Galen: In Hippocratis Epidemiarum librum VI (On Hippocrates' Epidemics VI)
Work
Galen, In Hippocratis Epidemiarum librum VI
(Ἱπποκράτους ἐπιδημιῶν στ’ καὶ Γαληνοῦ εἰς αὐτὸ ὑπομνάματα)
English: On Hippocrates' Epidemics VI
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: n/a
(Close)
Date:
between 850 and 873
Source
Uwe Vagelpohl. Galeni In Hippocratis Epidemiarum librum VI commentariorum I-VIII versio Arabica. Corpus Medicorum Graecorum. Supplementum Orientale 5/3. Berlin (Walter de Gruyter) 2022, 92-1458
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الأولى
المقالة الأولى من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
قال جالينوس: لا أعلم أنّ المفسّرين أفسدوا في كتاب من كتب أبقراط ما أفسدوا في هذا الكتاب وذلك أنّ كثيراً منهم غيّروا فيه أشياء كثيرة وكان ما غيّره كلّ واحد منهم على وجه غير الوجه الذي غيّره عليه الآخر بحسب ما رجا كلّ واحد منهم أن يتهيّأ له فيه من التأويل المقنع حتّى اضطررت إلى أن أطلب أقدم النسخ من نسخ هذا الكتاب وتفاسير أول من فسّره منهم زوكسس وإيراقليدس المعروف بطارنطينوس والمعروف بإروثريوس وقبلهم غلوقياس وباقيخيوس. ولو كانوا وصفوا أوّلاً كيف كانت النسخة القديمة ثمّ قالوا بعد إنّه يشبه أن يكون قد وقع فيها خطاء ولذلك توهّموا أنّ نسخة أبقراط الصحيحة على ما وصفوه ولو رأيتهم بعد
إصلاحهم ما أصلحوه يفيدوننا شيئاً ممّا ينتفع بمعرفته وهو مع ذلك موافق لرأي أبقراط إذاً لقبلت قولهم.
لاكنّي لمّا وجدتهم قد يحيدون كثيراً هذين الغرضين جميعاً رأيت أنّ الأجود كثيراً أن أحفظ النسخة القديمة على حالها وأتوخّى دائماً أن يكون تفسيري لها على نحو ما أجدها عليه. فإن لم أقدر في بعض المواضع أن أفعل ذلك طلبت لها وجهاً من الإصلاح مشبهاً مقنعاً كالذي فعل إيراقليدس في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا في القول الذي وجد فيه مكتوباً: «إنّ الأذناب كانت نحو أفروديسون». فإنّه قال إنّه وجده في تفسير من فسّر هذا القول على أنّ فيه ذكر «الأذناب» غير مشبه ولا مقنع ثمّ قال إنّه خليق أن يكون كان في النسخة الأولى مكان «أورى» وهي الأذناب «ثورى» وهي الأبواب فدُرِس الخطّ الأوسط من حرف «الثاء» في كتاب اليونانيّين — وهذه صورته: Θ — فشبّه الناسخ «الثاء» «بالواو» — وهذه صورتها في كتاب اليونانيّين: 〈Ο〉 — فكتب مكان «ثورى» «أورى». وبيّن أنّه قد يمكن أن تكون انقشرت سحاءة رقيقة من الكتاب الأوّل فسقطت فسقط لسقوطها ذلك الخطّ ويمكن أن يكون وقع على ذلك الخطّ ذباب فأكله أو يكون كتب منذ أوّل الأمر رقيقاً خفيّاً فلمّا مرّ به الزمان دُرِس وامتحى أثره.
ووجدت أجرأ جميع من غيّر النسخ القديمة وبدّلها وأشدّهم إقداماً على ذلك آل قافيطن وديسقوريدوس. وقد شلت بين أن أذكر جميعهم أو أقتصر على ذكر من غيّر منهم ما غيّر بحجّة مقنعة أو ألغي ذكر جميعهم فنظرت أيّ هذه الثلاثة الأوجه
أجود. فوجدت أنّ الأجود كان لو لم يكن من يقرأ هذا التفسير يتبرّم بطوله أن أذكرهم كلّهم. ولمّا كان الكثير من الناس قد برم التفسير إذا طال بل لا يقتصر على ذمّ ما طال منه حتّى يذمّ أيضاً ما هو منه بمقدار قصد ولا يعجبه من التفسير إلّا الوجيز المختصر رأيت أنّ الأجود أن أجعل تفسيري متوسطاً بين الطرفين اللذين وصفت وأن أتقدّم فأخبر بذلك منذ أوّل افتتاحي قولي حتّى ينصرف عن كتابي هذا من لا يعجبه هذا الطريق من التفسير الذي أسلكه فيه. فإنّي كما كتبت سائر كتبي كلّها لقوم من أصدقائي كثيرين سألوني فشفعتهم كذلك هذه التفاسير أيضاً إنّما جعلتها لأولائك فلمّا رأيت أنّ ما أكتب من ذلك قد يقع إلى قوم كثير احتجت إلى تصدير هذا الصدر.
وكما احتجت إلى تقديم هذا فقدّمته كذلك قد أحتاج ضرورة إلى أن أتقدّم فأخبر أنّ مذهب العبارة في هذا الكتاب أعني في هذه المقالة السادسة من كتاب إفيذيميا مخالف جدّاً لمذهب العبارة في المقالة الأولى والثالثة من كتاب إفيذيميا. وجميع الناس إلّا من لا بال له متّفق على أنّ تينك المقالتين فقط من جميع كتاب إفيذيميا كتبهما أبقراط على أن يقرأهما الناس. وأمّا الخمس المقالات الباقية فاثنتان منها وهما الخامسة والسابعة مفتعلتان وذلك من أمرهما بيّن واضح. وأمّا هذه المقالة السادسة والمقالة الثانية فذكروا أنّ ثاسالوس بن أبقراط ألّفهما من أشياء كان أبقراط اعتدّها لنفسه. وزعم بعضهم أنّ ثاسالوس زاد من عند نفسه في تلك أشياء وزعم آخرون أنّ الذين زادوا فيها قوم آخرون أتوا بعده.
ووصف أبقراط في المقالة الأولى والثالثة من كتاب إفيذيميا أحوالاً من أحوال الهواء أحدثت أمراضاً من الأمراض العامّيّة الغريبة التي يعرفها اليونانيّون «بإفيذيميا» وبهذا الاسم نجد أبقراط يسمّيها ولذلك جعل عنوان كتابه ورسمه «إفيذيميا» إذ
كان إنّما وصف فيه الأمراض العامّيّة الغريبة التي تسمّى «إفيذيميا» وتفسير هذا الاسم «الوفود». إلّا أنّ أبقراط وصف فيه وفوده ووروده المدن التي كان يردها وأمّا في هذه المقالة فذكر ذلك نزراً جدّاً فأمّا جلّ الكتاب ومعظمه فنجده فصولاً منحازاً كلّ واحد منها بحيّز خاصّ لاكنّه لمّا لم يوجد لهذه المقالة ولا للمقالة الثانية عنوان يشاكلهما أدخلتا فيما ذكروا في جملة كتاب إفيذيميا على أنّ الذي فيهما ممّا يشاكل ذلك العنوان قليل جدّاً. فأمّا المقالة الرابعة فتشبه المقالة السادسة والثانية في مخارج ألفاظها إلّا أنّها تنقص عنهما نقصاً كثيراً جدّاً في منفعة ما يستفاد منها من العلم وأمّا من عنون هذه المقالة بأحوال الهواء التي وصفها ثاسلوس فقد أخطأ خطاء بيّناً.
وقد يكفي تقديم ما قدّمت من هذا على أنّ قوماً من المفسّرين قد كتبوا أشياء أخر كثيرة رأيت أن ألغي ذكرها كراهة منّي للتطويل.
(١) قال أبقراط: من أصابه من النساء من الإسقاط أورام في الرحم فأعقبهنّ ثقلاً في الرأس.
قال جالينوس: قد رأيت أن أقول قولاً عامّيّاً مرّة واحدة في معنى عامّ وهو أنّ الأمر مطلق لكلّ واحد ممّن يقرأ هذا الكتاب أن يقرأ ويكتب منه المواضع التي تختلف في اللفظ وتتّفق في المعنى كيف استحسن بحسب لغته التي تخصّه. فإنّ بعضهم كتب أوّل هذا القول مكان «من» «التي» وبعضهم كتب «اللواتي» وكذلك كتب قابيطن لا في هذا الموضع فقط ولاكن في جميع المواضع التي شبهه. ولا فرق في المعنى عند ما يحتاج إليه من أعمال الطبّ بين هذه النسخ التي إنّما الاختلاف بينها في اللفظ. فلمّا كان الأمر كذلك رأيت أن أقتصر من
النسخ على ذكر ما يغيّر منها المعنى وأمّا النسخ التي اختلافها في اللفظ فقط من غير أن يزيل المعنى فرأيت أن أطلق أمرها لمن شاء أن يقرأها ويكتبها كيف شاء. وأنا أعيد من الرأس القول الذي حكيته قبيل ثمّ آخذ في تفسيره وشرحه.
(٢) قال أبقراط: من أصابه من النساء من الإسقاط أورام في الرحم فأعقبهنّ ثقلاً في الرأس فإنّ الأوجاع تصيبهنّ في اليافوخ وسائر الأوجاع من الرحم وتؤول العلّة فيهنّ في ثمانية أشهر أو في عشرة أشهر إلى الورك.
قال جالينوس: أمّا «الإسقاط» فيعني به سقوط الجنين من الرحم من قبل أن يتمّ كيف كان. وقد يسمّي أبقراط هذا الشيء بعينه «فساداً» وكذلك نجده مكتوباً في هذا القول في بعض النسخ مكان «الإسقاط» فالنسخ في هذا مختلفة والمعنى فيها واحد. وكذلك نجدها تختلف في أنّ 〈في〉 بعضها اسم «الرحم» مكثّر «أرحام» وفي بعضها مفرد «رحم» وفي بعضها «ثقل الرأس» مكثّر وفي بعضها مفرد وليس تختلف بذلك جملة معنى هذا القول. ولذلك استعفيت من أن أحكم بين هذه النسخ المختلفة إذ كان لا يختلف بها المعنى أصلاً. فإنّ المعنى فيما قاله أبقراط إنّما هو أنّ المرأة تسقط فيصيبها ورم في الرحم فيعقبها ثقل في الرأس على طريق المشاركة في العلّة. فإنّ الوجع إنّما يؤلمها في اليافوخ وكذلك سائر أصناف
ثقل الرأس التي تكون بسبب علل الرحم على هذا القياس: إنّما يكون الوجع فيها في اليافوخ.
وأوّل ما ينبغي أن تبحث عنه ما المعنى الذي يدلّ عليه اسم «الورم». فقد نجد أبقراط دائماً كما بيّنت مراراً كثيرة سمّى بهذا الاسم كلّ غلظ خارج من المجرى الطبيعيّ كان ذلك الغلظ غير مؤلم صلباً وهو الذي يخصّه اليونانيّون بتسميته «سقيرس» أو كان معه وجع وهو الذي يخصّه اليونانيّون بتسميته «فلغموني» أو لم يكن معه وجع وكان رخواً وهو الذي يخصّونه باسم «التربّل». وقد نجد أبقراط قد ذكر في هذا الموضع الأورام التي يمكن فيها أن يتطاول أمرها وتزمن وتحدث ثقلاً في الرأس وقد يشهد نفس العيان بأنّه قد يعرض هذا كثيراً بسبب إسقاط الجنين.
وقد التمس قوم ممّن فسّر هذا الكتاب وجود السبب الذي من قبله صار اليافوخ يناله من الوجع أكثر ممّا ينال سائر أجزاء الرأس في تلك الحال فاختلفوا في أقاويلهم. فأوجب بعضهم أنّ السبب في ذلك المحاذاة. وقالوا إنّ العلّة إذا كانت في القطن أو بالجملة في الصلب فإنّ ترقّي العلّة على المحاذاة يكون إلى مؤخّر الدماغ وإذا كانت العلّة في مقدّم البدن فالذي يحاذيه اليافوخ. وقال قوم إنّ العلّة إذا كانت في الرحم نفسها ثمّ كانت منها في الناحية التي هي من خلف فإنّ الذي يشاركها في العلّة من الرأس مؤخّره وإذا كانت العلّة في مقدّم الرحم فالذي يشاركه من الرأس ناحية اليافوخ.
وقد ترك قوم المحاذاة واطّرحوها وقالوا إنّ الدماغ يشارك الرحم في علّتها إذ كان الدماغ ابتداء العصب وكانت الرحم عضواً عصبيّاً ولذلك يحدث ثقل الرأس. ولأنّ جلّ الدماغ ومعظمه موضوع عند اليافوخ لذلك يحسّ الوجع هناك خاصّة. وقال
قوم إنّ ذلك الموضع أضعف أجزاء الرأس كلّها ولذلك يجب أن يكون وجعه أشدّ من وجع سائر أجزائه الأخر.
فأمّا من زعم أنّ العصب الذي ينحدر إلى الأرحام ينبت من وسط الدماغ من ناحية اليافوخ فليس يحسن بما ذكره وخليق أن يكون لا يحسن بما أيضاً ذكر من زعم أنّ الرحم لمّا إن كانت عصبيّة وجب لذلك أن يألم بألمه ابتداء العصب. وذلك أنّه يجب على هذا القياس أن يكون الغشاء الذي يحتوي على البطن كلّه أولى بأن يشرك الرحم في علّتها لقربه منها وكذلك الأمعاء في المعدة والحجاب قد كانت أولى بأن تشرك الرحم في علّتها إذ كانت أقرب إليها من الرأس وكانت كلّها عصبيّة.
وأشنع من هؤلاء قولاً من قال إنّ الدماغ يشرك الأنثيين في علّتهما من قبل أنّ جوهر الأنثيين كجوهر الدماغ بعينه ولذلك يشرك الرأس الرحم في علّتها من قبل أنّ في الرحم أيضاً أنثيين. وإن أنا ذكرت أيضاً من قوله ما هو أردأ وأشنع من قول هؤلاء فلعلّ لأيّما يلومني وينسبني إلى أنّي قد أنسيت ما قلت قبيل. وذلك أنّ الأجود كان في هذا إذ كنت قد استعفيت مرّة من ذكر هذيانهم ألّا أذكر أصلاً فيما بعد شيئاً ممّا قالوا.
فأمّا قول من قال إنّ الرحم عصبيّة فقد ينبغي أن يعلم إذا فهم على معنى ما كان قولاً صادقاً وإذا فهم على معنى آخر كان قولاً كاذباً. وذلك أنّا نجد في بدن الحيوان ثلثة أجناس من الأجسام المتشابهة الأجزاء عديمة للدم مصمتة أحدها ينبت من العظم والآخر ينبت من الدماغ والنخاع والثالث ينبت من العضلة. وأبقراط يسمّي في أكثر كلامه الجسم الأوّل الذي ذكرناه «رباطاً» ويسمّي الجسم
الثاني «عصبة» ويسمّي الجسم الثالث «وترة». وقد يسمّي هذه الأجسام كلّها بعض الناس «أعصاباً» للتشابه الذي وصفته بينها ثمّ نسبوا الأوّل 〈إلى〉 أنّه عصب التعقيب ونسبوا الثاني إلى أنّه عصب الحسّ والحركة الإراديّة ونسبوا العصب الثالث إلى أنّه طرف العضلة.
وليس في الرحم ولا من واحد من الأجناس الثلاثة عصب كبير لاكنّه لمّا كان جرمها قد يوجد ينبسط ويتمدّد انبساطاً وتمدّداً كثيراً جدّاً — وذلك ليس هو لما كان من الأعضاء لحميّاً ولا لما هو منها شحميّاً — صرنا إلى أن نسمّيه عصبيّاً واشتققنا له اسماً من اسم «العصب» على طريق التشبيه له به كما من عادة الناس أن يقولوا في المثانة «عصبيّة» وفي سائر الأعضاء كلّها العديمة للدم [و]في جوهرها إذا رأوها تنبسط وتتمدّد انبساطاً وتمدّداً كثيراً جدّاً ثمّ تعود فتجتمع وتتقلّص. ومن هذا الطريق يقولون في القضيب من فرج الذكر إنّه «عصبيّ» ويقولون ذلك في رقبة الرحم ويسمّون قضيب القرد «عصبة ذات نخاريب» وبسبب القضيب يسمّون الفرج كلّه «عصباً». ثمّ إنّ قوماً أنسوا ذلك التشبيه وأنّه لم يكن من طريق التشبيه في القوّة للعصب الذي هو بالحقيقة عصب لاكنّه إنّما كان على طريق شبه الجوهر الجسميّ بالجوهر فأوقعهم ما أنسوه من ذلك في طلب السبب الذي صار له القضيب إذا اعتلّ لم تشركه أصول العصب في علّته كبير مشاركة ومن البيّن أنّي أعني «بأصول العصب» الدماغ والنخاع.
فأمّا الرحم فقد يتّصل بها بعض العصب لا محالة ولولا ذلك ما كان فيها حسّ إلّا أنّ العصب الذي يتّصل بها يسير جدّاً إذا قيس بجملة مقدار جوهر هذا العضو. ولذلك قد يوجب فيه موضع نظر وبحث عظيم لمن أراد طلب العلم الطبيعيّ في أشباه هذه الأشياء حتّى يبحث لِم صار بعض النساء اللواتي بهنّ العلّة المعروفة «بالأرحام» [و]يعرض لهنّ من التشنّج والتمدّد ما يشبه تشنّج العصب. إلّا أنّ هذا لا يكاد يظهر عند حدوث الورم في الرحم كما قد نرى من حدوث الحمّيات القويّة جدّاً الحارّة بالمرأة التي هذه حالها حتّى يعرض بسببها للّسان أن يسودّ فيصير بلون السخام كما قد ذكر أبقراط ذلك في ما بعد في هذا الكتاب. وقد كان ينبغي أن يبحث عن هذا أيضاً أوّلاً القوم الذين راموا أن يتكلّموا في مشاركة الرأس للرحم في علّتها فإنّ من باشر أعمال الطبّ قد يعلم أنّه تحدث عن الرحم حمّيات حارّة قويّة.
وأمّا القوم الذين يسلكوا طريق السوفسطائيّين بإسكندريّة الذين قد ملؤوا الكتب أقاويل طويلة كاذبة فأكثر مخاطبتهم إنّما هي لأحاديث لم يشاهدوا المرضى ولا لأولائك أيضاً دربة في هذا الكتاب. فإنّ جميع من في تلك المدينة قد أغفلوا أمر تدبير المرضى غاية الإغفال. فأمّا من قد رأى النساء اللواتي يعتللن من ورم حارّ يعرض لهنّ في الرحم فإنّه قد يعلم أنّه قد تعتريهنّ حمّيات حارّة قويّة في البدن كلّه حتّى يحدث منها التهاب واحتراق في الرأس بمنزلة ما يعرض في الحمّيات التي هذه حالها من غير علّة الرحم. وإن لم تحمّ أيضاً المرأة التي هذه حالها التي قد احتبس طمثها حتّى ظاهرة فليس يؤمن عليها أن تسرع إليها الحمّى ويعرض لها في الرأس ثقل ويمتلئ من بخار حارّ ومن أخلاط حارّة ولذلك قد يصيب بعض من
تلك حاله من النساء السبات كانت بهنّ حمّى أو لم تكن فحدوث هذا يظهر على هذا الطريق.
وقد كان ينبغي على هذا أن يطلب السبب الذي له صار الرأس يمتلئ بسبب هذه العلل من علل الرحم وينبغي للطالب للسبب في ذلك أن يتمنّى الوقوع عليه ووجوده فإن لم يتهيّأ له ذلك فلا أقلّ من أن يتحفّظ بالشيء الذي يظهر عياناً بالتجربة ويكون له ذاكراً.
وأنا ملتمس وصف السبب في ما يظهر من ذلك مفتتح قولي بأن أقول إنّ في الأرحام من العروق الكثيرة العظيمة أكثر ممّا في سائر أعضاء البدن فإذا حدثت بالأرحام علّة من احتباس الطمث واحتباس دم النفاس من أيّ سبب ورم يحدث كيف كان حدوثه فقد يجب ضرورة أن تمتلئ الأرحام من الدم. فإن عفن ذلك الدم فحدثت عنه حمّى فقد يجب ضرورة أن تكون من نوع الحمّيات المطبقة التي يسمّيها اليونانيّون «سونوخس». فقد بيّنّا أنّ هذه الحمّيات إنّما تكون من الدم إذا عفن وقد ترفع هذه الحمّيات من البخار الحارّ إلى الرأس مقداراً ليس باليسير.
وقد سبق فعلم من عُنِي بأعمال الطبّ أنّ الرأس إذا امتلأ من مثل هذا البخار بأيّ سبب كان ذلك فإنّ الثقل في الرأس يتأذّى به خاصّة نحو اليافوخ قبل أن يسمعوا ذلك منّا. وأخلق بك أن تكون قد تشوّقت إلى أن تعلم السبب فيما يعرض من ذلك وأنا واصف لك السبب الذي هو عندي أولى الأسباب وأشبهها في هذا بل لست أقتصر على سبب واحد دون أن أصف لك في ذلك أسباباً أخر أوّلها أنّه يجب أن يكون ذلك البخار الذي ذكرته يرتفع إلى الرأس في العروق الضوارب. وقد نرى تلك العروق تترقّى من الرقبة إلى الرأس بحذاء اليافوخ عن جنبتي الموضع من
الدماغ المعروف «بالقمع». والثاني أنّ العادة قد جرت أن يكون تحلّل ما يتحلّل في جميع أوقات الصحّة من فضول الدماغ الرقيقة البخاريّة من موضع اليافوخ خاصّة وذلك أنّ شؤون الرأس هناك أشدّ شؤونه تخلخلاً وذلك الموضع من الجمجمة أرقّ موضع منها وأكثره نخاريب. والثالث مع هذا أنّ في ذلك الموضع فيما يلي الشؤون أجساماً حسّاسة كثيرة وذلك أنّ هناك أغشية تصل ما بين الأمّ الجافية وبين السمحاق وثمّ أيضاً عروق كثيرة دقيقة تنفذ في الشؤون. والعلّة التي مقدارها مقدار واحد إذا حدثت في مواضع تختلف في كثرة الحسّ وقلّته فإنّ المواضع التي هي أكثر حسّاً أكثر إحساساً لها والمواضع التي تحسّ العلّة أكثر يكون تأذّيها بالأسباب المؤلمة أزيد فلهذه الأسباب تكون الأوجاع في اليافوخ.
وقد بقي أن نطلب السبب الذي له صار «علّة» من هذه حاله من النساء «في ثمانية أو في عشرة أشهر تؤول إلى الورك» يعني تندفع إليه. ولمّا كان قوم قد يذكرون أنّه ينبغي أن يجعل مكان «في ثمانية أو عشرة أشهر» «في الشهر الثامن أو في العاشر» وأنّهم قد وجدوا في كثير من النسخ وخاصّة في المتقادمة منها مكان «الثمانية» «ح» ومكان «العشرة» «ي» فقد ينبغي أن نتثبّت وننظر في الفرق بين النسختين. وذلك أنّا إن قلنا «في ثمانية أو في عشرة أشهر تؤول العلّة إلى الورك» فإنّا إنّما نحسب منذ حدث الإسقاط لا منذ كان الحمل وإن قلنا «في الشهر الثامن أو في العاشر» دللنا بذلك على المدّة التي نحسب منذ كان الحمل.
وقد يظهر لي أنّه ليس يستحيل المعنى إن فهمناه على الوجهين جميعاً بحسب النسختين جميعاً وينبغي أن نقصد في امتحان هذا القول إلى التجربة كما فعلت أنا دائماً في جميع أشباه ذلك من الأمور وفي هذا الأمر الذي ذكر في هذا الموضع. وقد ظهر لي لمّا رصدت هذا الأمر أنّه ربّما كان انقضاء هذه العلّة في أربعين يوماً
وربّما كان في شهرين وربّما كان في أربعة أشهر وربّما طالت فلبثت عدداً من الشهور أكثر من ذلك وأصحّ الأمر فيما قيل من انتهائها إلى ثمانية أشهر وبعضها أيضاً ينتهي إلى عشرة. وقد رأيت أيضاً خراجاً حدث في الورك من قبل الرحم لاكنّي لم أر ذلك في عدد كثير من النساء على أنّي قد رأيت منهنّ عدداً كثيراً طال مرضهنّ بسبب علّة الرحم.
وأنا أكسل أن أطلب السبب في شيء لم يصحّ بعد عندي وجوده وقد قال أرسطوطاليس إنّه ينبغي أن نعلم أوّلاً وجود الشيء بالحقيقة ثمّ نطلب سببه. ومن سبق قبل أن يعلم أنّ الشيء يكون فيطلب من أيّ سبب يكون فقد بيّن عن نفسه أنّه إنّما يقصد للهذيان لا لوجود الحقّ. من ذلك أنّ القوم الذين راموا أن يخبروا بالعلّة في هذا قالوا ما أنا واصفه: أمّا من أوجب منهم أن يكون حساب الثمانية أو العشرة الأشهر منذ وقت الإسقاط فزعم أنّ العادة قد جرت أن تألم الرحم في هذين الوقتين أعني في الشهر الثامن وفي الشهر العاشر. وذلك في زعمهم أنّ الجنين في الشهر الثامن ينقلب ويولد في الشهر العاشر فهو في مثل هذه الحال أيضاً في ذينك الوقتين بعينهما يدفع عن نفسه ما يؤذيه فيقذفه إلى موضع قريب محتمل لقبول ما يقذفه إليه. وأمّا من زعم منهم أنّه ينبغي أن يحسب منذ وقت الحمل فقال إنّه يجب كما لو لم يكن حدث عن الجنين فساد لقد كان ستحدث له من الرحم حركة في ذينك الوقتين إمّا بأن ينقلب وإمّا بأن يندفع فيخرج كذلك يحدث للرحم من الحركة في ذينك الوقتين في هذه الحال أيضاً.
والفريقان جميعاً مخطئان في أنّهما يوجبان حركات الجنين للرحم. وذلك أنّ الجنين إن كان ينقلب في الشهر الثامن فهو لا محالة يفعل تلك الحركة من تلقاء
نفسه وخروجه أيضاً إنّما يكون عندما يتحرّك حركة أقوى فيمزق بعض الأغشية التي تحويه. وقد ذكر ذلك أبقراط في كتابه في طبيعة الجنين في هذا القول: «فإذا حضر ولاد المرأة فإنّه يعرض عند ذلك أن يكون الصبيّ حركته وارتكاضه وتحريكه يديه ورجليه أن يمزق بعض الأغشية التي تليه من داخل. وإذا انمزق واحد منهما فإنّ قوّة الباقية تكون أضعف ويتمزّق أوّلاً الذي يتمزّق أوّلاً من بعد الأخير» فإذا كان الجنين قد أسقط فخرج عن الرحم فليس يمكن أن تكون حركاته باقية في الرحم.
وقد يجري مجرى قول هؤلاء في البعد من الإقناع قول من زعم أنّ في الشهر السابع أو في الشهر التاسع تكون مواليد الأطفال وفي الشهر الثامن والشهر العاشر يكون اندفاع ما يندفع منه ممّا هو خارج عن المجرى الطبيعيّ. وذلك أنّ خروج تلك الأشياء التي تخرج على غير المجرى الطبيعيّ يتأخّر عن خروج ما يخرج عن الرحم عن المجرى الطبيعيّ بشهر واحد. وزعموا أنّ ذلك ممّا قاله أبقراط في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا في القول الذي قال فيه: «والذي يولد لثمانية أشهر يكون بحرانه كأنّه للغد» وإنّما أراد بذكر «الغد» الشهر الذي بعد السابع. وقد فسّرنا ذلك القول في تفسيرنا لذلك الكتاب.
وأمّا أنا فإنّي كنت قد رأيت هذا الذي قيل قد كان على ما قيل لقد كنت سأجهد وآخذ نفسي بطلب العلّة لاكنّي لمّا رأيت علل الرحم يكون بقاؤها في أوقات كثيرة مختلفة موافقة لأدوار أيّام البحران التي وصفها أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة فإنّي تارك البحث عن السبب في ذلك إذ كنت لم أر هذا قبل يكون على ما قيل في كلّ حال ولا في أكثر الأحوال. وحسب صاحب هذا القول قد كان اتّفق له أن رأى هذا الذي ذكر [و]قد عرض في ثنتين أو في ثلاث من النساء كان
صاحبه أبقراط نفسه أو كان ثاسلس ابنه أو غيرهما فتقدّم فحكم حكماً عامّيّاً على أمر ليس يكون على ما وصفت في جميع الأحوال على ما قلت ولا مراراً كثيرة.
وقد ينبغي أن نقطع هذا ونذكر من زاد في النسخة في هذا القول الحرف الذي معناه في العربيّة «الواو» الزائدة فجعله بين قوله «فأعقبهنّ ثقلاً في الرأس» وبين قوله «الأوجاع تصيبهنّ في اليافوخ» حتّى صيّر جملة هذا القول على هذا المثال: «من أصابه من النساء من الإسقاط أورام في الرحم فأعقبهنّ ثقلاً في الرأس والأوجاع تصيبهنّ في اليافوخ وسائر الأوجاع من الرحم فإنّ العلّة تؤول فيهنّ في ثمانية أشهر أو في عشرة إلى الورك». وذلك أنّهم يجعلون القول الثاني شريطة طبّيّة في القول الأوّل ينتفع بها في تقدمة المعرفة لا في معنى من طريق استخراج الأسباب ويريدون أن يكون معنى هذا القول على هذا المثال: إنّ المرأة التي تسقط فتحدث بها أورام في الرحم فيعقبها ذلك ثقلاً في الرأس وتكون الأوجاع العارضة لها في الرأس منه في اليافوخ فإنّ انتقال الموادّ التي تتأذّى بها في الرحم إلى الورك يكون في ثمانية أشهر أو في عشرة أشهر حتّى لا يكون جميع الأورام التي تحدث في الرحم إنّما تُحدث الأوجاع في الرأس في ناحية اليافوخ. ولا يكون ذلك أيضاً تلك الأورام كلّها لا محالة إنّما يكون انقضاؤها باندفاع مادّتها إلى الورك لاكنّه إنّما تندفع مادّته منها إلى الورك ما كان منها تحدث الأوجاع في الرأس في ناحية اليافوخ فقط. وقد تفقّدت هذا أيضاً ورصدته ولم أره يكون على ما ذهب هؤلاء إليه ولم أجدهم أيضاً أتوا بحجّة في ذلك ولا قدروا أن يخبروا بالسبب الذي له صارت تلك الأعراض فقط إلى الأوجاع في اليافوخ من جميع أورام الرحم يجب في زعمهم أن تندفع مادّتها إلى الورك. فيجب أن لا نصدّقهم في قولهم إذ كان لم يصحّ عندنا من التجربة ولا من طبيعة نفس هذا الأمر على طريق القياس.
وأمّا قول أبقراط «وسائر الأوجاع من الرحم» فإنّ الأمر فيه بيّن أنّهم قد تأوّلوه على ضربين فبعضهم فهمه على العلل الحادثة في الرحم أنّ ذلك أيضاً كلّها ليس هي بدون العلّة التي ذكرناها في إحداث الثقل في الرأس والأوجاع في ناحية اليافوخ خاصّة. وبعضهم فهم قوله في علل الرأس كما لو قال: «إنّ من أصابه من النساء من الإسقاط أورام في الرحم أعقبهنّ ثقلاً في الرأس فإنّ الأوجاع تصيبهنّ في اليافوخ وسائر علل الرأس أيضاً الحادثة من الرحم إنّما تؤلم خاصّة في اليافوخ» حتّى يفهم عنه من قوله «سائر العلل» المشاكلة المناسبة «لثقل الرأس». وقد يسّمى بعض تلك العلل «البيضة» وبعضها يسمّى «الشقيقة» وبعضها «صداعاً» مطلقاً.
(٣) قال أبقراط: أصحاب الرؤوس المنحرفة بعضهم أشدّاء الرقاب أقوياء في عظامهم وسائر أعضائهم وبعضهم أصحاب صداع وسيلان من الأذنين والحنك من هؤلاء غائر والأسنان مختلفة.
قال جالينوس: إنّ بعضهم قد كتب مكان «أشدّاء الرقاب» «طوال الرقاب». ومن فعل ذلك فإنّه إنّما جمع أمرين رديئين أحدهما أنّه غيّر الأشياء القديمة والآخر أنّه أزال المعنى عن طريقه وذلك أنّه ليس المعنى في «الرقبة الشديدة» هو المعنى في «الرقبة الطويلة». وذلك أنّ الرقبة الشديدة إنّما هي الرقبة القويّة وإنّما تكون الرقبة كذلك لصلابة عظامها وما يحيط بالعظام من العضل والوترات والرباطات فإنّ حاله في أكثر الأمر تكون شبيهة مشاكلة بحال العظام. وأمّا الرقاب الطويلة فليست حالها حالاً محمودة بعد من فضيلتها بل حالها في أكثر الأمر حال مذمومة بمنزلة
حال الصدر إذا كان ضيّقاً مستطيلاً. وذلك أنّ الصدر أيضاً قد يمكن أن يكون واسعاً ولا يكون عريضاً فقط وطويلاً فقط وإنّما يكون كلّ واحد من الصدر والرقبة ومن جميع الأعضاء خارجاً بقدر السمك والعرض [و]إذا كان نموّ هذين وتزيّدهما على تناسب ويجب لا محالة فيها أن يكون الطول أيضاً إمّا مساوياً للمقدار المعتدل وإمّا فاضلاً عنه لاكنّ الصدر ليس يظهر لنا أمره ممّن نشاهده من الناس دون أن يعرى بدنه. فأمّا الرأس فقد نراه ممّن نشاهده مع رؤيتنا له ونتعرّف الحال في آفة إن كانت به في خلقته أو في عظمه. أمّا في عظمه فأن يكون أصغر ممّا ينبغي أو أكبر ممّا ينبغي وأمّا في خلقته فأن يكون مستديراً استدارة صحيحة حتّى لا يكون معه من النتوء لا في ناحية الجبهة ولا في ناحية مؤخّر الرأس شيء أصلاً أو يكون منحرفاً حتّى يكون النتوء منه أخرج ممّا ينبغي طولاً إمّا في الجهتين جميعاً أعني في ناحية الجبهة ومؤخّر الرأس وإمّا في إحدى الجهتين فقط أو يكون النتوء منه في إحدى الجهتين فقط ولا يكون في الجهة الأخرى نتوء أصلاً.
وإذا كان الرأس أعظم ممّا ينبغي أو كان منحرفاً فقد ينبغي أن تتفقّد مقدار فضله على المعتدل وأمر طبيعة الرقبة حتّى تستدلّ بذلك على هيئة الرأس هل هي أجود أو أردأ. فقد بيّنت في كتابي في تدبير الأصحّاء أنّ بالأطبّاء إلى معرفة هذا حاجة شديدة في حفظهم صحّة العضو عليه وفي إصلاحهم آفة نالته في بعض الأحوال.
فإذا كان الرأس صغيراً صغراً بيّناً فقد ينبغي أن تعلم من أمره أنّ حاله لا محالة حالة رديئة لاكنّه قد ينبغي على الاستظهار أن تتفقّد مع ذلك حال الرقبة لأنّ الصلب للبدن بمنزلة ساق الشجرة للشجرة ونبات الصلب من الرأس بمنزلة نبات ساق الشجرة من أصلها. فقد علمت أنّ ابتداء حدوث النخاع إنّما هو من الدماغ
ومنه يقبل ما يجري إليه من القوى والفقار المحيط بالنخاع. فإذا كان النخاع دقيقاً كان الفقار صغيراً وإذا كان النخاع غليظاً كان الفقار واسعاً. فكما أنّ الصدر إذا كان عظيماً كان في جوفه فضاء واسع يحتمل أن يكون الحشوان اللذان فيه عظيمين من غير أن يضغطهما أعني القلب والرئة وإذا كان صغيراً لم يحتمل أن يكون فيه ذانك الحشوان عظيمين كليهما ويكونان على قياسه صغيرين غير مغريين من الضغط كذلك الرأس والصلب إنّما يكون فيهما من الدماغ والنخاع على قياسهما فإذا كانا عظيمين كان فيهما من كلّ واحد من ذينك عظيم وكان مواضع الروح فيهما مواضع واسعة وإذا كانا صغيرين كان الأمر على ضدّ ذلك.
وقد تجد أيضاً أمر الرؤية والذهن قد تحدث فيه الآفة البتّة فيمن رأسه مفرط العظم أو مفرط الصغر إلّا أنّ الرأس الصغير رديء في جميع الأحوال وأمّا الرأس الكبير فقد يكون في بعض الأحوال في الندرة 〈محمود〉 من شدّة القوّة في ذلك الموضع وكثرة المادّة التي عنها يحدث الرأس. وقد ذكر أنّ ذلك كان موجوداً في رجل من أثينية يقال له باريقلس وكان في غاية من حسن الفهم والذهن. وقد يدلّ على عظم رأسه ما كان هجاه به منه الشعر أصحاب القوّة مؤذياً. وأحرى أن يكون ذلك الرأس أجود متى كان شكله الشكل الطبيعيّ وكانت الرقبة شديدة قويّة وكان البصر حادّاً فإنّ هذه إذا اجتمعت فقد ينبغي أن تعلم أنّ الرأس على أفضل حالاته.
وأمّا الرؤوس المنحرفة فقد قلت إنّ بعضها ليس بمذموم. وانحراف الرأس يكون بتغيير خلقة الرأس وصيغته على أفضل الصيغ وأفضل صيغ الرأس هي أن يكون شبيهاً بكرة مستطيلة كأنّها قد ضغطت من جنبيها من موضعي الأذنين. فأمّا الرأس
المنحرف 〈…〉 أو في مقدّمه من ناحية الجبهة إمّا ناقصاً وإمّا زائداً على المقدار الذي ينبغي. وقد نجد في أكثر الحالات الرؤوس المنحرفة مذمومة على نحو ما نجد عليه الرأس العظيم. ونجد في الندرة بعض الرؤوس محموداً إذا كانت القوّة التي تصوغ تلك المادّة التي يحدث عنها الإنسان في حال الحبل قويّة حتّى لا تقهرها كثرة ما جرى إلى ذلك الموضع من الدم لاكنّها تفي به وتقوى عليه وتقهره حتّى تصوغه على ما ينبغي.
فإذا كانت الرؤوس المنحرفة تكون إمّا لنقصان النتوءين وإمّا لزيادتهما فقد ينبغي أن تنعم النظر بذهنك حتّى تعلم هل كان ذلك الانحراف عن زيادة في النتوء أو عن نقصان منه. فإنّه إن كان عن نقصان في النتوء فهو في جميع الأحوال مذموم وإن كان عن زيادة في النتوء فليس هو في جميع الأحوال مذموم لاكن قد ينبغي أن تنظر مع ذلك عند هذا أوّلاً في حسن شكل تلك الزيادة فإنّ كلّ زيادة تكون سمجة فهي مذمومة. ثمّ تنظر بعد هل تلك الزيادة كانت في نتوء الرأس من مؤخّره أو في نتوئه من مقدّمه بعد أن تعلم أنّ نتوءه من مؤخّره أفضل. وذلك أنّ أعظم بطون الدماغ خطراً هو البطن الذي في مؤخّر الرأس وأصل النخاع أيضاً ومنشؤه إنّما هو من مؤخّر الرأس. ثمّ تفقّدْ بعد أمر الرقبة وانظر هل هي ضعيفة أم قويّة. فإنّ نتوء الرأس إن لم يكن سمجاً ولا مفرط العظم ثمّ كانت الرقبة قويّة فاعلم أنّ ذلك الرأس مع انحرافه ليس بالمذموم وذلك أنّا قد نجد صاحب هذا الرأس «قويّاً في عظامه وفي سائر أعضائه».
وقد ينبغي أن تنظر ما الذي يعني بقوله في هذا الموضع «سائر الأعضاء» وهل يعني بذلك ما يلي الصدر وما يلي الكبد حتّى تكون الأصول الثلاثة فيمن هذه حاله قويّة لا الأصل الواحد فقط أعني الدماغ. وإنّما يعني بقوله «سائر الأعضاء»
تلك الأعضاء فقط التي ابتداء حدوثها الأوّل إنّما هو من الرأس وتلك الأعضاء هي النخاع والعصب والعظام والعضل. وقد يجب ضرورة أن تتزيّد هذه الأعضاء بتزيّد الرأس وتقوى بقوّته ونجد أيضاً سائر الأعضاء على الأمر الأكثر تتزيّد مع تزيّد تلك. وذلك أنّ الدم الذي يحدث عنه الرأس إذا كان دماً كثيراً محموداً فقد يجب أن تكون القوّة الحيوانيّة التي بيّنّا أنّها تنبعث من القلب والقوّة الطبيعيّة الغاذية التي قد خبّرتك أنّها تجري من الكبد إلى العروق قويّتين منذ أوّل أمرهما.
ويجب ضرورة في الحيوان الذي هذه حالها أن تكون الأعضاء التي هي للبدن كلّه بمنزلة الأساس قويّة شديدة ومتى كان الأساس على ضدّ تلك الحال حتّى يكون ذلك رديئاً ويكون مقداره صغيراً فيفقد معه مع ما تفقد نواحي «الحنك» من فيه. وإنّما يعني «بالحنك» الموضع من أعلى الفم الذي يلي الشقّين اللذين يفضيان إليه من الأنف. فإنّك تجد ذلك الموضع أيضاً «غائراً» في من كان انحراف رأسه محدّداً قبيح الشكل ومن عادة الناس أن يخصّوا هذا الرأس باسم «الانحراف».
وتكون «الأسنان» في أكثر أصحاب هذه الحال «مختلفة» يعني أنّه لا تكون الأسنان من أسفل موازية للأسنان من فوق حتّى لا تكون الثنايا من أسفل موازية للثنايا من فوق ولا الرباعيّات للرباعيّات ولا الأنياب للأنياب ولا الأضراس للأضراس لاكنّك ترى الفم كأنّه ينجذب إلى فوق معوجّاً. وتجد أصحاب هذه الحال يصيبهم الصداع كثيراً وتسيل آذانهم فربّما خرج منها الصديد الرقيق الرطب وربّما خرج منها الشيء الشبيه بالمِدّة المتغيّر الرائحة. وذلك أنّ من شأن الأعضاء الضعيفة أن تولّد فضلاً كثيراً رديئاً.
فإذ قد شرحت هذا القول وبيّنت معناه بياناً واضحاً فإنّي أضيف إليه شيئاً يسيراً ثمّ أقبل قبل هذا القول قول آخر. وهذا اليسير الذي قلت هو تذكرة شيء ممّا قد قلته في أوّل هذه المقالة وهو أنّه قد ظهر ظهوراً بيّناً أنّ هذه المقالة التي نحن في شرحها بالتذكرات أشبه منها بالكتب. فإنّ أبقراط إنّما كتب لنفسه ذكور شيء ممّا وقف عليه ووصف ما تهيّأ له الوقوف عليه إمّا بأن رآه وإمّا بأن استخرجه ببحث قياسيّ. وممّا يدلّ على ذلك أنّه ليس بين قوله الأوّل وبين قوله هذا الثاني مناسبة أصلاً ولا مشاكلة ولا قرب بوجه من الوجوه وكذلك أيضاً نجد قوله الثالث مبايناً للقولين الأوّلين.
(٤) قال أبقراط: من سقط من حنكه عظم فإنّ أنفه ينخفض من وسطه ومن سقط منه عظم من موضع أسنانه فإنّ الفطسة تعرض له في طرف أنفه.
قال جالينوس: إنّ «العظم» الذي يحجز بين المنخرين ويقال له «الوترة» معتمد على عظم آخر دقيق ابتداؤه من فوق من مفرق الحاجبين ومنتهاه عند طرف الأنف حيث الجنابتان من الأنف. والعظم الحاجز للأنف موضوع في هذا الموضع على تلك المواضع التي تنهى إليها أقاصي الأسنان القواطع وهي الثنايا والرباعيّات. وأمّا الموضع الذي هو أعلى من تلك المواضع فيعرف «بالحنك» ويعتمد عليه من حاجز الأنف وسطه. فحيث يعدم الحاجز شيئاً من العظام التي يعتمد عليها فإنّه يحطّ هناك فيحدث في الأنف في ذلك الموضع «انخفاض» ويقال لهذا العارض منه «فطسة».
(٥) قال أبقراط: إشراق الأطفال مع الإنبات يحدث في بعضهم أصنافاً أخر من الانتقال. والوجع الثقيل يكون في الكلى إذا امتلؤوا من الطعام.
قال جالينوس: هذه النسخة هي النسخة التي يعرفها جميع المفسّرين وكذلك نجدها في جميع الكتب القديمة. إلّا أنّه وإن كان الأمر كذلك فإنّ قوماً من الحدث قد التمسوا تغييرها وكان غيّره منها كلّ واحد منهم على غير النحو الذي غيّره الآخر. فكتب بعضهم مكان «الإشراق» «الصرع» وكتب بعضهم مكانه «الجمود». ويقصدون في تفسيرهم إلى أنّ أبقراط إنّما أراد أنّ علّة الصرع فيمن هي به منذ هو طفل تنقضي في أكثر الأمر عند انتقال الصبيّ عن سنّه إلى سنّ المراهق. وقد نرى ذلك يكون عياناً إذا لم يتدبّر الصبيّ في ذلك الوقت تدبيراً رديئاً فيكون هو السبب في بقاء المرض ودوامه. وأكثر ما تكون هذه العلّة بسبب مزاج بارد يغلب على الدماغ ويكون معه في أكثر الأمر رطوبة وذلك أنّ الصرع الحادث عن عضو من الأعضاء قلّ ما يعرض. ويبرأ الصبيان منه على الأمر الأكثر إذا راهقوا إن قصد في تدبيرهم إلى ما ينبغي وذلك لانتقال مزاج البدن كلّه في تلك الحال إلى المزاج الذي هو أجفّ وأسخن.
وقد وصفت لك في كتابي في المزاج من أيّ وجه الشابّ الذي هو في منتهى الشباب أو قريب منه أسخن من الصبيّ وبأيّ وجه الصبيّ أسخن ثمّ الشابّ. وذلك أنّ الشباب أسخن على القول المطلق وأمّا الصبيّ فليس هو أسخن من الشابّ على القول المطلق لكنّه إنّما هو أسخن منه بأنّ فيه من الحارّ الغريزيّ مقداراً أكثر.
فالقوم الذين ينسبون أنفسهم إلى أنّهم شيعة أبقراط يقصدون إلى أنّ أبقراط إنّما يعني «بالإشراق» إشراق الحرارة وأنّه استعمل هذا الاسم على الاستعارة بطريق التشبيه فاشتقّه من لهيب النار إذا غلب على المادّة التي تستوقد فيها حتّى يستحوذ عليها ويشبّهها كلّها بذاتها أشرق وظهر لجميع من يشاهده وقد كان أوّلاً خفيّاً في الوقت الذي كانت فيه مادّته التي تستوقد فيها رطبة فكان دائباً يعمل في تجفيفها.
وأمّا زوكسس وقوم من الأطبّاء من أصحاب التجارب فلم يفهموا عنه «الإشراق» على هذا الوجه لاكنّهم فهموه عنه على وجه آخر. وأنت قادر أن تعلم ما ذهبوا إليه إن أنا حكيت لك كلام زوكسس في ذلك وهذا هو بلفظه: «إنّ أبقراط يعني ‹بالأطفال› الصبيان إلى وقت الإنبات والصبيان في وقت الإنبات يشرقون وهو قد استعمل في هذا الاسم من الاستعارة على طريق التشبيه ما لا يمكن أن يكون أبلغ منه في الدلالة على الحال التي تحدث لهم. فذلك أنّ الصبيان في ذلك الوقت يتزيّد لحمهم ويكون نموّهم أحسن وتكون ألوانهم وصورتهم أملح ويتزيّدون في القوّة وفي الذهن والفكر ويصيرون إلى هذه الحال دفعة حتّى يكون جمال من هو منهم مطبوع على الجمال في ذلك الوقت أنضر وأشرق».
وقد قال زوكسس هذا: «إنّ أبقراط يعني ‹بالأطفال› جميع الصبيان كما سمّاهم إيروفيلس أيضاً» وقد كتب في ذلك قولاً أنا حاكيه بلفظه وهو هذا: «وقد بيّن أبقراط في هذا القول أنّه يعني ‹بالأطفال› الصبيان إلى وقت الإنبات وليس يعني بهم المولودين إلى أن يمضي بهم خمس أو ستّ سنين كما قد يسمّي الآن أكثر الناس وقد كان يكفي في الدلالة على ذلك إيروفيلس أيضاً إذ يسمّي من هو
في هذا الحدّ من الصبيان ‹أطفالاً› في القول الذي قال فيه: ‹إنّ الأطفال لا يتولّد فيهم منى ولا لبن ولا طمث ولا حمل ولا صلع›. وذلك أنّه ليس يعني أنّ هذه الأشياء لا تحدث ولا تتولّد فيمن انتهت به السنّ إلى الحدّ الذي ذكرناه قبيل أعني منذ وقت الولاد إلى أن يمضي بالصبيّ مدّة يسيرة. وقد فهم عن إيروفيلس قوم من قوله هذا المعنى فدعاهم ذلك إلى أن صيّروه في حدّ من يهزأ به إذ كان إنّما وصف شيئاً يعلمه جميع الناس. وأحد من فهم عنه قوله على هذا المعنى قليماخس. وإيروفيلس كما قلت لم يعني بقوله أولائك لاكنّه إنّما عنى الصبيان إلى وقت الإنبات من قبل أنّ قوماً قد توهّموا أنّ تلك الأشياء قد تتولّد في الصبيان الذي هم مقاربون لهذا الحدّ». فهذا قول زوكسس.
وأمّا أنا فقد وصفت قبيل رأيي في الوجه الذي عليه ذكر أبقراط «الأطفال» وأنا معيد قولي في هذا الموضع أيضاً بأبلغ ممّا وصفته قبيل وأبين. فأقول إنّ علّة الصرع ربّما كانت بسبب سوء مزاج طبيعيّ إذا كان الدماغ رطباً رطوبة شديدة. وتقلّب تلك العلّة في تلك الحال باسم «الصبيّ». وقد دلّ على ذلك أبقراط نفسه أيضاً في كتابه في الماء والهواء والأماكن في قول كتبه فيه بهذا اللفظ: «ويعرض للصبيان تشنّج وربو وهما اللذان يظنّ بهما أنّهما يحدثان العلّة المعروفة في ‹الصبيّ› وأنّه المرض الجليل». ومن البيّن أنّه ينبغي أن يفهم من قول أبقراط في هذا الكلام «الصبيّ» فإنّه «المرض الجليل». وربّما حدثت هذه العلّة بالصبيان بسبب خطائهم في التدبير فيحتاج عند ذلك إلى العلاج الطبّيّ. فأمّا العلّة التي تعرض للصبيان
بسبب غلبة الرطوبة عليهم فإنّها تبتدئ بهم منذ أوّل الأمر منذ هم أطفال وتنقضي من غير علاج منّا عند انتقال السنّ. فقد يجب من ذلك أن تكون هذه العلّة إذ ابتدأت فحدثت بالصبيان لا في سنّهم الأولى ما داموا بعد أطفالاً لاكن بعد أن يترعرعوا فإنّها تدلّ على أنّ حدوثها بهم إنّما كان من خطائهم في التدبير أو عن سبب آخر من خارج. ولا ينبغي أن ينتظر بهم عند ذلك انتقالهم عن تلك السنّ لاكن يبادر فيعالج تلك الحال المستقمة التي حدثت بهم حتّى برئوا منها.
