أن يعصر منه العسل الذي يسمّيه اليونانيّون «أبومالي».
ثمّ قال بعد إنّ هذا الرجل بال بولاً حسناً وأتاه البحران في اليوم الحادي عشر وذلك أنّه قال: «إنّه انبعث منه في اليوم العاشر دم مائيّ من الجانب الأيسر ولم يكن ذلك بالقليل جدّاً ولا بالضعيف» يعني أنّه كان رعافاً قويّاً ثمّ أتبع ذلك بأن قال: «فلمّا كان من غد أتاه البحران وأقلعت عنه الحمّى». وقال إنّه في ذلك اليوم «انحدر منه» براز «لزج» وبراز غيره «سيّال من جنس المرار وكان بعض البول كثيراً في مقداره وفي الثفل الراسب فيه». وقال في ذلك الثفل إنّه كان يشبه «بزهرة الشراب» ويعني «بزهرة الشراب» الشيء الأبيض الذي يقوم على الخمر طافياً في أعلاه.
فأمّا ما قاله بعد هذا وهو قوله «إنّه خرج في اليوم الحادي عشر شيء كان لقلّته لزجاً» فلم يتبيّن هل أراد به البول أو البراز. وقد نجد في بعض النسخ «وخرج في اليوم الحادي عشر شيء كان إلى القلّة وشيء لزج شبيه بالبراز كدر» وهذه النسخة أشدّ استغلاقاً من الأولى والأولى على حال أصلح. وينبغي أن يسوق ذلك الكلام كلّه متّصلاً على هذا الطريق: «إنّه خرج في اليوم الحادي عشر شيء كان لقلّته لزجاً شبيهاً بالبراز كدراً» وخليق أن يكون معناه في هذا ما أصف: إنّه انحدر في اليوم الحادي عشر براز لزج من جنس الرجيع كدر وذلك لأنّ الشيء الذي كان في المعاء المستقيم كان قليلاً فإنّه متى كان الشيء الذي يخرج كثيراً كان ليّناً رقيقاً مائيّاً في قوامه ولم يكن لزجاً ولا شبيهاً بالبراز ولا كدراً.
قال: «وينبغي أن تنظر» في أمر هذا البراز «هل يكون بمثله بحران». قال: «لأنّ كذا» كان البراز الذي خرج من أنطيجانس.
(٢٢) قال أبقراط: التعقّد الذي كان يرم نحو اللسان في أهل بارنثس كان وإن كان يسيراً يؤول إلى التحجّر. ومن جنس هذا ما يتولّد في أصحاب النقرس في المفاصل الضعيفة وهذا هو السبب في طبيعة العظام وفي صلابة ما يصلب ويتمدّد.
قال جالينوس: إنّ أبقراط ذكر علّة عامّيّة عرضت لأهل المدينة التي يقال لها «بارنثس» وأضاف إلى ذكره ما ذكر منها ما سبب تولّدها وهو كان سبب تلك العلّة. وذلك أنّ السبب في تولّد جميع أشباه هذه الأشياء إنّما هو خلط غليظ تعمل فيه الحرارة الزائدة حتّى تجمّده كما تتولّد الحجارة التي تتولّد في القدور التي يسخّن فيها الماء للحميات. والعلّة التي تولّدت «نحو اللسان في أهل بارنثس» هذا كان السبب فيها وذلك أيضاً هو السبب في تولّد ما يتولّد من «الحجارة في المفاصل» في أصحاب علل المفاصل. قال: «وهذا هو السبب أيضاً الذي من قبله حدثت الصلابة في طبيعة العظام». قال: «وكذلك أيضاً كلّ ما يصلب ويتمدّد». فإنّما الأسباب التي تصير بها إلى تلك الحال هذه الأسباب بأعيانها وقد وصفنا في غير هذا الكتاب تلك الأسباب فقلنا إنّها كيموس غليظ لزج وحرارة ناريّة
تقوى أن تنقّي وتفني ما في تلك الأخلاط من الشيء اللطيف المائيّ وتجمع ما فيها من الشيء الغليظ اللزج وتجمّده.
(٢٣) قال أبقراط: امرأة إبسطراطس أصابتها حمّى ربع لبثت عليها سنة ثمّ إنّها تحدّدت ببرد شديد جدّاً وتبيّن الأمر بياناً ظاهراً أنّه انبعث إلى البدن كلّه وبدا منها عرق وجاءها من الطمث شيء أزيد في مقداره وفي مدّة وقته فإنّهم قد كانوا يتوقّعون عند ذلك ولم يكونوا يرون أن يقطعوا الخروج.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام أيضاً كلام غامض مستغلق شبيه باللغز ومن أغمض ما فيه قوله «تحدّدت» فإنّ هذه اللفظة إنّما تستعمل على الحقيقة على الأورام التي تتقيّح وذلك أنّا نقول «إنّ الورم قد تحدّد» أعني أنّه قد صار له رأس حادّ. إلّا أنّا قد نجد سوء العبارة في كلام كثير من هذه المقالة ولذلك تأوّل قوم من قوله في «الربع إنّها تحدّدت» أنّ الطبيعة تحرّكت فيها للبحران فأحدثت خروجاً «بعرق» وقالوا إنّ ممّا يوافق ذلك قوله «إنّها تحدّدت ببرد شديد جدّاً» فإنّه إنّما عنى بذلك أنّه أصابها من النافض الشديد البارد مع الرعدة أكثر ممّا كان يصيبها أوّلاً. وهذا هو الذي سمّاه «الانبعاث إلى البدن كلّه» يعني انبعاث السبب الذي عنه كانت حدثت الربع وخرج أيضاً ذلك الشيء المؤذي بالعرق. وهذه
الأصناف من الاستفراغ عنده جنس من الخروج الذي يبرز وكذلك أيضاً الحال في درور «الطمث» الأزيد في نفس الاستفراغ وفي مدّة الزمان الذي كان فيه. ولذلك ذكر في آخر قوله «الخروج» عندما قال: «ولم يكونوا يرون أن يقطعوا الخروج» فقد دلّ بذلك أنّ الاستفراغ بالوجوه التي تقدّم ذكرها كان على طريق الخروج والبحران ولذلك قال: «إنّهم لم يكونوا يرون أن يقطعوه» على أنّه قد ذكر أنّه كان قد جاوز المقدار المعتدل.
(٢٤) قال أبقراط: في انبعاث الدم الذي معه ضربان ينبغي أن يتلطّف للعضو شكلاً موافقاً وفي جميع ذلك أن يغيّر العضو عن الشكل الذي يكون فيه مائلاً إلى أسفل جدّاً حتّى يصير مائلاً إلى فوق. والشدّ عند الفصد يحرّك والشديد منه يقطع.
قال جالينوس: إنّ قوماً فهموا عنه من قوله «انبعاث الدم الذي معه ضربان» الدم الذي يجري من العروق الضوارب وفهم عنه قوم من ذلك انبعاث الدم الذي يكون معه ورم حارّ معه ضربان مؤلم. وأصناف العلاج العامّيّة التي يعالج بها انبعاث الدم كلّه هي «الشكل الموافق» والأدوية التي بعضها مغرّية مسدّدة وبعضها قبّاضة وبعضها محرقة مكويّ واستعمال الفتيلة حيث يمكن أن تستعمل وشدّ العروق التي ينبعث منها الدم واستعمال الرباط الذي يلفّ على العضو على ما ينبغي. ومتى
كان في العضو الذي يجري منه الدم ورم يضرب ضرباناً مؤلماً فليس يمكن أن يستعمل فيه جميع هذه الأصناف من العلاج وذلك أنّه لا يحتمل الأدوية التي تحرق وتكوي ولا شيئاً معه تلذيع أصلاً ولا يحتمل أيضاً أن يعلّق العرق بصنّارة ويربط بخيط ولا أن يدخل في الجرح فتيلة ولا أن يسدّ سدّاً عنيفاً فالذي بقي ممّا يمكن أن يعالج به الأدوية الضعيفة وهي المغرّية والقبّاضة «والشكل الموافق».
والغرض في وجود «الشكل الموافق» أمّا العامّ في جميع الأعضاء التي ينبعث منها الدم «فميل» العضو «إلى فوق» وأمّا في العضو الذي فيه مع انبعاث الدم ورم يضرب فقد يحتاج في ذلك إلى استقصاء شديد وليس يمكن أن يزاد على المقدار المعتدل ولا ينقص منه ولو شيء يسير جدّاً ألّا ضرّ ذلك. وذلك أنّك إن نقصت منه شيئاً لم تنتفع بتمييلك العضو إلى فوق شيئاً وذلك أنّك ليس تقدر أن تعالجه بشيء غيره إذ كانت سائر أصناف العلاج ممتنعة وإن زدت على ما ينبغي في تمييلك العضو إلى فوق تمدّد العضل فتبع تمدّده وجع وضرر ذلك على العضو الوارم عظيم. فأمّا العضو الذي ينبعث منه الدم وليس فيه ورم يضرب فليس يحدث فيه من ذلك الشكل كبير مضرّة لأنّ العضو الصحيح يحتمل ذلك الألم الحادث من ذلك الشكل لقلّته مع أنّا أيضاً ليس نميّل العضو إلى فوق تمييلاً شديداً جدّاً حذراً من الوجع وإن كان لا ورم فيه. فأمّا العضو الذي فيه ورم ضارب فإنّ شكله
متى كان فيه بعض المؤونة وإن كانت يسيرة فإنّه يحدث وجعاً شديداً ويعرض في العضو الذي هذه حاله تسكين الوجع لا بالشكل فقط لكنّ بشيء من سائر أصناف ما يعالج به.
فبالواجب قصد أبقراط قصد الشكل الموافق خاصّة في انبعاث الدم الذي يكون معه ورم حارّ. فإن فهمت من قوله «انبعاث الدم الذي يكون معه ضربان» انبعاث الدم الذي يكون من العروق الضوارب لم تجد شيئاً يخصّ هذه لا من أمر الشكل ولا من أمر الربط بالخيط ولا من أمر استعمال الأدوية ولا من إدخال الفتيلة ولا من السدّ ويكون قوله «الذي معه ضربان» فضلاً باطلاً. فعلى هذا ينبغي أن يتأوّل الجزء الأوّل من هذا القول الذي تقدّم وأمّا ما يتلوه فإنّي معيده وآخذ في شرحه.
(٢٥) قال أبقراط: وفي جميع ذلك أن غيّر العضو عن الشكل الذي يكون فيه مائلاً إلى أسفل جدّاً حتّى يصير مائلاً إلى فوق.
قال جالينوس: قوله «في جميع ذلك» قد يجوز أن يكون عنى به جميع «انبعاث الدم الذي معه ضربان» ويجوز أن يكون عنى به جميع انبعاث الدم مطلقاً فيكون أثبت لنفسه تذكرة أنّه ينبغي في «انبعاث الدم الذي يكون معه ضربان» أن يستقصى النظر في تقدير الشكل ويحذّر في جميع «انبعاث الدم كان معه ضربان» أو لم يكون من الأشكال المفرطة. والأشكال المفرطة شكلان الشكل الذي يكون العضو فيه مائلاً
إلى أسفل ميلاً كثيراً والشكل الذي يكون العضو فيه مائلاً إلى فوق ميلاً مفرطاً فأمّا الأشكال التي فيما بين هذين الحدّين فضررهما يسير. وقد يمكن الطبيب أن يستعمل فيه من الأشكال ما فيه بعض المؤونة إذا منعه مانع من أن يجعل العضو في الشكل الذي هو في غاية الاعتدال.
(٢٦) قال أبقراط: والشدّ عند الفصد يحرّك والشديد منه يقطع.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً منه إنّما أراد به انبعاث الدم وخاصّة ما يمكن منه حبسه برباط يشدّ به العضو حتّى يضغطه. ومن البيّن أنّه ينبغي أن يبتدئ بالشدّ من الناحية السفلى من العضو ويتراقى به قليلاً قليلاً إلى فوق فإنّه إن أرخى في هذا الشدّ قليلاً حتّى لا يلزم العضو ويضغطه كان على استفراغ الدم أعون كما قد نرى الأمر في الذين يفصد لهم العرق. وقد نرى فيهم أيضاً ضدّ هذا إذا أفرطنا في شدّ العضو وضغطه وذلك أنّه إذا كان ذلك لم يجر الدم أصلاً وإن كان الفصد فصداً واسعاً.
(٢٧) قال أبقراط: يخيّل إليّ أنّ البدن الكثير الدم الكثير المرار هو صاحب الجشاء الحامض وخليق أن يكون الأمر في هؤلاء يؤول إلى السوداء.
قال جالينوس: قد ظنّ قوم أنّ «الجشاء الحامض» إنّما يكون من إفراط الحرارة في المعدة وجعلوا دليلهم على ذلك ما نرى من أنّ اللبن يحمض في الهواء الحارّ
أكثر ممّا يحمض في الهواء البارد ومن أنّ الخمر التي ليست بناقية ليست تحمض في الشتاء بل في الربيع والصيف. وقد بيّنت في كلامي في أمر الجشاء الحامض أنّه متى كانت الحرارة معتدلة ثمّ الهضم في المعدة استكمل استكمالاً صحيحاً ومتى كانت الحرارة أزيد من المقدار المعتدل استحال الطعام إلى الدخانيّة ومتى كانت الحرارة أنقص من المقدار المعتدل وكأنّها فاترة فإنّها تقلب الطعام إلى الحموضة.
ومن أصوب الأقاويل وأصحّها أنّ المزاج السوداويّ ليس يكون منذ أوّل الأمر وإنّما يحدث في «الأبدان التي الدم فيها والمرار كثيران». وذلك أنّي قد بيّنت أنّ المرّة السوداء إنّما تتولّد من المرّة الصفراء والدم إذا سخنا بأكثر ممّا ينبغي وعرض فيهما شبيه بالاحتراق ولذلك يعرض «الجشاء الحامض» لأصحاب «الدم الكثير والمرار الكثير» إذا مالوا إلى السوداء وأصحاب المرّة السوداء في أكثر الأمر يعرض لهم كثيراً «الجشاء الحامض».
ويشبه أن يكون قول أبقراط في هذا الكلام «وخليق أن يكون الأمر في هؤلاء يؤول إلى السوداء» إنّما قاله لهذا السبب كأنّه أراد أن يحدّد ويلخّص بعد ما قاله أوّلاً عن غير تحديد ولا تلخيص. وأعني «بالشيء الذي قاله عن غير تحديد ولا تلخيص» قوله «إنّ البدن الكثير الدم الكثير المرار هو صاحب الجشاء الحامض»
فإنّ هذا القول ليس يصحّ في جميع الأبدان «الكثيرة الدم والكثيرة المرار» وإنّما يصحّ خاصّة في الأبدان التي قد مالت إلى السوداء.
وقد يدلّك حواشي هذا الكلام على أنّه كلام رجل هو يُعدّ في البحث والطلب بحقائق الأمور وقد قرب منها وأشرف عليها إلّا أنّه لم يعلمها علماً يستيقنه ويثق به. وذلك أنّه لم يطلق قوله فيقول: «إنّ البدن الكثير الدم الكثير المرار هو صاحب الجشاء الحامض» لكنّه استظهر فقال: «يخيّل إليّ» ولم يحزم أيضاً فيقول: «إنّ الأمر في هؤلاء يؤول إلى السوداء» لكنّه استظهر فقال: «وخليق أن يكون».
وهذا القول كان قولاً قاله أبقراط أو ثاسالوس ابنه فإنّه قول قريب من الحقّ وليس يستكمل لحقيقة الأمر فأمّا جملة رأي أبقراط على ما بيّنت في غير هذا الكتاب فهو ما أصف: يقول إنّ الحرارة الكثيرة الخارجة عن الاعتدال تفسد الطعام فتصيّره إلى الدخانيّة والحرارة الناقصة عن الاعتدال تفسد الطعام فتصيّره إلى الحموضة. وذلك أنّه ربّما كان من البلغم وربّما كان من المرّة السوداء فإنّ الأخلاط الباردة في البدن إنّما هي هذان الخلطان فقط. وقد نعلم أنّه قد تحدث من قبل طبيعة الأطعمة نظائر هذه الأصناف لسائر الهضم إلّا أنّ كلامه في هذا الموضع ليس هو في الأطعمة لكنّه في مزاج المعدة.
(٢٨) قال أبقراط: إنّ النافض أكثر ما تبتدئ في النساء من أسفل الصلب ثمّ تتراقى في الظهر إلى الرأس وهي أيضاً في الرجال تبتدئ من داخل البدن أكثر ممّا تبتدئ من خارجه مثل ما تبتدئ من الساعدين والفخذين. والجلد أيضاً هناك متخلخل ويدلّ على ذلك الشعر.
قال جالينوس: قد وصفنا هذا المعنى في كتاب الفصول ونحن واصفون الآن جملة بإيجاز. وأوّل الأمر أنّ النساء أسرع إلى «النافض» من الرجال من الأسباب المتساوية وذلك أنّ المرأة أبرد في طبيعتها من الرجال والثاني أنّ ما وراء البدن أسرع إلى النافض من مقدّمه لأنّ الوراء أبرد وهذا يعمّ النساء والرجال والذي يخصّ النساء أنّهنّ إلى النافض أسرع.
والمواضع «الداخلة» من اليدين والرجلين أسرع إلى حسّ النافض من المواضع «الخارجة» وأمّا في كتاب الفصول فقال: «إنّه تبتدئ من خلف أكثر ممّا تبتدئ من قدّام» يعني أنّ تلك المواضع تحسّه قبل هذه. وإن أحببتَ استعمال الأسماء على حقائقها فإنّك تقول في العضدين والفخذين إنّ المواضع الخلف منها ما
يبتدئ فيها حسّ النافض قبل المواضع التي من قدّام وتقول في الساعدين إنّ المواضع التي منها من داخل أعني من باطنها تحسّ بالنافض قبل المواضع التي من خارج أعني من ظاهرها.
فأمّا القول الذي قاله في آخر كلامه حين قال: «والجلد أيضاً هناك متخلخل ويدلّ على ذلك الشعر» فيجوز أن يكون نسقاً على جملة كلامه في الرجال ويجوز أن يكون نسقاً على كلامه في اليدين والرجلين والقول يصحّ على الوجهين جميعاً. وذلك أنّي قد بيّنت في كتاب المزاج أنّ كثرة الشعر دليل على تخلخل الجلد وذلك يكون من قوّة الحرارة الغريزيّة والرجال لمّا كانوا أسخن من النساء كان الشعر فيهم أكثر وفي الأعضاء التي ذكرت فإنّ الشعر في المواضع التي هي منها من قدّام ومن خارج أكثر.
(٢٩) قال أبقراط: أمّا متى كانت الأشياء التي تصيب المرأة في أوقاتها المحدودة ليس يكون منها شيء قبل وقته فإنّ الذي يولد يكون مولوداً تامّاً. والأشياء التي تظهر بعد تكون في الشهور التي تكون فيها والأوجاع في الأدوار.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام قد وقع فيه اختلاف كثير وغيّر لفظه أيضاً تغييراً كثيراً على أنحاء شتّى. وقد نجد هذا القول بعينه مكتوباً في المقالة السادسة من
كتاب إفيذيميا إلّا أنّه بكلام أتمّ من هذا. وفي ذلك ما دلّك على صحّة ما لا أزال أقوله كثيراً وهو أنّه قد وقع السقط والخطاء في كثير من كتب الأوائل وخاصّة فيما لم يسلكوا فيه منها مسلك الكتب المدوّنة وإنّما جعلوها تذكرات لأنفسهم. ومن ذلك أنّا نجد هذا القول في المقالة السادسة من كتاب إفيذيميا مكتوباً على هذا المثال: «أمّا متى كانت الأشياء التي تصيب المرأة في أوقاتها المحدودة ليس يكون منها شيء قبل وقته فإنّ المولود يتربّى وأمّا متى كانت في ثمانية أشهر فإنّ المولود لا يتربّى». وخليق أن يكون إنّما عنى في هذا الموضع «بالمولود التامّ» المولود الذي يتربّى حتّى يكون معناه ما أصف: إنّ الذي يعيش ويتربّى بعد أن يولد من الأجنّة هو ما لم يعرض عارض في الأوقات المحدودة لها لا في وقت الولاد ولا قبله لكنّ الولاد يكون في وقته المحدود لا قبله ولا يعرض عارض آخر أصلاً في جميع وقت الحمل إمّا من الأعراض التي هي غريبة خارجة أصلاً عمّا لا يزال يكون وإمّا من الأعراض التي قد تكون إلّا أنّها تكون في غير وقتها.
وأعني «بالأعراض الغريبة» أن يكون الطمث دائماً يجيء المرأة في وقت حملها إلى أن يمضي بها شهران أو ثلاثة وأن تشتهي من الأطعمة أو من الأشربة شيئاً
غريباً رديئاً جدّاً بعيداً من التدبير الذي من عادة الحوامل أن يتدبّرن به وأن لا يتحرّك الجنين أصلاً في جميع وقت الحمل فإنّ هذا أيضاً عارض غريب غير مشاكل للحمل الطبيعيّ. ومن الأعراض الغريبة أيضاً أن يعرض للمرأة في وقت حملها كثيراً وجع في أعضاء التوليد وأن تعرض لها نافض وأن تصيبها حمّى وأن تنفث الدم وأن يضمر أحد ثدييها أو كلاهما جميعاً. فجميع هذه الأعراض أعراض غريبة خارجة أصلاً عمّا جرت به العادة في المرأة التي يتمّ حملها.
وأمّا الأعراض التي تكون في غير وقتها فالشهوات التي من عادتها أن تعرض للحوامل والأعراض التي تعرض في الثديين من انتفاخ فقط يحدث فيهما وتولّد اللبن مع ذلك وحركة الجنين أيضاً إذا كانت أنقص وأضعف وتكون في الأوقات التي لا ينبغي فليست من العلامات المحمودة.
وسأخبرك فيما يذكر بعد أيّ الأوقات هي الأوقات التي ينبغي أن تكون فيها هذه الأشياء. وقد يكتفي بما قلنا من هذا في الجزء الأوّل من هذا القول إذ كنّا من الحذر من التطويل في ذكر ما يستغني عن ذكره على ما لم يزل قصدنا إليه منذ أوّل الأمر.
وينبغي أن نأخذ الجزء الثاني من هذا القول وهو الذي قال فيه: «والأشياء التي تظهر بعد تكون في الشهور التي تكون فيها». وقد أضاف قوم هذا الكلام إلى الكلام الأوّل وعزله قوم عنه وأفردوه على حدته والذين أضافوا هذا الكلام إلى الكلام
الذي قبله يريدون أن يكون القول كلّه على هذا المثال: «إنّ المرأة إذا كانت حاملاً فلم يعرض لها قبل الوقت المحدود عارض من أمر ولادها فإنّها تلد طفلاً يتربّى. وما يظهر بعد ذلك في وقت الحمل يكون في الشهور التي ينبغي أن يظهر فيها» وقد قال قوم من هؤلاء إنّه ينبغي أن يضاف إلى «ما يظهر بعد» «〈من〉 أمر الطمث أن يكون قبل الحمل على ما ينبغي أن يكون عليه» وينقطع «في وقت الحمل لا يكون منه شيء أصلاً».
وأمّا الذين أفردوا هذا الكلام عن الكلام الأوّل فقالوا إنّ أبقراط يأمر في هذا الكلام الأوّل أن ينظر في «الأشياء التي تظهر بعد» في أيّ الشهور تكون. وقد قال هؤلاء أيضاً إنّ «الأشياء التي تظهر بعد» هي الأشياء التي تظهر في وقت الحمل ومنهم من أضاف إلى تلك «ما يكون قبل الحمل» مثل ما قال أصحاب القول الأوّل.
وقد وجد هذا الكلام على نسخة أخرى مباينة لهذه النسخة ويرومون أصحاب تلك النسخة تفسيرها فيأتون بأشياء بعيدة جدّاً ويطيلون الكلام حتّى يذكروا ما وصفه أبقراط في أوّل كتابه في طبيعة الجنين حين قال: «إنّ المنى من الفريقين إذا لبث في الأرحام» ثمّ يذكرون بعد هذا كلاماً كثيراً ممّا وصف في ذلك الكتاب في أمر الجنين. وذلك أنّ الكلام إذا كان غامضاً وجد كلّ واحد من الناس السبيل
فيه إلى أن يقول ما يهوى ويتّسع أيضاً المتأوّل له العذر أن لم يأت في تأويله بشيء مقنع.
وقد حذف قوم من أوّل هذا الكلام قوله «أمّا» فكتبوا «متى كانت الأشياء التي تصيب المرأة في أوقاتها المحدودة ليس يكون منها شيء قبل وقته فإنّ الذي يولد يكون مولوداً تامّاً» وقد كتب قوم مكان قوله «قبل» «بعد» وبالجملة فقد غيّروا هذا الكلام على أنحاء كثيرة شتّى.
(٣٠) قال أبقراط: والأوجاع في الأدوار.
قال جالينوس: قد أضاف قوم هذا القول إلى الكلام الذي قبله وأفرده آخرون على حدته وكيف أنزل أمره فالمعنى فيه أنّ جميع «الأوجاع» التي تصيب الحامل إنّما يجري أمرها على «أدوار» وخليق أن يكون الأمر كذلك في الأوجاع التي تصيبها قبل الحمل إذا حضر وقت الطمث. وقد وصف بعد قليل تلك الأدوار أيّ الأدوار هي.
(٣١) قال أبقراط: الذي يتحرّك في السبعة يتمّ في ثلاثة أضعافها والذي يتحرّك في التسعة يتمّ في ثلاثة أضعافها.
قال جالينوس: هذا القول قول قد قاله في كتابه في الغذاء وينبغي أن تفهم عنه من قوله «السبعة» «والتسعة» لا الشهور ولا الأيّام لكنّ العشرات. وذلك أنّ الطفل الذي من شأنه أن يولد في سبعة أشهر «يتمّ» في مائتين وعشرة أيّام «ويتحرّك» حركته الأولى إذا أتى عليه سبعون يوماً منذ أوّل تكوّنه والطفل الذي من شأنه أن يولد في تسعة أشهر يكون وقت حمله مائتين وسبعين يوماً «ويتحرّك» حركته الأولى إذا أتى عليه تسعون يوماً.
(٣٢) قال أبقراط: إنّ بعد علّة المرأة يوجد الفتح إمّا من الأيمن وإمّا من الأيسر والرطوبة ممّا يخرج واليبس في التدبير.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام كلام مستغلق غامض شبيه باللغز ولذلك يكتب على نسخ مختلفة ويفسّر بتفاسير مختلفة على حسب اختلاف تلك النسخ. وإن أنا رمت وضع تلك النسخ والتفاسير كلّها طال الكلام وخرج عن المقدار القصد ولذلك رأيت أن أقتصر على ذكر النسخ والتفاسير التي هي أشبه.
وأوّل تلك التفاسير هذا أنّ «من بعد علّة المرأة» يعني من بعد النقاء من الطمث توجد رقبة الرحم أشدّ انفتاحاً «إمّا من الجانب الأيمن وإمّا من الجانب
الأيسر» وبيّن أنّ ذلك يجدنه القوابل بالمجسّ. ولم يخبر كيف يكون ذلك ولا على ماذا يدلّ لأنّه إنّما أثبت ما أثبت من هذا تذكرة لنفسه فقط إلّا أنّ من يدبّر ما قاله في مواضع أخر فهو قادر أن يعلم أنّ معناه فيما قال ما أصف وهو أنّ بعد النقاء من الطمث تهيج الرحم لقبول المنى إلّا أنّه ربّما هاج للرحم الأيمن بأكثر من الأيسر وربّما هاج الأيسر أكثر وقد يجوز أن يوجدا كلاهما في وقت من الأوقات هائجين. وممّا يدلّ على الهائج منهما لقبول المنى هو الرقبة المشتركة بينهما إذا كانت أشدّ انفتاحاً إمّا في الجانب الأيمن منها وإمّا في الجانب الأيسر فإذا قبلت الرحم المنى وحصل فيها فإنّ الجانب الذي يقابل الرحم الذي لم يقبل المنى يكون مفتوحاً والجانب الذي يقابل الرحم الذي قبل المنى يكون منضمّاً.
فاسم «الفتح» ينبغي أن تفهمه على هذا التأويل على حال عنق الرحم وقد تأوّل قوم قوله «الفتح» لا على هذا الوجه لكنّ على نفس جوهر الرحم وهذا بعيد جدّاً أن يفهم من «الفتح» الرحم.
وقد نجد في نسخ كثيرة هذا الكلام على هذه النسخة: «إنّ بعد علّة المرأة يوجد الفتح من الأيسر» والذين يتلون هذه النسخة إذا راموا تفسيرها قالوا إنّه ينبغي أن يفهم مع «الأيسر» «الأيمن» وقوم استدلّوا من هذا الوجه أنّ هذه النسخة
ناقصة كما يوجد النقصان في كلام كثير غير هذا لأنّ النسّاخ الأوّلين أخطؤوا فشدّت عليهم أشياء كثيرة.
وقد أضاف قوم هذا الكلام إلى ما بعده فجعلوها جملة معناه ما أصف: إنّ من بعد انحدار الطمث قد ينبغي أن يتفقّد الجانب الأيمن من الرحم والجانب الأيسر فإنّا ربّما وجدنا الجانبين جميعاً رطبين وربّما وجدنا أحد الجانبين كذلك دون الآخر ويحتاج إلى التجفيف وتلك «الرطوبة» إنّما يستدلّ عليها «بما يخرج».
والأجود أن يفرد الكلام الثاني عن الأوّل والكلام الثاني هو قوله «والرطوبة ممّا يخرج واليبس في التدبير» حتّى يكون هذا القول قولاً ينتفع به في تعرّف حال المرأة التي لا تحبل من قبل الرطوبة التي من أصلح الأشياء لها استعمال التدبير اليابس. وليس ينبغي أن نطيل اللبث في هذا ولا نأخذ في كلام نحن على استقصاء شرحه في تفاسير نحن على التماسها في كتاب أبقراط في علل النساء وفي كتابه في طبيعة الجنين وفي كتابه في المولود لثمانية أشهر.
(٣٣) قال أبقراط: الذي يتحرّك أسرع إذا هو تفصّل فإنّه يكون بعد أبطأ نشوءاً إلّا أنّ نشوءه يكون على مدّة أطول.
قال جالينوس: إنّ كلامه هذا في الطفل الذي هو بعد في بطن أمّه وممّا يدلّك على ذلك أنّ ما سلف من كلامه وما يأتي بعد إنّما يصف فيه الأشياء التي تكون في وقت الحمل إلّا أنّه ليس يتبيّن هل كلامه هذا في نشوء الطفل في وقت حمله فقط أو هو في نشوئه أيضاً من بعد أن يولد. وذلك أنّ نفس الكلام كأنّه يدلّ على أنّه إنّما يقصد إلى نشوء الطفل في وقت الحمل فقط حتّى يكون جملة القول على هذا المثال: إنّ الطفل الذي حركته أسرع من بعد أن «يتفصّل» يعني من بعد أن تتفصّل أعضاؤه وتصير له مفاصل يصير «نشوؤه أبطأ».
وليس يرى ذلك من فسّر هذا الكتاب لكنّهم كلّهم إلّا الخطاء يقولون إنّه إنّما يراد بهذا الكلام نشوء الطفل بعد أن يولد وسرعة تفصّل الأعضاء وحدوث المفاصل لها حتّى يمكن أن يميّز الطفل الذكر من الأنثى إنّما هو خاصّة للذكر من الأطفال وقد وصف ذلك أبقراط في كتابه في طبيعة الجنين. وكلّ من كتب في هذا الكتاب إلّا الخطاء متّفق عليه إلّا أنّه لم يتّفق الناس على أنّ الذكر يكون مدّة حمله أطول من مدّة حمل الأنثى وأمّا بعد ولادهما فقد نرى عياناً أنّ الأنثى تنشؤ نشوءاً أسرع من نشوء الذكر ويقف نشوؤها قبل وقت وقوف نشوء الذكر. والأجود عندي أن أبحث أوّلاً عن السبب في هذا ثمّ أقبل على الطفل الذي في البطن وأجعل أصل كلامي أمراً قد بيّنته في غير هذا الكتاب وهو أنّ الذكر أسخن مزاجاً من الأنثى.
ولمّا كان تكوّن الأطفال في البطن إنّما هو من جوهر رطب وليس يمكن أن «يتفصّل» الجوهر الرطب حتّى تحدث منه أعضاء ومفاصل لأنّ المفاصل تحتاج
إلى طبيعة العظام وجب أن يكون الطفل الذي مزاجه أسخن أسرع تفصّلاً إلى الأعضاء والمفاصل وذلك أنّه يغلظ أسرع ويجب أن يكون هذا أسرع نشوءاً إذ كان أسرع تفصّلاً إلى الأعضاء والمفاصل وذلك في أوّل وقت الحمل لأنّ الرطوبة هي بمنزلة الطينة والحرارة بمنزلة القوّة للشيء الذي يتولّد.
وقد بقي أن نبحث لِم لا كان ذلك يكون في مدّة وقت النشوء كلّها لكنّ الإناث من الأطفال من بعد أن يولدن ينشؤن نشوءاً أسرع إلى وقت الإنبات. فنقول إنّ السبب في ذلك أنّ العضل من الطفل الذكر وسائر أعضائه أصلب وأجفّ والأعضاء التي هذه حالها هي أعسر تمدّداً وانتفاخاً وأمّا الأجسام التي هي أرطب وألين فهي إلى ذلك أسرع.
وينبغي أن نبحث أيضاً عن السبب الذي له صارت الأنثى يقف نشوؤها قبل وقوف نشوء الذكر. فنقول إنّ السبب في ذلك أنّ فضل حرارة الذكر على الأنثى أكثر من فضل صلابة أعضاء الذكر على أعضاء الأنثى فيجب من ذلك أن تبقى تلك الحرارة في الذكر تمدّد وتوسّع جوهر العظام إلى مدّة أطول فإذا بلغ جوهر العظام إلى غاية الصلابة حتّى لا يجيب إلى قبول الزيادة انقطع النشوء ووقف.
(٣٤) قال أبقراط: الأوجاع أمّا في الأيّام ففي ن وأمّا في الشهور ففي ج ب د و ح.
قال جالينوس: قد قال أبقراط فيما تقدّم «إنّ الأوجاع في الأدوار» التي تكون فيها الأوجاع ثمّ إنّه الآن يريد أن يصف تلك الأدوار التي تكون فيها «الأوجاع» للحوامل. وليس نجد هذا الكلام متّفقاً في جميع النسخ لأنّ كلّ واحد من المفسّرين يغيّره ويميله نحو رأيه. ولمّا اشتبه عليّ الأمر ولم أقدر أن أعلم بالحقيقة أيّ النسخ هو الصحيح رأيت أن أختار أفضلها وهي النسخة التي وضعتها قبيل التي من بعد أن ذكر «الأيّام» فيها وضع حرف «النون» وعليه خطّ وهذا الحرف إذا كتب ووضع عليه هذا الرسم دلّ على الخمسين. ثمّ من بعد ذلك نجد في بعض النسخ «في الشهور» وفي بعضها «الشهوريّة» ثمّ من بعد ذلك حرف «الجيم» وهذا الحرف يدلّ على الثلاثة ثمّ من بعد هذا «ب» ثمّ «د» ثمّ «و» ثمّ «ح» وكلّها عليها الأعلام التي تدلّ على أنّه يراد بها أعداد وقد نجد في بعض النسخ في آخر هذه الأحرف «ي» ملحقة. والمفسّرون يقولون في تفسير هذه النسخة كما قد يقولون في شرح سائر النسخ أشياء كثيرة يخالف فيها بعضهم بعضاً وكثير ممّا
يقولون بعيد من الإقناع ومنه ما لا يعقل أصلاً. ولست أرى أنّ هذه النسخة تصحّ حتّى يكون معناها معنى مفهوماً مقبولاً دون أن يكتب مكان «النون» «ي».
وما هو بعجب أن يكون قد غلط النسّاخ الأوّلون في هذا كما قد غلطوا في أشياء أخر كثيرة وخاصّة إذ كانوا إنّما نسخوا هذه الأشياء من تذكرات كتابها غامض ولعلّ بعضها كان منقطعاً أو دارساً أو مكتوباً كتابة غير بيّنة. وكان مع ذلك حرف «النون» يشبه حرف «الميم» في كتابة اليونانيّين فإذا جعلنا الكلام على هذا كان معناه ما أصف: إنّ الأوجاع التي تصيب الحوامل يجري أمرها على الأدوار أمّا من الأيّام ففي كلّ أربعين يوماً وأمّا من الشهور ففي كلّ ثلاثة أشهر.
وقد بيّنت في كتابي في أيّام البحران أنّ الأشياء التي تطول مدّتها تجري أدوارها على الأربعين. وأمّا أدوار الشهور في الحوامل فأمرها يجري على الثلاثة كما يجري دور الغبّ في الأيّام على الثلاثة والشهر الثالث من الثاني الذي فيه تبتدئ بالحوامل الشهوات الرديئة الشهر الرابع والثالث من الرابع السادس والثالث من السادس الشهر الثامن والولاد يكون في الشهر العاشر ولذلك نجد في بعض النسخ «الياء» ملحقة في آخر تلك الأحرف.
وقد ينبغي أن يكتفي منّا بهذا في تأويل هذا القول إذ كان أمره ليس بالبيّن وأمّا الإخبار بما عليه جميع النسخ وجميع ما فسّرت به فيطول جدّاً حتّى أنّي لو لَرمتُ ذلك لاحتجت فيه إلى مقالة بأسرها.
(٣٥) قال أبقراط: ما ينبغي أن تعلم من أمر الكلام في الثمانية الأشهر.
قال جالينوس: يعني «ما ينبغي أن تعلم من أمر الكلام في الطفل المولود لثمانية أشهر». وقد وضع في الطفل المولود لثمانية أشهر كتاباً بأسره مرسوماً عليه اسم أبقراط وقد ظنّ قوم أنّ واضع ذلك الكتاب بولوبس تلميذ أبقراط وقال آخرون إنّ أبقراط نفسه وضعه. وإن نظرت في هذا الكتاب علمت أنّ النظر في أمر الطفل المولود لثمانية أشهر والمولود لسبعة أشهر والمولود لتسعة أشهر والمولود لعشرة أشهر نظر واحد بعينه. وقد وصف في ذلك الكتاب على الشرح التامّ ما ينبغي أن يعلمه من أراد أن يصف شيئاً ممّا ينتفع به في أمر المولود لثمانية أشهر وغيره من المولودين. وأمّا في هذا الموضع فوصف أصول ذلك العلم لأنّ الناظر إذا أخذ تلك الأصول ثمّ بنى عليها قدر على استخراج جميع ذلك العلم وأنا واصف لك تلك الأصول على الولاء فأحضر ذهنك لاستبقائها.
(٣٦) قال أبقراط: هل ينبغي أن تحسب التسعة الأشهر منذ وقت علّة المرأة أو منذ وقت الحمل وهل تلك الشهور من شهور اليونانيّين مائتان وسبعون أم معها زيادة على ذلك وهل ينبغي أن تحسب للذكر والأنثى حساباً واحداً أم متضادّاً؟
قال جالينوس: ما قاله في المولود لتسعة أشهر فينبغي أن يفهم عنه أنّه قوله في المولود لسبعة أشهر وفي المولود لثمانية أشهر لأنّ القول في جميع المولودين كما
قلت قول واحد عامّ مشترك. ويعني «بعلّة المرأة» الطمث ويقول إنّه ينبغي أن تبحث وتنظر هل ينبغي أن تحسب أيّام شهور حمل المرأة منذ اليوم الذي يظهر فيه أم منذ اليوم الذي كان حملها فيه.
وهاهنا شيء ثالث قد ألقى ذكره في هذا الموضع وذكره في كتابه في المولود لثمانية أشهر وهو أنّ المرأة إن حبلت وقد مضى للقمر منذ فارق الشمس عشرون يوماً ثمّ كان رأس الشهر الآخر بعد عشرة أيّام فإنّ قوماً يقولون إنّ ذلك هو الشهر الثاني من شهور حمل تلك المرأة وقوم يجعلون ابتداء الشهر الثاني من حمل المرأة وقت حيضها الثاني وقوم آخرون يجعلون انقضاء الشهر الأوّل من الحمل باستتمام بعد ثلاثين يوماً من اليوم الذي يكون فيه الحمل.
(٣٧) قال أبقراط: وهل تلك الشهور من شهور اليونانيّين مائتان وسبعون أم معها زيادة على ذلك؟
قال جالينوس: ينبغي أن تفهم «المائتين والسبعين» أيّاماً حتّى يكون الكلام على هذا المثال: «وهل تلك الشهور التسعة من شهور اليونانيّين مائتان وسبعون يوماً؟» وقد قيل في كتاب المولود لثمانية أشهر إنّه لا ينبغي أن تحسب الشهور ثلاثين ثلاثين يوماً وسنشرح في تفسير ذلك الكتاب هذا الفنّ كلّه من العلم.
(٣٨) قال أبقراط: أو معها زيادة على ذلك؟
قال جالينوس: إنّ أبقراط يأمرك أن تبحث فتنظر هل الشهور التسعة مائتان وسبعون يوماً أم ينبغي أن تزيد عليها فضل أيّام أخر كما قد يفعل قوم. فإنّه لو كانت السنة إنّما هي ثلاث مائة وستّون يوماً فقط لوجب أن يتوهّم أنّ كلّ واحد من الشهور إنّما هو ثلاثون يوماً فقط فلمّا كانت السنة ثلاث مائة وخمسة وستّين يوماً وربع يوم وجزء آخر من اليوم إن استقصى الحساب وجب أن لا يكون كلّ واحد من الشهور ثلاثين يوماً فقط ولكن يكون ثلاثين يوماً وبعض يوم فتصير التسعة الأشهر ليس هي مائتين وسبعين يوماً فقط لكنّ معها فضل أربعة أيّام أخر إلّا شيئاً. وإن حسبتَ الشهر أيضاً مدّة الزمان التي بين ابتداء شهر القمر وبين ابتداء الشهر الذي يتلوه كان الشهر أقلّ من ثلاثين يوماً وصارت التسعة الأشهر أقلّ من مائتين وسبعين يوماً. وسأستقصي البحث عن هذا كلّه كما قلت قبيل في تفسيري لكتاب أبقراط في المولود لثمانية أشهر.
(٣٩) قال أبقراط: وهل ينبغي أن تحسب للذكر والأنثى حساباً واحداً أم متضادّاً؟
قال جالينوس: يعني أنّ هذا أيضاً ممّا ينبغي أن تعلم من أمر المولود لثمانية أشهر هل حدّ وقت الحمل «للذكر والأنثى» حدّ واحد وسائر الأشياء يجري فيهما مجرى واحداً أو هي مختلفة. فإنّي أرى أنّ الأجود أن يقال «مختلفة» لا «متضادّة» ولهذا السبب لمّا كان قوله «متضادّة» لا يجوز بالحقيقة على قوله
«مختلفة» عمد قوم إلى هذا القول أعني قوله «وهل ينبغي أن تحسب للذكر والأنثى حساباً واحداً» فقطعوه وأفردوه عن قوله «المضادّة» وجعلوا قوله «المضادّة» ابتداء كلام آخر على هذا المثال: «والمضادّة للجراحات تنتفخ». وذلك أنّا قد نجد في بعض النسخ «طروماطن» وهي الجراحات ونجد في بعض النسخ «بروماطن» وهي الأطعمة فأضاف أولائك قوله «المضادّة» إلى «الجراحات» فجعلوا الكلام على ما وصفته قبيل وقالوا إنّه يعني بهذا الكلام أنّ المواضع المقابلة لمواضع الجراحات هي التي تنتفخ وينبغي أن تفهم هذا القول في الرأس. وقد تعلم أنّ أراسسطراطس يقول: «إنّ الجراحة التي تصل من الجانب الأيمن إلى غشاء الدماغ تحدث استرخاء في الجانب الأيسر» وأمّا أبقراط في كتابه في جراحات الرأس فقال: «إنّ الشقّ الذي يلي موضع الجراحة يسترخي دائماً والشقّ المقابل له يتشنّج» وكذلك رأينا نحن الأمر يكون.
وأمّا الذين جعلوا فاتحة هذا القول انقضاء الكلام الأوّل فأضافوا قوله «المضادّة» إلى القول الأوّل فإنّهم كتبوا هذا الكلام الثاني على هذا المثال:
(٤٠) قال أبقراط: الأطعمة ينتفخ منها الشيء النيّ.
قال جالينوس: إنّ بعضهم يكتب «الأطعمة» فقط وبعضهم يضيف إلى «الأطعمة» «الأشربة» حتّى يكون القول على هذا المثال: «الأطعمة والأشربة ينتفخ منها الشيء النيّ». وأصحاب هذه النسخة يريدون أنّ الأخلاط النيّة التي تتولّد من الأطعمة والأشربة تنتفخ ويعنون «تنتفخ» أيْ تتولّد منها رياح غليظة وهي هواء بارد غير نضيج غليظ رطب يتولّد في المعدة والأمعاء وفي البدن كلّه ولا سيّما في أصحاب الاستسقاء.
وقد نعلم أنّ قول القائل «إنّ الأخلاط تنتفخ» رديء العبارة وأنّ القائل إذا قال «إنّ البطن ينتفخ» جاز له ذلك ولم ينكر قوله وكذلك إن قال «إنّ البدن ينتفخ». وأمّا الأخلاط وإنّما يجوز للقائل أن يقول فيها إنّه تتولّد منها رياح وليس أحد يقول «إنّها تنتفخ» وهو يجري في كلامه المجرى الطبيعيّ. ولكن لمّا كنّا قد وجدنا في هذه المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا كلاماً كثيراً جارياً على خلاف الطبع معوّجاً عن العبارة المستقيمة وكذلك في الرابعة والسادسة وظنّنا أنّه كلام دلّس في هذا الكتاب احتملنا مع ما احتملنا من ذلك الكلام أصحاب هذه النسخة على ما كتبوه وفسّروه عليه منها.
(٤١) قال أبقراط: وفي نواحي الرأس أيضاً قد تحدث الشرّة نفخاً كثيراً جدّاً.
قال جالينوس: إنّ النفخ ليس يتولّد في نواحي البطن وفي جثّة البدن كلّها فقط لكن قد يتولّد أيضاً مع ذلك في «الرأس» بل هو يتولّد في الرأس أكثر لأنّ حركة الرياح بالطبع إلى فوق. وواجب أن تتولّد الأخلاط النيّة من تدبير صاحب «الشرّة» وينبغي أن تفهم قوله «الشرّة» على التدبير كلّه لا على الباه خاصّة.
(٤٢) قال أبقراط: لا يزال النشوء حتّى يصلب العظم.
قال جالينوس: إنّ أصلب شيء وأشدّه في جوهر البدن وأشبهه بالصخر طبيعة «العظام». وليس العظام بحال واحدة من الصلابة والشدّة في جميع الحيوان فإنّك تجد فضل صلابة عظام الأسد على عظام الحيوان الأهليّ كفضل صلابة الحديد على الرصاص وعظام الصغير الفتيّ من كلّ واحد من أجناس الحيوان ألين من سائر ما في ذلك الجنس وعظام الشابّ المتناهي الشباب من كلّ جنس أصلب من عظام سائر ما في ذلك الجنس.
وإذا بلغت «العظام» غاية صلابتها في ذلك الجنس من الحيوان الذي هو له لم تقبل الزيادة في النموّ وإذا لم يمكن أن تتزيّد العظام في النموّ لم يمكن أن يتزيّد في النموّ سائر الأعضاء فيمتنع عند ذلك النموّ وينقطع. وذلك أنّ تركيب العظام هو الذي يحدّ مقدار عظم كلّ واحد من الحيوان وإنّما يزيد كلّ واحد من العظام في الطول بتمديد الحرارة الغريزيّة التي فيه له ونفخها إيّاه فإذا بلغت تلك الحرارة من الضعف إلى مقدار فوق مقدار صلابة العظام لم تقدر أن تمدّد جرم العظام ولا تنفخه.
(٤٣) قال أبقراط: الطمث يجري على أدوار.
قال جالينوس: إنّ استفراغ الطمث يكون فيما بين مدد من الزمان متساوية وتلك المدّة في أكثر الأمر شهر وقد يكون من النساء ما يأتي طمثها في أقلّ من مدّة شهر.
(٤٤) قال أبقراط: الثقل قبل الحيض نظير الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن.
قال جالينوس: إنّ ذلك لواجب وذلك أنّ «الثقل» الذي يكون «قبل الحيض والآلام التي تكون في الشهر الثامن» من الحمل سببها واحد وهو كثرة من الدم دائماً وربّما كان كثرة من بعض الأخلاط الرديئة فتحسّ المرأة بثقل في القطن وتبطل شهوتها ويسخن بدنها ويعرض لها كرب وقلق.
وأمّا السبب الذي من أجله صارت الشهور الأزواج أصعب على الحامل من الشهور الأفراد وأصعب الأزواج «الثامن» فليس هذا وقت البحث عنه لأنّي قد أخّرت ذلك وجميع ما أشبهه لأن أبحث عنه في تفسيري لكتاب أبقراط في المولود لثمانية أشهر.
(٤٥) قال أبقراط: من قبل وقت الولاد يحدث اللبن عندما يكثر الغذاء فيفيض وتستكمل المرأة عدّة الثمانية الأشهر.
قال جالينوس: قد يمكنك أن تعلم هذا الذي وصف من التشريح وذلك أنّك تجد في التشريح فيما بين الثديين وأعضاء التوليد عروقاً مشتركة وتجد الرحم إذا انتفخت انتفاخاً ذا قدر عندما ينمي الجنين صار في تلك العروق المشتركة من الدم شيء كثير جدّاً فإذا كثر ذلك الدم الفاضل غاص إلى اللحم الرخو الذي في الثديين وقبله ذلك اللحم وغيّره فصيّره «لبناً».
(٤٦) قال أبقراط: ولذلك صار الطمث نظير الثماني.
قال جالينوس: هذا القول عندي قول فضل وأحسبه من الأقاويل التي دلّست في هذا الكتاب لأنّ المعنى الذي ينحو نحوه قد قيل بعبارة أجود من هذه في قول قد تقدّم وهو قوله «الطمث يجري على أدوار والثقل قبل الحيض نظير الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن». وأمّا في هذا القول فلم يُقل «إنّ الثقل قبل الحيض نظير الثماني» لكنّه قيل إنّ نفس «الطمث نظير الثماني». فإن سألنا سائل ما هذا «الثماني» لم نقدر أن نقول له إنّه شيء سوى الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن وذلك أنّ الطمث ليس هو بنظير لنفس الجنين المولود لثمانية أشهر وليس الطمث أيضاً بنظير الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن. والحقّ من هذا أنّ الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن من الحمل تجري مجرى الثقل الذي يكون قبل الحيض وأمّا نفس الطمث فإنّما هو نظير اللبن خاصّة لا للأوجاع.
(٤٧) قال أبقراط: إذا امتدّ الأمر نحو الشهر العاشر فكان بذلك رديئاً.
قال جالينوس: هذا الكلام إن أفرد فقرئ على حدته وإن وصل بما قبله فليس تجري عبارته على ما ينبغي وذلك أنّه ينحو نحو هذا المعنى الذي أصف وهو أنّ
الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن من الحمل إن بقيت وتمادى بها الزمان نحو الشهر العاشر فليس تلك بعلامة محمودة أعني أنّه إن بقيت الأوجاع التي تكون في الشهر الثامن من الحمل في الشهر التاسع فتلك علامة رديئة. فإن كان هذا هو المعنى الذي أراده صاحب هذا الكلام الذي تقدّم فبيّن ما عبّر عنه.
(٤٨) قال أبقراط: من حدثت به قرحة فأصابه بسببها انتفاخ فليس يكاد يصيبه تشنّج ولا جنون فإن ذهب ذلك الانتفاخ ضربة ثمّ كانت القرحة من خلف عرض له تشنّج وتمدّد مع أوجاع وإن كانت القرحة من قدّام عرض له جنون أو وجع حادّ في الجنب أو اختلاف دم إن كان ذلك الانتفاخ أحمر قانئاً.
قال جالينوس: إنّي قد فسّرت هذا القول في المقالة الخامسة من تفسيري لكتاب الفصول وأنا مفسّره أيضاً في هذا الموضع بإيجاز فأقول إنّ من عادة أبقراط أن يسمّي «بالانتفاخ» كلّ عظم خارج من الطبيعة وليس يجري عادته في ذلك مجرى عادة الحدث من الأطبّاء الذين إنّما يسمّون «بالانتفاخ» ما كان من الأورام ليس معه وجع وكان رخواً منفوشاً فقط.
فقال: «إنّ الذين يكون بهم قرحة فيعرض لهم بسببها ورم فليس يكاد يصيبهم تشنّج ولا جنون» وبيّن أنّه إنّما يعني بذلك «متى كان الورم مناسباً لمقدار عظم القرحة». وأمّا قوله «ليس يكاد» فإنّما قاله من قبل أنّه ربّما عرض مع الورم تشنّج وذلك يكون متى لم يكن الورم رخواً منفوشاً ليّناً لكن يكون صلباً أحمر وهو الذي يسمّيه من أتى من بعد أبقراط من الأطبّاء باسم «فلغموني».
قال: «فإن ذهب هذا الورم ضربة» لحق صاحبه من ذلك أعراض شديدة صعبة عظيمة الخطر. وعنى بقوله «ذهب» أيْ بطل حتّى لم ير منه شيء فأمّا استثناؤه وقوله «ضربة» فإنّما أراد أن يدلّ به على سرعة ذهابه. وذلك أنّه قد يمكن أن تكون القوّة قويّة والخلط الذي يتولّد منه الورم رقيقاً سريع التحلّل ووضعت عليه من خارج أدوية محلّلة فتحلّل فأمّا ذهابه بسرعة شديدة جدّاً وذلك هو المعنى الذي أشار إليه بقوله «ضربة» فليس يدلّ على أنّ ذهابه كان بتحلّل لكنّه إنّما يدلّ على أنّ ذهابه كان بأنّ الخلط المولّد للورم جرى إلى عضو آخر باطن. ومتى كان هذا الانتقال في «الظهر» فليس يؤمن أن ينال النخاع شيء من آفة فتعرض من قبل ذلك أصناف «التشنّج» وخاصّة التشنّج الذي يقال له «التمدّد» وإن كان ذلك الانتقال
من قدّام حدث «جنون أو وجع حادّ في الجنب أو اختلاف دم» وقد نجد في بعض النسخ ملحقاً «أو تقيّح».
«والجنون» يحدث من انتقال الورم من ظاهر البدن إلى باطنه متى ارتفعت الأخلاط التي كان حدث عنها ذلك الورم الحارّ إلى ما يلي الرأس وأمّا «وجع الجنب الحادّ» «والتقيّح» فإنّما يحدثان متى جرت تلك الأخلاط إلى الصدر وأمّا «اختلاف الدم» فإنّما يكون متى جرت تلك الأخلاط إلى الأمعاء. واستثنى في ذلك فقال: «إن كان ذلك الانتفاخ أحمر قانئاً» فدلّ بذلك أنّه يعني «باختلاف الدم» الحادث من هذا الانتقال الاختلاف الذي يكون بدم ينصبّ إلى الأمعاء لا بقرحة تحدث فيها. وقد يجوز أن يكون هذا الاستثناء عامّاً شاملاً لجميع ما تقدّم ذكره فيكون الكلام على هذا النحو: «متى كان الورم الذي مع القرحة أحمر قانئاً ثمّ ذهب دفعة فينبغي أن يتوقّع لصاحب هذه الحال إمّا جنون وإمّا وجع حادّ في الجنب وإمّا اختلاف دم».
وقد دلّ أبقراط بهذا القول أنّه يعني «بالانتفاخ» كلّ عظم يحدث على أمر خارج من الطبيعة. وذلك أنّ قوله «متى كان ذلك الانتفاخ أحمر قانئاً» فإنّما أراد به الورم الذي يسمّى خاصّة «فلغموني» لأنّ هذا الورم وحده دون غيره من سائر الأورام ينسب إلى اللون الأحمر القانئ. وذلك أنّ الورم المعروف «بالحمرة» ليس
ينسب إلى اللون الأحمر القانئ لكنّه إنّما ينسب إلى اللون الأحمر الناصع أو إلى الأشقر أو إلى الأصفر وأمّا الورم الذي يعرف «بالانتفاخ» «والتربّل» فإنّه لمّا كان بلغميّاً فإنّ معه فضل بياض فأمّا الورم المعروف «بالصلابة» فربّما كان حافظاً للون الطبيعيّ وربّما كان معه أسمانجونيّة وربّما كان معه دكنة وليس يكون معه في حال من الأحوال حمرة.
فأمّا قافيطن وديوسقوريدس فكتبا هذا الكلام على نحو آخر على هذا المثال: «أو اختلاف دم أحمر قانئ» وأرادوا أن يكون المعنى في ذلك أنّ اختلاف الدم الذي يكون في تلك الحال يكون ما يستفرغ فيه من الدم كثيراً عبيطاً. ولمّا أضافا «الأحمر القانئ» إلى «الدم» أضافا «الانتفاخ» إلى الكلام الذي بعده ووصلاه به فكتباه على هذا المثال: «ما يسكن من الانتفاخ على غير الواجب فهو زور». فأمّا غيرهما من جميع المفسّرين إلّا الشاذّ فوصلوا اسم «الانتفاخ» بالكلام المتقدّم وجعلوا ما بعده ابتداء قول مفرد عامّ شامل لجميع العلل: «إنّ كلّ ما يسكن منها على غير الواجب فهو رديء». وأنا مقبل على شرح ذلك القول.
(٤٩) قال أبقراط: ما يسكن على غير الواجب فهو زور إلّا أن يعاود بحاله فيدلّ على أمر محمود مثل الحمرة التي عادت في ابن أندرونيقس فإنّ هذا لم يزل منذ ولد يتداوله نحو العانة.
قال جالينوس: أمّا الجزء الأوّل من هذا القول فيذكر بشيء قد تقدّم في قول قبله وهو أنّ «ما يسكن على غير الواجب» أيْ على غير ما يوجبه مقدار الزمان والعلاج الذي عولج به فهو ينذر ببليّة كائنة. فأمّا ما قاله بعد ذلك فهو مثال ضربه لهذه الجملة من شيء جزئيّ فقال إنّ ابن أندرونيقس أصابته «حمرة» يعني الورم المعروف «بالحمرة» وإنّ ذلك الورم «عاد» يعني عاد إلى باطن بدنه فناله من ذلك مكروه. وقد دلّك في هذا الموضع أيضاً أنّه يدخل الورم المعروف «بالحمرة» في جنس الانتفاخ وخاصّة إن جعلنا افتتاح هذا الكلام على هذا المثال: «ما يسكن من الانتفاخ على غير الواجب فهو زور».
وأمّا قوله بعد «إلّا أن يعاود بحاله فيدلّ على أمر محمود» فبيّن واضح وذلك أنّ الشيء الذي كان حدث ثمّ بطل دفعة حتّى لم ير منه شيء عاود فظهر مثل الورم المعروف «بالحمرة» إذا ذهب ثمّ عاود فذلك دليل محمود لأنّه يدلّ على أنّ الأعضاء الباطنة ليس تقبل ذلك الفضل.
فأمّا قوله في آخر هذا الكلام: «فإنّ هذا لم يزل منذ ولد يتداوله نحو العانة» فغامض وقد فهم قوم من ذكره «العانة» العضو الذي يعرف بهذا الاسم وتأوّل قوم اسم «العانة» على السنّ التي ينبت فيها الشعر في العانة كأنّه قال: «إنّ هذا الغلام لم يزل منذ ولد وإلى أن أنبت تحدث به الحمرة حدوثاً متواتراً». وأمّا قوله «يتداوله» فينبغي أن يفهم منه الوجع.
(٥٠) قال أبقراط: فأمّا آخر فكان يعرض له منذ ولد في كلّ ثلاث سنين ثمّ إنّه تقيّح في السنة التاسعة وبرئ هذا في اليوم السابع.
قال جالينوس: قد نجد هذا القول في بعض النسخ على هذا المثال: «وحدثت بغلام حمرة وتقيّحت في اليوم الخامس وبرئ البرء التامّ في اليوم السابع».
(٥١) قال أبقراط: وأردأ ذلك ما لا يرى له أثر دفعة.
قال جالينوس: هذا قول قد قاله قبيل في الكلام الذي افتتحه بأن قال: «إنّ من حدثت به قرحة فأصابه بسببها انتفاخ فليس يكاد يصيبه تشنّج ولا جنون» فإنّه قال في ذلك الكلام: «فإن ذهب ذلك الانتفاخ ضربة» ومعنى قوله «ذهب» ومعنى قوله «لم يتبيّن له أثر» معنى واحد بعينه.
انقضت المقالة الثالثة من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المعروف بإفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الرابعة
المقالة الرابعة من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المعروف بإفيذيميا. ترجمة حنين بن إسحق.
(١) قال أبقراط: العرق الكبديّ يجري على القطن إلى الفقرة العظمى من أسفل وينبعث منه أيضاً شيء إلى كلّ واحدة من الفقار ثمّ يتراقى من هناك شبيهاً بالمتعلّق جارياً في الكبد والحجاب إلى القلب. وهذا يجري على الاستقامة شاهقاً إلى التراقي ثمّ إنّه ينبعث منه من هناك عروق إلى الرقبة وعروق أخر إلى الكتفين وعروق أخر تعطف راجعة إلى أسفل ثمّ يميل نحو الفقار والأضلاع واحد من الجانب الأيسر بالقرب من الترقوة والآخر من الجانب الأيمن أسفل من ذلك قليلاً يعطف راجعاً. وتنبعث منه عروق تنبت فيما هناك في المواضع التي لم ينبعث فيها من الأوّل شيء فتتّصل أيضاً بالأضلاع ولا يزال تلك حاله إلى أن يلتقي العرق الذي يعطف راجعاً من القلب إلى الجانب الأيسر. وإذا انعطف فرجع هذا العرق
كالمتعلّقين وعلى الحجاب أيضاً عروق أخر كثيرة الشعب محيطة بذينك العرقين وهذه العروق من فوق الحجاب أبين.
قال جالينوس: إنّا نجد في هذا الكلام جمل تشريح العروق قد وُصفت بإيجاز وذلك ممّا يشهد على صحّة قول من قال إنّ هذه المقالة الثانية إنّما هي شيء جمعه ثاسالوس بن أبقراط من أشياء وجدها مثبتة لأبقراط في صحف وقراطيس وقطع متفرّقة. وبعضهم قال إنّ ثاسالوس هذا قد زاد فيها من عند نفسه أشياء وقد أحسنوا عندي في قولهم ما قالوا من هذا وفي قولهم إنّ المقالة الأولى والثالثة فقط هما مقالتان وضعهما أبقراط وضع الكتب التي تذاع في الناس.
ومن أعظم ما يستدلّون به على ذلك طريق عبارته فيهما فقد نجد طريق العبارة في المقالة الأولى وفي المقالة التي ترسم بالثالثة — وليست تسميتها بذلك بصواب — طريقاً واحداً وإنّما قلت إنّه ليس رسم تلك المقالة بالثالثة صواباً لأنّ تلك المقالة التي نجدها ترسم بالثالثة كان ينبغي أن ترسم ثانية وهذه المقالة التي نجدها ترسم ثانية كان ينبغي أن ترسم ثالثة. إن كان ولا بدّ ثمّ ترسم رابعة المقالة التي نجدها ترسم سادسة وأمّا المقالة التي نجدها ترسم رابعة والمقالة التي ترسم خامسة فقد أحسن عندي القوم الذين ميّزوا كتب أبقراط الصحيحة من المفتعلة
فأجادوا تمييزها إذ قالوا إنّ هاتين المقالتين ليستا من كتب أبقراط ولا هما أيضاً شيء جمع من ذكور مفردة كتبها مثل المقالة الثانية والسادسة. والأجود كان عندي في هذه المقالة الثانية وفي المقالة السادسة أن ترسما الأولى والثانية من «ذكور أبقراط» وإن لم ترسما كذلك رسمتا «أقاويل مختلطة» أو «متشتّتة» أو على ضرب آخر من الضروب ولا تدخلان في كتاب إفيذيميا. وذلك أنّ القول فيهما ليس هو في الأمراض العامّيّة الغريبة التي يسمّيها أبقراط «إفيذيميا» كما نجد القول في المقالة الأولى والثالثة وليس نجد في المقالة الثانية والسادسة من هذا الفنّ إلّا الشيء اليسير الشاذّ ونجد فيهما أقاويل كلّيّة نافعة كما نجد في كتاب الفصول وفي كتب أخر من كتبه ممّا لا يجوز لأحد أن يسمّيه بإفيذيميا.
وعلى هذا الطريق نجده قد كتب في هذه المقالة القول في تشريح العروق وليس نجد قولاً يصحّ في تشريح العروق من الأقاويل التي نجدها في الكتب المنسوبة إلى أبقراط غير هذا القول. وذلك أنّا قد نجد الأقاويل التي ألحقت في تشريح العروق في كتاب طبيعة الإنسان وفي الكتاب المعروف بمخليقون وفي الكتاب المعروف بكتاب المواضع التي في بدن الإنسان لا يصحّ عنه ما يظهر من التشريح.
واختيار حقّه من باطله يكون بالشيء الذي نختبر به سائر الأشياء المحسوسة وهو الاختبار بالحواسّ فكما أنّ الذي لم ير المدينة التي تعرف «بأثينيا» لم ير الرواق المروّق الذي فيها ولا بيت القراميد ولا غيره من المواضع التي فيها كذلك من لم يشرّح لم ير العروق لا الضوارب ولا غير الضوارب ولا غيرهما من الأعضاء ولا غيره من الأوعية. وذلك أنّه كما يحيط السور بالمدينة والحيطان بالبيوت كذلك يحيط الجلد ببدن الحيوان فيحتاج من أراد أن يعاين ما تحت الجلد أن يشقّ الجلد فإذا شقّ الجلد وعاين ما دونه فينبغي ما ظهر له بالحسّ ظهوراً بيّناً أن يتحفّظه ويخبر به من أراد إخباره ويكتبه إن آثر أن يكتب فيه.
فإنّ أبقراط لم يكتب ما كتب من هذا الشيء دلّه عليه قياس أو برهان ولا بتصديق منه بوحي أوحى إليه أسقليبيوس في المنام أو في اليقظة وإنّما أدرك ذلك بأن شقّ أوّلاً مراقّ البطن مع الغشاء الممدود على البطن المعروف «بباريطوناون» ثمّ تأمّل ما دون ذلك فرأى الأمعاء والأحشاء ورأى في الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف الكبد ورأى في جانب الأيسر الطحال ومن بعدهما الكليتين ومن بعد ذلك المعدة والأمعاء ورأى المعدة تماسّ الحجاب وتكتيفها من الجانب الأيمن الكبد ومن الجانب الأيسر الطحال.
فإنّ هذه الأشياء ليس شيء منها يمكن أحداً أن يحزره حزراً أو يتكهّن في معرفته فيعلم كيف هو أو كم مقداره أو في أيّ موضع هو موضوع دون أن يشقّ الجلد فيما بين الصدر وبين عظم العانة مع العضل الذي من دونه. وكما أنّ أبقراط إنّما عرف هذه الأشياء بأن شقّ الجلد وتأمّل ما يرى من ورائه كذلك عرفها إيروفيلس بأخرة ولم يقتصر على أن يعلم ذلك من أبقراط لكنّه قصد ليعلمه من نفس طبيعة الأمور الذي منه يعلم أبقراط بأقصى ما علم فكتب في تشريح العروق كالذي كتب أبقراط. وكثير أيضاً من قدماء الأطبّاء قد شرّحوا فرأوا هذه العروق في أبدان الناس فكتبوا فيها مثل الذي كتب أبقراط وإيروفيلس.
ثمّ جاء من بعد أولائك مارينس وكان على عهد أجدادي وكان معه حذق بمعرفة التشريح واستقصى فيه فكتب مثل الذي كتبه من كان قبله بعد أن عاينه في القرود وفي سائر الحيوان. وذلك أنّ الخالق خلق جميع أبدان الحيوان بحكمة واحدة بعينها فقد نجد في أبدان جميع الحيوان الكبد موضوعة في الجانب الأيمن والطحال في الجانب الأيسر والمعدة فيما بينهما وهي تتلو المريء وتتلوها الأمعاء.
وممّا يعمّ جميع الحيوان بعد أن يعزل من هذا القول الحيوان الذي لم تتهيّأ فيه أعضاء آلية مثل الصدف والإسفنج وغيرهما ممّا أشبههما أنّه ينبت من الكبد عرقان يتشعّب منهما جميع العروق التي في البدن. وأحد ذينك العرقين ينبت من جانب الكبد المقعّر وينقسم في المعدة والطحال والأمعاء والعرق الآخر ينبت من جانب الكبد المحدّب ويجري وهو متعلّق إلى فوق وإلى أسفل. ومجراه إلى أسفل إلى أن ينتهي إلى الفقرة العظمى وهي الفقرة الأخيرة من فقار القطن ثمّ إنّه من بعد ذلك لا يبقى واحداً لكنّه ينقسم قسمين ويجري كلّ واحد من قسميه إلى كلّ واحدة من الرجلين فينقسم فيها إلى أن ينتهي إلى القدم. ومجراه إلى فوق في الحجاب وفي وسط الصدر شاهق على الاستقامة إلى ملتقى التراقي وهو اللبّة فإذا انتهى هذا القسم أيضاً إلى ذلك الموضع لم يبق واحداً لكنّه ينقسم إلى العرقين اللذين يسمّيان «الوداجين» ومن قبل أن ينقسم تتشعّب منه في طريقه فيما بين الكبد والتراقي عروق كما قد تشعّب من القسم الآخر الجاري إلى أسفل في ممرّه على القطن قبل أن ينقسم إلى الرجلين.
وأنت قادر أن تحضر في وهمك جملة العروق كلّها التي في البدن إن توهّمت شجرة شاهقة من الأرض إلى العلوّ وتذكّرت كيف تتشعّب من ساقها الأغصان ثمّ لا تزال تنقسم تلك الأغصان حتّى تنتهي إلى الأطراف وكيف تغور الساق في باطن الأرض فتتشعّب منها عروق شبيهة بالأغصان إلى أسفل ولا تزال تنقسم تلك
أيضاً على المثال الأوّل إلى أن تنتهي إلى أطراف الأصول كما تقسّمت الأغصان فوق إلى أطرافها. والغذاء يترقّى إلى الشجرة من أطراف العروق التي تغور في الأرض إلى ابتداء الساق ثمّ إنّ الطبيعة تدقّ ذلك الغذاء الذي اجتذبته بالعروق فتبثّه في جميع الأغصان إلى أن يبلغ به إلى أطرافها.
وإذا ألقى البزر أيضاً من جميع النبات في الأرض تراه تخرج منه منذ أوّل الأمر شعبتان إحداهما تجري إلى أسفل فتنقسم إلى العروق والشعبة الأخرى تجري إلى فوق وتتشعّب منها الأغصان. والموضع من النبات الذي منه تنبعث من البزر إذا ألقى في الأرض الشعبتان اللتان وصفت هو موضع متوسّط بين أجزاء النبات التي من فوق وبين أجزائه التي من أسفل ويسمّى ذلك الموضع «أصل» النبات لأنّ منه تتشعّب العروق.
ونظير ذلك الموضع من بدن الحيوان الكبد فإنّ الشعبة السفليّة التي تخرج من الكبد وهي العرق الذي ينبت من باب الكبد إنّما صار ليجذب به الكبد الغذاء من المعدة والأمعاء والشعبة العليا منها وهي العرق النابت من حدبة الكبد إنّما صار لينفّذ به الغذاء الذي اجتذبه إلى جميع أعضاء البدن.
فبالواجب قيل في كتاب الغذاء: «إنّ الكبد أصل العروق» وقد دلّ أبقراط أيضاً أنّ قياس النبات إلى الأرض قياس الحيوان إلى المعدة بقول قاله وهو هذا: «إنّ المعدة للحيوان بمنزلة الأرض للشجرة» فأمّا أراسسطراطس فعبّر عن هذا المعنى بألفاظ أخر فقال: «وأطراف العروق تنحدر فتنتهي في الشجر إلى الأرض وفي الحيوان إلى المعدة والأمعاء» فيكون جذب الغذاء إلى النبات من الأرض وإلى أبدان الحيوان من المعدة والأمعاء.
وأمّا في هذا القول فوصف أبقراط 〈كيف〉 ينبعث أحد هذين العرقين وهو العرق الذي قلت إنّه ينبت من حدبة الكبد ويجري متعلّقاً إلى فوق إلى أن يبلغ إلى التراقي وإلى أسفل إلى أن يبلغ إلى العظم العريض الذي بين الوركين — فإنّ هذا العظم يتّصل به عظم فقار الصلب — وكما أنّ شجرة الصنوبر لها ساق واحدة ولا تزال مفردة مدّة طويلة جدّاً ثمّ إنّها بأخرة تنقسم فتتشعّب منها أغصان كذلك هذا العرق يجري في الصدر كلّه وهو واحد مفرد وكذلك في الناحية السفلى كلّها إلى أن يبلغ إلى العظم العريض ثمّ إنّه ينقسم من بعد من فوق عند التراقي ومن أسفل عند الفقرة الأخيرة التي يتّصل بها العظم العريض الذي بين الوركين وتتشعّب منه فيما بين هذا الموضع وبين التراقي شعب كثيرة دقاق كما تتشعّب من السرو
والنخل إلى الجانبين خلا الشعبة التي عند أذن القلب اليمنى. فإنّ هذه الشعبة وحدها دون غيرها ذات قدر وبعدها الشعبة التي تأتي الكلى فأيّما عرق وجدت في الرأس أو في اليدين أو بالجملة فيما فوق الصدر أو في الرجلين فاعلم أنّه إنّما يجري فيه الدم من هذا العرق العظيم.
وجميع الأطبّاء سوى أبقراط إلّا الشاذّ يسمّون هذا العرق «العميق» وأمّا أبقراط فيسمّيه «العرق الكبديّ» وإنّما أراد بتسميته بهذا الاسم أن يدلّ به على منشئه من الكبد. وأحد قسمي هذا العرق الكبديّ الذي هو أسفل من الكبد [الذي] يجري مدّة يسيرة وهو «متعلّق» ويعطف مع ذلك وينحدر إلى ناحية «القطن» فإذا ركب على القطن واعتمد وتمكّن على وسط من الفقار مرّ جارياً إلى أسفل وتنبعث منه شعب في ممرّه إلى الجانبين وأعظم ما ينبعث منه من الشعب كما قلت يجري إلى الكليتين فأمّا سائر الشعب فإنّها دقاق وتنبعث منها عند كلّ واحد من الفقار من كلّ واحد من الجانبين شعبة واحدة وهذه الشعب ترتفع مع العضل الذي على البطن الذي منها يغتذي. ومن حيث تنبعث هذه الشعب من العرق العميق فقد تنبعث عروق أخر دقيقة جدّاً تتعرّض في الفقار ومن تلك العروق تقبل الفقار والنخاع وأغشيته التي تستره توفية الغذاء.
ويظهر لك من أبقراط في هذا الكلام أنّه لم يكتبه لغيره وإنّما كتبه لنفسه ليتذكّر به ما عاين. ولو كان قصد بهذا الكلام ليفيد به غيره علماً لكان لا محالة
سيشرحه ويبيّنه كما فعل في كتبه التي وضعها ليقرأها الناس فكان يجعل ابتداء ذكره للعروق العظام البيّنة المنظر ثمّ كان يذكر بعد تلك العروق الصغار الخفيّة التي لم يعرفها كثير من أصحاب التشريح فإن كان أبقراط إنّما كتب هذا الكلام تذكرة لنفسه فممّا يقبل ويقنع به أن يكون إنّما كتب ما فات غيره من الأطبّاء فلم يدركه حسّه من العروق لدقّته. وإن كان قصد بهذا الكلام ليفيد به علماً تامّاً من أمر التشريح للعروق فليس يجوز أن يذكر الشيء الذي يعسر إدراكه بالبصر وقد فات حسّ كثير من الأطبّاء فقط ويدع ذكر الشيء البيّن الواضح الذي يعرفه جميع من يستعمل التشريح لعظمه فهذا ممّا يدلّك أنّ هذا التشريح لم يكتبه أبقراط ليقرأه غيره وأنّه قد كان من أحذق الناس وأمهرهم برؤية ما يظهر في التشريح إذ كان إنّما ذكر ما يعسر إدراكه بالبصر وقد ذهب على كثير من أصحاب التشريح دون من سواه ليجعله تذكرة لنفسه.
وممّا يدلّك على ذلك زيادته في قوله «أيضاً» وتركه إطلاق القول «فإنّه ينبعث منه شيء إلى كلّ واحدة من الفقار». فانظر كيف قال: «العرق الكبديّ يجري على القطن إلى الفقرة العظمى من أسفل وينبعث منه أيضاً شيء إلى كلّ واحدة من الفقار». هذا القول يدلّك دلالة بيّنة أنّه تنبعث من العرق الكبديّ مع الشعب المعروفة التي تتشعّب منه شعب أخر أيضاً تجري إلى الفقار. ويعني «بالفقرة العظمى» الفقرة الأخيرة من فقار القطن التي قلت إنّها تتّصل بالعظم العريض الذي بين الوركين وذلك يصحّ لك من قول قاله في كتابه في المفاصل وهو هذا:
«والصلب في طوله يجري على استقامة معها اعوجاج وذلك أنّه من العظم العريض وإلى الفقرة العظمى التي يتّصل بها أيضاً الرجلان مقوّس وذلك أنّ المثانة وأعضاء التوليد والجزء المسترخي من الدبر موضوعة في ذلك الموضع. وإنّ الصلب لا يزال مقوّساً إلى أن يبلغ إلى هذه الفقرة والعصب الذي ينحدر إلى الرجلين إنّما منشؤه من هذا الموضع من النخاع». وقد قلنا ما يكتفي به في تفسير هذا القول الذي نحن بعرضه من أمر القسم من العرق العميق الذي «يجري على القطن».
وينبغي أن نأخذ في ذكر القسم الآخر الذي من فوق الكبد ونضع أوّلاً الكلام الذي أردف به ما تقدّم وهذا هو نفس لفظه: «ثمّ يترقّى من هناك شبيهاً بالمتعلّق جارياً في الكبد والحجاب إلى القلب». أمّا قوله «من هناك» فيعني به ممّا يلي القطن كأنّه قال إنّ هذا العرق الكبديّ يترقّى وهو متعلّق جارياً في الحجاب نحو التراقي على الاستقامة. ومن عادة أبقراط وسائر أصحاب التشريح إذا وصفوا عرقاً من العروق «بالمتعلّق» أن يعنوا بذلك أنّه ليس بمعتمد على عضو من الأعضاء فالجزء من العرق الكبديّ الذي يجري على القطن يعتمد على فقار الصلب الذي في ذلك الموضع فأمّا سائره كلّه من ذلك الموضع إلى فوق إلى أن ينتهي إلى التراقي فليس يعتمد على شيء لكنّه إنّما يمسكه معاليق ورباطات وخاصّة من فوق الكبد. وذلك أنّ الجزء منه الذي في حدبة الكبد يعتمد ويعتصم بلحم الكبد
الذي يحيط به على الاستدارة من جميع نواحيه فأمّا الجزء منه الذي من فوق الكبد إلى أن جاوز الحجاب فإنّما يمسكه في طريقه كلّه الحجاب. إلّا أنّه قد أعين هذا الجزء أيضاً المعونة التي كانت ممكنة أن ينالها ليستفيد بها الوثاقة وذلك بثلاثة أشياء أوّلها الزائدة الصغيرة من الرئة التي في الجانب الأيمن والثاني اتّصال هذا العرق بالقلب والثالث الغدّة التي تعرف «بالثومة» وهذه الغدّة موضوعة بالقرب من التراقي وينبعث من هذا العرق في ذلك الموضع خاصّة عروق كثيرة فهذه الغدّة سند وعماد لتلك العروق فأمّا الزائدة الثالثة من الرئة الصغيرة التي في الجانب الأيمن فهي موضوعة من بعد الحجاب وتتلقّى ذلك العرق فتقبله مارّاً عليها حتّى تراها قد جرت له جزئين في بعض الرئات وفيما بين هذين اتّصال العرق العميق بالقلب.
فلمّا تقدّم أبقراط فقال إنّ هذا العرق الكبديّ «يجري في الكبد والحجاب حتّى يأتي القلب» أتبع ذلك فأحسن بأن قال: «وهذا يجري على الاستقامة شاهقاً إلى التراقي». وذلك أنّ هذا العرق الذي يرتفع من حدبة الكبد الذي كلامه فيه إذا جاوز الحجاب تراقى على خطّ مستقيم بالحقيقة حتّى يصير إلى التراقي بعد أن يتّصل من جانبه الأيمن بأذن القلب اليمنى وفي هذا الموضع يصبّ هذا العرق العظيم شيئاً من الدم الذي فيه بنقب عظيم إن شئت تسمّيه «نقباً» وإن شئت «ثقباً» وإن شئت «فوهة» أو كيف شئت أن تسمّي التجويف الذي يفضي إليه
الدم المحصور في جوف أذن القلب. فينبغي أن تحفظ عنه هذا المعنى من رأيه فإنّه قد دلّك دلالة بيّنة أنّ هذا العرق الكبديّ ينبت من الكبد «ويجري على الاستقامة شاهقاً» إلى أن يبلغ إلى «التراقي» بعد أن يتّصل بجانب منه بالقلب.
فإنّ ذلك هو المعنى الذي أشار إليه بقوله «وهذا يجري على الاستقامة شاهقاً إلى التراقي» وذلك أنّ الأمر الذي يظهر عياناً ليس هو على ما ذكر القوم الذين زعموا أنّ العرق العميق إنّما ينبت من القلب لأنّ أولائك يقولون إنّ العرق النابت من القلب ينقسم قسمين وأحد قسميه يجري إلى فوق فيصير إلى اللبّة نحو التراقي والقسم الآخر يجري إلى أسفل نحو الكبد وليس الأمر الذي يظهر عياناً كذلك. وذلك أنّا لسنا نجد هذا العرق غير الضارب يخرج من القلب وهو واحد ثمّ ينقسم بقسمين كما ينقسم العرق الضارب العظيم النابت من بطن القلب الأيسر لكنّا نجد هذا العرق غير الضارب عرقاً واحداً متّصلاً يجري شاهقاً في الصدر كلّه على الاستقامة حتّى ينتهي إلى التراقي. وقد بيّنت أنّ منشأ العروق غير الضوارب من الكبد في مقالة بأسرها وهي المقالة السادسة من كتابي في آراء أبقراط وأفلاطون وأمّا في هذا الموضع كما قلت مراراً كثيرة فليس غرضي أن أبيّن آراء أبقراط آتياً عليها بالبراهين وإنّما غرضي أن أشرح معناه فيما قال فإن وجدتني قد أتيت في موضع من كتابي هذا ببرهان فانزل ذلك منّي على أنّه شيء ذكرته على الطريق
لاتّصال الكلام ألا أنّ ذلك غرضي وهمّي وعنايتي في كتابي هذا. فإذ قد تبيّن رأي أبقراط فآتي إلى تبيّن قولي.
فإنّ أبقراط لمّا قال: «وهذا يجري على الاستقامة شاهقاً إلى التراقي» أتبع ذلك بأن قال: «ثمّ إنّه تنبعث منه من هناك عروق إلى الرقبة وعروق أخر إلى الكتفين وعروق أخر تعطف راجعة إلى أسفل ثمّ تميل نحو الفقار والأضلاع» فقد ألقى أبقراط في هذا القول ذكر العروق التي تأتي من الثديين فلم يذكرها بأسمائها وذلك من قبل أنّ أصولها هي أصول العروق التي تتراقى إلى الكتفين وأيضاً كما قلت فيما تقدّم لأنّ هذه العروق عروق تظهر لكلّ أحد فأمّا العروق التي تتراقى إلى الكتفين فهي عروق يعسر إدراكها بالبصر لا من قبل دقّتها لكنّ من قبل أنّها تجري باطنة في العمق.
ويعني «بالعروق التي تنبعث إلى الرقبة» الأوداج. ومن دون هذه العروق التي ذكرت زوج آخر ثالث من العروق إلّا أنّه يماسّها في موضع منشئه وهو الزوج من العروق التي تأتي الأربعة الأضلاع الفوقانيّة من الصدر. وذلك أنّ الأضلاع الثمانية السفليّة من الصدر تغتذي من عرق آخر منشؤه من ناحية أذن القلب اليمنى ويجري إلى خلف على المثال الأوّل نحو الصلب وهذا العرق يركب على الفقرة الخامسة من الصدر ويجري على هذه الفقرة وعلى ما يتلوها من الفقار إلى أن ينتهي إلى الحجاب وتنبعث منه شعب إلى جانبي الصدر فيما بين الأضلاع.
وفي الصدر تجويفان غير نافذين أحدهما إلى الآخر يحجز بينهما غشاء يمرّ في وسط الصدر وهذا العرق الذي ذكرت موضوع في الجانب الأيسر من الصدر بالقرب من قاعدة تلك الأغشية التي تقسم الصدر بنصفين حتّى يلقاها ويماسّها. وتلك الأغشية غشاءان وأحد ذينك الغشاءين يمتدّ منه شيء فيغشّي هذا العرق والعرق الأعظم الضارب الجاري معه والمريء وإن قشطت ذلك الغشاء رأيت الشعب المنبعثة من ذلك العرق الضارب إلى كلّ واحد من المواضع التي بين الأضلاع رؤية استقصاء وهي شعبة واحدة من كلّ واحد من الجانبين وعلى تلك الشعب من العروق الضوارب شعب من العروق غير الضوارب. وأمّا الأربعة الأضلاع الفوقانيّة من الصدر فيأتيها الغذاء من عرقين يتشعّبان من العرق العظيم عندما يقرب من التراقي ومنشأ أحد هذين العرقين وهو الذي من الجانب الأيمن أخفض قليلاً.
فقد تبيّن لك أنّ استعماله اللفظ الذي استعمله عندما قال «تعطف راجعة» قد استقصى فيه حقّ المعنى. وذلك أنّ العرق العميق إنّما ينبت منه هذان العرقان اللذان ذكرت من بعد أن يجاوز الأربعة الأضلاع الفوقيّة من الصدر ويبلغ منتهاه وإذا كان ذلك كذلك فلا بدّ لذينك العرقين من أن يجريا من فوق إلى أسفل وهي مع ذلك «تميل» إلى الجانبين «نحو الصلب والفقار».
وهذا الذي وصف من أنّ العرق الذي «من الجانب الأيمن» أخفض قليلاً من العرق الذي في الجانب الأيسر وقد وصفه أيضاً إيروفيلس في المقالة الرابعة من كتابه في التشريح فإنّ إيروفيلس في تلك المقالة بعد أن تقدّم فقال: «إنّه ينبت من العرق الغليظ عرقان حيث يلتقي التراقي أحدهما يأتي إلى الجانب الأيسر والآخر يأتي إلى الجانب الأيمن وكلّ واحد منهما ينقسم وينبثّ في أربعة أضلاع من أضلاع الصدر» أردف ذلك بأن قال: «والعرق الذي يجيء إلى الجانب الأيمن أخفض قليلاً من العرق الذي يجيء إلى الجانب الأيسر». فهذا ما وصف إيروفيلس وهو موافق لما يظهر في التشريح ولما وصفه أبقراط.
ثمّ إنّ أبقراط بعد أن وصف في هذا القول أنّ هذا العرق الذي في الجانب الأيسر الذي يؤدّي الغذاء إلى الأربعة الأضلاع الفوقيّة من الصدر يسير إلى الموضع الذي يعطف فينحدر إليه العرق الجاري من القلب نحو الصلب الذي يؤدّي الغذاء إلى الثمانية الأضلاع السفليّة من الصدر من كلّ واحد من الجانبين ثمّ إنّه أتبع ذلك بوصف هذا العرق فقال إنّه ينتهي في «الموضع الذي منه ابتدأ أن يتراقى
متعلّقاً». وقد كان تقدّم فقال في العرق الكبديّ إنّه يتراقى من القطن متعلّقاً شاهقاً في الحجاب فأطراف العرق الذي يؤدّي الغذاء إلى الثمانية الأضلاع السفليّة من الصدر إذا تصير إلى ذلك الموضع أعني إلى القطن — ولا فرق بين قولي هذا وبين قولي إنّه ينحدر إلى ذلك الموضع — 〈فالتقت〉 العرق الكبديّ الذي يعطف منحدراً من حدبة الكبد نحو القطن. وذلك أنّ هذا العرق حين يبتدئ يركب على القطن ينبعث منه العرقان اللذان يصيران إلى الكلى ومن قبل أن يركب على القطن فهناك موضع بين ركوبه عليه وبين الحجاب إليه يصير ذلك العرق الذي يؤدّي الغذاء إلى الأضلاع السفليّة من الصدر. وقد بيّن أبقراط أنّ طرف هذا العرق عند منتهى الصدر ينقسم قسمين بقول قاله وهو هذا: «أوّلاً قبل أن يبلغ إلى ذلك الموضع إلى جانب الضلعين الآخرين ينقسم قسمين ويجري أحد القسمين من أحد جانبي الفقار والقسم الآخر من الجانب الآخر ثمّ ينفدان هناك.»
وقد نجد في بعض النسخ مكان «ينقسم قسمين» «يصير له طرفان» والنسختان جميعاً يؤدّيان معنى واحداً فهذا ما وصفه أبقراط من أمر هذا العرق وهو حقّ يقين وإنّما وصف ما يظهر في التشريح على ما نجده.