وفي هذا القول شيء يحتاج إلى بحث شديد إن فهمناه على أنّ فيه ذكر «الإشراق» على النسخة القديمة كما فهمه القوم الذين ينسبون أنفسهم إلى شيعة أبقراط وزوكسس. وهو أنّ هذا القول يصير على هذا المثال: إنّ «إشراق» الحرارة في «الأطفال» إذا «أنبتوا» قد «يحدث في بعضهم أصنافاً أخر من الانتقال» ويحدث مع ذلك أيضاً علّة «الكلى» التي وصفها أبقراط نفسه في القول الذي يتلو هذا. وإذ كان القول على هذا الطريق فقد خرج عنه ذكر الصرع أصلاً فيظهر بحسب هذا أنّ من كتب مكان «الإشراق» «الصرع» أو «الجمود» فقد أحسن لاكنّه لم يكن ينبغي لهم أن ينزلوا الأمر على أنّهم وجدوا هذا القول مكتوباً على 〈…〉 ينبغي لهم أن يذكروا كيف وجدوه ثمّ يقولون إنّ الأجود أن يكتب كما كتبوه هم ثمّ يفسّرونه بالتفسير الذي وصفناه.
وقد عمد قوم أيضاً إلى رباط من رباطات الكلام في هذا القول معناه بالعربيّة معنى «الواو» الزائدة فحذفوه من هذا القول وأرادوا بذلك أن يكون قولان متباينان ليس بينهما مشاركة يدلّان على معنيين مختلفين أحدهما يدلّ عليه دلالة كافية هذا القول: «إشراق الأطفال مع الإنبات يحدث في بعضهم أصنافاً أخر من الانتقال» والآخر يدلّ عليه هذا القول: «الوجع الثقيل يكون في الكلى إذا امتلؤوا من الطعام»
ثمّ يصلون بذلك ما يتلوه على أنّ أبقراط يصف فيه علّة الكلى وهو قد جعل ذلك ابتداء قول آخر سوى القول الأوّل إلّا أنّ العلّة علّة الصرع تنتقل في الصبيان إذا صاروا إلى حال الإنبات إلى هذه العلّة وذلك أنّا ليس نرى علّة الكلى تحدث في هذه السنّ كما قد نرى فيها من تولّد الحصى في المثانة فإنّ تولّد الحصى في المثانة في الصبيان أولى وأمّا علّة الكلى فإنّما تحدث بالكهول. وأنا كاتب في إثر هذا ما وصفه أبقراط من أمر علّة الكلى:
(٦) قال أبقراط: الوجع الثقيل يكون في الكلى إذا امتلؤوا من الطعام ويتقيّؤون بلغماً وإذا كثروا تقيّؤوا شيئاً زنجاريّاً أو سمّيّاً. ويخفّ ما كان بهم وأمّا الحلال ما بهم فيكون إذا استفرغوا من الطعام. ويرسب رمل أحمر ويبولون في بعض الأحوال بولاً دمويّاً. ويصيبهم خدر في الفخذ المحاذية لموضع العلّة. وليس تنفعهم الدعة لاكن تنفعهم الرياضة وألّا يتملّؤوا من الطعام وأن يسقى الأحداث منهم الخربق وأن يفصدوا من مأبض الركبة وأن ينقّوا بالأشياء المدرّة للبول وأن يستعمل ما يلطّف وما يليّن.
قال جالينوس: قد يمكن أن يفهم عنه من قوله «الوجع الثقيل» إمّا الوجع الثقيل الذي يحسّ صاحبه كأنّ شيئاً ثقيلاً موضوعاً في موضع الوجع ويمكن أن يفهم عنه من قوله «الوجع الثقيل» الوجع الصعب وذلك أنّ المعنيين جميعاً صحيحان
موجودان بالحقيقة يكونان في الكلى في وقتين مختلفين. وذلك أنّ أصحاب هذه العلّة في وقت تولّد الحصى ووقت نفوذه ينالهم من الوجع أصعبه وأشدّه وأمّا في سائر الأوقات فإنّهم إنّما يجدون الوجع كأنّ شيئاً ثقيلاً موضوعاً في موضع الكلى.
ومن ظنّ أنّ الحصى إنّما يتولّد في بطني الكليتين فإنّما يزعم أنّ صاحب هذه العلّة يناله الوجع في نفوذ الحصى في مجاري البول بين الكلى والمثانة ومن ظنّ أنّ تولّد الحصى يكون في نفس لحم الكلى فليس يزعم أنّ الوجع ينال صاحب هذه العلّة في نفوذ الحصى في تلك المجاري فقط لاكنّه قد يناله أيضاً في الوقت الذي يتولّد فيه الحصى في جرم الكلى وفي الوقت الذي ينفذ فيه إلى بطن الكليتين. وقد يصحّحون أنّ الحصى يتولّد في لحم الكلى بمنزلة ما يتولّد في مفاصل أصحاب أوجاع المفاصل شهادة يأتون بها من كتاب أبقراط في طبيعة الإنسان وتدبيره وهي قول قاله بهذا اللفظ: «من يرسب في بوله شبيه بالرمل أو حصى فإنّما أصابه أوّلاً خَراج عند العرق الغليظ ثمّ تقيّح ثمّ لمّا لم ينفجر ذلك الخَراج سريعاً تعقّدت تلك المدّة فصارت حجراً ويندفع ذلك الحجر إلى خارج من العروق مع البول 〈إلى〉 المثانة». فهذا هو قول أبقراط.
وليس بممتنع ولا مدفوع أن يكون تولّد الحصى في الكلى على الوجهين جميعاً أعني على هذا الوجه الذي ذكرته قبيل وعلى الوجه الذي ذكرته قبل ذلك بقليل وهو أن ينطبخ خلط غليظ لزج في مدّة طويلة ويجفّ فينعقد حتّى يصير بمنزلة
الحصى. وأمّا في سائر الأوقات فسدّة كانت في الكلى أو ورم يسير فإنّما يحسّون بثقل لا بوجع كالذي يحسّ أيضاً أصحاب علّة الكبد وذلك من قبل أنّ الكليتين والكبد إنّما في كلّ واحد منهما من العصب أقلّ القليل.
قال: وأشدّ ما تكون «الأوجاع في الكلى» في الأوقات التي يكون أصحابها «ممتلئين من الطعام». وقوله «الطعام» ينتظم معنيين فعلى أيّهما فهمت قوله هذا وجدته صحيحاً حقيقيّاً أعني إن فهمته على الأطعمة التي تؤكل التي يجتمع منها في البدن دم كثير وإن فهمته على فضول الغذاء التي تجتمع في الأمعاء. فإنّه ربّما قال «الطعام» وهو يعني به هذه الفضول كما قال في كتاب تدبير الأمراض الحادّة فإنّه قال: «إنّ من فيه طعاماً محتقناً إن أتت جشيشة الحسو ولم يستفرغ بطنه» فعلى ذلك ناله من ذلك ضرر شديد. فالوجع الذي يكون في الكلى من الطعام الذي يقال على هذا المعنى بسبب ضغط تلك الفضول للكلى وإثقالها إيّاها لكثرتها وثقلها فإنّه حين تنحدر تلك الفضول فتخرج بالبراز من أسفل سكن ويهدأ أصلاً. وأمّا الذي يكون في الكلى من كثرة الأخلاط التي تجتمع في العروق [و]إذا غاضت في الكلى فإنّك إن فصدت صاحبه لم ينحلّ عنه وجعه على المكان لكثافة جرم الكلى ولأنّ قوّة الأضمدة التي توضع على الموضع من خارج إذ كانت لا تصل إلى الكلى حتّى تمرّ بأجرام كثيرة تحول في ما بين الضماد والكلى تصل وقد ضعفت.
وليس الفصد فقط يحلّ عنه الوجع ويسكّنه لاكنّه قد يحلّه أيضاً استفراغ البطن من فوق وهذا هو عرض مشترك عامّ لأصحاب علّة الكلى ولأصحاب علّة القولنج.
وذلك أنّ كلّ واحد من الكلى والمعى الذي يسمّى «قولون» قد يشرك الآخر في علّته كثيراً لأنّ بينهما اتّصالاً بالصفاق المحيط بالبطن كلّه.
فيكون «القيء» في أوّل الأمر «بلغميّاً» وذلك أنّ هذا الخلط هو المتولّد في المعدة في أكثر الأمر بسبب كثرة «الأطعمة» ولا سيّما إن كانت غليظة مائلة إلى البلغم في طبيعتها. فإن دامت العلّة وتزيّدت فإنّه يحدث لصاحب هذه العلّة في معدته قيء زنجاريّ أو سمّيّ من قبل أنّ الدم يفسد بسبب الأوجاع أو السهر ولا سيّما إذا أصابته مع ذلك حمّى وامتنع من الطعام.
قال: «ويخفّ ما كان به» بعد القيء وإنّما يعني أنّ القيء يسكّن هيجان الوجع وليس يعني أنّ نفس العلّة تسكن عنه «إذا استفرغ من الطعام». وقد يمكن في هذا الموضع أيضاً أن يفهم قوله «الطعام» على المعنيين جميعاً وهذا أولى أن يفهم على ما في المعدة والأمعاء.
قال: «ويرسب» يعني في البول وذلك ممّا قد تراه يكون إن أنت فهمت عنه من قوله «أصفر مشبّع الصفرة» اللون الذي عليه الزرنيخ الأحمر. ولذلك قد قال قوم ممّن شاهد أعمال الطبّ وعاناها إنّه يرسب في أبوال أصحاب هذه العلّة ما يشبه الكرسنّة وقال آخرون إنّه يرسب فيها ما يشبه الزرنيخ الأحمر وربّما رسب فيها ما لونه بالحقيقة اللون الذي وصف وهو «الأصفر المشبّع الصفرة». واللونان الأوّلان قد نجدهما في أبوال أصحاب علل الكبد — وفي نسخة أخرى «علل الاستسقاء» — وأمّا اللون الثالث فيوجد في أبوال أصحاب علّة الكلى وكذلك إذا رسب في
البول ما لونه لون الرمل فقد تختلف ألوان ما يرسب في البول ويباين بعضها بعضاً بالكثرة والقلّة. وحدوثه يكون عن مادّة هي لا محالة غليظة لزجة إلّا أنّ الغلظ فيها أزيد من اللزوجة أو اللزوجة أكثر من الغلظ أو هما فيه متساويان.
فمتى كان تولّد الأجسام الشبيهة بالحجارة والحصى في الكلى من بلغم وحده لزج غليظ فإنّ لون تلك الأجسام يكون اللون المعروف «باللون الرماديّ» وهو شبيه بلون سائر الأجسام التي تنعقد وتجمد وتتحجّر التي قد تراها في مواضع كثيرة في المياه الجارية بالطبع أعني مياه الحمّات تجمد على الحجارة والحصى وتراها أيضاً في غير تلك المياه أعني في الأوعية التي يسخّن فيها الماء. وقد يمكن أن يحدث في حال من الأحوال مثل هذه الحصى في بدن الحيوان من رطوبة من جنس المدّة أو من رطوبة مختلطة من الرطوبة البلغميّة ومن الرطوبة القيحيّة كما قد يتولّد مثل ذلك في أصحاب علل المفاصل فإنّ طريق تولّد الحصى في المفاصل وفي الكلى طريق واحد بعينه.
فإن خالط البلغم الغليظ اللزج شيء من عكر الدم فإنّ لون ما يرسب في البول بحسب غلبة ما يغلب على المادّة التي تتولّد عنها. فربّما كان كأنّه بين الصفرة والبياض أو بين الحمرة الناصعة وبين البياض أو بين الحمرة القانئة وبين البياض وربّما كان «أصفر مشبّع الصفرة». وقد يعين على اختلاف هذه الألوان لون الدم أيضاً وذلك أنّ الدم ليس يكون دائماً في الناس باللون الأحمر القانئ على الصحّة لاكنّه ربّما كان مائلاً إلى السواد وربّما كان مائلاً إلى اللون الأحمر الناصع أو إلى الصفرة المشبّعة. وقد ينبغي أن تفهم عنه إمّا أن يكون يعني بقوله «أصفر مشبّع الصفرة» جميع هذه الأصناف من الألوان التي ذكرتها قبيل خلا الرماديّة عندما قال: «إنّه يرسب رمل أصفر مشبّع الصفرة» وإمّا أن تفهم أنّ الاستثناء الذي استثناه
في البول الدمويّ قد عمّ به مع «البول الدمويّ» «الرمل الأصفر» أعني قوله «في بعض الأحوال». وذلك أنّه كما يقولون «في بعض الأحوال» «بولاً دمويّاً» وليس يكون ذلك في جميع الأحوال ولا في جميع من به علّة الكلى كذلك قد يبولون «في بعض الأحوال» «رملاً أصفر مشبّع الصفرة» حتّى تراه «يرسب» في البول.
فقد بيّنت في كتابي في القوى الطبيعيّة أنّ الكليتين تجتذبان إليهما ممّا يخالط الدم في العروق الشيء المائيّ الرقيق. فإذا اتّسعت المجاري التي تصفّي في هذا الفضل حتّى تنحدر فيها إلى بطن الكليتين بعد مع ذلك الفضل هو الرقيق المائيّ شيء هو أغلظ منه فإذا سخن ذلك الفضل الغليظ في بطن الكلية حتّى ينعقد فيتحجّر فإنّ القوّة الدافعة التي في الكلية إن دفعته كلّه مع البول رسب فيه شبيه بالرمل. فإن كان ذلك الفضل الذي انعقد وتحجّر قد لصق ببطن الكلية لصوقاً يعسر معه تبرّؤه منها فإنّه إذا وقع عليه شيء آخر شبيه به ممّا ينحدر من العرق المعروف «بالأجوف» تزيّد عظمه. وذلك أنّ الشيء الذي ينحدر يتلبّس على ذلك الذي انعقد أوّلاً ويلصق به ولا يزال ذلك يكون على هذا المثال حتّى يعظم الحصى. فإن اتّسع المدخل إلى الكلية من العرق المعروف «بالأجوف» وكان الدم رقيقاً وليس بغليظ ولا لزج فإنّ البول يكون عند ذلك «دمويّاً».
وأمّا الوجع مع «الخدر» الذي ينحدر إلى الرجل فإنّما ينبغي أن تتوهّم أنّه يكون بسبب المشاركة بين الكلى وبين الرجلين في العرقين المنحدرين على الصلب وهما
العرق المعروف «بالأجوف» والعرق الضارب الأعظم. وذلك أنّه تنشعب من هذين العرقين شعبتان من أعظم شعبها فتصيران إلى الكليتين ثمّ تنشعب بعدهما من ذينك العرقين شعب ليست بالعظام في القطن ثمّ إنّ كلّ واحد من ذينك العرقين ينقسم قسمين فيصير كلّ واحد من قسميه إلى كلّ واحدة من الرجلين فينقسم في جميع أجزائهما. فأمّا من زعم أنّ المشاركة بين الكلى وبين الرجلين إنّما هي بمجاري البول بين الكلى والمثانة أو بأغشيته أو بعصب أو بالصفاق فليس معه علم أصلاً من التشريح.
وإلى هذا الموضع من القول عدّد أبقراط الأعراض التي تعرض لأصحاب علّة الكلى ثمّ إنّه من بعد وصف علاجهم فيما يتلو من قوله فقال: «وليس تنفعهم الدعة لاكن تنفعهم الرياضة وألّا يمتلئوا من الطعام وأن يسقى الشابّ منهم الخربق وأن يفصدوا من مأبض الركبة وأن ينقّوا بالأشياء المدرّة للبول وأن يستعمل ما يلطّف ويليّن». إنّه جعل هذا القول رسماً وتذكرة له بإيجاز في مداواة علّة الكلى فوصف أشياء بعضها عامّيّة مشتركة لكلّ سنّ ولكلّ سجيّة من سجيّات البدن ووصف أشياء خاصّ بها الشباب الأقوياء.
والأشياء العامّيّة المشتركة هي الأشياء التي وصفها أوّلاً ومنها ترك «الدعة» وإنّما يعني «بالدعة» السكون والقرار فذكر أنّ «الدعة لا تنفعهم». وممّا وصفه ممّا يعمّهم منفعة «الرياضة» فقد ترى في «الرياضة أنّها تنفعهم» وذلك أنّها تستفرغ الفضل من البدن وتنضج الرطوبة البلغميّة الغليظة النيّة «وتلطّفها» وتقوّي أعضاء
البدن كلّها. وقد ينبغي لك أن تفهم عنه في هذا الموضع أنّه ليس يعني الرياضة الشديدة لا محالة التي تكون بركوب الخيل وبالمحاربة [و]بالسلاح وبالكراع أو حفر الأرض أو بفعل شيء غير ذلك من الأفعال التي تشبه لاكنّه يعني «بالرياضة» على طريق الإطلاق كلّ حركة تبلغ من البدن أن تتعبه بحسب سنّ صاحب العلّة وسجيّة بدنه وقوّته. ووصف أيضاً تجنّب «الامتلاء من الطعام» على أنّه عامّ في كلّ سنّ وفي كلّ حال من أحوال البدن.
ثمّ أتى بعد ذلك بوصايا خصّ بها الشباب فذكر أنّها «تنفعهم» فقال: «وأن يسقى الأحداث منهم الخربق وأن يفصدوا من مأبض الركبة». وإنّما ينبغي أن «يسقى الخربق» من كانت علّته قد طالت جدّاً وأزمنت حتّى احتاجت في المثل إلى ما يقلعها فإنّما يستعمل الخربق في أمثال هذه من العلل. فأمّا الفصد فينبغي أن يستعمل في من كان الدم قد اجتمع منه في عروقه شيء كثير أو غليظ. فإن احتاج بعض من به هذه العلّة إلى هذين العلاجين جميعاً فالأمر فيه بيّن أنّه ينبغي أن يبدأ في علاجه بالفصد. وقد علمت أنّ أعضاء البدن التي فوق الكبد إنّما تحتاج إلى الفصد من مأبض اليد فأمّا الأعضاء التي دون الكبد فهي تحتاج إلى الفصد من الرجلين إمّا أن تفصد العروق من مأبض الركبة أو من الصافن لا محالة.
فأمّا قوله بعد هذا «وأن ينقّوا بالأشياء المدرّة للبول» فهو نافع لجميعهم. ولم يطلق قوله فيقول إنّه ينبغي أن تستعمل «الأشياء المدرّة للبول» لاكنّه أضاف إلى ذلك قوله «ينقّون» فأشار بذلك إلى الوجه الذي ينتفع به وهو أنّها تنقّي الأشياء الغليظة اللزجة الراسخة اللاصقة في الكلى ثمّ لا تقتصر على تنقية تلك الأشياء حتّى تنقّي أيضاً الأشياء الجارية مع الدم في العروق على خلاف المجرى الطبيعيّ.
فأمّا ما قاله في آخر قوله من أنّه ينبغي «أن يستعمل ما يلطّف ويليّن» فنافع لجميع أصحاب علّة الكلى من قصدنا به منهم أن نهيّئ بدنه ونعدّه لتناول «الخربق» ومن لم يحتج فيه إلى ذلك واقتصرنا فيه على علاجه بالفصد أو بعد استعمال هذين العلاجين. وقوله «ما يلطّف» إنّما عنى به ما يلطّف الأخلاط فإنّ الأخلاط هي التي تحتاج إلى أن تلطّف وترقّق أمّا قوله «ما يليّن» فإنّما عنى به ما يليّن الأصليّة فإنّ هذين الأمرين جميعاً نافعان لمن هو مزمع على شراب الخربق حتّى تكون تنقيتها 〈…〉 وذلك أنّك 〈…〉 من غير أن تكون قد تقدّمت فلطّفت الأخلاط ورقّقتها وليّنت الأجسام التي بها يكون القيء حتّى تصيّرها من اللين بحال مؤاتية لقبول التمدّد والتعتعة في القيء كنّا قد حملناه على حال لا يؤمن معها الاختناق لغلظ الأخلاط وكان غير بعيد من أن يصيبه على القيء إمّا تشنّج في العصب لصلابة الأجسام وقلّة مؤاتاتها لتعتعة القيء أو تنصدع فيه بعض العروق. ومن غير أيضاً إسقاء صاحب هذه العلّة الخربق فإنّ من أفضل الأمور له أن
تكون الأخلاط فيه رقيقة وأن يكون جرم الكلى ليّناً ومؤاتياً لنفوذ تلك الأخلاط فيه. وليس يتولّد الحصى في الكلى إن قصد قصد هذين البابين فأحكمهما وحفظهما.
(٧) قال أبقراط: علّة النساء تدوم بمن قد غلبت عليه منهنّ المائيّة مدّة طويلة وإذا لم تجئ بسرعة تربّلت.
قال جالينوس: إنّه فهم عنه قوم من قوله «من قد غلبت عليه منهنّ المائيّة» أنّه يعني النساء اللواتي أبدانهنّ مستعدّة للوقوع في علّة الاستسقاء وفهم عنه قوم من قوله ذلك أنّه يعني بالنساء اللواتي دمهنّ بالطبع رقيق مائيّ. وقد يمكن أن يفهم ما وصف في هذا القول على هذين المعنيين جميعاً إلّا أنّ الأولى أن يفهمه على النساء اللواتي دمهنّ بالطبع رقيق من غير أن يكون في أبدانهنّ حال أخرى من أحوال السقم.
فإنّ الطمث وهو الذي عناه بقوله «علّة النساء» «يدوم» بمن كانت حاله هذه الحال من النساء «مدّة طويلة». ويمكن أيضاً أن يفهم قوله «تدوم مدّة طويلة» على معنيين أحدهما على مدّة طويلة من الأيّام التي يجري فيها الطمث من هؤلاء النساء والمعنى الآخر على مدّة طويلة من السنّ فيهنّ. فإن فهمناه المدّة الطويلة من الأيّام دلّ قوله أنّ هؤلاء النساء يجري منهنّ الطمث في عدد من الأيّام 〈أكثر من الأيّام〉 التي يجري فيها الطمث من سائر النساء وإن فهمنا المدّة الطويلة من السنّ دلّ قوله أنّ الطمث يدوم بمن تلك حاله من النساء عدداً من السنين أكثر من العدد الذي يدوم في سائر النساء.
فإنّه قد يجتمع بالحقيقة فيمن تلك حاله من النساء دم كثير رقيق كما قد يجتمع فيمن حاله ضدّ حالهنّ دم غليظ يسير وحال النساء اللواتي ذكرن أوّلاً أنّهنّ
بيض يغلب عليهنّ لين البدن فأمّا النساء اللواتي يتولّد في أبدانهنّ الدم السوداويّ فالغالب على ألوانهنّ الأدمة وعلى لحومهنّ الصلابة والقضف. والأمر فيهنّ أيضاً بيّن أنّ مزاج كلّ واحد من الفريقين منهنّ منذ أوّل الأمر مضادّ لمزاج الآخر. وفي ذلك أنّ النساء اللواتي وصفهنّ هذا القول بأنّ «المائيّة تغلب عليهنّ» مزاجهنّ منذ أوّل الأمر مزاج أميل عن الاعتدال إلى الرطوبة والبرودة وأمّا النساء اللواتي حالهنّ مضادّة لحال أولائك فمزاجهنّ منذ أوّل الأمر أميل إلى اليبس والحرارة.
فإن كانت «غلبة المائيّة» على النساء إنّما هي من غلبة سقم لم يكن انحدار الطمث في جميعهنّ في مدّة طويلة من الأيّام. وذلك أنّه ربّما احتبس الطمث فكان احتباسه هو سبب سقمهنّ واحتباس الطمث أيضاً إنّما يكون من قبل سدّة تكون في أفواه العروق التي تفضي إلى الرحم ولغلظ الدم. ولذلك قد ألحق قوم ممّن قال إنّ هذا القول إنّما قيل فيمن «تغلب عليه من النساء المائيّة» من علّة سقم فيما بين قوله 〈…〉 «علّة النساء» ينبغي أن «تدوم بمن قد غلبت عليهنّ المائيّة مدّة طويلة» حتّى يكون مخرج هذا القول مخرج مشورة وتشديد لصواب العلاج لاقتصاص ما يعرض للنساء.
وقالوا إنّ ممّا يوافق هذا ما قاله أيضاً في آخر هذا القول: «إنّه إذا لم يجئ بسرعة تربّلت المرأة». وذلك أنّ أبقراط يريد أن تكون المرأة هي التي هذه حالها كما يجري منها الطمث أيّاماً كثيرة كذلك يكون الطمث فيها في وقت قليل وذلك أنّ الطمث إذا أبطأ عنها حدثت بها أورام من جنس التربّل وذلك بعينه يعرض لمن كان دمه بالطبع من النساء مائيّاً. فإنّ اللحم من المرأة التي هذه حالها أيضاً تغلب عليه المائيّة إذا لم يجر الطمث في أوقاته.
(٨) قال أبقراط: الأوجاع التي كانت بقرانون ما كان منها قديماً فإنّه كان بارداً وما كان منها حديثاً فإنّه كان حارّاً وكان أكثرها من دم وكان ما كان منها في الورك بارداً.
قال جالينوس: قد يتبيّن من هذا القول أيضاً أنّ أبقراط إنّما أثبته لنفسه للتذكرة بإيجاز واختصار ولذلك فيه بعض الغموضة. وذلك أنّه ليس يتبيّن من قوله هل يعني أنّها حدثت «بقرانون أوجاع» فقط وكان حدوثها إمّا في البطن أو في غيره من الأعضاء وأنّها يعني «بالأوجاع» العلل المؤلمة.
وأمّا قوله «ما كان من الأوجاع قديماً فإنّه كان بارداً وما كان منها حديثاً فإنّه كان حارّاً» فإنّه وإن كان قد يظنّ أنّه قول واضح بيّن فإنّ فيه أيضاً بعض الغموض. وذلك أنّه يمكن أن يكون عنى «بالوجع القديم» الوجع الذي كان في المتقدّم ويمكن أن يكون عنى به الوجع المزمن المتقادم †القـ…† وكذلك «الوجع الحديث» يمكن أن يكون عنى به الوجع الحادث في ذلك الوقت ويمكن أن يكون عنى به الوجع الذي يسكن سريعاً. ويمكن أن يكون عنى «بالوجع البارد» الوجع الذي يحسّ فيه صاحبه ببرد ويمكن أن يكون عنى به الوجع البارد الذي تسكّنه الأشياء المسخنة. وكذلك «الوجع الحارّ» وقد يمكن أن يكون عنى به الوجع الذي يحسّ صاحبه معه بحرارة ويمكن أن يكون عنى به الوجع الذي تسكّنه الأشياء الباردة.
وقد قال قوم إنّه يعني «بالوجع البارد» الوجع اليسير ويعني «بالوجع الحارّ» الوجع الشديد. وما سلكوا في فهم هذين المعنيين عن هذين الاثنين السبيل التي
جرت عليها في عادة اليونانيّين في استعمالها. ولمّا كنّا ليس نعلم في أيّ وقت من أوقات السنة ذكر أبقراط أنّه كانت هذه «الأوجاع» فلسنا نقدر أن نعلم علماً يقيناً متى حدثت أم كيف حدثت أم كم لبثت تلك «الأوجاع».
وأمّا قوله «وكان أكثرها من دم» فعنى به أنّ الأوجاع الحديثة كانت تحدث في أكثر الأمر عن دم حارّ كثير. ولمّا لم يذكر الخلط الذي كانت عنه «الأوجاع القديمة» فقد أشار بذلك إلى أنّ تلك الأوجاع كانت عن خلط آخر بارد. وذكر أنّ الأوجاع التي كانت «في الورك كانت باردة» ويمكن أن يكون عنى بذلك العلل المؤلمة ويمكن أن يكون عنى به نفس الوجع. والأمر في هذه بيّن أيضاً أنّ الخلط الفاعل لها خلط بارد.
وإنّ في أمر الكثير من المفسّرين تعجّب أنّهم يقصدون إلى أشباه هذه من الأقاويل التي ليس لأحد أن يستفيد منها شيئاً صحيحاً يثق به فيكتبون فيه أشياء كثيرة لا يأتون على شيء منها ببرهان حتّى إذا صاروا إلى الأقاويل التي يمكن فيها البرهان ويستفاد منها علم ينتفع به إمّا لم يكتبوا في شرحها شيئاً وإمّا كتبوا شيئاً يسيراً لم يأتوا فيه ببرهان كأنّه أمر يأمرون به.
(٩) قال أبقراط: ما كان فيه نافض شديد فليس يكاد يسكن حتّى يقرب المنتهى.
قال جالينوس: أمّا القدماء من المفسّرين فعلى هذه النسخة يعرفون هذا القول يكتب. فأمّا الحدث منهم فغيّروا هذه النسخة 〈و〉أرادوا بذلك الإيضاح فجعلوها على هذا المثال: «إذا كان النافض شديداً فإنّه ليس يسكن حتّى يقرب المنتهى» ويذهبون إلى أنّ المعنى في هذا القول أنّ «النافض الشديد» الذي يعرض للمرضى «لا يكاد يسكن» في وقت من أوقات المرض عند وقت المنتهى فإنّه إذا
دنا وقت المنتهى سكن. وأمّا النسخة الأولى فالمعنى فيها أنّ ما كان من العلل فيه «نافض شديد» فإنّه ليس «يسكن» قبل وقت «المنتهى».
وقد قال قوم إنّه يعني «بالمنتهى» منتهى المرض كلّه وقد قال قوم إنّه يعني منتهى نوائب الحمّى الجزئيّة كأنّ النافض إذا كان شديداً لا يسكن دون أن يقرب من وقت منتهى نوبة الحمّى. وقد نرى ذلك يعرض لبعض الأعلّاء ونسمّي ذلك النافض «النافض الذي لا يسخن» وما ذلك النافض الذي هذه حاله بالتشديد لاكنّه قد يمكن أن يكون إنّما عنى أنّه شديد في قوّته. وذلك أنّ هذا النافض أخبث كثيراً وأردأ من النافض الذي يأخذه بشدّة شديدة لاكنّه يسكن سريعاً.
فإن أنت فهمت من قوله «المنتهى» منتهى المرض كلّه فإنّك تجد هذا القول ممّا ينتفع به خاصّة في معرفة أمر حمّى الربع. وذلك أنّ نوائب هذه الحمّى إذا كانت مع «نافض شديد» فما دام ذلك النافض لم ينتقص شيئاً أصلاً فليس يمكن أن يبلغ ذلك المرض منتهاه. وإذا كان ذلك كذلك فأحرى أن لا يُرجا له ما دامت حاله تلك الحال تنقُّص وانحطاط ولم يكن فيما تولّد حاله من الربع أن ينتهي منتهاها ويتنقّص دون أن يخفّ النافض. فيصير هذا القول يذهب مذهب تقدمة المعرفة للحمّيات التي يكون فيها نافض شديد ويدلّ على أنّه لم يمكن أن تنقص تلك الحمّيات دون أن يسكن ذلك النافض ويهدأ وإنّ ذلك إنّما يكون بالقرب من وقت منتهى المرض.
وهذا النافض إنّما يعرض من البلغم القويّ البرودة الذي يسمّى «الزجاجيّ» ومن الخلط السوداويّ إلّا أنّ النافض الذي يكون عن البلغم الشديد البرد إنّما هو النافض الذي تعسر سخونة البدن معه وليس هو النافض الشديد القويّ. وأمّا النافض الحادث عن الخلط السوداويّ فربّما جمع الأمرين جميعاً وربّما كان منه أحدهما إلّا أنّ هذا الخلط إنّما تكون نوائب الحمّى معه ربعاً وأمّا البلغم الزجاجيّ فنوائب الحمّى الحادثة منه تكون في كلّ يوم.
ومَا شرح المفسّرون شيئاً من هذا لاكنّهم يكثرون في الأقاويل التي لا يفيدون بها المتعلّمين شيئاً ويطنبون غاية الإطناب فيها ويقصرون في تخلّص معاني الأقاويل التي يستفاد منها ما ينتفع به. ومن ذلك أنّ القول الذي بعد هذا قول من أعظم الأقاويل عناء في الطبّ وقد يفتضح فيه المفسّرون وينكشف من أمرهم أنّهم ليس يحسبون شيئاً من أبواب العلم التي لها قدر في الطبّ.
(١٠) قال أبقراط: يكون من قبل النافض احتباس البول بعد أن يكون محموداً ولا يكون البطن مستطلقاً ويكون النوم صحيحاً. ولعلّ ما يعين على ذلك طريق الحمّى ولعلّ من ذلك أيضاً ما كان عن إعياء.
قال جالينوس: إنّي ما أدري ما أقول إذا رأيت المفسّرين لهذا الكتاب قد جهلوا باباً من الطبّ من أبلغ أبوابه نفعاً ممّا قد يظهر عياناً مراراً لا يحصى عددها كثرة في المرضى. وأنا وإن كنت أعجب من جميعهم في هذا الباب فإنّ تعجّبي من سابنوس وروفس الذي من أهل أفسس أشدّ وأوكد إذ كان هذان الرجلان قد نظرا في كتب أبقراط نظر عناية. فأنا أعجب منهما وحقّ لي أن أعجب إن كانا لم يريا مراراً
كثيرة هذا العارض الذي وصفه أبقراط وهو «احتباس بول» يتقدّم «نافضاً» يكون به بحران.
وإنّما ذكر هذا أبقراط ليفيدنا به علماً يتقدّم فيعلم به أمر النافض الذي يكون به بحران قبل أن يكون. وذلك أنّه متى كانت الحمّى حادّة ورأيت جميع الدلائل فيها تدلّ على السلامة ورجوت أن يأتي بحران قريب ثمّ رأيت «البول قد احتبس» فاعلم أنّه سيحدث «نافض» يتلوه البحران لا محالة. فإن كان المريض مع ذلك قلقاً في الليلة المتقدّمة وصعبت عليه علّته وكان ذلك اليوم يوم من أيّام البحران قدرت أن تتقدّم فيه بثقة واستبصار أزيد فتنذر بذلك النافض الذي يكون به البحران. فإن كان مع ذلك الدليل الذي يتبيّن من نبض العرق وقد وصفته لك في كتابي في النبض يدلّك على ذلك فقد يصحّ عند ذلك مع حدوث ذلك النافض أن يكون قويّاً شديداً.
فقول أبقراط «بعد أن يكون محموداً» قد يجوز أن يكون عنى به أمر المرض حتّى يكون البول أو غيره من سائر دلائله دلائل حسنة محمودة فإنّه يبلغ من قوّة الدلائل في البول في الحمّيات الحادّة أن يستغني بها عن غيرها ويقتصر على الثقة بها مع ذلك فإذا التأم إليها مع ذلك قوّة سائر الدلائل كانت تقدمة المعرفة بما هو كائن أصحّ وأوكد وأبعد من أن يقع فيها الخلل وأحرى بأن تكون تصحّ دائماً.
وقد يكون «احتباس البول» عند «استطلاق البطن» وذلك أنّ استطلاق البطن يدلّ على الرطوبة المائيّة قد مالت إلى تلك الناحية. وقد علمت أنّ الرطوبة المائيّة إذا كثرت فاستفراغها يكون بثلاثة أنحاء إمّا بالاختلاف وإمّا بالبول وإمّا بالعرق. فإن اختلف البطن اختلافاً كثيراً فليس ينبغي أن يوثق «باحتباس البول» في الدلالة على
«النافض» وإن كان البطن أيضاً معتقلاً مع احتباس البول ثمّ علمت من أمر المرض أنّ البحران فيه قريب فقد يجب ضرورة أن يكون يصيب ذلك المريض نافض ثمّ يتلوه عرق.
وقد بقي أن ننظر ما معنى قوله «ويكون النوم صحيحاً». فإنّا إن فهمنا عنه من قوله هذا أنّه أراد به ذكر شيء من الدلائل المحمودة فوصف منها أعظمها في تلك الحال كان ذلك موافقاً لقوله «بعد أن يكون محموداً» فيكون كأنّه جعل هذا مثالاً ليستدلّ به على سلامة المرض. وإن فهمنا عنه أنّ ذلك دليل على «النافض» الحادث بعد فليس ينبغي أن نتوهّم ذلك توهّماً مطلقاً. وذلك أنّه ربّما كانت الليلة التي تتقدّم النافض والبحران الذي يتلوه ليلة صعبة يقلق فيها المريض ويسهر وإذا كان ذلك صحّح وأكّد عندك تقدمة المعرفة بالنافض الكائن بعد. وربّما اتّفق في الندرة أن تكون تلك الليلة ليلة خفّ من المرض ويكون فيها نوم محمود وإذا كان ذلك لم يظهر في المريض النبض الذي يدلّ على النافض لاكن يظهر فيه النبض الذي يدلّ على النفض. وقد بلغت في صفة ذلك كلّه ما يكتفي به في كتابي في النبض.
وأبقراط يأمرك أن تنظر مع ما تنظر فيه في «طريق تلك الحمّى» يعني بذلك أن تنظر هل هي حارّة محرقة والغالب فيها المرار أم هي من سائر الحمّيات الأخر. وذلك أنّك قد علمت أنّ النافض الذي يكون به البحران الحادث في الحمّيات الحادّة خاصّة في المحرقة منها إنّما يكون من مرّة صفراء تضرّ بأعضاء حسّاسة في مسلكها إلى ظاهر البدن. ولذلك صارت الحمّيات أيضاً التي تكون من «إعياء» إذا كان المرار يغلب فيها أكثر من غلبته في سائر الحمّيات تعينك على تقدمة المعرفة بما سيكون من ذلك النافض والعرق.
وهذا ممّا ينتفع به من أمر الأسباب البادئة في تقدمة المعرفة وذكر أبقراط واحداً من تلك الأسباب فجعله مثالاً وإذا جرّبت الأمر فيه في سائر الأسباب التي هي نظائر لهذا السبب انتفعت به في جميع تلك الأسباب البادئة التي تميل البدن إلى غلبة المرار عليه. وتلك الأسباب هي التعرّض للشمس الحارّة والسهر والاهتمام والاغتمام والغضب والإقلال من الغذاء والإكثار من الأطعمة المولّدة للمرار. وأوّل تعرّفك لطريق الحمّى وأصحّه يكون ممّا ظهر في البدن كما قد وصفت لك في كتابي في أصناف الحمّيات ثمّ من بعد ذلك قد ينتفع بالاستدلال من الأسباب البادئة لتتأكّد عندك صحّة ما وجدت فتعلم انتفاعك بذلك. فمن العجب أن يكون هذا الباب من عظيم الدرك على ما هو عليه ويكون قد ذهب على المفسّرين فلم يقفوا عليه.
(١١) قال أبقراط: الخراجات لا تكاد تحدث بمن يصيبه النافض.
قال جالينوس: قلّ ما «تحدث الخراجات» بمن تصيبه الحمّى مع «نافض» كالذي يكون عليه في الربع والغبّ. وذلك أنّ العرق في سائر أنواع الانتفاض التي تكون في وقت انحطاط نوائب هذه الحمّيات سيفرغ ما في البدن من الفضل فليس يحتاج إلى الطبيعة إلى أن تحدث الخراج دون أن يكون الفضل من الأخلاط المولّدة للمرض كثير جدّاً.
(١٢) قال أبقراط: توثّب الرجلين قد يكون قبل المرض كالذي عرض للمسافر قبل مرضه ويكون مع المرض مثل الذي عرض لآخر وخليق أن يكون ذلك كان لأنّ الخراج خرج به في مفاصله من إعياء ولذلك كان توثّب الرجلين.
قال جالينوس: ما نصل أن نعلم علماً شافياً هل يعني «بالتوثّب» الضعف الذي يكون معه هزال الرجلين في جملتها. وذلك أنّا إذا نظرنا في المثال الأوّل من المثالين اللذين ذكر أمكننا بحسبه أن نفهم عنه من قوله «التوثّب» الضعف الذي يكون مع هزال وإذا نظرنا في المثال الثاني الذي قال فيه «وخليق أن يكون ذلك كان لأنّ الخراج خرج به في مفاصله» لم يجب أن نفهم من قوله هزالاً لاكن وجب أن نفهم ضعفاً مطلقاً. وقد يمكن بسبب الضعف وحده من غير الهزال أن تسترخي وتخور الأفعال التي تفعل في الرجلين وأن يقبل مع ذلك حدوث الخراج بها.
فأمّا ما ألحقه في آخر قوله حين قال: «ولذلك كان توثّب الرجلين» فقد كان قاله أيضاً في أوّل قوله هذا ولذلك جعله قوم ابتداء القول الذي يتلو هذا بعد أن حذفوا منه أوّلاً قوله «ولذلك كان» وسوّوا أيضاً مع ذلك أشياء من القول الثاني. وأنا مذكّر في هذا الموضع بشئ قد قلته منذ أوّل قولي وهو أنّ الأقاويل التي في هذه المقالة قد كتبت على أنحاء شتّى كما كتب هذا القول وفرق بعضها من بعض على غير الصواب وجمع أيضاً بعضها إلى بعض على غير ما ينبغي. فإن ذهبت أذكرها كلّها وأكشف مع ذلك خطاء من أخطأ فيها طال كلامي فيها طولاً مجاوز الحدّ.
(١٣) قال أبقراط: الخَراجات ما كان منها ورمه إلى خارج وما كان منها محدّداً وما كان منها مرؤوساً وما كان منها نضيجاً مستوياً وليس ما حوله صلباً وما كان منها مائلاً إلى أسفل وما لم يكن منها ذا رأسين فهو أحمد وما كان على غاية المضادّة فهو أردؤها كلّها.
قال جالينوس: إنّ اسم «الخَراجات» في لسان اليونانيّين إنّما اشتقّوه لها من اسم ما ينبت من الأرض ويعنون بذلك الاسم جميع ما غلظ حتّى يخرج عن الحدّ الطبيعيّ إلى أن يصير في حدّ الأورام. وهذه الأورام تحدث في أكثر من الأمر من غير سبب من خارج وأولى الأورام بذلك هو عندهم ما كان ميله منها «إلى خارج». ولمّا لم يجدوا اسماً غير هذا لما كان منها عريضاً يسير النتوء عن الحدّ الطبيعيّ فإنّهم قد يسمّونه أيضاً كثيراً بذلك الاسم كما فعل أبقراط في هذا القول. فقال: «إنّ أحمد الخَراجات ما كان ورمه منها إلى خارج» يعني ما كان ورمه ورماً ذا قدر يعتريه أو ما كان تزيّده ليس يكون إلى داخل لاكنّه يكون إلى خارج كما قال في كتاب تقدمة المعرفة: «إنّ ما كان منها مائلاً إلى خارج فأحمدها أشدّها ميلاً إلى خارج وما كان منها محدّد الرأس» «وما كان منها ينفجر إلى داخل فأحمدها ما لم يلابس أصلاً شيئاً من ظاهر البدن». وذلك أنّ الأجود أن تكون تلك الأورام مائلة إلى خارج فإن كانت مائلة إلى داخل فالأجود في هذه أيضاً أن يكون ميلها كلّه إلى داخل. وحدوث هذه الخَراجات يكون في مراقّ البطن وفي الصدر وذلك أنّه تستبطن هذه المواضع فضاء خالٍ يحتمل قبول ذلك الغلظ المجاوز للحدّ الطبيعيّ من الخَراجات التي تميل إلى داخل.
وأمّا «الخَراجات التي يكون ورمها إلى خارج فأحمدها ما كان محدّداً مرؤوساً». فإنّ ما كانت هذه حاله منها فهو أحمد من العريض منها لأنّ المحدّد الرأس إنّما يكون عن أخلاط أسخن وأرقّ في قوامها ولذلك يتقيّح سريعاً. وذلك أنّ الخَراجات التي تحدث عن أخلاط غليظة لزجة إذا كانت تلك الأخلاط إلى البرد أميل فإنّها تكون عريضة ويكون نضجها عسراً بطيئاً وتكون إلى العفونة أقرب منها إلى النضج على طول المدّة.
وقد نجده مع هذه الخَراجات التي وصفنا «ما كان منها أيضاً تقيّحه مستوياً». وذلك أنّه إذا كان البعض منها قد تقيّح والباقي كلّه لم يتقيّح بعد فأوّل ما يذمّ منها هذا الذي ذكرناه من أمرها أنّها أطول مدّة وأبطأ نضجاً من تلك الأخر التي تتقيّح بجملتها دفعة والثاني ما يذمّ منها وينسب فيه إلى الرداءة أنّه يعسر علاجها. وذلك أنّ المواضع التي قد تقيّحت منها ما تحتاج من الأدوية إلى غير ما تحتاج إليه المواضع التي لم تتقيّح.
وما كان منها أيضاً «ليس ما حوله صلباً» فهو أحمد ممّا كان حوله صلباً. ويعني «بما حوله صلب» ما كان وسطه ليّناً متقيّحاً وما يستدير حول ذلك فهو صلب بطيء التقيّح أو لا يمكن تقيّحه.
وقد يحمد أيضاً ما ميله من الخَراجات «إلى أسفل» ويعني بها ما كان رأسه المتقيّح منها من الناحية السفلى وذلك أنّها إذا تقيّحت من أسفل جرى ما فيها فخرج بسهولة. وممّا لا ينبغي أن يذهب عليك من أمر هذه الخَراجات أنّها من الخَراجات المختلفة فإنّ في هذه الخَراجات شيئاً محموداً وشيئاً مذموماً. فأمّا ما كان منها تقيّحه مستوياً وكان رأسه في الناحية السفلى منها فهو أحمدها وما كان أيضاً من الخَراجات إنّما له رأس واحد فهو أحمد ممّا كان منها ما له رأسان. وذلك أنّك تجد ما بين الرأسين منها غير سليم من العلّة لاكنّه صلب غير متقيّح. ومن البيّن أنّ من الخَراجات التي هي على أحوال يضادّ بعضها بعضاً كما وصف ما كان منها أشدّ بعداً بعضه عن بعض في صورته وهيئته فعلى حسب ذلك الفرق بين بعضها وبعض في قوامها وسجيّاتها. وذلك أنّ فيما بين هذه الأصناف عرضاً كثيراً وإذا كان كذلك فقد يجب ضرورة أن يكون شيء منها متوسّطاً فيما بين الضدّين ويكون بعضها متباعداً عن الحال الوسطى ويختلف في ذلك البعد فيكون بعضها أكثر بعداً وبعضها أقلّ بعداً.
وإنّا نمثّل ذلك في الصلب واللين منها لنجعل ذلك المثال الواحد دستوراً يكتفي به في جميعها. فأقول إنّ الصلب أردأ من الليّن ومن الصلب أيضاً ما كان أصلب فبحسب صلابته تكون رداءته وما كان من ذلك أزيد صلابة فبحسب فضل صلابته يكون فضل رداءته وما كان في غاية الصلابة فهو في غاية الرداءة. وكذلك اللين الذي لينه لين يسير فإنّه محمود حمداً يسيراً وأمّا ما كان لينه ليناً تامّاً فإنّ
جودته أيضاً جودة تامّة. فمثل ذلك في هذين الضدّين فانقله إلى جميع الأضداد وافهمه فيها.
(١٤) قال أبقراط: السبعيّ يكون في الخريف وألم الفؤاد والاقشعرار والوسواس السوداويّ.
قال جالينوس: إنّه إن كان يعني بقوله «السبعيّ» الحيّات والديدان المتولّدة في الأمعاء وإن كان يعني به الجذام وإن كان يعني به السرطان وإن كان يعني به السلّ كما فهم قوم وإن كان يعني به كلّ مرض خبيث فبالواجب صارت هذه الأمراض كلّها تحدث في الخريف وذلك بسبب رداءة الأخلاط في ذلك الوقت من السنة واختلاف مزاج الهواء. فليس إذاً بعجب أن يكون «ألم الفؤاد والاقشعرار والوسواس السوداويّ» يغلب ويكثر في وقت الخريف وذلك أنّ هذه العلل كلّها تحدث عن الأسباب التي تقدّم ذكرها. وقد وصفنا بشرح أبلغ من هذا في تفسيرنا للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا أمر جميع ما يكون في الخريف.
(١٥) قال أبقراط: ينبغي أن تقابل ابتداء المرض فتفقّد نوائبه وفي جميع مدّة المرض. مثال ذلك أن تكون نوائب المرض بالعشيّ وهيجان الأمراض من السنة بالعشيّ يكون. وأمر الدود أيضاً التي تكون في الأمعاء.
قال جالينوس: إنّه قد قال أيضاً في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا: «إنّه ينبغي أن تقابل أوائل الأمراض فتنظر هل تبلغ منتهاها سريعاً». وذلك أنّ أبقراط يستعمل كثيراً هذه اللفظة أعني قوله «تقابل أوائل الأمراض» فيجعلها بدلاً من قوله
لو قال هذا القول: «إنّك قد تحتاج أن تتفقّد أوائل الأمراض فتنظر هل تبلغ منتهاها سريعاً». وكذلك أيضاً استعمل هذه اللفظة حين قال: «فإنّك قادر أن تحتجّ بأشياء كثيرة من أشباه هذه الأشياء ممّا يقابل بها الترطيب والتجفيف والتسخين والتبريد». وذلك أنّه لم يعن في هذا الموضع بقوله «يقابل» أن يعاند أو يناقض لاكنّه إنّما عنى به أن يستعين بذلك على ما يحتاج إليه من التسخين والتبريد والتجفيف والترطيب. وقد بيّنّا ذلك في تفسيرنا للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا.
فإن لم يجب أن يتأوّل قوله على هذا المثال فلا بدّ لك أن تفهم عنه من قوله «تقابل ابتداء المرض». ولم يقتصر على أن يقدّم إليك أن تتفقّد أمر المرض في أوائله حتّى يقدّم إليك في النظر في تفقّد ذلك «في جميع مدّة المرض» ثمّ وصل ذلك بمثال فيه. وقد يمكن أن يقطع ويقرأ ذلك المثال على وجهين أحدهما يقرأ «مثال ذلك أن تكون نوائب المرض بالعشيّ وهيجان الأمراض من السنة» ثمّ يقطع ويبتدئ ابتداء ثانياً: «بالعشيّ يكون أمر الدود أيضاً الذي يكون في الأمعاء». وأمّا الوجه الثاني فهو هذا: يقرأ «مثال ذلك أن تكون نوائب المرض بالعشيّ وهيجان الأمراض من السنة بالعشيّ» ثمّ يقطع ويبتدئ ابتداء ثانياً: «أمر الدود الذي يكون في الأمعاء». وذلك أنّ أبقراط يرى أنّ بين اليوم الواحد وبين السنة كلّها مناسبة ما حتّى يكون الربيع من أوقات السنة نظير وقت الغداء من اليوم ويكون الصيف نظير وقت انتصاف النهار ويكون الخريف نظير العشيّ ويكون الشتاء نظير الليل. وقد شرحت الأمر في هذا أيضاً شرحاً أبلغ من هذا في تفسيري لقول قاله في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا افتتحه بأن قال: «حال الدود أيضاً الصغير الذي يكون في أسفل الأمعاء في العشيّ شبيهة بالحال في هذا».
(١٦) قال أبقراط: الصبيان الذين أصابهم سعال مع استطلاق بطن وحمّى دائمة بعد شهرين لمّا أتاهم البحران في يوم العشرين دلّت جملة أمرهم على أورام تحدث بهم في المفاصل.
قال جالينوس: إنّ المفسّرين لهذا الكتاب يثقون بجميع ما يجدونه مكتوباً فيه ويصدّقون به على مثال واحد مع أنّا نجدهم أيضاً لم يفهموا بعض الأقاويل التي مدحوها على أنّ بعض تلك الأقاويل يبلغ من عناية في الطبّ أن يكون منه بمنزلة العصب من بدن الحيوان وبعضها يسير العناء فيه جدّاً وبعضها لا يجري فيه إغلاء مثل هذا القول الذي وصفناه قبيل. فأنا إنّما أرى أنّه إنّما يستحقّ الذكر منها ما كان منها قد نراه في المرضى يكون دائماً على حال واحدة. وأولى تلك أيضاً بالذكر ما كان الدرك فيها عظيماً كما قلت قبيل في تقدمة المعرفة والإنذار بالنافض. وذلك 〈أنّه〉 إذا قد نرى المريض كثيراً في حمّى على غاية الصعوبة وبه مع ذلك أرق وكرب وعطش وقلق وربّما كان به أيضاً اختلاط عقل ونرى جميع من يحضر به من أهل بيته قد ارتاع وأشفق وأخذ في البكاء فنقدر عند ذلك أن نتقدّم بمعرفة فنحكم وننذر بأنّه يحدث نافض وعرق ينقضي به مرضه فيظنّ بالمنذر بذلك أنّه أسقلبيوس النبيّ.
فأمّا هذا القول الذي وصفناه قبيل فأوّل الأمر فيه 〈أنّه〉 ليس بالبيّن والثاني أنّه وإن سلّمنا أنّ جميع ما قيل فيه من التأويل المقنع موافق لرأي الواضع فإنّه ليس يمكننا أن نستفيد منه شيئاً نقدر أن نتقدّم فنحكم وننذر به. فأنزل أنّ «صبيّاً أصابه سعال مع استطلاق بطن وحمّى دائمة» وأنزل أنّه «أتاه البحران» كيف شئت وفي أيّ يوم شئت — إن شئت في يوم الثمانين من بعد ولاده وإن شئت في يوم الستّين فإنّ المفسّرين فسّروا هذا القول على ضربين أعني قوله «بعد شهرين لمّا أتاهم البحران في يوم العشرين» فتأوّل بعضهم أنّ الصبيّ في الوقت الذي أتاه فيه البحران
كان له منذ ولد شهران وكان له منذ أوّل ابتدأت به فيه الحمّى عشرون يوماً وتأوّل قوم أنّ العلّة ابتدأت بالصبيّ وقد أتى عليه شهران منذ ولد ثمّ أتاه البحران بعد عشرين يوماً. فبعد أن ننزل الأمر كلّه على هذا المثال ننزل أنّا نتقدّم فنحكم وننذر بأنّه سيحدث لذلك الصبيّ خراج في مفاصله من بعد البحران وقد نجد هذا ممّا ليس يكون دائماً ولا ممّا يكون في أكثر الحالات. فجميع ما نتقدّم فننذر فقد ينبغي أن يكون إمّا ممّا يصحّ دائماً ولا يخلّ أصلاً وإن أخلّ كان ذلك في الندرة وإمّا ما يقع الصواب فيه مراراً يسيرة ويقع الخطاء فيه مراراً كثيرة فليس هو من الصناعة في شيء.
(١٧) قال أبقراط: إن اندفع ما فوق السرّة إلى أسفل السرّة فحصل في المفاصل السفلى فذلك محمود وإن كان ذلك فوق لم يكن به انقضاء المرض على مثل ما يكون بالأوّل إلّا أن يتقيّح.
قال جالينوس: يتبيّن لك ممّا هو قائله بعد أنّ قوله هذا إنّما هو بعد في الصبيان إلّا أنّ هذا القول ليس هو من الأقاويل الجزئيّة لاكنّه من الأقاويل العامّيّة. وقد قاله في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا وفي كتاب الفصول وفي كتاب تقدمة المعرفة وقد تقدّمنا فشرحنا هذه الكتب كلّها. ومعناه في هذا القول أنّ الخراجات التي تكون «باندفاع» العلل من المواضع التي «فوق السرّة» إلى المواضع التي «دون السرّة» خراجات محمودة والخراجات 〈التي〉 ليست كذلك فليست بمحمودة إلّا أنّه على حال قد تنقص رداءة الورم إن تقيّح. وقد استعمل في هذا الكلام أيضاً اسم «الورم» على المعنى العامّ لكلّ غلظ مجاوز للحدّ الطبيعيّ كما قد قلت أيضاً قبل.
(١٨) قال أبقراط: وأمّا ما يتقيّح منها †وڡيه ٮهوه† في من هذه سنّه فإنّه يصيّر مرفق صاحبه بالحال التي يشبّه فيها بمرفق ابن عرس.
قال جالينوس: إنّ كلامه بعد إنّما هو في الصبيان وقد دلّ على ذلك وبيّنه بقوله «فيمن هذه سنّه» وأشار بذلك إلى أنّه ينبغي أن يشتقّ قوله هنا على ما ذكره في أوّله. وقد وصف لك أبقراط في كتابه في المفاصل على أيّ وجه «يصيّر مرفق صاحب» هذه العلّة «بالحال التي يشبّه فيها بمرفق ابن عرس» وشرحت أنا أيضاً ما وصفه أبقراط من ذلك في تفسيري لذلك الكتاب.
(١٩) قال أبقراط: وقد يحلّها أيضاً خروج قروح صغار [و]تكون أسفل إلّا أن تكون تلك القروح مستديرة عميقة فإنّ القروح التي بهذه الصفة هي قروح مهلكة وخاصّة للصبيان.
قال جالينوس: أمّا قوله «يحلّه» فينسق على العلل التي تحتاج إلى أن تندفع إلى موضع من المواضع حتّى يكون بذلك البرء منها. وأمّا ما وصف به «القروح» عندما قال «إلّا أن تكون مستديرة عميقة» فإنّما أراد به أن يدلّ على خبثها. وذلك أنّ هذه القروح ممّا يتأذّى به الصبيان خاصّة لأنّهم لا يقوون على احتمال الوجع ولا على العلاج.
(٢٠) قال أبقراط: وقد يحلّها أيضاً الدم إذا جرى وأكثر ما يظهر ذلك فيمن هو أتمّ.
قال جالينوس: أمّا أن يكون «الدم إذا جرى» ممّن هذه حاله انتفع به فقد رأينا ذلك كثيراً وشاهدناه. وأمّا الصبيان الذين كلامه فيهم فليس يكاد الدم يظهر فيهم جارياً إلّا أن يكون ذلك في الفرط مرّة. ولذلك استثنى أبقراط «وأكثر ما يظهر ذلك فيمن هو أتمّ» يعني أنّ الدم إنّما يجري ممّن قد أمعن في النشء.
ولم يدلّ دلالة بيّنة أيّ العلل هي العلل التي يكون انقضاؤها بالخراجات التي ذكروا «الجراحات الصغار» وانبعاث الدم. وذلك أنّه إنّما كان افتتح قوله بأن قال: «إنّ الصبيان الذين أصابهم سعال مع استطلاق بطن وحمّى دائمة» وقد يمكن أن يستدلّ بهذه الأعراض التي ذكر على علل تكون في الجنب من الأضلاع وفي الرئة وعلى علل تكون في الكبد والمعدة.
(٢١) قال أبقراط: الدموع في الأمراض الحادّة ممّن حاله سيّئة إن جرت عن إرادته كانت دليلاً محموداً وإن كانت عن غير إرادته كانت دليلاً رديئاً.
قال جالينوس: قد وصف أمر هذه «الدموع» في كتاب تقدمة المعرفة وفي كتاب الفصول ووصف أمرها أيضاً بأتمّ من ذلك في المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا حين قال: «إنّ من جرى هذا منه الدموع في حمّى حادّة الاحتراق فيها أزيد عن غير إرادة فينبغي أن تتوقّع أن يحدث رعاف إلّا أن يكون سائر أحواله أحوالاً تدلّ على الهلاك. فإنّ ذلك فيمن حاله رديئة ليس يدلّ على الرعاف لاكنّه
يدلّ على الموت». وقد فسّرنا هذا القول في تفسيرنا لتلك المقالة من كتاب إفيذيميا.
(٢٢) قال أبقراط: ومن عرض له تمدّد في جفنه فذلك دليل رديء.
قال جالينوس: إنّ العلّة التي تصيّر الجفن بهذه الحال هي العلّة التي ذكر أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة أنّها تصيّر «الجلدة التي على الوجه جاسئة ممتدّة». وقد دلّ أبقراط أنّ قوله هذا إنّما هو في الأمراض الحادّة وكذلك أقاويله الأخر التي يأتي بها في كتابه في تقدمة المعرفة وفي قوله حين قال: «إنّ الدموع في الأمراض الحادّة فيمن حاله سيّئة إن جرت على إرادته كانت دليلاً محموداً 〈…〉».
(٢٣) قال أبقراط: وما يجفّ أيضاً فيعلو كأنّه غبار فإنّه دليل رديء.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً ممّا قد تراه يكون في الأمراض الحادّة إذا كانت في غاية اليبس مع ضعف القوّة عندما تنزل أجزاء صغار من الرمش من العينين ثمّ «تجفّ» على المكان.
قال حنين: إنّ جالينوس قد فهم قول أبقراط في «الغبار» الذي «يعلو» فيمن هذه حاله على العينين خاصّة وقد نرى هذا الغبار ربّما شمل الوجه كلّه في أصحاب تلك الحال. وما قاله جالينوس في العينين من أمراض الرمص فقد يمكن أن يتوهّمه في الوجه كلّه في أمر العرق فقد يمكن أن يفهم ذلك عن أبقراط من
قوله «وما يجفّ فيعلو كأنّه غبار» أي يغشى العينين وجلدة الوجه كلّه ما تجد على العينين من الرمص وعلى الوجه من العرق.
(٢٤) قال أبقراط: والظلمة أيضاً دليل رديء.
قال جالينوس: إنّ ظلمة البصر في الأمراض الحادّة إنّما تدلّ على ضعف القوّة الباصرة وخمودها وموتها.
(٢٥) قال أبقراط: والقحل أيضاً رديء.
قال جالينوس: إنّه قد كانت الحال التي يغشى فيها الشيء الشبيه بالغبار حال «قحل» إلّا أنّه الآن ذكر أنّ «القحل» وإن لم تكن معه غبرة فإنّه دليل رديء.
(٢٦) قال أبقراط: وتغضّن العينين من داخل أيضاً دليل رديء.
قال جالينوس: إنّ الغشاء المطبق على العضل المحرّك للعين الذي يمتدّ حتّى يلقى الطوق المحيط بسواد العين إذا استرخى حدثت في العينين من باطنهما غضون. وذلك أنّ تلك الغضون إن حدثت من خارج فإنّما العلّة في الجلد. وممّا يدلّك على أنّ ذلك يدلّ على الضعف وغلبة البرد ما يعرض منه للشيخ الفاني فإنّك قد ترى الشيخ الفاني تحدث في عينيه غضون.
(٢٧) قال أبقراط: وكذلك الجامدتان واللتان بكدّ ما تدوران واللتان تدوران فضل دوران.
قال جالينوس: إنّ قوله هذا إنّما يعني به العينين ويعني «بالجامدتين» اللتين لا تتحرّكان أصلاً وهذه الحال من العينين تدلّ على خمود القوّة التي في عضلها الذي بها كانت تتحرّك لمّا كان أمرها جارياً المجرى الطبيعيّ وموتها. وأمّا «العينان اللتان بكدّ ما تدوران» فحالهما قريبة من حال «العينين الجامدتين» إلّا أنّهما لم †ىىلعماهما†. وأمّا «العينان اللتان تدوران فضل دور» فتدلّان على اختلاط من العقل أو على رعشة قد حدثت في العضل المحرّك للعين. وهذه الدلائل كلّها إنّما تكون في الأمراض الحادّة إذا كان صاحبها على حال خطر منها بسبب آفة قد دخلت على الأصل وهو الدماغ.
(٢٨) قال أبقراط: وسائر ما تركت ذكره.
قال جالينوس: إنّما يعني «بسائر ما ترك ذكره» سائر ما يعرض في العينين ممّا قد وصفه في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «إنّ العينين إن كانتا تحيدان عن الضوء أو كانتا تدمعان عن غير إرادة أو كانتا مزورّتين أو كانت إحداهما أصغر من الأخرى أو اخضرّ بياضهما أو كانت فيهما عروق كمدة أو سود أو كان فيهما رمص أو كانتا مضطربتين أو جاحظتين أو غائرتين جدّاً». وقد تقدّمنا فشرحنا في تفسيرنا لذلك الكتاب مع سائر ما وصفه فيه أمر هذه الدلائل أيضاً.
(٢٩) قال أبقراط: الحمّيات منها ما يلذع اليد ومنها طيّبة المجسّ ومنها ما لا تجدها لذّاعة ثمّ يتزيّد ومنها ما تجدها حادّة ثمّ تخور من اليد ومنها ما تجدها شديدة الإحراق منذ أوّل لمسها ومنها ما تجدها جامدة يابسة دائماً ومنها مالحة ومنها نفّاخيّة شنعة المنظر ومنها نديّة المجسّ ومنها شديدة الحمرة ومنها شديدة الصفرة ومنها إلى الخضرة الكمدة وغير ذلك ممّا أشبهه.
قال جالينوس: إنّ أبقراط ألحق في آخر هذا القول أيضاً ما ألحقه من قوله «وغير ذلك ممّا أشبهه» لأنّه ممّا رسم لنفسه من أصناف «الحمّيات» ما له منها قدر يعتريه. وجعل أوّل ما ذكره من تلك الأصناف ما هو خاصّ بنفس طبيعة الحمّى وطبيعة الحمّى على رأي أبقراط وعلى رأي سائر أفاضل الأطبّاء وليس على رأي أولائك فقط لاكن على الرأي المشترك العامّ بين الناس كافّة في التعارف وهي الحرارة الخارجة عن الحدّ الطبيعيّ. وهي في أكثر الأمر تكون ممتدّة في البدن كلّه فإن لم تكن في البدن كلّه فهي لا محالة في أكثر أعضائه أو في أعظمها خطراً. وكثيراً ما لا تظهر في الجلد حرارة بيّنة خارجة عن الحدّ الطبيعيّ لمن يجسّه من خارج ولا للمحموم نفسه لاكنّ المحموم يحسّها في باطن بدنه كذلك حتّى يشكو الاحتراق واللهيب في أحشائه وربّما عرض لبعض المحمومين مع ذلك كرب وعطش وأرق.
وأبقراط إنّما ذكر من أصناف الحمّيات في هذا القول ما يمكن الأطبّاء تعرّفه لا بما يشكوه المرضى لاكن بما يحسّونه هم بالمجسّة والنظر حتّى يقفوا عليه وقوفاً بيّناً. وأوّل أصناف الحمّيات وأخصّها وأولاها بها ما كان منها كما قلت من نفس طبيعة الحمّى أعني من الحرارة. وذلك أنّ طبيعة الحمّى ليست في حركة العروق فقد وصفت الحال في ذلك وخطاء من أخطأ فيه من أصحاب أراسسطراطس وأصحاب خروسبس.
فحرارة الحمّى عند من يجسّ بدن المحموم إمّا أن تكون حارّة «لذّاعة» وإمّا أن تكون يسيرة الأذى وإمّا اللذاذة والملاءمة التي تجدها في الحرارة الطبيعيّة فليس تجدها في حال من الأحوال بحرارة الحمّى. فقد نقول كثيراً في الحرارة التي أذاها يسير إنّه لا أذى فيها وإنّما نقول ذلك فيها بمقايستنا إيّاها بالحرارة التي لها أذى شديد. وقد نستعمل هذه العادة في أشياء كثيرة ممّا يخالف بعضها بعضاً في الكثرة والقلّة فنعبّر بعضها عن بعض بعبارة هي مجاوزة قليلاً للحقّ إلى طريق الحمد. وربّما جسسنا المحموم فحين نجسّه نحسّ مع لمسنا إيّاه بحرارة في غاية الكثرة وغاية الحدّة وربّما جسسنا فوجدنا الحرارة يسيرة إلّا أنّها ليست بناقصة عن التي هي في غاية الحدّة وربّما وجدناها كثيرة لكنّها ليست في غاية الكثرة. وكلّ واحد من هذه الأصناف التي ذكرت ربّما أحسسنا بها بعد قليل لا في أوّل ملاقاة اليد للبدن وربّما أحسسنا بالحرارة في أوّل لمسنا للبدن بحال من مقدار عظمها وحدّتها ثمّ وجدناها كأنّها تتنقّص في الحالين جميعاً إذا دامت اليد موضوعة على
بدن العليل مدّة طويلة. وربّما وجدنا الحرارة مع جفوف ويبس كما نجدها لو لمسنا حجراً مسخّناً وربّما وجدناها على ضدّ ذلك حتّى يكون معها ثرى ورطوبة وربّما وجدناها بخاريّة حتّى نحسّ حسّاً بيّناً ببخار كثير جدّاً يرتفع من بدن العليل. وهذه الأصناف أيضاً كلّها كالأصناف التي قبلها أيضاً منها ما يبقى على ما نجده منذ أوّل الأمر ومنها ما يتزيّد ما يظهر منها في أوّل الأمر أو ينقص ومنها ما يحدث فيها صنف آخر لم يكن ظهر أصلاً منذ أوّل الأمر ويبطل صنف قد كان ظهر في أوّل الأمر. فهذه هي أصناف الحمّى التي هي من نفس طبيعتها.
وسننظر بعد في سائر أصنافها فأمّا الآن فأرى من الصواب أن أبيّن موافقة هذه الأصناف التي ذكرتها لما ذكره أبقراط بألفاظه. فأقول إنّ أبقراط لمّا قال «إنّ الحمّيات منها ما يلذع اليد ومنها هادئة المجسّ» قد دلّك بأنّ قوله هذا إنّما قاله في الحمّيات التي تدوم بحال واحدة إمّا من الحدّة وإمّا من الهدوء. وممّا يدلّك على ذلك أنّه أردف قوله هذا بأن قال: «ومنها ما لا تجدها لذّاعة ثمّ يتزيّد» فيدلّ بهذا القول على أنّ الحمّيات التي لا توجد في أوّل اللمس «لذّاعة» فإذا لبثت اليد موضوعة على البدن مدّة طويلة أحسّت منها «بحدّة».
ثمّ ذكر بعد هذه حمّيات الحال فيها على ضدّ الحال في تلك فقال فيها: «ومنها ما تجدها حادّة ثمّ تخور من اليد». وذلك أنّ هذه الحمّيات توجد أوّلاً حادّة ثمّ تنحلّ وتنتقص وتضعف قليلاً قليلاً. ومتى ذكر «الحدّة» فينبغي أن تفهم عنه سرعة ملاقاة الحرارة لكفّك حتّى تدلّك الحرارة من نفسها على أنّ حركتها حثيثة. فإنّ العادة قد جرت بأن يسمّى الشيء السريع في الحركة الحثيث من
الإحضار وغيره «حادّاً» ونقول «أمراض حادّة» وإنّما نريد بها الأمراض التي تمرّ أوقاتها الأربعة بسرعة حتّى تنقضي.
وقد يوجد في بعض النسخ اسم «اليد» مفرداً وفي بعضها مجموعاً ولا فرق بينهما في تعرّف هذه الأصناف التي ذكرنا. وذلك أنّ الأمر فيها بيّن عند من له عقل أنّ هذه الأصناف ليس تحسّ بالعينين لاكنّها إنّما تحسّ باليدين إلّا أنّ الناس قد يستثنون هذا الاستثناء كثيراً ممّا يدعوهم إليه الطبع ليزيدوا في شرح ما يصفونه وبيانه وخاصّة في الأمور التي إنّما يصلون إلى وجود الشيء الذي يبحث عنه بدلائل وعلامات ما وليس يصلون إلى أن يدركوه بالحسّ. ولذلك لم يقتصر أبقراط على ذكر «اليد» في أوّل قوله حتّى كرّر ذلك عندما قال «ومنها ما تجدها حادّة ثمّ تخور من اليد».
〈…〉 الحمّيات في الشدّة 〈…〉 «ومنها ما تجدها شديدة الإحراق منذ أوّل أمرها ومنها ما تجدها جامدة دائماً». وسننظر بعد كيف يخيّل إلى الذي يجسّ أبدان المحمومين أنّ الحرارة فيها كثيرة أو قليلة وأمّا الآن فقد يكتفي بأن نقول إنّ ذلك قد يظهر كذلك. وكما إنساناً لو شدّ عينيه ثمّ لمس لهيب نار قد كان لا يخلو أن يحسّ جوهر تلك النار إمّا كثيراً وإمّا قليلاً وهو مع ذلك لا يحسّ بينهما باختلاف أصلاً في كيفيّة الحرارة كذلك الحال في أبدان المحمومين فإنّك ربّما وجدت الحرارة في كيفيّتها في هذا البدن بالحال التي تجدها في بدن آخر لاكنّك تجد الحرارتين كأنّهما مختلفتان في الكمّيّة.
وممّا ذكره بعد وأمّا قوله «يابسة» فبيّن واضح وأمّا قوله «مالحة» فمستغلق غير بيّن. وذلك أنّ «المالح» ليس هو محسوساً بحسّ اللمس لاكنّه إنّما هو محسوس بحسّ المذاق فقط. وأغمض من ذلك وأشدّ استغلاقاً قوله بعد «ومنها نفّاخيّة 〈شنيعة〉 المنظر» وقد نجد النسخ في هذا الموضع تختلف فنجد في أكثر ما يلحق مع ذكر «النفّاخيّة» ذكر «المنظر» ونجد في يسير من النسخ قبل ذكر «المنظر» ذكر «شنيعة» أو «هائلة». ولا أعرف أحداً من المفسّرين ذكر أنّه على هذا القول يكتب إلّا سابنس وحده ثمّ أتبعه مطرودروس ومن أتبعهما إلى هذه الغاية. وقد يوجد في قليل من النسخ هذا القول يكتب مطلقاً على هذا المثال: «ومنها نفّاخيّة» من غير أن يلحق مع ذلك ذكر «المنظر» ولا ذكر «الهائلة».
ومن تأوّل قوله «المالحة» على ما يؤخذ بالحسّ فله أن يقول إنّه يعني بالحمّيات التي تحدث لذعاً وأكالاً في حسّ من يلمس أبدان أصحابها مثل اللذع والأكال التي تحدث من ماء الملح وسائر الأشياء المالحة وإنّه يعني بالحمّيات «النفّاخيّة» الحمّيات التي تنبعث فيها من أبدان أصحابها شبيهة بالنفخ من الريح. فإنّا كثيراً ما نحسّ من أبدان المحمومين نحو هذا أي يتحلّل حتّى يرتفع من الجلد بجوهر هوائيّ بمنزلة الريح. وذلك أنّ من فهم عنه أنّه ليس يعني بقوله «نفّاخيّة» هذه الحمّيات لاكنّه إنّما يعني [بـ]ـالحمّيات التي تكون معها نفّاخات في الجلد يكون قد ترك صنفاً من أصناف الحمّى يحتاج إلى معرفته ضرورة وتلك الأصناف هي الأصناف التي قلت إنّها تخصّ طبيعة الحمّى.
فكما أنّه قد يظهر لنا في حمّيات كثيرة أنّ حال الحرارة حال لذّاعة جدّاً أو حال قويّة شديدة أو حال معها يبس أو قحل كذلك قد يظهر لنا في بعضها أنّ حال الحرارة حال معها ريح حتّى تحسّ الكفّ بريح ترتفع إليها وربّما كانت تلك الريح ريحاً بخاريّة وربّما كانت ريحاً يابسة. ولمّا كان الاسم الذي اشتقّ منه «النفّاخيّة» قد ينتظم في لسان اليونانيّين معانٍ شتّى قصد كلّ واحد من المفسّرين إلى واحد واحد من تلك المعاني فعمل في تفسيره على أنّ ذلك الاسم إنّما يدلّ على ذلك المعنى الذي قصد إليه وحده فوهم السامع لقوله أنّه مقنع.
وقد كان يكتفي فيما أحسب بأن يقال إنّه عنى بالحمّيات «النفّاخيّة» الحمّيات التي يحسّ فيها للريح أثر وذلك أنّ هذه الحمّيات هي من جنس هذه الأصناف أعني التي عدّدها إلى هذه الغاية إلّا أنّ من لم يفهم عنه هذا المعنى ظنّ أنّه قد ترك هذا المعنى فلم يذكره. لاكن لمّا كنّا قد نجد في أكثر النسخ مع ذكر «النفّاخيّة» ذكر «المنظر» ملحقاً اضطررنا إلى أن نتناول بعض ما يكثر فيه أصحاب النحو من اليونانيّين فإنّه ربّما احتيج إلى ذلك في مثل هذه المواضع. وقد وصفت في كتاب غير هذا أمر الألفاظ المجهولة من كلام أبقراط فاستقصيته.
وأمّا في هذا الموضع فقد يكتفي بأن نتبع أصحاب النحو فنصف المعاني التي ينتظمها هذا الاسم الذي اشتقّ منه «النفّاخيّة» في لسان اليونانيّين على ما أوعز به أصحاب نحوهم. فقد ذكروا أنّ بعض المعاني التي يدلّ عليها ذلك الاسم وهو «بمفكس» هبوب الريح. وإنّ سوفقليس الشاعر قصد إلى هذا المعنى في بيت من قصيدته المعروفة «بقلحس» فسمّى فيه الريح «بمفكس» وهو قوله: «ذهبت الريح نحو نهر يونس». وذكروا أيضاً أنّ سوفقليس سمّى الريح بهذا الاسم في
قصيدة له تعرف «بسلمون» في بيت منها قال فيه: «وخليق أن تغلب الريح والرعد ذوات الصواعق وسوء الشمّ». وذكروا أنّ أسخوليس الشاعر سمّى الريح بذلك الاسم في قصيدة له تعرف «بفروميثوس في باب الأسير» في البيت الذي قال فيه: «الزم هذا الطريق المستقيم واسْعَ أوّلاً نحو مذهب الشمال واحذر العصوف الزوبعيّة لا تختطفك فتهشّمك دفعة بقوّة الرياح الشتويّة الصعبة».
وذكروا أنّ بعض المعاني الذي يدلّ عليها ذلك الاسم هو شعاع الشمس وأنّ سوفقليس الشاعر قد سمّى الشعاع بذلك الاسم في أبيات من قصيدته المعروفة «بقلحس» قال فيها: «تعجّبت لمّا رأيت الشعاع الذهبيّ يلوح من بعيد» وأنّ أسخولس الشاعر سمّى الشعاع بهذا الاسم في قصيدة له تعرف «باكسنطريا» في بيت قال فيه: «ما رآها شعاع الشمس ولا أحد بها عين النجم المنسوب إلى ليطو».
وذكروا أنّ بعض المعاني التي يدلّ عليها هذا الاسم القطر من الماء وأنّ أسخوليس قد سمّى القطر بهذا الاسم في قصيدته التي سمّاها «فروميثوس» حين قال: «احذر لا يقع من فيك شيء من القطر فإنّه مرّ †واحلود† 〈…〉». وسمّى القطر أيضاً بذلك الاسم في قصيدة لقّبها «بالحزن» في بيت قال فيه: «احذر لا تَلْقَ على الأرض قطرة من الدم».
وذكروا أنّ بعض المعاني التي يدلّ عليها هذا الاسم السحاب وأنّ سوفقليس الشاعر قد سمّى السحاب بذلك الاسم في قصيدته التي سمّاها «سلمون» في باب ساطورس قال: «إنّي أنذر بالسحاب جميع الناس برؤية النار» وأنّ إبيقس الشاعر قد سمّى السحاب بهذا الاسم حين قال: «شقّوا الغيث من السحاب المتراكم» وإنّما قال إبيقس هذا القول على طريق التمثيل في الذين أمطروا. وكذلك قال كثير من أصحاب النحو من اليونانيّين إنّ اسم «بمفكس» إنّما عنى به في هذا القول قطر الماء.
وذكروا أنّ بعض المعاني التي يدلّ ذلك الاسم عليها هو النفس وأنّ قليماخس وأوفوريون قد سمّيا النفس بذلك الاسم أمّا قليماخس فعندما قال: «إنّ الأشجار التي تهواها النفوس تنبّت دائماً طريّة» وأمّا أوفوريون فعندما قال: «إنّ النفوس المظلفة تطقّ على الميّت».
قد وصفت جميع المعاني التي يطلبها ذلك الاسم الذي اشتقّ منه اسم «النفّاخيّة» 〈وقدّمت〉 على معانٍ من هذه المعاني لأنّ أفضل المفسّرين إنّما تأوّلوا قول أبقراط «نفّاخيّة» على ذينك المعنيين. وأمّا الآن فقد يمكن أن يضاف إلى ذينك المعنيين من هذه المعاني التي ذكرت قبيل أنّ ذلك الاسم يدلّ عليه معنى آخر ثالث حتّى نفهم عنه أنّه عنى بالحمّيات «النفّاخيّة» الحمّيات التي
تخيّل أنّه يبدو منها شبيه بالشرار فيلقى الكفّ. وما كان كذلك من الحمّيات فهو مركّب من صنفين مفردين من الأصناف التي تقدّم ذكرها أعني الحمّى التي يحسّ معها الريح والحمّى التي يحسّ معها بالناريّة.
والذي يناقض هذا التأويل شيء واحد وهو ما يوجد ملحقاً في بعض النسخ من ذكر «المنظر». فقد أحسن قوم في حذف ذلك الحرف وأمّا من أثبته ففهم عن أبقراط من قوله «نفّاخيّة» إمّا الحمّيات التي تكون منها نفّاخات وإمّا الحمّيات التي تزيل النفس عن حالها لأنّ ذلك الاسم الذي قلت إنّ اسم «النفّاخيّة» مشتقّ منه في لسان اليونانيّين قد يدلّ في بعض الأحوال على النفس كما قلنا قبيل. ولمّا كانت الحمّيات التي تكون معها نفّاخات إنّما سمّيت «نفّاخيّة» من طريق العرض فقد يجوز أن يتأوّل قول أبقراط «نفّاخيّة» أنّه يعني به من طريق العرض الحمّيات الوبائيّة إذ كان التأويل في ذلك مقنعاً فإنّ هذه الحمّى أيضاً صنف من أصناف الحمّيات وتكون معها في البدن نفّاخات. وقد شهد على صحّة ذلك ثوقوديدس حين قال: «وكان البدن عند من يلمسه من خارج ليس بشديد الحرارة ولا كان أصفر لاكنّه كان مائلاً إلى الحمرة والخضرة والكمودة وكان متبثّراً بنفّاخات صغار وقروح».
وأمّا من زعم أنّ أبقراط إنّما عنى بقوله «النفّاخيّة» الحمّيات التي تزيل النفس عن حالها فقد تباعدوا من أصناف الحمّيات التي غرض أبقراط ذكرها. وقد سمّى بعض القدماء بعض الحمّيات «ذهنيّة» وأراد به السرسام لأنّها تغيّر الذهن وسمّى بعضهم بعض الحمّيات أيضاً «سهويّة» وعنى بها الحمّى التي تكون مع السرسام البارد لمّا يحدث معها من السهو والنسيان كما سمّى بعضهم بعض الحمّيات
«ذات الرئة» وعنى بها الحمّى التي تكون مع ورم الرئة إلّا أنّ غرض أبقراط في هذا القول أن يعدّد أصناف الحمّيات التي تختلف باختلاف حرارتها. وقد يمكن أن تدخل في عداد تلك الأصناف الحمّى الوبائيّة لأنّ حرارتها حرارة عفونيّة وأمّا الحمّى الذهنيّة فليس يمكن أن تدخل في عداد هذه الأصناف لأنّه ليس من عادة أبقراط كما من عادة غيره أن يعدّ السرسام نوعاً من الحمّى ولأنّها إن كانت إنّما سمّيت كذلك من طريق العرض كما سمّيت الحمّى التي تحدث نفّاخات فقد دخلت في عداد الأصناف التي ذكر كما دخل أيضاً سائر الأصناف التي ذكرتها قبيل. وذلك أنّ حمّى السرسام توجد الحرارة فيها دائماً لذّاعة باقية على حال واحدة ما دامت اليد تلقى البدن فيجب من ذلك أن يكون قد ذكر بهذه الحمّى قبل جميع أصناف الحمّى التي ذكرها.
وقد تبيّن من هذا أنّه ليس ينبغي أيضاً أن تقبل تأويل من تأوّل قول أبقراط «ومنها مالحة» ما يجده المريض نفسه بحسّه في فمه. وذلك أنّا إنّما نجد أبقراط يعدّد جميع الدلائل من الحمّيات التي توجد باليد في حسّ اللمس من اختلاف الحرارة التي هي جملة جنس الحمّيات وجوهرها. وإن فهمنا عنه من قوله «نفّاخيّة» الحمّيات الوبائيّة فإنّ اسمها إن كان مأخوذاً بطريق العرض فإنّ صورتها إنّما هي من جوهر الحمّى التي هي به مخصوصة أعني الحرارة.
وعلى هذا القياس أيضاً قال من زعم أنّ أبقراط إنّما عنى بقوله «مالحة» الحمّى التي تخيّل إلى صاحبها أنّ جميع ما يذوقه مالح لم يذكر صنفاً من الحمّى يدخل في عداد هذه الأصناف التي غرض أبقراط ذكرها في هذا القول. ولو كان أبقراط قد أدخل هذه الحمّى في عداد أصناف الحمّى لقد كان أدخل لا محالة معها الحمّى التي تخيّل إلى صاحبها أنّ ريقه مع جميع ما يذوقه مرّ. وليس ينبغي أن تجعل هذه الأصناف أصنافاً للحمّى لاكنّه إنّما ينبغي أن تجعل أصنافاً للطعوم وأمّا
أصناف الحمّى فإنّما ينبغي أن تجعلها باختلاف حرارتها. وذلك أنّه كما أنّ الطعوم هي محسوس المذاق كذلك الحمّيات محسوس اللمس.
ولم يحسن أيضاً آل سابنوس في إلحاقهم ما ألحقوا من ذكر «الهائلة» حين جعلوا هذا القول على هذا من اللفظ: «ومنها نفّاخيّة هائلة المنظر». وقد قلت لك فيما تقدّم من قولي وأنا مذكّر به في هذا الموضع أيضاً وذلك أنّهم قالوا إنّه قيل فيه إنّها «هائلة» عندنا إذا كانت مع نفّاخات وقروح ومن نفس المريض إذا اختلط عقله ونظر نظراً هائلاً. وقد وصفت فيما تقدّم ما ينبغي أن تعلم في هذين المعنيين.
وقد أخطأ مثل خطاء هؤلاء من زعم أنّ أبقراط عنى بقوله «نفّاخيّة» الحمّيات الهوائيّة ثمّ لم يزعم أنّ حسّ الهواء يؤخذ فيها باللمس لاكنّه إنّما عنى «بالهواء» هواء التنفّس إذ كان من سوء الحال بحال تنسب فيها إلى العظم والتواتر. وأولى الأشياء أن يتأوّل من قوله «نفّاخيّة» [و]إمّا الحمّى الهوائيّة في اللمس وإمّا الحمّى الوبائيّة. فإن أضيف إلى قوله «نفّاخيّة» «خبيثة» كان المعنى فيها الحمّى الوبائيّة فقط. والفرق بين هذه الحمّى وبين سائر الحمّيات أنّ الحرارة فيها حرارة عفونة كالذي وجدناه في هذا الوباء الذي عرض في وقتنا هذا ودام مدّة طويلة. ولذلك لم نكن نجد أبدان من يناله الوباء حارّة محرقة إذا جسسناها على أنّهم كانوا يحسّون في أجوافهم بتلهّب وتوقّد شديد كما وصف ثوقوديدس حين قال: «إنّ البدن كان عند من يمسّه من خارج لم يكن بالحارّ جدّاً ولم يكن أيضاً أصفر لاكنّه كان يضرب إلى الحمرة والخضرة والكمودة وكان متبثّراً بنفّاخات صغار وقروح. وكان يبلغ من توقّد الجوف أن لا يحتملون أن يلقى عليهم أرقّ ما يكون من الثياب والأزر وغير ذلك لاكنّهم كانوا يتعرّون».
وقد ذكر هذا الاسم الذي اشتقّ منه اسم النفّاخة وهو «بمفكس» في الكتاب الذي يعرف «بآراء أهل قنيدس» الذي ينسب إلى أوروفون الطبيب في قول قيل فيه بهذا اللفظ: «كان يبول بولاً قليلاً في كلّ وقت دائماً وكان تعلو على البول نفّاخة صفراء كأنّها من زيت شبيهة بنسج العنكبوت». فيشبه أن يكون هؤلاء ليس يعنون «بالنفّاخة» جملة الشيء المعروف بهذا الاسم لاكنّهم إنّما يعنون به القشرة التي تحيط بالنفّاخة من خارج الشبيهة بنسج العنكبوت.
فلمّا فرغ أبقراط من أصناف الحمّى التي هي أولى الأصناف بها وأسبقها فيها أقبل على أصنافها في اللون فقال: «ومنها شديدة الحمرة ومنها شديدة الصفرة ومنها إلى الخضرة والكمودة». وعند ذكره «للحمرة» «والصفرة» أضاف إلى ذكرها «الشدّة» ولم يصف أبدان أصحابها «بالحمرة» مطلقة ولا «بالصفرة». فأمّا عند ذكره «الخضرة» «والكمودة» فلم يحتج أن يضيف إلى ذكرهما ما يدلّ على الشدّة والقوّة حتّى يقول «شديد الخضرة» أو «شديد الكمودة» لأنّ هذا اللون رديء في جميع الأحوال وأمّا اللون الأحمر واللون الأصفر فمألوفان. وأمّا الحمّيات «الشديدة الحمرة» يعني الحمّيات التي ترى أبدان أصحابها في غاية الحمرة فتدلّ على شدّة الحرارة وقوّتها وعلى أنّ مادّة الحمّى الدم وكذلك الحمّيات التي ترى أبدان أصحابها في غاية الصفرة تدلّ على أنّ مادّتها المرّة الصفراء لاكن قد ينبغي أن تتفقّد في هؤلاء أمر اليرقان. فإن رأيت البراز ليس يخالطه المرار فاعلم أنّ تغيّر اللون على حاله الطبيعيّة إنّما كان عن انبثاث المرّة الصفراء في البدن فإن كان البراز
يخالطه مرار كثير فاجعل ذلك اللون صنفاً من أصناف الحمّى. وهذه الحمّيات تصيّر البدن إلى حال الذبول إن لم يدركها حدوث بحران بنافض وعرق.
وأمّا الحمّيات التي يكون البدن فيها على غاية الحمرة فهي الحمّيات المطبقة وأصحابها ينتفعون بالفصد إذا أخرج من الدم حتّى يحدث الغشي كما وصفت في كتابي في حيلة البرء. وفي ذلك الكتاب تتبيّن منفعة معرفة هذه الأصناف من أصناف الحمّى لأنّ كلّ واحد من هذه الأصناف يحتاج إلى علاج يخصّه.
وأمّا الحمّيات التي تضرب إلى الخضرة والكمودة — وإنّما نسبت إلى هذه الألوان من الألوان التي تغلب على أبدان أصحابها — فتدلّ على أنّ الدم ناقص في تلك الأبدان. وبيّن أنّه إذا نقص الدم فقد تنقص الحرارة الغريزيّة معه ولذلك هي من الحمّيات القتّالة. وبعض هذه الحمّيات يجلب الغشي الذي يكون شفاؤه بالاستفراغ. وقد وصفت لك ذلك في كتابي 〈في〉 حيلة البرء.
وقد ذكر هذه الحمّيات أوروفون الطبيب وكتب فيها قولاً أنا حاكيه بلفظه. قال: «الحمّى التي تغلب فيها الخضرة والكمودة تستحوذ على البدن وتصرف أسنان صاحبها حيناً بعد حين ويصيبه صداع ووجع في أحشائه ويتقيّأ مراراً إذا هاج به الألم ولا يقدر أن يقلّ طرفه وذلك أنّه يثقل ويجفّ بطنه ويصير البدن كلّه بلون صفرة وخضرة وكمودة وتصير شفتاه بمنزلة شفتي من أكل توتاً ويصير بياض عينيه إلى الخضرة والكمودة ويتفتّح عيناه بمنزلة من قد خنق وإذا كان ما يصيبه من هذه العلّة أقلّ تغيّرا مراراً كثيرة».
وقد ذكر أيضاً في الكتاب الذي يعنون بكتاب أبقراط في الأمراض الذي ظنّ به آل ديسقوريدوس أنّ واضعه أبقراط بن ثاسالوس مرضاً من الأمراض نسبه إلى
الخضرة والكمودة. وافتتاح ذلك الكتاب بهذا اللفظ: «إذا أفرطت السخونة على الرأس غزر البول». وأمّا المرض المنسوب إلى الخضرة والكمودة فقيل فيه في ذلك الكتاب بهذا اللفظ: «المرض الذي تغلب فيه الخضرة والكمودة تعتري البدن فيه حمّى يابسة وقشعريرة وقتاً بعد وقت وصداع ووجع في الأحشاء ويتقيّأ مراراً. وإذا هاج الألم لم يقدر المريض أن يقلّ طرفه لاكنّه يثقل ويجفّ بطنه ويصير لونه أخضر كمداً وتسودّ شفتاه وبياض عينيه يميل إلى الخضرة والكمودة ويعرض في عينيه جحوظ بمنزلة من يختنق وربّما تغيّر لونه من الخضرة والكمودة إلى الصفرة». وقد تأوّل قوم ما ذكر في هذه الحمّيات تأويلاً رديئاً فقالوا إنّه إنّما عنى بالحمّى المنسوبة إلى الخضرة والكمودة الحمّى التي يكون البراز فيها بهذا اللون. وقد يلزم هؤلاء على قياس قولهم أن ينسبوا الحمّى التي يكون البراز فيها أسود إلى السواد.
وقد بقي عليّ أن أفسّر آخر هذا القول الذي تقدّم وهو قوله «وغير ذلك ممّا أشبهه» يعني شبيهاً بآخر ما ذكر. وآخرها ذكر أصناف الحمّى التي تؤخذ من ألوان أصحابها وليست مأخوذة من نفس جوهر الحمّى إلّا أنّها على حال أقرب من سائر الأصناف المأخوذة من بعض الأعراض كما نقول إنّ الحمّى إمّا أن تكون مفارقة وإمّا أن تكون دائمة. أمّا الحمّى المفارقة فمنها ما ينوب غبّاً ومنها ما ينوب ربعاً ومنها ما ينوب في كلّ يوم والحمّى الدائمة منها الحمّى المعروفة «بشطر الغبّ» ومنها الحمّى المعروفة «بالمحرقة» ومنها الحمّى المعروفة «بالقرّ» ومنها الحمّى المعروفة «بالتيفة» ومنها الوبائيّة ومنها التي تسمّى «إيفياليس» وهي التي يعرض فيها البرد مع الحرّ معاً في جميع البدن.
وأمّا بركساغورس فقد يسمّي بعض الحمّيات «سرساميّة» وبعضها «يرقانيّة» فيدخل هذه الحمّيات في عدد أصناف الأمراض الحادّة. والحدث من الأطبّاء قد يسمّون بعض الحمّيات «حمّى مطبقة» ويفرّقون بينها وبين الدائمة ويجعلون أصناف الحمّى المطبقة ثلاثة أحدها باقٍ على حاله منذ أوّل أمره إلى آخره ويشتقّون له اسماً من هذه الحال والثاني لا يزال يتزيّد دائماً ويشتقّون له اسماً من هذه الحال والثالث لا يزال ينتقص دائماً ويشتقّون له أيضاً اسماً من تلك الحال.
وقد نقسم الحمّيات أيضاً بقسمة أخرى مشتركة في ما بينها وبين سائر الأمراض فنقول إنّ بعض الحمّيات حادّة وبعضها مزمنة ونقسمها بقسمة أخرى فنقول إنّ بعضها سليمة وبعضها خبيثة ونقول في بعضها إنّها لازمة للنظام وفي بعضها إنّها غير لازمة للنظام ونقول في بعضها إنّها لازمة للأدوار وفي بعضها إنّها متحيّرة.
وقد سمّى قوم من قدماء الأطبّاء الحمّيات التي تتولّد من الأعضاء المختلفة بأسماء مختلفة مشتقّة من أسماء تلك الأعضاء فيسمّون بعض الحمّيات «جنبيّة» وهي التي تكون في علّة ذات الجنب ويسمّون بعض الحمّيات «كبديّة» وهي التي تكون مع ورم الكبد وكذلك «طحاليّة» وهي التي تكون مع ورم الطحال. ويسمّون حمّيات أخر من أعراض تعرض فيها فيسمّون بعضها «سباتيّة» وهي التي يعرض معها السبات وبعضها «سهويّة» وهي ما يعرض معها السهو وبعضها «وسواسيّة» وهي ما يعرض معها اختلاط الذهن وبعضها «يرقانيّة» وهي التي يعرض معها اليرقان. وقد وصفت الحال في جميع ذلك في الكتب التي وصف فيها أمر الحمّيات.
وأمّا في هذا الموضع فقد فرغت ممّا يحتاج إليه في شرح هذا القول الذي تقدّم. وذلك أنّي مع صفتي لرأيي وقولي فقد ذكرت أيضاً المشهورين من المفسّرين
وألغيت ذكر سائر المفسّرين وذكر من وصف شيئاً في أصناف الحمّيات من غير أن يكون وضع تفاسير في كتب أبقراط ومنهم أرخيجانس وسأذكرهم في كتاب غير هذا.
(٣٠) قال أبقراط: تمدّد البدن وصلابة المفاصل وأن يكون المريض نفسه مسترخياً وانطواء المفاصل كلّ ذلك رديء.
قال جالينوس: أمّا «التمدّد» فضدّه المسترخي وأمّا «الصلب» فضدّه اللين. فقد قال أبقراط فيما بعد «إنّ علاج الجلد الصلب التليين وعلاج المتمدّد إرخاؤه». ومتى قلنا في شيء من الأشياء إنّه «متمدّد» كان ذلك الشيء جلداً أو كان مفصلاً أو كان بدناً فإنّما نقول إنّه كذلك ونحن نقيسه إلى ما هو على الحال الطبيعيّة والذي هو على الحال الطبيعيّة ليس هو «بالمتمدّد» ولا «بالمسترخي» لاكنّه معتدل بين الحالين.
وكلّ ما يتمدّد فإنّما يتمدّد إمّا من علّة فيه وإمّا من علّة في عضو آخر غيره يجذبه ويمدّده. أمّا من علّة فيه فإذا غلب عليه البرد غلبة قويّة حتّى يجمّده أو جفّ بسبب بعض الأشياء المجفّفة فقد علمت أنّ تلك الأسباب كثيرة. وأمّا تمدّد العضو من غيره بما يتّصل به فيحدث عند ورم يحدث فيه أو جفوف أو جمود. وأمّا «استرخاء» العضو حتّى يخرج عن حاله الطبيعيّة فيحدث عند غلبة الرطوبة عليه وكثرتها فيه من غير برد.
وكلّ ما يصلب فإنّما يصلب إمّا بسبب البرد وإمّا بسبب الورم الجاسئ. فأمّا الورم الحارّ فليس يجعل العضو الذي يحدث فيه صلباً لاكنّه يجعل مدافعاً بمنزلة الزقّ المملوء من جوهر رطب أو من جوهر هوائيّ. وكما أنّ المدافع يوجد في
الحسّ قريباً من الصلب للعرض المشترك بينهما إذ كان الصلب أيضاً مدافعاً — على أنّ ما بينهما في طبيعة كلّ واحد منهما التي تخصّه اختلاف كثير — كذلك بين الجسم الليّن وبين الجسم المسترخي تشابه فيما يخيّل للحسّ لاكنّه ليست الحال فيها حالاً واحدة. وذلك أنّ استرخاء أبدان المرضى إنّما يكون عند ضعف القوّة التي تحرّك العضل وقد دلّ أبقراط على هذه الحال بقوله «وأن يكون المريض نفسه مسترخياً».
ثمّ قال بعد هذا قولاً ليس بالبيّن وهو قوله «وانطواء المفاصل» وقد غيّر قوم آخرون اللفظة التي تدلّ على «الانطواء» حتّى صار معناها «الاضطجاع». وإن تذكّرنا ما قاله أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة من أمر الاضطجاع علمنا كيف ينبغي أن تكتب هذه اللفظة وعلى أيّ معنى ينبغي أن تدلّ. وهذا هو قول أبقراط: «وينبغي أن يجد الطبيب 〈المريض〉 مستلقياً على جانبه الأيمن أو الأيسر ويداه ورجلاه وعنقه منثنية قليلاً». وذلك أنّ هذه المفاصل إذا كانت ليست بمنثنية أصلاً وإن كان انثناؤها بأكثر ممّا ينبغي فكلّ واحد من هذين دليل رديء لأنّه ليس واحد منها يجري المجرى الطبيعيّ. وممّا يدلّ على ذلك قول أبقراط: «إنّ أكثر الأصحّاء إنّما يستلقون للنوم بهذه الحال». ولذلك قال فيما بعد: «فأمّا استلقاء المريض على قفاه مع تمدّد يديه ورجليه ورقبته فأقلّ حمداً من ذلك». وقد بيّنت لك أنّ
هذا الاستلقاء يدلّ على ضعف القوّة 〈و〉أكثر منه دلالة على ذلك الاستلقاء الذي ذكره بهذا اللفظ: «فإن كان مع ذلك يستسقط وينحدر من أعلى سريره نحو قدميه فذلك أردأ». فقد دلّ على هذه الأنحاء من الاضطجاع بقوله «وأن يكون المريض نفسه 〈مسترخياً〉».
فإن كان يحمد من اليدين والرجلين أن يكونا منثنيتين قليلاً فما جاوز ذلك فهو يدلّ على إفراط «انطواء من المفاصل». ولذلك وصف «انطواء المفاصل» في هذا القول بأنّه «رديء» وبهذا الاسم سمّاه. وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «ومن دلائل الموت أيضاً أن يكون المريض ينام دائماً وفمه مفتوح وأن تكون رجلاه وهو مستلقٍ على قفاه منثنيتين انثناء شديداً مشتبكتين» أو «منفحجتين» — فقد نجد في بعض النسخ «مشتبكتين» وفي بعضها «منفحجتين» — ومعنى ذلك أن يكونا متباعدتين تباعداً شديداً والمعنى يدلّ على النسختين جميعاً أنّ المفاصل في تلك الحال منثنية منطوية انثناء شديداً. ولذلك صار الأجود في هذا الموضع أن نقرّ في النسخة التي تدلّ على الانطواء ولا نغيّر حتّى تدلّ على الاستلقاء لأنّ الاستلقاء لا يكاد يقال على المفاصل لأنّ من عادة أبقراط أن يستعمل هذا الاسم على البدن كلّه لا على المفاصل.
(٣١) قال أبقراط: الجرأة في النظر من دلائل اختلاط العقل واستسقاط النظر وانكساره دليل رديء.
قال جالينوس: أمّا «النظر بحدّة» فيدلّ على اختلاط الذهن ولا سيّما إذا كان من طبعه الحياء كما قد قلت مراراً كثيرة. وأمّا «استسقاط النظر» فهو ضدّ النظر بإقدام وجرأة. وذلك أنّ «الاستسقاط» إنّما يدلّ على أنّ المريض لا يقدر أن يفتح عينيه كثيراً لضعف القوّة التي يكون بها تدبيره لجفنين. وأمّا «انكسار» العينين فيعني به التواء الأجفان كما وصف في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «فإن كان الجفن ملتوياً أو كان كمداً أو كانت الشفة أو الأنف بهذه الحال» فذلك دليل رديء.