ووصف من أمره أيضاً «أنّه ينبعث منه شعب من الجانبين إلى سائر الأضلاع عن آخرها» «وهو واحد متّصل». وذلك أنّ الغذاء يأتي الأربعة الأضلاع الفوقيّة من الصدر من كلّ واحد من الجانبين كما قلت قبيل من عرقين اثنين فأمّا الأضلاع
الباقية من كلّ واحد من الجانبين فإنّما يؤدّي إليه الغذاء ذلك العرق الواحد الذي يأتي من أذن القلب اليمنى الذي قلنا إنّه عند الضلعين الآخرين ينقسم فيصير له طرفان.
وأمّا قوله «ولا يزال من موضع القلب إلى موضع ما من الجانب الأيسر خاصّة ثمّ إنّه يصير من بعد تحت العرق الضارب» فإنّه بيّن به وضع هذا العرق الواحد المفرد الذي قلت إنّه يؤدّي الغذاء إلى مواضع الصدر السفليّة. فإنّ هذا العرق إلى موضع ما موضوع في الجانب الأيسر ظاهر بيّن وذلك الموضع هو الموضع الذي بين القلب وبين الصلب ثمّ إنّه حين يبتدئ فيركب على الصلب عند الفقرة الخامسة من الصدر كما قلت يتوارى هناك تحت العرق الضارب الأعظم — وذلك العرق الضارب الأعظم أيضاً ينشؤ من بطن القلب الأيسر ثمّ يخرج فيركب على الفقرة الخامسة من الصدر — ثمّ إنّ العرق غير الضارب الذي يؤدّي الغذاء إلى نواحي الصدر السفليّة ينحدر مع ذلك العرق الضارب وتنبعث منه أيضاً إلى كلّ موضع من المواضع التي بين الأضلاع شعبة من كلّ واحد من الجانبين أعني من الجانب الأيمن والأيسر.
وكذلك من العرق الضارب الأعظم إلّا أنّ العرق الضارب لعظمه يظهر ظهوراً بيّناً وأمّا ذلك العرق غير الضارب فكأنّه يتوارى ويستخفي من وراء ذلك العرق الضارب والشعب التي تنبعث من العرق غير الضارب متساوية في العدد مماسّة للعروق الصغار المتشعّبة من العرق الضارب الأعظم المبينة في كلّ واحد من المواضع التي
فيما بين الأضلاع حتّى تكون جملة قوله على هذا المثال: إنّ العرق الكبديّ من الناحية السفلى يجري على جميع فقار القطن إلى أن ينتهي إلى الفقرة العظمى ويتراقى وهو متعلّق فيجوز حدبة الكبد والحجاب فيصير إلى القلب ثمّ إنّ هذا العرق يجري مستوياً على الاستقامة من هناك إلى أن يبلغ إلى التراقي. وتنبعث منه عروق مورّبة تجري إلى فوق فتصير إلى الكتفين والرقبة وينبعث منه عرقان آخران فيعطفان راجعين إلى أسفل ويجريان مع الفقار والأضلاع واحد من الجانب الأيسر بالقرب من التراقي وآخر من الجانب الأيمن من دون ذلك قليلاً يعطف نحو الصلب. وتخرج منه شعب تتّصل بالأضلاع التي لم يتّصل بها شيء من العروق التي في الجانب الأيسر ولا تزال تمرّ حتّى تلقى العرق الذي يعطف من القلب إلى الجانب الأيسر. وهذا العرق أيضاً الذي يعطف من القلب إلى الجانب الأيسر تخرج منه شعب فتتّصل بالأضلاع الباقية وتجوز الصدر حتّى تبلغ إلى الموضع الذي ارتفع منه العرق الكبديّ وهو متعلّق.
فأمّا هذا العرق فإنّه «ينقسم قسمين» عند منتهى الصدر «فيجري أحد قسميه من أحد جانبي الفقار والآخر من الجانب الآخر وينفد هناك» كما قال يعني أنّه يميل مورّباً إلى الجانبين ثمّ ينقضي. فأمّا العرق الضارب الأعظم فيبقى جارياً على حاله وذلك أنّه يمرّ على الفقار الخامس من القطن كما مرّ على فقار الصدر الثماني وهو مستقيم ممتدّ على وسط من الفقار لا يحدّ عنه إلى أن يبلغ إلى العظم العريض الذي بين الوركين. وقال في العرق غير الضارب الذي يؤدّي الغذاء إلى نواحي الصدر السفليّة إنّه تحت العرق الضارب وليس هو بالحقيقة تحته لكنّه إنّما
يرى كأنّه تحته وذلك أنّ العرق الضارب الأعظم راكب على الموضع الأوسط من الفقار وهذا العرق غير الضارب ممدود إلى جانبه فهذا العرق غير الضارب لصغره يخفى في جنب ذلك العرق الضارب حتّى لا يرى إلّا بكدّ.
وقال في العرق غير الضارب المستقيم الذي يتراقى إلى التراقي «إنّه من فوق العرق الضارب» وإنّما قال إنّه من «فوقه» لأنّ من عادة أصحاب التشريح أن يسمّوا الناحية القدّام «فوقاً». فأمّا إن أردت أن تستعمل الألفاظ على حقائقها فليس ينبغي أن تقول إنّ ذلك العرق غير الضارب الذي يرتفع إلى التراقي يجري «من فوق» العرق الذي يتراقى من القلب لكنّ «من قدّامه». وإنّما جرت هذه العادة وكثرت عند أبقراط وعند سائر أصحاب التشريح الذين أتوا من بعده أن يسمّوا ناحية القدّام «فوقاً» من قبل أنّهم إنّما يشرّحون هذه الأعضاء من أبدان الموتى والأبدان على القفا لا على الوجه. فوجب من قبل ذلك أن يسمّوا ما يلي ظاهر البدن ممّا يظهر أوّلاً في التشريح من وراء الجلد «فوقاً» وما دون ذلك من البدن وهو ملقى على قفاه «أسفل».
وكذلك أيضاً في القطن يجري العرق العميق «من فوق العرق الضارب». وتجري من هذا العرق الضارب يعني أنّه تنبعث منه شعبة تنقسم بقسمين وينبثّ أحد القسمين في الناحية من الكبد التي تعرف «بالباب» «والزائدة العظمى» التي تعرف باسم «الزائدة» مطلقاً لفضلها على سائر الزوائد التي هي ممدودة إلى أسفل في
طول البدن وعليها المرارة موضوعة والقسم الآخر ينبثّ في سائر الكبد وخاصّة في موضع العرق العميق حيث ينبت من الكبد ويجري إلى فوق وإلى أسفل.
وهذا الجزء من هذا القول ليس يكتبه جميعهم على مثال واحد لكنّهم قد يغيّرونه ويزيدون فيه وينقصون منه أسماء وهم يريدون بذلك إصلاحه لما هو عليه من الاستغلاق. وينبغي أن نساعدهم متى كان إصلاحهم للكلام بتغيير شيء يسير فيكسبونه به إذا المعنى حقّ مستقيم.
وأرى أنّه قد وقع في هذا الموضع من هذا الكلام منذ أوّل الأمر سقط ولعلّ أبقراط لمّا كان إنّما كتب هذا الكلام تذكرة لنفسه لما عاين لم يعن بتصحيح العبارة فيه وإقامتها. وقد تأوّلت أنا قبيل هذا الكلام في العرق الضارب فقلت: «إنّه يجري من هذا عرق ضارب إلى باب الكبد وإلى الزائدة العظمى وآخر إلى سائر الكبد» وقد تأوّل هذا الكلام قوم آخرون على وجه آخر وجعلوه افتتاح قول آخر يصف فيه أبقراط أمر العرق الذي منشؤه من باب الكبد. وإنّ أبقراط ابتدأ كلامه هذا كأنّه لم يتقدّم منه قول في أمر العروق كأنّه قال إنّ كلّ عرق يخرج من الكبد نابت منها عرقان واحد يأتي «نحو الباب والزائدة» والآخر العرق الذي كان كلامي فيه إلى هذه الغاية والعرق الذي يأتي «نحو الباب والزائدة» بيّن عند كلّ واحد أنّه ينقسم في الأمعاء والطحال وترك ذِكر قسمته في هذا الموضع لأنّ علمه ظاهر مكشوف. وقالوا إنّ أبقراط إنّما أثبت لنفسه هذا الرسم لأنّه ممّا يستدلّ به على أنّ
الكبد أصل جميع العروق غير الضوارب وذلك أنّه إن كان العرق الذي منشؤه من باب الكبد ينقسم في المعدة والطحال والأمعاء والعرق العميق ينقسم في سائر أعضاء البدن فإنّه يتبيّن من ذلك أنّ العرق إنّما ينبعث إلى البدن كلّه من الكبد.
وهذا القول كما قلت قول غامض وأمّا الأقاويل التي قالها بعد فبيّنة واضحة فأوّلها قوله «والحجاب متّصل بالكبد اتّصالاً لا يمكن معه تفرقته منها بسهولة» واتّصال هذين بالحقيقة اتّصال يعسر تفرقته من غير أن ينقلع من أحدهما مع الآخر شيء.
ولا فرق متى كان الاتّصال بين شيئين هذا الاتّصال بين أن يقال «إنّ الحجاب متّصل بالكبد» وبين أن يقال «إنّ الكبد متّصلة بالحجاب» لأنّ الشيئين اللذين يتّصلان فحقّ كلّ واحد منهما من الاتّصال مثل حقّ الآخر فأمّا الشيء الذي نقول إنّه يتّصل بالشيء على أن ابتدأ بناية منه والشيء الذي نقول إنّه متّصل بالشيء على أنّه يحيط به والشيء الذي نقول إنّه متّصل بالشيء على أنّه يجري فيه فالفرق فيما بين القولين فيها عظيم. من ذلك أنّ العصب إنّما يستقيم أن يقال إنّه يتّصل بالدماغ وينبت منه ويتّصل بالعينين واللسان والقلب والرئة والمعدة وينتهي فيها ويقال في العروق الضوارب إنّها تتّصل وتنبت من القلب وتتّصل وتنتهي في سائر الأعضاء ويقال في أغشية الدماغ والنخاع إنّها تتّصل وتحيط بالدماغ والنخاع ويقال في المريء إنّه يتّصل وينفذ في الصدر. وفي جميع هذه ليس يجوز أن ينعكس الحكم وذلك أنّه ليس يجوز كما يجوز أن يقال إنّ المريء متّصل بالصدر نافذ فيه يجوز
أيضاً أن يقال في الصدر إنّه متّصل بالمريء نافذ فيه ولا كما يجوز أن يقال في حجب الدماغ إنّها متّصلة محيطة بالدماغ يجوز أن يقال في الدماغ إنّه متّصل محيط بأغشيته وكذلك قد نقول في العصب إنّه متّصل نابت من الدماغ ولا يجوز أن نقول في الدماغ إنّه متّصل نابت من العصب.
فأمّا متى قلنا إنّ الكبد متّصلة بالحجاب فكان هذا القول حقّاً فإنّ عكسه أيضاً حقّ وهو أنّ «الحجاب متّصل بالكبد». وقد دلّ أبقراط بقوله إنّ اتّصال الحجاب بالكبد «اتّصال لا يمكن معه تفرقته منها بسهولة» أنّ اسم «الاتّصال» عنده قد يقع على الأعضاء التي نسبتها بعد إيروفيلس إلّا أنّ تفرقتها تكون بالسلخ والكشط مثل تفرّق الجلد عمّا دونه. وذلك أنّ هذا أيضاً ضرب من الاتّصال وإن كان ضعيفاً وذلك أنّه يكون بخيوط دقاق شبيهة بخيوط نسج العنكبوت وليس كذلك اتّصال الحجاب بالكبد لكنّه اتّصال قويّ لا يكون انحلاله إلّا خارجاً. وإنّما ذكر هذا الاتّصال لشيء ساقه إليه الكلام على طريقه لأنّه اضطرّ إلى ذكر الحجاب.
فينبغي أن نرجع إلى ما قصدنا إليه. فقد قال أبقراط: «وعرقان من التراقي أحدهما من أحد الجانبين والآخر من الآخر من باطن ستر الصدر ينحدران إلى المراقّ» فإن نحن حذفنا الكلام الذي جعله في الوسط وأراد به الشرح ووصلنا
الكلام فضممناه بعضه إلى بعض على ما أنا مقتصّه الآن كان اتّصاله اتّصالاً بيّناً. أقول إنّه أتى بالعرق الكبديّ بالقول «حتّى انتهى به إلى التراقي» ثمّ إنّه أتبع ذلك بأن قال: «ثمّ إنّه تنبعث منه من هناك عروق إلى الرقبة وعروق أخر إلى الكتفين وعروق أخر تعطف راجعة إلى أسفل ثمّ تميل نحو الفقار والأضلاع». وقد قلت إنّه يعني «بالعروق التي تنبعث إلى الرقبة» العرقين اللذين يسمّيان «الوداجين» وقلت إنّه أدخل في ذكره للعروق التي تنبعث إلى الكتفين العروق التي تنبعث إلى اليدين وقلت إنّه يعني «بالعروق التي تعطف راجعة إلى أسفل فتصير إلى الأضلاع» العرقين اللذين يؤدّيان الغذاء إلى أضلاع الصدر الأربع الفوقيّة فالذي تقدّم ذكره من العروق هذه الثلاثة الأزواج.
ثمّ إنّه ذكر الآن زوجاً رابعاً من العروق منشؤه من الموضع الذي تنبت منه تلك العروق التي تقدّم ذكرها وليس منشأ هذين العرقين من جنبتي العرق العميق لكنّ منشأهما من مقدّمه خاصّة وهذان العرقان ينحدران من باطن القصّ إلى المراقّ. وسمّى أبقراط ذلك الموضع في هذا الموضع «ستر الصدر» ولم يسمّه «القصّ» كما سمّيته أنا في هذا الموضع وإنّما أتبعت أنا في ذلك عادة أصحاب التشريح فإنّ من عادة أصحاب التشريح أن يسمّوا بهذا الاسم العظم الأوسط الذي في مقدّم الصدر الذي تتركّب فيه الأضلاع وطرفه الأسفل هو الغضروف الذي يشبه بالسيف.
والأغشية التي تقسم فضاء الصدر قسمين تجري محاذية للموضع الأوسط بالحقيقة من القصّ من أعلاه إلى أسفله متّصلة بالقصّ والصلب. وعن جنبتي هذه الأغشية يجري هذان العرقان من فوق إلى أسفل أحدهما من جانب الصدر الأيمن والآخر من جانبه الأيسر فإذا قاربا أصل الغضروف الشبيه بالسيف جريا على الوراب فمالا إلى الجانبين نحو الثديين ثمّ انبعثت منهما شعب إلى الثديين ثمّ إنّ الباقي من كلّ واحد منهما ينقسم قسمين ثمّ يجري القسمان إلى أسفل وإحدى الطائفتين بارزة ظاهرة تحت الجلد والطائفة الأخرى غائرة في العمق مستبطنة للعضلتين المنتصبتين اللتين على ظاهر البطن. فيصير جميع العروق التي في هذا الموضع أربعة تجري من فوق إلى أسفل وتتّصل بأطراف هذه أربعة عروق أخر تجري من أسفل إلى فوق.
ولم يكن أبقراط عرف تلك العروق الجارية من أسفل في وقت كتب ما كتب من هذا وذلك أنّه لمّا تقدّم فقال: «وعرقان من التراقي أحدهما من أحد الجانبين والآخر من الآخر من باطن ستر الصدر ينحدران إلى المراقّ» أتبع ذلك بأن قال: «ولم أعلم بعد إلى أين ينتهيان من هناك». وهذا القول وحده من هذا الكلام يوهمني أنّ أبقراط مع ما قصد لتذكرة نفسه بهذا الكلام ممّا عاين في التشريح من أمر العروق قد قصد لغيره ممّن يقرأ كلامه فيه وخليق أن يكون لم يقل ما قال من
هذا وهو يقصد به إلى غريب لكنّه إنّما قصد به إلى بنيه لأنّه علم أنّهم سيقرؤون تذكراته.
وهذا القول الأوّل يوجد على نسختين مختلفتين وكلّ واحدة من النسختين على سبيل من الإقناع والنسختان هما على ما أصف: أمّا الواحدة فالقول فيها على هذا المثال: «وعرقان من التراقي اثنان أحدهما من أحد الجانبين والآخر من الآخر» والمعنى يصحّ على حسب النسخة الأولى التي فيها «واحد واحد من كلّ واحد من الجانبين» إذا فهمنا ذلك على كلّ واحد من العرقين اللذين يتشعّبان من فوق حتّى يكون يعني أنّ أحد ذينك العرقين يجري في الجانب الأيمن من الصدر والعرق الآخر يجري في الجانب الأيسر منه. ويصحّ المعنى على النسخة الثانية التي فيها «عرقان من كلّ واحد من الجانبين» إذا فهمنا أنّه يعني العروق التي من دون الصدر وهي عرقان من أحد الجانبين وعرقان من الجانب الآخر. وذلك أنّ كلّ واحد من العرقين الأوّلين اللذين في الصدر إذا جاوز الثدي انقسم فصار عرقين ولذلك لم يخطئ من قال إنّ من هذه العروق عرقين من أحد الجانبين وعرقين من الجانب الآخر لأنّ في الجانب الأيمن من البدن من العروق التي تنحدر إلى المراقّ عرقين وفي الجانب الأيسر عرقين آخرين.
واسم «المراقّ» عند المستعملين له على حقيقته إنّما يعني به الحجاب الممدود على البطن الذي يسمّيه اليونانيّون «باريطوناون» وربّما سمّي بهذا الاسم
أعني «المراقّ» ظاهر البطن كلّه المتّصل بذلك الحجاب. واسم «البطن» عند اليونانيّين ربّما دلّ على جملة الموضع الذي بين الصدر وبين الرجلين وربّما دلّ على الموضع الذي يقبل الطعام والشراب إذا ازدرد الذي يخصّ باسم «المعدة».
وقد وصفت العروق الأربعة التي تتلقّى الأربعة العروق التي ذكرها أبقراط في مقالة وصفت فيها تشريح العروق في كتابي في علاج التشريح وبيّنت لأيّ سبب جعلت الطبيعة هذه العروق بهذه الحال في كتابي في منافع الأعضاء.
ثمّ إنّ أبقراط بعد هذا قال: «فأمّا الحجاب فإنّه عند الفقرة التي من دون الأضلاع حيث الكلية من العرق الضارب راكب على ذلك العرق». وأمّا قوله «حيث الكلية من العرق الضارب» فناقص وينبغي أن تفهم عنه منه «حيث تقبل الكلية شعبة من العرق الضارب» والكلى اثنتان وكلّ واحدة منهما تأخذ شعبة من العرق الضارب الأعظم وإنّما ذكر أبقراط في هذا الموضع واحدة من الكليتين وهي اليمنى لأنّ الشعبة التي تصير إليها من العرق الضارب الأعظم تنبعث قبل الشعبة التي تأتي الكلية اليسرى وذلك أنّ الكلية اليمنى أعلى موضعاً وأقرب من الحجاب. فمعناه فيما قال إنّ موضع «الحجاب» من بعد «الفقرة التي من دون الأضلاع» يعني من بعد الصدر في الموضع الذي تتّصل فيه الكلية اليمنى بالعرق الضارب الأعظم بشعب كثيرة فيما بينهما.
وقال: «إنّ الحجاب راكب على هذا العرق [الضارب]» فاستعمل هذه اللفظة أعني «راكباً» على حقّ معناها. وذلك أنّ العرق الضارب الأعظم حيث ينفذ من الحجاب ليس يوجد النقب الذي ينفذ فيه من الحجاب مستديراً بالصحّة لكنّك تراه كأنّه يحتدّ رأسه فيصير شبيهاً بالمثلّث وله من كلّ واحد من الجانبين شبيه بالساق فعلى هاتين الساقين يركب الحجاب على العرق الضارب الأعظم والمريء.
ثمّ قال: «وتنبت عروق ضوارب أيضاً من هذا الموضع وإزاءه» يعني العروق الضوارب التي تنبعث إلى الكبد والمعدة والطحال والأمعاء. وهما عرقان يتّصل أصل أحدهما بالآخر ويماسّه وليس منشؤهما من العرق الضارب الأعظم كمنشأ سائر العروق الضوارب وغير الضوارب التي منشؤها كلّها إلّا الشاذّ زوجاً زوجاً وخاصّة منشأ العصب لكنّ منشأ كلّ واحد منهما مفرد على حدته وهو من مقدّم العرق الضارب الأعظم. وينبت أوّلاً العرق الذي ينبثّ في الكبد والطحال والمعدة ثمّ الآخر الثاني يماسّه وينقسم في جدولين من جداول الأمعاء فأمّا الجدول الثالث الذي هو في الجانب الأيسر وينحدر إلى أن يتّصل بالمعى المعروف «بالمستقيم» الذي طرفه الدبر فالعرق الضارب الذي ينبثّ فيه ينبت من مواضع أخر. وهذان العرقان الضاربان اللذان ذكرت ربّما كان أصلهما واحداً ثمّ ينقسم قسمين وإلى
جانب كلّ واحد منهما عصبة لاصقة به تنقسم كما ينقسم العرق الضارب في ذلك الجدول الذي ينقسم فيه.
ولذلك قال: «إنّه يتّصل بكلّ واحد من هذين العرقين عصبة من كلّ واحد من الجانبين» فإن لم نفهم قوله «من كلّ واحد من الجانبين» أنّه عنى به العصب وفهمنا أنّه عنى به العرقين الضاربين كما يؤدّي بعض النسخ لأنّه يوجد فيها «وتنبت عروق ضوارب أيضاً من هذا الموضع من كلّ واحد من الجانبين عرق تتّصل به عصبة» لم يجز لنا أن نفهم من قوله هذا أنّه يعني به هذين العرقين إذ كان نباتهما ليس هو على طريق نبات ما ينبت زوجاً زوجاً وذلك أنّهما ليسا باثنين من الجانبين لكنّ من الجانب المقدّم. فيجب ضرورة أن نفهم على حسب ما في تلك النسخة من قوله هذا «إنّ عروقاً ضوارب من هذا الموضع من كلّ واحد من الجانبين عرق» العرقين الضاربين اللذين يتّصلان بالكليتين وذلك أنّ هذين العرقين منشؤهما من جنبتي العرق الضارب الأعظم ويجاوزهما أيضاً عصبتان دقيقتان تتّصلان بالكليتين.
وقد بيّنت في تفسيري لكتاب أبقراط في المفاصل في مواضع كثيرة من ذلك الكتاب أنّه يعني «بالعصب» ما ينبت خاصّة من الدماغ أو من النخاع وسنبيّن لك في كلام يأتي بعد هذا أنّ استعماله لهذا الاسم على هذا المعنى.
فأمّا قوله «ونحو ذلك الموضع» يعني في ذلك الموضع «ينفد العرق الكبديّ إذا رجع جارياً من القلب» فحقّ يقين. فهمنا من قوله الأوّل أنّه يعني به العرقين الضاربين اللذين ينبثّان في جدولين من جداول الأمعاء وفهمنا منه العرقين الضاربين اللذين يتّصلان بالكليتين. وذلك أنّ العرق الذي يؤدّي الغذاء إلى النواحي السفليّة من الصدر ينقسم عند منتهى الصدر قسمين ثمّ يجوز الحجاب فيصير إلى تلك المواضع وينبثّ في الأعضاء التي هناك.
وليس نجده يستعمل حقيقة اللفظ في قوله «إنّ العرق الكبديّ ينفد نحو ذلك الموضع إذا رجع جارياً من القلب» وذلك أنّه ليس العرق الكبديّ نفسه «يرجع جارياً من القلب» إلى ذلك الموضع لكنّه إنّما يصير إلى هناك جزء منه وهو العرق الذي يؤدّي الغذاء إلى النواحي السفليّة من الصدر فإنّ ذلك العرق هو الذي «يعطف راجعاً من القلب» حتّى يصير إلى ما هناك.
فلمّا فرغ أبقراط من هذا القول أردفه بأشياء كان ترك ذكرها فيما تقدّم من قوله فقال: «ومن العرق الكبديّ يجري على الحجاب عرقان عظيمان أحدهما من أحد الجانبين والآخر من الآخر وهما كالمتعلّقين وعلى الحجاب أيضاً عروق أخر كثيرة الشعب محيطة بذينك العرقين وهذه العروق من فوق الحجاب أبين». هذا فصّ كلام أبقراط ويدلّ به أنّه ينبت من العرق الكبديّ عروق صغار وعرقان عظيمان أعظم من تلك العروق كلّها فتنبثّ في الحجاب ومنشأ تلك العروق يكون في الموضع الذي ينفد فيه ذلك العرق العظيم في الحجاب. وفي ذلك الموضع ثلاث طبقات فيتّصل بعضها ببعض ويمكن أن يسلخ بعضها عن بعض فلا بدّ من أن
يكون منشأ تلك العروق التي تنبثّ في الحجاب إمّا بين الطبقة السفلى وبين الوسطى وإمّا بين الطبقة الوسطى وبين العليا.
ولم يبيّن أحد من أصحاب التشريح موضع تلك العروق بل أكثرهم ألقى ذكر تلك العروق أصلاً وأمهر أصحاب التشريح وأشدّهم كلّهم استقصاء في معرفته وهو مارينس قال في الحجاب: «إنّه يتولّد فيه من نفس جرمه مجرى يجري فيه الدم من العرق النافذ فيه» والأمر يظهر في العيان على خلاف ما ذكر. وذلك أنّ الطبقة الوسطى من الحجاب هي وتر العضلة المقوّمة بجوهر الحجاب الخاصّ ومن فوق هذه الطبقة طبقة أخرى هي قاعدة الأغشية التي تستبطن الصدر من كلّ واحد من جانبيه أعني من الجانب الأيمن والأيسر ومن أسفل تلك الطبقة الوسطى طبقة أخرى ثالثة وهي قُلّة الغشاء الممدود على البطن الذي يسمّيه اليونانيّون «باريطوناون». وإن سلخت هذين الغشاءين عن الطبقة الوسطى وهي كما قلت خاصّ جوهر الحجاب رأيتها ليس فيها مجرى بتّة ورأيت العروق من جانبها الأعلى ولذلك بالواجب من قبل أن تسلخ عن الحجاب الغشاء الذي يغشاه من فوق ترى ذينك العرقين العظيمين من الناحية العليا رؤية أبين وإلى ذلك أشار أبقراط بقوله «وهذه العروق من فوق الحجاب أبين». وذلك أنّ ذينك العرقين الكبيرين اللذين في الحجاب إذا تأمّلهما المتأمّل من أعلاه كانا «أبين» وأظهر من أن يتأمّلهما من
أسفله وذلك أنّا نراهما من أعلاه من وراء غشاء واحد وليس نراهما من أسفل من وراء حجاب واحد من قبل أنّه يحول بين البصر وبينهما مع الغشاء وتر الحجاب. وقد تنبت مع ذلك من العرق الكبديّ عروق أخر دقاق شبيهة بالشعر في نفوذه الحجاب تنقسم في نفس الحجاب ومجرى هذه العروق فيما بين الطبقة الوسطى من الحجاب وبين الغشاء الأسفل. وما كان من الحيوان أسخن مزاجاً فقد يوجد فيه مكان العرقين الكبيرين في أكثر الأمر أربعة عروق.
فقول أبقراط «إنّ على الحجاب أيضاً عروق كثيرة الشعب محيطة به» إنّما ينبغي أن يفهم عنه من قوله «الحجاب» العضو الذي يسمّى بالحقيقة بهذا الاسم وهو العضلة التي تحرّك الصدر بأسرها التي تنتهي إلى وترة مستبطنة فيما بين الغشاءين اللذين ذكرنا لأنّ جوهر الحجاب المخصوص به إنّما هو تلك العضلة التي تحيط بها من جانبيها العروق التي ذكرنا وتغشى تلك العروق من فوق أسفل الأغشية المستبطنة للصدر ومن أسفل أعلى الغشاء الممدود على البطن. وما كتب من هذا موافق لما يظهر في التشريح والتمست فيه مطالعة ما أعلمه علماً يقيناً لمحص كلام أبقراط.
فأمّا الذين فسّروا كلام أبقراط هذا وليس معهم من أمر التشريح خبر فقد يجوز أن يظنّ بهم من لا يخبر أمر ما يظهر في التشريح أنّهم يقولون شيئاً ولعلّ بعض من هذه حاله يتوهّم عليهم أنّ قولهم أبلغ من قولنا وإن كنّا إنّما قلنا ما قلناه بعلم. فأمّا
من علم ما يظهر في التشريح علماً يقيناً فإنّه ينسب أولائك إلى التقدّم والقحة إذا كانوا يقدّمون بالصرامة على ما لم يعلموه كأنّهم قد علموه فقد دلّوا على أنفسهم بما كتبوا أنّهم أجهل بأمر التشريح من القصّابين. وإن أنا رمت أن أصف ما كتبه كلّ واحد من هؤلاء القوم وأكشفهم حتّى أبيّن مبلغ قلّة خبرهم بأمر التشريح اضطررت إلى أن أفني في ذلك مقالة بأسرها.
(٢) قال أبقراط: وتنحدر من الدماغ عصبتان إلى جانب عظم الفقرة العظمى من فوق قبل المريء عن جنبتي العرق الضارب ولا تزالان جاريتين حتّى تلتقيا فتصيرا كأنّهما عصبة واحدة ثمّ تنتهيا حيث يتّصل الفقار والحجاب. ويخيّل إليّ أنّه تجري من هذا الاتّصال أعصاب مشكوك فيها إلى الكبد والطحال وتجري عصبة أخرى من كلّ واحد من الجانبين من الفقرتين اللتان تليان التراقي عن جانب الصلب من جنبتي الفقار وتنال منها الأضلاع كما تنال من العروق. وهذا العصب ينفذ في الحجاب ثمّ يجري فيما خيّل لي إلى الجداول وينتهي فيه ويتّصل أيضاً من حيث ينبت الحجاب في الوسط من تحت العرق الضارب ويتشعّب باقيه إلى جانب الفقار كما تتشعّب العروق حتّى يفنى بعد أن يبلغ العظم الذي بين الوركين.
قال جالينوس: أمّا العروق الضوارب وغير الضوارب فقد يوجد منها في مواضع من البدن يسيرة مفردة لا قرين لها فأمّا «الأعصاب» فليس يوجد منها شيء مفرد
لا قرين له لكنّها كلّها إنّما تنبت زوجاً زوجاً ومنها ما ينبت من الدماغ ومنها ما ينبت من النخاع ونباتها من كلّ واحد منهما من جنبتيه. وأزواج العصب النابت من هذين كثيرة وكلام أبقراط في هذا الموضع إنّما هو في زوجين منه «ينحدران من الدماغ» إلى الرقبة والصدر ونواحي البطن فأمّا سائر العصب النابت من الدماغ فليس منه شيء يجاوز الوجه إلى ما دونه خلا هذين الزوجين اللذين ذكرهما أبقراط في هذا الكلام الذي نحن في شرحه.
وقد يكثر تعجّبي ممّن فسّر هذا الكتاب وأحدهم سابينس وذلك أنّه لمّا صار إلى ذكر العروق لم يشرح شيئاً من غامض الأمور الذي قيل فيها ثمّ زاد شيئاً فضلاً لا يحتاج إليه وهو الحاجة إلى أن كانت العروق في البدن. وكذلك فعل أصحابه حتّى توهّموا أنّهم قد قالوا شيئاً فلمّا صاروا إلى ذكر العصب اقتصروا على أن قالوا إنّ كلام أبقراط فيه واضح بيّن فإن كانوا إنّما فهموا كلام أبقراط في العصب كما فهموا كلامه في العروق فإنّي أقول فيهم ما قد بيّنوه عن أنفسهم في تفسيرهم لكلامه في العروق وهو أنّهم لم يروا قطّ تشريح خنزير فضلاً عن تشريح قرد أو تشريح إنسان.
فأمّا أنا فقد كتبت في الحاجة إلى جميع الأعضاء سبع عشرة مقالة أفردتها لهذا الباب وشرحت أمره فيها ولم أقتصر على نتف منه خسيسة يليق بالصبيان كما
اقتصر سابينس وقد يشهد من كثرت عنايته بذلك الكتاب وتصحيحه أنّ ما كتبته فيه أبلغ وأنفس ممّا كتبه أرسطوطاليس. فأمّا الغرض في التفسير فإنّما هو عندي إيضاح ما كتبه صاحب الكتاب وشرحه وهذا هو قصد المفسّر وبغيته وقد يروم على الطريق من قصد تصحيح ما قيل في الكتاب. فأمّا الكلام في منافع الأعضاء فليس يتّصل بوجه من الوجوه بالإخبار عمّا يظهر في التشريح لكنّ هذا مذهب آخر وطريق غير هذا الطريق.
ولو كان سابينس حيّاً أو غيره من المفسّرين الذين قالوا إنّ قول أبقراط هذا في العصب قول بيّن لسهل عليّ أن أفضحهم وأبيّن أنّهم يجهلون جميع ما كتب أبقراط فيه. وذلك أنّهم كان يجب عليهم أوّلاً أن يقولوا أيّ الفقار يعني أبقراط بقوله «الفقرة العظمى» ثمّ يبيّنوا أيّ النسختين ينبغي أن تختار إذ كان هذا الكلام يوجد على نسختين مختلفتين وفي إحدى النسختين «إلى جانب عظم الفقرة العظمى» وفي النسخة الأخرى مكان «إلى جانب» «من تحت» حتّى يكون الكلام على هذا المثال: «من تحت عظم الفقرة العظمى» ثمّ يبيّنوا ما الذي عنى بقول «من فوق» وما الذي عنى بقوله «قبل المريء» وكيف ينبغي أن يشكل القاف من قوله «قبل» أبالكسرة أم بالفتحة وأيّ موضع من تلك «الفقرة العظمى» يجاوز هذا
العصب ثمّ يبيّنوا أيّ العروق الضوارب هذا «العرق الضارب» الذي ذكر وهل يعني عرقاً واحداً أم عرقين وإن كان واحداً أيّ عرق هو وإن كانا اثنين أيّ عرقين هما فإنّ هذا كلّه ممّا كان يحتاج إلى الشرح والتفسير فتركوه كأنّه أمر بيّن.
ولم يكن ينبغي لهم أيضاً أن يدعوا شرح ما قاله بعد حين قال: «إنّهما يلتقيان فيصيران كأنّهما عصبة واحدة» لكن كان يجب عليهم أن يزيدوا في هذا الكلام ما نقصه أبقراط. والنقصان في هذا الكلام هو أن يقال في أيّ موضع من البدن تلتقي هاتان العصبتان فهذا ما كان يحتاج إلى البحث والشرح منذ أوّل هذا القول ثمّ فيه أشياء أخر إلى انقضائه ليست باليسيرة تحتاج إلى ذلك اقتصر فيها أولائك المفسّرون على جملة مقتصرة فشهدوا أنّ هذا القول من أبقراط قول بيّن من قبل أنّه لم يعاينوا هذا العصب. وليس حقيقة الأمر على ما قالوا لكنّ هذا القول من أبقراط لاقتصاره قول غامض مستغلق وليس يقدر أن يفهمه إلّا من كان قد عاين هذا العصب الذي تكلّم فيه فأمّا غيره فلن يقدر على ذلك.
وأنا واصف أمر هذا العصب الذي تكلّم فيه وراجع إلى أوّل الكلام فيه فأقول إنّ هذا «العصب» الذي كلام أبقراط فيه في هذا الموضع ينبت «من الدماغ» بالقرب من منشأ النخاع. وليس بعد هذا الزوج من العصب النابت من الدماغ إلّا زوج واحد ينبعث نحو زائدتي الرأس وليست به حاجة إلى ذكر ذلك الزوج من
العصب في هذا القول فأمّا هذا الزوج من العصب الذي كتب أبقراط في هذا الموضع فهو الزوج الذي يعدّه مارينس الزوج السادس من أزواج العصب النابت من الدماغ. وقد يُظنّ أنّ بين مارينس وبين إيروفيلس في هذا اختلاف وليست بك حاجة إلى أن أذكر لك شيئاً في ذلك الاختلاف في هذا الموضع لأنّ الكلام في هذا الزوج هل ينبغي أن يحسب السادس أو السابع أو الثامن أو التاسع أو غيرها من أزواج العصب النابت من الدماغ في طريق آخر يطول. فأمّا مارينس فوصف الطريق الذي يسلكه هذا العصب كلّه في انحداره من العنق والصدر إلى ما دون الحجاب كما وصفه أبقراط في هذا الموضع ورام أن يشرح قول أبقراط ويبيّن أنّ قوله حقّ لكنّه غامض لاقتصاره.
وفي افتتاح هذا الكلام أنّ هذا العصب بالقرب من «الفقرة العظمى» وفي الرقبة ثلاث فقرات عظام وهي الأولى والثانية والسادسة. والأولى أن يكون أبقراط عنى «بالفقرة العظمى» في هذا الموضع إحدى الفقرتين الأوّلتين لأنّه يجب عندي أن يكون أبقراط قصد لوصف الطريق الذي يسلكه هذا العصب كلّه من أوّله كان أبقراط إنّما كتب ما كتب من هذا تذكرة لنفسه أو كان كتبه لأولاده. وعظم الفقرة الأولى التي تتّصل بالرأس غير عظم الفقرة الثانية وذلك أنّ الفقرة الأولى تفضل على الثانية في العرض والثانية تفضل على الأولى في الثخن. وهذا الزوج من العصب
الذي تقدّم ذكره ينحدر إذا نبت من الدماغ نحو هاتين الفقرتين ويلقى خاصّة الفقرة الثانية. وذلك أنّه لمّا كان منشأ هذا العصب من عظم الرأس حيث القحف مثقوب من جنبيه في طرفي الشأن الشبيه باللام Λ في كتاب اليونانيّين لم يكن يمكن أن يلقى منشؤه الفقرة الأولى ولذلك يجري شبيهاً بالمتعلّق إلى أن ينتهي إلى الفقرة الثانية وهو إليها أقرب.
وعلى الموضع الأوسط من هذه الفقرة أيضاً يجري «المريء» فإنّ المريء يبتدئ من أسفل عظم الرأس من قاعدة طرفي الشأن الشبيه باللام Λ الذي ذكرنا من قدّام فيجب أيضاً ألّا يمكن أن يلقى المريء الفقرة الأولى لكن يكون اتّصاله بالرقبة من عند الفقرة الثانية.
وعند هذه الفقرة أيضاً عرقان ضاربان وذانك العرقان أيضاً مفارقان للفقرة الأولى وذلك أنّهما في ارتفاعهما إلى الدماغ أميل إلى قدّام من ابتداء المريء ومن منشأ هذا العصب وابتدائه الأولى.
ومن أتى بعد أبقراط من الأطبّاء يسمّي هذين العرقين «عرقي السبات» من قبل أنّهم ظنّوا أنّهما متى شدّا برباط أو فسخا عرض للحيوان الذي يفعل ذلك به
السبات إلّا أنّ هذا أمر قد تبيّن لمن كان قبلي من المشرّحين أنّ من ظنّه قد أساء بظنّه إيّاه فأمّا هذان العرقان فلا أكره أن أسمّيهما «عرقي السبات» لبيان كلامي فيهما وإن كان ليس يحدث عنهما سبات. وهما يجريان عن جنبتي المريء في الرقبة واعتمادهما عليهما الاعتماد البيّن في الفقار الذي من بعد الثاني. فليس يمكن إذاً أن يكون أبقراط إنّما عنى «بالفقرة العظمى» الفقرة السادسة من الرقبة وإن كانت تلك الفقرة فقرة عظيمة وذلك أنّ الأولى أن يكون إنّما ذكر أوّلاً ابتداء الطريق الذي يسلكه هذا العصب.
وقد ينبغي لنا الآن أن نبحث أيّ النسختين أصحّ: النسخة التي فيها «من تحت عظم الفقرة العظمى» أو النسخة التي فيها «إلى جانب عظم الفقرة العظمى» فقد نجد بعضهم يكتب هذا الكلام على تلك النسخة ونجد جميع الكتب القديمة إلّا الشاذّ وتفاسير من فسّر هذه المقالة على النسخة الثانية.
فأقول إنّ الإنسان الذي يشرّح إن كان يشرّح وهو مكبوب على وجهه فالفقار منه يلقاك أوّلاً ثمّ العصب من بعد تحته فيصحّ على هذا الوجه النسخة التي فيها «من تحت عظم الفقرة العظمى» فإن كان التشريح إنّما يلتمس من مقدّم البدن لم يوجد العصب «تحت عظم الفقرة العظمى» لكنّه يوجد فوقه. وقد نجد أبقراط كما بيّنّا في القول الذي قبل هذا وهو قوله في العروق ليس يشرّح الإنسان وهو مكبوب على وجهه لكنّه إنّما يشرّحه وهو ملقى على قفاه ولذلك يسمّي ناحية القدّام «فوقاً» وكذلك فعل في هذا الموضع في وصفه للعصب فإنّه قال: «وتنحدر
من الدماغ عصبتان إلى جانب عظم الفقرة العظمى من فوق». ودلّك قوله «إلى جانب عظم الفقرة العظمى» على مشاركة العصب لتلك الفقرة والمشاركة أعني المجاورة تكون من أربع نواحٍ وذلك إنّما تكون إمّا من قدّام وإمّا من خلف وإمّا من الجانب الأيمن وإمّا من الجانب الأيسر فبزيادته بعد في قوله «من فوق» دلّ على أنّ هذا العصب يجري من قدّام الفقرة العظمى إذا كان يسمّي كما قد بيّنّا قبل في تشريح العروق الناحية القدّام «فوقاً».
ثمّ إنّه أتبع ذلك بأن قال: «قبل المريء» فإن كانت القاف من قوله «من قبل» مفتوحة فينبغي أن تفهم أنّ هذا العصب يلقى الفقرة الثانية قبل أن يلقاها المريء وإن كانت مكسورة فينبغي أن تفهم أنّ هذا العصب بالقرب من المريء حتّى أنّه يلقاه. فقد يلقى هذا العصب المريء أوّلاً ثمّ من بعد المريء يلقى عرقي السبات اللذين ذكرهما بعد فقال «عن جنبتي العرق الضارب» فإنّ هذا العصب ينحدر في العنق كلّه وهو ممّا بين العرقين اللذين يسمّيان عرقي السبات ثمّ إنّها حين يرد على الصدر أمّا العصب فيبقى بحاله من الاعتماد على الفقار جارياً عن جنبتي المريء إلى أن ينتهي إلى الحجاب وأمّا عرقا السبات فيفارقان العصب. ويجوز العصب الأربع الفقرات الأولى من الصدر وهو منحدر مع المريء وحده إلّا أنّه يكون أقرب قليلاً إلى التعليق ممّا كان ثمّ إنّ هذا العصب بعد عندما يعتمد العرق الضارب الأعظم على فقار الصدر مع المريء يلتفّ حول المريء ويلتقي إحدى العصبتين
والأخرى بالقرب من الحجاب وهذا ما عناه أبقراط بقوله «إنّهما تلتقيان فتصيران كأنّهما عصبة واحدة».
ثمّ إنّه أتبع هذا بأن قال: «ثمّ تنتهيان حيث يتّصل الفقار والحجاب» ودلّ بهذا القول أنّ هذا العصب ينتهي ويفنى حيث يتّصل الحجاب بالفقار. ثمّ قال بعد هذا: «ويخيّل إليّ أنّه تجري من هذا الاتّصال أعصاب مشكوك فيها إلى الكبد والطحال» يعني أنّها أعصاب ضعيفة خفيّة غامضة يشكّ في نباتها.
فلمّا فرغ من الكلام في هاتين العصبتين أخذ في الكلام في عصبتين أخرتين فقال: «وتجري عصبة أخرى من كلّ واحد من الجانبين من الفقرتين اللتين تليان التراقي إلى جانب الصلب من جنبتي الفقار وتنال منها الأضلاع كما تنال من العروق». ولو أمكن نشرنا أن ننشر سابينس مع سائر من قال إنّ هذا الاقتصاص من أمر العصب بيّن واضح ولو ساعة واحدة حتّى أسألهم فيجيبوني أيّ عصبتين يعني أنّهما «تجريان على الفقرتين اللتين تليان التراقي» فإنّا ليس نجد شيئاً من العصب منشؤه من تينك الفقرتين أو ممّا يليهما يجري إلى جانب الصلب من كلّ واحد من الجانبين «وينال منه الأضلاع كما ينال من العروق» فإن كان هذا هكذا فقد ينبغي لنا معشر من يخبر أمر التشريح وما يظهر فيه أن نلتمس توفيق ما علمنا بهذا الكلام.
وأنا واصف ما قد علمت من هذا فأقول إنّه تنحدر مع هاتين العصبتين اللتين تقدّم ذكرهما الجاريتين إلى جانب العرقين الضاربين عصبتان أخريان وأصحاب التشريح يظنّون أنّ خروجهما من القحف في تلك الثقب بأعيانهما التي تخرج منها العصبتان الأوليان. وليس الأمر كذلك بالحقيقة لكنّهما تخرجان من ثقبين آخرين فهاتان العصبتان تجريان إلى جانب العصبتين اللتين تقدّم ذكرهما في الرقبة كلّها ثمّ تفارقاهما عند أوّل الصدر وتجريان نحو الفقار من كلّ واحد من الجانبين واحدة منهما مورّبة إلى الصلب. فذكر أبقراط الموضع الذي تفارق فيه هاتان العصبتان العصبتين الأوليين فتجريان مورّبتين نحو الصلب ليجعله تذكرة لنفسه وكان هذا عنده بيّناً فاكتفى بأن قال: «من الفقرتين اللتين تليان التراقي» يعني من الفقرتين اللتين من تحت التراقي وهما من عظمي التراقي على عمود.
وقد دلّ على أنّ كلامه إنّما هو في هاتين العصبتين بقوله إنّ كلّ واحدة من هاتين العصبتين «تجري من جانب الفقار». وهاتان العصبتان تشتبكان وتلتحمان بالعصب الجاري من النخاع في كلّ واحد من المواضع التي فيما بين الأضلاع حتّى لا يمكنك بسهولة أن تعلم هل يخالط العصب النابت من النخاع شيء منهما أو إنّما بينهما وبين ذلك العصب اتّصال والتحام فقط في ممرّهما به يحويهما.
وقد بيّنت الأمر في هذا في كتابي في علاج التشريح حيث وصفت أمر العصب النابت من النخاع. وأمّا أبقراط فحكم أنّ الأضلاع تنال شعباً من هاتين العصبتين وتجري تلك الشعب في المواضع التي بين الأضلاع مع العروق.
وعند قول أبقراط أيضاً بعد هذا «وهذا العصب ينفذ في الحجاب ثمّ يجري فيما خيّل إليّ إلى الجداول ويفنى فيه» قد كان يسرّني أن أسأل المفسّرين لكتب أبقراط إلى أيّ الأمرين قصد وماذا يعني بهذا القول أيعني العصب الثاني الذي ذكره وحده أم يعني هاتين العصبتين مع العصبتين الأوليين؟ فإنّه بحسب مخرج الكلام منه الأخلق أن تفهم عنه أنّه إنّما عنى العصب الثاني فقط وأمّا بحسب ما يظهر في التشريح فالأولى أن يكون عنى العصب الأوّل والثاني جميعاً فإنّ أطراف العصبتين جميعاً بعد أن تتّصل بهما شعب يسيرة من العصب النابت من الفقار الذي بعد الصدر تنقسم في الجدول وفي الكلى. ولدقّة هذا العصب قد وقع فيه الشكّ والاختلاف بين حذّاق المشرّحين وبيني أنا أيضاً ونفسي فقد خيّل إليّ مراراً كثيرة أنّ العصب الذي يأتي الكلى إنّما يأتيهما من الزوج الثاني من العصب الذي ذكرناه وحده الجاري إلى جانب الفقار وخيّل إليّ مراراً كثيرة أنّ أكثر ذلك العصب شعب من هذا الزوج ويخالطه شيء يسير جدّاً من العصب الآخر.
فأمّا أبقراط فذكر «الكبد والطحال» وذكر أنّه يأتيهما من الزوج الأوّل الذي ذكره شعب «مشكوك فيها» ولم يذكر الجدول بتّة عند ذكره ذلك وألقى أيضاً ذكر تقسّم العصب في المعدة إلّا أنّ هذا خليق أن يكون إنّما ترك ذكره لأنّه بيّن يعرفه كلّ واحد لعظم العصب الذي ينقسم هناك فإنّ أكثر هذا العصب إنّما يتّصل بفم المعدة عند الموضع الذي ينتهي فيه الحجاب.
فأمّا منشأ هذا العصب الذي «يجري إلى الجدول» فلم يكن ليدع ذكره لو عرفه لأنّ الذي ذكر الشعب الخفيّة «المشكوك فيها» الجارية من هذا العصب إلى «الطحال والكبد» حريّ بأن يذكر الشعب التي تنقسم في الأمعاء كان تقسيمها تقسيماً خفيّاً مشكوكاً فيه أو كان بيّناً ظاهراً. والذين يقولون إنّ أطراف هذا العصب تخالط العصب الذي ينقسم في الجدول يرون أنّ قوله «وهذا العصب ينفذ في الحجاب ثمّ يجري فيما خيّل إليّ إلى الجدول» قاله في الزوجين جميعاً وهذه الشكوك بعد يسيرة.
فأمّا الحيرة العظمى ففيما ختم به كلامه حين قال: «ويتّصل أيضاً من حيث ينبت الحجاب في الوسط من تحت العرق الضارب ويتشعّب باقيه إلى جانب الفقار كما تتشعّب العروق حتّى يفنى بعد أن يبلغ إلى العظم الذي بين الوركين». العصب الذي قال فيه قبل إنّه ينتهي ويفنى عند الحجاب وعند الجدول قال فيه بعينه الآن «إنّه يبلغ إلى العظم الذي بين الوركين» وبيّن أنّه يعني أنّه يتشعّب وينقسم في الأعضاء التي هناك وهي المثانة وأعضاء التوليد والدبر. والحيلة عندي
في إصلاح هذا الاختلاف الموجود في كلام أبقراط هذا وتناقضه حتّى يوافق بعضه بعضاً متعذّراً جدّاً فأمّا سابينس وأشباهه فهذا الكلام عندهم بيّن جدّاً.
قال: «ويتّصل أيضاً من حيث ينبت الحجاب» «ويتشعّب باقيه إلى جانب الفقار». وقوله «أيضاً» يدلّ على أنّ كلامه إنّما هو في العصب الذي تقدّم ذكره والذي تقدّم ذكره من العصب زوجان وهذا القول يناقض قوله في كلّ واحد من ذينك الزوجين. وذلك أنّه قال في الأوّل هذا القول: «ثمّ ينتهيان حيث يتّصل الفقار والحجاب» وقال في الثاني هذا القول: «وهذا العصب ينفذ في الحجاب ثمّ يجري فيما خيّل إليّ إلى الجدول ويفنى فيه» فكيف يقول الآن في هذا العصب «إنّه يبلغ إلى العظم الذي بين الوركين» وما الذي يعني أيضاً بقوله «ويتشعّب باقيه إلى جانب الفقار كما تتشعّب العروق»؟ أمّا العصب الجاري في الصدر فإنّ القول فيه «إنّه تنال منه الأضلاع كما تنال من العروق» قول صحيح بيّن وذلك أنّا قد نرى رؤية ظاهرة في كلّ واحدة من الفِرَج التي فيما بين الأضلاع من صدر كلّ حيوان عرقاً ضارباً وغير ضارب وعصبة تجري بينهما متجاورة.
فأمّا القول بأنّ شعب العصب تخرج من تحت الحجاب إلى جانب الفقار بمخارج شعب العروق فقول غامض جدّاً. وتعرف ما أقول إذا أنا وصفت لك أمر العروق التي تتشعّب هناك وهي على ما أصف: العرق الكبديّ الذي ذكره منذ أوّل كلامه هذا يركب على القطن من فوق موضع الكلى ويجري على فقار القطن كلّها
إلى آخرها ثمّ ينقسم عند آخرها. وترى شعبه تخرج زوجاً زوجاً وعدد تلك الأزواج فعدد فقار القطن ومخارجها من حيث يلتقي الفقار بعضه بعضاً. ومن تلك العروق عروق دقاق تغور في جوف الفقار فتغذو النخاع وما حوله ومنها عروق أخر ترتفع إلى العضل الذي على البطن ومنها عروق أخر تنقسم في المتنين فهذه هي الحال في العروق التي تنقسم في القطن. وليس يتبيّن من هذا الكلام في هذه الشعب من العصب التي كلامه فيها هل يعني أنّها تجري مع العروق التي ترتفع إلى العضل الذي على البطن أو أنّها تنقسم في المتنين. فأمّا النخاع فليس يجوز أن يكون عنى أنّ هذا العصب يغور إليه لأنّا قد علمنا أنّه ينبت من النخاع من كلّ ملتقى فقرتين عصبتان من كلّ واحد من الجانبين عصبة صالحة القدر. وقد دلّ أبقراط في كتابه في المفاصل أنّه قد علم هذا وقد نعلم أيضاً من غير ذلك الكتاب أنّ من بلغ هذا المبلغ من الاستقصاء حتّى يبلغ من عنايته في تشريح العصب أن يدرك منه أدقّه وأخفاه فأحرى أن يكون قد أدرك قبله العصب الظاهر الغليظ.
فقد وقع في أمر هذا العصب اختلاف قد بقي إلى هذه الغاية لم ينفصل من قبل أنّ قوماً يظنّون أنّ شعباً منه تنبعث إلى الأنثيين في الذكر وإلى الرحم في الأنثى وقوم لا يظنّون هذا. وقد وقع هذا الاختلاف بعينه في أمر المعاء المستقيم وهو الدبر وبقي إلى هذه الغاية وهو يحتاج إلى رجل قويّ يحكم فيه بالحقّ. وسابينس وهو قد جهل من العروق أبينها فقد دلّ على ذلك بما كتب يدّعي أنّ هذا القول الذي قيل في العصب قول بيّن واضح وفيه هذا الاستغلاق كلّه والحيرة.
وإن تركت له هذا كلّه فإنّ قول أبقراط «تحت العرق الضارب» ممّا يعسر أن يعلم ما الذي أراد به وذلك أنّ القول في العصب الذي ينحدر من الحجاب إلى العظم العريض الذي فيما بين الوركين من «تحت العرق الضارب» ليس بصحيح. وذلك أنّ العرق الضارب الذي على القطن يجري منه على الموضع الأوسط من الفقار فأمّا العصبتان فتجريان على جنبتي الفقار.
وقول أبقراط أيضاً إنّ هذا العصب «متّصل» قد يحتاج إلى أن يعلم ما الذي عنى به فإنّ بالبس معلّمي كان يزعم أنّ الأغشية التي هي أسفل من الحجاب إنّما تتولّد من العصب بعد أن يعرض ويتّصل بعضه ببعض ولذلك تصير الأعصاب في ذلك الموضع «متّصلة» وقد كانت قبل ذلك الموضع غير متّصلة وكان كلّ واحد منها في حير خاصّ. وهذا باطل لأنّ لكلّ واحد من الأعضاء الأول طبيعة تخصّه أعني اللحم والغدد والعظام والعروق الضوارب وغير الضوارب وكلّ واحد من سائر الأعضاء التي تدخل الأغشية في عدادها فكما أنّ العصب يتّصل بسائر أعضاء البدن لينال بعضها منه الحسّ والحركة وبعضها الحسّ وحده كذلك يتّصل بالأغشية. وقد بلغت في شرح هذا الكلام بأكثر من هذا المقدار في المقالة الثالثة من كتابي في تشريح أبقراط.
ولا ينبغي أيضاً أن يفهم عنه أنّ العصب الذي تحت الحجاب متّصل بالعصب الذي فوقه الذي قال فيه إنّه ينتهي ويفنى عند الحجاب على أن يفهم عنه من قوله
«ينتهي» لا أنّه يفنى بتّة لكنّ عند الحسّ الظاهر أو على جلّ جوهره كأنّه يبقى منه جزء يسير يبلغ من قلّته أنّه لا يجب أن يقال فيه إنّه مولّد لجوهر العصب الذي من تحت الحجاب ولا يكون به إلّا اتّصاله بما فوقه فقط وإن كان هذا القول قد يصحّ في شعب أخر. وذلك أنّ العصب الذي ينحدر من الرأس إلى المعدة قد تراه يتّصل منها بفمها وفي هذا الموضع منها خاصّة ينقسم أوّلاً ثمّ إنّ أطرافه بعد أن تدقّ تجري إلى سائر تجويفها والعصب أيضاً الذي ينبعث إلى الكبد والطحال إنّما هو جوهره كلّه جزء من هذا العصب وليس تجد شعبة أخرى تنبعث إلى عضو من الأعضاء غير ما ذكرنا بمنزلة هذه الشعب التي ذكرت ولذلك قيل إنّ هناك «ينتهي» ويفنى العصب المنحدر من فوق الذي ذكره أبقراط أوّلاً. إلّا أنّ هاهنا عصباً آخر ثالثاً يتولّد بعد الحجاب من اجتماع العصب الثاني والعصب النابت من النخاع من بعد الحجاب فقد يجوز أن يقال إنّه تتّصل بهذا العصب أطراف دقاق من العصب الأوّل فيكون به الاتّصال ولا يكون جوهر ذلك العصب المتولّد جزءاً من هذا.
أمّا أنا فبهذا الوجه قدرت أن أؤلّف ما بين قولي أبقراط المختلفين اللذين قال في أحدهما: «ثمّ ينتهيان حيث يتّصل الفقار والحجاب» وقال في الآخر: «ويتّصل أيضاً من حيث ينبت الحجاب» فإن فكر غيري فيما هو أجود من هذا فثوابه عندي المحبّة والمودّة.
ولأنّ أبقراط قال في الحجاب «ينبت» واستعمل هذه اللفظة على غير حقيقتها فقد ينبغي أن أصف لك من أمر هذه اللفظة أيضاً ما قد استقصينا وصفه على
الكمال في كتبنا في التشريح وقد احتيج في هذا الوقت إلى جملته. وهي أنّه متى لم يكن القصد لتبيين رأي من الآراء في أصول أعضاء البدن كم هي وأيّ الأعضاء هي ثمّ قيل قول من الأقاويل في التشريح فلا فرق عندهم بين أن يقال إنّ هذا العضو «ينبت» من هذا العضو وبين أن يقال إنّ هذا العضو «ينتهي» «ويتّصل» بهذا العضو ومتى كان القصد لأصول الأعضاء ومبادئها فعند قصد ذلك تجدهم يستعملون الاستقصاء في تحقيق الكلام.
ففي هذا الموضع قد يجوز أن يقال إنّ الحجاب «يتّصل» بفقار القطن ويجوز أن يقال إنّه «ينبت» من فقار القطن من غير أن يبيّن في هذا الموضع البحث عن أصل أعضاء البدن كلّها ومنشئها أواحد هو أم شتّى وكيف مراتب تكون الأعضاء الجزئيّة وعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم قول أبقراط في هذا الموضع حين قال: «ويتّصل أيضاً من حيث ينبت الحجاب» وذلك أنّه قال «إنّه ينبت من الفقار» الذي لو قال قائل إنّه ينتهي عنده ويتّصل به لم يكذّب.
(٣) قال أبقراط: أهل أينس أصابهم جوع فأدمنوا أكل الحبوب فأعقب إناثهم وذكورهم مهانة في الرجلين ودام بهم ذلك وأكلوا أيضاً الكرسنّة فأعقبهم من ذلك وجع في الركبتين.
قال جالينوس: إنّ العضو أيّ عضو كان إنّما ينسب إلى «المهانة» إذا ضعف فعله المخصوص به وعلى ضدّ ذلك ينسب إلى الشدّة والقوّة إذا فعل فعله
المخصوص به فلم يذمّ منه فيه شيء. فقال أبقراط في أهل أينس «إنّهم لمّا أصابهم الجدب فأدمنوا أكل الحبوب» يعني لبثوا يأكلونها زماناً طويلاً من غير أن يستعملوا في بعض الأيّام الخبز أعقبهم ذلك ضعفاً في الرجلين. واسم «الحبوب» عند اليونانيّين إذا قيل مطلقاً فإنّما يعنون به الحبوب التي ليس من عادتهم أن يتّخذوا منها الخبز ويفردون الحبوب التي يتّخذون منها الخبز باسم خاصّ فيسمّونها «سيطس» وهو الاسم الذي يسمّون به البرّ. ولأنّ أصلح تلك الحبوب لاتّخاذ الخبز منه البرّ أعني الحنطة ثمّ من بعده الكنيث وبعدهما الحنطة الصغيرة والشعير — وقد يجوز أن يدخل في هذا الجنس الحبّ الذي يسمّونه «خندروس» والحبّ الذي يسمّونه «طراغس» الذي يكون من صنف من الكنيث — وأمّا سائر الحبوب فليس يسمّون شيئاً منها بالاسم الذي يسمّون به البرّ لا الدخن ولا الجاورس ولا الحمّص ولا الباقلّى ولا الترمس وأخرى ولا يسمّون به العدس والبيقية والحُرلى والكرسنّة والحلبة ولا شيئاً غير هذه ممّا أشبهها.
وقد يدلّك على تعاقم أمر الجدب الذي عرض بأينس أنّ أهلها اضطرّوا إلى أكل «الكرسنّة» وليس أحد من الناس يروم ذواق هذا الحبّ إلّا أن يضطرّ إليه ضرورة
شديدة وعندنا بآسيا وخاصّة في موسيا إنّما يطعمون الكرسنّة البقر بعد أن ينقعوها. وليس أحد من الناس يذوقها لأنّه حبّ حرّيف قويّ اليبس ولذلك هو بطيء الانهضام رديء الكيموس حتّى يكون إلى أن يحسب في عداد الأدوية أقرب منه إلّا أن يحسب في عداد الأطعمة لأنّ جميع ما كانت حاله هذه فقلّ ما ينال البدن منه من الغذاء ومنه ما يكون الغذاء الذي ينال منه مع قلّته رديئاً.
فليس هذا بعجب أن يكون عرض لأهل أينس «المهانة» والضعف بسبب قلّة الغذاء أو رداءته وتلك «المهانة» والضعف عرض لهم في البدن كلّه إلّا أنّ أبقراط دلّ عليها بعرض واحد من أعراضها وهو أبينها وأقربها إلى فهم جميع من رآهم. وذلك أنّ المشي فعل يضطرّ الناس إليه جدّاً وإن كانوا في غاية الضعف فمن ضعف عنه فقد تبيّن منه ضعف «الرجلين» ويستدلّ بضعف «الرجلين» على ضعف سائر أعضائه وما عسى أن يقدر أن يفعل بقوّة من لا يطيق أن يقلّ رجليه بقوّة عليها؟
فبالواجب أورث الجدب أهل أينس الضعف في البدن كلّه لاستعمالهم الغذاء الرديء ولأنّهم أيضاً لم يكونوا يشبعون من ذلك الغذاء الرديء وممّا يدلّك على
ذلك «أكلهم الكرسنّة» وما كانوا ليأكلوا الكرسنّة وهم يصلون إلى غيرها من الحبوب. ولذلك كانوا إذا اضطرّوا إلى المشي لمّا تدعوهم إليه الحاجة ينالهم التعب في جميع المفاصل التي في الرجلين وخاصّة في «الركبتين». وذلك أنّ الركبتين ينالهما من التعب في الأصحّاء فضلاً عن الأعلّاء إذا أسرفوا في المشي أكثر ممّا ينال سائر الأعضاء وذلك لموضع الوترات التي فيهما وقد وصفتها صفة شافية في كتبي في التشريح. ولذلك من أصابته جراحة على هذا المفصل من قدّام عند العظم المعروف «بالرضفة» والموضع الذي فوقه حيث تجري وترات العضل التي في الفخذ بعضهم مات وبعضهم بكدّ ما تخلّص.
ولم تخصّ هذه الأعراض أصحاب الأبدان الضعيفة بالطبع ممّن أصابه الجدب بأينس دون أصحاب الأبدان القويّة ولا أصحاب الأبدان اليابسة المزاج دون أصحاب الأبدان الرطبة وهذان المعنيان يفهمان من قوله إنّ تلك الأعراض بأعيانها عرضت «لإناثهم وذكورهم» وذلك أنّ الأنثى أضعف وأرطب من الذكر.
ولم يقتصر على ذكر من أصابه الجدب حتّى ذكر اسم مدينتهم التي عرض لهم فيها ما عرض لأنّه خليق أن يكون ذلك البلد قد أعان على حدوث ما حدث فيه. وذلك أنّ أينس مدينة من بلاد تراقي وتراقي بلد خصب لا يزال البرّ يزكو ويكثر فيه
حتّى يحمل منه إلى بلدان أخر كثيرة. فلمّا كان أهل تلك المدينة كانوا قد اعتادوا أن يستعملوا البرّ على الاتّساع وجب أن ينالهم ضرر أعظم من امتناعهم منه أصلاً وأكلهم مكانه «الحبوب» فقط مع الضيق والتقتير فيها حتّى يضطرّوا إلى أكل «الكرسنّة».
(٤) قال أبقراط: ينبغي أن يحتال في تهييج الغيظ لاسترداد اللون ولانصباب الأخلاط والسرور والرعب وما أشبه ذلك. وإن كان سائر البدن عليلاً مع العضو فينبغي أن يداوى معه وإن لم يكن قصد العضو.
قال جالينوس: هذا القول متّصل بالقول الذي تقدّم قبله إلّا أنّ ذلك القول كان قولاً جزئيّاً فأمّا هذا القول فليس بجزئيّ لكنّه كلّيّ. ويخصّ فيه القول الذي يشاكل ذلك القول ويطابقه وذلك أنّه يعلّمك كيف تداوي من حال لونه وقلّ اغتذاؤه وقضف وقد عرضت هذه الأعراض لأهل أينس إلّا أنّ الذي عرض لهم منها إنّما عرض بسبب الجدب وقد يعرض لآخرين بسبب مرض ويعمّ الفريقين جميعاً هذه الأصناف من العلاج التي وصفها أبقراط في قوله هذا. وذلك أنّه يأمر أن «تهيّجهم إلى الغيظ» يعني أن تتأتّى لأسباب من الأفعال والكلام تهيّجهم بها إلى الغضب
وتتأتّى أيضاً بالتعمّد لإفزاعهم إمّا برؤية سبع بغتة وإمّا بغير ذلك من سائر ما تهول رؤيته أو شبهه.
وقد يكون ذلك بأصناف كثيرة مختلفة وذلك أنّ عند هذه الأشياء كلّها تحدث للروح والدم الذين في البدن حركة قويّة سريعة وربّما حدث فيها شبيه بالغليان حتّى يحمى البدن وتقوى فيه الحرارة. فقد نسمع المغضب يقول ويقال فيه إنّه منتفخ متمدّد ويكاد أن ينشقّ ويتحرّق بسبب هذا العارض ونسمع أيضاً الفلاسفة القدماء يقولون إنّه يعرض للحرارة الغريزيّة في وقت الغضب غليان وقال أيضاً الشاعر أوميروس في أغاممنون إنّه لمّا غضب «صارت عيناه شبيهتين بالنار الصافية». ونجد أيضاً من غضب يحمرّ ويسخن بدنه كلّه حمرة وسخونة تتبيّن وبعضهم مع ذلك يعرق وجميع هذه الأعراض دلائل على أنّ الحرارة تتزيّد فيمن غضب وتسري مع ذلك نحو سطح البدن الخارج. ولذلك كان الغضب نافعاً لمن حال لونه وقضف بدنه من قبل أنّه يُبعث الدم وينفذه في جميع المواضع مع حرارة كثيرة.
وعنى بقوله «استرداد اللون» «ردّ اللون إلى حاله الطبيعيّة» فإنّ من عادة القدماء أن يستعملوا هذه اللفظة أعني «استردّ» على الشيء الذي يكون قد زال عن الشيء ثمّ عاد فاستعاده وليس يقال فيمن ولي ولاية أو ملكاً لم يكن صار إليه قبل إنّه «استردّ» الولاية أو الملك وإنّما يقال هذا فيمن قد كان فيه ثمّ زال عنه ثمّ عاد فاستعاده. واللون أيضاً الطبيعيّ إذا كان قد زال عن إنسان ثمّ عاد فاستعاده قيل إنّه قد «استردّه».
فأمّا «انصباب الأخلاط» فإنّ أبقراط يعني به في كتابه في الكسر وفي كتابه في الخلع وفي سائر كتبه على الأمر الأكثر انصباب الأخلاط خارجاً من العروق إلى الموضع الذي تحت الجلد وبعض أصناف هذا الجنس الدم الذي يحتقن في المواضع التي دون العينين حتّى تخضرّ وتصير في لون الباذنجان والدم الذي يكمن في نفس العينين عند ضربة تصيبها والدم الذي يكمن في سائر الأعضاء إذا أصابتها الضربة حتّى تخضرّ وتصير في لون الباذنجان. وأمّا في هذا الموضع فعنى بهذا الاسم معنى أعمّ من هذا وهو خروج الدم بالعروق جملة كيف كان وصنف من هذا الجنس هو الذي دلّ عليه في هذا الكلام وهو ألّا يخرج من العروق دم كثير دفعة ولا يحتقن تحت الجلد كما يحتقن في العلل التي تقدّم ذكرها لكنّه
ينبثّ بمنزلة الطلّ في جرم الأعضاء على المثال الذي تكون عليه أعضاء البدن كلّها إذا كان البدن باقياً على حاله الطبيعيّة وذلك أنّه إن لم ينصبّ الدم من العروق لم يمكن أن يغتذي البدن.
وقد يمكن أن يكون إنّما عنى «بانصباب الأخلاط» تولّد الأخلاط. وإذا قلت «الأخلاط» قولاً مطلقاً فينبغي لك أن تفهم عنّي أنّ جميعها تزيّدت على مناسبة ولا فرق بين قولي إنّ الأخلاط الطبيعيّة تزيّدت وإنّ الدم تزيّد لأنّا قد نقول «دم» ونحن نعني به الشيء المركّب من جميع الأخلاط على المناسبة الطبيعيّة وإنّما ينسب ذلك المركّب إلى الدم خاصّة ونسمّيه باسمه لغلبة هذا الخلط واستيلائه على الأخلاط الأخر.
وقد أعلمتك أنّا إذا قلنا إنّا نخرج دماً بفصد أو بحجامة فإنّما نعني باسم «الدم» في هذا الكلام الدم الذي يقال على طريق الغلبة وإذا قلنا إنّ في البدن أربعة أخلاط الدم والبلغم والمرّة الصفراء والسوداء فليس نعني حينئذ بقولنا «دماً» الشيء المركّب من جميع الأخلاط لكنّا إنّما نعني الشيء الذي يوجد بالوهم غير مخالط لغيره من الأخلاط. وعلى هذا الطريق يبيّن قوله «انصباب الأخلاط» أيْ
الأخلاط الطبيعيّة وسواء عليك فهمت عنه تولّد الأخلاط الطبيعيّة أو تزيّدها أو نفوذها من العروق إلى اللحم المحيط بها مع سائر الأعضاء الأصليّة.
ولم يقتصر على أن يلتمس لمن قد حال لونه وقضف «تهييج الغيظ» حتّى زاد مع ذلك الإرعاب بغتة من قبل أنّ «الرعب» أيضاً قد يحرّك الدم والروح حركة قويّة سريعة ثمّ أتبع «الرعب» بأن قال: «وما أشبه ذلك» فحصر في هذا القول جميع سائر ما يحرّك الدم حركة قويّة سريعة. وبيّن أنّ الأشياء التي تفعل ذلك هي هذه الأشياء التي يفعلها الناس بالمباراة ومحبّة التغالب فيها مثل إحضار من يحضر ومصارعة من يصارع ومضاربة من يضارب وسائر أشباه هذه الأفعال فإنّ هذه الأفعال تسخن بدن الذي يروم فعلها بمحبّته للمغالبة لغيره. وإذا رأى أيضاً إنساناً غيره يفعلها وكان إلى أحد الفاعلين لها أميل حتّى يقع في قلبه خوف من أن يغلب الذي يعنى به ورجا لأن يغلب أسخن بدنه فقد نرى قوماً ممّن يحضر اثنين يتصارعان أو يتسابقان في الإحضار أو يتضاربان فيهيّج من أنفسهم بحسب ميلهم إلى الواحد وانحرافهم عن الآخر من الخوف والرجاء فأسخن منهم البدن كلّه ونرى قوماً يعرض لهم ذلك عند نظرهم إلى خيل يجري للمباراة أو عند القتال بالديوك أو بالسمّان أو بالحجل.
وقد نجد أشياء أخر كثيرة منها ما فيها «يهيّج للغضب» ومنها ما ليس فيها غضب ولكنّ فيها محك وخوف ورجاء ومحبّة للغلبة تسخن البدن وتنفّذ الدم إلى جميع نواحيه. وهذه الأشياء كلّها من نوع واحد فأمّا «السرور» وقد ذكره في هذا القول فليس هو ممّا يدخل مع هذه في نوعها ولكنّه داخل في جنسها وذلك أن ليس فيه حركة قويّة سريعة ولا غليان للحرارة الغريزيّة لكنّ فيه انصباب فقط أعني حركة ساكنة هادئة لجميع الأخلاط وللحرارة إلى ظاهر البدن وقد يمكن أن ينتفع «بالسرور» أيضاً في تسمين البدن وتحسين لونه.
«وإن كان سائر البدن عليلاً مع العضو فينبغي أن يداوى معه وإن لم يكن قصد للعضو». لمّا وصف بالجملة كيف يداوى اللون الحائل والهزال استثنى بعد هذا القول وهو عندي فضل لأنّه ليس أحد يجهل أنّه إن كان البدن كلّه مع العضو الذي فيه العلّة عليلاً فلا ينبغي أن يقصد بالعلاج قصد العضو دون البدن كلّه مع الوصايا العامّيّة التي تقدّم ذكرها وإن كانت العلّة في العضو دون الكلّ فإليه ينبغي أن يقصد بالعلاج الجزئيّ من طلاء الزفت والتحمير والدلك المعتدل والحركات والتعليق والرياضة.
(٥) قال أبقراط: أمة سطومرجس التي ولا الدم جرى منها لمّا ولدت بنتاً التوى بدنها نحو وركها وأصابها وجع في رجلها فلمّا قطع لها العرق الصافن هدأت على أنّه قد كان أصابتها أيضاً رعشة في بدنها كلّه لكنّه إنّما ينبغي أن تقصد قصد السبب وما يمدّه.
قال جالينوس: ذكر امرأة «لم يجئ منها من الدم» ما من عادته أن يجيء من المرأة بعد ولادها وخليق أن يكون قد كان عسر على تلك المرأة ولادها ولذلك أخرج كلامه في الدم هذا المخرج فقال: «ولا الدم جرى منها» لأنّ من عادتهم أن يخرجوا الكلام هذا المخرج فيمن كان قد أصابته آفة أخرى. وممّا يوافق هذا أيضاً أنّها «ولدت بنتاً» لأنّ الأنثى أبطأ وأعسر ولاداً من الذكر وتلقّى المرأة من ولادها أذى شديداً فأشبه الأمور أن يكون أصاب تلك المرأة بسبب عسر ولادها وجع في أرحامها فعرض لها من ذلك ورم في الأرحام ولذلك «التوى بدنها نحو وركها» واحتقن الدم الذي ينحدر بعد الولاد فلم يجئ منها على ما ينبغي. وقد وُصفت في كتاب أبقراط في علل النساء مشاركة الورك والرجل في الألم للرحم.
فأمّا هذه المرأة «فأصابتها رعشة في بدنها كلّه» بسبب أنّه لم ينقّ بخروج الدم بعد الولاد ولذلك صار إلى فصدها على أنّ في أكثر الأمر ليس ينتفع بالفصد أصحاب الرعشة لا بل يزيد في الرعشة والسبب في ذلك أنّ الرعشة في أكثر الأمر تكون من غلبة البرد على الجنس العصبيّ من الأعضاء. وما يعرض في هذه العلّة من الفصد في أكثر الأمر شبيه بما يعرض في الاستسقاء وهو أنّ الفصد في هاتين العلّتين يضرّ في أكثر الحالات وينفع في الندرة وليس ينفع إلّا من كان قد ابتدأت به العلّة من احتقان دم كان يجري من أفواه العروق التي في المقعدة أو امرأة أصابتها العلّة من احتقان الطمث أو الدم الذي يجيء منها بعد الولاد أو غيرهما ممّن اجتمع في بدنه دم كثير بسبب من الأسباب ويبلغ من كثرته ألّا يؤمن معه انطفاء الحرارة الغريزيّة.
فبالواجب لمّا ذكر «الرعشة» أتبع ذكره لها بأن قال: «لكنّه إنّما ينبغي أن تقصد قصد السبب وما يمدّه» وعنى «بالسبب» السبب الذي عنه تتولّد العلّة وعنى «بما يمدّ» السبب أسبابه المتقدّمة التي منها استمدّ وتزيّد وعظم. وهذا القول منه قول كلّيّ قطع به على جميع العلل وحصر فيه أمر هذه المرأة التي كلامه هذا كلّه فيها التي كانت عليها «رعشة». وسبب الرعشة الدم الذي احتقن فلم
يستفرغ والشيء الذي أعان على استمداد ذلك الدم وتزيّده الورم الذي كان بها في الرحم فلمّا دلّ احتقان الدم على أنّه ينبغي أن يستفرغ ودلّ العضو الذي كانت العلّة فيه أعني الورم على الموضع الذي كان ينبغي أن يكون الاستفراغ منه قصد إلى «العرق الصافن» ففصده لأنّ الفصد من الصافن في مثل هذه العلّة أبلغ من الفصد في المأبض. وأبلغ من فصد الصافن أيضاً فصد العرق الذي يستبطن الركبة وذلك أنّ فصد هاذين العرقين يستفرغ الدم الذي في ورم الرحم بأسرع ممّا يستفرغه الفصد من المأبض وليس فيه هذا فقط لكنّه مع ذلك يدرّ الطمث.
وينبغي أن تعلم أنّ خاتمة هذا القول قد يوجد فيها في بعض النسخ مكان «وما يمدّه» «وابتدائه» حتّى يكون الكلام على هذا المثال: «لكنّه إنّما ينبغي أن تقصد قصد السبب وابتدائه». والمعنى في النسختين جميعاً معنى واحد.
(٦) قال أبقراط: الأشقر المسنون الأنف الصغير العينين خبيث الأشقر الأفطس الكبير العينين سلس مستسقٍ الأشهل الأشقر المسنون الأنف إن لم يكن أصلع.
قال جالينوس: إنّه قد وصف في هذا القول ثلاث حلى من حلى الأبدان وألحق مع الحلية الأولى أن قيل «رديء» وألحق مع الثانية أن قيل «سلس». ومن عادة
القدماء إذا وضعوا اسمين كأنّهما متضادّان واحد بإزاء الآخر أن يدلّوا على أنّه ينبغي أن يفهم مع كلّ واحد منهما ضدّ الآخر فيفهم مع قوله «رديء» «صعب» ويفهم مع قوله «سلس» «جيّد». فأمّا الحلية الثالثة فلم يلحق معها شيئاً لكن أدخل بين الحلية الثانية والثالثة حرفاً منقطعاً وهو قوله «مستسق». وقد يمكن أن تضاف هذه اللفظة إلى كلّ واحدة من الحليتين.
ولذلك افترق المفسّرون لهذا الكتاب في تفسيرهم لهذا الكلام فرقتين ففهم بعضهم أنّ هذا القول كلّه إنّما قيل في أخلاق النفس وأنّ قوله «مستسقٍ» إنّما هي لفظة ألحقت من فضل على الطريق في الحلية الثانية وقال قوم إنّه إنّما ينبغي أن يفهم هذا القول كلّه في الاستسقاء فقط. وفي هؤلاء من قال إنّ ذكره «المستسقي» إنّما ضربه مثلاً وأمّا قصده فصفة أمر كلّيّ يشتمل على جميع الأمراض وهو أنّ كلّ مرض يشاكل مزاج البدن فبرؤه يسهل وكلّ مرض يضادّ مزاج البدن فبرؤه يعسر.
وأنا مبتدئ بصفة قول أصحاب الفرقة الأولى فأقول إنّ النصف الأوّل من قولهم مشترك بينهم وبين أصحاب الفرقة الثانية والنصف الثاني خاصّ لهم. والشيء المشترك العامّ بين الفرقتين جميعاً هو تعرّف المزاج من هذه الدلائل التي وصفها أبقراط وأمّا ما سوى ذلك فهم يختلفون فيه ويخصّ أصحاب الفرقة الأولى أنّ
المزاج يدلّ على أخلاق النفس ويخصّ أصحاب الفرقة الثانية أنّ المزاج يدلّ على حدوث الأمراض وبرئها هل يسهلان فيه أو يعسران.
وينبغي أن ننظر أوّلاً ما قاله الفريقان في أمر المزاج فإنّهم قد اختلفوا اختلافاً ليس باليسير وذلك أنّ منهم من ظنّ أنّ «اللون الأشقر» دليل الحرارة ومنهم من ظنّ أنّه دليل البرودة ومنهم من ظنّ أنّه دليل الرطوبة مع البرد وكذلك اختلفوا أيضاً في أمر «صغر العينين» فمنهم من ظنّ أنّه دليل اليبس ومنهم من ظنّ أنّه دليل البرد. ولم يتّفقوا إلّا في شيء واحد فإنّهم أجمعوا كلّهم على أنّ «الأنف المسنون» دليل على يبس المزاج من قبل أنّ أبقراط في كتابه في تقدمة المعرفة أدخله في عداد الأعراض التي تحدث بسبب غلبة اليبس على البدن حتّى يصير الوجه من الحال إلى أن يكون «الأنف منه حادّاً دقيقاً والعينان غائرتين والصدغان لاطئين». وأمّا «الشقرة» فقال قوم فيها إنّها دليل الحرارة من قبل أنّ النار في هذا اللون وقال قوم إنّ النار ليست شقراء ولكنّها حمراء والشقرة تغلب على السقالبة وأهل جرمانيا ومزاج أبدانهم مزاج بارد رطب وأمر الصبيان أيضاً يجري هذا المجرى وذلك أنّهم يولدون وشعورهم شقر ثمّ لا تزال تميل إلى السواد حتّى تسودّ بأخرة. فأمّا «العينان» فقال بعضهم إنّ الغالب عليها الرطوبة وقال بعضهم إنّ الغالب عليها الحرارة
فأوجب صغر العينين أصحاب القول الأوّل ليبس مزاجها وأصحاب القول الثاني لبرده.
ولست أرى أنّه يجمل أن أحكم في هذا الاختلاف بشيء من غير برهان وأرى أنّي إن رمت أن آتي بالبرهان طال الكلام. ومن أحبّ أن يتعرّف دلائل كلّ مزاج مع براهينها فقد أفردت لها كتاباً في المزاج ولو ظننت أنّ جمل ما بيّنته هناك في ذلك بالبراهين تنفع في هذا الموضع من سمعها كبير منفعة في مزاولة أعمال الطبّ لأتيت بها في هذا الموضع.
فقد بيّنت في كتابي في المزاج أنّ كلّ واحد من الأعضاء قد يدلّ على مزاجه نفسه وليس يدلّ على مزاج سائر البدن فيجب من ذلك أن يكون دقّة الأنف «وصغر العينين» إن دلّا على المزاج فإنّهما يدلّان على مزاج الأنف والعينين. ولم أستثن ما استثنيت من قولي «إن دلّا» عبثاً لكنّي إنّما استثنيت ذلك لأنّه قد جرى في البحث عن هذا الأمر وهل يدلّ مقدار العضو وشكله على مزاجه كلام كثير جدّاً.
فأمّا «الشقرة» فقد يمكن أن تدلّ على مزاج الجلد وما وراءه من اللحم إلّا أنّه لا يصحّ القول مطلقاً بأنّها دليل على الحرارة ولا على الرطوبة ولا على البرودة لكنّه يحتاج في ذلك إلى شرائط وتحديد كما بيّنت في كتابي في المزاج وليس شيء يضطرّ إلى ذكر تلك الشرائط والتحديد في هذا الموضع ويكفي أن أصف ما قاله
أقرب المفسّرين من الإقناع في تفسير هذا الكلام. وأحدهم نومسيانوس فإنّه قال: «إنّ الشقرة دليل المزاج الحارّ ودقّة الأنف وصغر العينين دليل المزاج اليابس فإذا اجتمعت هذه الخصال كان مزاج صاحبها حارّاً يابساً وإذا كان كذلك وجب أن يكون ذكيّاً فهماً فطناً» فقد قال إيراقليطس: «إنّ نفس الفطنة شعاع يابس» فمن كانت طبيعته هذه الطبيعة فهو يميل إلى الخبّ والدهاء والمكر. وذلك أنّه تبع منذ صغره عادة الجمهور ولا يكاد أن يوجد في أصحاب هذه الطبيعة من يسلك طريق الحكمة والفلسفة إلّا الفرد الشاذّ حتّى يكون كأنّه أعجوبة. وليس علم من العلوم يقوم بتقدمة معرفة الشيء النادر الشاذّ المستغرب من قبل أنّه يكون ذلك العلم ممّا لا ينتفع به إلّا في الندرة والفرط.
قال: فبالواجب قيل إنّ صاحب هذه الحلية «خبيث» رديء. وقيل في صاحب الحلية الثانية إنّه «سلس» جيّد وذلك أنّ مزاجه وإن كان حارّاً — وممّا يدلّ على ذلك «شقرته» — فليس بيابس لكنّه رطب لأنّه وصف فيه من الدلائل ضدّ دلائل الأوّل وهي «الأنف الأفطس والعينان الكبيرتان». قال: فمن كانت هذه طبيعته فهو معتدل ولذلك يكون «سلس» الخلق جيّداً مستوياً خيراً.
وألحق في صفته «مستسقٍ» من قبل أنّه «سلس» أيضاً ويسهل برؤه من الاستسقاء. قال: وإنّما قيل ذلك فيه خاصّة دون غيره من قبل أنّ هذه العلّة يعني الاستسقاء علّة باردة رطبة وإذ كانت كذلك فهي ضدّ المزاج الحارّ اليابس.
وقد قال أبقراط وأحسن في قوله في كتاب الفصول: «إنّ من كان مرضه ملائماً لطبيعته فما يناله من الخطر بسبب ذلك المرض أقلّ» وإنّما عنى «بطبيعته» في ذلك القول مزاجه ولذلك صار صاحب المزاج الحارّ اليابس إذا أصابه الاستسقاء ناله من ذلك خطر شديد وصاحب المزاج البارد الرطب إذا استسقى فحاله في أنقص الرداءة من حال صاحب المزاج الحارّ اليابس وأزيد في الرداءة من حال صاحب المزاج الحارّ الرطب. قال إنّ صاحب المزاج الحارّ الرطب يكون برؤه أسهل لأنّه بسبب رطوبة مزاجه يصير إلى هذه العلّة من غير أن يكون السبب الذي حدثت به سبباً عظيماً قويّاً وبسبب حرارته يبرأ منها وأمّا صاحب المزاج البارد الرطب فهو يعرض انطفاء من حرارته الغريزيّة لقلّتها. ولذلك يعطب بهذا ما كان يقوله بالبس معلّمي في أمر هذين الصنفين من الشقر وكان يروي ما يقوله من ذلك عن نومسيانوس معلّمه.
وينبغي أن نقبل على ما بقي وهو قوله «الأشهل الأشقر المسنون الأنف إن لم يكن أصلع» فقد اختلفوا أيضاً في تفسير هذا القول ما قيل في القول الثاني وهو
قوله «سلس مستسق». وقال بعضهم إنّه ينبغي أن يفهم في هذا القول الثالث ما يحقّ في القول الأوّل وهو قوله «خبيث» وهذا قول بعيد جدّاً من أن يقنع به على أنّ بعض من قال به بالبس معلّمي لأنّه لم يخبرنا لِم ذكر أبقراط صاحب الحلية الأولى وهو «الأشقر الحادّ الأنف الصغير العينين» وقال إنّه رديء ثمّ لمّا ذكر صاحب الحلية الثانية وهو «الأشقر الأفطس الكبير العينين» قال إنّه جيّد فلمّا صار إلى ذكر الثالث لم يلحق بذكره إيّاه شيئاً لكنّه بيّن القول فقال: «الأشهل الأشقر المسنون الأنف إن لم يكن أصلع».