تمّت المقالة الأولى من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثانية
المقالة الثانية من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: قد يحتاج إلى أن توسّع وإلى أن تضيّق في البعض وفي البعض لا.
قال جالينوس: إنّ ما يصف من هذا أيضاً ضروب من المداواة تصلح لعلل متضادّة. وذلك أنّ الأعضاء التي قد تكاثفت وتلزّزت تحتاج إلى أن تسخّف «وتوسّع» والأعضاء التي قد اتّسعت بأكثر ممّا ينبغي يحتاج إلى أن تكثّف. والتي تضيق وتتّسع على الاعتدال الجاري المجرى الطبيعيّ ربّما كان أفواهاً محسوسة من عروق أو من أعضاء غير العروق وربّما كان الذي يتّسع ويضيق أفواهاً لا يدرك حسّاً وإنّما يعرف بالقياس إمّا في الجلد وإمّا في عمق البدن. وينبغي أن نقصد لما قد اتّسع فتقبّض ويجمع بالقبض والتبريد ونقصد لما قد تكاثف وتلزّز فيفتح ويوسع ويخلخل بالإسخان المعتدل. وقد وصفت لكم القول في هذا كما وصفت الأقاويل في سائر أنحاء المداواة بالشرح البالغ التامّ في كتاب حيلة البرء.
(٢) قال أبقراط: يحتاج في بعض الأخلاط إلى دفعها وفي بعضها إلى بعض تجفيفها وفي بعضها إلى بعض أن تودعها البدن وفي بعض المواضع وفي بعضها لا.
قال جالينوس: قد وصفت لكم الأمر في هذا بقول أبلغ وأتمّ من هذا في كتاب الأخلاط ووصفت لكم ذلك أيضاً في كتبي في مداواة الأمراض. فقلت إنّه ربّما احتيج إلى أن تستفرغ الأخلاط المؤذية استفراغاً محسوساً إمّا بالقيء وإمّا بالحقن بالأدوية المسهلة وإمّا بالبول وإمّا بالعرق وإمّا بالفصد وإمّا بتفتّح أفواه العروق التي في السفلة وإمّا بالطمث وإمّا بالتشريط وربّما احتيج إلى تحليل تلك الأخلاط بالأدوية التي توضع من خارج. وقد سمّى أبقراط هذا الفعل «تجفيفاً» وسمّى الفعل الأوّل «دفعاً» وقد يعمّ الأمرين جميعاً الاستفراغ. فجعل بإزائه معنى ثالثاً للمعنيين اللذين تقدّما وأشار إليه بقوله «يودعها البدن» وإنّما عنى بذلك أن تولد في البدن الأخلاط التي قد نقصت منه. ومن البيّن أنّه إنّما «تودع» تلك الأخلاط بما يؤكل ويشرب بعد أن يتخيّر ما يحتاج إليه منها في الكيفيّة والكمّيّة ويعني بما يتناول من ذلك حتّى يُستمرأ وينفذ في البدن ويتّصل به.
وأمّا قوله «وفي بعض المواضع وفي بعضها لا» فإنّه لو لم يقله فقد كان بيّناً. فقد نجد كثيراً في بدن واحد بعض الأعضاء زائدة ممتلئة تحتاج إلى الاستفراغ وبعض الأعضاء ناقصة خاوية تحتاج إلى أن يزاد فيها وتملأ.
(٣) قال أبقراط: وقد يحتاج إلى أن تلطّف وإلى أن تغلّظ الجثّة والجلد واللحم وسائر ما في البدن ويحتاج إلى ذلك في بعضها وفي بعضها لا.
قال جالينوس: أمّا قوله «الجثّة» فينبغي أن يفهم البدن كلّه. وذلك أنّا قد نحتاج إلى أن «نلطّفه» ونهزّله إذا غلظ وعبل حتّى يفرط ذلك عليه ونحتاج إلى أن «نغلّظه» ونسمّنه كثيراً إذا أفرط عليه القضف والهزال. وربّما لم يحتج إلى أن نفعل ذلك به كلّه واحتاج أن نفعله ببعض «اللحم» الذي فيه أو «بالجلد» وحده وربّما احتيج أن نفعل ذلك بالأخلاط وإليها أشار بقوله «وسائر ما في البدن». وأمّا قوله «ويحتاج إلى ذلك في بعضها وفي بعضها لا» فإنّما قاله على النحو الذي شرحته في القول الذي قبل هذا.
(٤آ) قال أبقراط: وقد يحتاج إلى أن تملّس وإلى أن تخشّن وإلى أن تصلّب وإلى أن تليّن ويحتاج إلى ذلك في البعض وفي البعض لا.
قال جالينوس: إنّك إذا فهمت عنه الغرض العامّ الكلّيّ في أنحاء المداواة قدرت أن تفهم عنه جميع المذاهب الجزئيّة في العلاج الذي يذكرها. وذلك أنّه إن كان «الضدّ إنّما يكون شفاؤه بالضدّ» فقد تحتاج فيما قد خشن حتّى يخرج عن حاله الطبيعيّة إلى أن «تملّس» وتحتاج فيما قد ملس حتّى خرج في ذلك عن حدّه الطبيعيّ إلى أن «تخشّن».
وقد يخشن كثيراً الحلق خشونة محسوسة وقصبة الرئة والفم والجلد كلّه في علل الجرب والتقشّر والقوابي وعند ظهور البثور فيه [و]الصغار التي منها ما يشبه حبّ الجاورس ومنها أصغر من ذلك ومنها أكبر من ذلك. وربّما خشنت أيضاً نواحي البطن من داخل إذا مرّ بها مرار صرف كثير في حال استفراغه من البدن 〈…〉 لمداواة ما هذه حاله ما يصلح الخشونة وهو المعنى الذي أشار إليه بقوله «يحتاج إلى أن تملّس».
وأمّا المواضع التي تحتاج إلى أن «تخشّن» فحالها حال ما ذكرنا وقد يكون ذلك في الجلد الذي فيه نبات شعر الرأس واللحية وأمّا في مواضع نبات شعر الرأس ففي داء الثعلب وداء الحيّة وانتثار الشعر وأمّا في موضع اللحية ففي ما يبطئ نبات لحيته. وقد جرّبنا في أصحاب تلك الحال جميع الأدوية التي تنفع من داء الثعلب فوجدتها تبلغ ما يحتاج إليه فيهم.
وقد يحتاج «التخشين» في سائر أعضاء البدن عند حاجتنا إلى أن نلزّق شفتي القرحة الواحدة بالأخرى أو عند حاجتنا إلى أن نلزّق مواضع من اللحم بينها فضاء في القروح التي تجابئ. فأمّا إذا احتجنا إلى لزاق تلك المجابئ جفّفناها بأدوية معها قوّة جلاء فخشّنّا تلك المواضع وإذا امتلأت أيضاً المعد من البلغم اللزج فإنّا كثيراً ما نجلوها بأدوية ونخشّنها. ومن هذا الجنس أيضاً الأدوية التي تفتح أفواه العروق التي في السفلة والأدوية التي تحتمل لإحدار الطمث.
وإذا كان في الجفن أيضاً جرب فإنّا نخشّنه أوّلاً ثمّ نستعمل الأكحال التي تنقّي الجرب وتقلعه وإنّما نفعل ذلك كيما تصل قوّة الأدوية إلى عمق تلك المواضع التي شبّت من الجفن. وقد علمتم أنّي أستعمل في ذلك الجلد الخشن من السمكة العظيمة المعروف بالسفن وخزف السرطان البحريّ والقيشور وهو الذي
يعرفه العرب «بالغينك». وإذا لم يحضرني شيء من تلك خشّنت الموضع بكفّة الميل وأتخيّر من الأميل ما طرفه ضيّق وليس بواسع.
وإذا قصدنا أيضاً إلى قلع السعفة والقروح التي تشبّه بكوارة العسل والثآليل التي تسمّى «النمل» وسائر ما أشبه ذلك ممّا نقصد لنداويه بالأدوية فإنّما نتقدّم أوّلاً فنخشّن تلك المواضع تخشيناً معتدلاً إمّا بالأظفار وإمّا بخرقة خشنة وإمّا بشيء ممّا تقدّم ذكره ثمّ نضع عليها الأدوية.
(٤ب) قال أبقراط: وإلى أن تصلّب وإلى أن تليّن.
قال جالينوس: قد نحتاج إلى هذين الفعلين أيضاً كثيراً وربّما احتجنا إليهما في البدن كلّه وربّما احتجنا إليهما في العضو الواحد. وذلك أنّه إذا كان للبدن كلّه مترهّلاً متربّلاً على طريق الاستسقاء فإنّا «نصلّبه» بدلكه بالمناديل أو باستعمال الدلك. وكنّا نأمر صاحب هذه الحال أن يستعمل الرياضة في موضع فيه غبار ومن لم يحتمل هذه الأشياء استعملنا فيه أدوية مجفّفة ننشرها على بدنه ونمنعه من الاستحمام ونستعمل فيه الدلك الذي ذكرناه ونزيد في ذلك قليلاً قليلاً بحسب القوّة. إذا كان عضو واحد من الأعضاء بالحال التي وصفنا عالجناه بما نصلّبه على حسب ما وصفنا. وقد يكون ذلك منّا كثيراً في اليدين والرجلين وإدمال القروح كلّها أيضاً إذا امتلأت من اللحم فإنّما يكون منّا بالتصليب. وذلك أنّ اللحم إذا صلب صار بمنزلة الجلد وحدث الاندمال. وقد نستعمل ضدّ ذلك «فنليّن» ما قد صلب من اللحم وما قد جسأ من الأورام بمنزلة ما يرى من الطحال إذا جسأ وكذلك «نليّن» الجلد الذي قد غلظ في علّة الجذام. وإذا اندملت القرحة أيضاً وكان موضع أثرها أصلب ممّا ينبغي ليّنّاها كما قد نصلّب ما هو مفرط اللين.
(٥-٦) قال أبقراط: ويحتاج إلى أن تنبّه وإلى أن تخدر وإلى غير ذلك ممّا أشبهه.
قال جالينوس: أمّا «التنبيه» فيحتاج إليه في الحسّ والحركة ممّن قد ضعفتا وخارتا فيه ومبلغ الدرك في ذلك عظيم وأمره بيّن. وأمّا «الإخدار» فإنّما ينتفع به في بعض الأحايين إذا كان الألم شديداً فقط فإنّا عند ذلك نستعمل ما يتّخذ من الأدوية بالأفيون وباليبروح وبالبنج. وقد قال أبقراط: «إنّ الخدر اليسير يذهب بالألم». فإن استعملت هذه الأدوية المخدرة ومعها فضل قوّة أو أكثر من استعمالها برّدت البدن تبريداً شديداً وأحدثت فيه حال الخمود والموت.
وأمّا قوله «وإلى غير ذلك ممّا أشبهه» فيعني به بجميع ما يكون على طريق الضدّ على مثل ما وصفت فيما تقدّم إمّا بأن يسخن وإمّا بأن يبرّد وإمّا بأن يرطّب وإمّا بأن يجفّف وإمّا بأن يدخل شيئاً قد خرج وإمّا بأن يقطع شيئاً أصلاً ممّا هو في جنسه خارج عن الحدّ الطبيعيّ وإمّا بأن يقطع من الشيء الذي قد خرج في مقدار عظمه عن الحدّ الطبيعيّ حتّى يصغر وإمّا بأن يسوّي شيئاً قد اعوجّ وإمّا بأن يفتح مجرى قد انسدّ أو يفعل غير ذلك ممّا قد وصف في كتاب حيلة البرء. والغرض العامّ فيها كلّها استعمال الضدّ في كلّ علّة.
(٧) قال أبقراط: وقد يحتاج إلى 〈أن〉 تزيل الاستفراغ عن موضعه إلى موضع قريب منه.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد ابتدأ في هذا الموضع أن يصف أصنافاً من العلاج يداويها الأخلاط قد وصفها بقول أبلغ من هذا وأتمّ منه في كتابه في الأخلاط وذكره في هذا الموضع له على طريق التذكرة. وأوّل تلك الضروب هذا الضرب الذي ذكره في هذا القول وهو أن يكون خلط من الأخلاط يحتاج إلى الاستفراغ قد مال إلى موضع من المواضع ليستفرغ منه ولم يكن ذلك الموضع الذي مال إليه ليستفرغ منه بالبعيد جدّاً من الموضع الذي ينبغي أن يستفرغ منه ولا في خلاف الجهة التي ينبغي أن يكون استفراغه منها فيحتاج إلى أن «يزال» ذلك إلى الموضع القريب الذي ينبغي أن يستفرغ منه. مثال ذلك أن يكون خلط من الأخلاط قد مال إلى الاستفراغ بالبول والمثانة عليلة والكلى فإنّه إذا كان ذلك فقد ينبغي أن «تزيل» استفراغ ذلك الخلط فتجعله يستفرغ بالبطن وكذلك إن كان خلط من الأخلاط قد مال إلى أن يستفرغ بالبطن والأمعاء عليلة فينبغي أن يزال استفراغ ذلك الخلط الذي يحتاج إلى الاستفراغ إلى طريق البول. وإذا كانت العلّة بامرأة فكثيراً ما تزيل الاستفراغ حتّى يكون من الرحم. وربّما استعملنا خلاف ذلك إذا كان فضل يجري من الرحم فنزيله إلى طريق البول والبطن. فإن استعملنا القيء في نوع من هذه الأنواع من الاستفراغ لم يسمّ أبقراط ذلك «إزالة الاستفراغ إلى موضع قريب» لاكنّه يسمّيه «قلب الاستفراغ إلى ناحية مضادّة لموضعه» كما لو كان بإنسان قيء فقلّبنا الاستفراغ نحو الرحم أو نحو المثانة أو نحو الدبر.
(٨) قال أبقراط: إذا قلّبت الاستفراغ إلى ضدّ موضعه فما واتاك فاجتذبه على المكان وأمّا مانعك فسامحه.
قال جالينوس: إنّه كان تبع ذكره «إزالة الاستفراغ عن موضعه إلى موضع قريب منه» أن يذكر بعده «قلب الاستفراغ إلى ضدّ موضعه» ثمّ يصف كيف أفضل الوجوه التي بها يصل 〈…〉 فواصل إلى فعل ذلك لاكنّ أبقراط لم يقصد لذكر «قلب الاستفراغ إلى ضدّ موضعه» على نحو ما قصد به من ذكر «إزالة الاستفراغ» لاكنّه قصد منذ أوّل قوله هذا لذكر شيء هو أنفع ما يحتاج إلى علمه من أراد «قلب الاستفراغ إلى ضدّ موضعه» من الأخلاط التي قد مالت إلى عضو من الأعضاء على غير ما ينبغي وهو أنّه لا ينبغي أن يدمن استعمال العلاج الذي به يكون «قلب الاستفراغ إلى ضدّ موضعه» حتّى يستعمل دائماً لاكن يغبّ في بعض الأوقات ويتركه استعمال تلك الأشياء التي يكون بها الجذب إلى الناحية المضادّة كيما يخلّي الخلط الذي قد سبق فتمكّن وثبت في العضو العليل حتّى يتفرّغ فيخرج. وذلك أنّه إن بقي فيه أذاه ضربين من الأذى أحدهما أنّه يمدّده بكثرته والآخر أنّه ينكاه بكيفيّته. فإن أنت تركت تلك الأخلاط التي قد سبقت فحصلت في ذلك العضو لتستفرغ وتخرج منه حتّى تريحه من الألم كان فعلك بالعلاج الذي «يقلّب به الاستفراغ إلى ضدّ موضعه» أسهل وأبلغ نفعاً لأنّ العضو حينئذ لا تهيّج الأخلاط إلى الميل إليه الذي قد كانت الأخلاط مالت إليه على غير ما ينبغي.
قال حنين: ما أرى أنّ جالينوس بلغ في شرحه لهذا الفصل ما يحتاج إليه وذلك أنّي رأيت أبقراط قد قصد في استفراغ الخلط الذي قد ثبت وتمكّن في عضو من الأعضاء من المواضع المضادّ له إلى معنيين أحدهما المبادرة والآخر ألّا يجعل الاستفراغ متّصلًا دائماً لاكن يجعل بين فترات ورأيت جالينوس قد شرح معنى قوله في المبادرة وإن لم يكن وضع ذلك موضعه ولم يشرح قوله في المعنى الآخر. فرأيت أن أضيف إلى ما قال ما نقص من قوله بالسهو منه وهو أنّ الاستفراغ إذا كان دائماً متّصلًا لم يكن جميع ما يستفرغ من العضو الذي ثبت فيه وتمكّن الخلط لاكن يكون من غيره من الأعضاء التي هي أقرب. ومتى كان فيما بين الاستفراغ فترات كان يخرج في كلّ وقت من أوقات الاستفراغ خرج من ذلك الخلط الثابت المتمكّن في ذلك العضو الآلم وكان في أوقات الفترات كلّ واحد من الأعضاء التي تفرّغت أكثر وهي الأقرب تجذب شيئاً من الأعضاء التي تفرّغت أقلّ وهي الأبعد حتّى ترجع الأخلاط في العروق إلى التساوي في المقادير فيجب من ذلك أن تكون الأخلاط التي ثبتت في العضو والتي ثبتت فيه بهذه الطريق تخرج قليلاً قليلاً حتّى تتفرّغ.
(٩) قال أبقراط: وقد يحتاج أن تخرج خلطاً غير الخلط المنبعث وإلى أن ينبعث ويعان المنبعث وإلى أن تربك الشبيه مثل أنّ الوجع يحلّ الوجع وغير الشبيه حيث مال الشيء إن فار إلى فوق فينبغي أن يحلّ من أسفل وضدّ ذلك هو بعينه مثال ذلك تنقية الرأس والفصد إذا لم يكن الإخراج جزافاً.
قال جالينوس: أمّا قوله «إمّا أن تخرج خلطاً غير الخلط المنبعث» فيبيّنه لك ما وصفه في كتاب الفصول وفي كتاب الأخلاط. وذلك أنّه متى كان الخلط المؤذي المحدث للعلّة هو الذي يخرج وكان استفراغه معتدلاً فينبغي أن تغتنم ذلك
وتمسك أنت فلا تحدث حدثاً. ومتى كان الخلط الذي يخرج غير الخلط المؤذي المحدث للعلّة رمت منع ذلك الخلط من الخروج وإخراج الخلط المؤذي. ومتى كان الخلط الذي يخرج أيضاً هو الخلط المؤذي ثمّ لم يكن استفراغه استفراغاً معتدلاً احتجت عند ذلك أيضاً أن تستعمل بعض الأمر فتمنع أحياناً بعض المنع إن كان الخروج أكثر ممّا ينبغي وتزيد في الخروج وتقوّيه وتعينه أحياناً إذا كان أقلّ ممّا ينبغي.
وإلى هذا المعنى قصد أبقراط بقوله «وإلى أن يبعث ويعان المنبعث». وذلك أنّ من عادته استعمال هذه اللفظة أعني «الانبعاث» عن انصباب الأخلاط وتفرّغها من العروق. وأمّا قوله «تربك» فقد علمت أنّ هذه اللفظة إن فهم عنه منها ما يخلط أو يعجن لم يكن التأويل في هذا القول تأويلاً مقنعاً لا إن وصلت هذه اللفظة بما تقدّم من قوله ولا إن جعلتها ابتداء ما يتلوها من قوله. وذلك أنّ التأويل على هذين الوجهين جميعاً لا يجري مجرى مطابقاً للكلام.
وذلك دعا قوماً إلى أن وصلوا تلك اللفظة بما تقدّم من قوله فأتبعوها به وجعلوا ما بعدها ابتداء لقول آخر على هذه المثال: «الشبيه مثل أنّ الوجع يسكّن الوجع». ووصل تلك اللفظة قوم آخرون بما بعدها فجعلوها ابتداء له حتّى صار القول على هذا المثال: «وإلى أن تربك الشبيه». ولمّا كان التأويل كما قلت قبيل على كلّ واحد من هذين الوجهين غير مقنع اضطرّ قوم كثير إلى أن غيّروا تلك اللفظة وتلك عادتهم في سائر الأقاويل التي تلحق بها الغموضة من قبل لفظة واحدة منها والتمسوا في تغيّر تلك اللفظة أن يحرّفوها بعض التحريف ويبدّلوا أحرفاً يسيرة منها كما من عادتهم أن يفعلوا حتّى يدلّ على معنى آخر. فحرّفها قوم تحريفاً صار به معناها «يمزج» «ويغيظ» وحرّفها آخرون ضرباً آخر من التحريف صار به معناها
«يحدث» «ويجعل» ثمّ قالوا إنّه أتبع ذلك القول بقوله جعله له مثالاً وهو قوله «مثل أنّ الوجع يسكّن الوجع» — وقد يوجد هذا القول مكتوباً في كثير من النسخ وليس يوجد مكتوباً في النسخة التي قرأها وفسّرها ديسقوريدوس والصواب من ذلك ما يوجد في تلك النسخة. فإنّ الأمر عندي كأنّه إنّما كان القول لحقاً ألحقه بعض من قرأ في ذلك الكتاب على طريق الشرح ثمّ وجده بعض النسّاخ ملحقاً فنقله فأدخله في نفس الكتاب.
وأمّا من يحرّف تلك اللفظة حتّى صار معناها «يمزج» «ويغيظ» فقد أتى بعبارة خبيثة جدّاً من عبارة أبقراط أعلى المعالج تأوّلت «الإخراج» «والإغاظة» «والقبض» أو على الفضول التي تداوى أو على الأخلاط. وذلك أنّهم إنّما ذهبوا في تأويلهم ما تأوّلوا إلى أنّك كأنّك تهيّج وتنبّه وتحثّ على الاستفراغ.
إلّا أنّ هذا ومثله شيء قد ينبغي أن يستهان به ويستقلّ قدره وكذلك جميع ما كان القصد فيه لطلب الألفاظ ما دامت حقائق الأمور ومعانيها باقية محفوظة على حالها. فإن غيّرت الأمور تغيّراً يزيل الأمور والمعاني عن حقائقها فقد ينبغي أن نحذر ما كان من النسخ بتلك الحال.
مثال ذلك شيء قد أدخل في هذا القول وذلك أنّ جميع المفسّرين إلّا الشاذّ منهم قد قبل أنّ بعض المداواة قد تكون أحياناً للشيء المشابه لما يتداوى به منه وأنّه ليس تكون المداواة دائماً بضدّ الشيء الذي يتداوى به منه. وقد كان أبقراط توهّم أنّ قوماً سيتوهّمون ذلك فنبّه على غلطهم بمثال واحد أتى به في كتاب الفصول أزال به الشبهة والخديعة حين قال: «وربّما صبّ على من به تمدّد من غير قرحة وهو شابّ حسن اللحم في وسط من الصيف ماء بارد كثير فأحدث فيه
انعطافاً من حرارة كثيرة فكان تخلّصه بتلك الحرارة». وذلك أنّ التمدّد علّة باردة وقد يظنّ ظانّ أنّه يبرأ بعلاج مشابه لها وهو صبّ الماء البارد على صاحبها. وليس الأمر كذلك وذلك أنّ الماء البارد إنّما ينفع في هذه العلّة بما يحدث للحرارة من الانعطاف وإن لم يفعل الماء البارد ذلك الانعطاف في صاحب هذه العلّة ضرّه غاية المضرّة. وكما قد يظنّ لهذا العلاج أنّه علاج مبرّد وهو إنّما ينفع بإسخانه للبدن حتّى تبرأ به هذه العلّة الباردة أعني التمدّد كذلك قد نجد أشياء أخر مسخنة تبرّد بالعرض بتحليلها للحرارة المفرطة. وقد وصفت الأمر في ذلك في كتابي في حيلة البرء فبيّنت فيه أجمع أنّ علاج كلّ علّة وبرأها إنّما يكون دائماً بالأشياء المضادّة لها.
فأمّا من توهّم أنّ الوجع اليسير يداوى بالوجع الذي هو أشدّ منه فيبرأ به فقد ذهب عليه أجلّ الأمر وأعظمه. وذلك أنّه ليس يكون علاج الوجع وبرؤه بالوجع لاكنّه إنّما يكون علاج العلّة الفاعلة للوجع وبرؤها بالشيء الذي يحدث منه الوجع. فقد علمتَ أنّ المداواة والبرء ليس سبق نسبة أوّليّة إلى شيء من الأعراض أصلاً وأنّه إنّما ينسبان دائماً إلى العلّة المحدثة للوجع. فإن قال قائل إنّه ليس يكون علاج المثل وبرؤه بالمثل في حال من الأحوال على طريق ما يفعله الشيء بذاته فعلاً أوّليّاً لاكنّ ذلك قد يكون بطريق العرض بتوسّط الأشياء التي هي متضادّة كان قوله ذلك حقّاً. وقد وصفنا لك ذلك وأتيناك فيه بالحقّ اليقين في كتاب حيلة البرء وفي تفسيرنا كتاب الفصول.
فأمّا ما قاله قوم من أنّ الذي يكوي الورك من صاحب وجع النسا يداوي الوجع ويبرئه بالوجع فالشناعة فيه بيّنة واضحة. وذلك أنّ الوجع في تلك الحال ليس يبرأ بسبب الوجع لاكنّه إنّما يبرأ بسبب الكيّ الذي لزمه الوجع بطريق العرض. ومن قصد إلى ذلك العضو فأحدث فيه وجعاً فإن هشمه أو جزّه أو بطّه وكيفما فعل به فإنّه لن يبرأ بذلك ولو كان الوجع هو السبب في المنفعة لكان سيكون به دائماً في كلّ حال برء صاحب وجع النسا. وكذلك أيضاً فإنّ الذي ينتزع الضرس بالكلاليب
ممّن يوجعه ضرسه فقد يسكن الوجع على صاحبه لا بسبب الوجع الذي حدث عن قلع الضرس لاكن بسبب قلع الضرس الذي لزمه الوجع ولو كان يمكن أن يقلع الضرس من غير وجع لقد كان سيسكن عن صاحبه الوجع مثل ما يسكن بقلعه مع الوجع. وإن أنت لم تقلع الضرس المؤلم ثمّ ضغطته أو حرّكته حتّى تؤلمه صار الوجع أشدّ ممّا كان من غير أن ينتفع بشيء ممّا أحدثت من الوجع.
فقد تبيّن من الوجهين جميعاً أنّ الوجع لا ينفع المواضع التي فيها وجع. وذلك أنّ مواضع كثيرة من المواضع التي يكون فيها ألم قد يبرأ بضروب من المداواة لا يحدث معها ألم ومواضع أخر يكون فيها وجع من علّة بها فتحدث عليها أوجاع شديدة من أشياء تلقاها من خارج فلا تسكّن شيء أصلاً من ذلك الوجع الذي كان بها. وليس يكون برء الموضع الذي فيه ألم بشيء سوى شيء واحد وهو ما يُذهب عنه بعلّته كيفما فعل ذلك كان ذلك بلا وجع أو كان مع وجع.
وأمّا الوجع بذاته فليس من شأنه تسكين الوجع لاكن من شأنه ضدّ ذلك أعني أنّه يهيّجه ويزيد فيه. فقد تبيّن الأمر في هذا المثال أنّه مثال بهرج وأنّه مقبل على مثال آخر ذكروه فأبين القبح والشناعة والخطاء فيه وهو أنّهم قالوا إنّ القيء قد يبرأ بالقيء كثيراً واختلاف المرار الحادّ اللذّاع قد يبرأ بالحقنة الحادّة اللذّاعة. والعلاج الذي يكون به البرء في هذه العلل أيضاً علاج واحد وهو إبطال العلّة التي منه يحدث التهوّع والقيام المتواتر مع اللذع. وذلك يكون كما قد علمتم على وجهين أحدهما أن تستفرغ الأخلاط التي عنها حدث الغثي والتهوّع واللذع في الأمعاء والآخر أن تنضج تلك الأخلاط وتغيّر كيفيّتها إلى كيفيّة طيّبة أو تمزجها بما يصلحها. وقد بيّنّا أنّ المداواة التي يكون بها البرء في هذه الأحوال أيضاً إنّما تكون بالأضداد. وذلك أنّ الاستفراغ للخلط الغريب الخارج عن الحدّ الطبيعيّ عن
آخره ضدّ إبقاء ذلك الخلط الغريب في البدن والتغيّر الذي يكون في الكيفيّة إنّما يكون بالكيفيّة المضادّة لها.
وليس ينبغي أن نطيل اللبث في هذا الموضع إذ كنّا قد بيّنّا في كتاب حيلة البرء كلّه عن آخره أنّ المداواة والبرء إنّما يكونان بالأضداد لاكنّه لمّا كان قوم كثير مراراً كثيرة قد دعتهم أقاويل من أقاويل أصحاب التجارب ومن أقاويل المنسوبين إلى الحيلة إلى أن خالفوا هذا القول ودفعوه بأقاويل قالوها شبيهة بهذه الأقاويل التي ذكرتها قبيل فكأنّي رأيت أنّ الأجود من بعد فراغي من تفسيري لهذا الكتاب أن أكتب كتاباً أبيّن فيه أنّه ليس تكون مداواة الضدّ إلّا بضدّه فقط إذا نظرتَ في فعل الأضداد الأول التي برأ بها. فأمّا بطريق العرض فقد يمكن أن يداوى المثل بالمثل كما قد يداوي الطبيب الأصلع المريض الأصلع والطبيب الأفطس المريض الأفطس والأعرج للأعرج وأجعل عنوان الكتاب الذي أكتبه في ذلك «أبقراط قد أحسن في قوله إنّ علاج الضدّ وبرأه إنّما يكون بالضدّ».
وأمّا الآن فإنّي راجع إلى تفسير هذا القول الذي أخذت في تفسيره وأبني الأمر فيه على تلك اللفظة التي غيّرت فيه باقية على حالها على ما قلت إنّها توجد مكتوبة في النسخ القديمة وإنّ أقدم من فسّر هذا الكتاب كذلك يعرفها تكتب. وقد حفظها على ما وجدها من ذلك ديسقوريدوس وآله على أنّهم قد غيّروا كثيراً
من النسخ القديمة. وإذا حفظنا تلك اللفظة على حالها قدرنا أن نفهم عن أبقراط أنّه أثبت هذا القول تذكرة لنفسه كما أثبت أقاويل أخر كثيرة على طريق الإشارة بغاية القصر والإيجاز وكتب «تربك الشبيه». وذلك أنّه قد كان تقدّم فقال إنّه ربّما احتيج إلى أن يعان الشيء الذي قد تقدّم خروجه حتّى يقوى ويزداد وأردف ذلك بأن قال «إلى أن تربك الشبيه» يعني أن يخلتط بما قد تقدّم استفراغه على ما ينبغي مثله. وقد يمكن أن يتأوّل قوله بعد «وغير الشبيه» على هذا المعنى بعينه 〈…〉 〈…〉 وذلك أنّه قد يحتاج مع استفراغ ما قد تقدّم استفراغه خلط من الأخلاط ثمّ كان محتاجاً إلى إخراج أخلاط من البدن فقد ينبغي أن تشبّه تلك الأخلاط به وتخرج معه كانت مشابهة له أو كانت غير مشابهة.
وقد يمكن أن نفرّق هذا القول فنقطع القول الأوّل ونعزله على حدته فنقول «وإلى أن تربك الشبيه» ونبتدئ في القول الثاني بما يتلو ذلك فنقول «وغير الشبيه» حيث قال «الشيء إن فار إلى فوق فينبغي أن يحلّ من أسفل» حتّى يكون معناه في هذا القول هذا المعنى الذي أنا واصفه: إنّ الرطوبات التي لا تشابه وتشاكل الأعضاء التي تميل إليها متى كانت قد ارتفعت إلى فوق فينبغي أن تحلّ من أسفل وإن كانت قد مالت إلى أسفل فينبغي أن تجذب من فوق حتّى نفهم من قوله «غير الشبيه» الأشياء التي هي غير مشاكلة للمواضع التي هي فيها.
وقد يحتمل هذا التفسير بعينه النسخة التي غيّرت فيها تلك اللفظة حتّى صار معناها «يصيّر» «ويجعل» فنقول إنّ معناها في قوله «يصيّر الشبيه وغير الشبيه» أنّه ينبغي أن يجعل الخلط الذي يلتمس استفراغه مع الخلط الذي قد تقدّم استفراغه شبيهاً بذلك الخلط فإن كان شبيهاً به استفرغته وهو بحاله وإن كان غير شبيه بالخلط الأوّل شبّهته به.
وقد يمكن أن تزال تلك اللفظة كما أزالها قوم إلى معنى آخر يجري مجرى الاستعارة على طريق التشبيه بالحيوان الذي يهيج بالنزو والسفاد. وممّا يصحّح ذلك أنّا قد نجد أبقراط قد استعمل هذه اللفظة على هذا المعنى حين قال: «إنّه ينبغي أن يستعمل الدواء المسهل في الأمراض الحادّة جدّاً إن كان الشيء هائجاً في أوّل يوم». وذلك أنّا نجده يستعمل اسم «الهائج» على كلّ خلط هو في غاية الاستعداد للخروج وكأنّه يبادر إليه وكذلك نجده استعمل هذه اللفظة في هذا الفصل وفي فصول أخر. فيجوز أن يكون قد استعمل هذه اللفظة في هذا الموضع أيضاً في الأخلاط على هذا المعنى فيكون أراد بها 〈أنّه〉 ينبغي أن تهيّأ وتعدّ حتّى تؤاتي وتجيب إلى الاستفراغ بسهولة وسرعة.
وأنا معيد هذا القول ومفتتحه افتتاحاً آخر ملتمس ما أمكنني أن آتي فيه شيء ممّا ينتفع به. فأقول إنّه في قوله «إنّ الشيء إن فار إلى فوق فينبغي أن يحلّ من أسفل وضدّ ذلك هو بعينه» أراد بقوله «إن فار» «إن تحرّك» حتّى يكون معناه الذي يقصد إليه أوّل تولّد العلّة فيأمر أن تجتذب الخلط الذي عنه يتولّد إلى ضدّ الموضع الذي ابتدأت فيه العلّة على المكان حتّى تبتدئ. وإذا كان تولّد العلّة فوق كان الجذب من أسفل وإن كان تولّدها أسفل كان الاجتذاب من فوق حتّى نكون نفعل ما نفعله من ذلك من المعاونة للطبيعة على العلّة بفكر واحد بعينه ألا أنّا نحسر الفضل إلى مواضع متقابلة متضادّة. من ذلك أنّا إذا أحسسنا أنّ فضلاً ينجذب من الرأس إلى القدمين استخرجنا الدم بفصد العروق التي في مأبض اليد أو استعملنا تنقية البدن بالقيء وليس نفعل كما ظنّ قوم أنّه ينبغي أن يفعل من أنّه لا ينبغي أن
نستعمل في حال من الأحوال الجذب إلى فوق وإن كانت الأخلاط قد مالت إلى أسفل ميلاً يجب معه أن تحدث فيها علّة عظيمة.
وقد يمكن أن يفهم قوله «إن فار إلى فوق» على الأخلاط التي مالت إلى فوق حتّى يكون معنى قوله «ارتفع» على المعنى المألوف والمعنى في القول على هذا التأويل أيضاً هو المعنى الأوّل. وذلك أنّ الأخلاط إذا ارتفعت إلى فوق فقد ينبغي أن تجتذب إلى ضدّ الموضع الذي سالت إليه ويحسر إلى أسفل إذا كان ميلها إلى فوق على غير ما ينبغي ومتى كان الأمر على ضدّ ذلك فينبغي أن يستعمل ضدّ هذا الطريق. مثال ذلك أنّه متى كانت الأخلاط قد مالت إلى الرأس فينبغي أن تستعمل التنقية بالدواء المسهل وبالفصد من المأبض فإنّ كلّ واحد من هذين يستفرغ الرأس ويجتذب ما فيه إلى أسفل.
وقد يمكن أن يكون ذكره «للضدّ» على هذا المعنى الذي أنا واصفه: ما كان قد ارتفع إلى فوق أو يولد فوق من العلل فقد ينبغي على المكان منذ أوّل الأمر أن يجتذب إلى أسفل على الضدّ والمقابلة وينبغي أن يفعل أيضاً من بعد ذلك ضدّ هذا أعني أنّه ينبغي أن تقصد للاستفراغ من الموضع نفسه. مثال ذلك أنّ الفضل إذا مال إلى الرأس وحدثت فيه علّة قد تحتاج في أوّل الأمر إلى الاستفراغ من أسفل ثمّ من فوق من الرأس نفسه. فقد قال أبقراط: «إنّ من كان به وجع في مؤخّر رأسه فإن فصد له العرق المنتصب في الجبهة انتفع بذلك» وهذا هو استفراغ من نفس الموضع. وقد تستعمل أيضاً تنقية الرأس خاصّة وحده بالمنخرين والفم فإنّ هذه الضروب أيضاً مع الاستفراغ عظيمة الغناء والمنفعة إذا ما لم تستعمل
«جزافاً» يعني إذا لم تستعمل والعلّة بعد في ابتداء لاكن بعد أن تتمكّن وتنضج حتّى تكون جملة قوله على هذا المثال: ما قد ارتفع إلى فوق فينبغي أن يداوى من المواضع المقابلة المضادّة لموضعه وقد ينتفع أيضاً بضدّ ذلك. وممّا يستدلّ به على ذلك أنّ العلّة في الرأس قد تنتفع فيها تنقيته خاصّة من المنخرين والفم وبالفصد إذا ما لم يخرج الدم «جزافاً» يعني ألّا يخرج في غير وقته.
(١٠) قال أبقراط: الخراجات كأورام اللحم الرخو الذي في الحالبين هي دليل على المواضع التي ينشأ فيها ما ينشأ وهي أيضاً دليل على غير ذلك وخاصّة ممّا يكون في الأحشاء وهذه من تلك الأورام أخبثها.
قال جالينوس: أمّا اسم «الخراجات» فقد جرت العادة لا عند الأطبّاء فقط لاكن عند العوامّ من الناس أن يسمّوا به كلّ ما غلظ وورم من بدن الحيوان وما أخذ هذا الاسم في لسان اليونانيّين من نبات ما ينبت من الأرض. فأمّا «ما ينشأ» فليس يسمّون به نفس ما ينبت من الأرض لاكنّ ما يحدث عن تفرّع الأغصان وربّما سمّوا بهذا الاسم أيضاً ما انشعب من أصل الشجرة إلى جانب الساق من الشعب. وقد يجوز لمسمّ أن يسمّي تولّد الطفل في الرحم «نباتاً» ويسمّي الطفل نفسه بهذا الاسم ما دام ينبت ويتصوّر ولم تحدث فيه الحركة الإراديّة. وأمّا «ما ينشأ» في أعضائه بأخرة من بعد ما يولد فاسم «النشوء» أولى به.
«فأورام اللحم الرخو» دليل على جميع الأعضاء التي ترم من تلقاء أنفسها — أعني بقولي «من تلقاء أنفسها» ما كان ورمه من غير سبب من خارج — وهي التي عناها بقوله «ينشأ ما ينشأ» وتلك «الأورام» التي تكون في «اللحم الرخو» هي
أيضاً من جنس «الخراجات». وذكر أنّ تلك «الأورام» الحادثة في «اللحم الرخو» ليست دليلاً على نشء «ما ينشأ» فقط لاكنّها قد تدلّ أيضاً على «أشياء أخر» وعنى بتلك الأشياء الأورام الدمويّة والأورام المعروفة «بالحمرة» والقروح المتأكّلة المعروفة «بالنملة» والقروح المعروفة «بالآكلة» وسائر ممّا أشبه ذلك. وذكر أنّ تلك الأورام التي تكون في اللحم الرخو قد تدلّ على العلل التي تكون «في الأحشاء» ويعني بعلل الأحشاء مثل العلل التي إذا حدثت في ظاهر البدن أحدثت الورم في اللحم الرخو. وأمّا هذه الأورام التي تكون في اللحم الرخو فقيل فيها هذا الفصل: «كلّ حمّى تكون مع ورم اللحم الرخو الذي في الحالبين وغيره ممّا أشبهه رديئة إلّا أن تكون حمّى يوم».
(١١) قال أبقراط: التنفّس منه الصغير المتواتر والعظيم المتفاوت والصغير المتفاوت والعظيم المتواتر والعظيم إلى خارج والصغير إلى داخل والعظيم إلى داخل 〈و〉الصغير إلى خارج والذي يمتدّ والذي يسرع العودة المتضاعفة إلى داخل كالذي يستنشق استنشاقاً بعد استنشاق والحارّ والبارد.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد أثبت في هذه الأصناف بأعيانها ازدواجات سوء التنفّس في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا. وقد يوجد نظامها في النسخ مختلفاً إلّا أنّه ليس ينقص من عددها شيء في النسخ الصحيحة على أنّه ينقص تعديدها
الذي أثبته في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا صنفاً واحداً من أصناف ازدواجاتها. وقد تكلّمت في هذه الأصناف كلّها من سوء التنفّس على الشرح البالغ التامّ في المقالة الثانية من كتابي في سوء التنفّس ووصفت جملتها أيضاً بإيجاز واختصار في المقالة الثالثة من تفسيري للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا. وقد وصفت أيضاً الأربعة الأولى منها في تفسيري لقول قاله في كتاب تقدمة المعرفة وهذا هو القول: «فأمّا التنفّس إذا كان متواتراً دلّ على ألم أو على التهاب في المواضع التي من فوق الحجاب وإذا كان عظيماً ثمّ كان فيما بين مدد طويلة دلّ على اختلاط العقل وإذا كان يخرج من المنخرين والفم وهو بارد فإنّه يكون قتّالاً جدّاً».
(١٢) قال أبقراط: دواء التثاؤب الدائم طويل التنفّس.
قال جالينوس: قد فسّرت هذا القول أيضاً في المقالة الثالثة من تفسيري للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا.
(١٣) قال أبقراط: وفيمن لا يشرب أو بكدّ قصير التنفّس.
قال جالينوس: كما أنّ هذا القول يوجد في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا في أكثر النسخ على هذا النسق: «فيمن لا يشرب إلّا بكدّ قصير التنفّس» كذلك يوجد في هذا القول بعضه في هذه المقالة ذلك الاسم بعينه أعني «قصير
التنفّس». وقد شرحنا شرحاً بالغاً الحال في كلّ واحدة من النسختين في المقالة الثالثة من تفسيري للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا.
(١٤) قال أبقراط: على الموازاة تكون أوجاع الأضلاع وتمدّد ما دون الشراسيف وأورام الطحال وانبعاث المنخرين والأذنين أكثر هذه يجري أمرها على المحاذاة وكذلك الأمر في العينين.
قال جالينوس: إنّ هذا القول يوجد في أكثر النسخ بهذه الألفاظ على ما تقدّم قبيل وقد نجده في الشاذّ من النسخ على هذا الرسم: «بإزاء أوجاع الأضلاع وتمدّد ما دون الشراسيف وغلظ الطحال على المحاذاة يكون انبعاث المنخرين» وهذه النسخة التي أرضاها. وذلك أنّها تؤدّي معنى طبّيّاً واضحاً بيّناً والمعنى الذي تدلّ عليه النسخة الأولى هو هذا بعينه. وقد تقدّم منّا شرحنا هذا القول في المقالة الثالثة من تفسيرنا للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا والذي يوجد من الفضل في هذا القول في هذا الموضع ذكر «الأذنين» «والعينين» وإنّ أمر هذه الأعضاء أيضاً داخل في باب «المحاذاة» كأنّها في سائر الأعضاء على ضربين. وذلك أنّه ربّما اندفع منها إلى أعضاء أخر ما يندفع على المحاذاة وربّما كانت العلّة في أعضاء أخر فاندفعت علل تلك إليها على المحاذاة.
(١٥) قال أبقراط: قد ينبغي أن تبحث وتنظر هل جميع أمر هذه يجري على المحاذاة أو أمر ما يندفع من أسفل إلى فوق مثل ما يخرج عند الخدّين أو عند العينين أو عند الأذنين يجري على المحاذاة وأمّا ما يندفع من فوق إلى أسفل فليس يجري
أمره على المحاذاة على أنّ أورام الحمرة في أصحاب الذبحة وأوجاع الأضلاع قد يجري أمرها على المحاذاة.
قال جالينوس: إنّا لسنا نجد هذا القول ملحقاً في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا لاكنّه إنّما نجده في هذه المقالة فقط. ونجده يتشكّك فيه ويميل بين الأمرين ليعلم أيّهما أصحّ: هل متى كان اندفاع «ما يندفع من أسفل إلى فوق» إنّما يندفع دائماً إذا «كان أمره جارياً على المحاذاة» ومتى كان اندفاع «ما يندفع من فوق إلى أسفل» فقد يختلف ذلك ولا يلزم قياساً واحداً حتّى يكون اندفاع ما يندفع أو يحدث من الخراجات على غير محاذاة ينتفع به.
ولسنا ندري أيّ هاتين المقالتين كتبها أبقراط أوّلاً المقالة المعروفة بالثانية من كتاب إفيذيميا أو هذه المقالة المعروفة بالسادسة. فإنّه ليس يجب من قبل أنّ تلك المقالة وسمت «بالثانية» وهذه «بالسادسة» أن يتوهّم أنّ تلك كتبت قبل هذه لأنّ هذا انتظام إنّما يظهر ويصحّ في الكتب التي ألّفها أبقراط التأليف الذي يقصد لأن يقرأها الناس ويأخذوها عنه وأمّا فيما أثبته لنفسه على طريق الذكور فليس يتبيّن ذلك ولا يصحّ.
وإنّما ذكر أنّ أبقراط أثبت أشياء في قطع وقراطيس وأطراف فجمعها ثاسالوس ابنه فعمل منها هاتين المقالتين أعني المقالة المعروفة بالثانية والمقالة المعروفة بالسادسة. وقد قال قوم إنّ المقالة الرابعة ممّا ألّفها ثاسالوس وقد اتّفق الناس على أنّ الذي ألّفه أبقراط التأليف الذي قصد به ليقرأه الناس ويأخذوه عنه إنّما هو المقالة الأولى والثالثة من كتاب إفيذيميا ولذلك ليس يرسم بعض الناس تلك المقالة «ثالثة» لاكنّه يرسمها «ثانية».
فإن كان أبقراط أثبت أوّلاً ما في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا ثمّ أثبت أخيراً ما في المقالة السادسة فخليق أن يكون رأى بأخرة خراجاً قد خرج باندفاع شيء من فوق إلى أسفل فانتفع بذلك من غير أن يكون كان اندفاعه «على طريق المحاذاة» فدعاه ذلك إلى أن أثبت ما أثبته في هذا القول. وإن كان أبقراط 〈أثبت〉 ما أثبت في هذه المقالة قبل إثباته ما أثبت في المقالة الثانية وكان إثباته ما أثبت في هذه المقالة وهو بعد شاكّ ثمّ نجده بأخرة يحكم فيما كان يشكّ فيه باستبصار به في المقالة الثانية والأولى أن يصدق بما نجده قد أثبته في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا.
وأمّا في هذا الذي أثبته الآن حين قال: «على أنّ أورام الحمرة في أصحاب الذبحة وأوجاع الأضلاع قد يجري أمرها على المحاذاة» فقد ينبغي أن يفهم عنه لا اندفاع ما يندفع من الأضلاع إلى الحلق حتّى يحدث الذبحة لاكنّ ما يندفع من الحلق في علّة الذبحة إلى الأضلاع لأنّ هذا الاندفاع يكون «من فوق إلى أسفل» فليس «يجري أمره على المحاذاة». ثمّ لمّا أدخل على نفسه هذا واحتجّ به عليها أتبع ذلك بما قاله في القول الذي بعده وهو هذا القول:
(١٦) قال أبقراط: أو هل ذلك إنّما هو فيما يندفع إلى ما هو أسفل من الكبد ممّا هو فوقها مثل ما يندفع إلى الأنثيين وما يتّسع من العروق التي تسمّى «الدوالي».
قال جالينوس: إنّ أبقراط لمّا قال فيما تقدّم إنّ «أوجاع الأضلاع» تحدث لأصحاب الذبحة باندفاع ما يندفع «على طريق المحاذاة» أتبع ذلك بأن نبّه على البحث من أمر الأعضاء السفليّة من البدن هل يجري أمر الخراجات فيها باندفاع ما يندفع من فوق دائماً على طريق المحاذاة أم لا كما شكّك في القول الذي قبل هذا. إلّا أنّه قال في ذلك القول: «ما يندفع من فوق إلى أسفل» قولاً مطلقاً وأمّا
في هذا القول فقال: «ما يندفع إلى ما هو أسفل من الكبد» فكأنّه قد جعل الكبد حدّاً بين ما هو فوق من أعضاء البدن وبين ما هو أسفل. وذلك أنّ حدبة الكبد مضامّة للحجاب ولذلك كلّ ما كان فوق الكبد فهو فوق الحجاب أيضاً لا محالة أعني القلب والرئة وما يحيط بهما من الصدر وأولى من هذه نواحي الرقبة والرأس وأمّا سائر البدن كلّه فهو ينسب إلى أنّه أسفل. إلّا أنّ الأعضاء إذا قيس بعضها إلى بعض بعض قيل 〈في〉 الأعضاء التي هي فوق إنّ بعضها أعلى وبعضها أقلّ علوّاً وكذلك يقال في الأعضاء التي هي أسفل إنّ بعضها أشدّ تسفّلاً وبعضها أقلّ تسفّلاً إلّا أنّه قد جرت العادة في جميع ما يقال على هذا النحو أن نسمّي كثيراً ما هو أقلّ علوّاً «أسفل» إذا قسناه بما هو أعلى منه ونقول فيما هو أقلّ تسفّلاً إنّه فوق إذا قسناه بما هو أسفل منه.
وللتواني الذي جرى في هذه العبارة وكثرة الاعتبار له وقع في الكلام أسماء مشتبهة وقد ينبغي أن يكون حاضراً لأفكارنا دائماً حتّى إذا وجدنا أبقراط يذكر الخراجات التي تكون بالاندفاع «إلى أسفل» فيقول إنّها أحمد نظرنا على أيّ نحو استعمل قوله «أسفل» مع استثناء مبلغ خطر الأعضاء. فإنّه إنّما صارت الخراجات التي تخرج فوق في أكثر الأمر أصعب لأنّ تلك الأعضاء أشدّ خطراً إذا نالتها العلّة الواحدة التي تنال الأعضاء السفليّة. وذلك أنّه قد حدث ورم في الدماغ أو في أمّته أو في الحنجرة أو في المريء أو في الرئة أو في الصدر أو في القلب فإنّ هذا المرض يكون قتّالاً وأمّا من ترم منه الأعضاء التي تكون دون الكبد فقليل منهم جدّاً يعطب بهذا السبب وخاصّة إن عولجوا بالصواب. وحدبة الكبد أيضاً أعظم خطراً كثيراً من الجانب الآخر المقعّر منها وقد يعدّ قوم حدبة الكبد في عداد الأعضاء العالية من البدن كلّه وكذلك يعدّون من المعدة فمها. وقد ذكرنا هذه الأشياء التي
ذكرناها من الفضل على أنّها ليست فضلاً وممّا يحتاج إليه وأنا مقبل على ما بقي من تفسير القول الذي تقدّم.
فأقول إنّه يشبه أن يكون أبقراط يبحث وينظر في هذا القول «عمّا يندفع» من علل «من فوق الكبد إلى أسفل منها مثل الذي ينحدر إلى الأنثيين وما يحدث من الدوالي» أسفل هل الأجود فيها أن يكون أيضاً على المحاذاة 〈…〉 أو قد ينتفع بها على مثال واحد.
وقد يشتبه الأمر فيما يندفع من بعض الأعضاء حتّى لا يوقف عليه حتّى يعلم هل كان على المحاذاة أم لا. مثال ذلك أن يكون حدثت «دوالي» أسفل فكان بها برء من علّة الجنون وكان اندفاع ما اندفع على المحاذاة. فإنّه إذا كان الأمر كذلك لم يجد السبيل إلى أن يميّز هل كان كذلك فإنّ العلّة التي يحدث عنها الجنون كانت في الجانب الأيمن من الدماغ أو في الجانب الأيسر. وكذلك أيضاً من كان به سعال قديم بلا وجع في الأضلاع فيندفع عليه «إلى الأنثيين»: قد يجوز أن يكون اندفاعها إنّما كان على المحاذاة وإن كنّا نحن لا نصل إلى أن نعلم علماً يقيناً في أيّ جانبي الرئة أو الدماغ كانت العلّة. وقد يكون كثيراً البرء من الوسواس السوداويّ بتفتّح أفواه العروق في السفلة حتّى يخرج منها الدم فلا نصل عند ذلك إلى أن نعلم هل كان اندفاع ما اندفع على المحاذاة أو لا. ومن البيّن أنّ استفراغ الدم الكثير من الرحم قد يكون به برء أمراض كثيرة وليس نقدر أن نعلم ذلك هل كان استفراغ ذلك الدم من العروق التي في الجانب الأيمن من الرحم أو من العروق التي في جانبها الأيسر أو من العروق التي في الجانبين جميعاً. ففي مثل هذه المواضع قد يخفى علينا الأمر في المحاذاة حتّى يعسر علينا تعرّفه أو لا نصل إليه أصلاً.
فأمّا في المواضع التي يمكننا تعرّف ذلك فقد نجد أبقراط كأنّه يذكر أنّه ينبغي أن نبحث وننظر متى اندفع شيء إلى الأعضاء السفليّة حتّى حدث فيها خراج هل الأفضل دائماً أن تكون تلك الخراجات على محاذاة المواضع التي اندفعت منها العلّة أو لا.
(١٧) قال أبقراط: ينبغي أن ينظر في هذه الوجوه إلى أين ومن أين ولِم.
قال جالينوس: ما يتبيّن من قوله هذا هل هو نسق على ما ذكره أخيراً فقط أو على جميع ما تقدّم ذكره من أمر ما يندفع حتّى تحدث عنه الخراجات على المحاذاة أو على غير المحاذاة. وأمّا المعنى في هذا القول فهو ما أنا واصفه: يعني أنّه ينبغي أن ينظر في الموضع الذي يندفع إليه ما يندفع وذلك هو ما عناه بقوله «إلى أين» وينظر في العضو الذي يندفع منه ما يندفع وهذا هو الذي أشار إليه بقوله «ومن أين» وينظر أيضاً مع ذلك في السبب الذي من أجله كان اندفاع ما اندفع فإنّ ذلك أيضاً هو الذي أشار إليه بقوله «ولِم». وذلك أنّك تحتاج أن تنظر وتعلم هل كان خروج ما خرج من الطبيعة بعد إنضاجها للمرض أو من نفس الخلط المولّد للعلّة بسيلانه من غير أن ينضج من موضع إلى موضع.
وقد يجوز لمن أراد أن يعزل هذا القول على ما تقدّم قبله ويجعله ابتداء لما قيل بعده على هذا المثال الذي أنا واصفه:
(١٨) «ينبغي أن ينظر في هذه الوجوه إلى أين ومن أين ولِم ومتى كانت العروق التي في الصدغين غير مستقرّة ولم يكن اللون مشرقاً».
فقد قلت إنّه يمكن أن يقسم هذا الكلام على هذه القسمة وقد يمكن أيضاً أن يقطع هذا الكلام على ضرب آخر وهو هذا: «متى كانت العروق التي في الصدغين غير مستقرّة ولم يكن اللون مشرقاً إن كان قد بقي التنفّس» وما يتلو ذلك. ولولا إنّه وقع في هذا القول ذكر «اللون المشرق» لقد كان يمكن أن يقسم ويقطع
على ضروب أخر كثيرة لأنّ هذه المقالة إنّما تثبت على طريق الذكور لا على طريق تأليف الكتب المشروحة وقد سمعت في هذا منّي ما ينبغي فيما تقدّم. ولمّا وقع أيضاً في هذا القول ذكره «للون المشرق» — فسمّى اللون بالاسم المشترك في لسان اليونانيّين الدالّ عندهم مرّة على الخضرة ومرّة على الصفرة — زاد ذلك هذا القول إغماضاً واستغلاقاً.
وقد قلت في شرحي لأقاويل أخر ذكر فيها اللون بذلك الاسم 〈إنّه〉 لا يمكننا إلى أن نصل إلى أن نعلم علماً يقيناً على أيّ اللونين يدلّ. وذلك الاسم في لسان اليونانيّين مشتقّ من اسم الخضرة وكما تختلف ألوان الخضرة فيكون بعضها مشبّع الخضرة إذا كان معتدلاً فيما بين الرطوبة واليبس ويكون منه ما يميل إلى الصفرة وهو ما غلبت عليه الرطوبة واليبس [و]كذلك قد يتصرّف هذا الاسم في لسان اليونانيّين المشتقّ من اسم «الخضرة» كأنّه قال «الخضريّ» على هذين المعنيين جميعاً. وقد نرى الناس في دهرنا هذا أيضاً في مدينة قو وهي مدينة أبقراط وفي جميع بلدنا وهو آسيا يسمّون بذلك البقول وبعض الشجر والنبات ويقولون في الدوابّ «إنّها تختلف الخضر» إذا اعتلفت ما ينبت من العشب في الربيع.
وقد ينسبون بعض الناس إلى ذلك اللون وليس ألوانهم مثل لون الخضر لاكن تكون إلى الصفرة أقرب فليس يتبيّن من قول أبقراط هل يعني بهذا الاسم الذي يضرب إلى الصفرة الذي قد تراه يعرض كثيراً جدّاً للناس أو يعني به اللون الشبيه بلون الخضرة الذي لا تكاد ترى في الناس إلّا في الندرة.
فهذه اللفظة من الاستغلاق على ما قد وصفت ويزيدها استغلاقاً ما أضيف إليها من ذكره «المشرق». وذلك أنّه لا سبيل إلى أن نجد ما الذي أراد وعنى بقوله «ولا
يكون الخضريّ مشرقاً». وقد دعا ذلك قوماً من المفسّرين إلى أن التمسوا التخلّص من هذا الاستغلاق والراحة منه فجعلوا مكان «الخضريّ» «اللون» مطلقاً فكتبوا «ولا يكون اللون مشرقاً» وقالوا إنّه ينبغي أن يفهم عنه من قوله «مشرقاً» اللون الطبيعيّ لذلك المريض وكذلك قال أيضاً سابنس وأصحابه.
(١٩) قال أبقراط: متى كانت العروق التي في الصدغين غير مستقرّة ولم يكن اللون مشرقاً إن كان التنفّس باقياً أو سعال يابس وليس بالسبعيّ فينبغي أن تتوقّع نزول النازلة بالمفاصل.
قال جالينوس: قد قلت إنّه يمكن أن يفرد الجزء الأخير من هذا القول على حدته غير أن يوصل به الجزء الأوّل حتّى نجعل افتتاح قوله «إن كان التنفّس باقياً» وسائر ما يتلو ذلك. ومن البيّن أنّه يعني «بالتنفّس» الذي هو أزيد من الطبيعيّ حتّى يكون معنى قوله هذا المعنى: إنّه متى كانت بإنسان علّة فصلح منها فكان العرقان اللذان في صدغيه غير مستقرّين — يعني بذلك أن يكون انبساطهما انبساطاً أزيد — وكان اللون حائلاً عن الحدّ الطبيعيّ وكان التنفّس أزيد من المقدار الطبيعيّ وسائر ما وصفت من ذلك فيما بعد فينبغي أن تتوقّع لصاحب هذه الحال حدوث خراج في بعض مفاصله.
وأمّا سائر ما قال في هذا القول فهو ما أصف فأوّل ذلك «السعال اليابس» والثاني قوله «وليس بالسبعيّ». وأمّا «السعال اليابس» فقد جرت العادة أن يسمّى به السعال الذي لا يقذف معه صاحبه شيئاً. وذكر هذا بهذا اللفظ متى كان في كتاب فهو يدلّ من صاحبه دلالة بيّنة على أنّه يحبّ أن يستعمل من الألفاظ [و]ما يحتاج إلى التأويل. وأمّا من أثبت ذلك في تذكرة لنفسه على طريق الرسم
فليس تلزمه لذكره له لائمة. فإنّا قد نرسم لأنفسنا أشياء كثيرة من الذكور على طريق الرمز والإشارة فقط. فقد يجوز أن يكون أبقراط في هذه المقالة إنّما أثبت لنفسه ذكوراً كثيرة من أمر علل كثيرة فذكر في هذا القول «السعال اليابس» في علل ذات الرئة وذات الجنب — فإنّ ذكر «التنفّس» أيضاً موافق لهذا — وذكر فيما تقدّم ما ذكر من أحوال الوجه في الحمّيات الحارّة المحرقة وقد يمكن أن تكون تلك أيضاً إنّما ذكرها في علل الصدر والرئة. فتصير جملة محصول قوله هذا القول: إن كان بالمريض مع سائر ما وصفناه من أحواله سعال يابس فينبغي أن تتوقّع له حدوث خراج في بعض مفاصله.
ثمّ إنّه استثنى في السعال استثناء فأغمضه فأوقع ذلك الناس في باب آخر من البحث والطلب ليعلموا أيّ السعال هو «السعال السبعيّ». فقال قوم إنّه قد يكون السعال اليابس من قبل أنّ الحيّات المتولّدة في البطن ترتفع إلى فم المعدة فتعضّه وتلذعه وإلى ذلك أشار أبقراط بذكر «السعال السبعيّ». ولو كنّا نجد هذا قد يعرض على ما ذكر هؤلاء لما كان بقي علينا شيء يحتاج فيه إلى البحث والطلب لاكنّا لسنا نجد الأمر كذلك لاكنّا قد نجد الحيّات ترتفع كثيراً إلى فم المعدة فتؤلمه وتؤذيه من غير أن يحدث من ذلك سعال.
ولذلك مال أكثر المفسّرين إلى أنحاء أخر من التأويل. فقال بعضهم إنّه يعني «بالسعال السبعيّ» سعال أصحاب السلّ إذ أظفار أصحاب السلّ تنثني وتنعطف حتّى تصير شبيهة بمخالب السبع. وقال قوم إنّه عنى «بالسعال السبعيّ» السعال الخبيث وذلك أنّه يحتاج في حدوث البحران بالخراجات والأورام إلى أن يكون المرض عديماً للنضج وأن يكون مع ذلك سليماً لأنّ المرض إذا كان نضيجاً فهو ينذر بأنّ انقضاءه يكون بغير خراج ولا ورم وإذا كان خبيثاً قتّالاً فهو ينذر بأنّه ليس
يكون أصلاً فيه خراج على طريق البحران ومتى بقي المرض مدّة طويلة غير نضيج ثمّ لم يكن خبيثاً فقد ينبغي أن تتوقّع فيه حدوث خراج. وقد أوضح لنا أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة أنّه قد يحتاج في أن نتوقّع للمريض الخراج إلى أن يبقى المرض مدّة طويلة فلا يحدث فيه نضج ويكون مع ذلك سليماً بعيداً من الخطر. وهذا قوله في ذلك الكتاب: «ومن يبول بولاً نيّاً رقيقاً مدّة طويلة إن كان سائر الدلائل ينذر بأنّه يسلم فإنّه ينبغي أن تتوقّع له خراج يخرج في المواضع التي هي أسفل من الحجاب».
فتصير جملة قوله هذا القول: متى بقي مرض من بعض الأمراض النازلة بالصدر والرئة فلم يحدث فيه نضج ثمّ لم يكن المرض خبيثاً فقد ينبغي أن تتوقّع لصاحبه حدوث خراج. وممّا يدلّ على ذلك المرض أنّه لم ينضج «السعال اليابس». وذلك أنّه متى نفث صاحب السعال شيئاً فذلك دليل على النضج وذلك الشيء الذي ينفثه متى كان رقيقاً دلّ على نضج يسير ومتى كان غليظاً دلّ على نضج تامّ. وقد شرحت الأمر في هذه الأشياء في تفسيري لكتاب أبقراط في تدبير الأمراض الحادّة وفي كتابي في البحران ووصفت ذلك أيضاً في مقالة وضعتها في أوقات المرض.
فأمّا ما ألحقه في آخر هذا القول حين قال: «من التمدّد الذي في البطن على المحاذاة» فأكثرهم وصله بما تقدّم من قوله وقال بعضهم إنّ فيه معنى مفرداً على حدته. فإن وصلناه بما تقدّم وقرأناه موصولاً به كان معناه هذا المعنى: إذا أنت رجوت ممّا قد تقدّم وصفه أن يحدث للمريض خراج فانظر مع ما نظرت فيه في التمدّد العارض في البطن فإنّك تصل بذلك إلى أن تعلم هل يكون الخراج في الشقّ الأيمن من البدن أو في الشقّ الأيسر وذلك أنّ هذا «التمدّد» ينذر بأنّ
الخراج يحدث «على محاذاته». فإن قرأنا ذلك القول على حدته مفرداً «من التمدّد الذي في البطن على المحاذاة» كان معناه هذا المعنى: كما إذا كانت علّة تحدث في آلات التنفّس ثمّ بقيت فلم تنضج وكانت سليمة قد نرى الخراج يجري بعقب ذلك وكذلك قد نجد ذلك يحدث فيما يكون من العلل في البطن وتلك الخراجات أيضاً إنّما تكون على محاذاة المواضع التي تحدث فيها العلّة.
(٢٠) قال أبقراط: وأكثر هؤلاء يكون الظاهر منه مفرط الحمرة ويكون في طبيعته من الضرب الذي يميل إلى اللون الأبيض ولا ينبعث من منخريه دم أو إن انبعث كان ما ينبعث يسيراً.
قال جالينوس: أمّا قوله «الظاهر» فإنّما ينبغي أن يفهم عنه من ذلك الوجه حتّى يكون كأنّه قال: «إنّ أصحاب هذه الحال تكون وجوههم مفرطة الحمرة في وقت المرض ويكون ممّن هو في طبيعته مائل إلى لون الأبيض». وأنت قد تجد بالحقيقة الوجه باقياً على الحمرة في أكثر من سيحدث له في مرضه خراج ممّن يطول مرضه وهو سليم وخاصّة إذا كان اندفاع ما يندفع مزمعاً أن يكون إلى نحو الأذنين قد يحدث هناك الخراجات. وقد أشار أبقراط إلى الضرب من الناس ممّن هذه حاله الذين وجوههم «مفرطة الحمرة» بقوله «ويكون في طبيعته من الضرب الذي يميل إلى اللون الأبيض». وذلك أنّه متى كان في طبيعته مائلاً إلى الأدمة فإنّ الدم وإن غلب في وجهه لم يتبيّن بياناً واضحاً وأمّا الأجسام البيض والبيض من أبدان الناس من سائر الأجسام فإنّه متى شابها شيء من الألوان المخالفة لحسن البياض فإنّه يتبيّن على المكان. إلّا أنّ هذا من قوله إنّما هو شيء داخل في أضعاف كلامه وأمّا نسق قوله فهو على هذا الطريق: إنّ هؤلاء القوم الذي وجوههم «مفرطة
الحمرة» إذا طال بهم المرض وهم بحال سالمة فإنّ بحرانه إنّما يكون بخراج اللّهمّ إلّا أن يتقدّم قبل حدوث ذلك «انبعاث الدم من المنخرين» فيستفرغ ما كان مستعدّاً أن يغيض من الدم إلى بعض المفاصل. فأمّا من كانت هذه الحال التي وصفت حاله ثمّ لم يصبه أصلاً «رعاف» أو إن أصابه رعاف «كان يسيراً» وليس بمقدار عظم المرض فإنّه يخرج به الخراج.
(٢١) قال أبقراط: فأمّا متى جرى ما جرى ثمّ بقيت فيه بقيّة فالأمر في حدوث ما يحدث سهل.
قال جالينوس: لو لم يكن هذا القول افتتح بما افتتح به فجعل أوّله «فأمّا» لقد كان قولاً بيّناً. وذلك أنّه قد كان تقدّم من قوله أنّ الخراجات تحدث لمن تغلب على وجوههم الحمرة المفرطة إذا لم يجر الدم منهم من المنخرين أو جرى فكان ما يجري منه يسيراً وكان ما يشبه ذلك ويتّصل به أن يردفه بأن يقول: «متى جرى ما جرى ثمّ بقيت بقيّة فالأمر في حدوث الخراج حتّى يكون به انقضاء ذلك المرض سهل». فلمّا كان قد جعل افتتاح هذا القول ذلك الافتتاح فصيّر أوّله «فأمّا» فقد ينبغي أن يفهم عنه «وأمّا متى لم يبق بقيّة فإنّ الخراج لا يحدث».
وقد يوجد مثل هذا من الكلام لا في الذكور فقط التي أثبتها الناس لأنفسهم لاكنّه قد يوجد في الكتب المؤلّفة على أن يقرأها سائر الناس حتّى يقدّم «فأمّا» ولا يردف شقّاً عليه أصلاً. وقد كان ينبغي لديسقوريدوس وأشياعه أن يكونوا قد عرفوا ذلك إذ كانوا قد يدّعون من علم النحو أكثر ممّا بلغه غيرهم فيحفظون النسخة القديمة التي يقرؤها جميع المفسّرين وتوجد في جميع الكتب وإن كانوا ولا بدّ ورأوا أنّ «فأمّا» فضل في هذا الكلام أن يحذفوه ولا يجعلوا مكانه الحرف
النافي وهو «لم» وذلك لأنّ القول إذا ألّف هذا التأليف حتّى يكون على هذا المثال: «متى لم يجر ما يجري ثمّ بقيت بقيّة فالأمر في حدوث ما يحدث سهل» كان متناقضاً. وذلك أنّ قوله «ثمّ بقيت بقيّة» يدلّ على الشيء الذي لم يستفرغ استفراغاً تامّاً لاكنّه إنّما استفرغ منه البعض وقوله «متى لم يجر ما يجري» يدلّ على ضدّ ذلك كما لو قال: «متى جرى كثيراً». فكما أنّه لا يجوز لو كان قال هذا أن يقول معه «ثمّ بقيت بقيّة» كذلك لا يجوز إن كان 〈قال〉: «متى لم يجر شيء أصلاً» أن يقول مع ذلك «ثمّ بقيت بقيّة».
ونحن وإن لم نفهم عنه من قوله «بقيت بقيّة» أي من الخلط المحدث للعلّة كما فهم عنه قوم ممّن فهم في «البقيّة» أنّها إنّما هي من المرض نفسه أنّ الرعاف إذا كان ناقصاً «بقيت بقيّة» من المرض لم يكن على هذا المعنى أيضاً لقوله «متى لم يجر ثمّ بقيت بقيّة» معنى. وذلك أنّه إذا كان «جرى» دم ثمّ لم يكن «ما جرى» منه كافياً كان البحران غير تامّ وعند ذلك يجوز أن يقال «إنّه قد بقيت بقيّة» من المرض.
(٢٢) قال أبقراط: والعطش الذي يبقى وجفوف الفم والتقلّب والامتناع من الطعام من هذا الضرب.
قال جالينوس: إذا كانت الحمّى قد سكنت ثمّ بقيت أعراض من أعراض المرض قيل إنّه قد «بقيت» من المرض «بقيّة». فذكر أبقراط على هذا بطريق التمثيل أهمّ ما بقي من الأعراض وأولاه بأن يذكر وهو «العطش وجفوف الفم والتقلّب والامتناع من الطعام». وإنّما يعني «بالامتناع من الطعام» اختلال الشهوة
حتّى يكون هذا الكلام شرحاً لما قاله في الكلام الذي كان قبله حيث قال: «فأمّا متى جرى دم ثمّ بقيت بقيّة». «والبقيّة التي تبقى» تفهم على ضربين أحدهما من الخلط المولّد للمرض والآخر من نفس المرض فشرح في هذا القول دلائل «البقيّة التي تبقى» من نفس المرض.
(٢٣) قال أبقراط: وهذه الحمّيات ليست تكون بالحادّة إلّا أنّ من شأنها العودة.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً لأحد ما يحتاج إليه وينتفع بمعرفته في تقدمة المعرفة بما يندفع حتّى تحدث عنه الخراجات. وذلك أنّ «〈الحمّيات〉 الحادّة» يأتي فيها البحران بسرعة ويكون انقضاؤها باستفراغ حتّى تقلع به الإقلاع التامّ. وأمّا «الحمّيات التي ليست بالحادّة» فإنّها تطول ثمّ تسكن سكوناً غير 〈تامّ〉 ثمّ تعاود بعد فيأتي فيها بحران ثانٍ باندفاع شيء يغيض إلى بعض الأعضاء فيكون الانقضاء التامّ.
(٢٤) قال أبقراط: ما يبقى بعد البحران فإنّ من شأنه المعاودة.
قال جالينوس: قد نجد هذا القول أيضاً مكتوباً في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا ونجد 〈مع〉 هذا القول في هذه المقالة وفي تلك أقاويل أخر بأعيانها. وأنا تارك تفسير هذه الأقاويل إذ كنت قد شرحتها في المقالة الثانية من تفسيري
لتلك المقالة وآخذ في تفسيري القول الذي يتلو تلك الأقاويل «المعاودة» وهو هذا القول:
(٢٥) قال أبقراط: من كانت به حمّى من الحمّيات المجانسة للغبّ فإنّ الليلة التي قبل النوبة تصعب عليه.
قال جالينوس: قد بحث الناس وطلبوا عن قوله «الحمّيات المجانسة للغبّ» أيّ الحمّيات يعني بها إذ كان أمر الحمّى التي تسمّى «شطر الغبّ» والغبّ المعروفة «بالممتدّة» أمر قد اختلف فيه أيضاً واحتيج فيه إلى البحث والطلب ليعلم ما الذي يعني بكلّ واحد من هذه الأسماء. وذلك أنّه ليس من هذه الأسماء التي نحن في تبيّنها شيء قد اتّفق عليه جميع أهل دهرنا من الأطبّاء إلّا اسم «الغبّ الخالصة» فإنّهم جميعاً متّفقون على أنّ الغبّ الخالصة تنقضي كلّ نوبة من نوائبها قبل أن تأتي عليها اثنا عشرة ساعة وأنّ البدن يخلو فيها من الحمّى في سائر الساعات إلى أن تعود نوبتها. فأمّا استعمال أهل الفرقة المنسوبة إلى الحيلة من الأطبّاء البديع الاسم «شطر الغبّ» فليس يحسن بنا ذكره.
وإذا كانت الغبّ الخالصة تنقضي النوبة منها في أقلّ اثني عشرة ساعة فإنّ الحمّى التي تكون نوبتها خمس عشرة ساعة ثمّ ينقّى البدن منها سائر المدّة التي بعد ذلك إلى أن تأتي نوبة أخرى قد يجب أن تسمّى «غبّاً» مطلقاً من غير أن يستثنى في تسميتها شيء من الأشياء فإن أراد مريد استقصاء قسمتها على الحقيقة
سمّاها «غبّاً غير خالصة». وإذا كان أبقراط نفسه قد قال: «إنّ الحمّيات الدائمة 〈…〉 رديئة فإنّ الحمّى التي تفارق على أيّ وجه فارقت فإنّها تدلّ على أنّه لا خطر فيها» فجميع الحمّيات التي تنوب غبّاً ثمّ تنقضي وتقلع حتّى ينقّى البدن من الحمّى قد يجب أن تكون لا خطر فيها. فإن قلنا إنّ هذه الحمّيات لا خطر فيها وأتبعنا في ذلك رأي أبقراط وكانت الحمّى المعروفة «بشطر الغبّ» ليست بالسليمة من الخطر وبذلك يعرفها أبقراط وجب أن لا تكون الحمّى المعروفة «بشطر الغبّ» من الحمّى التي تفارق البدن لاكن قد يجب أن تكون جميع الحمّيات التي تنوب غبّاً والفترة بين النوائب فيها ليست بأقلّ من أربعة وعشرين ساعة تسمّى كلّها «حمّيات غبّ» بقول مطلق وما كان من هذه الحمّيات الفترة فيها أقصر مدّة من ذلك والنوائب أطول مدّة فقد يجب أن تسمّى تلك الحمّيات «حمّيات غبّ ممتدّة». وأكثر ما تمتدّ هذه الحمّيات إلى أن تبلغ انقضاء المدد الثلاث على أنّ المدد في النوبة الكائنة غبّاً أربع. وذلك أنّ فيما بين ابتداء كلّ يومين من الغبّ نهارين وليلتين وقلّ ما تجد هذه الحمّى تجاوز المدّة الثالثة فتقلع الحمّى فيها عن البدن.
وقد يسمّي أغاثنس وأصحابه هذه الحمّى «العظيمة من شطر الغبّ» وقد يسمّون ما يساوي فيه منها مدّة النوبة لمدّة الفترة بعد الإقلاع «المتوسّطة من شطر الغبّ» ويسمّون ما كانت مدّة النوبة فيها أقلّ من مدّة الفترة بعد الإقلاع «صغيرة من شطر الغبّ» وكذلك متى كانت مدّة النوبة فيما بين اثني عشرة ساعة وفيما بين أربع وعشرين ساعة سمّى تلك الحمّى «صغيرة من شطر الغبّ». فيجب من ذلك
ألّا يسمّي شيئاً من الحمّيات باسم «الغبّ» مطلقاً ولا باسم «الغبّ الممتدّة». وذلك أنّه إن كانت الغبّ الخالصة لا تجاوز اثني عشرة ساعة وما جاوز اثني عشرة فهي لا محالة «صغيرة من شطر الغبّ» فليس نجد حمّى تستحقّ أن تسمّى «غبّاً» وإذ كنّا لا نجد هذه الحمّى فأحرى أن لا نجد حمّى يجب أن نسمّيها «غبّاً ممتدّة». وإذا لم تكن هاتان الحمّيان موجودتين فليست بنا حاجة تضطرّنا إلى أن نسمّي بعض الحمّيات «غبّاً خالصة». وذلك أنّه إذا كانت ليس توجد حمّى من الحمّيات أصلاً يجب أن تنسب إلى أنّها غبّ غير خالصة فالاستثناء بالخالصة فضل. فكيف نجد أبقراط يسمّي بعض الحمّيات «غبّاً خالصة» وقد كان قادراً أن يطلق لها اسم «الغبّ» ولا يحتاج أن يستثني فيقول «خالصة» إن كان ليس من الحمّيات شيء يستحقّ اسم «الغبّ» سوى تلك الحمّى وحدها التي مدّة النوبة فيها أقلّ من اثني عشرة ساعة؟
فقد يتبيّن ممّا قلنا أنّ أبقراط يسمّي هذه الحمّى التي ذكرتها أخيراً «غبّاً خالصة» وخاصّة متى وجد فيها سائر الدلائل التي وصفتها في كتابي في البحران ويسمّي الحمّى التي تجاوز نوبتها اثني عشرة ساعة «غبّاً» مطلقاً. ومتى جاوزت 〈نوبة〉 الحمّى أربعاً وعشرين ساعة سمّيناها «غبّاً طويلة» أو «غبّاً ممتدّة». وما جاوزت نوبته من هذه الحمّيات المدد الثلاث فقلّ ما نجده يقلع حتّى ينقّى البدن فيه من الحمّى إلّا أنّا على حال لا نسمّيه «شطر الغبّ» [و]إن لم يكن فيه الكرّات من الاقشعرار ولم تأت فيه في اليوم الثاني نوبة أخرى من غير حدوث تلك الكرّات فهذه الحمّى التي تسمّى «شطر الغبّ». ومتى كانت الحمّى تنوب غبّاً وليس تقلع أصلاً ولا مدّة يسيرة حتّى يظنّ ببدن المريض أنّه قد نقّي من الحمّى
فإنّا نسمّي هذه الحمّى «حمّى حادّة» ثمّ نصفها بعد بما نجد فيها فنقول إنّها حمّى حادّة تنوب غبّاً.
فقد بقي إذاً من الحمّيات التي تنوب غبّاً ما يجب أن يسمّى «المجانسة للغبّ» ما كان يفتر حتّى يقرب البدن فيه من النقاء من الحمّى. فإن أراد مريد أن يسمّي أيضاً سائر جميع الحمّيات التي تنوب غبّاً وإن كانت حادّة «مجانسة للغبّ» قدر أن يفعل ذلك من غير أن نتوهّم عليه أنّه اعتقد ما لا حجّة له فيه. فأمّا من زعم أنّ الحمّيات التي تقلع حتّى ينقّى البدن منها شيء يسمّيه أبقراط «شطر الغبّ» فإنّا لا نوافقه على ذلك لأنّ الحمّيات التي تقلع كلّها سليمة بعيدة من الخطر فأمّا شطر الغبّ فغير سليمة ولا بعيدة من الخطر. وبين الحالين في هاتين [في] «الحمّيات المجانسة للغبّ» التي وصف من أمرها أبقراط أنّ «الليلة التي قبل النوبة تصعب على صاحبها» وذلك أنّ هذه الخلّة لا بدّ أن تكون موجودة في تلك الحمّيات 〈…〉 الممتدّة. وكيما لا تكثر عنايتي في تكرير معنى اسم «شطر الغبّ» حتّى أحتاج إلى أن أثبته في كتابي مراراً كثيرة وأجيب عنه من سألني مراراً شتّى فإنّي قد رأيت من الرأي أن أفرد لصفته مقالة مفردة على حدتها.
وأمّا في كتاب الفصول فقد أطلق أبقراط القول من غير أن يستثني ذكر الحمّيات المجانسة للغبّ فقال: «إنّ من يأتيه البحران قد يصعب مرضه في الليلة التي قبل نوبة الحمّى وفي الليلة التي بعدها تكون أخفّ على الأمر الأكثر». وقد فهم بعض المفسّرين عنه من ذكره «البحران» 〈في〉 هذا القول المعنى الذي يسمّى بهذا الاسم بالحقيقة وهو التغيّر العظيم البديع من المرض وفهم عنه بعضهم مكان البحران النوبة. وإنّ هذا إنّما تجده بالحقيقة يجري مجرى العادة أعني أنّ
«الليلة التي تكون قبل النوبة تصعب على المريض» علّته فيها في أكثر الحمّيات التي تنوب غبّاً بل في جميعها إلّا الشاذّ خلا الغبّ الخالصة فإن حدث ذلك في الغبّ الخالصة فإنّه يدلّ على بحران حادث من عند تلك الليلة ولا سيّما إن وافق ذلك سائر الدلائل الدالّة على أنّ البحران حادث.
(٢٦) قال أبقراط: السعال اليابس الذي يهيج تهيّجاً يسيراً في حمّى ملتهبة شديدة الإحراق وليس العطش فيها بحسب ذلك ولا جفوف اللسان واحتراقه فليس هو من طريق السبعيّ لاكنّه من طريق النفس. وممّا يدلّ على ذلك أنّهم إذا تكلّموا وفتحوا أفواههم عند ذلك يعتريهم السعال وإذا لم يكن ذلك منهم لم يسعلوا. وهذا يحدث خاصّة في حمّيات الإعياء.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد كتب أيضاً في هذا «السعال اليابس» في كتاب الفصول فصلاً بهذا اللفظ: «من حدث به في الحمّى المحرقة سعال كثير يابس وكان تهييجه له يسيراً فليس يكاد يعطش» فقوله «لا يكاد يعطش» مساوٍ لقوله في هذا الكلام «وليس العطش فيها بحسب ذلك». وذلك أنّ الحمّى إذا كانت محرقة ثمّ لم يكن معها «سعال يابس» فليس يمكن ألّا يكون معها عطش أصلاً إلّا أنّ شدّة العطش تنكسر حتّى يعطشوا بعض العطش «فلا يكون عطشهم بحسب» قوّة الحمّى.
وأمّا ما استثناه من قوله «الذي يهيج تهيّجاً يسيراً» فلم يستثنه باطلاً. وذلك أنّ السعال إذا كان شديداً قويّاً امتحن نواحي الصدر والرئة فزاد في قوّة الحمّى وفي
شدّة العطش وإذا كان السعال يسيراً فيما بين مدد طويلة حرّك الأعضاء حركة تبلغ من أثرها أن تجتذب إليها رطوبة رقيقة فيعرض من ذلك ألّا يزعج إزعاجاً شديداً ولا يلهب حرارة الحمّى ويجيز إلى الأعضاء التي يحرّك رطوبة معتدلة الكمّيّة فينقص بتلك الرطوبة عطش المريض.
ولمّا كان «السعال اليابس» قد يكون سبب خبث المرض الذي سأصف بعد كيف هو أراد أبقراط أن يفرق بين ذلك السعال وبين هذا السعال الذي ذكره في قوله هذا فقال: «ليس هو من طريق السبعيّ لاكنّه من طريق النفس». وقد ظنّ قوم أنّه لم يعن بقوله «السبعيّ» كلّ مرض خبيث مطلقاً لاكنّ بعضهم ظنّ أنّه يعني به السلّ لأنّ الأظفار في أصحاب هذه العلّة تنعطف وتنعقف حتّى تشبّه بمخالب السباع. وقال بعضهم إنّ القرحة التي تكون في الرئة تسمّى خاصّة «سبعيّة». وقال قوم إنّ الحيّات المتولّدة في البطن إذا ارتفعت إلى فم المعدة هيّجت سعالاً فذلك هو ما عناه أبقراط في قوله هذا «السبعيّ» وما يقدر أصحاب هذا القول أن يثبتوا ما ادّعوا فيه لا بقياس ولا بتجربة. والأجود أن يفهم عنه من قوله «السبعيّ» المرض الخبيث كان سبب السعال نزلة تنحدر من الرأس وكان سببه قرحة في بعض آلات التنفّس أو كان سببه الخراجات التي تخرج في هذا الموضع أو كان سببه المِدّة التي تجتمع في الصدر.
وغير هذه الأصناف من السعال ممّا ليس له خبث ولا رداءة السعال الذي يكون من سوء مزاج آلات التنفّس أو من خشونة الحلق أو من خشونة قصبة الرئة التي ربّما حدثت من أطعمة أو من أشربة مخشّنة وربّما حدثت من الهواء الذي
يستنشق. ومن ذلك ما قال أبقراط في كتاب الفصول: «فأمّا الشمال فيحدث السعال والحلوق والبطون اليابسة وعسر البول وتقطيره والاقشعرار ووجعاً في الأضلاع والكبد». وذلك أنّ الهواء الذي يستنشق إذا كان قويّ البرد ربّما نالت نواحي الحلق وقصبة الرئة منه خشونة وبرودة وربّما نال ذلك منه الرئة كلّها والصدر حتّى يحدث فيهما سوء مزاج وربّما اجتمع الأمران جميعاً وإذا كان ذلك سعل صاحبه سعالاً يسيراً يابساً. وممّا يدلّ على حال من هذه حاله أنّ استنشاق الهواء يهيّج عليه السعال إذا ورد هواء كثير دفعة من خارج على تلك الأعضاء التي نالها سوء المزاج أو الخشونة. وإنّما يرد عليها من الهواء شيء كثير دفعة عند الكلام وعند فتح الفم واستنشاق الهواء به. فأمّا إذا كان الاستنشاق بالمنخرين ويحتال للهواء الذي في البيت الذي يأويه صاحب هذا السعال حتّى يسخن فإمّا أن يسعل سعالاً يسيراً جدّاً وإمّا ألّا يسعل أصلاً. ولذلك يتلطّف قوم لتغطية المنخرين بخرقة واستنشاق الهواء من ورائها لأنّهم قد جرّبوا أنّ سعالهم يتزيّد إذا لاقى هواء كثير دفعة تلك الأعضاء منهم التي قد نالها البرد والخشونة.
قال: «وهذا يحدث خاصّة في حمّيات الإعياء» وليس يتبيّن من قوله ما الذي يعني «بحمّيات الإعياء» هل يعني بذلك 〈…〉 الحمّيات التي تعرض بلا سبب من خارج إلّا أنّه يكون معها في البدن حسّ الإعياء. وما نجد أحداً من الأطبّاء يتفقّد أشباه هذه الأشياء ممّن هو باقٍ اليوم ولا ممّن تقدّم على أنّه قد ينبغي لكم
أن تمتثلوا أبقراط فيما يوجد عليه من الاستقصاء وتقتدون به أن كنتم ترون الحقّ وتعنون به لنفسه لا لتستفيدوا به نباهة ومالاً. فأمّا أنا فإنّه خطر ببالي أنّ الأجود امتحان هذه التي قيل بالتجربة فلمّا امتحنت الأمر في ذلك وجدت هذا السعال اليسير اليابس قد يعرض في الحمّيات التي تكون من التعب والنصب وأمّا غيرها فلم يعرض من ذلك كبير عارض. ووجدت ذلك أيضاً إنّما يعرض لمن أصابته الحمّى من تعب لا في جميع الأحوال لاكن متى كان تعبه في وقت بارد شديد البرد أو في وقت حارّ شديد الحرّ وخاصّة إن كان تعبه في طريق فيه غبار فبيّن أنّ أصحاب تلك الحال إنّما يسعلون من طريق العرض لا من نفس الإعياء. وذلك أنّ هؤلاء إنّما يسعلون بخشونة تنالهم في نواحي الحلق من قبل البرد كما قلت أو من قبل الغبار أو يبس مفرط ينالهم من الهواء المحيط بأبدانهم ومع ذلك أيضاً بسبب سوء مزاج تلك الآلات. فقد علمتم 〈أن〉 قد يعرض السعال بسبب سوء المزاج.
(٢٧) قال أبقراط: ولا ينبغي أن تغفل شيئاً ولا تقبل شيئاً من غير أن تبحث.
قال جالينوس: هذا القول إذا قيل أو كتب على حدته لم يحتج أصلاً في فهمه أو في تصديقه إلى قول غيره ممّا يتقدّمه أو ممّا يأتي بعده. إلّا أنّه قد وضع في هذا الموضع بعد القول الذي تقدّم في أثور الموضع. وذلك أنّ تلك الأبواب من العلم قد يرى كثير من الناس أنّها يسيرة حقيرة لا تستحقّ كثير عناية ولذلك يستخفّون بها ويغفلونها حتّى لا يبحثوا عنها بالقياس ولا يمتحنوها بالتجربة. وكما أنّ القول الذي تقدّم منّا يدلّ على أنّه «لا ينبغي أن نغفل شيء» كذلك قد يدلّ على أنّه «لا ينبغي لأحد أن يقبل من أحد شيئاً» بلا تثبّت ولا نظر كالذي فعلت البحث عن القول الذي تقدّم هذا وفي جميع سائر الأقاويل لا من أقاويل أبقراط فقط لاكن
من أقاويل سائر القدماء. وذلك أنّي لست أقبل من قائل قولاً من غير بيان لاكنّي أمتحن كلّ قول يرد عليّ بالتجربة والقياس حتّى أعلم أحقّ هو أم باطل.
فأمّا من جعل نفسه عبداً أو عتيقاً لرجل واحد فإنّه حين يجد قولاً قد كتب ونسب إلى ذلك الرجل يصدّق به من غير نظر وبحث ولا حجّة مثل أنّ السعال اليابس إنّما يعرض خاصّة لأصحاب حمّى الإعياء. وذلك أنّهم لم يبحثوا وينظروا لأيّ صنف من أصحاب الإعياء يعرض ذلك السعال هل يعرض لمن عرض له الإعياء من التعب أو النصب أم قد يعرض لمن يحدث له الإعياء من غير تعب ولا يبحثوا أيضاً ونظروا هل حدوث ما يحدث من السعال لأصحاب الإعياء يكون على الطريق المطلق أو بطريق العرض.
والذي عرض في هذا قد يعلمون أنّه يعرض في أشياء أخر كثيرة لوضاع الكتب أنفسهم وللمتولّين بشرحها وأكثر من هؤلاء كثيراً لهؤلاء الأطبّاء الذين يدورون ويرتكضون في المدن النهار أجمع في كلّ يوم المستعملين للتجربة من غير قياس. وذلك أنّهم «يغفلون» أشياء كثيرة لاستصغارهم إيّاها وهم لا يعلمون أنّه كثيراً ما تجتمع أشياء كثيرة فتجتمع منها جملة عظيمة القدر جليلة «ويقبلون» ما يجدونه مكتوباً منسوباً إلى بعض المتقدّمين بلا تثبّت ممّن قد جعل نفسه لكلّ واحد منهم خولاً وعبداً. وإن لم يفعل ذلك بعضهم فإنّه من وجه آخر ربّما خيّل له أنّ الشيء يقنع في أوّل ما يقع عليه وهمه فيقبله من غير أن يبحث عنه في مدّة طويلة من الزمان فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين غيره فيحكم بالتقدّم والعجلة على الشيء الذي إنّما رآه في الفرط حكم الشيء الذي قد يرى مراراً كثيرة وكذلك قد نجد دائماً. وما يشبه أن يكون حدث هذا الاختلاف بين أصحاب الأهواء المختلفة إلّا
من هذا الباب خاصّة عندما يتقدّم من يظنّ لنفسه الحكمة وهو عند نفسه مقدّم على الشيء الذي قد خيّل له أنّه مقنع من غير أن يبحث عنه مراراً كثيرة مع كثير من الناس فيصدّق به أنّه حقّ.
وكما أجريت هذا القول فيما قاله على مثال من بابي الاستدلال والتعرّف كذلك قد ينبغي أن أجريه في أبواب العلاج والمداواة إذ كان «لا ينبغي أن تغفل» في هذا الباب أيضاً أشياء ممّا يظنّ به أنّه يسير صغير «ولا تقبل» من غير تثبّت وبيان ما يوصف من قوى ما يتداوى به كما قد وصفت وبيّنت لكم في كتابي في حيلة البرء.
(٢٨) قال أبقراط: ينبغي أن تقرّب الأضداد قليلاً قليلاً وتريح.
قال جالينوس: إنّ هذه المشورة مشورة في العلاج والمداواة وقد يمكن أن ينسبها إلى حفظ الصحّة ويبيّن أنّه «لا ينبغي أن تغفل شيئاً ولا تقبل شيئاً من غير أن تبحث» بأن يجري ذلك على طريق المثال في هذا القول. من ذلك أنّ الأطبّاء يغفلون أمر العادات باستصغار منهم له ولا يظنّون أنّه يستدلّ به أصلاً على شيء ممّا تختلف به المداواة ومنهم من لا يغفل العادات لاكنّهم إذا راموا أن ينقلوا قوماً من عادات رديئة جروا عليها إلى «أضدادها» فعلوا ذلك دفعة فيعظم خطاؤهم في ذلك. والذي ينبغي أن لا يغفل أمر العادات ولا ينقل أحداً 〈دفعة〉 عن عادة جرى عليها على غير ما ينبغي لاكن ينقل «قليلاً قليلاً ويراح» من ذلك.
وقد يفهم عنه قوله «تريح» على ضربين أحدهما أن لا تقتصر على أن تنقل من قد جرى على عادة رديئة إلى ضدّها لاكن تريحه فيما بين ذلك أوقاتاً. مثال ذلك
أنّا إذا احتجنا أن ننقل من قد جرت عادته بالسكون والخفض إلى أن نعوّده بالرياضة فإنّا نبتدئ أوّلاً فنعوّده أقلّ ما يكون من الرياضة ثمّ نزيد فيها قليلاً قليلاً ثمّ نروحه يوماً أو يومين فيما بين الأيّام فنردّه إلى الخفض. وقد يمكن أن يفهم قوله «وتريح» على ضرب آخر بأن نقول إنّ قوله «وتريح» خلاف قوله «تقرّب» حتّى نقصد إلى بعض الناس فنعوّده عادة لم تتقدّم له فنقرّبه منها قليلاً قليلاً 〈…〉
(٢٩) قال أبقراط: من أصابه وجع في مؤخّر رأسه ففصد له العرق المنتصب الذي في الجبهة انتفع بفصده.
قال جالينوس: أمّا القدماء من المفسّرين فيعرفون افتتاح هذا القول «الذي أصابه وجع في مؤخّر رأسه» ويقولون إنّه كتب في كتاب الفصول «من أصابه وجع في مؤخّر رأسه» فجعل أبقراط الحكم في ذلك الكتاب كلّيّاً وأمّا في هذا الكتاب فكتب «الذي أصابه وجع في مؤخّر رأسه» فجعل تذكرة لنفسه لشيء رآه في واحد من الناس حتّى إذا جرّب هذا العلاج في عدد كثير من الناس تقدّم فحكم فيه حكماً كلّيّاً. ومن البيّن أنّ هذا العلاج من وجه من الوجوه هو من العلاج الذي يقصد به لنفس موضع العلّة وهو من وجه آخر من العلاج الذي تجتذب به المادّة وتقلب إلى ضدّ الموضع الذي مالت إليه.
وأمّا «العرق» القائم «المنتصب في الجبهة» فقد يمكننا أن نراه قبل التشريح عياناً وأمّا التشريح فبيّن أنّ مجراه يتّصل بالعروق التي من جانبيه. وقد غلط قوم
فتوهّموا أنّ ذكره «للقيام» «والانتصاب» لم يعن به نصبة العرق لاكنّه إنّما عنى به شكل الفصد. وذلك أنّ المنفعة ليست تنال صاحب «الوجع» بسبب شكل الفصد لاكنّها إنّما تناله بسبب استفراغ الدم.
(٣٠) قال أبقراط: ينبغي أن تنظر في التنقّل في الجانبين ممّا دون الشراسيف من أين إلى أين يكون وفي سائر التنقّل وفي أورام الأحشاء ما قوّته وفعله إن كان من الكبد إلى الطحال أو على ضدّ ذلك وجميع ما أشبه ذلك.
قال جالينوس: قد يوجد هذا القول في بعض الكتب على هذه النسخة التي تقدّمت ويوجد في بعض الكتب على غير ذلك. وقد حرّف بعض ما به تلك النسخة وهو قوله «وفي سائر التنقّل» زيد في بعضها «أمن أيّ شيء يفعل أيّ شيء» وفي بعضها «ومن أيّ شيء يغيّر أيّ شيء». فأمّا النسخة الأولى فيعرفها القدماء والمفسّرون وروفس وأمّا النسخة التي فيها «من أيّ شيء يغيّر أيّ شيء» فيعرفها آل سابنس وديسقوريدوس وأمّا النسخة التي فيها «من أيّ شيء يفعل أيّ شيء» فيعرفها لوقس وأصحابه. وأمّا النسخة القديمة فتفيد معنى كلّيّاً وأمّا النسختان الأخريان فإنّما يستفاد منها معنى جزئيّ وذلك أنّ القصد فيها إنّما هو «لتنقّل» ما يتنقّل «في الجانبين ممّا دون الشراسيف» لا لتنقّل كلّ ما يتنقّل. والأفضل إذا أمكن الفهم عنه الأمر الكلّيّ وكان ذلك ممّا يصحّ أن يتوهّم عليه أنّه إنّما يقصد لوصف الأمر الكلّيّ و〈لا〉 للجزئيّ. والقول الكلّيّ يكون على هذا الطريق: إنّه قد ينبغي أن تنظر في انتقال ما ينتقل ما كان ذلك في الجانبين ممّا دون
الشراسيف وما كان في سائر النواحي كلّها من أيّ موضع ومن أيّ علل يكون إلى أيّ موضع وإلى أيّ علل كما قد تنظر في تنقّل ما يتنقّل بين الكبد بالطحال.
وقد ذكر أبقراط هذين الحشوين على طريق التمثيل وذلك أنّا قد علمنا أنّ انتقال العلل إلى الكبد من الطحال انتقال ذو خطر وانتقال العلل من الكبد إلى الطحال سليم من الخطر محمود نافع. وقد شرحت أمر اندفاع جميع ما يندفع وانتقال ما ينتقل ممّا من عادة الطبيعة أن تفعله وحدها على انفرادها 〈و〉ممّا نفعله نحن إمّا بمعاونتها للطبيعة وإمّا على الانفراد دون الطبيعة في تفسيرنا لكتاب أبقراط في الأخلاط وفي تفسيرنا للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا.
وقد توجد أيضاً نسخ أخر سوى هذه النسخ التي ذكرتها لهذا القول الذي تقدّم ولأقاويل أخر كثيرة إلّا أنّي قد قلت منذ أوّل قولي إنّي إنّما أذكر من النسخ ومن التأويلات أقلّها كيما لا يكثر ويطول تفسيري لهذه المقالة.
(٣١) قال أبقراط: ينبغي أن تقلب الشيء فتجذبه إلى ضدّ الموضع الذي مال إليه متى لم يكن ميله إلى حيث ينبغي أن يميل فإن كان ميله إلى حيث ينبغي أن يميل فينبغي أن تفتح من الناحية التي يميل إليها كلّ واحد ممّا يميل.
قال جالينوس: قد وصفت لك الحال في ذلك أنّه «ينبغي أن تجري الشيء إلى حيث يميل من المواضع التي تصلح» لأن يجري منها وينبغي أن تمنع الشيء الذي «ميله» إلى خلاف الجهة التي ينبغي حتّى «تجتذبه وتقلبه إلى ضدّها».
وأمّا قوله «تفتح» في هذا الموضع فلم نذهب فيه إلى ما من عادتنا أن نذهب إليه إذا قلنا ذلك في الخراجات حتّى يكون المعنى في ذلك أن نبطّ بالحزيزة لاكنّه
إنّما ذهب إلى معنى أعمّ من هذا يدخل فيه تفتيح أفواه ذوات الأفواه. وذلك أنّا قد نفتح أفواه العروق التي من عادتها أن تفتح في القبل والدبر وندرّ ما يستفرغ من الرحم. وإن كان أيضاً ناسوراً قد جرت العادة فيه منذ مدّة طويلة أن يسيل منه شيء ثمّ احتقن ما كان يستفرغ في بعض الأوقات فقد ينبغي أن نفتحه. ومن كان أيضاً قد جرت عادته أن يستفرغ من أذنيه شيء من فضول دماغه ثمّ انقطع ذلك الاستفراغ دفعة وأحدث عليه دواراً وسدراً فإنّا إذا هيّجنا ذلك الاستفراغ واستدعيناه إلى الأذنين بالأدوية المفتّحة رأينا صاحب تلك الحال ينتفع بذلك على المكان.
(٣٢) قال أبقراط: ما كان من البثور عريضاً فليس يكاد يكون معه كثير حكّة مثل البثور التي خرجت بسيمون في الشتاء في الأوقات التي كان يمرخ فيها بالقرب من النار أو يستحمّ بالماء الحارّ. وما كان ينتفع بالقيء وأرى أنّه لو كان استعمل فيه التسخين والتكميد لكان ذلك قد ذهب عنه.