ولذلك قدّ قوم من القولين جميعاً إلى أن قالوا قولاً هو أقرب من الإقناع وهو أنّهم قالوا إنّه قيل في الأوّل «إنّه خبيث» رديء الأخلاق وقيل في الثاني «إنّه سلس» جيّد الأخلاق ولم يُقل في خلق الثالث شيء لا إنّه جيّد ولا إنّه رديء لكنّه إنّما قيل فيه «إنّه مستسقٍ» فقط ففهموا اللفظة الملحقة بين ذكر الأوّل وذكر الثالث في صفة الثالث. ولمّا لم يكن معي في هذا الموضع الآلة التي يميّز ويحكم بها في جميع أشباه هذه الأقاويل ويحكم بها أيّ التفاسير أفضل اضطررنا إلى الهذيان وأعني بتلك «الآلة» أن نروم أن نؤلّف بين الكلام الذي نجده قد كتب وبين حقيقة الأمر كما فعلنا في ما ذكر من أمر التشريح إذ كان معنى العلم اليقين في ذلك بحقيقة الأمر. وأمّا في هذا الكلام فلمّا كنّا لا نعلم حقيقة الأمر في هذا المعنى الذي قصد إليه به فلسنا نقدر أن نحمد ولا نذمّ ولا واحداً من التفسيرين
وإذاً أنا رجعت إلى المزاج فإنّي أظنّ بنفسي أنّي من أقدر الناس على أن أتعرّف مزاج كلّ واحد من الناس كيف هو وجدت هذه الدلائل المكتوبة في هذا الكلام ليس منها شيء يصحّ في الاستدلال على المزاج. فقد نجد منظرة العينين وإن كانت تدلّ على المزاج فليس تدلّ على مزاج البدن كلّه لكنّها إنّما تدلّ على مزاجهما خاصّة فأمّا «صغر العينين» وكبرهما فليس بينهما وبين مزاجهما عمل أصلاً وكذلك شكل الأنف ليس بينه وبين مزاجه سبب بتّة. وقد يدقّ الأنف وتحتدّ [وليس] في الأمراض التي تهزل البدن وذلك لأنّ ما فيه من الأجزاء اللحميّة يذوب فأمّا الأنف المولود على الدقّة والحدّة والاستنان فمن عمل القوّة المصوّرة لا من عمل نوع من المزاج. فأمّا «الشقرة» كما قلت فإنّما تدلّ على مزاج الجلد واللحم لا على مزاج القلب والدماغ وأخلاق النفس. وأكثر الأمراض إنّما يتبع مزاج القلب والدماغ فإن كان ولا بدّ لا مزاج الجلد واللحم فصاحب هذه الحلية الثالثة التي
ذكر في هذا الكلام ونسب إلى «الشهلة والشقرة واستنان الأنف» أمّا في قول نومسيانوس وبالبس فمزاجه حارّ يابس ولذلك حاله حال الأوّل في رداءة الأخلاق وفي رداءة الحال عند الاستسقاء وذلك أنّهما يريان أنّ «شهلة العينين» تدلّ على المزاج الحارّ كما قيل في الكتاب الموضوع في البصر المنسوب إلى أبقراط. فأمّا من ظنّ أنّ الشقرة دليل على المزاج البارد الرطب فلا حجّة له أصلاً في هذا القول لأنّه يتركّب من أضداد وذلك أنّهم وإن قالوا في «الشهلة» إنّها من دلائل البرد فلن يقدروا أن يقولوا إنّ «حدّة الأنف» من دلائل الرطوبة.
فأمّا قوله «إن لم يكن أصلع» فهو يوقع هؤلاء وأولائك وجميعهم بالجملة في الشكّ والحيرة فيضطرّوا بسبب ذلك أن يهذوا فيقولون إنّ الاستسقاء ربّما كان من حدّة الأخلاط ويستشهدون على ذلك بكلام قيل في المقالة الخامسة من كتاب إفيذيميا وهو «إنّ رجلاً كان أصابته أوّلاً حكّة ثمّ إنّه بأخرة استسقى». ونحن نقول إنّ هذا شيء كان نادراً ولسنا نعلم لِم كان وذلك أنّه لم يتبيّن لنا كيف كانت حال الأحشاء في ذلك الرجل ولا نعرف شيئاً آخر من أمره نصل به إلى أن نقول من أيّ سبب حدث به الاستسقاء. والعلوم إنّما تقوم بالأشياء التي تكون في أكثر الحالات وبالأشياء التي تكون دائماً لا بالأشياء التي تكون في الندرة.
وأنت قادر على أن تسأل من قد أفنى عمره وشاخ في هذه الصناعة عن المستسقين فيخبرك بما أنا مخبرك به وقد كتب من قبل أحذق الأطبّاء بالتجربة وأكبرهم فيها وهو أنّ أكثر الاستسقاء إنّما يكون بسبب الكبد والطحال إذا حدثت فيهما أورام جاسئة ثمّ بعد هذا قد يكون من الاستسقاء جنس آخر بسبب احتقان الدم الذي يجري من أفواه العروق التي في المقعدة أو احتباس الطمث أو بالجملة من امتلاء مفرط ثمّ من بعد هذا يكون جنس آخر من الاستسقاء بسبب استفراغ مفرط وجنس آخر من الاستسقاء غير هذه يكون بسبب الأمراض الحادّة وقد ذكره أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة في القول الذي افتتحه بأن قال: «إنّ كلّ استسقاء يكون من الأمراض الحادّة فهو خبيث».
فكيف يجوز أن يقال في صاحب الحلية الثالثة التي ذكر في هذا الكلام إنّه رديء الحال في الاستسقاء على قول بالبس ونومسيانوس فإنّ الواجب أن يكون سريع البرء من هذه العلّة أعني الاستسقاء من قبل أنّ الأخلاط التي تتولّد في بدنه حادّة إذ كان لا يحدث في شيء من أحشائه ورم جاسئ ولا يغلب عليه حرارته الغريزيّة بسبب برد من الأخلاط إذ كانت الأخلاط لذّاعة مولّدة للحكّة فإنّ جميع
من يتولّد في بدنه من الأخلاط ما هو بهذه الحال ومزاجه حارّ فهذا يعسر على أنّ شناعته ليست باليسيرة.
فأمّا ما ألحق في آخر الكلام وهو «إن لم يكن أصلع» ففيه من الحيرة الغاية القصوى وذلك أنّ الصلع إنّما يكون من اليبس الذي هو في غاية القوّة إذا غلب على جلدة الرأس حتّى تشبه بالخزف. وقد بيّنت في كتابي في المزاج أنّه لا يمكن أن يحكم بشيء من مزاج عضو واحد على مزاج سائر الأعضاء ولو كان يجوز أن يحكم على جميع الأعضاء من عضو واحد لما كان ألّا يكون أصلع دليلاً على رداءة الحال إمّا في الأخلاق وإمّا في الاستسقاء بل كان الأوّل ضدّ ذلك أعني أن يكون أصلع.
قال حنين: إنّ هذه الأسطر المعلّمة كانت ساقطة من النسخة اليونانيّة التي منها ترجمت وألحقتها أنا من عندي نفسي على نحو ما دلّني عليه معنى الكلام وأظنّ أنّه قد سقط من آخر تفسير القول الأوّل ومن تفسير القول الثاني أشياء أخر.
(٧) قال أبقراط: دقّة الصوت تتحلّل بالدالية إذا حدثت في الساق اليسرى وفي الأنثى اليمنى وليس تتحلّل إلّا بهذين أو بواحد منهما.
قال جالينوس: إنّ قوماً قالوا إنّه متى كانت «الدالية» في الأنثى اليسرى وهي اتّساع العروق وخروجها في ذلك عن المقدار الطبيعيّ لم تحتمل تلك الأنثى أن تقبل كلّ ما انصبّ إليها من الأخلاط ولذلك يجوزها ويحيد عنها فينحدر إلى «الساق اليسرى» وإذا اتّسعت «الأنثى اليمنى» فقبلت تلك الأخلاط احتملتها فلم ينحدر إلى الساق التي تحاذيها شيء من تلك الأخلاط. وهذا القول قد يتبيّن به بطريق مقنع أنّ الأخلاط الفاعلة «لدقّة الصوت إذا حدثت الدالية» في هذه المواضع مالت إليها وليس يتبيّن به أنّه لا يمكن أن يقبل تلك الأخلاط سائر الأعضاء.
فأمّا سابينس فقال إنّ «الأنثى اليمنى» لمّا كانت أقوى تجذب إليها السبب الفاعل «لدقّة الصوت» وقد كذب في هذا كذباً بيّناً وذلك أنّ ممّا قد اتّفق عليه جميع الأطبّاء أنّ الفضول إنّما تميل إلى الأعضاء التي هي أضعف لا إلى الأعضاء التي هي أقوى. ولو كان فيما قال صادقاً لقد كان ينبغي له أن يقول شيئاً في أمر «الساق اليسرى» وذلك أنّه كان يجب عليه أن يخبر ما بال الأخلاط إذا تجاوزت الأنثى اليسرى إنّما تنحدر إلى «الساق اليسرى» والساق اليسرى أضعف من الساق اليمنى فإن لم تكن أضعف منها فهي لا محالة ليست بأقوى منها.
فأمّا سابينس فاكتفى بأن قال إنّ أبقراط قال إنّ الخروج يكون لا بالكلال فقط لكنّ بالثقل أيضاً. قال: «فلذلك دلّ في هذا الموضع على الوجهين جميعاً لأنّ الخروج يكون إمّا في الأنثى اليمنى فبالكلال وإمّا في الساق اليسرى فبالثقل لأنّ
الأنثى اليسرى لا يطيق اجتذاب الأخلاط الفاعلة للعلّة إليها» فهذا ما قال سابينس. ولست أرى أنّه تخلّص هذا القول على ما ينبغي لأنّ الشيء الذي يدفع فيخرج إمّا بثقله فيميل إلى أسفل وإمّا بالكلال فإنّه يميل إلى الأعضاء التي قد سبق إليها الكلال من سبب من الأسباب طبيعيّاً كان السبب أو عارضاً من خارج وعلى هذا القياس قد كان ينبغي أن يكون الخروج في الأنثى اليسرى لضعفها وفي الساق اليمنى بطريق الثقل لأنّ «الأنثى اليمنى» لا تقبل الفضل لقوّتها.
وأنا أقول هذا بعد أن قد سلمت لهم الأمر الأعظم الذي خطاؤهم فيه أعظم الخطاء وهو قولهم «إنّ دقّة الصوت» أو «امتناع الصوت» — فقد يوجد في بعض النسخ مكان «دقّة الصوت» «امتناع الصوت» — إنّما يكون بسبب أخلاط كثيرة أو غليظة أو لزجة تسدّد العروق التي في الرئة. وما هو بعجب إذ كانوا لم يعلموا كيف يكون الصوت ألّا يعلموا أيضاً كيف تحدث فيه الآفة أفلا ترى كيف قد تجب في جميع الأقاويل التي تحتاج إلى أن تمتحن وتحكم فيها بحكم أن تعلم ما قد تقدّمنا فقلناه في كلّ واحد من الكتب التي قصدنا فيها قصد تلك الأعراض؟ ومن قرأ تلك الكتب فليست به حاجة إلى التفاسير لأنّه يقدر بنفسه دوني على الحكم في الأقاويل التي يحتاج فيها إلى الحكم.
فأمّا الذين جعلوا آخر القول الأوّل ابتداء هذا القول حتّى صيّروا الكلام على هذا المثال: «إن لم يكن أصلع فدقّة الصوت تتحلّل بالدالية إذا حدثت في الساق
اليسرى وفي الأنثى اليمنى» فقالوا إنّ السبب فيما قاله في هذا الموضع الشيء الذي قاله في كتاب الفصول عندما قال: «إنّ الذين يصلعون لا يحدث بهم من الدوالي كثير حادث» ولذلك لا يمكن أن يكون برء هذه العلل بالدوالي من قبل أنّه لا تحدث لمن تلك حاله دوالٍ وقد قلنا في تفسير كتاب الفصول في هذا الفصل ما ينبغي فليست بنا حاجة إلى أن نعيد فيه قولاً في هذا الموضع.
انقضت المقالة الرابعة من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الخامسة
علّة المقالة الخامسة من المقالة الثانية على ما حكى حنين بن إسحق
قال حنين: إنّ المقالة الخامسة من تفسير جالينوس لهذه المقالة الثانية من كتاب أبقراط لم نجد لها نسخة باليونانيّة والذي وجدناه من تفسير هذه المقالة نسختان إحداهما على طريق الكتب التي نسخ جميع ما فيها على الولاء والأخرى على طريق ما يلتقط به منه نُتَف وقال صاحبها فيها إنّه قصد للأقاويل النافعة من هذه المقالة وتفاسيرها. ولم نجد في واحدة من النسختين المقالة الخامسة ولا شيئاً منها أصلاً على أنّ النسخة الملتقطة قد دلّتنا دلالة بيّنة أنّها لم تنسخ من تلك التي هي في الحساب تامّة من قبل أنّا وجدنا في النسخة الملتقطة أقاويل كثيرة بأسرها مع تفاسيرها قد سقطت أصلاً من النسخة التي هي في الحساب تامّة.
وإنّي لأعجب من كاتب تلك النسخة أنّه لم يدع نوعاً من أنواع الخطاء التي قد عرفها الناس إلّا وقد استعمله ثمّ أبدع هو أنواعاً أخر من أنواع الخطاء عن نفسه
إن كان ذلك منه خطاء وليس هو إفساداً بالتعمّد. وذلك أنّه لم يقتصر على أن زاد ونقّص وكتب بدل الشيء غيره حتّى جاء شيء آخر بديع وهو أنّه في مواضع من الكتاب جعل يؤلّف عشر ورقات أو نحوها ثمّ يكتب من الموضع الذي طفر إليه ورقتين أو ثلاثاً ثمّ يرجع إلى وراء عشر ورقات من حيث قطع الكتاب أو نحوها ولم يزل يترجّح هذا الترجّح فمرّة تمرّ إلى خلف ومرّة إلى قدّام بغاية الاضطراب إلى أن فرغ ولذلك وقعت من تخلّص ما تخلّصت من هذا الكتاب في تعب شديد.
ووصفت ما وصفت من هذا كيما إن جاء بعدي من يعني بالعلم فوجد نسخة لهذا الكتاب باليونانيّة تامّة صحيحة يحثّه ما وصفت له من هذا على المقابلة بهذا الكتاب وبتصحيحه واستتمام ما نقص منه ويخرجني من اللائمة إن شاء اللّه.
تمّت علّة المقالة الخامسة.
شرح جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة السادسة
المقالة السادسة من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
قال جالينوس: إنّ هذه المقالة آخر مقالة جعلتها في تفسير المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا. وفي هذه المقالة أقاويل كثيرة بعضها مخالف أصلاً لرأي أبقراط وبعضها يرتاب بها ولذلك بالواجب لست أقتصر على تفسير جميع أقاويله لكنّي أميّز مع ذلك بين الأقاويل الصحيحة وبين الأقاويل المخالفة لرأي أبقراط والأقاويل التي قد يستنكر ويرتاب بها كما قد فعلت فيما سلف.
(١) قال أبقراط: ألثغ خفيف اللسان صاحب وسواس سوداويّ خالص كثير الطرف حديد.
قال جالينوس: قد قرن قوم قوله «صاحب وسواس سوداويّ» بالجزء الثاني من هذا القول فجعلوه على هذا المثال: «صاحب وسواس سوداويّ خالص 〈كثير〉
الطرف حديد» وقد ظنّ قوم من أتباع أبقراط أنّ هذا القول كلّه قول واحد يدلّ على الذين هم مستعدّون متهيّئون للوقوع في «الوسواس السوداويّ» كما لو كان كتب: «إنّ الألثغ الخفيف اللسان الخالص الكثير الطرف الحديد صاحب وسواس». وهذه الأقاويل إنّما أثبتها أبقراط تذكرات لنفسه ثمّ إنّ ثاسالوس ابنه بأخرة جمعها وألّفها. وقد نفعل نحن مثل هذا كثيراً أن نقصد إلى شيء من الأشياء فنثبت له بالخاطر الأوّل دليلين ثمّ نذكر من بعد دلائل أخر فلا نمتنع من أن نلحقها بعد تلك من غير أن نصلح الكلام حتّى يستوي نسقه بأسره فقد يمكن أن يكون هذا القول إنّما كتب على هذا المعنى ويمكن أن يكون قولين الأوّل منهما على هذا المثال: «الألثغ الخفيف اللسان صاحب وسواس سوداويّ» والثاني على هذا المثال: «الخالص الكثير الطرف حديد».
فأمّا «الألثغ» فقد تقدّم قولي فيه وأما «الخفيف اللسان» فيقال إنّه يدلّ على أنّ طبيعته طبيعة سريعة الحركة حادّة وصاحب هذه الطبيعة لا تزال المرّة الصفراء غالبة عليه إلى وقت منتهى شبابه ثمّ إنّه في تلك السنّ يميل إلى السوداء لاحتراق
الصفراء بقوّة الحرارة عليها. وعلى هذا فسّر الجزء الأوّل من هذا القول من قرأه مفرداً مقطوعاً عن الجزء الثاني ولم يبعد من الإقناع فيما فسّر من ذلك.
وأمّا الجزء الثاني من هذا القول ففيه حرف ليس بالبيّن وهو قوله «خالص». وذلك أنّ هذا الحرف إذا قرن بشيء آخر دلّ على أنّ ذلك الشيء صرف محض لا يشوبه ولا يخالطه غيره وعلى هذا المعنى يدلّ قولنا في مرار خالص ومتى أفرد هذا الحرف لم يدلّ على شيء إلّا أن أتوهّم معه شيئاً آخر قد ألقى ذكره لبيانه. فتحتاج إلى أن تفهم في هذا الموضع مع قوله «خالص» ما يدلّ على «الوسواس السوداويّ» أيْ تلك الدلائل خالصة قويّة مثل سواد اللون أو حمرته أو كثرة الشعر وقوّته في البدن كلّه وخاصّة على القصّ فقد علمنا أنّ هذه الدلائل تدلّ على أنّ طبيعة صاحبها مائلة إلى الوسواس السوداويّ واختبرنا ذلك بالتجربة.
ووجدنا أيضاً الفرهة من الأطبّاء قد ظنّوا هذه الدلائل في دلائل الوسواس السوداويّ وكذلك غلظ الشفتين فقد قيل في هذا أيضاً إنّه من دلائل غلبة السوداء. وقد رأينا كثيراً ممّن غلبت عليه السوداء بهذه الحال واللون المفرط الحمرة أو الأسود وكثرة الشعر وخاصّة إذا كان صلباً أسود ممّا قد يسهل وجود السبب في حدوثه وقد بيّنّا ذلك في كتابنا في المزاج. وليس الحال كذلك في غلظ الشفتين فأمّا روفس فكتب فيه بهذا اللفظ: «وصاحب هذه الحال يكون غليظ الشفتين لأنّ حركة الحرارة تكون فيه إلى ما هناك كثيرة».
وأمّا «كثرة طرف» العينين فتدلّ على سرعة حركة من الرأي. وأمّا «الحدّة» أعني سرعة الغضب فقد قلت فيها قبل. فقد تبيّن كيف ينبغي أن يفسّر الجزء الثاني من هذا القول إذا قرئ مفرداً على حدته وكيف ينبغي أن يفسّر القول بأسره إذا جعل صفة لدلائل علّة واحدة وهي «الوسواس السوداويّ».
(٢) قال أبقراط: صاحب الرأس الكبير والعينين الكحلاءين الكبيرتين والأنف الغليظ الأفطس جيّد.
قال جالينوس: إنّ قوله في هذا الكلام أيضاً «جيّد» إن كان إنّما أراد به الخلق فليس ينتفع بهذا الكلام في الطبّ وإن كان إنّما أراد به حال البدن كلّه في صحّته فقد ينتفع بهذا الكلام في الطبّ والقول في سبب كلّ واحد من هذين المعنيين يطول كان المعنى في هذا الكلام خلق النفس الجيّد أو حال البدن الصحيح. إلّا أنّ المفسّرين قد قالوا في تفسير هذا القول أقاويل كثيرة تناقض بعضها بعضاً وصرّف كلّ واحد منهم المعنى نحو هواه من ذلك أنّ «عظم الرأس» كما قلت قبل جعله بعضهم دليل الرطوبة وجعله بعضهم دليل اليبس وكذلك «كبر العينين».
ولم نذكر فيما تقدّم في أمر لون العينين شيئاً وأنا ذاكر ذلك الآن. فقد ظنّ قوم أنّ اللون الأسود من العينين أعني «الأكحل» دليل على المزاج اليابس واللون الأزرق دليل على المزاج الرطب من قبل أنّ الطفل يكون في أوّل أمره أميل إلى الزرقة فإذا
تمادى به الزمان فبحسب ما يزداد يبساً يزداد لون عينيه سواداً وقال قوم إنّه كما أنّ لون الجلد فيمن كان مزاجه أشدّ يبساً أزيد سواداً كذلك لون العينين.
ولم يبيّن واحد من الفريقين أمر طبيعة العينين وقد بيّنّا من أمرهما أنّهما تقبلان روحاً نيّراً من الدماغ فبحسب ذلك الروح يختلف لونهما كما يختلف لون البحر فقد نجده يكون أسود ويكون أزرق ويكون أسمانجونيّاً ويكون أشهل وربّما كان بين الأسمانجونيّ وبين الأسود وليس لهذا اللون اسم خاصّ إلّا أنّ العين إذا كانت بهذا اللون شبّهت بعين العنز لأنّ لون عين العنز في أكثر الأمر هذا اللون.
فكما أنّ الماء يتبيّن أسود على وجهين إمّا بسبب كثرته مثل اللجّة المعروفة «بالسوداء» وإمّا بسبب أنّ الهواء المحيط به مظلم كدر كما قد يرى البحر يكون في الشتاء كذلك يكون لون العينين أسود إمّا من قبل أنّ النور الذي يأتيها من فوق ليس بالنيّر الصافي لكنّه مظلم ضبابيّ وإمّا من قبل كثرة الرطوبة التي في العينين في
الفضاء الذي فيما بين الرطوبة الجليديّة والغشاء الشبيه بالعنبة. وقد يكتفي بهذا في لون العينين.
وإنّما قلت ما قلت منه بسبب أصحاب الشره في الكلام وأمّا الأحسن فترك أشباه هذا الكلام أصلاً إذ كنّا قد استقصينا البحث عنه في كتب أخر. فأمّا من كانت سنّه سنّاً لا يؤاتيه لمعاناة الكلام الذي فيه طول ولا تقدّمت له رياضة في الكلام البرهانيّ والكلام الطبيعيّ فأشير عليه أن يدع هذا الكلام إلى ما هو أنفع منه في صناعة الطبّ لكنّي أعرف كثيراً من الناس يغلب عليهم كما قلت الشره في الكلام فيريدون أن يذوقوا من كلّ شيء طرفاً ويكسلون عن استقصاء تعلّم كلّ واحد من تلك الأشياء على الكمال.
ولأنّ أبقراط قد ذكر «الأنف» فينبغي أن نقول فيه أيضاً شيئاً بسبب أصحاب الشره في الكلام: إنّ الأنف الدقيق المسنون دليل على المزاج اليابس إذ كان إنّما نراه يكون كذلك إذا غلب اليبس على الوجه بسبب الاستفراغ إمّا من سهر وإمّا من ذرب وإمّا من جوع كما علّمنا أبقراط في افتتاح كتابه في تقدمة المعرفة حين قال: «الأنف الدقيق والعينان الغائرتان» وسائر ما وصف ثمّ أتبع ذلك بأن يخصّ
فقال: «إنّه ينبغي أن يسأل هل أرق المريض أو لان بطنه ليناً كثيراً أو بعد عهده بالغذاء». فأمّا الأنف الذي حاله ضدّ حال هذا وهو «الغليظ الأفطس» فيدلّ على ضدّ المزاج الذي يدلّ عليه ذلك أعني على المزاج الرطب. وقد اتّفق جميعهم على هذا على أنّهم غير متّفقين كما قلت فيما تقدّم ذكره إلّا أنّ أقربهم من الإقناع يروم أن يضيف صاحب هذه الحال التي ذكرها أبقراط في هذا الكلام في المزاج المتوسّط ويقولون إنّه لمّا كان كذلك كانت حاله في الصحّة حالاً جيّدة محمودة ويصحّحون أنّ مزاج هذا مزاج متوسّط من أنّه أضيف إلى دلائل الرطوبة من الأنف دلائل اليبس من الرأس والعينين إمّا من واحد منهما وإمّا من كليهما. قالوا: فهذا المزاج المتوسّط لمّا كان أفضل مزاج دلّ من بدن صاحبه على صحّة وهو من نفسه على جودة وجوده فبالواجب قال فيمن كان مزاجه هذا المزاج إنّه «جيّد» محمود.
(٣) قال أبقراط: صاحب العين التي تضرب إلى الحمرة الناصعة والرأس الكبير والرقبة القصيرة والقصّ الواسع متين الغضب.
قال جالينوس: قد اختلف أيضاً المفسّرون لهذه المقالة في صاحب العينين اللتين هما بهذا اللون فظنّ بعضهم أنّ مزاج صاحبهما مزاج رطب كمزاج صاحب العين الزرقاء وظنّ بعضهم أنّ مزاج صاحبها حارّ يابس من قبل أنّ الأسد والنمور
بزعمهم بهذا اللون أعينها. وقد قلت في «الرأس العظيم» قبل ما اختلفوا فيه وناقض بعضهم بعضاً فأمّا «القصّ الواسع» فلست أعلم أحداً يقدم على القول بأنّه يدلّ على شيء غير كثرة الحرارة التي بسببها يكون صاحب «القصّ العريض» لا محالة غضوباً بمنزلة السباع.
فأمّا «قصر الرقبة» فقد انفتح منها كلام كثير للبحث عن الحال فيها لأنّه حال من أحوال النفس أو من مزاج البدن ينبغي أن توجب. والحيرة خاصّة يلزم فيها من رام أن يحكم على الإنسان من سائر الحيوان أنّ شيئاً من أمر حال نفسه أو في أمر مزاج بدنه إذ كنّا قد نرى أنّ بعض الحيوان لا رقبة له أصلاً مثل السمك وبعضه رقبته في غاية الطول مثل بعض الطيور والإنسان أصغر رقبة من جميع الحيوان بقياس عظم بدنه فإنّ العضو إمّا يقال إنّه من الحيوان عظيم أو صغير بقياس عظم بدنه. والحيوان ذو الأربع متوسّط بين هذه في عظم الرقبة وكلّه أعظم رقبة من الإنسان إلّا أنّه يختلف في الأكثر والأقلّ إلّا أنّه ليس شيء منه يبلغ من عظم رقبته ما يبلغ الطير بقياس بدنه. فقد ينبغي لك أن تفهم هذا عنّي وتحفظه دائماً فقد تظنّ بالجمل أنّ رقبته أطول من رقاب جميع الطيور خلا النعامة إلّا أنّك إن قستَ رقبته بمقدار عظم بدنه لم تجد رقبته أزيد طولاً ولا قوائمه أيضاً بقياس سائر بدنه أطول من قوائم الطيور.
وقد بيّنت في كتابي في منافع الأعضاء أنّ الذي يعدم الرقبة من الحيوان هو ما كان منه لا حلقوم له ولا حنجرة ولا رئة فقد تفقد هذه الأعضاء مع فقدان الحلقوم
وقد بيّنت أنّ ما كان من الحيوان كذلك فليس له أيضاً صوت. فأمّا الحيوان ذو الرقبة فما كان منه ذا كفّ أو له شبيه بالكفّ مثل القرد والحيوان الذي يسمّى «قونوقافالس» والحيوان الذي يسمّى «ساطورس» والحيوان الذي يسمّى «لنكس» فإنّ الرقبة من جميعه صغيرة وما لم يكن له منه كفّ أصلاً فليس رقبته لا محالة طويلة وكذلك الطير ليس الرقبة منه لا محالة طويلة إلّا أنّ جميع الطير وما كان من الحيوان الذي يمشي ليس له كفّ يعمّه خلّة واحدة من الخلقة وهي أنّ جميع هذا الحيوان طول الرقبة منه بحسب طول القوائم.
وأعظم هذا الحيوان رقبة ما كان تناوله الغذاء بأن يرتعيه من الأرض ويجب أن يطأطئ رقبته بحسب طول قوائمه فأمّا الحيوان الذي يأكل اللحم فرقبته أقلّ طولاً. وأقلّ جميع هذا الحيوان رقبة الإنسان ثمّ من بعده القرد الذي قائمتاه المقدّمتان شبيهتان بيدي الإنسان وكذلك الحيوان الذي يقال له «ساطورس» والحيوان الذي يقال له «لنكس» وبعد هذه الحيوان الذي يقال له «قونوقافالس» ومن بعده الدبّ ثمّ من بعد هذا الحيوان الذي يأكل اللحم الذي بينه وبين الحيوان الذي يأكل العشب فرق عظيم جدّاً من قبل أنّه ليس شيء من الحيوان الذي طعامه العشب يذوق اللحم ولا شيء من الحيوان الذي طعامه اللحم يذوق العشب. فنجد في الحيوان الذي له رقبة وليس له كفّ طول الرقبة بقياس طول القوائم.
والرقاب يخالف بعضها بعضاً في كلّ واحد من الناس اختلافاً كثيراً جدّاً في الغلظ والطول فنجد الرقبة في بعض الناس طويلة دقيقة وفي بعضهم طويلة غليظة وفي بعضهم قصيرة دقيقة وفي بعضهم قصيرة غليظة والرقبة التي تنسب بالحقيقة إلى العظم هي الرقبة التي تفوق سائر الرقاب في الطول والغلظ جميعاً. وقد نجد أبقراط يسمّي من كان فقار الرقبة منه كباراً قويّة «شديد الرقبة» وكذلك تكون الرقبة في الأسد والكلاب والدببة وبالجملة في كلّ حيوان شأنه النهش.
ونجده في هذا الكلام يسمّي من حال رقبته ضدّ هذه الحال «قصير الرقبة» ويجوز ألّا يكون أراد من حال رقبته ضدّ هذه الحال بالحقيقة لكنّ من حال رقبته شبيهة بالحال المضادّة لتلك الحال. وذلك أنّ الرقبة القصيرة إنّما جرت العادة أن يفهم عن قائلها أنّ قطر الطول فقط منها ناقص فإذ كان لم يبيّن شيئاً من أمر القطر الآخر وهو قطر العرض أو الغلظ كيف شئتَ قسمه؟ وذلك أنّه قد يمكن أن تكون «الرقبة القصيرة» كما قلت قبل في بعض الناس غليظة وفي بعضهم دقيقة.
فقد بيّنّا ذلك على أن تستدلّ وتعلم علماً يقيناً على ماذا تدلّ «الرقبة القصيرة» اللّهمّ إلّا أن يقال إنّها تدلّ على قصر من الفقار كما أنّها إذا كانت قصيرة دقيقة دلّت من الفقار مع القصر على دقّة. وذلك أنّه يجب أن تكون الرقاب التي يخالف بعضها بعضاً في الطول إمّا مختلفة العدد من الفقار وإمّا مختلفة الطول من كلّ
واحد منها ولم يوجد في العنق قطّ أكثر من سبع فقارات لا في الإنسان ولا في غيره من الحيوان ذي الأربع.
وقد وصفت لك تركيب أبدان جميع هذا الحيوان في كتابي في علاج التشريح وقلت فيه إنّه ينبغي لك متى قرأت في كتاب أحد من القدماء أنّ كلامه في الحيوان الذي طبيعته غير بعيدة من طبيعة الإنسان أن تفهم عنه أنّ أوّل هذا الحيوان جنس القرود التي تقدر على المشي على قائمتين وتستعمل القائمتين المقدّمتين كما يستعمل الإنسان يديه ثمّ الثاني جنس الدببة والثالث جنس السباع وكلّها يأكل اللحم وأطراف قوائمها مقسومة إلى أصابع وإن كان ليس شيء منها له كفّ ككفّ الإنسان. وأمّا سائر الأجناس من الحيوان فليس شيء منها أطراف قوائمه مقسومة إلى أصابع لكنّها ذوات أظلاف أو حوافر وما كان منها ذا أظلاف فمنه ما بحتر ومنه ما له خرطوم طويل مثل الخنزير. فاختلاف الرقاب في الطول يوجد في الحيوان الذي يأكل اللحم ومنه الإنسان لا بأنّ عدد الفقار كما قلت ينقص فيه ويزيد لكنّ بأنّ طول كلّ واحدة من الفقار ينقص وأمّا اختلاف الرقاب في الغلظ فيكون بحسب غلظ الفقار ودقّته.
وقد يظنّ الظانّ أنّ غلظ الفقار ودقّته إنّما يكون بحسب غلظ النخاع ودقّته وذلك أنّ الفقار يحيط بالنخاع وليس يوجد ذلك كذلك دائماً لكنّا قد نجد مراراً
كثيرة النخاع دقيقاً والفقار غليظاً واسعاً ونجد أيضاً النخاع غليظاً وحوله فقار دقيق إلّا أنّ ما يوجد من الأبدان بهذه الحال قليل وأمّا في الأكثر فغلظ الفقار مناسب لمقدار غلظ النخاع. ولمّا كان الصلب عضواً لا بدّ منه في الحيوة وحاله من البدن بمنزلة حال الخشبة التي عليها مبنيّ السفينة من السفينة كان فقاره إذا ابتدأ بخلقته من الرأس على العظم فواجب أن يتبع ذلك عظم الرقبة وإذا ابتدأت خلقة الفقار من الرأس بصغر فإنّ الرقبة لا محالة تكون صغيرة.
وقلّ ما يجتمع مع صغر الرقبة عظم الصدر ومتى اتّفق ذلك فواجب فيمن اجتمع ذلك فيه أن تكون الحرارة في قلبه كثيرة. ولذلك تكون رئته عظيمة ويكون صدره إذ كان للرئة بمنزلة الحصن عظيماً فيجب من ذلك أن يكون سعة الصدر مع صغر الرقبة من أصحّ الدلائل على حرارة القلب بالطبع. وذلك أنّه يجب متى كانت الرقبة عظيمة أن يكون الصدر عظيماً لعظم الفقار الذي فيه الذي مبنيّ تركيبه عليه فمتى كان الفقار صغاراً لم نجد أن يكون الصدر معه عظيماً دون أن يكون في ذلك البدن سبب آخر أوجب تزيّده في العظم. وليس يوجد لذلك سبب سوى حرارة القلب فيكون الصدر الواسع في ذلك البدن من أصحّ الدلائل على حرارة القلب وقد اتّفق الناس على أنّ القلب متى كان بهذه الحال كان صاحبه
قويّ الغضب فبالواجب صار القصّ العظيم مع صغر الرقبة يوجب أن يكون صاحبها غضوباً.
وبيّن أنّ أبقراط دلّ على سعة الصدر بأسره من سعة أبين جزء منه وهو «القصّ». ولو كان قال «الرقبة الدقيقة» أو «الصغيرة» لكان هذا التفسير موافقاً مطابقاً لا محالة لكلامه ولمّا قال «قصيرة» فقد يحتاج إلى زيادة تستدلّ بها على حال الرقبة في مقدار دورها. فإن فهمنا عنه من قوله «قصيرة» أيْ صغيرة كان جميع ما قلنا واقعاً على ما ينبغي فإن لم تتابعنا على أن نفهم قوله «قصيرة» على هذا المعنى لم تجد تفسيراً يوافق هذا القول. فانزل الأمر على أنّ قوله «رقبة قصيرة» إنّما أراد به صغيرة لينفذ القول إلى ما بعده ولذلك تكون سعة الصدر دليلاً صحيحاً على المزاج الحارّ.
ولنبحث بعد لم أضاف إلى ذلك «عظم الرأس». وأولى من ذلك بالبحث والذي من سببه قلنا جميع ما قلنا لم قيل في صاحب هذه الحال إنّه «متين الغضب» ولم يقل مطلقاً إنّه «غضوب». وقد قال أيضاً قبيل في آخر إنّه «حديد» أيْ سريع الغضب وبيّن أنّ ذلك هو ضدّ هذا الذي ذكره الآن فوصفه بأنّه «متين الغضب» وذلك أنّ حدّة الغضب وسرعته دليل على حال عجلة من النفس «ومتانة الغضب» دليل على حال ركانة وثبات من النفس. وذلك أنّ الناس إذا رأوا إنساناً
يبطئ حرده حتّى لا يظهر منه قلق لمن يراه [أن] يقولوا إنّ هذا الرجل «متين الغضب» ولا يقولون فيه إنّه «غضوب» ومن شأن من كانت هذه حاله أن يدوم الغضب منه مدّة أطول كما أنّ «الحديد» يسكن غضبه في أكثر الأمر سريعاً. وذلك أنّ من شأن الركين الثبات ومن شأن السخيف الخفيف سرعة التنقّل فيشبه أن يكون الحرارة من القوّة الغضبيّة تحدث الخلق الغضوب ويكون اختلافه في السرعة والإبطاء بحسب طبيعة القوّة الناطقة. وذلك أنّه متى كانت هذه القوّة أعني الناطقة سريعة الانقياد فإنّ الخاطر في النفس يكون أكثر سرعة ومتى كانت وثيقة حذيرة حدث من قبل ذلك إبطاء الغضب.
وممّا يقرب من الإقناع أيضاً أن نقول إنّه كما أنّ للقوّة الغضبيّة جلداً وضعفاً كذلك للقوّة الناطقة أيضاً فإذا كانت القوّة الناطقة جلدة قدرت على منع القوّة الغضبيّة وكظمها عند إفراط حركتها فيكون الخلق من صاحب هذه الحال «متين الغضب» وإذا كانت القوّة الناطقة ضعيفة فسلة لم تطق ضبط الغضب فتتحرّك حينئذ القوّة الغضبيّة بسرعة فيكون صاحبها «حديداً». وإن كان هذا القول ممّا يقرب من الإقناع فقد نجد «عظم الرأس» دليلاً على فضيلة القوّة الفكريّة وشدّتها إذ كان مسكن تلك القوّة الدماغ كما أنّ مسكن القوّة الغضبيّة القلب ومسكن القوّة الشهوانيّة الكبد.
قال حنين: إنّي وجدت جالينوس قد تأوّل على أبقراط أنّه أراد «بعظم الرأس» أن يجعله دليلاً على قوّة النفس الناطقة. وقد بيّن جالينوس في كتابه المعروف «بالصناعة» أنّ عظم الرأس إنّما يدلّ على قوّة النفس الفكريّة متى كانت الرقبة مشاكلة له أيْ غليظة قويّة فأمّا متى كانت الرقبة دقيقة ضعيفة والرأس عظيماً فذلك عنده دليل على كثرة المادّة وضعف القوّة فقد يجب بحسب هذا أن يكون مع عظم الرأس في صاحب هذه الحال غلظ من الرقبة حتّى يكون عظم الرأس دليلاً على القوّة التي فيه. وهذا مناقض لما تقدّم من قول جالينوس إنّ أبقراط إنّما أراد «بالرقبة القصيرة» الرقبة الدقيقة أو الصغيرة.
وقد تبيّن أنّ الأولى أن يكون عنى «بالرقبة القصيرة» القصيرة الغليظة. وواجب متى كانت الرقبة كذلك أن يكون فقار الصلب ناقصاً في قطر الطول وإن كان تامّاً أو فاضلاً في قطر الدور وإذا كان ذلك فواجب أن يكون الصدر أيضاً ناقصاً في قطر الطول فيكون سعته بسبب ذلك ناقصة. فإذا كان الدماغ يوجب أن يكون الصدر بهذه الحال وكان القلب بحرارته يوجب أن يكون الصدر زائد السعة فلا بدّ إذ كان لا يمكن أن يزاد في طول الصدر أن يزاد في قطر دوره حتّى يتلاقى تفضّل زيادة قطر الدور ما نقص من سعته بسبب نقصان قطر الطول وإذا كان ذلك فواجب أن «يعرض القصّ» ويكون عرضه غير مناسب لطوله.
وهذا فيما أحسب كان معنى أبقراط في تركه ذكر سعة الصدر وذكره «عرض القصّ» كيما يدلّ أنّه يريد أن يكون عرض القصّ بقياس طوله زائداً. وإنّما وصفت
ما وصفت من هذا قلّة ثقة منّي بالنسخة التي ترجمت منها إذ كانت من كثرة الخطاء على ما وصفت قبل ومخافة أن تكون زائلة عن معنى جالينوس ولم أرد بذلك الاعتراض على جالينوس.
(٤) قال أبقراط: صاحب الرأس الصغير والرقبة الدقيقة والقصّ الدقيق حسن الموافقة.
قال جالينوس: إنّ قوماً من المفسّرين إنّما يعرفون هذا القول يكتب على هذه النسخة وقوم منهم يكتبون مكان «القصّ الدقيق» «الخلق الركين» — وهذه الأحرف متشابهة في لسان اليونانيّين — ويكتبون مع ذلك مكان «الرأس الصغير» «الرأس العظيم» وذلك أنّ كلّ واحد منهم سوّى الكلام على نحو ما ظنّ أنّه ينبغي أن يكون عليه. وأجود النسخ عندي النسخة التي وضعتها قبل ولعلّه أن يكون في النسخ الباقية أيضاً معنى.
وأنا واضع أوّلاً التفسير على النسخة الأولى فأقول إنّ أبقراط لمّا ذكر قبل صاحب «الرأس العظيم والرقبة الصغيرة والصدر الواسع» ذكر الآن من هذه الثلاثة الأعضاء جميعاً فيه ناقصة. وواجب متى كانت هذه الثلاثة الأعضاء بهذه الحال أن تكون «حسنة الموافقة» بعضها لبعض لأنّها كلّها بحال واحدة من النقصان وكذلك أيضاً إن تزيّدت ثلاثتها على مناسبتها بعضها لبعض قيل فيها إنّها «حسنة الموافقة». وذلك أنّ من الصواب أن يقال في اعتدال الأعضاء بقياس بعضها عند
بعض أنّه «يحسن موافقة» بعضها لبعض كما أنّه يجب أن يقال في تركيب الأعضاء الخارج عن المناسبة إنّه «سوء موافقة» وذلك يكون لا بأن يكون الرأس والصدر عظيمين والرقبة صغيرة فقط لكن بأن يكون الأمر أيضاً على خلاف ذلك بأيّ وجه كان.
فأمّا سابينس فقال إنّه ينبغي أن يفهم عنه من قوله «حسن الموافقة» أنّه «مستعدّ متهيّئ للسلّ» وقد أخطأ في ذلك من وجهين أمّا الواحد فإن أطلق للمفسّرين أن يزيدوا من عندهم ما ليس له في فصّ الكلام أثر أصلاً ومتى أطلق ذلك كان ما يقال بكلّ شيء أشبه منه تفسير ذلك الكلام والوجه الثاني أنّ ذكر الرأس والرقبة فيه يكون بحسب قوله فضلاً لأنّه قد يكتفي بضيق الصدر في أن يجعل صاحبه مستعدّاً لقبول علل الرئة وخاصّة نفث الدم ولا سيّما إن كان في فصّ كلام أبقراط مكان «دقّة القصّ» «ضيق الصدر» كما قد يكتب قوم. وقد أخطأ أيضاً سابينس من وجه آخر ثالث وهو أنّ من عادة الناس أن يقولوا إنّ العضو «متهيّئ مستعدّ» لقبول علّة من العلل وأمّا أنّ هذا العضو «حسن الموافقة» لقبول علّة من العلل فلم يقل ذلك أحد من الناس لأنّ قوله «حسن» إذا أضيف إلى شيء من الأشياء جعل ذلك الشيء الذي يضاف إليه محموداً فقوله «حسن
الموافقة» الذي هو ضدّ سوء الموافقة إنّما يدلّ على طبيعة محمودة لا على طبيعة مذمومة.
وقد يكتب قوم هذا القول على خلاف هذه النسخة كما قلت ويجعلون في أوّله مكان «الرأس الصغير» «رأساً عظيماً» ويجعلون بعد مكان «القصّ الدقيق» «الخلق الركين» ويقولون إنّه عنى «بحسن الموافقة» الإنسان الذي يهون عليه أن يبدل أخلاقه ويتخلّق بغيرها والذي لا تتغيّر أخلاقه وتنقل تغيّراً عظيماً.
وروفس ممّن فسّر هذا القول بهذا التفسير وإنّما حكيت في هذا الموضع كلامه بلفظه وأتبع ذلك بأن قال قولاً بهذا اللفظ: «والروح فيمن هذه حاله أزيد سخونة ولذلك يجب أن يكون أطوع وأسلس انقياداً وأحسن موافقة» وقد رضي هذه النسخة وهذا التفسير مع روفس قوم آخرون من المفسّرين.
(٥) قال أبقراط: صاحب الرأس الصغير لا يكون ألثغ ولا أصلع إلّا أن يكون أزرق.
قال جالينوس: قد أسقط قوم أيضاً من هذا الكلام قوله «صاحب الرأس الصغير» وجعل قولاً مطلقاً على هذا المثال: «لا يكون ألثغ ولا أصلع إلّا أن يكون أزرق». ولأنّ أرسطوطاليس قال وأصاب في قوله إنّ في جميع أشباه هذه من الأقاويل ينبغي أوّلاً أن يقدّر الشيء في النفس أنّه موجود ثمّ يطلب ما سببه فقد ينبغي لنا نحن أيضاً أن نفعل ذلك فينبغي أوّلاً أن نمتحن بالتجربة هل هذا الذي
قيل يوجد على مثال ما قيل ثمّ نأخذ بعد في البحث عن السبب الذي من أجله كان والشيء الذي لا يوجد إلّا في الفرط يعسر امتحانه بالتجربة. وذلك أنّ التجربة إنّما هي حفظ الشيء الذي يرى مراراً كثيرة على حال واحدة وأنا لم أر هذه الخلال اجتمعت في إنسان مراراً قليلة فضلاً عن مرار كثيرة فأقدر أن أمتحن هذا القول بالتجربة. وذلك أنّه يريد أن يلتئم في إنسان واحد أن يكون «صغير الرأس أصلع ألثغ» ويقول إنّ هذه الخلال لا تجتمع في إنسان «إلّا أن يكون أزرق». فنحتاج إلى أن نطلب امتحان هذا بالمعاينة فنطوف حتّى نجد إنساناً «صغير الرأس أصلع ألثغ» فإنّ هذا في قوله لا يكون «إلّا في أزرق».