قال جالينوس: إنّ الأمر في «البثور» على ما هو في الخَراجات أنّ ما حدث منها عن خلط بارد فهي «عريضة» طويلة اللبث 〈و〉كذلك ينبغي أن يفهم الأمر في «البثور». وذلك أنّ البثور ليس تخالف الخَراجات في الجنس بأسره لاكنّها إنّما تخالفها في كمّيّة الخلط الذي تحدث عنه وإنّما تتولّد بقصد الطبيعة لتنقية باطن البدن وكما قد تنقّي الطبيعة فضول البدن كثيراً حتّى تخرجها عنه كذلك قد تدفعه
أحياناً نحو الجلد حتّى تحدث فيه «البثور». وذلك أنّ الأخلاط متى كانت أقرب إلى المائيّة والرقّة لطّفتها وحلّلتها بالبخار ومتى كانت الأخلاط أقرب إلى الغلظ حتّى ترسخ في الجلد وخاصّة في البشرة منها لكثافتها فإنّه تحدث عند ذلك «البثور». وما هو من جنسها وذلك يعرض خاصّة لمن كان الجلد منه أميل في الكثافة والصلابة وذلك أنّ نفوذ الأخلاط الغليظة اللزجة يكون فيه أعسر. فعلى هذا الطريق حدث ما ذكر أنّه حدث بسيمون ما حدث من «البثور العراض في الشتاء» في الأوقات التي كان يسخن فيها بدنه سخونة يعتديها عند استعماله «الاستحمام بالماء» «والتمرّخ» مع الاصطلاء. وأمّا في سائر الأوقات فكانت تلك الأخلاط المولّدة «للبثور» تبقى في عمق البدن فلا تظهر إلى الجلد.
ثمّ قال: «إنّه لم يكن ينتفع بالقيء». ولم يذكر لنا أبقراط هل هو الذي كان أشار «بالقيء» أو غيره ولا بنا حاجة ضرورة إلى معرفة ذلك. والذي يكتفي بمعرفته أنّ الأخلاط إذا كانت قد مالت نحو الجلد فإنّما ينبغي أن تستفرغ من الجلد لأنّ اجتذابها إلى ضدّ الناحية التي مالت إليها حتّى تعاد إلى باطن البدن فتستفرغ بالإسهال أو بالقيء يبعد.
ولعلّك تظنّ بي أنّي أزعم أنّه لا ينبغي أن يستعمل الإسهال والقيء فيمن هذه حاله في حال من الأحوال. ولست أزعم هذا فقد وصفت لك في كتبي التي قصدت فيها لمداواة الأمراض أنّ الإسهال والقيء نافعاً لمن كانت في بدنه فضول من الأخلاط كثيرة جدّاً. فإنّه متى كان ذلك ثمّ لم يتقدّم فيستفرغ من البدن جلّ ذلك الفضل بالفصد أو بالإسهال أو بالقيء واقتصرتَ على «التكميد» أي استعمال الأشياء المسخنة فقط ورمتَ بذلك تحليل الفضل اجتذبتَ إلى ظاهر البدن منه
أكثر ممّا يتحلّل منه من الجلد. لاكنّه متى كانت الفضول قد رسخت وتمكّنت في الجلد فمداواتها إنّما تكون لا محالة بالأشياء التي «تكمّد» «وتسخن» من الأدوية وغيرها وخاصّة متى كانت البثور «عراضاً». فإنّها إذا كانت كذلك دلّت على أنّ الخلط المولّد لها ليس بالحارّ ولا بالرقيق لكنّه شديد الغلظ وشديد البرد.
وقد وصفت فيما تقدّم من أمر الخَراجات أيضاً أنّه ما كان منها محدّد الرأس وكان هائجاً فإنّما تولّده عن أخلاط حارّة وما كان على خلاف ذلك فتولّده عن أخلاط باردة. وقد نصل إلى تعرّف هيجان الأخلاط المولّدة للخَراجات والبثور بما يحدث معها من «الحكّة» والألم. فإنّه متى كان الفضل المولّد لها يسير الحرارة أحدث حكّة فقط وأمّا ما كان من الفضل شديد الإسخان فإنّه يحدث لذعاً على المكان وألماً.
(٣٣) قال أبقراط: ما ينبغي أن ينضج فينبغي أن تحقن وتحصر وما كان على ضدّ ذلك فينبغي أن تجفّف وتفتّح.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً ممّا قد وصفته لكم مراراً كثيرة وخاصّة في صفتي للأدوية المقيّحة. فقد قلت إنّه لا ينبغي أن تكون قوّتها قوّة محلّلة لاكن ينبغي أن تكون قوّتها القوّة المضادّة للمحلّلة وهي التي تسمّى «الناشبة الراسخة». فإنّ هذه الأدوية «تحصر وتحقن» الحرارة الغريزيّة ولا تدعها تتحلّل ونضج ما ينضج إنّما يكون بالحرارة الغريزيّة.
ولا ينبغي أيضاً في هذا الموضع أن تغلط فتتوهّم على أنّي أزعم أنّ جميع الأورام العسرة النضج التي تتولّد فيها مِدّة أصلاً بهذا الطريق ينبغي أن يعالج. وذلك أنّ كثيراً من هذه الأورام إذا استعملت فيها الأدوية الراسخة الناشبة عفّنها وذلك إنّما يكون إمّا لرداءة الأخلاط التي حدثت عنها تلك الأورام وإمّا لضعف العضو الذي فيه تلك العلّة إذا كانت الحرارة الغريزيّة التي فيه قد بلغ من قلّتها وضعفها ألّا نروم إنضاج الأخلاط التي غاضت فيه. وفي مثل هذه من الأورام قد نفتّح الجلد بأن نشرطه ونخرق فيه خروقاً غائرة وربّما بططناه عن آخره إلى أن يبلغ إلى عمقه في مواضع كثيرة من العضو العليل ونستعمل عليه ما هو في غاية التجفيف من الأدوية. وذلك أنّ أمثال هذه من الأورام سريعة قريبة من أن تقع في طريق موت العضو الذي يحدث فيه نفس العلّة التي يسمّيها اليونانيّون «غنغرانا». وذلك أنّ الحرارة الغريزيّة تكون في العضو الذي قد حدث فيه مثل هذا الورم قد غلبت وخارت وقربت من أن تطفأ أصلاً. فأمّا ما كان من الأورام لم تبلغ الحرارة الغريزيّة تكون في العضو الذي هي فيه إلى أن تشرف على الخمود والانطفاء والهلاك التامّ وذلك قد يمكن إذا عاونّاها أن تغلب على الخلط المولّد للورم فإنّا نستعمل فيه الأدوية الناشبة الراسخة. وقد دلّ أبقراط على هذا المعنى دلالة بيّنة بقوله «ما ينبغي أن ينضج». وذلك أنّ ما كانت هذه حاله من الأورام محتاج إلى الإنضاج وأمّا ما كان قد قرب من أن يقع العضو الذي حدث فيه في طريق الموت وما قد عفن فليس يحتاج أصلاً إلى أن ينضج. ولذلك إنّما نعالج تلك الأورام كما قلت بالاستفراغ بالتشريح والبطّ وبالأدوية التي هي في غاية القوّة وأمّا ما قد أخذت فيه العفونة منها فإنّا نقطعه ونرمي به ونكويه.
فقد أحسن فيما أتبع به القول الأوّل حين قال: «وما كان على ضدّ ذلك فينبغي أن تجفّف وتفتّح» يعني ما لا يحتاج إلى أن ينضج. والذي لا يحتاج إلى
أن يفتّح هو ما لا يمكن أن يتقيّح كما قلت وما قد تقيّح فليس يحتاج بعد إلى التفتيح. وذلك أنّه يحتاج في الأورام التي لا تتقيّح إلى أن تنفتح المجاري كلّها وأن يجفّف العضو الذي فيه العلّة. فقد بان من هذا أنّه لم يصب من حرّف هذا الكلام حتّى صار معناه «ما جفّ من الأعضاء فينبغي أن يودع أن يترك ساكناً». وذلك أنّ هذا المعنى معنى يسير خسيس بيّن حتّى لا يحتاج أن يعني به أبقراط حتّى يذكره في كتابه. ومع ذلك أيضاً فإنّ القول الذي وصفه بإزاء القول الأوّل ليس هو ضدّ «اللذعة» لاكنّه إنّما هو ضدّ «الحقن والحصر» لأنّ ضدّ الشيء الذي يحصر ويحقن إنّما هو الشيء الذي يحلّل «ويجفّف».
وقد وصل قوم بهذا القول القول الذي يتلوه وجعل بعضهم بينهما حرفاً ووصلوهما به وهو «مثال ذلك» حتّى جعلوا جملة القول على هذا المثال: «ما ينبغي أن ينضج فينبغي أن تحقن وتحصر وما كان على ضدّ ذلك فينبغي أن تجفّف وتفتّح. مثال ذلك أنّه إذا كان في العينين سيلان فينبغي أن تجتذب ذلك السيلان وتقلبه إلى ضدّ موضعه حتّى تأتي به إلى الحلق إن رأينا أنّ في ذلك صلاحاً من سائر الوجوه». على أنّ المعنى في هذا القول الثاني غير مشابه ولا مشاكل للمعنى في القول الأوّل. وذلك أنّ «التجفيف والتفتيح» خلاف حدث «السيلان وقلبه إلى ضدّ موضعه». فكيف يجوز أن يكون قدّم فقال: «وما كان على ضدّ ذلك فينبغي أن تفتّح وتجفّف» ثمّ جعل مثال ذلك أنّه «إذا كان في العينين سيلان فينبغي أن تجتذب وتقلب إلى ضدّ موضعه حتّى يؤتى به إلى الحلق»؟
(٣٤) قال أبقراط: إذا كان في العينين سيلان فينبغي أن تجتذبه وتقلبه إلى ضدّ موضعه حتّى تأتي به إلى الحلق إن رأيت أنّ في ذلك صلاحاً من سائر الوجوه وحيث ينتفع بالجشاء وسائر ما أشبه ذلك.
قال جالينوس: إنّ هذا أحد أصناف «جذب» الشيء «وقلبه إلى ضدّ موضعه». وذلك أنّ أبقراط يشير متى كانت رطوبة تميل إلى «العينين» منذ مدّة طويلة إلى أن تنقل مجراها «وتقلبها إلى ضدّ الموضع» الذي مالت إليه «〈حتّى〉 تأتي به إلى الحلق». ومن البيّن أنّا إنّما نفعل ذلك بأدوية حادّة نطلي بها الحنك ونأمر العليل أن يتغرغر بها. وإنّما ينبغي أن نفعل ذلك متى أمنّا أن تحدث عنه حال هي أردأ. وذلك أنّا متى خفنا أن يميل سيلان تلك الرطوبة إلى قصبة الرئة أو إلى الرئة توقّينا استعمال هذا الجذب إلى تلك الناحية. وكما أشار بهذا في هذا الباب كذلك يشير به في «سائر ما أشبهه» ويأمرك أن تتقدّم فتتفقّد وتنظر ألّا يكون عضو من تلك الأعضاء التي تجذب إليها غير مأمون عليه أن تجذب به آفة عظيمة.
وقد قال قوم إنّه لم يعن «بسيلان العينين» ما يسيل إليها من الرأس لاكنّ ما يسيل منهما وهي العلّة التي يسمّيها اليونانيّون «رواس». وممّن زعم ذلك لوقس وقد أطال الكلام في ذلك وقال إنّه يتّصل بالحنك مجرى يجري فيه من العين إلى الحنك ما يتولّد في العين من الفضل حتّى يستفرغ هناك وإنّ موضع ذلك المجرى عند المأق الأعظم وإنّ تلك العلّة التي يسمّيها اليونانيّون «رواس» تكون على ثلاثة أوجه إمّا لانضمام يحدث في ذلك المجرى أو سدّة وإمّا لأنّه يتولّد في العين من الفضل شيء كثير نيّ يفيض منه شيء إذا كان المجرى لا يحتمله كلّه لأنّ طبعه الضيق. وذلك قد يكون على وجه ثالث وهو أن تندمل قرحة كانت في ذلك المأق فتغوّر فوهة ذلك المجرى وقد يعرض ذلك بعد قطع اللحم الزائد الذي يتولّد في ذلك المأق عند حدوث القرحة فيه على أيّ وجه حدثت. وما كان من هذه العلّة بهذا السبب فينبغي أن تظنّ به أنّه لا يبرأ وأمّا ما كان منها بالسببين الأوّلين فقد
يبرأ «إذا اجتذبنا وقلبنا ذلك الفضل إلى ضدّ الموضع الذي يميل إليه حتّى تأتي به إلى الحلق».
وأمّا قوله بعد «وحيث ينتفع بالجشاء» فهو شيء أثبته أبقراط لنفسه على طريق الرمز. وممّا لا يشكّ فيه أنّه متى كان «الجشاء ممّا ينتفع فيه» فقد ينبغي أن يحرّك ويبعث إلّا أنّه لم يصف في أيّ موضع «ينتفع به». وليس يشاكل هذا القول ما ذكره من أمر «سيلان العينين» ولمّا كان قد وقع موضعه على غير نظام التبس به هذا الكلام واستغلق وذلك أنّه قد وصف «لسيلان العينين» علاجاً «يقلب به إلى ضدّ موضعه». وأمّا قوله «وحيث ينتفع بالجشاء» فليس يخلو الأمر فيه من أحد وجهين إمّا أن يكون قاله في «سيلان العينين» وقد يرى أنّ الجشاء ممّا لا ينتفع به في مداواة سيلان العينين وإمّا أن يكون افتتاحاً لقول آخر. ولذلك قد اضطرّ قوم إلى أن عزلوه عن القول الذي تقدّمه فجعلوه قولاً آخر على هذا المثال: «وحيث ينتفع بالجشاء وسائر ما أشبه ذلك فينبغي أن تفتّح المجاري». وليس يشاكل هذا أيضاً ما يتلوه من قوله «مثل المنخرين وسائر المجاري التي يحتاج إليها وبالوجه الذي ينبغي» وما يتلو ذلك.
فأمّا من قال إنّ أبقراط أثبت لنفسه هذا القول على حدته على طريق التذكرة فجعل هذا القول مفرداً منقطعاً عمّا قبله وبعده وهو قوله «وحيث ينتفع بالجشاء» فرأى أنّ أبقراط يشير فيه إلى أن يحرّك الجشاء في بعض الأوقات وذكروا أنّه ينتفع به فيمن تصيبه نفخة في المعدة وخاصّة متى كانت الريح الغليظة النافخة لا تخرج من أسفل. وذكروا أيضاً أنّ المريء وما يتّصل به من رأس المعدة إذا كان ضعيفاً تقوّى بالجشاء إذ كان الجشاء له رياضة تخصّه. وأشاروا بتحريك الجشاء لا
بالأدوية فقط لاكن بالتماسهم إيّاه من أنفسهم أيضاً واحتيالهم فيه ليكون كثيراً وإن كان ما يحسّونه من الريح في المعدة يسيراً. وقد يأمر سابنس من هذه حاله أن يشرب شرابه بكوز ضيّق الرأس حتّى يهيج بذلك الجشاء.
وقد زعم قوم أنّ أبقراط سمّى باسم «الجشاء» جميع حركات الريح الغليظة النافخة من حيث كانت وكيف كانت. وقد يجب على قياس قول هؤلاء أن يكون السعال والعطاس والفواق وما يخرج من الريح من أسفل وما ينحلّ من الريح من البدن كلّه داخلاً في اسم «الجشاء». وقد زعم قوم أنّه يسمّي كلّ ما كان يقذف ويخرج عن البدن «جشاء» كان ذلك الذي يخرج من الريح أو كان من بعض الرطوبات واحتجّوا في ذلك بقول أتوا به من أوميرس الشاعر ينسب البحر فيه إلى الجشاء فيما يقذفه من الغثاء ففتحوا وطرقوا بذلك طريقاً رديئاً من التفسير. وذلك أنّ متعمّداً إن اعتمد إلى الألفاظ التي استعملها الشعراء في الندرة على غير حقائقها على نحو من الأنحاء التي يستعملها الشعراء فأزال الأمر فيها على أنّها تجري ذلك المجرى بالحقيقة وبنى التفسير على ذلك قدر أن يزيل جميع الأقاويل البيّنة عن معانيها فضلاً عن الأقاويل الغامضة.
(٣٥) قال أبقراط: ينبغي أن تفتّح المجاري مثل المنخرين وسائر المجاري التي يحتاج إليها بالوجه الذي ينبغي والنوع الذي ينبغي وحيث ينبغي ومتى كان ينبغي وبمقدار ما ينبغي مثل العرق وسائر ما ينبغي.
قال جالينوس: هذا القول إن أفرد على حدته كان من الأقاويل التي يجب أن تحفظ وتتمسّك بها وذلك أنّه قد ينبغي أن تكون المجاري التي تخرج الفضول من
البدن مفتوحة. وقد يمكن أيضاً أن يوصل هذا القول بالقول الذي تقدّمه فيستفاد منه ضربين من الدرك أحدهما خاصّ في سيلان العينين والآخر عامّ [و]في كلّ موضع يحتاج إلى أن نجتذب منه شيئاً ونقلبه إلى ضدّه أو نزيله فنجذبه إلى موضع قريب منه. وذلك أنّا متى احتجنا إلى أن نجتذب شيئاً فنقلبه إلى ضدّ الموضع الذي مال إليه ثمّ خفنا أن نفعل ذلك فقد ينبغي عند ذلك أن نزيل ذلك الشيء فنجذبه إلى موضع قريب منه ونلتمس مع ذلك أن نصيّر البدن كلّه خالياً نقيّاً.
وأمّا الأشياء التي ذكرها بعد هذا فقد وصفتها لك مراراً كثيرة وهي ممّا ينتفع به في كلّ استفراغ. وذلك أنّه متى احتيج إلى الاستفراغ فليس ينبغي أن تتقدّم عليه جزافاً لاكن بعد أن تحدّد كيف ينبغي أن تفعل ذلك الاستفراغ وأيّ نوع ينبغي أن يكون ذلك النوع الذي يستفرغ ومن أيّ موضع من البدن ينبغي أن يستفرغ وفي أيّ وقت وبأيّ مقدار.
وينبغي أن أصف كلّ واحد من هذه في هذا الموضع أيضاً على طريق التذكرة بإيجاز واختصار. فأقول إنّ قوله «بالوجه الذي ينبغي» إنّما عنى به أنّه «ينبغي أن تفتّح المجاري» لا على ما تهيّأ واتّفق لاكن كما ينبغي. وذهب في ذلك إلى الطريق الذي به يحدث الاستفراغ. مثال ذلك أنّا إذا أردنا أن نسهل البطن فقد نفعل ذلك بالحقن ونفعله بالشيافات ونلتمسه بالأدوية المسهلة ونتخيّر في كلّ واحد من هذه الأصناف الشيء الذي هو في تلك الحال أبلغ وأجود. وذلك أنّ الحقن تتّخذ على أنحاء شتّى وكذلك الفتائل والأدوية المسهلة فهذا هو معناه في قوله «بالوجه الذي ينبغي».
وأمّا قوله «والنوع الذي ينبغي» فدلّ به على النوع الذي ينبغي أن يستفرغ من الأخلاط حتّى يبحث وينظر هل ينبغي أن يستفرغ الشيء الرقيق المائيّ أو الخلط
البلغميّ أو المرار الأصفر أو المرار الأسود وهل ينبغي استفراغ اثنين من هذه الأخلاط أو أكثر أو جميعها.
وأمّا قوله «وحيث ينبغي» فدلّ به على العضو من البدن الذي منه ينبغي أن يكون الاستفراغ. وذلك أنّا وإن علمنا أنّه ينبغي أن يستفرغ من أسفل فقد ينبغي أن نحدّد من أيّ الأعضاء السفليّة ينبغي أن يكون ذلك. وكذلك قد كتب قوم مكان «وحيث ينبغي» «وحيث ينبغي» حتّى يكون المعنى في قوله «ومن حيث ينبغي» «من أيّ عضو من الأعضاء السفليّة ينبغي أن تلتمس الاستفراغ» هل ينبغي أن يكون ذلك من المثانة أو من البطن أو من الرحم وإذا كان ينبغي أن يستفرغ من فوق نظر هل ينبغي أن يكون الاستفراغ من المنخرين أو من الفم وقد يكون الاستفراغ من البدن كلّه وهو الاستفراغ بالعرق والاستفراغ الذي يكون بالتحلّل الخفيّ.
وأمّا قوله «ومتى ينبغي» فبيّن أنّه أراد به الوقت الذي ينبغي أن يستفرغ فيه هل ينبغي أن يكون ذلك في أوّل المرض قبل أن ينضج إذا كان المرض كما قال هائجاً وكانت الطبيعة التي تدبّر أبدان الحيوان سريعة مستعدّة لدفع الرطوبات وإخراجها من البدن وإنّما ينبغي أن تفعل ذلك بعد أن تنضج الأخلاط المولّدة للمرض. فإنّ هذا أيضاً ممّا أخذناه عن أبقراط كما أخذناه عنه المعنى الأوّل أيضاً في كتابه المعروف بكتاب الفصول.
وأمّا الحرف الذي أتى به في أوّل قوله حين قال «وبمقدار ما ينبغي» فدلّ به على كمّيّة الشيء الذي يستفرغ. فقد ينبغي للطبيب أن يعدّد ذلك أيضاً فينعم التقدير.
ثمّ ضرب لك مثالاً فقال: «مثل العرق». فإنّ «العرق» وإن كان قد يظنّ به أنّه نافع للمرضى فقد يحتاج إلى مقدار ما حتّى تكون به المنفعة. وذلك أنّ إفراطه
يحلّ القوّة وإن كان إفراط مقدار العرق ضارّاً فأحرى أن يكون إفراط القيء أو الإسهال أو الدم الذي يخرج من أفواه العروق التي في السفلة أو من الرحم ضارّاً.
(٣٦) قال أبقراط: إذا كانت الأمارات رديئة ثمّ كان الوجه حسناً فذلك دليل محمود وإذا كانت الأمارات الرديئة يسيرة ثمّ كان الوجه يدلّ على ضدّ حسن الدلالة كان ذلك دليلاً رديئاً.
قال جالينوس: إنّ الجزء الثاني من هذا القول أيضاً قد يكتبه كلّ واحد ممّن فسّر هذا الكتاب على نسخة غير النسخة التي يكتبها عليه الآخر وما يحتاج إلّا إلى زيادة حتّى لا يكون فيه موضع لبس ولا مطالبة. وذلك أنّه يصير على هذا المثال: «وإذا كانت الأمارات الرديئة يسيرة ثمّ كان الوجه يدلّ على ضدّ حسن الدلائل كان ذلك دليلاً رديئاً» حتّى تكون جملة هذا القول على هذا المثال: إذا كانت الأمارات شديدة الرداءة — إن كانت تلك الأمارات أمراضاً وإن كانت أعراضاً — ثمّ كان الوجه حسناً يعني شبيهاً بالحال الطبيعيّة فذلك دليل محمود وإذا كانت الأمارات يسيرة — كانت تلك الأمارات أمراضاً أو كانت أعراضاً كما قلت في القول الأوّل — ثمّ كان الوجه يدلّ على ضدّ حسن الدلالة التي تقدّم وصفها دلّ ذلك على أمر رديء. وقد جعل قوم تفسيرهم لهذا القول هذا التفسير بعينه على أنّ هذه الزيادة التي ألحقناها فيه هي قائمة موجودة فيه من غير أن يخبروا بأنّهم لم يجدوا تلك الزيادة التي زدناها نحن في النسخ القديمة التي لعلّها أن تكون إنّما سقطت لخطاء وقع من الناسخ الأوّل لهذا الكتاب.
ومن المفسّرين قوم لم يقتصروا على أن غيّروا ما وجدوا عليه النسخة القديمة حتّى جعلوا تفسيرهم لهذا القول على غير ما ينبغي وقد رأيت كما قلت منذ أوّل قولي أن ألغي ذكر كثير ممّا قاله المفسّرون على غير ما ينبغي حذراً من أن يطول تفسيري. وذلك أنّ الغرض الكافي في التفسير أن يكون المفسّر يقصد للحقّ ولما يوافق رأي واضع الكتاب الذي يفسّره. وأنا قادر أن أفعل ذلك في هذا القول أيضاً وأستريح من التطويل. فأقول إنّه متى كانت العلل يسيرة ثمّ كان الوجه من النفخ على مثل ما يكون عليه في المرض العظيم دلّ على ضعف من القوّة وليس يؤمن على من هذه حاله أن تتحلّل فتهلك إذا يزيد مرضه. وذلك أنّه إذا كان لم يكن بالمحتمل لمرضه وهو بعد يسير فأحرى ألّا يحتمله إذا أعظم.
(٣٧آ) قال أبقراط: عند العظيم.
قال جالينوس: إنّه نجد فيما بين القول الذي تقدّم وبين القول الذي يتلوه هذين الحرفين مكتوبين وهما «عند العظيم» ثمّ يتلوهما «إذا كانت المرأة خلف مقبرة الأنجاد» حتّى يكون المعنى الذي أشار إليه بالحرف الذي يتلو «عظيم» المؤلّف من «الألف» «والذال» الوقت والمكان. وذلك أنّهم يجعلون هذا الحرف افتتاح القول الذي يتلو الأوّل حتّى يكون أبقراط جعل هذا القول في هذا المرض على هذا المثال الذي جرت عادة أبقراط إذ يدلّ به على كثير من المرضى الذين ذكرهم. وهذه النسخة التي تلك اللفظة مؤلّفة فيها من حرفين فقط أعني «الألف» «والذال» من غير إلحاق «الألف» معهما هي النسخة التي توجد في الكتب القديمة ويعرفها جميع من فسّر هذا الكتاب.
وأمّا لوقس فإنّه أضاف إلى ذينك الحرفين حرف ثالث وهو «الألف» ووصل هذه اللفظة بالقول المتقدّم وقال إنّه ينبغي أن يفهم عن أبقراط من هذا القول أنّه أراد به أن يدلّ على أنّه إنّما ينبغي أن يفهم ما تقدّم في صفة من أمر الوجه في صائر يدلّ عليه من حسن الدلالة أمر الدلالة «عند العظيم» من مغادرته للحال الطبيعيّة لا عند يسير مغادرته لتلك الحال. وإلى ذلك ذهب أبقراط في إلحاقه ما ألحق من قوله «عند العظيم إذا».
فأمّا سابنس فلم يحتج إلى أن يزيد «إذا» واقتصر على أن جعل آخر القول الأوّل «عند العظيم». وذهب إلى أنّ معنى أبقراط في هذا القول أنّه إذا كان المرض عظيماً في طبيعته وفي ظاهر أمره ثمّ كان الوجه ضائراً بحسب مقدار المرض فإنّ ذلك دليل محمود وإذا كان المرض يسيراً ثمّ كان الوجه بتلك الحال فإنّ الأمر على الضدّ وذلك يدلّ على أمر رديء.
ومن أعجبه شيء من هذه التأويلات فالأمر مطلق له في قبوله. فأمّا أنا فإنّي راجع إلى النسخة القديمة التي قد اتّفق عليها سائر جميع المفسّرين.
(٣٧ب) قال أبقراط: عند العظيمة إذا كانت المرأة خلف مقبرة الأنجاد لمّا حدث اليرقانيّ.
قال جالينوس: إنّي أدع البحث عن الجزئين اللذين اختلف فيهما هل ينبغي أن يوصلا بالقول المتقدّم ويجعلا آخره وبالقول الذي يتلوه حتّى يكون افتتاحه ويدلّ «العظيم» على موضع من المواضع لمن يغفل أمور الطبّ ويقصد في تفسيره لطريق أصحاب النحو لا لطريق الأطبّاء. وأكتفي من هذا القول في ذينك الحرفين بما
قاله القدماء من المفسّرين إنّه يدلّ على موضع عظيم كان ذلك الموضع ملعباً أو كان موضع ألحان أو كان موضع رياضة أو كان مقبرة أشراف أو بيت من البيوت يعدّ أن يكون «عظيماً» أو غير ذلك ممّا أشبهه ثمّ أقبل بعد ذلك فأنظر فإن كان فيما قيل شيء ممّا ينتفع به في أعمال الطبّ نبحث عنه. ولسنا نجد قوله «إنّ تلك المرأة كانت خلف مقبرة الأنجاد» ولا «إنّها كانت عند منزل مانيلاس» — فقد يكتب بعض الناس هذا في قصّة هذه المرأة — ممّا ينتفع به في أعمال الطبّ وكذلك ما ألحقه بعد ذلك من قوله «لمّا حدث اليرقانيّ» وإن كان ينسق على ما قبله وإنّ هذا ممّا ذكره أبقراط نفسه ينتفع به ليتذكّر به أمراً كان يحتاج إلى أن يذكره إمّا ممّا تقدّم ذكره وإمّا من أمر هذه المرأة على حدته. فإنّه قد يجوز أن يكون الأمر على الوجهين جميعاً وذلك أنّه ذكر في هذا الموضع أنّه عرض لهذه المرأة شيء يشبه إلى اليرقان إمّا من مرض وإمّا من لون. وقد نجد القدماء من المفسّرين والنسخ القديمة تسقط هذا القول ونجد بعض المفسّرين يُحدثون بعد «لمّا حدث اليرقانيّ» «بقي» ونجد بعض المفسّرين وبعض النسخ يلحقون مع ذلك «بقيّة» فيكتبون «لم تبق» وبعضهم يلحق مع ذلك «بها» إلّا أنّ الاختلاف في هذا إنّما هو في الألفاظ لا في المعنى وأمّا الاختلاف الأوّل فنقل المعنى إلى ضدّه. وذلك أنّ إحدى النسختين دلّت على أنّ المرض «اليرقانيّ» أو اللون «اليرقانيّ» بقي والأخرى دلّت على أنّه لم يبق.
وإن كان هذا القول الذي تقدّم ذكره كتب مفرداً على حدته فلا إن كان «بقي» ذلك ولا إن كان «لم يبق» ننتفع نحن بمعرفة شيء من ذلك إذ كنّا لا نعلم كيف مرضت تلك المرأة وأيّ مرض كان مرضها. وإن كان هذا القول كتب متّصلاً بما تقدّم قبله فذلك أيضاً عندنا فضل لا يحتاج إليه وذلك أنّا نكتفي بأن
نذكر ما حدث من اللون «اليرقانيّ» حتّى يكون هذا اللون مثالاً لما ظهر في الوجه. وذلك أنّ المعنى يكون على هذا الطريق أنّ سائر الأمارات كانت تخيّل أنّها يسيرة وكان الوجه وحده يدلّ على ضدّ ذلك لأنّه تغيّر عن حاله الطبيعيّة تغيّراً عظيماً إذ كان لونه صار لون أصحاب اليرقان. وممّا يثبت ذلك ويشهد على صحّته القول الذي يأتي بعده وقد أرى أن أقبل عليه وأدع سائر التأويلات في هذا القول الذي كنت فيه.
فإنّ كثيراً ممّا قلته في ذلك كأنّي إنّما قلته حتّى أطلت فيه إنّما قلته عن غير إرادتي إذ كنت قد رأيت أن ألغي ذكر كلّ ما لا يغني من قراءة المتعلّمين شيئاً من علم الطبّ. وذلك أنّه ليس قصدي أن أفيدهم عدّة وقوّة في المساعات والخصومات إذ كنت لم أزل مبغضاً لهذا الطريق لكنّ قصدي إنّما هو أن أفيدهم ما ينتفعون به في أعمال الطبّ من تقدمة المعرفة والمداواة وهما الأمران اللذان أخذت نفسي بالدربة فيهما دهري كلّه.
(٣٨) قال أبقراط: الذي كان عند ابن أخي طيماناوس أصابه سواد لون.
قال جالينوس: إنّك إن نسقت هذا القول أيضاً على ما تقدّم من قوله في أمر الوجه استفدت منه شيئاً ينتفع به إذا أنزلته على طريق المثال لما وضعه في القول المتقدّم. وقد يشبه أن يكون هذا المريض قد كانت سائر أمارات مرضه يسيرة وكان تغيّر ما تغيّر من لونه على الحال الطبيعيّة عظيماً فلمّا كانت هذه حاله مات أو أشرف على الموت بهذا السبب وحده.
وقد نجد في بعض النسخ مكان ما «أصابه سواد لون» «أصابه سواد مع خضرة» وما يوجد في هذه النسخة من ذكر هذا اللون أحرى بأن يدلّ وحده على
آفة عظيمة في البدن الذي ظهر فيه وإن كانت سائر الأمارات في ذلك المريض يسيرة سهلة.
(٣٩) قال أبقراط: في فارنثس بان من أمر الشبيه بالمنى أنّه من أمارات البحران ومن الثنّة ما كان كذلك فإنّه قد تخلّص منه بالبول من قبل أنّه لم تخرج منه رياح كثيرة من أسفل ولا براز كثير لزج فتتفرّغ وتضمر ثنّته وذلك أنّه لم يكن الموضع الذي دون الشراسيف عظيماً. أكل في اليوم السابع كرنباً وكان به بعد سوء تنفّس فلمّا تفرّغت ثنّته وضمرت استقام نفسه.
قال جالينوس: قد ظنّ سابنس وأصحابه أنّ ذكر أبقراط لفارنثس لم يجعله افتتاح هذا القول الذي نحن فيه لاكنّه جعله آخر القول الذي تقدّمه. وذلك أنّهم قالوا إنّ هذا القول كلّيّ والقول الذي قبله إنّما هو قول جزئيّ وإنّ من عادة أبقراط أن يذكر أسماء المواضع والديار وأسماء المرضى في الأقاويل الجزئيّة. وممّا يدلّك على أنّ هذا القول أيضاً الذي نحن في تفسيره قول جزئيّ ما اقتصّه أبقراط فيما بعد حين قال: «لم تخرج منه رياح كثيرة من أسفل ولا براز كثير لزج فتتفرّغ وتضمر ثنّته». وقد نجد أقاويل كثيرة جرت هذا المجرى في كتاب إفيذيميا وذلك أنّه أثبت ما شاهده منها في بعض المرضى وهي ما يجري مجرى الأقاويل الكلّيّة حتّى يكون الأمر جارياً دائماً على حال واحدة أو في أكثر الحالات. وعلى هذا المثال ذكر الشيء «الشبيه بالمنى» — إذا كان عنى به البول وإن كان عنى به البراز — فذكر أنّه ظهر له ما ظهر «بفارنثس» «من أمارات البحران».
ولم يشرح أبقراط في قوله أيضاً هل ظهر ذلك في عدد قليل من المرضى أو في عدد كثير منهم والأولى والأشبه أن يكون ظهر في عدد كثير من المرضى في ذلك الوقت الذي كتب فيه أبقراط هذا القول. وذلك أنّه 〈إن〉 ذكر شيئاً كان في مريض واحد ألحق معه ذكر الموضع من المدينة التي رأى فيها ذلك المريض في وقت مرضها وذكر فيها سنّه واسم المريض نفسه. وأمّا أسماء المدن فإنّها من عادته أن يذكرها في اقتصاصه ما يقتصّ من أحوال عدد كثير من الناس أصابهم مرض واحد بعينه إلّا أنّ هذا كيف كان فليس يعظم الفرق به في أعمال الطبّ وبأيّ القولين أحببت أن تصل ذكره لفارنثس فالأمر لك في ذلك مطلق.
وأمّا البول والبراز «الشبيه بالمنى» فقد يكون به في بعض الأحوال «البحران» عندما يستفرغ الخلط الذي يشبّهه براكساغورس بالزجاج.
وأمّا قوله «من الثنّة ما كان كذلك» فقد يحتاج إلى أن يكون قد تقدّمه شيء ينسق عليه لأنّ ما قيل فيه هذا «كذلك» فإنّما يقال بالإضافة إلى غيره ولم يذكر فيما تقدّم شيئاً من أمر «الثنّة». فلعلّه قد كان ذكر شيئاً من أمر «الثنّة» في ذكور أبقراط فعندما نسخت النسخة الأولى من تلك الذكور سقط ما كان ذكر من أمر «الثنّة» لسهو من الناسخ أو يكون أبقراط أثبت هذا لنفسه تذكرة وأشار به إلى شيء قد كان رآه في المريض الذي قبله الذي قال فيه: «الذي كان عند ابن أخي طيماناوس أصابه سواد في لونه».
وقد دعا قوماً ما اعتاص من هذا إلى أن قسموا هذا الكلام قسمة أخرى على هذا المثال: «إنّه من أمارات البحران ومن الثنّة» كأنّه قال: «إنّ البول الشبيه بالمنى قد بان بأنّه ممّا يكون به البحران ومن العلل التي تكون في الثنّة» ثمّ جعلوا ما يتلو
هذا افتتاح قول آخر على هذا المثال: «ما كان كذلك فإنّه قد يتخلّص منه بالبول» حتّى يفهم من قوله «ما كان كذلك» في العلل التي تكون في الثنّة. وممّا يشهد على صحّة ذلك ما قاله بعد حين قال: «من قبل أنّه لم تخرج منه رياح كثيرة من أسفل ولا براز كثير لزج فتتفرّغ وتضمر ثنّته» يعني أنّه لم يحدث لذلك المريض شيء آخر يمكن أن يكون به انحلال ذلك الورم الذي كان به في ثنّته فانقضت علّته وأتى فيها البحران بالبول «الشبيه بالمنى» فقط.
وخليق أن يكون كان الغلظ الذي حدث بذلك العليل في ثنّته على مثال الغلظ الذي ذكره أبقراط نفسه في كتاب تقدمة المعرفة بهذا اللفظ: «فأمّا الأمر الذي يكون فيما دون الشراسيف وما يجفو منه إن كان قريب العهد ولم يكن معه التهاب فإنّ القرقرة الحادثة في ذلك الموضع تحلّها وخاصّة إن خرجت مع البراز والبول فإن لم تخرج فبانتقالها. وقد ينتفع أيضاً بانحدارها إلى أسفل». وذلك أنّه لو كان حدث في الكبد أو في الأمعاء أو في المعدة الورم الدمويّ المسمّى «فلغموني» أو غيره ممّا هو أعسر انحلالاً منه لما كان البول «الشبيه بالمنى» يقوى وحده أن يحلّه. ولذلك أتبع أبقراط ما تقدّم من هذا القول أن قال: «وذلك أنّه لم يكن الموضع الذي دون الشراسيف عظيماً» فأشار بذلك إلى أنّه لو كان «عظيماً» لمَا كان ينحلّ ورمه بخروج ما يخرج من البول «الشبيه بالمنى».
ولمّا كان ما يتلو هذا القول ليس بالمشاكل جدّاً لما تقدّم ذكره على المثال الذي أجرى عليه 〈…〉 ذلك قوماً أن جعلوا هذا القول افتتاحاً لما يأتي بعده وغيّروا فيه بعض التغيّر حتّى صار معناه: «وذلك أنّ الذي كان منه الموضع الذي
دون الشراسيف عظيماً أكل في اليوم السابع كرنباً وكان به بعد سوء تنفّس فلمّا تفرّغت ثنّته وضمرت استقام نفسه» يعني أنّه حسن نفسه ورجع إلى الحال الطبيعيّة. إلّا أنّه لم يذكر هل كان انتفاعه بالكرنب بأنّه ألان بطنه أو على طريق أنّه سرى في بدنه فوصلت قوّته حتّى حلّت ذلك الورم.
وقد تأوّل قوم «استقام نفسه» على معنى آخر فزعموا أنّه ناله بذلك ضرر وزعموا أنّه إنّما يعني بقوله «استقام نفسه» النوع من سوء التنفّس الذي لا يمكن صاحبه أن يتنفّسه إلّا وهو منتصب جالس. وذلك أنّ كلّ قول لا يكون مبناه على الشرح والبلاغ وإنّما يجري مجرى اللغز فالمتأوّل له يقدر أن يتأوّله كيف شاء وليس يصل القارئ له إلى أن ينتفع به كثير منفعة. وذلك أنّا ليس نصل في أشباه هذه من الأقاويل إلى أن نعرف معنى حقيقة أبقراط فيها وإنّما نرجع فيها إلى المعاني التي يتأوّلها المفسّرون.
(٤٠) قال أبقراط: ينبغي أن تبحث عن الدم الصديديّ إن كان يكون في المضطربين من الناس وفيمن يغلب عليه السهر وهل هو رديء أو جيّد.
قال جالينوس: إنّه ليس ينبغي أن يتوهّم أنّه يعني «بالدم الصديديّ» الدم الرقيق المائيّ مطلقاً لاكنّه يعني به الدم الذي فيه مع ذلك قوّة سمّيّة رديئة. وممّا يدلّ على ذلك ما قاله في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا عند ذكره «الصديد» حين قال: «ويصير تحت الجلد صديداً فإذا احتقن سخن وولّد حكّة ثمّ كانت تخرج فيه نفّاخات شبيهة بحرق النار وكان يخيّل إليهم أنّ ما دون الجلد يحترق احتراقاً». فقد تبيّن لك من أمر «الصديد» أنّه يحدث أعراضاً ليست باليسيرة وقد دلّ على
ذلك أيضاً أفلاطن في كتابه المسمّى «طيماوس» عند ذكره «للصديد» حين قال: «فأمّا الصديد فما كان منه من مائيّة الدم فإنّه هادئ ساكن وما كان من 〈مائيّة〉 المرّة السوداء الحامضة فإنّه خبيث». فأبقراط يعني «بالدم الصديديّ» الدم الذي فيه رطوبة رقيقة رديئة وليست رطوبة مائيّة عذبة بعيدة من اللذع لاكنّها لذّاعة تحدث تأكّلاً. وإذ كان أفلاطن قد قال: «فأمّا الصديد فما كان منه من مائيّة الدم فإنّه ساكن هادئ وما كان منه من مائيّة المرّة السوداء الحامضة فهو خبيث» فقد دلّنا أنّه كما توجد في اللبن رطوبة مائيّة كأنّها صفوة وغسّالة الجزء الغليظ الذي فيه كذلك توجد في جميع الرطوبات التي في أجرام النبات وفي أبدان الحيوان أعني الأخلاط رطوبة مائيّة رقيقة وتلك الرطوبة المائيّة تختلف بحسب اختلاف طبائع الأخلاط التي هي مائيّتها فتصير أخبثها مائيّة المرّة السوداء وأقلّ منها خبثاً مائيّة مرّة الصفراء وأقلّ من ذلك مائيّة البلغم وأقلّها خبثاً وأطيبها مائيّة الدم وصديده فإنّه لا فرق عندي في هذا القول أن أسمّي تلك الرطوبة «مائيّة» أو «صديداً».
والدم يقال على معنيين وذلك أنّا ربّما قلنا «الدم» فجعلناه بإزاء هذه الأخلاط التي ذكرناها قبيل وميّزناه منها وربّما قلنا «دم» ونحن نعني به جميع ما في العروق باسم الغالب عليه. فينبغي أن نفهم عنه عند ذكره في هذا الموضع «الدم الصديديّ» أنّ المعنى الثاني الذي قد جرت عادة الأطبّاء بالقصد إليه عند قولهم
في الفصد مرّة إنّ فلاناً فصد فخرج منه دم سوداويّ أو بلغميّ أو حادّ يغلب عليه المرار وربّما قالوا إنّه خرج منه دم طبيعيّ.
«والدم الصديديّ» جعل صاحبه دائماً «مضطرباً» — يعني «بمضطرب» الملتاث الذهن مع رعب — ويجعله مع ذلك كثير «السهر» والأرق. فإن كان في العروق مائيّة من بعض الأخلاط الرديئة لا من الدم فقط أحدثت اختلاط الذهن والسرسام والجنون.
فأمّا أبقراط في هذا الموضع فكأنّه إنّما ذكر مائيّة الدم وجعل ما ذكره من ذلك تذكرة له. وذلك أنّ مائيّة المِرّتين قد وصفنا ما تحدث وأمّا مائيّة البلغم فهي خليقة أن تحدث جبناً فأمّا الأرق واضطراب الذهن أو حركة من النفس مضطربة فليس تحدث عن مائيّة البلغم لأنّ الذي يخصّها إنّما هو إبطاء الحركة والبله والبرد لا اللذع والهيجان والخبث اللّهمّ إلّا أن يفسد البلغم أيضاً فيصير مالحاً أو حامضاً.
وقد يحتاج إلى البحث والنظر كيف قال «وهل هو رديء أو جيّد». وذلك أنّ من أطلق القول فقال إنّ «الدم الصديديّ» دم «رديء» فهو مصيب محسن وذلك أنّ الدم الذي ينسب إلى ما ينسب إليه على هذا الوجه إنّما ينسب إلى ذلك لا محالة بقياس الدم الطبيعيّ. فإن قاس قائس صديد الدم بصدد سائر الأخلاط وقال إنّه غير رديء فهو في هذا القول أيضاً محقّ صادق. وقد جرت عادة الناس ممّن هو في دهرنا هذا ومن القدماء أن ينسبوا الشيء الذي هو أقلّ رداءة إلى أنّه «جيّد» أو محمود أو صالح أو غير ذلك ممّا أشبهه وخاصّة متى كان فضل تباعد الخلط الرديء عن الحال الطبيعيّة على الشيء الذي هو أقلّ رداءة فضلاً كثيراً. فنحن
قادرون إذا وجدنا أبقراط يطلب ويبحث عن «الدم الصديديّ هل هو رديء أو جيّد» أن نحكم فنقول إنّه إذا قيس إلى الدم الذي هو على أفضل حالاته فإنّه يكون رديئاً فإذا قيس بسائر الدم الذي قد خالطه صديد من خلط آخر رديء كان أجود كثيراً وأحمد ولذلك قد يجوز أن يقال إنّه دم «جيّد».
(٤١) قال أبقراط: من كان طحاله راسباً فإنّ قدميه وكفّيه وركبتيه تكون حارّة وأنفه وأذنيه تكون باردة وقد ينبغي أن تبحث عن ذلك هل إنّما يكون لأنّ الدم فيه رقيق وهل رقّته طبع فيهم.
قال جالينوس: أمّا قوله في «الطحال أن يكون راسباً» فنفس هذه اللفظة قد يدلّ على أنّه يعني به الطحال الذي يميل إلى أسفل وليس يمكن أن يستدلّ من هذه اللفظة هل يعني بها أن يكون في الطحال ورم في الناحية السفلى منه وإنّما يعني به أن يكون ميله فيما يدفعه من فضوله إلى أسفل حتّى يقذف بالأخلاط الرديئة التي تجتمع فيه إلى الأعضاء السفليّة من البدن. وإن نحن نظرنا في نفس طبائع الأمور فقد يمكن أن نتأوّل قوله في «الطحال أن يكون راسباً» على هذين المعنيين جميعاً. وذلك أنّه قال: «إنّ قدميه وكفّيه وركبتيه تكون حارّة وأنفه وأذنيه تكون باردة». فأمّا قوله «إنّ ركبتيه وقدميه تكون حارّة» إذا «كان طحاله راسباً» فقد يجري ذلك على قياسه وكذلك قوله «إنّ أنفه وأذنيه تكون باردة» وأمّا الكفّان فليس يجب أن تكونا على قياسه حارّتين متى «كان الطحال راسباً» وأوجب الأشياء أن تكونا على قياسه حارّتين متى كان الطحال راسباً وأوجب الأشياء أن تدخل اليدان في عداد الأعضاء العلويّة فإن لم تدخل في عداد تلك فلا أقلّ من أن تدخل في عداد الأعضاء السفليّة. ولمّا رام أبقراط البحث عن السبب الذي له صارت
الأذنان والأنف ممّا تلك حاله باردة والأعضاء السفليّة حارّة قال: «هل إنّما يكون ذلك لأنّ الدم فيه رقيق» ويجب أيضاً مع ذلك «هل رقّة الدم فيمن هذه حاله طبع» وإنّما يصير الدم فيه بتلك الحال إذا «صار طحاله يميل إلى أسفل».
وقد زعم قوم أنّه لم يجعل قوله «وهل رقّته طبع فيهم» بإزاء أمر الطحال لاكنّه جعله بإزاء ما ذكره بعد هذا ووصلوا القولين جميعاً فجعلوهما قولاً واحداً على هذا المثال: «وهل رقّته طبع وإنّما يكون في أصحاب التقيّح». وقد كتب هذا القول آخرون على وجه آخر وهو على هذا المثال: «وهل رقّته طبع فيهم كما تكون في أصحاب التقيّح». فقد ينبغي أن نقصد قصد ذلك فنبحث عنه حتّى نستقصيه «كما يكون في أصحاب التقيّح».
ومن كتب هذا الكلام على هذا الوجه فإنّما يصله بما تقدّم فأمّا من فهم أنّ هذا القول افتتاح لما يأتي بعده فإنّهم حذفوا منه الحرف الأوّل وهو «كما» وجعلوا الكلام على هذا المثال: «أصحاب التقيّح إذا حضر وقت التقيّح جرت فيهم رطوبة مائيّة واستطلقت بطونهم استطلاقاً مزعجاً». وأصحاب هذه النسخة يجعلون الدليل في التقيّح إذا وقته استطلاق البطن المزعج. وإذا أزلنا الأمر على هذا لم نفهم أنّه يجعل هذا الدليل دليلاً على كلّ تقيّح لاكنّه إنّما جعله دليلاً على التقيّح الذي يكون 〈…〉 يخرج منه إلى الأمعاء. وليس بعجب أن يكون أبقراط أخرج كلامه هذا المخرج من غير أن يستثني فيحدّد أيّ التقيّح يعني عند من كان لما قلناه في أوّل قولنا ذاكراً أنّ أبقراط إنّما أثبت هذه الأقاويل 〈…〉 من وضع ما وضع من
الكتب وإذا كان ذلك كان قصده فقد 〈…〉 على أن يذكر استطلاق البطن المزعج حتّى يذكر به ما قصد ليستدلّ به عليه وهو يعني بهذا القول أنّ البطن يستطلق استطلاقاً مزعجاً فيمن يعرض له ذلك التقيّح الذي إذا حضر وقت انفجاره رشح من المدّة صديد رقيق إلى الأمعاء وحدث «استطلاق مزعج» — يعني «بالمزعج» الذي لا يكون معه لذع وحركة دائمة لطلب الخلاء.
ومن المفسّرين قوم يزعمون أنّهم إنّما يعرفون هذا الكلام يكتب على هذه النسخة:
(٤٢) «أصحاب التقيّح الحدّ فيهم السرّة وإذا حضر وقت التقيّح استطلقت بطونهم استطلاقاً مزعجاً».
وأصحاب هذه النسخة يقصدون بها لأن يدلّوا بإيجاز المعنى الذي شرحه أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «إنّ أقلّ الأورام تقيّحاً ما كان أسفل السرّة» إلّا أنّ ذلك التقيّح على حال «إذا حضر وقت انفجاره فإنّ البطن يستطلق استطلاقاً مزعجاً».
وقد يكتب هذا الكلام المفسّرون لهذا الكتاب على نسخ أخر كثيرة مختلفة ويقسّمونه تقسيماً مختلفاً ولم يفعلوا ذلك في هذا الكلام فقط لكنّهم قد فعلوا ذلك في أكثر الأقاويل التي في هذا الكتاب حتّى أنّهم قد يصدّون بذلك بعض من هو حريص على تعلّم أعمال الطبّ ويفتّونه عنه. وما مثلهم إلّا المثل الذي ضربه طيمو حين قال: «إنّي أحسبك تريد من اللحم قليلاً وتريد من العظام كثيراً».
وقد فصل قوم بين هذا القول وبين القول الذي يتلوه وهو الذي افتتحه بذكر «الطحال الصلب لا من فوق» وذهبوا في ذلك إلى أن يصرفوا كلامهم إلى أصناف
الأورام التي تكون في الطحال. وأنا مقبل على ذلك القول ناظر في تلك الأصناف إذ كانت ممّا فيه منفعة ودرك.
(٤٣) قال أبقراط: إنّ الطحال يكون صلباً لا من فوق لاكن من أسفل ومستديراً عريضاً وغليظاً طويلاً ودقيقاً.
قال جالينوس: إنّ أبقراط وصف في هذا القول أصناف الأورام التي تكون في «الطحال» ورسم ذلك لنفسه على طريق التذكرة وخليق أن يكون إنّما فعل ذلك لأنّه قد تقدّم فذكر الطحال الراسب. وممّا يشهد على صحّة ذلك أنّ الصنف الأوّل من أصناف هذه الأورام هو واحد من أصناف الطحال الذي هو بضدّ هذه الحال. وذلك أنّ الطحال إذا كان «صلباً» ثمّ لم تكن صلابته «من فوق» فقد بان أنّ صلابته إنّما هي من أسفل. وأمّا الصنف الثاني من الأصناف التي ذكرها في هذا القول الذي نحن في شرحه فهو أيضاً صنف من أصناف الأطحلة الراسبة: إنّ أعلى الطحال يكون غير صلب وأسفله يكون صلباً ويخصّ بعضها أنّه يكون «مستديراً» وبعضها أنّه يكون «عريضاً» وبعضها أنّه يكون «متزيّد الطول» أمّا مع غلظه فجاوز للمقدار الطبيعيّ 〈…〉 وقد دلّ على الأوّل من هذين الصنفين بقوله «غليظ طويل» ودلّ على الصنف الثاني منها بقوله «طويل دقيق». فإنّ الأخلق عندي أن يكون أبقراط قد كرّر ذكر «الطويل» مرّتين فأسقط النسّاخ ذكره المرّة الثانية فجعلوا هذا القول على ما نسخته قبيل.
وبالواجب ذكر أوّلاً الصنف الأوّل من أصناف هذه الأطحلة فقال: «إنّ الطحال يكون صلباً لا من فوق لاكنّه من أسفل» وهو الذي يسمّيه «الطحال الراسب». ثمّ ذكر أربعة أصناف من أصناف هذه الأطحلة أحدها يكون الطحال فيه مع صلابته
من أسفل «مستديراً» والآخر يكون فيه «عريضاً» ويعمّ هذين الصنفين أنّ الطحال لم يتزيّد في طوله. ثمّ ذكر صنفين آخرين أحدهما يكون الطحال فيه «غليظاً» والآخر الباقي يكون فيه الطحال «دقيقاً». فقد قلت إنّي أحسب أنّ ذكر «الطويل» كان مكرّراً مرّتين فأسقط ذكره في الموضع الثاني الناسخ من الذكور القديمة فعلى هذا كانت النسخة القديمة التي يزعم أنّه كان ذكر «الطويل» فيها مكرّراً مرّتين فاقتصر الناسخ على ذكره مرّة واحدة.
وقد يمكن أن يكون أبقراط ذكر «الطويل» مرّة واحدة فيما ذكره بين «الغليظ» «والدقيق» فيفهم عنه ذكر «الطويل» مشتركاً عامّيّاً موصولاً بالأوّل والثاني فإنّا قد نجد أشياء كثيرة قد كتبها الأوائل على هذا المثال. وأمّا المفسّرون فقد عجبت منهم إذ كان كلّ واحد منهم قد غيّر هذا الكلام على 〈غير〉 ما غيّره الآخر من غير أن يكون أحد منهم أتى بشيء مقنع. وذلك أنّه إن جاز لأحد من الناس أن يفارق النسخة الأولى فإنّما ينبغي له أن يفارقها إلى صرفها إلى معنى مقنع كما فعلت قبل عندما قلت إنّه ينبغي أن يكون قد كان ذكر «الطويل» مكرّراً مرّتين وأسقط ذكره في الثانية. وممّا يستقرّ شهادة قويّة على أنّ جميع القدماء 〈من〉 المفسّرين يعرفون هذا القول على هذه النسخة ما قاله زوكسس وهو من أقدم من فسّر هذا الكتاب. فإنّ زوكسس هذا قد ذمّ غلوقياس في سوء تأويله لهذا القول الذي نحن في شرحه وليس يذمّه أصلاً في شيء من نسخة هذا القول على أنّ هذا القول عندهما بحسب ما عليه تلك النسخة معتاص لاكنّه إنّما يذمّه من قبل أنّه أثبت مع كلّ لفظة من هذه الألفاظ التي في هذا القول 〈الحرف〉 الذي يدلّ على نفيها. وقال فيه إنّه لمّا تحيّر فلم يقدر على شرح هذا القول أضاف إلى كلّ
واحد من الألفاظ التي فيها نفيها كما لو كان أبقراط كتبه على هذا المثال: «إنّ الطحال يكون صلباً لا من فوق لاكن من أسفل مستديراً غير غليظ غير طويل غير دقيق». وذلك أنّ غلوقياس توهّم أنّ هذه الصفات كما قيلت في الطحال واحدة في حال واحدة فقال إنّه لا يمكن أن يكون الطحال يقبل هذه الأعراض كلّها إذ كانت ممّا لا يمكن أن تجمع معاً كأنّه لا بدّ من أن يفهم أنّ هذه الأعراض كلّها اجتمعت في إنسان واحد في وقت واحد وليس ما وصفه أبقراط من ذلك إنّما هو تعديد أصناف أورام الطحال الراسب على طريق التذكرة كما كتب فيما تقدّم تعديد أصناف سوء التنفّس وتعديد أصناف الحمّيات. وإن كان يجوز أن يزاد فيما يذكر أبقراط على طريق الإثبات ما يدلّ على النفي فقد بطل بهذا الوجه من شاء أن يفسّر كلّ قول من أقاويل القدماء حتّى لا يبقى لهم شيئاً أصلاً ممّا يقولونه ويعتقدونه.
(٤٤) قال أبقراط: وحدوث ذلك بمن هو ملقى من رأسه بالنزل والزكام أقلّ.
قال جالينوس: ما نقدر أن نفهم من هذا القول شيئاً غير أنّ «حدوث» الأعراض التي ذكرها تعرض للطحال «بمن هو ملقى من رأسه بالنزل والزكام 〈أقلّ〉». وأمّا السبب في ذلك فقد ذكر روفس وسابينس أنّه أنّ الدم ينقّى بتلك «النزل والزكام» ولذلك لا ينصبّ إلى الطحال شيء. والأجود أن يدخل هذا في باب عامّ ولا يقتصر على هذا المعنى الخاصّ.
والمعنى العامّ هو أنّه لا يكاد يوجد في البدن الواحد عضوان على حال واحدة من الضعف لاكنّ الذي يوجد في أكثر الأبدان أنّ العضو الضعيف الذي هو
أضعف الأعضاء إنّما هو عضو واحد فإلى ذلك العضو يميل جميع الفضول متى اجتمع في البدن كثرة من جميع الأخلاط أو فضل من خلط رديء فإذا سبق عضو من الأعضاء فقبل تلك الفضول بقي سائر الأعضاء على حالها الطبيعيّة. فقد بان من ذلك أنّه ليس «من يلقى من رأسه بالزكام» فقط يعتلّ من رأسه أكثر ممّا يعتلّ من طحاله لاكن قد نجد الأمر على هذا فيمن هو ملقى بالعلل في شيء من آلات تنفّسه أو من ناحية كلاه ومثانته أو من ناحية كبده أو من ناحية معدته. فإنّه إذا كان واحد من هذه الأعضاء في طبيعته ضعيفاً وجدته يألم أكثر ممّا يألم الطحال. وهذا أمر عامّ كلّيّ وقد نقدر أن نضيف إليه الأمر الخاصّ فيما ذكر في هذا القول وهو أنّ من كانت فيه رطوبة بلغميّة أو رطوبة رقيقة مائيّة مثل «من هو ملقى من رأسه بالنزل والزكام» فإنّه لا يكاد تعرض له 〈أورام〉 في طحاله إذ كانت تلك الأورام إنّما تتولّد عن أخلاط غليظة سوداويّة.
قال حنين: إنّ جالينوس في هذا القول ابتدأ فيه شيء ثمّ أتى بأخرة كأنّه غير ناسق عليه. وذلك أنّه ابتدأ فوصف أنّ السبب الذي صار له «من هو ملقى من رأسه بالزكام» لا تكاد تعرض له أورام الطحال «هو أنّه لا يكاد يوجد في البدن الواحد عضوان بحال واحدة من الضعف لاكنّ الذي يوجد في الأمر الأكثر في كلّ بدن من الأعضاء عضو واحد هو أضعف أعضائه» وإذا كان ذلك فيجب أن يكون ذلك العضو هو «الملقى» بالعلل في ذلك البدن دون سائر الأعضاء. ثمّ قال في آخر قوله إنّ «الملقى من الرأس الزكام» إنّما تحدث به العلل من «الرطوبة المائيّة والرطوبة البلغميّة» والملقى بأورام الطحال إنّما تحدث به تلك الأورام من
«فضول غليظة سوداويّة». لا يكاد يجتمع في البدن الواحد أن يكون صاحبه ملقى فيه من طحاله بالأورام ومن رأسه بالزكام.
والقول الأوّل إنّما ينحو نحو اختلاف الأعضاء في الضعف وأنّ في أكثر الأمر واحداً منها يكون أضعفها ومن قبل ذلك يكون ذلك العضو الملقى بالعلل. والقول الثاني ينحو إلى اختلاف ما يتولّد في الأبدان من الأخلاط وأنّ الموضع الذي تغلب فيه تلك الأخلاط الغالبة في ذلك البدن هو الأولى بأن يكون ملقى بالعلل حتّى يكون من غلبت فيه الرطوبة البلغميّة أو المائيّة أولى بأن يكون رأسه ملقى من النزل إذ كانت تلك الرطوبة في الدماغ أغلبه منها في سائر الأعضاء. ومن كانت الأخلاط الغليظة السوداويّة عليه أغلب فالأولى أن يكون ملقى من الأورام في طحاله إذ كانت تلك الفضول إلى الطحال أميل.
وقد يمكن أن نجمع فيما بين القولين بعد أن نبيّن صحّة كلّ واحد منهما على حدته واتّفاقهما فنقول إنّ كلّ واحد من الأعضاء إنّما يتولّد فيه من الفضل ويندفع إليه ما يندفع إذا ضعف بحسب طبيعته التي تخصّه. ويخصّ الدماغ أنّه بارد رطب وأنّه في أعلى موضع من البدن بحيث يجب أن تميل 〈إليه〉 بخارات البدن مثل ما يقبل سقف الحمّام بخاراته وأن يكون الفضل المتولّد منه إذا كان بارداً رطباً مشاكلاً لطبيعته. وقد وجب من ذلك أن يكون ما يتولّد فيه وما يقبله في أكثر الحالات رطوبة مائيّة وبلغميّة. ويخصّ الطحال أنّه آلة لتنقية عكر الدم من الكبد ولذلك خلق وهيّئ وبه يغتذي وإذا اغتذى منه فهو أحرى أن يزيد ما يبقى من غذائه غلظاً وميلاً إلى المرّة السوداء. ومتى كان تولّد هذا العكر في الدم كثيراً فواجب أن يحدث في الطحال ضعف لكثرة ما يميل إليه منه. فيجتمع ضعف
الطحال وكثرة تلك الفضول الغليظة السوداويّة فيكون صاحب تلك الحال أولى بأن يكون من طحاله ملقى بالأورام بأكثر ممّا يكون من رأسه ملقى بالنزل إذ كان الرأس إنّما يألم في أكثر الحالات من الرطوبة البلغميّة والمائيّة. وعلى هذا المثال يجري القياس في سائر جميع الأعضاء وعلى هذا المعنى أحسب جالينوس ذكر ما ذكره من اختلاف الأعضاء في القوّة والضعف.
(٤٥) قال أبقراط: التدبير في المريض وفي مرضه المسائل وما يتحدّث به المريض أيّ نوع هو ومتى ينبغي أن يصغى إليه والكلام مع المريض ومع من يحضره وفيما هو خارج.
قال جالينوس: لقد تخيّر لهذه المعاني التي قصد لصفتها في هذا القول اسماً من أبين الأسماء التي يمكن أن يدلّ عليها إذ سمّاها «التدبير». فاشتقّ لها هذا الاسم من اسم تدبير الرجل بمنزله وما فيه. وذلك أنّه لم يقصد في هذا القول إلى ما قصد إليه في أقاويله في سائر كتبه التي أثبت فيها دلائل الأمراض أو مداواتها أو تقدمته المعرفة بما تؤول إليه لاكنّه إنّما وصف في هذا القول كيف يصل الواصل إلى أن يستعمل أبواب العلم التي استفادها بأحسن استعمال ولم يصف فيه الأمور الجزئيّة لاكنّه وصف فيه الجمل الكلّيّة من ذلك.
وذكر أوّل ما ذكر فيه «المسائل» وعنى بها المسائل التي يسائل عنها الطبيب للمريض ثمّ ثنى بذكر أحاديث المريض الطبيب. فإنّ من عادة المرضى أن يحدّثوا الأطبّاء بأشياء كثيرة يصل بها المتطبّب إلى أن يستدلّ بها على عقل القائل لها حتّى إن كان الطبيب لم يعرف المريض فيما تقدّم قدر ممّا يحدّثه به لأن يفهمه
فيعلم مبلغ عقله فيعامله على حسب ما يعلم من أمره. وذلك أنّه إن علم الرجل عاقل وعلم مع ذلك أنّه ليس بجبان صدقه الحقّ من غير أن يكنى عن شيء يؤول إليه مرضه. فإن علم أنّه أحمق جبان التمس فيما يخبره به أن يميله إلى ما يسرّ به بعد أن يتوخّى ألّا يكذب في كثير من الأمر. فإن اضطرّ في بعض الأوقات لفرط جبن المريض أن يشدّه بالسلامة ويؤكّد ذلك في نفسه فقد ينبغي له إذا خرج من عنده أن يصدق عن حاله من يعني به.
وقد ينبغي أن تلتمس أيضاً وإن كان المريض على غاية الجبن ألّا تتضمّن له السلامة كما يتضمّن كثير من هو سريع إلى الكذب دون أن تشرط أنّك إنّما تتضمّن ذلك له على أن يفعل جميع ما تأمره به على ما ينبغي أن يفعله ويقبل جميع ما تأمره به. فإنّك إذا فعلت ذلك تخلّصت له إلى ألّا يغمّ المريض وصحّ قولك في أكثر الحالات. وذلك أنّ أكثر الأمراض التي فيها الخطر إنّما تقتل أصحابها إذا هم عصوا الأطبّاء فيحصل من الأمراض ما هي لا محالة قاتلة لأصحابها أقلّها إلّا يخطئ الطبيب في بعض الأمر على المريض أو المريض على نفسه أو خدم المريض عليه أو يتّفق من خارج اتّفاق ضارّ. وذلك أنّ الذين يلتمسون يطيّب أنفس المرضى الذين هم على خطر من أمراضهم بأكثر ممّا ينبغي فقد يجمعون عليهم فيما بعد من الأيّام من الغمّ وسوء الظنّ أضعاف ذلك إذا تبيّن لهم من أمراضهم أنّها قد صارت أردأ وصارت بأكثر ممّا قدّر لهم الأطبّاء وكثير من الناس أيضاً إذا اطمأنّوا ووثقوا من أمراضهم بأنّه لا خطر فيها لم يكونوا بالمطاوعين للأطبّاء.
والأجود أن يكون الطبيب قد عرف خلق المريض قبل مشاهدته إيّاه في علّته بأن يكون قد عاشره وجرّبه في وقت صحّته. فإن كان أوّل مشاهدته له في وقت علّته
فإنّه يقدر ممّا يقتصّه له «ويحدّثه به» أن يفهم مقداره وطبقته وأمّا فيمن تقدّمت معرفتنا به فقد نصل بذلك إلى أن نعلم بعض ما يحتاج إليه من أمر مرضه أيضاً. وذلك أنّ المريض إذا كان في طبيعته مقتصراً لازماً للطريق الأحمل ثمّ رأيناه يجيب بإقدام وعجلة وتهوّر وكنّا نعرفه بعقل فرأيناه يتكلّم بكلام حمق دلّنا ذلك على أنّه قد نالت ذهنه آفة. وكذلك أيضاً إن كنّا عرفناه بتيقّظ وذكاء وأخذ لنفسه بما ينبغي أن يعني به ويقلّه النعاس والنوم وبأنّه مطبوع على أنّه «يتحدّث» فيطيل فرأيناه قد بلد وكسل عن الأحاديث أو عن الجواب فيما يسأله عنه علمنا من أمره مثل ما علمنا من الأوّل.
وقد يمكننا أيضاً من نفس الصوت أن نستدلّ به على مرض صاحبه. وذلك أنّ بعض الناس بكدّ ما يخرج صوته وبعضهم يكون صوته أبحّ وبعضهم يكون صوته متغنّياً بمنزلة صوت الكركيّ أو حادّ في وقت مرضه ومن تحدث له اللثغة في وقت مرضه فيلثغ «بالسين» أو «بالراء». وقد وصفت لك ما يدلّ كلّ واحد من هذه الأحوال في كتب أخر من كتبي. فمن هذه الأشياء يتقدّم الطبيب فيعلم ما يحتاج إلى علمه من أمر المريض ومن أمر مرضه أمّا من أمر المريض فمبلغ عقله وكيف سجيّته [وعقله] وأمّا من أمر مرضه فأيّ مرض هو.
ويظهر أيضاً الطبيب للمريض عند ذلك ولمن حوله مبلغه في صناعته ممّا «يسائل» عنه. وذلك أنّه إذا رأى في المثل «الأنف حادّاً أو العينين غائرتين أو الصدغين لاطئتين» في مرض حادّ سأل هل أصاب صاحب هذه الحال استفراغ أو
سهر أو اغتمّ وهل أقلّ من الطعم أو تعب تعباً شديداً. فإن رأى الوجه غير ضامر سأل هل كان يعتاد ضرباً من الاستفراغ فانقطع عنه أو استعمل من الخفض والتملّؤ من الطعام خلاف ما كانت جرت به عادته. ويقدر أيضاً أن يسأل هل أصاب المريض برد أو حرّ من شمس أو هل أكثر من شرب الشراب وعن سائر ما أشبه ذلك. فيضع السؤال موضعه حتّى يكون هذا أوّل ما يمدح فيه الطبيب من يحضره. وذلك أنّه إذا سأل عن أشياء قد تقدّمت فكانت وعرفها المريض ومن حوله أعجبهم ذلك منه كما أنّه إن سأل عن ضدّ بعض ما كان استجهلوه وإن وصف أيضاً الطبيب للمريض بعض ما قد عرض له قبل أن يشكوه إليه بعد أن يجعل لفظه متوسّطاً بين الحكم وبين المسألة فأصاب فإنّهم يعجبون به عند ذلك. وقد وصفت هذه الأشياء كلّها في كتاب غير هذا.
وإذا كان أبقراط كما قلت إنّما يعدّد جملها الأولى فإنّي أيضاً إنّما أصف ما في أوّل تقسيمها من الأصناف. وذلك أنّي إن ذهبت أذكر جميع الأشياء الجزئيّة اضطررت إلى أن أنقل إلى هذا الموضع جميع ما قلت في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة وفي كتابي في البحران.
«وممّا هو خارج» عن هذه الأبواب ممّا قد ينتفع به في التدبير في أمر المريض ومعاملته بعض ما قد وصفه إيرودوطس في الكتاب الذي لقّبه «الطبيب». وقد وصفنا تلك الأمور في الكتاب الذي وصفنا فيه كيف يتقدّم الطبيب فيعلم ما يحتاج إلى علمه من أمر المريض.
وإنّا معيد من الرأس جمل هذا القول ثمّ نتصرّف عنه إلى ما يتلوه. فأقول إنّه كما نجد في تدبير المعاش استفادتنا ما نستفيده من الثياب والأواني والعبيد والدوابّ وسائر الحيوان والدُور والبرّ والحبوب والفواكه والخمر والأدهان وسائر ما أشبه
ذلك مخالفاً جدّاً لاستعمالنا لهذه الأشياء على غير ما ينبغي وهو الذي يسمّى «تدبير المنزل» كذلك نجد في الطبّ أيضاً. وذلك أنّه ليس تعلّمنا للطبّ هو استعمالنا لما نتعلّم منه على ما ينبغي حتّى نعلم متى ينبغي أن نسأل المريض عمّا يحتاج إلى المسألة عنه ونذكر له ما يحتاج إلى ذكره ومتى ينبغي أن نصغي إلى المريض ونسمع منه أو من أهله وكيف نكلّمهم ونصف لهم كيف ينبغي أن يتأتّوا لخدمة المريض على أفضل الوجوه وكيف نعني «بما هو خارج» ممّا قد يفعله الأطبّاء وأهل المريض. ومن أبلغ تلك الأشياء نفعاً أمر موضع المريض حتّى ننظر ألّا يكون منزل المريض كلّه رديئاً أو البيت الذي يأويه المريض فيه رائحة رديئة أو هواء بارد مفرط البرد أو حارّ مفرط الحرّ أو فيه رائحة تكرّج. وقد ينبغي للطبيب أيضاً أن يعني بأن لا يتأذّى المريض بكلمة يسمعها من بيوت الجيران أو ممّن يجوز في الطريق والشوارع ويفاوض في هذه الأشياء كلّها أهل المريض وأصدقاؤه. فهذا هو وما أشبهه «التدبير في أمر المريض».
(٤٦) قال أبقراط: إنّ في الناحية التي هي أسخن والتي هي أشدّ يكون الذي يكون في الناحية اليمنى أكثر ولهذا يميلون إلى الأدمة وتكون عروقهم بارزة ويغلب عليهم المرار.
قال جالينوس: ما هو بعجب أن يكون أبقراط أيضاً في هذا القول قد ألغى ذكر الشيء الذي هو عمد هذا المعنى. وذلك أنّه لم يكتب ما كتب من هذا على أنّه كتاب يقصد به لأن يقرأه الناس ويأخذونه عنه 〈…〉 لقد كان سيجعل افتتاح قوله هذا كما افتتحه في كتاب الفصول ثمّ يضيفه إلى ما افتتحه ما يتلوه حتّى
يجعل جملة قوله على هذا المثال: «إنّ الجنين إذا كان ذكراً فأكثر ما يتولّد في الشقّ الأيمن من الرحم وإذا كان أنثى فأكثر ما يوجد في الشقّ الآخر من الرحم وهو الأيسر». وذلك أنّه يجب أن يكون تولّد الجنين الذي هو أسخن في الجانب من الرحم الذي هو أسخن والجنين الذكر أسخن من الجنين الأنثى كما قد يدلّ عظم «عروقه» ودرورها ولونه. وذلك أنّ الرجال على الأمر الأكثر «أميل إلى الأدمة» من النساء. فهذه العبارة كان أبقراط سيعبّر عن هذا القول ويؤدّيه عن نفسه لو كان جعل ما كتبه من هذا في كتاب يقصد به ليقرأه الناس ويأخذوه عنه بمنزلة ما جعل كتابه في الكسر وكتابه في المفاصل وكتابه في تقدمة المعرفة وسائر ما أشبه ذلك من كتبه لكن لمّا كان إنّما جعل هذه أرساماً وذكوراً لنفسه لذلك نزل عن المعنى فلم يدلّ على أنّ كلامه إنّما هو في الحمل وتولّد الجنين الذكر في الجانب الأيمن من الرحم.
وقد ذكره غير أبقراط من القدماء. وذلك أنّ فرمانيدس قال: «إنّ ﷲ وهب للجانب الأيمن الغلمان ووهب للجانب الأيسر الجواري». وأمّا أنبادقليس فقال: «إنّ حسن الرجال كان من المستكنّ في الجانب الأسخن ولذلك صاروا أشدّ أدمة وأقوى مفاصل وأكثر شعراً». وقد وصفت في كتابي في المزاج أنّ القول بأنّ مزاج الذكر أسخن قول حقّ وبلغت من القول والشرح في ذلك غايته. وأمّا في هذا الكتاب فليس غرضي كما قلته مراراً كثيرة أن آتي بالبراهين على الأقاويل التي يعتقدها أبقراط إلّا أن يجري من ذلك شيء على الطريق لاكنّ غرضي إنّما هو فيه أن أشرح ألفاظه وأبيّن المعنى فيها.
وقد تقدّم قوم من المفسّرين ممّن عهده قريب على أن غيّروا بعض ما في هذا القول فجعلوا مكان «التي هي أشدّ» «الذين هم أشدّ». وذلك أنّهم ظنّوا أنّه ليس من الصواب أن يقال في الجانب الأيمن من الرحم إنّه «أشدّ» كما يقال إنّه «أسخن» وذلك أنّه قد نجد الجانبين جميعاً بحال واحدة من الشدّة والصلابة ولذلك زعموا أنّه ينبغي أن يكتب: «إنّ في الناحية التي هي أسخن يكون الذين هم أشدّ في الناحية اليمنى ولذلك يميلون إلى الأدمة» حتّى يكون هذا الكلام يدلّ على أنّ الأطفال الذين هم «أشدّ» يتولّدون في الجانب من الرحم الذي هو «أسخن» وما هو بمنكر أن يقال في الجانب الأيمن من الرحم إنّه «أشدّ» بعد أن يعنى بذلك أنّه أقوى وإنّما صار أقوى من قبل أنّه في طبيعته «أسخن».
وأمّا تصحيح هذا القول والبرهان عليه فليس هذا موضعه. وقد خالف قوم من قال بأنّ جميع الأعضاء التي هي في الشقّ الأيمن أسخن من الأعضاء التي هي في الشقّ الأيسر وأقوى منها لموضع الكبد. وغاضروهم فقالوا: «إنّا نجد موضع القلب في الجانب الأيسر ونجد العين اليمنى ليس تبصر أكثر ممّا تبصره اليسرى ولا السمع بالأذن اليمنى أكثر منه باليسرى ولا المشي بالرجل اليمنى أكثر منه باليسرى ولاكنّ هذا القول إنّما يقرب من الإقناع في اليد فقط». فقد ينبغي أن يدفع قول من قال هذا بقليل من كثير ما ينتقض به. فأقول إنّ من أعظم البرهان على أنّ أكثر الذكورة إنّما يكون تولّدهم في الجانب الأيمن من الرحم ما يظهر في تشريح الحيوان. وذلك أنّا نجد للرحم غارين يتّصلان من عنقه وهو لهما مشترك ونجد الذكورة من الأجنّة تتولّد في الجانب الأيمن ونجد الإناث تتولّد في الجانب الأيسر.
وقد كان الأجود إذا كان ما يوجد على ما وصفت أن يقال به ويطلب السبب فيه ولا يرام دفع الحقّ للجهل بالسبب فيه. وأمّا أنتم فقد عرفتم السبب في ذلك
من التشريح عندما رأيتم الذي يجري إلى الجانب الأيمن من الرحم بعد أن ينقّى ما تجتذبه منه الكلى من المائيّة ويجري إلى الجانب الأيسر من الرحم وهو بعد لم ينقّ من مائيّته ورأيتم القلب موضوعاً في وسط من الصدر لا في الجانب الأيسر منه. وخليق أن يكون أيضاً ظنّ من ظنّ أنّ موضعه في الجانب الأيسر من أنّ نبضه إنّما يتبيّن في الجانب الأيسر وذلك إنّما هو لأنّ البطن الأيسر من القلب [و]هو الذي ينبض في الجانب الأيسر من الصدر.
(٤٧) قال أبقراط: اجتمع وتماسك أسرع ثمّ تبلّد وصار نشؤه أبطأ إلّا أنّ ذلك كان إلى مدّة من الزمان أطول.
قال جالينوس: قد قلت مراراً كثيرة إنّا نجد الأقاويل التي في هذه المقالة نسخاً كثيرة مختلفة وذلك لأنّها كانت أقاويل غامضة غيّرها كلّ واحد ممّن عنى بها حتّى سوّاها نحو المعنى الذي ظنّ أنّه مقبول مقنع. فأمّا أنا فإنّي أختار النسخ القديمة وإن وجدت ما فيها بعيداً ممّا يقبل ويقنع به والاعتياص والحيرة فيه أشدّ. وذلك ممّا هذه حاله ادّعى إلى أن يصدق أنّه إنّما وجد على هذا إذ كان 〈…〉 وتفسيره على حسب ما هو متعذّر وقد اتّفق عليه على حال القدماء من المفسّرين. ولو أنّي أقدمت على تغيير ما أجده في النسخ القديمة لما كنت بالذي أغيّره إلّا إلى الألفاظ التي أقربها من أن يكون تفسيري له على طريق مقنع مقبول.
وقد عمد قوم إلى هذا القول الذي قدّمته وإنّما يوجد مكتوباً في النسخ القديمة على ما كتبته وعلى ذلك يعرفها قدماء المفسّرين فأسقطوا منه قوله «ثمّ تبلّد». وبعضهم زاد فيه «تحرّك» حتّى صار القول على هذا المثال: «اجتمع وتماسك وتحرّك [و]أسرع وصار نشؤه أبطأ» ومنهم من زاد مع هذا في أوّل هذا القول
«لذلك» حتّى صار على هذا المثال: «لذلك اجتمع وتماسك» وأمّا المعنى فليس يختلف كثير اختلاف في جميع هذه النسخ. وذلك أنّ المعنى في هذا القول عند المفسّرين إنّما هو أنّ الجنين الذكر إنّما صار «يجتمع ويتماسك بأسرع» ممّا تجتمع الأنثى وتتماسك من قبل أنّ الذكر أسخن من الأنثى وزعموا أنّه لهذا السبب صار الذكر «يتحرّك» قبل الأنثى.
وقد اتّفق جميع الأطبّاء إلّا الشاذّ أنّ الجنين الذكر كما يتصوّر ويتخلّق بأسرع ممّا تتصوّر الأنثى كذلك قد «يتحرّك» بأسرع ممّا تتحرّك الأنثى. وقد وصف الأمر في هذا وبيّن في كتاب أبقراط في طبيعة الجنين وفي كتاب ديوقلس في أمور النساء. وأمّا روفس فيزعم أنّ ديوجانس الذي من أهل أفلونيا وحده حكم بحكم مضادّ لهذا في المقالة الثانية من كتابه في الطبيعة. وأمّا أنا فإنّي لم أر ذلك الكتاب إلّا أنّي أجد الحوامل يشهدن بأنّ الذكورة من الأجنّة يكون ابتداء حركتهم أسرع وتكون حركتهم أسرع.
وقد قيل في هذا القول أيضاً «إنّه اجتمع وتماسك أسرع» أعني بذلك أنّه جمد واشتدّ ثمّ إنّ الذكر بعد «يكون نشؤه أبطأ» من نشء الأنثى. ولم يتبيّن من هذا القول هل يعني «بالنشء» النشء الذي ينشؤه الجنين وهو بعد في الرحم فقط أو قد يعني به مع ذلك نشأه فيما بعد. لاكنّ الحقّ من ذلك أنّ من بعد الولاد يكون نشء الأنثى أسرع من نشء الذكر ويقف نشؤها قبل وقوف نشء الذكر. والسبب في فضل سرعة نشء الأنثى على نشء الذكر لأنّ بدن الأنثى ألين. وذلك أنّ البدن إذا كان ألين كان أسهل وأسرع إلى أن يتمدّد ويتزيّد في أقطاره الثلاثة أعني الطول
والعرض والعمق. وأمّا وقوف نشء الأنثى وانقضاؤه قبل وقوف نشء الذكر فليس يكون بسبب لين بدن الأنثى لاكن إنّما يكون لضعفها. وذلك أنّ في بدن الحيوان قوّة طبيعيّة تحدث فيها النموّ فإذا كانت تلك القوّة قويّة كان نموّ الأبدان التي فيها أزيد وإذا كانت تلك القوّة ضعيفة كان انقضاء نموّ الأبدان التي فيها أسرع.
فإن كان أبقراط هو الملحق في هذا القول هذه اللفظة أعني «تبلّد» فإنّما أراد أن يدلّ بها على مثل المعنى الذي قصد إليه في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا حين قال: «وحدث ورم عند الأذن اليسرى ثمّ حدث من غد مثل ذلك عند الأذن اليمنى إلّا أنّ هذا كان أقلّ وكانت تعرض معه حرارة وخمدت هذه الأورام وتبلّدت ولم تسكن فتنحلّ». وذلك أنّه ذهب في «التبلّد» إلى أنّ بسرعة الحركة والتغيّر فترت وبردت فيه.
(٤٨) قال أبقراط: إنّه اشتدّ وذلك الموضع من الحيوان المرار والدم فيه أكثر.
قال جالينوس: يعني أنّ الجنين الذكر إنّما صار «يشتدّ ويكون المرار فيه والدم أكثر» من قبل أنّ «الموضع» الذي يتولّد فيه أيضاً بهذه الحال وبيّن أنّه إنّما يعني «بالموضع» الجانب الأيمن من الرحم. وقد يكتب كلّ واحد من المفسّرين هذا القول على خلاف النسخة التي يكتبها الآخر إلّا أنّهم كلّهم إنّما يقصدون إلى معنى واحد ولذلك صار البحث عن الاستقصاء كيف كان لفظ أبقراط في هذا القول على الحقيقة فضلاً لا يحتاج إليه. وذلك أنّ الأجود ترك البحث عن هذا والنظر في معنى القول هل هو حقّ أم لا. وحقيقة الأمر في هذا إنّما تؤخذ كما قلت من التشريح إذ كان الذكر من الأجنّة إنّما يتولّد في الجانب الأيمن من
الرحم. وقد وصفت أيضاً السبب في فضل سخونة هذا الجانب على الجانب الأيسر وإنّه إنّما يعرف ذلك أيضاً من التشريح.
تمّت المقالة الثانية من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثالثة
المقالة الثالثة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: سخافة الجلد استحصاف البطن اشتداد الجلد تزيّد اللحم خور البطن التياث الجميع اتّساخ العروق تنقّض الدماغ الذي بسببه يكون الصلع إخلاق الآلات.
قال جالينوس: قد ظنّ قوم أنّ أبقراط في هذا القول إنّما يعدّد أشياء يحتاج الأطبّاء إلى معرفتها وقد يظهر أنّ الأشبه أن يكون إنّما ذكر فيه أشياء مضمّن بعضها ببعض على طريق الازدواج. والازدواج الأوّل هو الذي أشار إليه بقوله «سخافة الجلد استحصاف البطن». فإنّ بعض الناس إنّما استحصفت بطونهم أعني بذلك أن تحتبس بطونهم وتتعقّل لأنّ أبدانهم تستفرغ «بالجلد» استفراغاً كثيراً كما قد نجد أبداناً أخر أيضاً يعسر تحلّلها من الجلد فيبولون بسبب ذلك بولاً كثيراً أو تختلف بطونهم اختلافاً كثيراً. ثمّ ذكر بعد ذلك ازدواجاً آخر فقال: «اشتداد الجلد تزيّد اللحم». فدلّ بقوله هذا أنّ تقبّض «الجلد» وتلزّزه هو قد يكون كثيراً سبباً
لإفراط «اللحم» في «التزيّد». ثمّ ذكر بعد هذا ازدواجاً آخر فقال: «خور البطن التياث الجميع» حتّى يفهم عنه من قوله «خور البطن» ضعف المعدة عن هضم الطعام وأنّ ذلك يكون سبباً لجميع علل البدن.
وأمّا قوله فيما بعد ذلك «اتّساخ العروق» فقد يمكن أن يضاف إلى هذا الازدواج وذلك أنّ سوء الهضم من المعدة يكون سبباً «لاتّساخ العروق». وقد يمكن أن يفرد على «خور البطن» ويفهم عن سوء الهضم من العروق حتّى يكون المعنى في ذلك أنّه كما أنّ الهضم في المعدة إذا لم يتمّ على ما ينبغي «التاثت» لذلك أشياء كثيرة من أمور البدن كلّه كذلك الهضم في العروق إذا لم يتمّ حدث عن ذلك أوّلاً «وسخ» في العروق — يعني «بالوسخ» غلبة الأخلاط الرديئة — ثمّ حدث من بعد ذلك ضرر عظيم حتّى يكون ما قاله فيما بين ذكره «خور البطن» وبين ذكره «اتّساخ العروق» مشتركاً فيما بينهما وهو قوله «التياث الجميع».
وأمّا ما قاله بعد هذا وهو قوله «تنقّض الدماغ الذي له يكون الصلع» فأحسبه أراد هذا المعنى الذي أنا واصفه وهو أنّ الدماغ إذا تنقّض تنقّضاً شديداً عمّا كان عليه وذلك يعرض لمن كان دماغه أميل إلى اليبس فإنّه عند ذلك تفارق العظام التي فوقه التي يسمّيها أصحاب التشريح «عظام اليافوخ». وهما عظمان تحيط بكلّ واحد منهما أربعة خطوط مستقيمة أحدها الشأن الذي في وسط اليافوخ وهو مشترك فيما بين عظمي اليافوخ والثاني أحد ضلعي الشأن المشبّه «باللام» في كتاب اليونانيّين وهذه صورته Λ والثالث أحد ضلعي الشأن المعروف «بالإكليل»
〈…〉 وأمّا سائر نواحي الجمجمة فليس يكاد الدماغ يفارقها كبير مفارقة وإن فارقها في بعض الأحوال فإنّ على العظام في تلك المواضع لحماً يمنع الجلد من أن تفنى رطوبته وإذا لم تفن رطوبة الجلد البتّة لم ينحسر الشعر عنه. فقد وصفت لكم في كتابي في المزاج أنّ الشعر لا ينبت في الموضع الذي غلبت عليه الرطوبة غلبة شديدة ولا فيما قد غلب عليه اليبس غلبة قويّة. وجلدة الرأس تكون رطبة في الصبيان وفي النساء وفي الخصيان ويغلب اليبس على الجلد غلبة مفرطة في الصلع. وقد رأيتم كثيراً في تشريح الحيوان أنّ الدماغ في الحيوان الفتيّ يكون مماسّاً للجمجمة وهو ليّن رطب ويأخذ جميع الفضاء الذي في جوف الجمجمة فإذا شاخ الحيوان فارق الدماغ فجفّ الرأس لما يحدث له من اليبس والتنقّض.
وأمّا الآن فليس غرضي أن آتي بالبراهين على الأقاويل التي يعتقدها أبقراط إلّا أن يجري ذلك على الطريق لاكنّ غرضي إنّما هو شرح ما غمض من كلامه مع إضافتي إلى ذلك في بعض الأحوال بقول وجيز مجمل وصف الأسباب فيما يذكره على نحو ما ينشأ وعلى ما ينبت من البراهين على الأقاويل التي يعتقدها أبقراط.
وليس يعني «بتنقّض الدماغ» نفاده وفناءه البتّة وذلك أنّه من البيّن عند جميع الناس أنّ هذا ممّا لا يمكن أن يتوهّم توهّماً فضلاً عن أن يوجد عياناً. وإذا كان ليس يمكن أن يكون معناه في «التنقّض» الفناء فقد ينبغي أن يكون معناه في قوله «تنقّض الدماغ» نقصانه الحادث عن اليبس لمن يعرض له «الصلع» كما وصفت. فعظما اليافوخ إذا كانا أسخف سائر عظام الرأس وأرقّها وهما فوق معظم الدماغ قد يحدث لهما اليبس بسبب «تنقّض الدماغ» إذا كان الدماغ لا يبلغ إلى ذلك العظمين ولا يمكن أن يماسّهما. وذلك أنّ الدماغ في تلك الحال ينخفض ويلطأ ويطمئنّ إلى نحو قاعدته. وإذا غلب اليبس على هذين العظمين فقد يلزم من ذلك أن يغلب اليبس على الجلدة الملتبسة عليهما. وقد يرى الجلد عياناً في الصلع قد
غلب عليه اليبس غلبة شديدة جدّاً حتّى لا يحتاج في ذلك إلى برهان منطقيّ. وإذا تزيّد ذلك اليبس في الدماغ تزيّداً كثيراً وقوي كما يعرض لقوم في غاية الهرم فإنّ الأعصاب التي تنبت من الدماغ قد يجب أن تجفّ في تلك الحال ويغلب عليها اليبس ولذلك لا يبصرون كما كانوا يبصرون من قبل ولا يسمعون ولا يكون منهم شيء من الأفعال التي تكون بالحواسّ والحركات الإراديّة بقوّة لاكنّ آلات هذه الأفعال تضعف وتضمحلّ حتّى لا تتمّ تلك الأفعال كما كانت تتمّ أوّلاً. وأخلق به أن يكون إنّما ذهب في قوله «إخلاق الآلات» إلى هذا المعنى واستعار له هذا الاسم على طريق التشبيه بالثياب التي تخلق والأواني فإنّا قد نرى تلك أيضاً كلّها تجفّ بأكثر ممّا كانت عليه وترقّ بعد ما تستعمل زماناً طويلاً فنقول فيها في تلك الحال إنّها قد «أخلقت».
وقد ترك قوم هذا الطريق فلم يخطر لهم على بال البتّة أنّ أقاويله هذه إنّما أحوالها على طريق الأزواج وقصدوا لشيء شيء ممّا ذكره في هذا القول ففهموه على حدته وقالوا إنّ أبقراط يشير في هذا القول أن ينظر في قوى هذه الأشياء التي ذكرها فيه. مثال ذلك أنّهم قالوا في الأقاويل ممّا ذكره وهو «سخافة الجلد» إنّه يعني بذلك أنّه قد ينبغي أن نعلم ما قوّة ذلك وفعله حتّى نلتمسه إذا احتجنا إليه ونزيله إذا لم نحتج إليه. وممّا يدلّ على صحّة ذلك بزعمهم أنّ أبقراط قال في كتابه في الغذاء: «إنّ سخافة الجلد فيمن يتفرّغ منه بالتحلّب مقدار أكثر فإنّها تجعله أصحّ بدناً وفيمن يتفرّغ منه أقلّ فإنّها تجعله أسقم بدناً». لكن يناقض قول هؤلاء وضع أبقراط ذكر «استحصاف البطن» فيما بين ذكر «سخافة الجلد» وبين ذكر «اشتداد الجلد». وذلك أنّه لو كان هذا القول من أبقراط إنّما هو تعديد أشياء
يحتاج الطبيب إلى معرفتها لقد كان سيذكر بعد «سخافة الجلد» «اشتداد الجلد». وذكره أيضاً بعد هذا «خور البطن» «والتياث الجميع» قد يدلّ على أنّه إنّما يصف الأشياء التي من شأنها أن تكون معاً والواحد منها مضمّن بالآخر وليس قصده أن يذكر أيّ الحالات تحدث في البدن ممّا قد يحتاج الطبيب إلى معرفتها. وذلك أنّ «التياث الجميع» ليس يدلّ على علّة من علل البدن لاكنّه إنّما يدلّ على الآفات التابعة للعلّة الرديئة من علل البدن.
(٢) قال أبقراط: التخفيف يكون بالإحضار وبالصراع والسكون وبالمشي الكثير السريع والطعام يكون لحم الغنم مطبوخاً ويكون ما يرزؤونه من سويق الشعير أكثر ما يرزؤونه ومن الخبز أقلّه.
قال جالينوس: أمّا اسم «الاستفراغ» فإنّما يقع على الرطوبات فقط وأمّا اسم «التخفيف» فأولى الأمرين أن يقال على الأشياء من البدن التي هي متماسكة جامدة وربّما قيل أيضاً على الرطوبات. وهذه الأشياء التي ذكرها في هذا القول قد تعمّ تنقّص الرطوبات وتنقّص الأجسام المتماسكة الجامدة وإذا أردنا أن ننقصها من غير إسهال واستفراغ دم في الأبدان الصحيحة وذلك أنّه ليس أحد من الناس يعالج البدن العليل «بالإحضار والصراع». وقد يعمّ هؤلاء وغيرهم ممّن حاله شبيهة بحال هؤلاء الجنس من الرياضة التي تكون بفضل قوّة بمنزلة الرمي بالأكر والمزاريق والوثوب ونشل الحجارة والمجاهدة بالسلاح وجميع الأعمال التي يستعملها الناس فيما يتصرّفون فيه وخاصّة ما يستعملونه من الكدّ في الفلاحة في الكراب والحصاد والحفر. وجميع الرياضات قد تنقص من مقدار الشحم واللحم والأخلاط. وليس
يمكن أن يستعمل كلّها في بدن واحد لاكن ينبغي أن يقدّر ما يستعمل منها حالات البدن في القضف والسمن والتلزّز وبحسب الأسنان وبحسب مقدار القوّة وبحسب المزاج وبحسب العادة حتّى تقدّر لكلّ واحد من الناس الرياضة التي توافقه كما قد وصفت لكم في كتابي في تدبير الأصحّاء.
فأمّا الآن في تفسيري لكتب أبقراط فليس ينبغي أن يكون القصد لأن يستفاد منها أبواب علم الطبّ إذ كنتم قد علمتموها على النظام [و]الذي ينبغي في الكتب التي أفردتها لكلّ باب منها خاصّة. وقد وصفت لكم كيف في جميع تلك الكتب الأقاويل التي يعتقدها أبقراط مع البراهين عليها وجميع ما يتبع تلك الأقاويل من الأشياء الجزئيّة كالفروع للأصول. ولمّا أحسبتم مع ذلك أن تستفيدوا علم ما وصفه أبقراط سألتموني أن أكتب هذه التفاسير فيها على أنّي لم أكن قدّرت ذلك ولا هممت به. وذلك أنّ الأقاويل الغامضة لا تحتمل من التأويل ما يوقف عليه بمعرفة صحيحة وعلم يقين.
ومن ذلك أنّه في هذا القول ذكر «السكون» وليس نقدر أن نعلم علماً يقيناً ما الذي يقصد إليه أبقراط بهذه اللفظة لاكنّا إنّما نصل إلى أن نخمّن فيها تخميناً ونستعمل الحدس كما قد نستعمله في جميع الأقاويل الغامضة المستغلقة. وإذا فعلنا ذلك كان بعض التأويلات عند الواحد منّا أولى وأقرب إلى الإقناع وبعضها عند الآخر أولى. وكذلك وقع الأمر في هذا فإنّ كلّ واحد ممّن فسّر هذه اللفظة أعني «السكون» قد ذهب فيها إلى معنى غير المعنى الذي قصد إليه الآخر. وقد يمكن أن يكون عنى «بالسكون» الراحة التي تكون فيما بين الرياضة كما قال في كتاب الفصول: «إنّ في كلّ حركة يتحرّكها البدن فإراحته حين يبتدئ به الإعياء
تمنعه من أن يحدث له الإعياء». وقد يمكن أن يكون عنى به «السكون» الذي يكون أيّاماً فيما بين الأيّام التي تستعمل فيها الرياضة وقد يمكن أن يكون أشار باستعمال «السكون» التامّ في بعض الأبدان. وذلك أنّ أبقراط قد قال: «إنّ الاستعمال يشدّ والسكون يذوّب» فإذ كان هذا هكذا فقد يمكن في بعض الحالات أن يلطّف البدن ويهزّله استعمال السكون والخفض. فقد رأينا ذلك لمن كانت عادته الرياضة فانتقل إلى الخفض والسكون. ولكنّه قد يحتاج إلى تحديد صحيح حتّى نعلم أيّ الأبدان تحتاج إلى ذلك إذا احتيج إلى تهزيلها. وذلك أنّه ينبغي أن يستعمل هذا فيمن يحتاج إلى استفراغ رطوبات غالبة لأنّ الخفض والسكون لا يفعل ذلك في حال من الأحوال.
فقد بان بحسب هذا أنّ من زعم أنّ أبقراط إنّما قصده في هذا القول «لتخفيف» اللحم لا لاستفراغ الرطوبات كما يقصد في استفراغها في الأبدان الممتلئة وفي أصحاب الاستسقاء قد أحسن. وقد يمكن أن يكون ذكر أبقراط قصد إلى المعنيين جميعاً فعدّد جميع أصناف العلاج التي تعمّ الضربين جميعاً من التخفيف والتي تخصّ كلّ واحد منهما على حدته.
ويمكن أن يكون ذكر «السكون» بعد الرياضة وهو يريد الرياضة التي تكون في كلّ يوم والسكون الذي يكون بعدها قبل تناول الطعام حتّى يكون يريد أنّه استعمل الرياضة لا يتناولون الطعام على المكان كما قد جرت العادة والحرارة التي استفادها البدن بعد من الرياضة باقية فيه لاكن بعد أن يبرد أصلاً. فقد علمتم هذا من كتابي في تدبير الأصحّاء وإنّه قد وصفه وأصاب في صفته أراسسطراطس وغيره.
فقد بان من هذا أنّ الوجوه التي ينصرف إليها الحدس في تأويل الأقاويل التي تغمض لوجازتها كثيرة مختلفة. فإن التأم إلى هذا أيضاً أن يستجيز كلّ واحد من الناس أن يكتب الألفاظ على نحو ما يريد إذاً زاد المعنى في قول القديم غموضاً واستغلاقاً. من ذلك أنّ قوماً قد نقلوا ذكر «الكثير» من بعد «المشي» وجعلوه قبله حتّى يكون «بالسكون الكثير» وما يعرف هذا القول على هذه النسخة لا في الكتب القديمة ولا عند أوّل من فسّر هذا الكتاب. فإن اضطرّنا مضطرّ أن نتناول هذا القول على هذه النسخة قلنا إنّه إنّما يعني «السكون» الذي يكون بعد الرياضة ويأمر بأن يكون ذلك السكون «كثيراً».
وقد ينبغي أن ندع هؤلاء ونقصد لشرح هذا القول على النسخة التي قد اتّفق عليها جميع الناس فنقول إنّه إنّما أشار بأن يستعمل «المشي الكثير السريع». وذلك أنّ المشي البطيء يغلّظ البدن ويسمّنه وكذلك كلّ رياضة بطيئة. وإنّي لأعجب كيف ألغى ذكر «السرعة» في الرياضة. وذلك أنّ «الإحضار السريع» وكلّ رياضة تكون بسرعة «تخفّف» من كثرة اللحم وتستفرغ من كثرة الأخلاط وقد اتّفق على هذا جميع الناس من أصحاب الرياضة والأطبّاء.
ثمّ إنّ أبقراط ذكر بعد هذا القول الغذاء الذي يحتاج إليه من يحتاج إلى «تخفيف» بدنه وجعل لنفسه تذكرة على الأمر الكلّيّ يوافق جميع الناس بمثال جزئيّ كما من عادته أن يفعل. والأمر العامّ في هذا أن لا يغذى أصحاب هذه الحال بالأغذية الكثيرة الإغذاء مثل لحوم الخنازير لاكن بالأغذية القليلة الإغذاء مثل «لحوم الغنم» «وسويق الشعير» أيضاً من الأطعمة القليلة الإغذاء ولذلك أمر أن يكون «أكثر ما يرزؤون» منه «وأقلّه من الخبز».
(٣) قال أبقراط: وارصد أمارة الخفّ في ذلك الوقت بعينه من النهار فإنّه ينحدر بغتة.
قال جالينوس: ما يخفى أنّ هذا القول موصول بالقول الذي تقدّمه وهو الذي وصفت فيه على أيّ وجه ينبغي أن يلتمس «تخفيف» البدن. وقال هذا القول الآن وهو يشير به إلى طلب الدليل الذي به نستدلّ ونعلم إن كنّا قد وقفنا على المقدار الذي ينبغي من التخفيف. وغمض علينا قوله هذا لأنّه كما قلت مراراً كثيرة أيضاً لم يكتب ما كتب من هذه الدلائل وهو يقصد بها لأن جعلها كتاباً يقرؤه الناس لاكنّه أثبتها لنفسه أرساماً وذكوراً وعُدداً. ولو كان جعل هذه الأقاويل كتاباً يقرؤه الناس لقد كان سيبيّن أيّ «وقت من النهار» عنى بقوله «في ذلك الوقت بعينه من النهار» وهو الوقت الذي ينبغي أن «يرصد فيه دليل الخفّ». فإذ كان هو لم يتبيّن ذلك فليس يصل أحد أن يفهم عنه شيئاً أولى وأقرب إلى الإقناع من أن يكون به «الوقت بعينه من النهار» الذي يستعمل فيه الرياضة من يحتاج إلى التخفيف.