فأمّا الذين حذفوا قوله «صاحب الرأس الصغير» فجعلوا وجود الألثغ الأصلع أسهل لأنّ الخلال القليلة العدد أسهل اجتماعاً من الأشياء الكثيرة العدد فأمّا أنا فلا أذكر أنّي رأيت أحداً بهذه الخلال على أنّي قد رأيت «لثغاً» كثيراً ولم يتّفق لي أن أرى أحداً منهم قد «صلع» ولعلّ بعضهم قد صلع بعدي وأنا لا أشعر. فإن وجد أحد الأمر في هذا على ما قيل ثمّ بحث عن السبب فيه فسيجده إذا اتّبع أثر الشيء المقنع واستدلّ بما تقدّم من قولي لمّا تكلّمت في «الألثغ والأصلع».
(٦) قال أبقراط: من انحلّ عنه التشنّج بصوت في يوم إفراق فقد نجا من المرض الأعظم.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قد يكتب على نسخة أخرى غير هذه النسخة وكان المعنى في النسختين جميعاً واحداً. «والمرض الأعظم» يعنى به في قول القدماء الصرع والحال في هذه العلّة في «التشنّج» ضدّ الحال في «الصوت» وذلك أنّ التشنّج لا يكون في أوقات سكون نوائبها ثمّ يحدث في أوقات نوائبها والصوت بخلاف ذلك يكون في أوقات سكون نوائبها ويبطل في أوقات نوائبها فتحلّل هذه العلّة يكون بضدّ الحال فيها أعني بأن يبطل التشنّج ويحدث الصوت أعني بذلك أن يسكن عن المريض ما كان يعرض له من التشنّج ويتكلّم كلامه الطبيعيّ.
ولو كانت الحال في الصرع كالحال في ذات الرئة وذات الجنب اللتين تبتدئان فتلبثان مطبقتين إلى انقضائهما فكان من يتشنّج تشنّج الصرع يلبث في تلك الحال من التشنّج أيّاماً كثيرة ثمّ يحدث له «في يوم إفراق» أعني يوم بحران انطلاق من ذلك التشنّج لكان يقدر المتطبّب أن يميل ويرجو أن يكون ذلك البرء برءاً صحيحاً تامّاً لطبيعة اليوم الذي حدث فيه. فلمّا كانت هذه العلّة أعني الصرع متفاوتة لا نظام لها وإنّما نعلم أنّ العلّة قد أقلعت بإمساكها عن أن تنوب فكيف يصل واصل إلى أن يقول إنّ انقضاء هذه العلّة كان في يوم واحد بعينه؟
فخليق أن يكون معنى هذا القول ما أصف: كأنّه يقول إنّه متى جاءت صاحب هذه العلّة نوبتها ثمّ سكنت سريعاً وعاد إليه صوته بسرعة وذهب عنه التشنّج دلّ
ذلك على انقضاء مرضه. فإن كان ذلك في يوم من أيّام البحران لم تعاود تلك العلّة صاحبها في وقت من الأوقات. فقد ينبغي إذاً أن تكون حافظاً للوقت الأوّل من أوقات نوائب الصرع أيّ وقت كان حتّى تحسب من ذلك اليوم فتعلم في أيّ يوم كان الانقضاء وهل كان في يوم من أيّام البحران أو في غيرها فإنّه لا يمكن بغير هذا الوجه في مرض له فترات أن تحسب الأيّام.
وقد كتب قوم هذا القول على نسخة أخرى وهي هذه: «إذا كان تمدّد الصوت في يوم إفراق فقد نجا المريض من المرض الأعظم» وقالوا إنّه عنى «بتمدّد الصوت» الصياح وإنّ الصياح إذا كان في يوم بحران في نوبة من علّة الصرع فهو دليل على انقضاء علّة الصرع وبيّن أنّ «المرض الأعظم» إنّما يعني به الصرع.
(٧) قال أبقراط: النفساء إذا كانت بها حمّى مع وجع فينبغي أن تصبّ عليها ماء وتنيلها من ماء الشعير بعد أن يكون ثخيناً مرّتين أو ثلاث مرّات في اليوم الواحد.
قال جالينوس: إنّما تعرف الانتفاع بهذا القول إن كنت ذاكراً لما قيل في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة وفي كتاب الفصول وقد فسّرت ذينك الكتابين قبل وكان غرضه في تدبير الغذاء في ذينك الكتابين وقت منتهى المرض ولذلك يمنع بعض الناس الغذاء أصلاً إلى أن يبلغ المرض منتهاه ويغذو بعضاً قبل ذلك. وأمّا الآن
فعلّمك تدبير المرأة بعد ولادها وذلك أنّه تعرض لها «الحمّى» ويصيبها «وجع» في الأرحام من بعد الولاد لورم يحدث في الأرحام إمّا لتعب الولاد إذا عسر وإمّا لأنّ المرأة لا تستفرغ على ما ينبغي حتّى تنقّى النقاء الذي يسمّى «نقاء النفاس». فالمرأة التي هذه حالها إن أنت «صببت عليها ماء» حارّاً كيما يسكن عنها الوجع ويحلّل عنها الورم وغذّيتها «بماء كشك الشعير» كيما تستردّ قوّتها وترطّب بدنها كنت في ذلك على طريق الصواب. وذلك أنّ المرأة التي هذه حالها تحتاج إلى أن تستفرغ منها الدم الرديء الذي كان اجتمع في عروقها في وقت الحمل وقد كان ذلك الدم قبل وقت الحمل يستفرغ في كلّ شهر فتحفظ للمرأة صحّتها وذلك أنّ ما يستفرغ منه ليس إنّما هو نقصان من شيء قد كثر فقط لكنّه نقاء من شيء رديء ولذلك من عادة الأوائل أن يسمّوا الطمث «نقاء» لا «استفراغاً».
فلمّا كان لا يمكن في المرأة الحبلى أن تنقّى هذا النقاء وكان الجنين المتولّد فيها يجذب من الأوعية إليه لغذائه ونموّه أجود ما في الدم وأصلحه صار يبقى منه في العروق أردؤه. والطبيعة أيضاً تقصد لتنقية هذا باستفراغ الدم الذي يكون بعد
الولاد الذي يلقّبه أيضاً الأوائل «بالنقاء» للسبب الذي تقدّم ذكره. فإذ كان ملاك الأمر في جملة علاج المرأة التي هذه حالها أن يستفرغ ذلك الدم فقد ينبغي أن تغذّي تلك المرأة وأن ترطّب لأنّ الدم يعسر دروره بالامتناع من الطعام وبالأغذية اليابسة وممّا يجتمع فيه الغذاء والترطيب جميعاً «ماء كشك الشعير» وفيه مع هذا تلطيف وتقطيع وذلك ممّا يعين على سرعة دور الدم. وأشار بأن يكون ماء كشك الشعير «ثخيناً» لأنّ ما كان منه ثخيناً فهو أغذى ممّا كان منه رقيقاً. ولا ينبغي أن تنيلها منه ما تنيلها في مرّة واحدة وذلك أنّه يشير بأن يفرق عليها الغذاء وتنيلها إيّاه قليلاً قليلاً. وذلك أنّ من توقّينا عليها أن ننيلها من الغذاء ما يكتفي به دفعة خوفاً من ألّا تستمرئه فإنّا نفرقه عليها وننيلها إيّاه في مرار كثيرة في كلّ مرّة شيئاً يسيراً منه.
(٨) قال أبقراط: الطفل يتغذّى في الشهر السابع أو في التاسع أو في العاشر ويقوم صوته وتحدث له شدّة ويضبط بيديه.
قال جالينوس: إنّ في هذا القول لفظة أوقعت منه في شكّ وهي قوله «يتغذّى». وذلك أنّ هذه اللفظة قد يجوز أن تفهم على الطفل الذي قد ولد وعلى الذي هو بعد جنين في الرحم فإن كان إنّما أراد بهذا القول الجنين الذي هو في الرحم فالأولى أن يفهم عنه من قوله «يتغذّى» أيْ «يستكمل» وإن كان إنّما أراد به الطفل المولود فينبغي أن يفهم عنه من قوله «يتغذّى» أيْ «يشتدّ ويقوى». وذلك أنّ الجنين في الرحم يستكمل في سبعة أشهر أو في تسعة أشهر أو في عشرة أشهر ولذلك صار الطفل الذي يتربّى إنّما يولد في هذه الشهور ثمّ إنّ الأطفال يشتدّ ويقوى من بعد أن يولد في هذه الشهور بأعيانها حتّى تنبت لهم الأسنان ويبتدئون في الكلام وبالصنفين جميعاً من الأطفال يصحّ القول بأنّه لا يحدث للطفل حدث بيّن في الشهر الثامن ممّا يكون به كماله أو قوّته.
وقد يجوز أن يكون قيل هذا القول على هذا المعنى وهو أنّ الطفل المولود لسبعة أشهر يشتدّ ويقوى في سبعة أشهر من بعد ولاده والطفل المولود لتسعة أشهر
يشتدّ ويقوى في تسعة أشهر وعلى هذا المثال الطفل المولود لعشرة أشهر يشتدّ ويقوى في عشرة أشهر وذلك أنّ الطفل الذي يكون استكماله في الرحم أسرع كأنّه أقوى طبعاً.
وإذا كان ذلك كذلك فيجب أن يكون بعد ولاده أسرع نموّاً حتّى يبتدئ في مثل ذلك الوقت الكلام واستعمال اليدين فيأخذ بهما الشيء فيضبطه. وقد دلّ على حال الصوت بقوله «ويقوم صوته» وعلى حال اليد بقوله «ويضبط بيديه». فقد دلّ على شدّة اليدين وقوّتهما بقوله «يضبط بيديه» وذلك أنّ هذه الأعضاء في الأوقات الأول بعد الولاد عديمة الثبات لفضلة الرطوبة حتّى لا يقدر الطفل إذا بسط يده ومدّها أن يحفظها بتلك الحال مدّة طويلة إلّا إذا ثناها من المرفق لأنّها تسقط لضعف جوهر العصب. وهذا قد يدلّني أنّ قوله هذا إنّما يريد به الطفل المولود لا الجنين الذي في الرحم كما ظنّ قوم.
(٩) قال أبقراط: إذا انحلّ الصوت انحلّ كلّ شيء وذلك أنّ الطبيعة تشبه الصوت وانحلاله يكون في يوم إفراق.
قال جالينوس: أمّا قوله «انحلّ» فيشبه أن يكون يعني به ما عناه قبل عند ذكره «للمرض الأعظم». وذلك أنّه قال في «الصوت» الذي كأنّه معتقل مربوط بسبب
العلّة إنّه «ينحلّ» في الوقت الذي يعود فيكون فيه إلّا أنّ «الانحلال» والانطلاق في ذلك القول أقرب إلى حقيقة الكلام وذلك لأنّ الصوت في أوقات نوائب الصرع يعرض له شبيه بالاعتقال والارتباط. وأمّا في هذا القول فاستعماله هذه اللفظة أعني «الانحلال والانطلاق» أبعد من حقيقة الكلام وذلك أنّ الصوت الذي قد كان أوّلاً ثمّ اعتقل من علّة فمن الصواب أن يقال فيه إنّه «ينحلّ وينطلق». وأمّا الصوت الذي لم يكن قبل فكان به لا يستقيم أن يسمّى حدوثه الأوّل «انحلالاً» «وانطلاقاً» إلّا أنّه وإن كان الأمر كذلك فقد استعمل في هذا القول أيضاً هذه اللفظة أعني «انحلّ» مكان أن يقال «حدث» واستعمل أيضاً هذه اللفظة بعينها على معنى أبعد من حقيقتها عندما قال «انحلّ كلّ شيء».
فإنّ هذه اللفظة في هذا الموضع أيضاً إنّما دلّ بها أنّ كلّ شيء يحدث إنّما يحدث في تلك الشهور التي ذكرها قبل. فالمعنى الذي قصد إليه قبل حين قال: «وتحدث له شدّة ويضبط بيديه» هو المعنى الذي دلّ عليه في هذا القول على وجه آخر بالأفاعيل التي تكون عن الشدّة فإنّ الطفل كما تحدث له القوّة في يديه في تلك الشهور التي ذكرها كذلك تحدث له في جميع الأعضاء التي ذكرت حتّى يقدر أن يشكّلها بالأشكال التي يحتاج إليها بسهولة «والصوت» أيضاً لمّا كان حدوثه يكون بعضل الحنجرة وتفصّله حتّى يكون منه الكلام بعضل اللسان فإنّه يدلّ أيضاً على ذلك العضل أنّه قد قوي.
وأمّا القول الذي بعد هذا وهو قوله «إنّ الطبيعة تشبه الصوت» فإنّه معكوس وذلك أنّ الطبيعة أقدم والصوت ثانٍ لها فيجب أن يكون الصوت هو الذي يشبه الطبيعة لأنّ الطبيعة القويّة تفصّله حتّى يكون منه الكلام ومتى كانت الطبيعة ضعيفة بقي غير مفصّل إلى مدّة طويلة من الزمان. إلّا أنّه لمّا كانت الأشياء المتشابهة إنّما تقال بالإضافة بعضها إلى بعض مثل ما تقال أيضاً الأشياء المتساوية فقد يعرض لنا كثيراً عند ترك الاستقصاء في الكلام أن نعكس مرتبة الأوّل والثاني فنجعل الثاني كأنّه أوّل والأوّل كأنّه ثانٍ.
وممّا أمثّل لك به ذلك أنّا إن دخلنا مدينة لا عهد لنا بها فرأينا فيها تمثالاً ثمّ رأينا بعد إنساناً في تلك الصورة قلنا: «ما أعجب شبه هذا الإنسان بذلك التمثال الذي رأينا» وإن كنّا قد علمنا بأخرة علماً يقيناً أنّ ذلك التمثال إنّما هو صورة لذلك الرجل لكنّا لمّا كنّا قد رأينا تمثالاً أوّلاً فعرفناه ثمّ رأينا بعده الذي لم نكن عرفناه قبل قلنا: «إنّ هذا الذي رأيناه الآن يشبه ذلك الذي كنّا رأيناه قبل». وذلك لأنّ هذين الشيئين من بين الأشياء التي تقال بإضافة بعضها إلى بعض كأنّهما دون تلك يقالان بلفظ واحد أعني المشابه والمساوي. أعني بقولي «بلفظ واحد» أنّ الأيمن يقال إنّه أيمن عند الأيسر وكذلك الأيسر يقال إنّه أيسر عند الأيمن والضعف يقال إنّه ضعف عند النصف وكذلك النصف عند الضعف وعلى هذا
المثال يقال «شيء أعظم» «وشيء أصغر» وكذلك يجري الأمر في سائر الأشياء التي يقال بالإضافة بعضها إلى بعض على هذا القياس.
فأمّا المشابه فإنّما يقال إنّه «مشابه» عند المشابه له والمساوي إنّما يقال إنّه «مساوٍ» عند المساوي له فعلى هذا الوجه قد نقول في الإنسان إنّه مشابه لصورته كما نقول في صورته إنّها مشابهة له ونقول في اليد اليمنى إنّها تشبه اليد اليسرى كما نقول في اليد اليسرى إنّها تشبه اليد اليمنى وكذلك نقول في الصوت أيضاً إنّه مشابه لطبيعة الآلات التي يحدث عنها ونقول في تلك الآلات أيضاً إنّها تشبه الصوت. ولمّا زاد مع هذا أيضاً في هذا المعنى أنّ الذي نلقاه أوّلاً هو الصوت ثمّ إنّا من بعد ذلك نتراقى ممّا حسسناه فنتفكّر حتّى تقوم في أوهامنا هيئة الآلات الفاعلة للصوت كان الأمر بسبب هذا أيضاً في عكس أبقراط لمرتبة هذين الشيئين الطبيعة أوجب.
فقد قال أرسطوطاليس أيضاً في مواضع كثيرة من كتبه إنّه قد يجوز أن يكون شيئان يقال كلّ واحد منهما عند الآخر أوّل وثانٍ على معنيين مختلفين وذلك أنّ الشيء الذي هو عند الطبيعة أوّل عندنا ثانٍ. وعلى هذا الوجه عمد إلى كتاب
بأسره من كتبه فجعل عنوانه «بعد الطبيعة» وإنّما فعل ذلك بسبب معرفتنا وأمّا ذلك العلم الذي قصد إليه في ذلك الكتاب فهو في الطبع أوّل كما قد قال هو ذلك أيضاً ولو أنّ إنساناً جعل عنوان ذلك الكتاب مكان «بعد الطبيعة» «قبل الطبيعة» لم يكن مخطئاً. وقد نقول أيضاً في الجواهر الشخصيّة التي لا تقبل التقسيم مرّة إنّها أخيرة عند الصورة ومرّة إنّها أوّليّة متقدّمة وبيّن لنا أنّها أوّليّة متقدّمة عندنا وبحسب معرفتنا وأنّها أخيرة تالية عند الطبيعة فكذلك الصوت أيضاً عند معرفتنا هو أقدم وأسبق وعند طبيعة الآلات الفاعلة له ثانٍ تالٍ.
ولعلّي أن أكون قد جاوزت فيما قلت من هذا المقدار الذي ينبغي وأبقراط يشير عليك دائماً أن تستخفّ وتستهين بكلّ ما كان إنّما البحث عنه من طريق النظر في الألفاظ ولا يكون غرضك وقصدك في جميع الكلام إلّا بيانه.
وأمّا القول الذي ختم به أبقراط هذا الكلام فحكم فيه أنّ الأشياء التي يكون بها «الصوت» تتمّ في «يوم إفراق». فإن كان ما قصد إليه به علماً من علوم نفس الأشياء لا من علوم الألفاظ وما تدلّ عليه الألفاظ فأنا معيده وناظر فيه.
قال: «وانحلاله يكون في يوم إفراق». الأمور التي قال في الصوت إنّها تحدث في «الشهر السابع أو التاسع أو العاشر» قال الآن إنّها تحدث «في يوم إفراق» يعني في يوم بحران فقد قلنا قبل إنّ أوّل «انحلال الصوت» وانطلاقه في الصبيّ إنّما يعني به أوّل حدوثه. فقد دلّ هذا القول منه أنّه يريد أن يحسب الشهور
حساب استقصاء لا حساب تقريب ويفهم عنه أنّ أوّل يوم يتكلّم فيه الصبيّ ليس هو أيّ يوم اتّفق من أيّام الشهر السابع أو من التاسع أو من العاشر لكنّ يوم معلوم من أيّام البحران فليس يخلو الأمر من أحد وجهين إمّا أن يكون يعني به أنّه ينبغي أن يتفقّد في كلّ واحد من تلك الشهور أيّام البحران التي تقع فيه لأنّ الصوت إنّما يحدث فيها وإمّا أن يكون يعني أنّ في كلّ واحد من تلك الشهور يوماً واحداً معلوماً يحدث فيه الصوت.
وقد ترك البحث عن هذا جميع من فسّر هذا الكتاب. وقد نفعل نحن أيضاً في عيادة المرضى بأخرة إذا تطاولت مدّة المرض حساب الأيّام حتّى لا نحفظ عند انقضاء المرض أيّ يوم هو ذلك اليوم الذي انقضى فيه إذا حسب منذ أوّل يوم كان ابتدأ فيه ذلك المرض. وذلك أنّا نحسب الأيّام منذ أوّل المرض إلى أن يجاور الأربعة عشر حساب عناية واستقصاء ثمّ أتى من بعد ذلك كأنّا نفتر عن استقصاء الحساب إلى أن نبلغ إلى يوم العشرين ثمّ أتى بعد يوم العشرين وإلى الأربعين لا يكاد يحسب متى الأيّام إلّا الحريص المستقصي ثمّ من بعد ذلك يفتر أيضاً عن استقصاء الحساب الحريص المستقصي.
فأمّا أبقراط فقد نجده يذكر يوم الثمانين في عدد أيّام البحران ويوم المائة والعشرين في بعض المرضى. وأيّام البحران إلى العشرين كثيرة متواترة ويجري
حساب بعضها على أربعة أربعة وهي الرابع والسابع والحادي عشر والرابع عشر والسابع عشر والعشرين ويقع فيما بين هذه من أيّام البحران أيّام أخر وهي الثالث والخامس والتاسع ثمّ من بعد العشرين لا يقع من أيّام البحران لما يقع قبله نظير ولا يكون تواتر أدوار أيّام البحران على ما كانت عليه جارية على أربعة أربعة لكنّ مجراها يكون على سبعة سبعة فقط إلى الأربعين ثمّ يبطل بعد أيضاً الأسابيع ويجري حساب أيّام البحران على عشرين عشرين فيكون يوم البحران بعد الأربعين يوم الستّين وبعد يوم الستّين يوم الثمانين وبعد يوم الثمانين يوم المائة والعشرين وليس يذكر أبقراط من بعد هذا اليوم يوماً من أيّام البحران لكنّه يذكر بعده الشهور ويجعل حسابها متساوياً لحساب أدوار أيّام البحران ثمّ إنّه بأخرة يذكر أدوار الستّين.
فلمّا كان ليس أحد يتفقّد وينظر في أيّ يوم منذ اليوم الذي ولد فيه الصبيّ يتكلّم كان الحكم فيما قيل في هذا القول ممّا يعسر حتّى تعلم أوّلاً أيّ يوم ينبغي أن تتوهّم أنّه يوم البحران للطفل المولود لسبعة أشهر والطفل المولود لتسعة أشهر والطفل المولود لعشرة أشهر ثمّ تتفقّد وترصد الأمر في هذا حتّى تعلم هل في ذلك اليوم بالحقيقة يكون ابتداء حدوث هذا الأمر الذي قيل. وقبل كلّ شيء فقد تلقّنّا القول بأنّ الطفل المولود لسبعة أشهر يتمّ في مائتين وعشرة أيّام وذلك اليوم هو
اليوم الذي يحدث فيه ما يحدث وكذلك حال يوم المائتين والسبعين للطفل المولود لتسعة أشهر ويوم الثلاث مائة للطفل المولود لعشرة أشهر.
من المعاندة والمناقضة ما ليس هو باليسير وذلك أنّه إنّما ينبغي أن تمتحن وتسير هذه الأشياء وأشباهها بالشهور الطبيعيّة لا بالشهور المفترضة. وليس نجد في الطبع شيئاً يجوز أن يكون الشهر سوى الزمان الذي بين اقترانين من الشمس والقمر فأمّا أزمان الشهور المفترضة فجميعها بمصر ثلاثون يوماً وأمّا الروم فالشهر الأوّل عندهم أحد وثلاثون يوماً والشهر الثاني ثمانية وعشرون يوماً والشهر الثالث مساوٍ للأوّل والشهر الرابع ثلاثون يوماً والشهر الذي يتلوه وهو الخامس مساوٍ للأوّل والشهر السادس ثلاثون يوماً والشهران اللذان بعده كلّ واحد منهما أحد وثلاثون يوماً ثمّ الشهر الذي يتلوهما ثلاثون يوماً ثمّ الذي بعده أحد وثلاثون يوماً ثمّ من بعد هذا شهر الحادي عشر ثلاثون يوماً والشهر الأخير واحد وثلاثون يوماً وفي كلّ أربع سنين يحسبون الشهر الثالث من الأوّل اثنين وثلاثين يوماً وكذلك قد يحسب الآن قوم من اليونانيّين. فأمّا القدماء من اليونانيّين فكلّهم إنّما كان يحسب الشهر الطبيعيّ وهو كما قلت الزمان الذي بين اقترانين من الشمس والقمر ويسمّون ذلك الاقتران «سمينيا» ومعناه التقاء الشهرين ويسمّون اليوم الذي يتلو هذا «نومينيا» وهو غرّة
الشهر وذلك اليوم هو أوّل يوم من الشهر وأهل أثينية يسمّون أيضاً بذلك الاسم اليوم الذي قبل الاقتران وذلك أنّ اقتران الشمس والقمر بالحقيقة إنّما يكون في نقطة من الزمان والجزء من الزمان الذي قبل تلك النقطة من يوم الاقتران هو من الشهر الأوّل والجزء الذي بعدها من الشهر الثاني الجديد.
فإن تفقّد متفقّد في كثير من الصبيان أمر الأيّام التي يبتدئون فيها بالكلام فهو قادر أن يعلم أيّ الحسابين من حساب الشهور يلزم هذا. وأمّا أنا فإنّي تركت هذا القول فلم أبحث عنه لأنّ فيه شغلاً وليس يحصل منه في علاج الطبّ كثير درك.
(١٠) قال أبقراط: متى كانت العروق تنبض في اليدين وكان الوجه صحيحاً والمواضع التي دون الشراسيف غير ضامرة كان المرض مزمناً.
قال جالينوس: قد قلت فيما تقدّم إنّ أبقراط يعني باسم «النبض» مطلقاً النبض العظيم الشديد من نبض العروق الضوارب التي قد يسمّيها أبقراط «عروقاً» باسم مطلق فيقول إنّه متى كان النبض عظيماً قويّاً مع سائر الدلائل التي وصفها بعد كان «المرض» طويلاً «مزمناً». والدلائل التي يعنيها هي أن «يكون الوجه صحيحاً» ويعني بذلك أن يكون الوجه شبيهاً بوجه الأصحّاء والوجه الشبيه بوجه الأصحّاء هو الوجه الذي لم يحل لونه ولم تتغيّر سحنته لكنّ لونه باقياً على حاله كما كان في
وقت صحّة ذلك الإنسان وفي سحنته لم يبلغ به الانخراط ما وصفه أبقراط في ابتداء كتابه في تقدمة المعرفة ولا هو منتفخ متهيّج لكنّه باقٍ على حاله التي كانت له في الطبع. فمتى بقي الوجه على هذه من الحال دلّ على أنّ «المرض يكون مزمناً» كما قال في كتاب الفصول أيضاً: «إنّ من كانت به حمّى ليست بالضعيفة جدّاً فإن يبقى بدنه على حاله ولا ينقص شيئاً أو يذوب بأكثر ممّا ينبغي رديان لأنّ الأوّل ينذر بطول من المرض والثاني يدلّ على ضعف من القوّة». فكما أنّه لا ينبغي أن يوجد البدن أو الوجه قد «ضمرا» بأكثر من قياس طول المرض كذلك لا ينبغي أن يوجد البدن كلّه أو الوجه قد «ضمر» وانخرط.
وأمّا في كتابه في تقدمة المعرفة فذكر في أوّله حالاً من حالات الوجه أبعد حالاً من هذه الحال وأشدّها لها مضادّة في القول الذي افتتحه بأن قال: «الأنف الدقيق والعينان الغائرتان والصدغان اللاطئان» وذكر أيضاً المواضع التي دون الشراسيف في كتاب الفصول فقال: «إنّ الأجود في كلّ مرض أن يكون ما يلي السرّة والثنّة له ثخن ومتى كان دقيقاً جدّاً منهوكاً فذلك رديء». إلّا أنّه في ذلك القول استعمل اللفظ على حقيقته فقال «يكون له ثخن» وأمّا في هذا القول الذي نحن في تفسيره فإنّما دلّ على هذه الحال من تلك المواضع بنفي «الضمور»
عنها ويعني «بضمورها» أن تكون خالية خاوية منقبضة لاطئة. وينبغي أن تفهم عنه ضدّ هذه الحال أن تكون ثخينة لا ثخناً غريباً عارضاً لكنّ كحال ذلك الإنسان الذي هو الآن مريض في وقت صحّته كانت. فإنّ الثخن العارض يدلّ على علّة من جنس الانتفاخ أو الورم.
فقد يتبيّن أنّ هذا القول والقول الذي قيل في كتاب الفصول في المواضع التي تلي السرّة والثنّة إنّه ينبغي أن يكون «لها ثخن» معناهما معنى واحد وهذا معنى جزئيّ محصور في قول عامّيّ وهو الذي قيل فيه «فيمن كانت به حمّى ليست بالضعيفة جدّاً إنّه إن يبقى بدنه على حاله ولا ينقص شيئاً فإنّ ذلك ينذر بطول من مرضه» إلّا أنّه زيد في هذا القول أن يكون النبض أيضاً عظيماً قويّاً. وقد بيّنت أنّ النبض الذي هذه حاله يكون من شدّة القوّة ويجب من هذه الدلائل أن يتقدّم من رآها فيعلم أنّ صاحب هذه العلّة سيسلم بعد طول من مرضه. وبيّن أنّه ينبغي أن يستثنى في هذا القول متى لم يجن عليه جناية بتّة فإنّ هذا ممّا ينبغي أن يشترطه دائماً.
(١١) قال أبقراط: وليس ينحلّ دون أن يحدث تشنّج أو يجري من المنخرين دم كثير أو يعرض في الوركين وجع.
قال جالينوس: هذا القول تابع للقول الذي تقدّم قبله ويعني به أنّ المرض الذي ذكر فيه أنّ «العروق التي في اليدين تنبض» نبضاً عظيماً قويّاً «والوجه يكون صحيحاً والمواضع التي دون الشراسيف لا تكون ضامرة» يجوز أن ينحلّ إمّا «بدم كثير يجري من المنخرين» وإمّا «بوجع يحدث في الوركين». وقد وصف لنا هذين الوجهين من تحلّل المرض في مواضع أخر حيث قال إنّ تحلّل الأمراض يكون إمّا بانتقاص الأخلاط المولّدة لها وإمّا باندفاعها إلى بعض الأعضاء «والرعاف» في هذا الموضع يكون على طريق الانتقاص والاستفراغ «ووجع الوركين» يكون على طريق اندفاع الفضل إلى هاهناك فقد دلّ على انتقال الأخلاط المولّدة للمرض إلى تلك المواضع بالعرض العارض منها.
فأمّا «التشنّج» فلا يجوز على حقيقة الكلام أن يعدّ في ضروب تحلّل المرض إلّا أن يجيز أن تقول فيمن يعطب أيضاً أنّ مرضه «ينحلّ» وينقضي إلّا أنّ «التشنّج» قد يكون في الأمراض التي تحدث عن امتلاء مثل هذا المرض الذي كلامه الآن فيه إذا لم يستفرغ البدن سريعاً من الفضل الذي فيه.
(١٢) قال أبقراط: لعلّة الحلق صبّ على الرأس ماء حارّاً إن لم يكون الهواء بارداً وإلّا فاتّخذ له من الطحين حسواً فحسّه إيّاه وهو شديد الحرارة واسقه شراباً صرفاً.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قد يوجد في نسختين مختلفتين وذلك أنّ بعضهم يكتب «ماء حارّاً» وبعضهم يكتب «ماء بارداً» إلّا أنّ أكثر النسخ وأصحّها
إنّما يوجد فيها «ماء حارّاً» لا «ماء بارداً» لكنّ لمّا وجدوه قد قال إنّه متى «كان الهواء بارداً» لم يمكن ذلك غيّر قوم فيما أحسب الكلام لأنّهم ظنّوا أنّ الماء البارد أشكل وأوفق لهذا القول. وقالوا أيضاً إنّ من المقنع أن يكون أبقراط يستعمل من العلاج في علّة الرقبة ما يدفع عنها وقالوا أيضاً إنّ الماء البارد قد يحقن الحرارة في الموضع الذي يصبّ عليه إذا استعمل على الشروط التي وصفها أبقراط في كتاب الفصول. ولذلك استعمله في هذا الموضع وترك استثناء تلك الشروط لأنّه إنّما أثبت ما أثبت من هذا على طريق التذكّر. وأمّا الذين كتبوا «ماء حارّاً» فقالوا إنّه إنّما استثنى في القول فقيل «إن لم يكن الهواء بارداً» لأنّه متى كان الهواء المحيط بنا بارداً ثمّ سخف الرأس واتّسعت مسامّه بصبّ الماء الحارّ عليه أسرع إليه البرد.
وأمّا اسم «الحلق» فقد ظنّ قوم أنّه يدلّ على المجرى الذي ينحدر فيه الطعام وهو المريء وظنّ قوم أنّ هذا الاسم إنّما يدلّ على أوّل المريء فقط وظنّ قوم أنّه إنّما يدلّ على ما يلي الحنجرة وظنّ قوم أنّه فضاء شبيه بالطريق فيه فوهتا المجريين جميعاً أعني مجرى الحنجرة ومجرى المريء.
وأنت قادر من كلام الشاعر أن تستدلّ أيّ عضو ينبغي أن يكون هذا العضو الذي سمّاه «حلقاً» حين قال وهو يحكي عن أخلوس عندما مات فطرقلس أنّه قال: «وما يسرّني أنّه ورد حلقي شراب وطعام قبل ذلك وصاحبي قد مات». ونجد
المؤدّبين إلى هذه الغاية يتهدّدون الصبيّ البهم «بقطع حلقه». فيدلّون بذلك أنّهم إنّما يعنون «بالحلق» الموضع الذي يوجد فيه اللذّة عند الازدراد.
وأيّ هذه المعاني كان المعنى في هذه اللفظة فلا فرق بين ذلك لأنّ جميع الأورام التي تكون في هذا الموضع إن كانت القوّة معها قويّة يحتاج فيها إلى فصد العرق وفي أوّل العلّة إلى ما كان من الأدوية إلى القبض أميل ثمّ بأخرة إلى ما كان من الأدوية إلى التحلّل أقرب. إلّا أنّه لا ينبغي أن تقرب الأدوية القابضة حتّى لا يخالطها شيء من التحليل ولا المحلّلة حتّى لا يخالطها شيء من القبض إلّا أن يطول لبث العلّة فتصير إلى حال الجساء والصلابة فإنّه إذا كانت العلّة قد صارت إلى تلك الحال فليس ينبغي أن يخالط الأدوية التي يستعمل فيها شيء من القبض. وإن لم تكن القوّة مع هذه العلّة أيضاً قويّة فإنّ استعمال الأدوية من غير الفصد يكون على هذا الطريق بعينه.
فأمّا الغذاء فبيّن أنّه ينبغي أن يكون من «أحساء» لا يضرّ ممرّها بالمواضع الوارمة بل تنفعها وتقوم لها مقام الضماد وإذا كان الورم عظيماً لم تقتصر على استعمال الأدوية من داخل دون استعمال الأضمدة من خارج. فهذا ما يعرفه جميع الأطبّاء ممّا يصلح لمداواة العلل التي تكون في تلك المواضع ويعلم جميعهم أيضاً أنّ «صبّ الماء» والاستحمام لا ينبغي أن يستعمل في أوّل الأمر لا في هذا الورم ولا في غيره من الأورام فأمّا في وقت انحطاط العلّة فقد ينبغي أن يستعمل ويعلم جميعهم أيضاً أنّ شرب «النبيذ» من أردأ الأشياء للأورام. فقد بان أنّ الأطبّاء لن يستفيدوا من هذا القول شيئاً فضلاً عمّا في أيديهم ممّا لم يكونوا يعلمونه فأمّا من لم يعرف كيف ينبغي أن يعالج هذه العلل فإنّه إن قبل هذا القول وعمل به حتّى يسقي أصحاب هذه العلل النبيذ فإنّ ذلك معما لا ينفعه يضرّه.
وقد نجد قوماً ممّن ينسب نفسه إلى تلمذة أبقراط يصدّقون بكلّ ما وجدوه مكتوباً في كتاب موسوم باسم أبقراط عن غير بحث فيغوّيهم كثيراً أقاويل كاذبة يجدونها في تلك الكتب حتّى يقبلوها ويعملوا بها إذ كان ليس معهم تجربة وخبر متقدّم بذلك الأمر ويوقعوا بذلك كثيراً تلاميذهم في جهد وبلاء باستكراههم إيّاهم أن يفهموا الكلام على خلاف المجرى الطبيعيّ ومن ذلك ما فعلوه في هذا القول فإنّهم قالوا إنّ أبقراط وصف في هذا القول علاج المريء الذي قد أفرط عليه اليبس ولذلك يزعمون 〈أن〉 ينفعه «الحسو الحارّ» المتّخذ من «الطحين» «والنبيذ». وذلك أنّه إن كان أبقراط لمّا ذكر المريء لم يصف علّته أيّ علّة هي وإنّما نستخرج نحن أيّ علّة هي من العلاج الذي أشار به فإنّه يظهر لنا نحن من الفضل في الصناعة والحذق بها أمر عظيم ويكون أبقراط لم يفدنا شيئاً أصلاً ومع ذلك أيضاً فإنّ الجاهل بالطبّ يقدر أن يكتب مثل هذه الأقاويل.
فانزل أنّك وجدت كتاباً مكتوباً فيه: «إذا كانت في المريء علّة فينبغي أن نفصد لصاحبها العرق ونقتصر به على شرب الماء القراح ونصبّ عليه الماء الحارّ». فلو وجدنا هذا القول على هذا المثال لكُنّا بأجمعنا سنقول إنّ المعنى في هذا القول أنّه متى كان في المريء ورم فعلاجه في ابتداء العلّة فصد العرق ثمّ في سائر أوقات العلّة إلى انحطاطها الاقتصار على شرب الماء القراح ثمّ في وقت انحطاط العلّة الاستحمام بالماء الحارّ. وكلّ علاج يذكره ذاكر فلا بدّ من أن يكون
مضادّاً لعلّة ما من بعض العلل التي تعرض للبدن والضدّ هو دواء ضدّه فيكون كلّ علاج يذكر شافياً لعلّة من العلل في موضع من مواضع البدن.
فيجب من ذلك أن يكون علاج يذكره ذاكر لعضو من الأعضاء به علّة من غير أن يصف تلك العلّة ما هي فالذاكر في أوّل ذكره له صادق. وذلك أنّ القول بأنّه ينبغي أن يفصد العرق والقول بأنّه لا ينبغي أن يفصد العرق كلّ واحد من القولين صحيح محقّ في علّتين مختلفتين إذا كنّا نحن الذين نستثني لمن ينبغي أن يفصد العرق ولمن لا ينبغي أن يفصد وعلى هذا المثال يكون قول القائل بأنّه ينبغي أن يشرب النبيذ والقول بأنّه لا ينبغي أن يشرب وكذلك أيضاً قول القائل بأنّه ينبغي الاستحمام أو لا ينبغي أو بأنّه ينبغي أن يتحسّى كشك الشعير أو لا ينبغي أو بأنّه ينبغي أن يشرب ماء العسل أو أنّه لا ينبغي أو بأنّه ينبغي أن يؤكل الخبز أو لا ينبغي. فقد تبيّن لك أنّ هذه الأقاويل وأشباهها كما من عادتي أن أقول فيها كثيراً كما قد علمت أقاويل لا يقنع بها لأنّه لا يستفاد منها شيء بتّة.
وأمّا هذا القول الذي نحن في شرحه فقد كتبه قوم على هذه النسخة: «لعلّة الحلق صبّ على الرأس ماء بارداً» ثمّ قالوا إنّ هذا القول إنّما قيل في الغلام الذي يتغيّر صوته في وقت الإدراك فقد ينتفع أولائك الغلمان في تلك الحال بصبّ الماء البارد على رؤوسهم. فقد تبيّن من هذا أيضاً صحّة ما لا أزال أقوله كثيراً وهو أنّ الكلام الغامض لا يستفاد منه شيء إلّا من أحبّ أن يهذي فهو يجد به سبيلاً سهلاً إلى الهذيان.
(١٣) قال أبقراط: من استطلق بطنه فأطعمه باقلّى مطبوخاً إن لم يكن ما فوق صرفاً أو أطعمه الباقلّى مع الكمّون.
قال جالينوس: إنّ في هذا القول اسماً واحداً غامضاً وهو قوله «صرف» وإذ كان الأمر في الوقت على حقيقة معناه ممّا لا حيلة فيه فلا بأس بمتابعة المفسّرين على قولهم بأنّه يعني «بالصرف» في هذا الموضع المرار الخالص. فقد قلنا فيما تقدّم أيضاً إنّ من عادة أبقراط أن يسمّي الشيء «صرفاً» إذا أراد أن يدلّ أنّه لم يخالطه جوهر غيره وهو الذي يسمّيه «خالصاً» «نقيّاً» «بالغاً في طبيعته إلى غايتها».
وأمّا قوله «ما فوق» فقالوا إنّه يريد به لا من البدن كلّه لكنّ من المعدة فقط حتّى يكون قوله على هذا المثال: «من استطلق بطنه أيْ من أسهله بطنه إسهالاً
كثيراً فينبغي أن نطعمه باقلّى مطبوخاً إلّا أن يتبيّن لك أنّ في الجزء الأعلى من بطنه فضل مرار مجتمع وحركة ذلك الفضل إلى أسفل وخروجه ممّا ينتفع به» فإنّه متى كان ذلك تركنا الشيء يستفرغ لانتفاع البدن باستفراغه. ونحن نتابعهم على هذا إذ كانوا قد أحسنوا الاحتيال بكلام مقنع في شرح قول لا يوقف منه على حقيقة لكنّا لا نتابعهم على أن نطعم من يحتاج إلى أن يعقل بطنه «باقلّى مطبوخاً» لأنّا نعلم علماً يقيناً أنّ الباقلّى طعام بطيء الانهضام نافخ وليس فيه مع ذلك من القبض ما يحسن الذرب. ولهذا ما قال قوم إنّه إنّما ينبغي أن يطعم المستهيض الباقلّى المصريّ وقد سلم القائل لهذا القول من الفضيحة القريبة في بلدنا هذا إلّا أنّ فضيحته بإسكندريّة بيّنة ظاهرة وذلك أنّ الباقلّى المصريّ أردأ في المزاج من باقلّى قليّاً فضلاً عن أن يكون خيراً منه. وأصحاب هذا القول يقولون إنّه ينبغي أن يطعم المستهيض الباقلّى المصريّ مقلوّاً على أنّه إنّما قيل في هذا القول إنّه ينبغي أن يطعم «الباقلّى مطبوخاً» وإن أطعمت أيضاً الباقلّى مقلوّاً فإنّه وإن كان قد يجفّف أكثر ممّا يجفّف الباقلّى غير المقلوّ فإنّه لا ينتفع به أيضاً لأنّ استصعابه عن الانهضام يتزيّد إذا قُلي وإنفاخه لا يبطل أصلاً.
فأمّا «الكمّون» الذي أمر أن يؤكل الباقلّى معه فهو حرّيف مجفّف وفيه قوّة تدرّ البول. إلّا أنّه لا ينبغي أن يطعم المستهيض «الباقلّى مع الكمّون» وخاصّة متى
كانت الأمعاء قد حدثت فيها خشونة من الأشياء التي مرّت بها عند الاستطلاق فإنّ من كانت هذه حاله لا ينتفع بشيء من الأشياء الحارّة.
ولا أحسب أنّ ما قيل في هذا القول من أقاويل أبقراط وأنا تاركه وآخذ في البحث عن قول بعده وهو هذا:
(١٤) قال أبقراط: انقضاء ذلك المرض لا يكون إلّا في يوم إفراق ولا يكون بدؤه أيضاً إلّا في غير يوم إفراق وفي غير شهر إفراق وفي سنة إفراق.
قال جالينوس: قد ظنّ قوم أنّ هذا القول من أبقراط ليس هو في الصرع لأنّه قد تقدّم منه قول في ذلك المرض كيما لا يظنّ به أنّه كرّر قولاً واحداً مرّتين. ونحن نقول إنّه قد زاد في قوله في هذا الموضع شيئاً فاضلاً على ما تقدّم وهو أنّ هذا المرض لا يبتدئ أيضاً في وقت من الأوقات إلّا «في غير يوم إفراق وغير شهر إفراق» فإنّ هذا لم يكن تقدّم من قوله. ومخرج الكلام أيضاً ليس يدلّ على أنّ قوله هذا في جميع الأمراض وذلك أنّه لو كان أراد به جميع الأمراض لكان سيقول: «إنّ انقضاء المرض» أو «الأمراض لا يكون إلّا في يوم إفراق» وليس نجده أخرج هذا القول هذا المخرج لكنّه أشار بقوله ذلك إلى مرض بعينه حين قال: «انقضاء ذلك المرض». وهذه الزيادات تدلّ على أنّ القول إنّما هو في مرض خاصّ وكان
كلامه في «المرض الأعظم» أعني الصرع لا في جميع الأمراض. فإنّ القول بأنّ «المرض ينقضي في يوم إفراق» أعني يوم بحران قول عامّ يراه أبقراط ويقول به.
فأمّا القول بأنّ ابتداء حدوث المرض وأوّل كونه يكون «في غير يوم إفراق» فيحتاج فيه إلى نظر وبحث. وقد علّمنا أبقراط في كتابه في تقدمة المعرفة كيف تكون البحرانات في أدوار الأربعة الأربعة والأسابيع من اليوم الذي يبتدئ فيه كلّ واحد من الأمراض أيّ يوم كان وحساب تلك الأيّام إنّما هو بحسب ابتداء المرض وأمّا ابتداء المرض فلسنا نجد شيئاً قبله نحسبه منه حتّى نعلم هل كان في يوم إفراق أو في غير يوم إفراق سوى وقت المولد والكون الأوّل والقول بأنّه ينبغي أن ينظر في بدء جميع الأمراض أو في بدء الصرع بحسب عدد الأيّام والشهور بين وقت المولد وبين ذلك اليوم الذي حدث فيه المرض قول قبيح مستشنع كما قلت فيما تقدّم. وذلك أنّا نحتاج إمّا إلى أن نجد تلك الأيّام محدودة بشهور تامّة مع أنّ تلك الشهور يجب أن تحسب على المجرى الطبيعيّ لا على المجرى المفترض في كلّ واحدة من المدن أو عند كلّ أمّة من الأمم وإمّا إلى أن ننظر في أيّام البحران الموجودة في كلّ واحد من الشهور.
وأمّا القول الذي ختم به هذا الكلام وهو قوله «وفي سنة إفراق» فلم يقرب المفسّرون منه ولا من القول المقنع. وذلك أنّهم قالوا إنّه ينبغي أن يوصل قوله «وفي
سنة إفراق» بقوله «في يوم إفراق» وإنّ قوله «ولا يكون بدؤه أيضاً إلّا في غير يوم إفراق وفي غير شهر إفراق» قول داخل في الوسط ومن رضي بأن يكتب هذا الكلام على هذا النظام ويفهمه على هذا المعنى فقد رضي بأخبث كلام. والأجود كان أن يقولوا إنّ أبقراط إنّما كتب من بعد ذكره «ليوم الإفراق» «وشهر الإفراق وفي سنة إفراق» ثمّ إنّ الناسخ أخطأ وبقي خطاؤه فلم يصلح إلى هذه الغاية.
وليس القول أيضاً بأنّ «انقضاء المرض» كما يكون «في يوم إفراق» كذلك يكون «في سنة إفراق» بقول مقنع وقد ألغى مع هذا ذكر «الشهر» وليس اليوم والسنة بأولى من الشهر أن يذكر حتّى يترك ذكر الشهر لأنّه لا يستحقّ أن يذكر معهما. فالأجود إذاً أن يقول «إنّ انقضاء المرض يكون في يوم إفراق» وذلك أنّ المرض إن امتدّ إلى عدد من الشهور أو إلى عدد من السنين فإنّ اليوم الذي ينقضي فيه لا محالة عنده يوم إفراق ويحصر فيه مدّة السنين والشهور. فإنّا إنّما نعلم أنّ ذلك اليوم يوم إفراق بنظرنا في السنين والشهور كما قلنا قبل وليس يحصر اليوم الذي ليس هو من أيّام الإفراق وكذلك الشهر والسنة. فقد قلنا أيّ الأيّام هو يوم إفراق وكذلك الشهر والسنة وإنّ أمر هذه يجري على نظام وأمر اليوم الذي ليس من أيّام الإفراق غير محدود ولا جارٍ على نظام. فالأجود إذاً أن يفهم هذا الكلام على ما نجده مكتوباً «في غير يوم إفراق وفي غير شهر إفراق وفي سنة إفراق» حتّى
يكون معنى صاحب هذا الكلام فيه أنّ ابتداء المرض يكون في سنة إفراق وفي شهر ويوم من غير أشهر وأيّام إفراق.
(١٥) قال أبقراط: خذ بورقاً مصريّاً وكسبرة وكمّوناً فاسحقها واخلطها بدهن وامسح بها.
قال جالينوس: هذا القول كان ينبغي أن يوضع إلى جانب القول الذي قيل في المرض الأعظم وإذ لم يوصل به فقد يجوز أن يتوهّم المفسّرون — إذ كان من عادتهم أن يتأوّلوا أشياء كثيرة على خلاف ما يجب — أنّ هذا القول ليس بذلك القول فقط يتّصل لكنّه يتّصل معه أيضاً بما تقدّم هذا القول من أقاويله. وذلك أنّ هذا الدواء دواء معه قوّة مسخنة مجفّفة فقد يجوز في قولهم أن ينفع من الصرع ويجوز أن ينفع من الاستطلاق أيضاً ومن علل التشنّج ومن علل المريء فقد ذكر هذه العلل في الأقاويل التي تقدّمت. ويقولون في «البورق المصريّ» إنّه أكثر إسخاناً وتجفيفاً من غيره ويستدلّون على ذلك بلونه لأنّك تراه يضرب إلى الحمرة كما يصير سائر البورق إذا أدنى من النار.
(١٦) قال أبقراط: الذين يموتون يجب أن يكون موتهم في يوم إفراق وشهر إفراق وسنة إفراق ونريد أن نتقدّم فننذر بالصواب بالموت أو بالأوجاع الشديدة.
قال جالينوس: هذا القول صحيح حقيقيّ إلّا أنّه ليس يصحّ إذا أطلق هذا الإطلاق وذلك أنّ الناس قد يموتون في جميع الأيّام إلّا أنّ أكثرهم يموت في أيّام
البحران. وأمّا قوله بعد «ونريد أن نتقدّم فننذر على الصواب بالموت أو بالأوجاع الشديدة» فقد يجوز أن نتوهّمه أنّه قاله مفرداً على حدته ويجوز أن نصله بما تقدّم ذكره أمّا مفرداً على حدته فكيما نحرص على أن نتقدّم فننذر بالموت الكائن أو بالوجع الشديد لئلّا نلزم ديناً في الأشياء الرديئة التي تعرض بأخرة ويتوهّم علينا أنّ لنا فيها سبباً. فقد ينبغي للطبيب أن يأخذ نفسه بأن يتقدّم فيعلم من من المرضى يموت ومن منهم يسلم إلّا أنّ حاجتنا إلى تقدمة المعرفة بمن يموت أكثر كيما يعلم الناس أنّ المريض إنّما مات من رداءة مرضه وصعوبته لا من خطاء الطبيب عليه أو من نوائبه في علاجه.
وقد يجوز كما قلت أن يوصل هذا القول بالقول الذي تقدّم قبله «فيمن يموت» وينبغي أن ننظر لِم لم يفرد قوله فيقول إنّه ينبغي أن «نتقدّم فننذر بالموت» لكنّه استثنى فقال: «أو بالأوجاع الشديدة». فأقول إنّه إنّما استثنى ذلك لأنّه قد يكون أن يتخلّص بعض المرضى من أمراض الخطر فيها عظيم جدّاً فالأجود والأوثق للمتطبّب لهذا السبب أن لا يتقدّم فيجزم أنّ المريض يموت لا محالة لكن يقول إنّ مرضه سيستصعب وقد يجوز أن يتخلّص منه. وقد حصر جميع الأمراض الصعبة في اسم واحد دلّ به عليها وهو «الوجع» لأنّ جميع الأمراض الشديدة الصعبة لا تخلو من أن يكون معها وجع.
(١٧) قال أبقراط: من كانت عيناه ليستا بصحيحتين فالموت يأتيه سريعاً.
قال جالينوس: هذا القول إن أفرد وجرّد لم يصحّ وإن وصل بالقول الذي تقدّم — أنزل الأمر فيه على أنّه رسم رسمه أبقراط لنفسه للتذكرة — إن كان هذا القول من أقاويل أبقراط كان صواباً. وذلك أنّك إذا تقدّمت فعلمت سائر الدلائل التي علّمكها أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة أنّ المرض قتّال فإنّك إذا رأيت «عينين ليستا بصحيحتين» علمت أنّ موت صاحبهما قد دنا. وقد علّمك في كتاب تقدمة المعرفة كيف تستدلّ على «العينين» أنّهما «ليستا بصحيحتين» حيث قال: «إنّهما إن كانتا تكتفّان عن الضوء وتدمعان عن غير إرادة وتنقلبان» وسائر ما وصفه أبقراط هناك من أمرهما فهذا هو المعنى في هذا القول وأمّا اختلاف نسخه فلا يزيد فيه شيئاً ولا ينقص منه شيئاً.
(١٨) قال أبقراط: إذا ولد المولود من والديه جميعاً في سنة خلاص فواجب أن يتربّى وإذا ولد في غير سنة خلاص وفي غير يوم خلاص فواجب أن يموت في يوم خلاص.
قال جالينوس: هذا الكلام فضل وليس يشبه غرض أبقراط وأصحاب هذه الأقاويل وأشباهها يجوّز بأشياء تحتاج إلى نظر وبحث شديد من غير نظر وبحث
كما قلت فيما تقدّم. وقد يقال في الكمريّين بمصر إنّهم من قبل وقت علوق المنى في الرحم يعرفون الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه وقوع المنى في الرحم من اليوم والساعة ويستنبطون علم ذلك من مواضع الكواكب المتحيّرة في ذلك الوقت. وذلك أنّهم يقولون إنّ مواضع تلك الكواكب في ذلك الوقت ينبغي أن تكون ملائمة مناسبة لمولد كلّ واحد من الاثنين أعني الأب والأمّ ويقولون إنّهم يصلون إلى أن يعلموا من أمر الطفل المولود هل يموت وأبوه حيّ أم لا وهل يخرج منه رجل يستحقّ أن يتعلّم الكمريّة أم لا. وإن كان ما قيل من هذا حقّاً على ما قيل فإنّ أولائك الكمريّين من دقّة المعرفة والاستقصاء فيها على حال عجيبة وأمّا عندنا فلم تجر العادة بشيء من هذا أصلاً ولا نصل إلى أن نقول كيف امتحن صاحب هذا القول أمر «أيّام وأشهر الخلاص». وقد يتبيّن من هذا أنّ جميع أشباه هذه الأقاويل إنّما هي أقاويل أدخلها أصحاب ذلك الشأن في كتب أبقراط الصحيحة.
(١٩) قال أبقراط: من الأعداد الثالث هو أقوى.
قال جالينوس: هذا القول يوجد في بعض الكتب على هذه النسخة وفي بعضها على نسخة أخرى وهي على هذا المثال: «من الأعداد الثلاثة هي الأقوى». وقد ظنّ سابينس وغيره من المفسّرين أنّ المعنى في النسختين جميعاً معنى واحد وليس
الأمر كذلك وذلك أنّ القائل إذا قال «الثالث» فإنّما يدلّ على يوم واحد بعينه يحسب منذ أوّل يوم وإذا قال «الثلاثة» فقد حصر في قوله مع الثلاثة تزيّد الأعداد بثلاثة ثلاثة حتّى ينسب الخامس إلى القوّة والسابع والتاسع والحادي عشر وسائر الأيّام الأفراد على أنّ تزيّدها بعضها على بعض يكون بثلاثة ثلاثة.
وأنا أقول إنّه لا واحد من القولين يصحّ وذلك أنّك إن حسبت الأيّام من أوّل يوم من المرض وجدته يصحّ أنّ «أقوى» الأيّام «الثالث» بل قد يتبيّن لك غاية البيان أنّ اليوم السابع أقوى من جميع الأيّام التي قبله وبعده ثمّ من بعد اليوم الرابع عشر أقوى من جميع ما قبله وبعده من الأيّام والأمر في ذلك أيضاً غاية البيان وكذلك يوم العشرين ويوم الأربعين كما وصفت في كتابي في أيّام البحران. ولا نجد أيضاً الأيّام الأفراد أقوى دائماً من الأيّام الأزواج وإن كان أصحاب بوثاغورس قد يظنّون ذلك وممّا يدلّك على هذا أنّه ليس نجد يوماً من الأيّام الأفراد أقوى من اليوم الرابع عشر خلا اليوم السابع واليوم السابع أقوى من سائر جميع الأيّام الأفراد. فما يظهر من هذا عياناً في المرضى قد يكشف خطاء القوم الذين قالوا إنّه ذكر الجزء وهو يريد أن يدلّ به على الكلّ والقوم الذين قالوا إنّه ذكر النوع وهو يريد أن يدلّ به على الجنس يعنون أنّه ذكر «الثالث» وهو يريد أن يدلّ به على جميع الأيّام الأفراد.
وقد أحسن عندي القوم الذين أسقطوا أوّل هذا القول وهو قوله «من الأعداد الثالث هو» وأقرّوا اللفظة الأخيرة منه وهي قوله «الأقوى» ووصلوها بالقول الذي يتلوه وهو قوله «الذبحة والرمد ينبغي أن يفصد لصاحبها العرق» فجعلوا نسق الكلام على هذا المثال: «وإذا ولد في غير سنة خلاص وفي غير يوم خلاص فواجب أن يموت في يوم خلاص» ثمّ أتبعوا ذلك بأن كتبوا: «في الأقوى من الذبحة والرمد ينبغي أن يفصد العرق» وذهبوا إلى أن ليس كلّ علل الذبحة والرمد يحتاج فيها إلى الفصد وإنّما يحتاج إليه في أقواها وقد ذُكر أنّ روفس رضي بهذه النسخة وفسّرها على هذا المعنى. وقد ينبغي أن أضع القول أيضاً الذي ذكرته قبيل على ما يوجد في جميع النسخ إلّا الشاذّ وأنظر في تفسير من فسّره على تلك النسخة أيضاً.
(٢٠) قال أبقراط: الذبحة والرمد ينبغي أن يفصد لصاحبهما العرق.
قال جالينوس: إنّ من البيّن أنّ أبقراط إنّما يأمر «بالفصد» بحسب ما يوجبه هاتان العلّتان إذا كانت القوّة محتملة له. وذلك أنّ الذي يدلّنا على أنّه ينبغي أن نستعمل «الفصد» أمران أحدهما عظم العلّة والآخر مقدار القوّة واحتمالها وذلك سواء النظر في أمر الأخلاط قويّة كانت القوّة أو ضعيفة. «والذبحة» من الأمراض التي هي عظيمة دائماً وليس كلّ «رمد» هو علّة عظيمة فهذا يدلّك أنّ ذكره
«للرمد» أيضاً إنّما أثبته على طريق ما يثبت في التذكرة وأنّه ينبغي لك أن تفهم قوله فيها كأنّه قال: «إنّ من الرمد ما يحتاج فيه إلى فصد العرق».
(٢١) قال أبقراط: المجروح إذا نفذت جراحته حتّى تخرق المعاء خرجت الريح خروجاً خفيّاً من أسفل موضع الجراحة ويستفرغ القصّ من هناك فينبغي أن تغذوه من اللبن والخمر بجزئين متساويين.
قال جالينوس: وأمّا قوله «إنّ الريح تخرج من الجرح» فيمكن أن نتوهّم فيه أحد أمرين إمّا أنّ أبقراط يرضى بقول من ادّعى أنّه ينفذ شيء من الهواء الذي يرد الصدر بالقصّ إلى البطن أيضاً وإمّا أن يكون يعني «بالريح» الريح النافخة التي تتولّد في البطن والأمعاء وتخرج بالجشاء والفساء. وأمّا قوله «إنّ القصّ يستفرغ من الجراحة» فباطل والمفسّرون لهذا القول يزعمون أنّه يعني «بالقصّ» الصدر لأنّ القصّ جزء من الصدر فذكر الجزء وهو يريد الكلّ. وليس نجد الصدر «يستفرغ» عند «انخراق الأمعاء» اللّهمّ إلّا أن يكون يريد أن يكون الحجاب قد انخرق مع الأمعاء ويكون هذا القول منه إنّما أراد به أن يجعله دليلاً على أنّ الجراحة قد نفذت في الحجاب والأمعاء فإنّ هذا القول قول قد رضيه قوم. وأمّا إسقاؤه «اللبن والخمر» فخطاء
وذلك أنّ الضرر العارض من شرب الخمر لمن أصابته جراحة في عضو خسيس فضلاً عن عضو شريف ليس باليسير.
(٢٢) قال أبقراط: من كان القصّ منه بالغاً غايته فإنّه يكون ألثغ أهوج أصلع.
قال جالينوس: «البالغ غايته» «والخالص» «والصرف» في قول أبقراط ربّما عنى به كما قلت ما يغلب عليه المرار غلبة قويّة أو ما هو في نوع من الأنواع من غير المرار خالص صرف يعني لا يخالطه شيء ولا يشوبه وربّما عنى به الشعر أن يكون في غاية الكثرة والقوّة والأشبه أن يكون هذا معناه في هذا القول. وذلك أنّه لا يمكن أن يكون «القصّ» وحده دون سائر البدن قد «بلغ الغاية» في لون من الألوان إمّا في حمرة وإمّا في سواد وسائر البدن على خلاف ذلك اللون وقد يجوز أن يكون «القصّ» وحده دون سائر البدن قد «بلغ الغاية» من كثرة الشعر وقوّته. فقد رأينا كثيراً ممّن هذه حاله وجميع من حاله هذه الحال شديد الغضب وليس نجد جميع من تلك حاله «ألثغ» ولا الأكثر أيضاً وأكثرهم «يصلع». ومن كان الغضب غالباً عليه غلبة قويّة فقد ينسبه إلى أنّه «أهوج» فقد أحسن في هذا القائل له ولم يحسن في قوله إنّه «يكون ألثغ» لأنّا لا نجد جميع من كان الشعر على صدره كثيراً قويّاً في غاية الكثرة والقوّة ألثغ ولا وجدنا أحداً قدر على أن يأتي بسبب مقنع يوجب أن تكون غلبة مزاج من الأمزجة حارّاً كان أو يابساً أو غيرهما
مفرداً كان أو مركّباً على اللسان في خلقته يجعل صاحبه ألثغ بالسين أو بغيرهما من الأحرف.
(٢٣) قال أبقراط: ومن كان من هؤلاء مولوداً أحول فليس هو يفهم ويتولّد فيه الحصى أو يجنّ ومن لم يكن مولوداً على الحول فإنّه يكون بذلك انحلال آفة أخرى من الآفات التي تقدّم ذكرها.
قال جالينوس: يعني أنّ من كان ممّن هو أزبّ جدّاً أصلع «مولوداً على الحول» يعني منقلب العينين فإنّه يكون «غير فهم». وقد كتب قوم هذا القول على ضدّ هذه النسخة فحذفوا قوله «فليس» وكتبوا «فهو فهم» وكلّ واحد من الفريقين يقول ويحتجّ على السبيل المقنع بضدّ ما يأتي به الآخر. فيقولون إنّ زوال العينين وانقلابهما يكون بسبب إفراط الحرارة واليبس وهذا القول مشترك بين الفريقين وأمّا القول الذي يخصّ أحد الفريقين فهو أنّ بعضهم يقول إنّ ذلك دليل على حسن الفهم ويزعم أنّ السبب في ذلك أنّ الحرارة واليبس يعينان على الذكاء وحسن الفهم وإنّ البله ونقصان الفهم إنّما سببه الرطوبة مع البرد. وبعضهم يقول إنّ أصحاب هذه الحال لإفراط مزاجهم وخروجه عن الاعتدال يصيرون إلى ضعف الرأي «والجنون» ويزعمون أنّهم إنّما يصيرون إلى الجنون لإفراط الحرارة عليهم
ويصيرون إلى ضعف الرأي لأنّ حرارتهم في تلك الحال تكون غريبة. ويزعمون أنّ بعضهم «يتولّد فيه الحصى» من قبل أنّ الأخلاط التي فيهم تغلظ على طول المدّة حتّى تجمد وذلك أنّ حرارة صاحب هذا المزاج إن كانت مع كثرتها معها يبس إن لم يتّفق أن تكون كلى صاحبه واسعة المجاري فإنّها مولّدة «للحصى».
قال: وأمّا من كان حوله ليس بطبيعيّ مولوداً لكنّه عرض له من بعد من شيء اندفع إلى العينين فبيّن أنّه يتخلّص به من علّة حدثت به قبل ذلك باندفاع سببها إلى العينين ولا يعرض له «الجنون» ولا غيره من «الآفات» التي ذكرت.
(٢٤) قال أبقراط: إنّ للثدي والعين اليمنى وغيرهما من سائر الأعضاء لقوّة قويّة جدّاً بالطبع ومن قبل أنّ حمل الذكر يكون في الجانب الأيمن.
قال جالينوس: إنّه ليس من «العينين والثديين» فقط لكنّ من سائر الأعضاء التي من دونها كلّما هو منها «في الجانب الأيمن» فهو أقوى كثيراً ممّا هو في الجانب الأيسر. ومن أعظم الدلائل على ذلك أنّ «حمل الجنين الذكر يكون في الجانب الأيمن» من الرحم. وهذا أمر ليس يوجد وجوداً دائماً لكنّه يوجد كذلك
على الأمر الأكثر وقد اختبرناه وامتحنّاه في تشريح الحيوان. والسبب عندي في ذلك موضع الكبد من الجانب الأيمن على أنّ في التجويف الأيسر من القلب وهو معدن الروح قوّة قويّة وتقدر أن تصيّر الأعضاء المحاذية له أعني التي هي في الجانب الذي هو فيه إلى حال القوّة أكثر ممّا يقدر على ذلك الكبد إلّا أنّ هذا التجويف إنّما ميله إلى الجانب الأيسر ميل يسير جدّاً وأمّا الكبد فهي موضوعة في الجانب الأيمن. ويشبه أن تكون القصّة فيمن اليد اليسرى منه بالطبع أقوى من اليمنى أنّ القلب فيه أميل إلى الجانب الأيسر وأنّ الكبد منه بالطبع أصغر وأضعف.
وأمّا أمر الرجلين ففيه موضع نظر وبحث للناظر ما بال إحدى الرجلين ليس يوجد فيها فضل قوّة على الأخرى كما نجد ذلك في اليدين فقد نجد بعض أصحاب الصراع يستعمل رجله اليمنى في الصراع وبعضهم يستعمل اليسرى.
وأمّا الأنثيان ففضل أحدهما على الأخرى في القوّة صحيح لا شكّ فيه وذلك أنّه يعرض لليسرى من العلّة التي تتّسع العروق فيها ويسمّيها اليونانيّون «قيرسوس» أكثر ممّا يعرض في اليمنى ونراها أيضاً أشدّ استرخاء. وأمّا اليمنى فقلّ ما يعرض لها ذلك لكنّه يشبه أن يكون هذا الفصل بينهما ليس هو بسبب الموضع من قبل أنّ
الأولى أن يتوهّم أنّ السبب في ذلك العرق الذي يأتي الخصية اليسرى الذي منشؤه من العرق الذي يأتي إلى الكلية اليسرى قبل أن ينقّى الدم في الكلى من مائيّته إذ كان هذا العرق يغذو الخصية اليسرى بدم مائيّ كثير الفضل حتّى يكون هو السبب للمزاج الذي لها خاصّة دون اليمنى. وقد قال واضع كتاب الأسابيع فيه إنّ الخصية اليمنى إذا تقلّصت في الأمراض كان الخطر فيها أشدّ على الحكم العامّ بجميع الجراحات التي تكون في الأعضاء القويّة.
(٢٥) قال أبقراط: إذا أردت أن تحبس طمث المرأة فضع عند ثديها محجمة عظيمة.
قال جالينوس: إنّا نجد في بعض النسخ «محجمة عظيمة» فقط وفي بعضها «عظيمة جدّاً» وكيف كان ذلك والسبب الذي له أمر «بوضع المحجمة عند الثدي» لاجتذاب «الطمث» إلى ضدّ الجهة التي يجري فيها «إذا أردنا أن نحبسه» إنّما هو العروق المشتركة بين الثديين والرحم التي قد تقدّمنا فشرحنا أمرها في تفسيرنا لكتاب الفصول أيضاً.
(٢٦) قال أبقراط: الجنين إذا أتى عليه ثلاثة أشهر دلّ على جميع الأمر وعند ذلك يصير للمرأة اللبن.
قال جالينوس: إنّ أعضاء البدن كلّها من «الجنين» في الشهر الثالث تكون قد تصوّرت وتفصّلت وتكون الدلائل صحيحة بالغة في استقصاء أعني بالدلائل أوّلاً الدلائل التي تدلّ على أنّ المرأة حامل ثمّ الدلائل التي تدلّ على أنّ الجنين ذكر أو أنثى من قبل أنّ في الشهر الثالث تتبيّن الدلائل التي تدلّ على حمل المرأة بعظم البطن وباللبن وتظهر الدلائل التي تدلّ على أنّ الجنين ذكر أو أنثى التي وصفها في كتاب الفصول.
(٢٧) قال أبقراط: إن درّ اللبن دروراً كثيراً فالجنين لا محالة ضعيف. وإن كان في الثديين فضل اكتناز فالجنين أصحّ.
قال جالينوس: إنّ «اللبن إذا درّ» دلّ على «ضعف الجنين» ليس متى سال فجرى من الثديين من تلقاء نفسه فقط بل ومتى كانت المرأة الحامل إذا عصرت ثدييها يدرّ اللبن فدرّ بغزارة. وذلك إنّما يكون للمشاركة بين العروق التي يغتذي
منها الجنين والثديين فإن اجتذب الجنين من الدم الذي فيها كثيراً لفضل قوّته قلّ ما يتراقى منه إلى الثديين وإن كان الجنين ضعيفاً حتّى يكون ما يجتذب من الدم ليغتذي به يسيراً فإنّ ما يفضل منه يتراقى إلى الثديين. فبالواجب صار اللبن في المرأة التي حملها ضعيف يكثر وفي المرأة التي حملها قويّ يقلّ اللبن في الثديين.
(٢٨) قال أبقراط: إنّه يأتي إلى كلّ واحد من الثديين عرق غليظ.
قال جالينوس: إنّ أبقراط بعد أن قال إنّ المحجمة التي توضع عند الثدي تحبس الطمث ووصف من أمر تولّد اللبن في الثديين كيف إذا كثر دلّ على ضعف الجنين وإذا قلّ دلّ على قوّته أتبع ذلك بقول دلّ به على السبب في الأمرين اللذين وصف فأضاف ذلك أيضاً إلى اتّصال العروق واشتراكها إلّا أنّه أوجز القول في ذلك لأنّه إنّما جعله تذكرة كما فعل في موضع آخر حين قال إنّ عروقاً تأتي من القصّ إلى مراقّ البطن. وذلك أنّ العروق التي تأتي من فوق إلى أسفل إلى جانب العظم الأوسط من القصّ تتّصل بعروق أخر تتراقى من أسفل من المواضع التي تنبعث منها العروق التي تأتي إلى الرحم ومن تلك العروق التي تأتي من ناحية
القصّ إلى أسفل قد تنبعث طائفة ليست باليسيرة إلى الثديين وبهذه العروق صارت المشاركة والاتّصال بين أعضاء التوليد وبين الثديين وسائر نواحي الصدر وهي مشاركة عظيمة جدّاً وبسببها تكون المشاركة في الحوادث في هذه المواضع.
(٢٩) قال أبقراط: إنّ في هذه لحظّاً عظيماً جدّاً من الفهم.
قال جالينوس: يعني أنّ لهذه الأشياء التي وصف قوّة عظيمة جدّاً في تفهّم معانٍ كثيرة من الطبّ. من ذلك أنّ القول الذي قاله في أمر الخصية إنّها «إذا ورمت من علّة سعال أذكرت المشاركة بين الصدر والثديين والصوت وبين أعضاء التوليد» إنّما استخرج وعرف من هذه الأصول ومن ذلك أيضاً أنّ الأنثيين من الغلام تعظمان والصوت يغلظ ويبتدئ الطمث في الجارية في وقت واحد ومن ذلك أنّ كثيراً من الأمراض التي تكون في آلات التنفّس والصوت تكون عندها خراجات باندفاع شيء إلى أعضاء التوليد من النساء والرجال وما تقدّم أيضاً فوصفه من أمر المحجمة التي توضع عند الثديين ومن أمر الدلائل التي تدلّ على قوّة الجنين وضعفه إنّما استخرج من هذه المشاركة بين العروق. والقول أيضاً في تولّد اللبن
ليس يمكن أن يبنى على أصل غير اشتراك العروق. فقد قال في اللبن «إنّه أخو الطمث عندما يكثر الغذاء فيفيض وتتمّ الشهور الثمانية».
فأمّا قول من ظنّ من المفسّرين أنّه إنّما عنى بهذا القول الأعضاء التي ذكر أنّ فيها قوّة عظيمة على الفهم كأنّه قال إنّ هذه الأعضاء يعين على «الفهم» معونة عظيمة فما هو إلّا جنون. والأجود كما قلت أن تفهم عنه أنّ ما وصف من أمر اشتراك العروق قد ينتفع به في معانٍ كثيرة من الطبّ.
(٣٠) قال أبقراط: عسر البول قد يحلّله الفصد.
قال جالينوس: كما أنّ وجع العين إذا كان من امتلاء أو من ورم حارّ قد «يحلّه الفصد» كذلك «عسر البول» أيضاً. وهذا القول منه وما أشبهه إنّما عليه تذكرة من غير أن يستثني فيه ويشترط الشرائط التي يحتاج إليها فيه.
(٣١) قال أبقراط: متى كانت أعالي البدن متصدّدة فاستعمل للقروح التي تحدث في الرأس التنقية بالقيء.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد استعمل في بعض كلامه الاستعارة على طريق التشبيه من ذلك أنّه يستعمل «الهيجان» «والغلمة» على كلّ رطوبة تثور في البدن بقوّة لطلب الخروج منه وكذلك استعمل في هذا القول أيضاً اسم «التصدّد» بالاستعارة على طريق التشبيه بالثدي الذي يتصدّد بكثرة اللبن فيه. وإنّما يعني بذلك أن يكون فضل كثير من الأخلاط قد صار في «أعالي البدن» حتّى تتحرّك الطبيعة لنقصه حركة قويّة والأبدان التي فيها ذلك تكثر «القروح» الحادثة من تلقاء نفسها «في الرأس» منها «والنقاء» من هذه «القروح» يكون «بالقيء» من قبل أنّ دواء تلك الرطوبة الرديئة التي قد كثرت وتمكّنت في «أعالي البدن» هو القيء. والدليل على أنّ تلك الرطوبة حادّة لذّاعة هو تولّد «القروح» منها وبيّن أنّها إذا كانت كذلك فليس يحتاج فيها إلى الفصد وإنّما يحتاج فيها إلى «التنقية». ولمّا كان الاستفراغ «بالقيء» أقرب إلى موضع العلّة أمر باستعماله دون الإسهال إذ كانت العلّة قد ثبتت وتمكّنت لأنّ الغرض العامّ الشامل الكلّيّ في الاستفراغ هو هذا أنّ الأمراض ما دامت في الابتداء والحدوث وقبل أن تحدث فإنّما ينبغي أن تستعمل الاستفراغ من أبعد الأعضاء من مواضعها ومتى كانت قد ثبتت وتمكّنت في موضع من المواضع فإنّما ينبغي أن تستعمل الاستفراغ من ذلك الموضع أو من أقرب المواضع منه.
(٣٢) قال أبقراط: الاستسقاء يكون إمّا من انطلاق البطن وإمّا من السعال.
قال جالينوس: إنّ أبقراط كما ذكر أموراً أخر كثيرة من الأمور الجزئيّة فيما تقدّم على هذا المثال الذي يوهم أنّ مخرجها مخرج عامّ كلّيّ كذلك ذكر في هذا القول أمر «الاستسقاء» فقد ينبغي أن يجعل مكان الرابطتين المفرّقتين اللتين في هذا القول وهما «إمّا» «وإمّا» رابطتين واصلتين وهما «قد» «وقد». فإنّا إذا فعلنا ذلك بان معنى هذا القول وصحّ حتّى نفهمه على هذا المثال: إنّ الاستسقاء قد يكون من استطلاق البطن وقد يكون من السعال. فإنّ مخرج هذا القول إنّما يدلّ على أنّ هذه العلّة قد تكون من أسباب كثيرة وربّما كانت من أحد هذين السببين وأصحّ القول وأبينه أن نقول إنّ الاستسقاء يكون أوّله أحد هذين العارضين لا أنّه يكون منهما. وذلك أنّ هذه العلّة إنّما تتولّد إمّا بسبب الكبد إذا بردت برداً قويّاً وإمّا بسبب دم بارد يجتمع ويكثر في البدن كلّه وربّما كانت هذه العلّة بسبب برد قويّ من سائر الأعضاء التي تقدر أن تبرّد ببردها الكبد. وقد وصف أبقراط في كتابه في تقدمة المعرفة أمر الاستسقاء الذي يحدث عن الأمراض الحادّة فقال إنّ منه ما يبتدئ من الخاصرتين والقطن وكما أنّ الذرب دليل على علل تلك المواضع كذلك السعال دليل على علل نواحي الرئة. فيكون قوله هذا على ما
وصفت جارياً على هذا المثال: إنّ الاستسقاء قد يكون أوّله استطلاق البطن وقد يكون أوّله سعال.
وقد نجد في بعض النسخ هذا القول ليس فيه «إمّا» الأوّل لكنّه يكتب على هذا المثال: «إنّ الاستسقاء يكون من استطلاق البطن وإمّا من السعال». وليس يحتاج في هذه النسخة إلى أن نبدّل «إمّا» الأوّل فيجعل مكانه «قد» إذ كان ليس بموجود أصلاً لكنّا نزيد فيه «قد» كما قد زدنا في أقاويل كثيرة أخر ممّا تقدّم لمّا وجدنا أقاويل كثيرة في آخر هذه المقالة مخرجها مخرج يوهم أنّ الحكم فيها عامّ وإنّما الحكم فيها خاصّ.
(٣٣) قال أبقراط: عند حدوث السرطان يحدث مرارة في الفم فينبغي أن تسقي صاحبه الفريغ مرّتين أو ثلاثاً إن لم يكن ألثغ وينبغي أن تشدّ عليه سورج النحاس بعد أن تحرقه حتّى يحمرّ وتضع عليه إسفنجاً إن لم يكن صاحبه ألثغ.
قال جالينوس: قد علمنا أنّ الخلط الذي يتولّد منه «السرطان» هو الخلط السوداويّ وإنّ السوداء تتولّد على ضربين أحدهما من المرّة الصفراء إذا احترقت
والآخر من الدم الغليظ الذي هو بمنزلة عكر الدم الصافي الجيّد إذا عفن أو احترق. «فإذا كان حدوث السرطان» من المرّة الصفراء عند انقلابها إلى السوداء «حدثت المرارة في الفم». فقد بان إذاً أنّ الحكم في هذا القول أيضاً كالحكم في الأقاويل التي قبله ليس هو بكلّيّ لكنّه جزئيّ يدلّ على بعض الأمر.
وأشار بأن «يسقى صاحب هذه العلّة الفريغ» لتنقية البدن من الخلط الذي وصفت وهذا الاسم يدلّ على معنيين أحدهما الدواء الذي ينقّي البطن من أسفل أيّ دواء كان والآخر الدواء الذي يتّخذ خاصّة من عصارة نشاء الجمّار. والأجود أن يفهم عنه أنّه عنى «بالفريغ» في هذا الموضع المعنى العامّ أعني الدواء الذي ينقّي البطن من أسفل وليس الدواء الذي يفعل ذلك جنساً واحداً بعينه لكنّ كلّ دواء يقوى أن يستخرج ويستفرغ من البدن خلطاً قد كثر وغلب فيه بعد أن تعلم أنّ بعض الأدوية إنّما يستفرغ خاصّة خلط المرّة المُرّة وبعضها إنّما يستفرغ خاصّة الخلط السوداويّ وبعضها البلغم وبعضها الفضلة المائيّة.
وحذّر من إسهال «الألثغ» من قبل أنّه لا يحتمل الإسهال فيما زعم قوم من المفسّرين ويسمّي «الألثغ» في هذا الموضع بالاسم الذي يدلّ في لغة اليونانيّين على من يكسر السين وهو «بسلوس» فقد نجده يحذّر من استعمال الإسهال في هذا كما يحذّر من استعماله في الألثغ الذي يكسر الراء الذي يسمّيه اليونانيّون
«طرولوس» وهو الذي قال فيه إنّه يعرض له الذرب المزمن. وذلك أنّهم يزعمون أنّ أبقراط يتوقّى الإسهال في هؤلاء حذراً من أن يجعله ابتداء لتلك العلّة وقد قال قوم إنّه إنّما يمتنع من أن يستعمل الإسهال في الألثغ من قبل أنّ اللثغة ربّما حدثت لهم من قبل يبس مزاجهم وربّما حدثت من قبل ضعف القوّة التي تحرّك العضل والإسهال من أضرّ الأشياء في اليبس وفي ضعف القوّة وذلك أنّ الذي يستعمل الإسهال يحتاج إلى قوّة قويّة كيما يحتمله وإلى بدن رطب كيما يؤاتي بسهولة عند جذب الدواء المسهل منه ولذلك قال في الخربق إنّ استعماله خطر فيمن 〈لا〉 كان اللحم منه قويّاً ولهذا أيضاً أشار فيمن لا يسهله الخربق بسهولة أن تتقدّم في ترطيب بدنه بفضل غذاء وبالراحة والدعة.
وأمّا قوله «إنّه ينبغي أن يسقى صاحب هذه العلّة الدواء المسهل مرّتين أو ثلاثاً» ولا تقتصر به على مرّة واحدة فصواب وذلك أنّ الإسهال مرّة واحدة لا يبلغ في حسم تولّد فيه المرض العظيم. وأمر من بعد الإسهال أن يوضع على الموضع الذي حدثت فيه العلّة «سورج النحاس محرقاً» وقد توهّم قوم أنّ أبقراط لم يرد بما أمر به
من الإحراق سورج النحاس لكنّ نفس السرطان وقالوا إنّه إنّما عنى أنّه ينبغي أن يكوى أوّلاً السرطان ثمّ يوضع عليه سورج النحاس وبئس ما ظنّوا وذلك أنّ القول الذي أردف به هذا فقال «حتّى يحمرّ» مناقض لقولهم وأبقراط يأمر أن يوضع هذا الدواء على السرطان ثمّ يوضع خارجاً منه «إسفنج».
«والسرطان» قد يكون معه قرحة ويكون من غير قرحة فإن لم تكن معه قرحة فليس ينفعه هذا الدواء منفعة يتبيّن لها أثر وإن كانت معه قرحة فإنّي أنا أزعم أنّه يهيّجه ويزيد في مكروهه وأمّا أبقراط فيرجو بذلك أن تبرأ به العلّة برءاً تامّاً ويستأصلها عن آخرها. وليس الأمر الذي ظننت ببعيد من الأمر الذي ظنّه أبقراط لأنّ من شأن الأدوية الحارّة مثل هذا الدواء الذي وصفه إمّا أن يهيّج العلل التي يستعمل فيها بالوجع الذي يحدث عنها من قبل اللذع وإمّا أن يستنظف الأخلاط المحدثة لها ويستأصلها. فقد يمكن إذاً المعالج في بعض الأحوال متى ابتداء حدوث سرطان مع قرحة أن يتقدّم بعد أن يسهل مرّتين أو ثلاثاً على أن يروم استنظاف الأخلاط التي في العضو العليل واستئصالها بدواء مجفّف واستعمال الإسفنج المبلول بالماء البارد في أمثال هذه القروح من فوق الدواء الحارّ صواب وذلك أنّ استعمال الإسفنج المبلول بالماء البارد في أمثال هذه القروح من فوق وسائر الأدوية التي تعالج بها القروح الخبيثة علاج بالغ النفع. وينبغي أن يكون
الشدّ الذي يشدّ الموضع بعد أن يوضع عليه الدواء والإسفنج شدّاً يبتدئ من أسفل وينتهي إلى فوق وإنّما أعني بقولي «فوق» الموضع من البدن الذي يظنّ أن منه تجري إلى العضو العليل الأخلاط الرديئة التي تتجلّب إليه فإن وضعنا عليه الإسفنج المبلول بالماء البارد أيضاً إنّما نريد به أن نقطع عنه سيلان ما يسيل إليه من الأخلاط التي تحدث فيه القرحة.
وأمّا ما استثنى في هذا القول فقيل «إن لم يكن صاحبه ألثغ» فقد نجد بعضهم لا يكتبه أصلاً ومن فعل ذلك فقد أحسن ونجد بعضهم قد يكتبه ورام أن يؤذي فيه علّة. فهذا هذيان بارد يقدّر مبلغ رأي وذلك أنّهم قالوا إنّ اللثغة إنّما تكون من مزاج يابس ولذلك لا يحتاج الألثغ من الأدوية إلى ما يجفّف تجفيفاً قويّاً مثل هذا الدواء الذي تقدّم ذكره.
(٣٤) قال أبقراط: للضجر وللاقشعرار والتثاؤب الخمر إذا شرب واحداً بواحد أو اللبن.
قال جالينوس: إنّ أبقراط عنى «بالضجر» في هذا الموضع الحال التي كأنّها طرف من الكرب والقلق والغمّ الذي يرمي صاحبها بنفسه فيها يمنة ويسرة ويستبدل
في كلّ وقت مكان الشكل الذي كان عليه غيره من قبل أنّه يثقل عليه دائماً البقاء على الشكل الذي كان عليه. وهذا العارض قد يعرض لبعض المحمومين ممّن علّته ذات خطر وقد يحدث من غير حمّى لكثير ممّن لا علّة به في بدنه. وإنّما يعرض هذا العارض في النفس خاصّة فقط من غير آفة دخلت على البدن لمن كان فارغاً ليس له عمل يشتغل به يرى أنّه يجري عليه لكنّه ينتقل في كلّ وقت من فعل إلى فعل ومن حركة إلى حركة من حركات البدن من غير سبب أصلاً.
وقد يكون هذا العارض بسبب علّة تكون في المعدة وأعني «بالمعدة» في هذا الموضع فم المعدة الذي بسببه إذا حدثت فيه آفة يكون الغشي المنسوب إلى المعدة فإنّ من عادة جميع الأطبّاء أن يسمّوه بهذا الاسم. وربّما عرض للمرضى الغشي من المعدة بغتة وربّما عرض لهم بعد أن يتقدّمه الكرب والكرب إنّما يكون من تلك الأخلاط بأعيانها التي تكون منها الغشي بسبب المعدة. وإنّما الفرق بينهما في قلّة تلك الأخلاط وذلك أنّ الأخلاط التي تفعل الكرب أقلّ كمّيّة وأقلّ رداءة من الأخلاط التي تفعل الغشي.
«فالخمر» التي «يشرب واحداً بواحد» دواء لهذا العارض ومن عادتهم أن يدلّوا بهذا اللفظ على مزاج الخمر بالماء إذا كان مقدار الواحد منهما مساوياً لمقدار
الآخر. وذلك أنّ المعدة ممّن هذه حاله تحتاج إلى أن تسخن وإلى أن تعدّل وإلى أن تعان على الهضم والشراب الممزوج مزاجاً قويّاً يقوى أن يفعل جميع ذلك إلّا أنّه لا ينبغي أن يكون عتيقاً ولا قويّاً كيما لا يحدث عنه ضرر إذا شرب وقد مزج من الماء بمقدار متساوٍ له. وكما أنّ الشراب الممزوج إذا شرب وهو قويّ المزاج نفع من الكرب والقلق كذلك قد ينفع من «التثاؤب» من قبل أنّ «التثاؤب» إنّما يحدث من قبل استرخاء العضل الذي يحرّك اللحيّ وبرده كما أنّ التمطّي يحدث إذا حدث هذا العارض في جلّ العضل الذي في البدن أو في جميعه والعضل في هذه العلل ليس هو برطب سيّال لكنّه بخاريّ.
وقد وصفت أمر هذه الأعراض وصفاً شافياً في الأقاويل التي وصفت فيها أسباب الأعراض. وليس ممّا يخفى أنّ «الخمر» إذا شربت على هذا المثال نفعت من «التثاؤب» إذ كانت تقوّي وتسخن وتعين على الهضم وتحلّل البخار البارد «والاقشعرار» أيضاً في نفسه يحتاج إلى الخمر من أيّ سبب حدث من أخلاط
حارّة كان أو من أخلاط باردة قد تحرّكت في البدن إلّا أنّه ربّما امتنعنا من استعمال الخمر بسبب ورم حارّ يكون مع «الاقشعرار» أو بسبب الحمّى. وكذلك أيضاً «اللبن» في هذه العلل التي ذكرت نافع نحو هذه واللبن وإن كان ينقص عن الخمر في الإسخان فإنّه ينفع بتعديله وتغذيته.
وقد وصل قوم ابتداء القول الذي يتلو هذا بآخر هذا القول الذي تقدّم فجعلوا القول كلّه على هذا المثال: «إنّ الخمر إذا شربت واحداً بواحد بمنزلة اللبن للأذن» وبعض أضاف إلى ذلك بأن قال «بمنزلته لوجع الأذن القويّ» حتّى صار معنى القول على هذا المثال: «إنّه كما أنّ اللبن ينفع من وجع الأذن الشديد القويّ كذلك الخمر إذا شربت واحداً بواحد نفعت من العلل التي تقدّم ذكرها».
وقد بقي أن ننظر أيّ معنى يفهم من هذا القول إذا أفرد فقرئ على حدته على هذا المثال: «إنّ اللبن لوجع الأذن الشديد» وليس يحتاج هذا إلى كثير بحث وذلك أنّه يأمر متى كان في الأذن وجع شديد قويّ أن يقطّر فيها اللبن كما نقطّره في العينين وليكن تقطيره وهو حارّ بأن يقطّر من جملة الثدي في الأذن كيما يسكّن بحرارته المعتدلة ويعزّي ويلدّن ويسقي المواضع التي قد خشنت وألمت بلينه وملاسته ودسومته وعذوبته.
فإن جعلت آخر حرف من هذا القول وهو «الوجع القويّ» ابتداء القول الذي يتلوه صار القول على هذا المثال: «إنّه ينبغي في الوجع القويّ أن تستعمل المحجمة» وهذا قول صحيح نافع. فقد استعملنا المحجمة مراراً كثيرة في أوجاع مواضع من البطن فسكّنّا بها الوجع على المكان وقد سكّنّا بالمحجمة أيضاً مراراً كثيرة وجع الجنب وبالجملة في كلّ موضع بطن. إنّ سبب الوجع إنّما هو ريح غليظة نافخة باردة محتقنة تتحرّك ثمّ لا تصل لغلظها وكثافة الأجسام التي هي فيها محتقنة أن تنفذ فتخرج. فاستعمل المحجمة «الصمّاء» ومن عادتهم أن يسمّوا بهذا الاسم المحجمة التي تستعمل من غير شرط. فهذا معنى هذا القول إذا قطع وقرئ على هذا المثال.
وقد قطعه قوم وقرأه على هذا وقطعه قوم وقرأه على خلاف ذلك فرأوا أنّ أبقراط إنّما أمر باستعمال المحجمة على الأذن فقط وأخرجوا القول هذا المخرج الذي عليه يكتبه فيما يستأنف.
قال حنين: إنّ هذا الكلام في اللسان اليونانيّ محتمل لأن يقطع ويقرأ على أنحاء شتّى من التقطيع والقراءة فيدلّ بحسب كلّ واحد من أنواع تقطيعه وقراءته على واحد واحد من هذه المعاني التي أشار إليها جالينوس. وليس ذلك في العربيّة بممكن ولذلك قد كنت هممت بإسقاط هذا الكلام إذ كان لا يطابق اللغة العربيّة ويفهم فيها على حقوقها إلّا أنّي لمّا وجدت معاني قد مرّت في هذا الكلام نافعة
لمن يدبّرها رأيت ترجمته على حال إذ كانت ليس تضرّ ترجمته وهي إلى المنفعة أقرب. ومن قرأه فقدر أن يصل إلى الانتفاع به فهو منه على ربح ومن لم يقدر على ذلك فهو قادر أن يتاركه فلا يضرّه مكانه شيئاً إن شاء اللّه.
(٣٥) قال أبقراط: إذا كان في الأذن وجع شديد فينبغي أن تضع المحجمة.
قال جالينوس: ينبغي أن تفهم عنه في هذا القول مع ما قال: «إذا أردت أن تسكّنه أو تنقّصه منه أو تشفيه أو تبرئه» حتّى تكون جملة القول على هذا المثال: «إذا كان في الأذن وجع شديد ثمّ أردت أن تسكّنه فينبغي أن تضع محجمة».
وفي بعض النسخ مكان «فينبغي أن تضع محجمة» «فوضع المحجمة» وينبغي أن تفهم من هذا القول إذا وجدته على هذه النسخة أنّها دواؤه أو شفاؤه أو غير ذلك ممّا أشبهه حتّى تكون جملة القول على هذا المثال: «إذا كان في الأذن وجع شديد فوضع المحجمة دواؤه».
وقد كان ينبغي له أن يبيّن على أيّ موضع إذا وضعت المحجمة انتفع بها لوجع الأذن. وذلك أنّه ليس يسهل وضع المحجمة على الأذن حتّى تلتقمها كما يفعل فيمن يوجعه بطنه أو جنبه فإنّا فيمن تلك حاله نقصد بالمحجمة إلى موضع الوجع فنلتقمه بها وليس يسهل ذلك كما قلت في الأذن لاختلاف موضعها.
فلهذا السبب قال بعضهم إنّ المحجمة ينبغي أن توضع تحت الأذن وقال بعضهم إنّه ينبغي أن توضع فوقها وقال بعضهم إنّه ينبغي أن توضع من قبالتها. وأمّا أنا فأرى أنّه قد يمكن أن يكون يريد أن تلتقم بالمحجمة الأذن إلّا أنّ لزوم المحجمة والتزاقها إذا التقمت بها الأذن يعسر وخاصّة فيمن لم يكن موضع الأذن منه لحيماً.
وقد قلت فيما تقدّم إنّ المحجمة إنّما ينتفع بها من كان وجعه من ريح باردة وذلك أنّه إن كان الوجع من ورم فإنّ المحجمة وخاصّة إن وضعت في ابتداء العلّة تزيد في الورم وتهيّج الوجع. فأمّا في الجنب فإنّه وإن كان فيه ورم باطن غائر فكثيراً ما ينتفع فيه بالمحجمة إلّا أنّه ينبغي ألّا يكون الورم بعد في الحدوث وأن تكون قد تقدّمت فاستفرغت البدن كلّه. وليس السبب في الانتفاع بالمحجمة عند الأورام الحادثة في ذلك الموضع يخفى من قبل أنّها تباعد الداء من العصب ومن الغشاء المستبطن للأضلاع فتحيّده نحو الجلد وتخرجه إلى برّاً.
وإذا صار الداء خارجاً أمكن تحليله وإن هو بقي أيضاً فلم يتحلّل كان الوجع الذي يحدث منه أقلّ وذلك من قبل سخافة تلك المواضع التي قد صار إليها ولينها ومن قبل أنّ العصب فيها أقلّ فهي للعلل المؤلمة إذا صارت فيها أقلّ حسّاً ولبعد هذه المواضع أيضاً عن العظام يكون الوجع فيها أقلّ. فأمّا الغشاء المستبطن للأضلاع فإنّ وجعه يعظم ويشتدّ عند حدوث الورم فيه لكثافته ولقرب العصب منه ولملاقاته للعظم. وذلك أنّ العظم يزحمه فينكأه بصلابته كما يزحم الظفر في القرحة التي تكون عن جنبته المسمّاة «الداحس» اللحم الطريّ الذي ينبت بجنبه.
(٣٦) قال أبقراط: إذا كان وجع في بعض الأعضاء العالية أيّ عضو كان ثمّ حدث وجع في الوركين أو في الركبتين فإنّه يحلّ جميع ذلك وكذلك الربو.
قال جالينوس: إنّه قد يمكن أن يكون معنى هذا القول أنّه متى كان «وجع» في عضو من الأعضاء التي في أعالي البدن ثمّ انتقل الوجع إلى «الوركين أو الركبتين» أو بالجملة إلى بعض الأعضاء السفليّة فإنّه يحلّ وجع في جميع تلك المواضع وقد يحلّ الوجع من تلك المواضع أيضاً «الربو» إذا حدث بعد أن لم يكن. وقد تعلم أنّ «الربو» إنّما يحدث عند امتلاء الرئة من الأخلاط.
ويمكن أن يكون معنى هذا القول أنّ النقلة إلى المواضع السفليّة بعد أن كان الوجع في المواضع العلويّة يكون بها شفاء الوجع الذي في المواضع العلويّة وكذلك أيضاً قد يكون الشفاء من الربو بالنقلة إلى الأعضاء السفليّة. وإنّما جاز ذلك من قبل أنّ مخرج هذا القول وعبارته شبيهة بمخرج أقاويل أخر كثيرة نجدها مكتوبة في آخر هذه المقالة من سوء العبارة حتّى يجوز لمتوهّم أن يتوهّم أنّها ليست لأبقراط.
(٣٧) قال أبقراط: صاحب القولنج الصعب الذي يسمّى «إيلاوس» إذا كان خالياً فينبغي أن يسقى من الخمر مقداراً كثيراً بعد أن تبرّد وتصرف قليلاً قليلاً إلى أن يجيؤه النوم أو يحدث له وجع في الرجلين وقد تحلّه أيضاً الحمّى واختلاف الدم.
قال جالينوس: أمّا ما نسب إليه هذا الوجع من أن يكون «خالياً» فليس يمكن أن يفهم عنه من هذا القول شيء غير ألّا يكون معه في البطن غلظ خارج من الطبيعة ولا تمدّد وبيّن أنّه إذا كانت الحال فيه هذه الحال لم يكن معه أيضاً حمّى وذلك أنّه لو كانت معه حمّى لكان سيكون في البطن ورم وكان يكون بسبب الورم انتفاخ وتمدّد. فإن كان يعني بهذه العلّة التي سمّاها «إيلاوس» العلّة التي يمتنع فيها البراز من الخروج حتّى لا يخرج من أسفل شيء أصلاً لكنّ في أكثر الأمر يتقيّأ الرجيع فقلّ ما نرى هذه العلّة تحدث ولذلك ليس يسهل اختبار ما يلتمس لها من المداواة بالتجربة وفي نفس العلّة النازلة بالأمعاء عند هذا العارض ما هي موضع
نظر وبحث. وأبلغ من بحث ونظر في ذلك يزعم أنّ العلل التي تحدث بالأمعاء فيحدث عنها هذا العارض كثيرة ولذلك قد يعسر أن نعلم أيّ تلك العلل ينتفع فيها صاحبها بالشراب الذي يسقي على هذا المثال الذي وصف في هذا القول الذي نحن في شرحه.
فأمّا المفسّرون فقد نجدهم يحكمون بالإقدام أحكاماً متناقضة فيقول بعضهم إنّ أبقراط إنّما أمر بالشرب في هذا القول وهو يريد به التبريد ويقول بعضهم إنّه إنّما أراد به التسخين. فمن قال منهم إنّه أراد به التبريد كالذي نقصد إليه بالأدوية المتّخذة بالأفيون عند انبعاث المرار بالاختلاف والقيء فإنّ ما تقدّم فيه من تبريد الشراب في هذا القول موافق لقوله فأمّا ما أمر به في نفس الشراب أعني «الخمر» فمناقض لقوله لأنّه من شأن الخمر أن تسخن وإن شربت باردة.
فأمّا من قال إنّه إنّما قصد بالخمر إلى أن يسخن فما تقدّم فيه من أمر الخمر وكثرتها شاهد لقوله. وأمّا تبريدها فمناقض له إلّا أنّ أصحاب هذا القول يحتجّون فيقولون إنّها ببردها تجمع الحرارة وتزيد فيها بطريق الانعكاس ولذلك أمر بأن يسقاها صاحب هذه العلّة «بعد أن تبرّد». وليس يبالي المشاغب ما قال بعد مفارقته التجربة في المرضى التي بها يختبر جميع العلاج.
ويقولون أيضاً إنّ إسقاه الشراب «إلى أن يجيؤه النوم أو يحدث له وجع في الرجلين» إنّما أراد به أنّ «النوم» كما قد علمنا هو سبب لنضج مادّة المرض ودليل
على سكون الوجع «ووجع الرجلين» هو دليل على نقلة الداء من الأمعاء إلى تلك المواضع. ويزعمون أنّ ممّا يدلّ على أنّ برء أصحاب هذه العلّة إنّما يكون إمّا بأن تسخن المادّة التي تتولّد منها فتنضج وإمّا بأن تنتقل إلى مواضع أخر ما قاله أيضاً في آخر هذا القول من أنّ «الحمّى واختلاف الدم يحلّان» هذه العلّة. وذلك أنّهم يزعمون أنّ الحمّى تسخن موضع العلّة فتنضج ما فيه والاختلاف يستفرغ ما فيه.
قالوا: ولذلك استثنى فقال: «إذا كان من غير وجع» وإنّما يعني بذلك ألّا يكون معه في الأمعاء قرحة.
وليس نجد هذا الاستثناء في جميع النسخ لكنّا إنّما نجد في أكثر النسخ انقضاء هذا القول على ما كتبناه فيما تقدّم وهو على هذا المثال: «وقد يحلّه أيضاً الحمّى واختلاف الدم».
(٣٨) قال أبقراط: إذا كان الموضع الذي دون الشراسيف متمدّداً فينبغي أن يغمز باليد ويحلّ.
قال جالينوس: إنّ آخر لفظه في هذا القول قد يوجد في النسخ على ضربين وذلك أنّا نجد في بعضها «ويحلّ» ونجد في بعضها مكان «ويحلّ» «ويحمّ». ومعنى هذا القول على النسخة الأولى أنّه متى كان الموضع الذي دون الشراسيف متمدّداً فإنّك إن غمزت عليه بيدك انحلّ يعني بذلك أنّه يعود إلى حاله الطبيعيّة
ومعناه على النسخة الثانية أنّه إذا كان الموضع الذي دون الشراسيف متمدّداً فينبغي أن يغمز عليه أوّلاً باليد ثمّ يدخل الحمّام فيحمّ. وقد أتانا المفسّرون بمعنى آخر على النسخة الأولى وهو أنّ أبقراط إنّما وصف في هذا القول عمود الأمر في تعرّف علل هذا الموضع الذي ذكر أبقراط بقوله «يغمز باليد» حتّى كأنّه قال إنّه إنّما ينبغي لك أن تقصد لتعرّف علل المواضع التي دون الشراسيف إذا كانت متمدّدة بأن تغمز عليها بيدك كي تعلم هل فيها ورم حارّ أو ورم صلب أم نفخة أم مِدّة أم رجيع كثير فإذا أنت غمزت عليها فتعرّفت العلّة التي فيها أقبلت حينئذ على أن تحلّها. وقد يمكن القائل أن يأتي بهذا القول بأوجز من هذه العبارة فيقول: «إنّه إذا كانت المواضع التي دون الشراسيف متمدّدة فينبغي أن تتعرّف بالغمز عليها ما فيها من العلّة ثمّ تروم أن تحلّها».
وهذا القول هو شبيه بأقاويل قد تقدّمت بيّنت من أمرها أنّه قد يظنّ أنّه يستفاد منها شيء وليس يستفاد منها شيء أصلاً لأنّ جميع الناس يعلم أنّه ينبغي للمداوي أن يتفقّد أوّلاً العلّة ويتعرّفها ثمّ يروم أن يحلّها.
وأمّا قول من قال إنّ شفاء «تمدّد» ذلك الموضع يكون «بالغمز» فهو قول قيل على غير شرائط وتحديد وذلك أنّه ليس كلّ تمدّد فهو ينحلّ بالغمز عليه ولولا شيء لقلت إنّه ليس شيء من التمدّد ينحلّ بالغمز عليه. وذلك أنّ التمدّد الذي
يكون في المواضع التي دون الشراسيف من الورم الحارّ أو من الورم الصلب ليس الغمز ممّا يشفيه ولا يبلغ أيضاً أن يحلّ التمدّد الذي يكون في تلك المواضع من النفخة وأمّا الأورام الرخوة المعروفة «بالتربّل» فإنّ الغمز وإن كان ربّما نفع فيها فإنّه ليس يحدث بسببها تمدّد وإنّما يحدث بسببها انتفاخ فقط. وأمّا أنا فلم أر قطّ ولا نفخة سكنت بالغمز عليها باليد ولا رأيت أيضاً تصدّداً من كثرة ثفل اجتمع في الأمعاء اندفع في وقت من الأوقات بالغمز عليه باليد.
والحيرة والتشكّك قد يقع أيضاً فيما أمر به من الحمّام مثل ما وقع فيما أمر به من «الغمز» وذلك أنّه قد كان ينبغي لصاحب هذا القول أن يدلّنا في أيّ ضرب من ضروب «التمدّد» الحادث «فيما دون الشراسيف» يأمرنا أن نستعمل «الغمز» ثمّ الحمّام. وذلك أنّه إن اقتصر بنا على هذا ووكلنا بطلبه فوجدناه لم يكن أفادنا فائدة ولا علّمنا شيئاً وما تمكّنّا أن نصل في هذا الباب إلى وجود شيء مقنع. فأمّا الكلام الذي لا محصول له والهذيان الذي قد غري به كثير من السوفسطائيّين فسهل ممكن.
(٣٩) قال أبقراط: للداحس العفص الأسود بالعسل.
قال جالينوس: إنّ المعنى في هذا القول أيضاً لم يتبيّن بياناً كاملاً ولو كان قيل مكان «بالعسل» «مع العسل» لكان القول على حال أبين وذلك أنّ قوله «بالعسل» كأنّه يوهم أنّه ينبغي أن يطبخ «العفص بالعسل» بعد أن يسحق.
ويعني «بالعفص الأسود» العفص الفجّ الأخضر لأنّ من العفص صنفاً آخر يميل إلى البياض والصفرة والقبض فيه يسير وأمّا العفص الفجّ الأخضر فهو من الأدوية البالغة القبض.
«والداحس» هو قرحة تكون عند الظفر فإذا نبت اللحم الطريّ فيها عند الظفر نكأه الظفر فحدث من ذلك ألم. فإن كان ذلك اللحم الذي ينبت ليس بالعظيم لكنّه إنّما هو حين ابتدأ بتزيّد أو لا يؤمن تزيّده حتّى يزاحم الظفر فالعفص يبلغ به في قبضه ومنعه من التزيّد. فأمّا متى كان اللحم قد تزيّد حتّى خرج عن الحدّ الطبيعيّ فالغرض في علاجه أن تلتمس له دواء ينقص ذلك اللحم ويذوّبه وينقضه من غير تلذيع. ولعلّ صاحب هذا القول يكون قد وصف هذا الدواء الذي كلامنا فيه على أنّه يفعل هذا الفعل. وأمّا أنا فقد اتّخذته وعالجت به فوجدته ممّا قد ينتفع به في تزيّد اللحم اليسير في «الداحس» ولم أجده ينفع شيئاً إذا كان اللحم قد عظم وذلك أنّه إنّما شأنه أن يجمع ويقبض ويجفّف وليس يقوى على أن يذوّب وينقص.
(٤٠) قال أبقراط: إذا استخرجت الماء فاسقِ صاحبه من اللبن ثماني قوطولى فإن كان به قيء ولم يشرب فليستعمل الحادّ من الصباغ المعروف «بمسوطوس».
قال جالينوس: إنّه قد يجوز أن يتوهّم أنّه وصف هذا العلاج لمن لم يستمشي الفضول المائيّة وقد يجوز أن يتوهّم أنّ هذا القول إنّما قيل في أصحاب الاستسقاء كأنّ صاحبه يأمر أن «يسقى» صاحب هذه العلّة بعد أن يبعث فيستفرغ منه الماء «من اللبن ثماني قوطولى». وقد استصوب ذلك قوم من قبل أنّ من شأن اللبن أن يغذو البدن المهزول فينعشه ويكسر من عادية الأخلاط الرديئة حتّى يعدّلها ويليّن البطن.
وهذا القول وأشباهه أقاويل يقولها السوفسطائيّون وخاصّة بإسكندريّة فقد أعرف فيها كثيراً ممّن لم يتولّ علاج المرضى يتولّى تعليم الأحداث الطبّ فأمّا من قد تدرّب بأعمال الطبّ فلن يقدم في حال من الأحوال على المستسقي بإسقائه «من اللبن ثماني قوطولى». فأمّا إن يسقى من اللبن شيئاً بغير هذا المقدار ففي ذلك موضع نظر من قبل أنّ لقائل أن يقول إنّ الأجود أن لا يسقى صاحب الاستسقاء شيئاً من اللبن في حال من الأحول وقد يتبيّن ذلك إذا تتجرّب أمر علّة أصحاب الاستسقاء وأمر طبيعة اللبن.
وأمّا ما قيل في آخر هذا القول فلو كان ينسب إلى غير أبقراط لكان يستدعي من السامع له أن يهزأ به ويضحك منه إلّا أنّ المدلّسين لهذه الأقاويل في كتب أبقراط استعملوا ما يستعمله القوم الذين يدلّسون الولد الذي لا يعرف له أب في الجنس الحسيب فيكتسبون له به الشرف الزيف وكذلك أصحاب هذه الأقاويل البذيئة يتخرّصون لها النجلة النبيلة فيخلّصونها بذلك من أن يبادر السامع لها إلى الاستهزاء بها والضحك منها وإلّا فمن سائر الناس كان يسلم من أن يهزأ به ويضحك منه جميع من يسمعه وينسبه إلى غاية الجهل عندما يصف لصاحب الاستسقاء أن يتناول الخبز مع البصل.
فإنّ هذا «الصباغ» الذي وصف في هذا القول ليس هو شيء غير الخبز والبصل وأهل أثينية يسمّونه «موططوطوس» بالطاء فأمّا في هذا القول فإنّ المدلّس له كتبه بالسين لأنّه رأى أنّ ذلك أشبه بلغة أهل أيونيا الذين منهم أبقراط. وصاحب هذا القول يأمر أن يكون ما يستعمل في هذه العلّة من هذا «الصباغ حادّاً» وإنّما يريد بذلك أن يكون ما يقع فيه من البصل أو من الثوم كثيراً فقد يتّخذ هذا الصباغ في بعض الأحوال بالثوم أيضاً كما يتّخذ بالبصل واستعمال البصل
والثوم إذا قدّر في الوقت الذي ينبغي وبالمقدار الذي يحتاج إليه فقد ينفع المستسقي في بعض الأحوال. وأمّا الخبز فليس ينفع المستسقي لا مفرداً وحده ولا مقروناً بالبصل والثوم بل يضرّه مضرّة عظيمة وذلك أنّه من أبلغ الأشياء في أن يرشح في مجاري الكبد ويسدّدها وإنّما غاية من وصف علاج المستسقين من الأطبّاء أن يحتالوا بكلّ حيلة لأن يخلوا وينقّوا ويفتقوا سدد الكبد.
(٤١) قال أبقراط: إذا أردت أن تحبل المرأة فخُذْ من صغار الحيوان المسمّى «بولوبس» شيئاً كثيراً فاشوه على نار ملتهبة بعض الشيء ثمّ اطعمها وهو حارّ جدّاً وخذ بورقاً مصريّاً وكسبرة وكمّوناً فاسحقهما واتّخذ منهما فرزجة تحتمل في الفرج.
قال جالينوس: إنّه قدم علينا من إسكندريّة فتى من أهل مدينتنا كان يتلمذ بإسكندريّة لرجل من القوم الذين ينسبون أنفسهم إلى شيعة أبقراط يقال له مطرودورس وحباه حبواً كثيراً على أن يستفيد منه أسرار الطبّ فإنّ ذلك الفتى كان يسمّيها بهذا الاسم وهو يريد تفخيمها. فبلغه عن امرأة من أهل اليسار في بلدنا
على مضغها فلمّا فعلت ذلك تقلّبت نفسها وغلبها الغثي وذرعها القيء فلفظت اللقمة الأولى مع الثانية فغضبت عند ذلك الجاريتان فضلاً عن المرأة فطردتا ذلك المتطبّب وأخرجتاه من منزل المرأة.
ولم يمكن أن يسترّ ذلك لأنّه كان امرءاً مشهوراً ولو لم يكن من شهرته إلّا العشرة آلاف مثقال المعدّلة لكان في ذلك كفاية فذاع الخبر في المدينة كلّها وافتضح ذلك الفتى البائس الذي غرّه وأهلكه مطرودورس. وبلغ من خزيه أنّ جميع أهل المدينة جعلوا متى ظهر في طريق من الطرق يتغامزون به ويشيرون إليه بعضهم إلى بعض مع استهزاء وضحك كثير ولقّبوه بلقب لزمه إلى هذه الغاية وهو مشتقّ من اسم ذلك الحيوان الكثير الأرجل ومن اسم شكّه إيّاه في السفافيد وصار أمره إلى أن شهر بالجهل فلم يكن أحد يثق به في علاج مريض فكان ذلك ما ربح من عظيم ما كلّف لمطرودورس على الأسرار المكتومة التي أفاده.
وقد أعرف أقواماً آخرين داموا أن يفعلوا أشياء أخر شبيهة بهذا ممّا دلّس في كتب أبقراط فصاروا بذلك هزوءاً وضحكة عند جميع الناس. ومن وقع من المتعلّمين في يد أمثال هؤلاء من المعلّمين فحقيق بأن يرحم كما يرحم من وقع
في بئر وأمّا أولائك المعلّمون فحقيقون بأن يمقتوا إن كانوا اعتمدوا أن يطغوا أولائك المتعلّمين الأشقياء وإن كانوا قد اغترّوا بهذه الأقاويل حتّى صدّقوا أنّها لأبقراط الذي كتب كتاب الجبر وكتاب المفاصل وكتاب الفصول وكتاب تدبير الأمراض الحادّة وكتاب تقدمة المعرفة وسائر أشباه هذه من الكتب العجيبة. وإنّ المعلّم الذي يقصد في حياة منه أن يعرّي متعلّماً في جنائه لمال يربحه منه لمرتكب أمراً قبيحاً مستحقّاً لعظيم العقوبة وأمّا من قصد لوضع التفاسير لتلك الأقاويل الرديئة حتّى يغوي بها بعد موته أيضاً من قرأها فهو عندي بعيد من الفهم والحسّ وذلك أنّه قد بيّن عن نفسه بهذا أنّه قد صدّق تلك الأقاويل كلّها ووثق بصحّتها.
والأمر فيها عندي أنّه إنّما ألحق تلك الأقاويل في كتب أبقراط بعض أهل الخبث وهو يريد أن يفضح بها أولائك السوفسطائيّين الأشقياء ويهتكهم ويبيّن جهلهم كما فعل رجل من أهل دهرنا يقال له لوقيانوس فإنّه افتعل كتاباً ألّف فيه كلاماً غامضاً ليس يحويه معنى أصلاً ونسبه إلى إيراقليطس ودفعه إلى قوم وأتوا به
رجلاً فيلسوفاً مقبول القول مصدّقاً موثوقاً به عند الناس فسألوه تفسيره وشرحه لهم فلم يفطن ذلك البائس أنّهم إنّما قصدوا سخريّته به فجعل يأتي بتأويلات في ذلك الكلام وهو عند نفسه في غاية الحذق فافتضح بذلك. وقد افتعل لوقيانوس هذا أقاويل أخرجها مخرج الوحي ليس تحتها معنى ورسمها إلى قوم من النحويّين فتأوّلوها وفسّروها فافتضحوا بها. ولذلك لم يكن من رأى أن يكتب في شيء من هذه الأقاويل تفسيراً إلّا أنّ أصحابي أنحوا عليّ فاضطرّوني إلى أن ساعدتهم وأتيتهم إلى ما سألوني.
وجميع أصحاب هذا الشأن مستحقّون للتوبيخ الذي وبّخ به فيلسطيون المتطبّب الذي ذكره وقد بيّن فيلسطيون عوار هذا المذهب بوجوه كثيرة وصفها بطول في هذا الموضع. وأنا أنزل الأمر على أنّ فيلسطيون كأنّه قد أحضر رجالاً من الأطبّاء مجمعاً من المجامع يفسّر ويشرح لهم هذا القول فيقول: «إنّ أبقراط أراد أن يصف في هذا القول مداواة المرأة التي لا تحبل فأمرها أن تأكل الحيوان الكثير الأرجل. وذلك أنّ طبيعة هذا الحيوان أن يعلق وينشب بما في أرجله من النقر بالصخور الملس فضلاً عن الخشن وكذلك الرحم من المرأة تعلق وتنشب بالمنى والجنين
المتولّد فيه ولذلك سمّيت تلك المواضع التي تتّصل بها المشيمة من الرحم ‹نقراً› باسم تلك المواضع من أرجل ذلك الحيوان التي يعلق بها ويتشبّث بالصخور». وهذا ما كتبه قوم ممّن ينسبون أنفسهم إلى شيعة أبقراط في تأويل هذا القول.
وقد قصد بعضهم لتسوية هذا التأويل فقال إنّهم لم يعنوا أنّ من أكل ذلك الحيوان الكثير الأرجل يتولّد في الرحم تلك النقر التي تتّصل بها المشيمة لكنّهم إنّما عنوا أنّ روح المرأة عند أكلها ذلك الحيوان الكثير الأرجل يتشبّه بالروح الذي في ذلك الحيوان الذي به تحرّك منه تلك النقر فتتشبّث بالصخور وتعلق بها بقوّة شديدة وأنّه إنّما قال إنّه ينبغي أن يشوى ذلك الحيوان بعض الشيّ ولا يبلغ به غايته كيما لا تضعف غاية الضعف قوّة الروح الذي في ذلك الحيوان ولذلك أمر أن يؤكل منه شيء كثير وهو يريد بذلك أن يشبّه روح المرأة بروح الحيوان الكثير الأرجل. فإذا سألهم سائل هل هذا العلاج موافق لجميع النساء لحدوث الحمل قالوا لا بل إنّما ينفع المرأة التي مزاج الرحم منها حارّ يابس وذلك أنّ الرحم إذا كان مزاجها هذا المزاج تحتاج إلى الترطيب والتبريد والأطعمة البلغميّة بالغة في الأمرين جميعاً وهذا الحيوان الكثير الأرجل هو من الأطعمة البلغميّة. قالوا: وممّا يدلّك على أنّ طبع هذا الحيوان هذا الطبع أنّك إذا ضربت به الأرض انحلّ فصار بلغماً. وهذا القول من المنسوبين إلى شيعة أبقراط الذين بإسكندريّة قول عجيب بديع.
ولهم قول آخر في هذا المعنى ليس هو بدون الأوّل في شناعته لكنّه كأنّه أشدّ منه وهو قول من قال إنّ الحيوان الكثير الأرجل من الأطعمة التي تدرّ البول والأطعمة التي تدرّ البول هي تدرّ الطمث وامرأة إذا درّ طمثها ونقيت به على ما ينبغي حبلت. فهذه أقاويلهم في أكل الحيوان الكثير الأرجل.
فأمّا قولهم في تفسير صنعة «البرزجة» الموصوفة في هذا القول فهو أنّهم قالوا إنّ «البورق المصريّ» معه من الإسخان والحدّة أكثر ممّا مع سائر أصناف البورق ولونه يدلّ على هذا وذلك أنّ لونه كاللون الذي يصير لهذا البورق الذي عندنا إذا أحرق. «والكسبرة» أيضاً قوّتها قويّة حارّة مسخنة وذلك من أمرها بيّن واضح لجميع الناس وكذلك «الكمّون» فيجب بزعمهم أن يكون الدواء المؤلّف من هذه الثلاثة مفتّحاً للعروق التي في الرحم مدرّاً للطمث وأنسوا أنّ هذه الأدوية تزيد الرحم الحارّ اليابس التي زعموا أنّ أبقراط قصد لعلاجها في هذا القول حرارة ويبساً. وكيف يصحّ الحكم بأنّ دواء كلّ ضدّ ضدّه ونحن نعالج الرحم الحارّة اليابسة بالأدوية الحارّة اليابسة؟
وحسبنا الآن من هذا ولنأخذ فيما بقي علينا فلعلّنا أن نخرج من هذا الميدان الذي هو أبعد شيء من غرضنا. وذلك أنّ شأننا في جميع الأحوال أن ندع
السوفسطائيّين وهذيانهم ونقصد لوصف ما تشهد التجربة على صحّته وقد اضطرّنا الأمر في هذا الموضع إلى أن خرجنا عن هذا الغرض إلى ضدّه.
(٤٢) قال أبقراط: إذا عرض من الخمار صداع فينبغي أن يشرب صاحبه شراباً صرفاً مقدار قوطولى واحد.
قال جالينوس: إنّ اليونانيّين يسمّون «الخمار» باسم إنّما اشتقاقه من «وجع الرأس» وذلك أنّهم يسمّونه «قرافالي» و«قرا» عندهم اسم الرأس و«فالي» الخفقان فكان اسمه عندهم «خفقان الرأس». وكثيراً ما نرى هذا العارض يعرض من شرب الخمر من قبل أنّه يسخن الرأس ومن قبل أنّه يملؤه دماً بخاريّاً حارّاً. وإذ كان الأمر كذلك فليس لقول من قال «إذا عرض من الخمار صداع» معنى لكنّ قول من قال هذا شبيه بقول من قال «إذا عرض من خفقان الرأس المؤلم صداع». وذلك أنّ «الخمار» ليس هو شرب الشراب الكثير لكنّه العارض الذي يعرض للرأس من كثرة شرب الشراب فخذ هذا إليك وآخره ممّا قيل في هذا القول بالخطاء.
وهلمّ بنا نبحث بعد ما يدّعيه المتقلّدون لهذه الأقاويل التي هي عندهم من الأسرار المكتومة فإنّهم يزعمون أنّ الرأس في حال «الخمار» يمتلئ من البخار «والشراب الصرف» لحرارته ويبسه ينضج تلك البخارات ويحلّلها. ولم يثبتوا لنا هل يعني «بالشراب الصرف» في هذا القول الشراب الذي لم يخالطه شيء من الماء أصلاً على المعنى المستعمل على الحقائق أو إنّما يعني به الشراب الذي قد مزج بالماء إلّا أنّ الماء فيه قليل فيسمّى «صرفاً» على طريق الاستعارة لأنّ الشراب أغلب عليه بقياس الماء الذي مزج به.
وليس بك أيضاً حاجة إلى تلخيص هذا وتبيينه من قبل أنّ الأجود متى عرض لشارب النبيذ «الخمار» أن تدخله إلى الحمّام أوّلاً ثمّ تطعمه من بعد من الطعام الذي يذهب بالخمار الكرنب ومن الطعام المحمود الغذاء كشك الشعير وما يتّخذ منه من الشعير الروميّ المسمّى «خندروس» ثمّ تسقيه بعد طعامه شراباً رقيقاً الغالب على مزاجه الماء ثمّ تأمره بطلب النوم فإذا استوفى نومه فتقدّم إليه في أن يمشي مشياً كثيراً ثمّ يعود إلى الحمّام فيستحمّ ثمّ يتعشّى بمثل ما تغدّى.
(٤٣) قال أبقراط: إذا عرض الصداع من غير تلك الأسباب فينبغي أن يأكل صاحبه خبزاً حارّاً مبلولاً بشراب صرف.
قال جالينوس: يعني بقوله «من غير تلك الأسباب» ألّا يكون «الصداع» عرض من خمار ويجوز أيضاً على طريق المسامحة أن يكون يعني أيضاً أن يكون الصداع من غير حمّى ومن غير علّة ثابتة في الرأس مثل العلّة التي تعرف «بالنبضة» والعلّة التي تعرف «بالشقيقة» حتّى يكون قوله على هذا المثال: «إنّه متى عرض صداع لمن هو في سائر أحواله صحيح فينبغي أن يأكل خبزاً حارّاً مبلولاً بشراب صرف». وذلك أنّ هذا «الصداع» إنّما يكون في أكثر الحالات من فضول حادّة مجتمعة في المعدة وإذا ورد على المعدة وفيها تلك الفضول طعام مسخن محمود الغذاء غزا تلك الفضول وأعان على انهضامها وانحدارها ولكن لا ينبغي أن يكون الشراب «صرفاً» من قبل أنّه قد يبلغ لك ما تحتاج إليه منه الممزوج مزاجاً معتدلاً.
(٤٤) قال أبقراط: إذا عرضت الحرارة لا من المرار ولا من البلغم لكن يكون حدوث الحمّى من تعب أو غيره ممّا أشبهه فصبّ على الرأس وهو منتصب ماء كثيراً مسخناً إلى أن تعرق قدماه ثمّ تطبخ له طحين وتثخّن وتطعم منه وهو حارّ بعد أن تعرق قدماه كثيراً ثمّ تشرب من بعده شراباً صرفاً ثمّ يلتحف بالثياب ويسكن.
قال جالينوس: إنّي قد بيّنت في كتابي في تصنيف الحمّيات أنّ أصناف «الحمّيات» الأول الجنسيّة ثلاثة أحدها يكون من عفونة الأخلاط والثاني يكون
من سخونة الروح وهو حمّى يوم والثالث يكون من سخونة الأعضاء الأصليّة وهو حمّى الدقّ فأمّا هذه الحمّى الأخيرة فليس تكاد تكون إلّا في الندرة وبين المنظور إليهم من الأطبّاء في أمرها مناظرة ليست باليسيرة هل ينبغي أن يدخل صاحبها إلى الحمّام أو لا ينبغي. وأمّا من الجنسين الباقيين فكلّ ما كان منها من جنس حمّى يوم فهي عند انحطاط نوبتها تنحلّ بالاستحمام بالحمّام فأمّا الحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط فليس كلّها ينحلّ بالحمّام لكنّ ما كان منها قد نضجت فيه الأخلاط فقط ويجب ضرورة أن يكون في تلك الحال في الانحطاط.
فقد أصاب صاحب هذا القول في إخراج الحمّيات التي تكون من الأخلاط عن الحكم فيه وحكمه على الباقية بعدها بأنّه ينبغي أن تداوى «بصبّ الماء الحارّ على الرأس» وإنّما ذكر «الماء» ولم يذكر الحمّام لأنّ الناس في القديم لم يكونوا يتّخذون الحمّامات فأمّا الآن بعد أن قد اتّخذ الناس الحمّامات فليس ينبغي أن تفعل كما أمرك به صاحب هذا القول لكن إنّما ينبغي أن تعمد إلى من أصابته «الحمّى من تعب أو من سبب غيره ممّا أشبهه» فتدخله إلى الحمّام وأعني بالأسباب «الشبيهة بالتعب» الاغتمام والبرد واستحصاف الجلد من ماء الشبّ والسهر والتخم والاهتمام.
ومن الناس قوم إذا أبطؤوا عن دخول الحمّام أيضاً عرضت لهم الحمّى وكذلك كانت حال هرمجانس وهو رجل من شيعة المشّائيّين فإنّه كان متى تخلّف عن الحمّام ولو يوماً واحداً عرضت له على المكان الحمّى. وذلك أنّه كان في بدنه فيما خيّل إليّ أخلاط حادّة فكان ما يتحلّل منها ممّا يخفى عن الحسّ بالدخان أشبه منه بالبخار ولذلك كان بوله أيضاً يحتدّ حتّى يلذّعه إن لم يبادر إلى الحمّام فلمّا شاخ دام به الأمر في حدّة البول وتلذيعه ثمّ إنّه عرضت له بأخرة قرحة في مثانته فمات منها. فالحمّام لجميع من هذه حاله من أبلغ الأشياء نفعاً من قبل أنّه يحلّل الفضول اللذّاعة ويرطّب البدن فأمّا «صبّ الماء الحارّ على الرأس» فينبغي أن تقصد به خاصّة لمن ناله فيه حرارة من شمس أو يحسّ فيه بثقل.
وأمّا ما قال بعد إنّه ينبغي أن يطعم من ذلك «الطحين وهو حارّ بعد أن تعرق قدماه عرقاً كثيراً» فقد يجوز أن تضيف قوله «كثيراً» إلى عرق القدمين حتّى
يكون معناه «بعد أن تعرق قدماه عرقاً كثيراً» ويجوز أن تضيف قوله «كثيراً» إلى الطحين الحارّ حتّى يكون معناه أن يطعم منه مقدار كثير والأجود أن يفهم عنه المعنى الأوّل من قبل أنّه أصحّ وأصوب. وذلك أنّ العرق الكثير من أبلغ الأشياء له نفعاً في انحلال حمّاه ويقلعها عن آخرها وأمّا الأكل الكثير من الطحين فغير مأمون أن يضرّ. وبيّن أنّه يعني «بالطحين» دقيق الحنطة وإنّما قصد لاستعماله من قبل أنّه محمود الغذاء كثيرة وذلك أنّ كلامه إنّما هو كما قلت قبل في حمّيات الحادثة عن التعب.
وقد أضاف قوم قوله «كثيراً» إلى قوله «وتطعم من ذلك الطحين وهو حارّ» من قبل أنّ أصحاب هذه الحال يحتاجون إلى غذاء أكثر ولذلك في زعمهم أمر «بتثخين الطحين» وذلك أنّ الدقيق منه قليل الغذاء. وأمّا أنا فأزعم أنّه كما أنّ الدقيق منه قليل الغذاء كذلك الثخين بطيء الانهضام فالأجود إذاً في الأمرين جميعاً المتوسّط في قوامه وذلك أنّه يغذو غذاء كثيراً كافياً وهو مع ذلك مأمون أن يتّخم. وكذلك أيضاً قد يسقي الأطبّاء «الشراب» جميع من هذه حاله من بعد أن يستحمّ ويأكل إلّا أنّه لا ينبغي أن يكون الشراب «صرفاً» وخاصّة متى كانت الحمّى من تعب أو من حرّ شمس أو من سهر أو من غيظ أو من غمّ أو من همّ فأمّا من حمّ من برد أو من استحصاف فينبغي أن نسقيه الشراب وفيه بعض
الصروفة. وصاحب هذه الحال هو المأمور بأن «يلتحف بالثياب ويسكن» لأنّ غرضنا فيه أن ندفئه ونسخنه من جميع الوجوه. وأمّا من عرضت له الحمّى من أسباب أخر فليس ينبغي أن نغطّيه بالثياب وخاصّة متى كانت الحمّى إنّما أصابته في صيف.
(٤٥) قال أبقراط: من أردت أن تقيّئه بسهولة فأطعمه من بصل النرجس اثنين أو ثلاثاً مع طعامه.
قال جالينوس: يعني أنّك متى أردت أن تهيّج «القيء» بعد الطعام من غير أذى أو مكروه فينبغي أن «تطعم» المحتاج إلى ذلك مع طعامه شيئاً من «بصل النرجس». فإنّك إذا فعلت ذلك «تقيّأ» بعد طعامه «بسهولة» وذلك أنّ بصل النرجس من الأدوية المهيّجة للقيء. وقد نجد في بعض النسخ مكان «مع طعامه» «من بعد طعامه».
(٤٦) قال أبقراط: الذي قد أشرف على الجنون فممّا يتقدّم فيدلّ على ما هو حادث به أن يجتمع الدم في ثدييه.
قال جالينوس: إنّه ليس يعني أنّ كلّ من قد «أشرف على أن يحدث به الجنون» فلا بدّ من أن يتقدّمه هذا «الدليل» لكنّه إنّما يعني أنّه متى ظهر هذا الدليل فلا بدّ ضرورة من حدوث الجنون وهذا أمر قد رأيناه قد كان على ما وصف. فإن أحببت أن تعرف الحجّة فيه وما قال فيه من رام أن يخبر بالعلّة فيه فإنّي أقتصّ عليك ما كتبوه في ذلك.
وأقدّم أوّلاً قول روفس في ذلك بلفظه وهو هذا: «إنّ امتلاء الثديين من الدم لا يدلّ على جنون حادث متى كان نحو السنة الرابعة عشر وذلك لأنّ من شأن الثديين بالطبع أن تمتلئا في ذلك الوقت من الدم وإنّما يدلّ امتلاء الثديين من الدم على الجنون إذا كان في غير تلك السنّ. وذلك يدلّ على كثرة الدم وإذا كثر الدم كثرت حرارته وإذا كثرت حرارته فهي ربّما أعانت على يبسه الذي منه يكون الجنون».
فأمّا سابينس فقال: «أمّا في النساء فإنّ الدم الذي يجتمع في الثديين فيدلّ من الطبيعة على تغذٍّ رديء يسبّبها وذلك أنّه ليس من شأن الثديين أن يجتمع فيهما في النساء الدم لكنّ اللبن» ثمّ رام أن يضيف إلى ذلك السبب الذي من أجله صار هذا العارض يدلّ في الرجال على الجنون فقال: «إنّ الغضب إذا تحرّك كان اجتذاب الدم إلى القلب والثديين أكثر» ثمّ إنّه خاصم نفسه فقال: «لكن ليس ينبغي أن يوهم هذا وذلك أنّ الموضع الذي فيه النظر ففيه الغضب ومحلّ النظر إنّما هو الرأس» ثمّ أتبع ذلك بأن قال: «إنّ حدّة الغضب تجتذب القلب إلى فوق والشيء الذي يجتذب القلب إلى فوق أحرى أن يجتذب الثديين قبله إلى فوق وبحسب حركة القلب والثديين يكون مجرى الدم. وهذا أيضاً دليل على جنون كائن وقد يجوز أن يكون السبب في ذلك ما أنا واصفه: إنّ الدم إذا اجتمع فكثر في موضع من المواضع مثل الثديين عفن فانقلب إلى المرّة السوداء ومن هذا الخلط يكون الوسواس السوداويّ وهو صنف من الجنون» فهذا ما كتب سابينس بألفاظه نصّاً في تفسير هذا القول الذي تقدّم.
ولم نعلم من رأي أبقراط أنّه يرى أنّ القلب ابتداء الحرارة الغريزيّة ومن قبل ذلك هو أيضاً ابتداء قوّة الغضب فقد أخطأ في هذا وفي أنّه أيضاً جاء بشيء بعيد ممّا تقبله العقول جدّاً وهو ما قال من أنّ الدم إذا كثر انقلب إلى المرّة السوداء.
وأعجب من هذا أنّه رام أن يخبر بالعلّة في حدوث الجنون ثمّ ترك «الجنون» وذكر «الوسواس السوداويّ» وليس للوسواس السوداويّ ذكر في القول المتقدّم على أنّ صاحبه قد كان يمكنه أن يجعل مكان ذكره «الجنون» ذكره «الوسواس السوداويّ». فأمّا ما قاله أقوام أخر من الأقاويل التي هي أشنع من هذه الأقاويل فذكرها منّي فضل وهو مع ذلك قبيح بي لأنّ من اعتدّ بكلام غير مفهوم حتّى يذكره فقد بيّن عن نفسه أنّه لا يفهم.
تمّت المقالة السادسة من تفسير جالينوس للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا بترجمة حنين بن إسحق.