فإنّه قد ينبغي في ذلك الوقت أن «نرصد» كما تقدّم إلينا أبقراط ونتفقّد كيلا «ينحدر بغتة» يعني كيلا يضمر حجم بدنه حتّى تذبل وتضعف قوّته. وهذه اللفظة أعني «ينحدر» وإن كانت ليس تعمل بالحقيقة على هذا المعنى مطلقة فقد يجوز أن يكون استعملها على الاستعارة وتدلّ على ذلك طبيعة الأمور التي كلامه الآن فيها إذ كنّا كما قلت مراراً كثيرة في العبارات الغامضة إنّما نعمد إلى ما قد تقدّم عليه عندنا فنلتمس أن نصيّره مطابقاً لتلك العبارة. وقد كتب قوم مكان «ينحدر» «ينحطّ» والتمسوا بذلك أن يكون المعنى الذي تدلّ عليه اللفظة أبين إلّا أنّا إنّما نجد في النسخ القديمة «ينحدر» لا «ينحطّ».
(٤) قال أبقراط: وقلّل من التعب إذا تحلّل.
قال جالينوس: قد كتب قوم في هذا القول أيضاً مكان «〈إذا〉 تحلّل» «إذا انحطّ» حتّى جعلوا القول على هذا المثال: «وقلّل من التعب إذا ينحطّ» والمعنى في هذا القول هو أنّ كلّ حركة لا تكون برفق قليلاً قليلاً فإنّها تحلّل القوّة وتحلّل جرم البدن دفعة. ولذلك كتب قوم أن «قلّل من التعب إن تحلّل» وفهموا قوله «تحلّل» على الاستفراغ الحادث دفعة وإلى هذا المعنى بعينه ذهب من كتب مكان «إن تحلّل» «إن انحطّ» أي «إن انحطّ البدن وتضعضع تضعضعاً كثيراً دفعة فينبغي أن يقلّل من التعب».
وقد حرّف قوم هذا اللفظ تحريفاً في لسان اليونانيّين استحال به معناه إلى أن صار في لسان العربيّة «حيث ينحدر» حتّى يكون المعنى في هذا الكلام أن «يقلّل من التعب عندما ينحدر من البدن». وذهبوا في قولهم «ينحدر» إلى ضمور جثّة البدن وإلى سقوط قوّته حتّى يكون القول على هذا المثال: «إنّه ينبغي أن يقلّل من التعب متى كانت القوّة تستسقط به والبدن يتحلّل به تحلّلاً مفرطاً». ومن جعل مكان «تحلّل» «انحطّ» فإنّما ذهب في «الانحطاط» إلى نقصان القوّة وجثّة البدن.
(٥) قال أبقراط: وذلك أنّه يضمر على هذا المثال.
قال جالينوس: إنّا قد نجد هذا القول المتقدّم هذا القول موصولاً به في جميع النسخ القديمة وعلى هذا النسخة يعرفه القدماء من المفسّرين ومن الحدث أيضاً سابنس وأشياعه. إلّا أنّهم لم يقولوا في تفسير هذا القول الأخير شيئاً لاكنّهم قدّموا هذا القول كلّه وكتبوه موصولاً وفسّروا جزءاً جزءاً منه فلمّا بلغوا إلى هذا الجزء الأخير تركوه فلم يذكروا في شرحه شيئاً وكذلك فعل زوكسس وهو أيضاً أحد قدماء المفسّرين. وقد زعم قوم أنّ أبقراط إنّما قال هذا القول «وذلك أنّه يضمر على هذا المثال» وهو يذهب فيه إلى هذا المعنى كأنّه قال: «كما أنّ الامتلاء يضرّ ولذلك قد ينبغي أن يستفرغ كذلك الاستفراغ المجاوز للمقدار الذي ينبغي هو ضارّ على مثال ما يضرّ الامتلاء. وذلك أنّ البدن يضمر بسبب هذا أيضاً ضموراً ضارّاً كما قد ينتفخ بسبب الامتلاء انتفاخاً ضارّاً».
وقد ذمّ قوم هذا التفسير واستبعدوه من الإقناع فبعضهم أسقط هذا الجزء من هذا القول وبعضهم غيّره وحرّفه تحريفاً صار به على هذا المثال: «وذلك أنّه يتحلّل دفعة» وزعموا أنّ أبقراط ذهب فيه إلى أن يتقدّم إلينا في الرصد والتفقّد للحال على الاستقصاء عن قصدنا لتخفيف البدن وتنقيصه. وذلك أنّه قد يعرض له أن يتحلّل بغتة باستعمالنا فيه الرياضة إذا داومنا أيّاماً كثيرة متوالية واستعملنا منها كثيرها وقويّها ودبّرها تدبيراً لطيفاً.
(٦) قال أبقراط: وإذا ضمر البدن فينبغي أن تطعم صاحبه من لحوم الخنازير مشويّاً.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد حذّر فيما تقدّم من التنقّص المفرط للبدن لاكنّه لمّا كان الإنسان ربّما عرض له أن يقع في هذا لشيء عن غير إرادة قصد لأن تستعدّ لما يعرض من ذلك فقال: «فإن عرض في حال من الأحوال أن ينقص البدن الذي تعالجه دفعة فينبغي أن تنيله شيئاً من لحوم الخنازير مشويّاً». أمّا اختياره «للحوم الخنازير» من بين اللحمان فلكثرة غذائها وأمّا اختياره للمشويّ منها على غيره فمن قبل أنّ ما ينال البدن من الغذاء من اللحم المشويّ أشدّ تماسكاً وثباتاً واجتماعاً حتّى يكون في القليل منه غذاء كثير وليس غذاؤه غذاء رطباً سيّالاً فيجعل اللحم رطباً رهلاً 〈…〉
(٧) قال أبقراط: وإذا امتلأ فالدليل على ذلك أنّ البدن يعود إلى خصبه ونضارته.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً ممّا أثبته أبقراط لنفسه بإيجاز وهذا دليل عامّ على كلّ عودة من البدن لقبول الغذاء والانتعاش. وذلك أنّ «البدن» في تلك الحال «يخصب وينضر» بالرياضة وفيمن ينتعش بدنه بالغذاء من الدم الجيّد المحمود.
(٨) قال أبقراط: والدليل في الرياضة العرق إذا جرى فقطر وخرج كأنّه من مثاعب والضمور بعد الانتفاخ.
قال جالينوس: إنّ في هذا القول أيضاً نقصان لفظة وهو «الضمور» أو «التنقّص» أو غير ذلك ممّا أشبهه ولذلك لم ينكل قوم عن أن زادوا هذه اللفظة في القول وفسّروه على أنّ تلك اللفظة قد كانت مثبتة فيه منذ أوّل الأمر فجعلوا
القول على هذا المثال: «والدليل في الرياضة على الضمور العرق إذا جرى فقطر وخرج كأنّه من مثاعب».
ثمّ ذكر بعد هذا دليلاً آخر وهو «ضمور البدن دفعة بعد أن كان انتفخ». فقد ينبغي أن يفهم عنه من قوله «الضمور» في هذا الموضع أيضاً «الضمور دفعة» وإن كان لم يستثن ذلك في هذا القول إذ كان قد تقدّم فقال «فإنّه ينحدر دفعة» ومن البيّن أنّ ذلك إنّما يكون إذا أفرط التحلّل عن البدن.
(٩) قال أبقراط: المرأة التي كنت عالجتها حتّى برأت في المرّة الأولى بمدينة قرانون كان بها بالطبع طحال عظيم وأصابتها حمّى محرقة وحمرة شديدة وأصابها في اليوم العاشر نفس وعرق أكثره فوق ومنه شيء أسفل فلمّا كان في الرابع عشر عرقت.
قال جالينوس: ما نصل إلى أن نستفيد من هذا القول شيئاً فيه كبير درك. فإن كان أبقراط لما كتب هذا القول من غير أن يضيف إليه أمر البول. كيف كان قد بلع له ذلك في التذكرة ما يحتاج إليه فإنّ ذلك عندي عجيب. وقد يزيد غموض هذا القول عندنا هذان الوجهان أحدهما ما قاله في أوّل هذا القول وهو قوله «التي كنت عالجتها في المرّة الأولى». وذلك أنّه قد يحتاج إلى البحث والنظر في هذا هل إنّما ذكر ذلك ليجعله تذكرة لنفسه كما من عادته أن يذكر أسماء المرضى والمواضع التي كانوا ينزلونها وكذلك كان قصده في هذا القول عندما قال «التي عالجتها في المرّة الأولى» لأنّه لم يذكر اسم المرأة وإنّما أراد بهذا القول أن يدلّ به على أنّ تلك المرأة إنّما اعتلّت على طريق العودة من المرض الأوّل.
والثاني ممّا يغمض في هذا القول أمر «النفس» الذي قد ذكر أنّه حدث «في اليوم العاشر». وذلك أنّه ليس يتبيّن من قوله هل يعني به سوء التنفّس مطلقاً أيّ نوع كان منه أو واحداً من أصنافه وهو الصنف الذي يكون النفس فيه خبيثاً عظيماً متواتراً. وقد حرّف قوم اسم «النفس» حتّى دلّ على النفخ وزعموا أنّ أبقراط إنّما عنى بقوله هذا الريح الكثيرة التي تجتمع في الجوف.
والغموضة في هذين الأمرين في اللفظة والمعنى جميعاً وفي هذا القول أشياء أخر غموضها إنّما هي في المعنى فقط. وذلك أنّه ليس يتبيّن من قوله هل كان يحدث ما حدث بهذه المرأة من «الحمّى المحرقة» وسوء التنفّس أو نفخة البطن «وشدّة حمرة اللون» بسبب علّة الطحال فقط أو كان ذلك بسبب علّة أخرى من علل الحمّى.
ومن أعظم الأمور وأجلّها في قصّة هذه المرأة ما قلت أنّا ليس نعلم كيف كان بولها إلى أن أتاها البحران ولِم ظهر «العرق» بها في «اليوم العاشر» وذلك أنّ من عادة أبقراط أن يذكر مثل هذا. إلّا أنّه كان في الأيّام التي كانت فيها النوائب أشدّ وأقوى حتّى نعلم أنّه إنّما اجتمعت له الخبرة والبصيرة من تجربة أشياء كثيرة جزئيّة حتّى وصل بذلك إلى أن حكم حكماً كلّيّاً على الأمراض فقال: «إنّ الأمراض التي تكون نوائبها في الأفراد من الأيّام فإنّ البحرانات إنّما تأتي فيها في الأفراد».
وشرّه في هذا القول وأقبحه أنّه ترك أن يدخل هل برأت هذه المرأة أو ماتت. ولذلك قد وصل بعض المفسّرين اللفظة التي فيما بين القول الذي يتلوه وهي «أقلّ» بآخر هذا القول وبعضهم وصله بالقول الذي بعده فجعله افتتاحه. ولو كان ذكر أنّه أتى هذه المرأة بحران محمود في اليوم الرابع عشر لقد كان يجب ألّا يوصل قوله
«أقلّ» بهذا القول. وذلك أنّه ذكر أنّه حدث لهذه المرأة «عرق أكثره فوق» ثمّ قال بعد: «ومنه شيء أسفل فلمّا كان في الرابع عشر عرقت» فما كان الذي يكتب مع ذلك «أقلّ» إن كانت تلك المرأة سلمت؟ فالأولى والأشبه أن يكون «العرق» انتشر في بدنها كلّه «في اليوم الرابع عشر» فأصابها بحران محمود. فإن وضع واضع أنّ ذلك «العرق» كان عرقاً مذموماً رديئاً فإنّ تلك المرأة ماتت وجب أن يصل تلك اللفظة وهو قوله «أقلّ» على هذا المثال: «إنّها عرقت في اليوم العاشر عرقاً أكثره فوق وكان منه أيضاً شيء أسفل وعرقت أيضاً في اليوم الرابع عشر وكان عرقها من أسفل أقلّ».
وقد ينبغي أن ندع هذا القول ونقبل على القول الأوّل الذي بعده فلعلّنا نجد فيه ما يتبيّن به من هذا أكثر ممّا يتبيّن حتّى نعلم بأيّ القولين ينبغي أن نصل قوله «أقلّ» بهذا القول الذي تقدّم حتّى نجعل تلك اللفظة آخره أم بالقول الذي بعده حتّى نجعلها افتتاحه.
(١٠) قال أبقراط: أقلّ ما تكون العودات لأصحاب الزكام من الرأس والبحوحة إذا أصابتهم الحمّى فيما أحسب.
قال جالينوس: ينبغي أن نستثني فنفهم مع قوله هذا «بعد سكون الحمّى» وذلك أنّه ليس يمكن أن يفهم عنه أنّ «العودات قلّ ما تعرض» ولا بأن يكون المرض قد سكن أوّلاً. فإن حذفنا قوله «قلّ» من هذا الكلام كما رأى قوم أن يعزلوا ذلك عن هذا القول ويصلوه بآخر القول الأوّل صار معنى هذا القول ضدّ المعنى الذي شرحته وذلك أنّا إنّما نفهم عنه أنّ «العودات تقوم لأصحاب الزكام
من الرأس والبحوحة إذا أصابتهم الحمّى». والأمر الذي نفعله في جميع الأقاويل وهو أنّا ليس نعتمد في تمييز ما يختلف فيه ومعرفة حقّه من باطله على الشيء الذي هو يقرب من الإقناع لاكنّا إنّما نعتمد في ذلك على ما يظهر لنا عياناً في المرضى إن فعلنا في هذا القول أيضاً وجدنا أنّ تقديم ما قدّم من قوله «قلّ ما» في أوّل هذا الكلام ووصله به هو الصواب. وذلك أنّ الحمّى إذا تبعت «الزكام والبحوحة» أحدثت لها نضجاً أصحّ وأوكد حتّى لا تكاد تكون له عودة ولا إن أخطؤوا بعض الخطاء على أنّ غيرهم ممّن سكنت عنه الحمّى من غير هذا السبب قد تعاوده العلّة من خطاء يكون.
لاكن قد ينبغي أن نبحث ونطلب لِم استثنى في قوله عند ذكر «الزكام» فقال «من الرأس» فليس يمكن أن يكون «الزكام» إلّا «من الرأس». فأقول إنّه قد يمكن أن يكون مخرج هذا القول من أبقراط مخرج القول الذي قاله في غير هذا الكتاب حين قال: «الفقار الذي في الصلب». ويمكن أن يكون لمّا كان قد ذكر مع «الزكام» «البحوحة» استثنى فقال «من الرأس» لأنّه قد تكون البحوحة من غير الرأس. ويمكن أن يكون قوله «من الرأس» تذكرة لنفسه بإيجاز حتّى يفرق بين هذا الزكام الذي يكون عن علّة الرأس وبين الزكام الذي يكون من الأسباب اليسيرة التي تعرض من خارج حتّى يدلّ أنّ كلامه إنّما هو من تسرع إليه هذه العلل لضعف طبيعيّ في رأسه. فإنّ من هذه حاله قد يجب أن يقال فيه خاصّة إنّ «زكامه من الرأس» ليفرق بينه وبين الزكام العارض من البرد أو من حرّ الشمس أو بالجملة من سبب من خارج.
وأمّا الاستثناء الذي يوجد في بعض النسخ وهو قوله «فيما أحسب» فيدلّ أنّه كان في وقت ما أثبت هذا قد كان فيه شاكّاً فلم يحكم فيه بحكم قاطع. وقد
يجوز أن يكتب هذا القول من غير هذا الاستثناء ويحكم فيه بحكم قاطع إذ كان معناه معنى صحيحاً حقيقيّاً. وقد أتى في هذا القول الذي كتبه بعده ببرهان على الحكم الذي حكم به فيه وأنا مقبل على ذلك القول.
(١١) قال أبقراط: كلّ ما يتقيّح فليس يعاود وذلك أنّ التقيّح نضج وبحران وخروج.
قال جالينوس: ما هذا خفاء على من كان ذاكراً للأمور التي قالها مراراً كثيرة في «التقيّح». وقد ذكرها الآن أيضاً بسبب ما تقدّم ذكره كما قلت حتّى تكون جملة قوله على هذا المثال: «إنّ من يصيبه الزكام والبحوحة من النزل من الرأس إذا حدثت به حمّى فنضج بها ذلك الفضل البارد الرطب ثمّ استفرغ من بعد نضج 〈تتوقّع〉 بانقضاء العلّة وبأنّها لا تعاود صاحبها».
(١٢آ) قال أبقراط: بعض الناس إذا جامع ينتفخ بطنه مثل الذي كان يعرض لدمناغورس وبعضهم يسمع منه في تلك الحال صوت مثل ما كان يعرض لأرقاسيلاس فإنّه كان يسمع منه جلبة.
قال جالينوس: وقد يكتب هذا القول أيضاً على نسخ مختلفة. وقد زاد قوم في أوّل هذا القول زيادة وهي «إذا ابتدؤوه» بعد أن حذفوا أوّل هذا القول حتّى جعلوا هذا الكلام على هذا النحو: «إذا ابتدأ الناس يجامعون انتفخت بطونهم» وأرادوا بذلك أنّ الذين يبتدئون بالجماع يعنون الذين يستعملونه في أوّل استعماله يعرض لهم هذا الذي وصف في هذا القول. على 〈أنّ〉 هذه النسخة ليس توجد في
شيء من النسخ القديمة ولا يعرفها أحد من قدماء المفسّرين. إلّا أنّ سابنس وأصحابه زعموا أنّ أبقراط إنّما عنى بقوله هذا الذين يبتدئون في استعمال الجماع على أنّ أبقراط قد ذكر إنساناً واحداً باسمه وهو دمناغورس وإنّما من عادته أن يفعل ذلك إذا كان يقتصّ أمراً رآه وقد عرض لأفراد من الناس. ولو لم يكن أبقراط كتب في هذا شيئاً لقد كان ينبغي أن يعرف الأمر الظاهر للعيان من التجربة. وذلك أنّه ليس يعرض للذين يبتدئون في استعمال الجماع «النفخة في البطن» أو «يسمع منهم صوت» لاكنّ ذلك إنّما يعرض خاصّة لقوم في الندرة ممّن قد يتبيّن ممّن به العلّة التي تعرف «بالنافخة» «وريح الشراسيف» وهي علّة سوداويّة. فإنّ أولائك هم الذين تعرض لهم نفخة البطن خاصّة إذا استعملوا الجماع وقد يعرض لهؤلاء بأعيانهم أن يشتهوا الجماع شهوة دائمة.
وقد قلت مراراً كثيرة فيما تقدّم من قولي إنّي إن ألغيت ذكر جميع النسخ التي صرف إليها هذا القول وإن ذكرتها كلّها فسيلومني على الوجهين جميعاً كثير من الناس. وذلك أنّهم يحكموا في المقدار المعتدل في الكلام بشهواتهم لا بنفس طبيعة الأمر. وإن أنا أيضاً ذكرت بعض ما قيل وكتب وألغيت ذكر بعضه لامني أيضاً على ذلك قوم حتّى يقولوا في بعض ما قد ذكرته إنّه قد كان لي أن ألغي ذكره وأمّا ذكرته هذيان وغنى ويقولوا في بعض ما ألغيت ذكره إنّه قد كان ينبغي أن أذكره إذ كان ليس بدون ما ذكرته.
وأنا فيما يجري من مخاطبتي في كلّ يوم بيني وبين من يحضرني فلأصل إلى أن أعلم كيف يريدون أن يكون تفسيري وشرحي لما أفسّره بأن أسألهم عمّا يحبّون من ذلك فأقدّر كلامي بمقدار إرادتهم. فأمّا في الكتاب فليس يمكن أن أفعل هذا
ولذلك اخترت في أكثر الأقاويل ألّا أذكر البتّة من بدّل وحرّف النسخة القديمة أو تأوّلها تأويلاً بديعاً شنيعاً وذكرت في بعض تلك الأقاويل ما قيل ممّا ليس هو بعيد جدّاً من الإقناع أو ما قيل على غير ما ينبغي فقال ومدح على غير استحقاق. وقد ينبغي لمن قرأ هذا الكلام الذي قلته في هذا الموضع أن يحفظه عنّي يحضره ذهنه في جميع ما يقرؤه من تفاسيري فإنّه يثقل تكرير ذكره عند شرحي لكلّ قول.
وأنا راجع إلى ما كنت فيه فأقول إنّ سابنس وأصحابه وصفوا أنّ هذا القول إنّما قصد فيه أبقراط لأن يصف ما يعرض لمن يروم استعمال الجماع في أوّل استعماله وبنوا الأمر في ذلك على أنّه حقّ ثمّ التمسوا أن يخبروا بالسبب فيه. وأمّا قوم آخرون فجعلوا نسخة هذا الكلام على ضدّ معنى هؤلاء وكتبوها على هذا المثال: «إنّ من الناس من إذا جامع انتفخ بطنه». وقالوا إنّ سابنس ليس ببعيد أن تعرض هذه الأعراض لمن يبتدئ في استعمال الجماع لأسباب شتّى أوّلها أنّه يحدث في البدن حادث عظيم ينكره إنكاراً شديداً وهذا الإنكار بزعمهم ينقضي فيهم من الصرع وعلل الكلى وغير ذلك من العلل. والثاني أنّ ديموقريطس قال: «إنّه يخرج في الجماع من الإنسان إنسان مثله». والثالث أنّه يعرض لهم لذع ودغدغة لاستغراب المنى ولحدّته وقالوا إنّ المنى مشترك للذكر والأنثى إلّا أنّ السبب منه في الأنثى 〈بيّن〉. وذلك أنّ الرحم موضوعة بين المعى وبين المثانة والمعى مفروش تحتها وأمّا المثانة فإنّها موضوعة فوقها. فيجب من ذلك إذا توتّرت الرحم وانضمّت على ما فيها أن تمنع استفراغ ما يستفرغ منها وإذا احتقنت الرياح عرضت منها دائماً النفخة وإذا احتبس البول أيضاً انتفخ المراقّ.
فهذا ما قاله آل سابنس من أمر الأسباب البعيدة من الإقناع 〈لما〉 لم يكن قطّ ولا يكون. وذلك أنّه ليس تعرض هذه الأعراض للغلمان عند ابتدائهم في استعمال الجماع لاكنّها إنّما تعرض لأصحاب العلّة السوداويّة التي تعرض معها رياح الشراسيف والنفخة في البطن وإنّما تعرض هذه العلّة لمن قد أسنّ وبالجملة فإنّ الرياح إنّما تجتمع في البطن حتّى تملأه وتنفخه لضعف الحرارة الغريزيّة وإن كانت قويّة لم يعرض شيء من ذلك.
وقد بحث أرسطوطاليس في مسائله عن السبب الذي له صار من تغلب عليه السوداء مغرى بالجماع. وذكر أنّه تجتمع في أبدانهم في المواضع التي دون الشراسيف رياح غليظة نافخة كثيرة ولذلك تسمّى علّة أصحاب هذه الحال «رياح الشراسيف» وديقليس وفلسطيس وعدد كثير غيرهم من الأطبّاء يذكرون أنّ هذه العلّة تسمّى بهذا الاسم. ولا بأس أيضاً أن أحكي لك بعض مسائل أرسطوطاليس في هذا الباب بلفظه وهي هذه: «لِم صار الذين تغلب عليهم السوداء مغريين بالجماع؟ وذلك من قبل أنّ الرياح تكثر فيهم والذي يخرج في المنى أكثر إنّما هو رياح فلمّا كانت هذه الرياح كثيرة في هؤلاء وجب ضرورة أن يشتهوا كثيراً استفراغها وذلك أنّها تخفّ عنهم بهذا».
ولهذا السبب اختار روفس أن يكون مكان «بسوفس» وهذا الصوت المسموع من البطن «〈فوبس〉» وهو الرعب حتّى يكون كلام أبقراط إنّما هو في أصحاب العلّة السوداويّة التي تعرف «بمالنخوليا» وهو الوسواس السوداويّ. ومن أخصّ الدلائل بتلك العلّة الرعب وكلّ واحد منهم يخاف من شيء دون شيء ويخيّل إليه منه أنّه هائل وليس يخلو واحد منهم من أن يكون عنده شيء من الأشياء هائل. وإذا كانت العلّة خفيفة كان ذلك الشيء الهائل واحداً ومتى كانت عظيمة كان الهائل أكثر من واحد وربّما كان اثنين وربّما كان ثلاثة وربّما كان أكثر من ذلك وربّما كانت أشياء أخر كثيرة جدّاً ومنهم قوم يهولهم كلّ شيء. فيصير هذا القول على معنى روفس على هذا المثال: 〈…〉 〈…〉 «إنّ بعض الناس إذا جامع انتفخ بطنه كما كان يصيب دمناغورس ومنهم من يسمع منه مع ذلك صوت». وأمّا ديسقوريدس فإنّه حذف الحرف الذي يدلّ على القول الثاني في غير من ذكر أوّلاً وهو قوله «بعضهم» أو «منهم».
ولم يوافق المفسّرون أيضاً بعضهم بعضاً في تأويل ما ذكره ممّا «يسمع الصوت» لاكنّ بعضهم يزعم أنّه عنى به القرقرة وبعضهم زعم أنّه عنى به الجشاء وبعضهم زعم أنّه عنى به الرياح التي تخرج من أسفل ومنهم من زعم أنّه عنى به أيّ شيء كان من هذه أو بالجملة أيّ حركة كانت في الأمعاء ندرك بالاستماع. وقد نجد
حركات كثيرة في الأمعاء ممّا «يسمع لها صوت» غير القرقرة وأصوات بعضها شبيه بالطنين وبعضها شبيه بالصرير أو بغيره ممّا أشبه ذلك من الأصوات.
(١٢ب) قال أبقراط: فأمّا أرسطالاوس فإنّه كان مع ذلك يتربّل.
قال جالينوس: ذكر أبقراط في أرسطالاوس هذا أنّه لم يكن العارض له النفخة في البطن فقط لاكنّه قد كان يعرض له مع ذلك «تربّل» يعني ورماً من الأورام. وقد أعلمتكم مراراً كثيرة أنّ أبقراط يسمّي كلّ غلظ مجاوز للحدّ الطبيعيّ «ورماً» «وتربّلاً» كان من جنس أورام الدم الذي يسمّى «فلغموني» أو كان من جنس أورام الصفراء التي تعرف «بالحمرة» أو كان من جنس الأورام الحادثة عن البلغم التي يخصّها الحدث باسم «التربّل».
وأمّا في هذا القول فقد يحتاج إلى البحث عن هذا الورم الذي ذكر أنّه كان يعرض لأرسطالاوس حاجة ليست باليسيرة. وأنا أتوهّم أنّه إنّما عنى به في هذا الموضع الورم الذي يخصّه أهل دهرنا «بالتربّل» وذلك أنّه لا يشبه أن يكون كان يعرض له شيء من تلك الأورام الأخر التي ذكرناها قبيل من الأورام الحارّة أو الأورام الجاسئة في وقت الجماع أو بعده قليلاً ثمّ لا يلبث كثيراً حتّى يسكن. وقد ترك المفسّرون البحث عن هذا البتّة. وقد ذكر أبقراط أرسطالاوس هذا في موضع آخر أيضاً من هذه المقالة حيث قال: «إنّ بعض الناس عند المجامعة قد يخرج منه صوت مثل ما كان يصيب أرسطالاوس». والأمر بيّن في هؤلاء أنّ بطونهم تكون مملوءة رياحاً غليظة فيعرض لها أن تخرج بسبب شدّة الغمز في الجماع.
وأمّا ديسقوريدوس فحرّف هذا القول تحريفاً صار معناه معه: «إنّ أرسطالاوس ومن كانت للرياح النافخة التي كانت تخرج منه رائحة رديئة». وذلك أنّه وصل ذكر «الرياح النافخة» الذي يتلو هذا القول آخر هذا القول. وأمّا سائر المفسّرين فجميعهم جعل ذكر «الرياح النافخة» افتتاح القول الذي يتلو هذا على ما أنا كاتبه بعد:
(١٣) قال أبقراط: إنّ الرياح النافخة قد تكون سبباً معيناً على العارض لأصحاب النخالة وذلك أنّه تتولّد فيهم رياح نافخة.
قال جالينوس: ما يصل إلى أن يعلم من الذي يعني بقوله «أصحاب النخالة» إن لم يقرأ القارئ كتب القدماء قراءته لأقاصيص إيروديطس وقطساس ويقتصر منها على مثل ما يقتصر في تلك من الأخبار لاكن جعل غرضه في قراءته كلّها أن ينتفع بها في أعمال الطبّ. وكثير من المفسّرين قد أغفلوا هذا وتوانوا عنه ولا سيّما من أغري منهم بالاقتداء بطريق السوفسطائيّين فإنّه إنّما يقصد للأشهر من التفسير وهو ما تدلّ عليه الألفاظ من غير أن يبحث عن صحّة الأقاويل ممّا يوجد عياناً من أمور المرضى. ومن ذلك أنّ قوماً فهموا في هذا القول عن أبقراط أنّه يعني «بأصحاب النخالة» الذين يتولّد الحزاز في رؤوسهم كثيراً ثمّ راموا أن يأتوا بالسبب في ذلك وقالوا إنّ الحزاز إنّما يتولّد في الرأس من فضول ترقى إليه وإنّ تلك الفضول إنّما ترقى إلى العلوّ برياح حارّة ترفعها ولذلك صار أصحاب الحزاز «تتولّد فيهم الرياح النافخة».
وقولهم هذا قول رديء من وجوه أوّلها أنّ العيان ليس يشهد على صحّته. وذلك أنّا قد وجدنا عدداً من الناس لا يحصى كثرة يتولّد في رؤوسهم الحزاز كثيراً وليس
تتولّد في أجوافهم الرياح. والثاني أنّه لو كان العيان شاهداً على صحّة قولهم لكان هذا الحكم حكماً عامّاً في جميع ما تتولّد فيه فضول حارّة. والثالث ما ينتقض به قولهم أنّ هذا العارض في أكثر الحالات إنّما يعرض في الرأس بمزاج فيه خاصّة والأخلاط التي في البدن سليمة باقية على حالها الطبيعيّة.
فقد أحسن الذين حرّفوا النسخة القديمة بعض التحريف حتّى صار معناها أنّ «الرياح النافخة تكون سبباً معيناً على العارض لأصحاب التجنيح». وقد أعلمتكم مراراً أنّ من عادة الأطبّاء أن يصفوا «بالتجنيح» من كانت كتفاه خارجتين عن حدّ بدنه ناشرة إلى خلف بمنزلة جناحي الطائر. فقالوا إنّ أصحاب هذه الحال قد تكون حالهم هذه «سبباً معيناً» على أن يقعوا في العلّة التي من شأنهم أن يسلّوا بها وهي نفث الدم وذلك أنّ «الرياح النافخة تتولّد فيهم» كثيراً. وما يخفى عن أحد أنّ الرياح الغليظة «سبباً معيناً» على انصداع بعض العروق التي في الرئة.
فأمّا من كان صدره ضيّقاً فقد تتولّد فيه الرياح الغليظة النافخة كثيراً فهذا ممّا ينبغي أن نمتحنه ونعرفه بالتجربة بعد القصد بالعناية. وأمّا أنا فقد وجدت جميع أصحاب الصدور الضيّقة لا قليلاً منهم قد تتولّد فيهم كثيراً الرياح الغليظة النافخة وخليق أن يكون ذلك لنقصان الحرارة الحيوانيّة فيهم التي قد أعلمتكم أنّها إنّما انبعثت من القلب. وإذ كان أصحاب التجنيح والصدور الضيّقة الفؤاد فيهم صغيراً لزم من ذلك أن تكون الحرارة التي تجري منه أنّ البدن كلّه ضعيف. وذلك أنّه كان صغر القلب منذ أوّل الأمر كما قد علمتم لضعف تلك الحرارة.
وقد حرّف قوم آخرون ذلك الاسم تحريفاً صار معناه به «أصحاب الحمّى» فجعلوا هذا القول على هذا المثال: «إنّ الرياح النافخة قد تكون سبباً معيناً على
العارض لأصحاب الحمّى وذلك أنّه تتولّد فيهم رياح نافخة». وما صدق هؤلاء فيما قالوا من أنّ جميع أصحاب الحمّى «تتولّد فيهم الرياح الغليظة النافخة».
فأمّا ديسقوريدوس كما قلت قبيل فوصل ذكر «الرياح النافخة» بآخر القول الذي قد تقدّم ذكره وجعل هذا القول على هذا المثال: «إنّ التجنّح سبب معين على العارض لا محالة» حتّى يكون نسق هذا الكلام على هذا المثال: «فأمّا أرسطالاوس فقد كانت الرياح التي تخرج منه رائحة رديئة». ثمّ يقطع هذا ويفرده ويبدأ به ابتداء آخر فيقول: «إنّ التجنيح قد يكون سبباً معيناً على العارض لأصحابه وذلك أنّه تتولّد فيهم رياح نافخة». وحسبي ذكر «الرياح النافخة» كي لا يكون استعفائي من التطويل بالكلام وأوجد بالفعل مستعملاً للتطويل من غير حاجة إلى ذلك.
(١٤) قال أبقراط: البارد جدّاً يصدع العروق ويحدث السعال مثل الثلج والجمد ويحدث أيضاً اضطمار مثل السلع التي تسمّى «فيرا» والسلع التي تسمّى «غنغرونا» والصلابة هي سبب معين.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد وصف قوّة البارد كيف هي في المقالة التي وصف فيها استعمال الرطوبات وفي كتاب الفصول. وقد ذكر في هذا القول أيضاً شيئاً من أفعاله على طريق الرسم والتمثيل إذ كان قد ينتفع بمعرفتها في وجود قوّته الكلّيّة. وذلك أنّ من شأن البارد في نفسه أن يجمع ويكثّف ويلزّز ويضغط جميع الأجسام التي يقرب منها ولذلك قد يمنع ويخفق التحليل الذي يخفى عن الحسّ من
الأبدان وأصناف الاستفراغ المحسوس. ولذلك كتب في كتاب الفضول: «إنّه ينبغي أن يكون استعمال البارد عند هذه الأحوال في الموضع الذي ينفجر منه الدم أو هو مزمع أن ينفجر منه لا على الموضع نفسه لاكن حوله من حيث يجري» وسائر ما يتلو ذلك ممّا ذكر من أفعال البارد بقوّته التي تخصّه من غير أن يتوسّط بينه وبين المفعول شيء آخر. فأمّا عند قوله «إنّ البارد مثل الثلج والجمد عدوّ للصدر مهيّج للسعال ولانبعاث الدم وللنزل» فأمّا قوله «إنّه عدوّ للصدر» 〈…〉 «مهيّج للسعال 〈…〉» فإنّما قاله في أفعاله التي يفعلها بتوسّط أشياء أخر بينه وبينها. وذلك أنّه لمّا كانت أجرام الأوعية التي تحوي الدم قد يجمع البارد أجزاءها بعضها إلى بعض ويضمّها صار يعرض من قبل ذلك في بعض الأوقات أن «تنصدع» طبقات العروق حتّى يكون الشيء الذي يعرض من كثرة الدم الذي تحويه العروق أمّا تكون طبقاتها بحال استرخاء هو بعينه الذي يعرض من الدم الذي ليس بالكثير إذا كانت العروق بحال تمدّد. ولذلك لم يطلق قوله في هذا الموضع فيقول «إنّ البارد يصدع العروق» لاكنّه استثنى فيه فقال «البارد جدّاً». وقد ذكر هذا بعينه على هذا المعنى في كتاب الفصول حيث قال: «إنّ البارد مثل الثلج والجمد» وذلك أنّه عبّر عن معناه بما مثّل به من «الثلج والجمد» فدلّ أيّ البارد يعني وأنّه «البارد جدّاً».
ولمّا كان أيضاً قد دلّ في كتاب الفصول: «إنّ البارد يحدث لذعاً في القروح ويصلّب الجلد» قال في هذا الموضع: «إنّ البارد يحدث اضطماراً» — يعني «بالاضطمار» الاجتماع والانضمام 〈…〉 على هذا الطريق يحدث الأورام التي تحدث التي تكون في الأعضاء العصبيّة وفي نفس العصب وهي التعقّد الذي يسمّيه اليونانيّون «غنغرونا» وغير ذلك من السلع بعضها أقرب إلى الاستطالة وبعضها أقرب إلى الاستدارة. وأحسبه سمّى ما كان أقرب منها إلى 〈…〉 الاستدارة سمّاه «غنغرونا» وإنّما استولد اسم «فيرا» من اسم «فيرون» وهو ضرب من السباع شبيه بالقرد يسمّيه اليونانيّون «ساطورس». وذلك أنّ قوماً من أصحاب لغة أبقراط وهم الذين يسمّون «أينوس» يسمّون ذلك الحيوان «فيرو» وقد يصوّر هذا الحيوان وينحت ويصاغ وله عند أذنيه زوائد ناتئة. وأمّا الاسم الآخر وهو «غنغرونا» فعنى به الزوائد التي هي أقرب إلى الاستدارة مع صلابة مثل السلع التي تنبت على بعض الخشب من الشجر الذي قد يسمّونه «غنغروس» كما سمّاه ثاوفرسطس في المقالة الأولى من كتابه في النبات حين قال بهذا اللفظ: «ومن الشجر ما ينبت عليه السلع الذي يسمّيه بعض الناس ‹غنغروس› وإنّما شبّه ذلك مثل شجر الزيتون». وقد ذكر قوم أنّهم سمعوا في عصرنا هذا أيضاً من قوم في بلاد تططاليا وهم يسمّون أشباه هذه من الأورام الجاسئة «غنغرونا» إذا تولّدت في الرقبة.
وأمّا «فيرا» فما سمعت أحداً يقوله من أمّة من الأمم ولا في بلد من البلدان ولا علمت أحداً ذكر أنّه سمعه. على أنّ قوماً من المفسّرين قد قالوا إنّ أبقراط إنّما عنى «بفيرا» علّة تعرض كثيراً في مدينة من بلاد فيلوفونيس يقال لها «فيرا». وكتب قوم مكان الياء مع الفاء ألفاً حتّى صار «فارا» وذكروا أنّه سمّي بهذا الاسم علّة تعرض كثيراً في مدينة من بلاد تططاليا يقال لها «فارا». وممّا يشهد على صحّة ما قلنا من أنّه يعني «بفيرا» الزوائد المستطيلة ما نجده مكتوباً في المقالة السابعة من كتاب إفيذيميا بهذا اللفظ: «ووفد على الناس في تلك الحال سعال وخاصّة للصبيان وكان يخرج عند الآذان لكثير منهم زوائد شبيهة بزوائد الحيوان المسمّى ‹ساطورس›».
وأمّا ما قاله في آخر هذا القول وهو قوله «والصلابة سبب معين» فمعناه فيه ما أنا واصفه وهو أنّ الأعراض التي ذكرنا أنّها تحدث عن البارد فقد تعين على حدوثها صلابة الجسم التي تحدث فيه تلك العلل يعني إذا كان الإنسان الذي يعرض له هذا في طبيعته صلب الجلد بالطبع. وذلك أنّ البارد إنّما صار سبباً لتولّد تلك العلل التي ذكرت لهذا السبب بعينه أعني لصلابة الجلد من قبل أنّ «البارد» لمّا كان كما ذكر في كتاب الفصول «يصلّب الجلد» لذلك يولّد بهذه العلل لأنّ الأخلاط التي تجتمع من ورائه لا تصل إلى النفوذ فيه حتّى تخرج منه. فمن كان جلده صلباً بالطبع فإنّ صلابة جلده تكون أيضاً «سبباً معيناً» على أن لا تتحلّل
تلك الأخلاط الغليظة اللزجة وإن تجتمع تحت تلك الأخلاط التي ذكرنا قد تحدث أوراماً جاسئة صلبة.
وما يخفى على أحد أيضاً أنّ «تصدّع العروق» قد يحدث فيمن كان بدنه أشدّ صلابة بالطبع عند حفز «البرد» له. وذلك أنّه إذا كان «تصدّع العروق» إنّما يكون من الدم التي تحويه فهو أحرى أن تكون العروق التي معها من «الصلابة» ما يعسر معه اتّساعها حتّى لا يكون إلّا بكدّ شديد. وذلك أنّ الأشياء التي من شأنها أن تتوانى لأن تتمدّد تمدّداً كثيراً وإن كان الشيء الذي تحويه كثيراً فقد تحويه وتضبطه من غير أن تنصدع ولا تنشقّ. «والسعال» أيضاً واجب أن يحدث في الأجسام التي هي بالطبع أصلب وذلك أنّا قد بيّنّا أنّ الأجسام الصلبة أسهل وأسرع إلى قبول الخشونة من الأجسام الليّنة.
ولمّا كان قوم قد كتبوا في هذا القول مكان «السعال» «الرياح النافخة» فقد ينبغي أن نقول في ذلك أيضاً شيئاً. فأقول إنّا قد نرى عياناً في كلّ يوم في المثل أنّ من يناله البرد ويبلغ منه قد يمتلئ بطنه رياحاً نافخة إلّا أنّ النسخة القديمة ليس يوجد فيها ذكر «الرياح النافخة» لاكنّه إنّما يوجد فيها ذكر «السعال». وفي كتاب الفصول أيضاً كما قلت قبيل لمّا ذكر الأشياء المفرطة البرد على طريق التمثيل لم يذكر أنّه تحدث عنها «الرياح النافخة» لاكنّه إنّما ذكر أنّه يحدث عنها «السعال». وذلك أنّه قال: «إنّ البارد مثل الثلج والجمد عدوّ للصدر مهيّج للسعال ولانبعاث الدم وللنزل». ويصف في هذا القول الذي نحن في شرحه 〈و〉في ذلك الفصل الذي ذكرناه لا جميع ما يحدث عن «البارد» على الإطلاق لكنّ ما يحدث عن «البارد جدّاً». وذلك أنّه استثنى في هذا القول فقال: «البارد جدّاً
يصدع العروق» واستثنى في كتاب الفصول فقال: «مثل الثلج والجمد». وقد أعلمتكم مراراً كثيرة أنّ ما تتولّد فيه الرياح حتّى ينتفخ يحتاج أن يكون فيه حرارة ما كما يحتاج إلى ذلك الشيء الذي يعفن.
(١٥) قال أبقراط: الاجتماع بعد البول أتراه إنّما يكون في الصبيان لأنّهم أسخن؟
قال جالينوس: إنّ جميع الذين فسّروا هذا الكتاب قد اتّفقوا على أنّ هذا القول إنّما أراد أبقراط «الصبيان» الذين يتولّد فيهم الحصى لاكنّهم لم يبحثوا عن السبب الذي له استثنى أبقراط فقال «بعد البول» وكان قادراً على أن يطلق قوله «الاجتماع أتراه يكون في الصبيان لأنّهم أسخن» من غير أن يحتاج إلى أن يقول «بعد البول». ولا يبحثوا أيضاً عن السبب الذي له أدخل في هذا القول اللفظة التي تدلّ على التشكّك والمسألة ولم يطلق قوله فيقول: «الاجتماع يكون في الصبيان لأنّهم أسخن». إنّما هو قول رجل ليس يجترئ على الحكم بالثقة ويبتّه بتاتاً هذا على أنّه قد أطلق قوله في كتاب الفصول فقال: «إنّ ما كان في النشء فالحارّ الغريزيّ فيه أكثر ما يكون». وما وجدت هذا الاسم الذي افتتح به هذا القول وهو الاسم الذي سمّى به «الاجتماع» في شيء من الأقاويل المنسوبة إلى أبقراط إلّا في المقالة السابعة من كتاب إفيذيميا. وذلك أنّ واضعها قال: «إنّه كان يظهر في الكرنيب اجتماع».
وأنا آخذ هذا في البحث والنظر عن السبب الذي له قال «من بعد البول» وعن السبب الذي 〈له〉 قال «أتراه». وأقدّم أوّلاً البحث عن اللفظة التي دلّت على التشكّك وإن كانت تلك اللفظة بعد اللفظة الأخرى. فأقول إنّه إمّا أن يكون كتب
هذا وهو بعد شاكّ فيه ثمّ إنّه على طويل الأيّام عمد فوجّه فيه برهاناً فحكم بما حكم به في مزاج من هو في النشء وإمّا أن يكون معناه في ذلك.
والأجود أن نفهم عنه قوله عليه المعنى الذي قد لخّصته في كتابي في المزاج وفي تفسيري لكتاب الفصول وهو أنّ الصبيّ ليس يجوز أن يحكم عليه حكماً مطلقاً بأنّه «أسخن» من الشابّ الذي قد تناهى شبابه لاكنّه إنّما يجوز أن يحكم بأنّه أسخن منه بالحرارة الغريزيّة. وقد بيّنّا أنّ الحرارة التي ليست غريزيّة أسخن على الإطلاق من الحرارة الغريزيّة وسواء قلت في هذا الموضع «الحارّ» أو «الحرارة». والشباب الذي هو منتهي شبابه أغلب بالحرارة التي ليست غريزيّة من الصبيّ كما أنّ الصبيّ أغلب بالحرارة الغريزيّة من الشابّ المتناهي الشباب. فقد كان يجب بحسب هذا أن يكون جمود الحصى في المثانة من تلك الحرارة أكثر أعني من حرارة الشابّ فلهذا وجب أن يتشكّك. وأمّا حقيقة الأمر فهي أنّ الحصى إنّما كان يتولّد في المثانة في الصبيان لغلظ بولهم. وقد اتّفق جميع من كان قبلنا من الأطبّاء أنّ الصبيان يبولون أغلظ ما يكون من البول. فأمّا السبب الذي له صار بولهم هذا البول فهو في نفسه ممّا ينبغي أن يطلب ويبحث عنه إلّا أنّه في هذا الغرض الذي قصدنا له ليس يحتاج إليه إذ كان غلظ بول الصبيان أمراً ظاهراً وقد اتّفق عليه جميع الأطبّاء.
فهذا الغلظ إذا اجتمع والتأم ثمّ لم تجري مرّة من المرار في الوقت الذي ينبغي أن تخرج فيه حتّى يبقى داخلاً فضل مدّة ابتدأ فيه الانعقاد والجمود. وإذا حدث فيه هذا الابتداء سهل فيما كان بعد أن يلتئم إليه ويلتصق به من حوله جميع ما
ينحدر إلى المثانة فيما بعد من الشيء الغليظ ولا تزداد تلك الحصاة إلّا عظماً وكبراً كما قد تراه يتولّد خارجاً في مياه الحمّامات وفي الأواني التي يسخّن فيها الماء في كلّ يوم. فغلظ البول هو السبب الأوّل وأعظم في تولّد الحصى. وأمّا الحرارة فقد يكفي بالمقدار المعتدل منها في تولّد الحصى ولذلك قد يتولّد في ماء الحمّامات الحصى وإن كان فاتراً. ولهذا السبب فيما أحسب استثنى أبقراط في قوله فقال «أتراه» من قبل أنّ هذا المقدار من الحرارة الذي هو موجود في الصبيان بالطبع قد يعين على الجمود وليس عظم العمل له لاكنّ السبب الأعظم في «اجتماع» ما يجتمع من ذلك وانعقاده إنّما هو غلظ المادّة التي منها يتولّد الحصى.
وقد بقي علينا أن نبحث وننظر لِم استثنى في قوله فقال «بعد البول» ولِم 〈لم〉 يطلق قوله فيقول: «الاجتماع تراه يكون في الصبيان لأنّهم أسخن». فأقول إنّه إنّما استثنى ذلك لأنّ كلامه إنّما هو في هذا الموضع في الحصى المتولّد في المثانة لا في الحصى المتولّد في الكلى فانعقاد الحصى المتولّد في المثانة يكون «من بعد البول» وانعقاد الحصى المتولّد في الكلى يكون من قبل البول. وقد علمتم أنّ الحصى يتولّد في الصبيان في المثانة وأمّا تولّد الحصى في الكهول فإنّما يكون في الكلى. فالأمر في هذا كما قلت قبيل أنّ العيان يشهد أنّ هذه الأشياء على ما وصفنا. وأمّا السبب فيها فلناظر أن ينظر فيها ويبحث عنها على مهل.
فقد فرغنا إذاً من تفسير ما كنّا قصدنا لتفسيره. وأمّا السبب فيما قلنا فأنا مخبّر به مثل ما خبّرت بالأسباب فيما تقدّم بعد أن ألوم من زعم أنّ الحصى إنّما يتولّد في الصبيان لضيق المجاري فيهم من قبل صغر الأوعية. فقد كان ينبغي لو كان حقّاً أن يكون تولّد الحصى في الصبيان في الكلى أحرى من أن يكون في المثانة
وذلك أنّ المجاري في الكلى مجارٍ ضيّقة فأمّا عنق المثانة فيبلغ من سعته في الصبيان أنّ غلظ كلّ مادّة تنحدر من المثانة ينفذ فيه نفوذاً سهلاً. فخليق أن يكون من قد طعن في السنّ أيضاً ليس السبب في تولّد الحصى فيه ضيق المجاري في الكلى لاكنّ السبب في ذلك ضعف الأفعال الطبيعيّة فيهم وكثرة الأخلاط الغليظة. وذلك أنّ الصبيان لمّا كانت الأفعال الطبيعيّة كلّها فيهم قويّة كان غِلَظ الأخلاط فيهم يذوب وينحلّ فأمّا من قد أسنّ فإنّ غلظ الأخلاط يكون فيهم جميعاً. ونرى عياناً في الأشياء التي هي خارج البدن أيضاً ممّا هو طبيعيّة غليظ ونريد أن نصفّيه لشيء ضيّق المنافذ أنّ ما كان منه قد أذابت الحرارة وحلّلته نفذ نفوذاً سهلاً وما كان منه لم يذب لم ينحلّ فإنّه لا ينفذ في تلك المنافذ ومثال ذلك الشحم والشمع والعسل.
فلمّا كان الصبيان الحرارة الغريزيّة فيهم كثيرة والأفعال الطبيعيّة قويّة كان غلظ البول ينحدر إلى الكلى وقد ذاب وانحلّ ولذلك يتصفّى بسهولة وينفذ إلى المثانة. وتعين على سرعة نفوذه معونة ليست باليسيرة قوّة الأفعال الطبيعيّة. ولمّا كانت المثانة باردة لأنّها من طبيعة الأغشية قليلة الدم ولأنّ في جوفها فضاء كثيراً صار نفوذ ذلك الغلظ الذي نفذ إليها يجتمع ويجمد كما قلت قبيل ويبتدئ فيه هذا التعقيد إذا طال لبثه في المثانة.
ويجب أيضاً أن يكون هذا البول الغليظ في الصبيان أشدّ لزوجة من قبل أنّ الحرارة الغريزيّة قد عملت فيه وأنضجت إنضاجاً أكثر. وذلك أنّ جميع الأشياء التي تغيّرها الحرارة وتنضجها قد تستفيد على طول المدّة شيئاً من اللزوجة وإن لم يكن فيها منذ أوّل الأمر شيء من اللزوجة فلهذه اللزوجة يكون ذلك الثفل أحرى بأن
يتّصل ويجتمع ويجمد. وذلك أنّك إذا توهّمت ثفلين معهما من الغلظ مقدار سيّ فإنّ أشدّهما لزوجة أحراهما لقبول الاتّصال والاتّحاد والانعقاد والاجتماع والجمود.
وإذ كنت قد وصفت بعض ما ليس ذكره اضطراريّاً في شرح هذا القول من الأسباب فإنّي أضيف إلى ذلك السبب في غلظ البول في الصبيان وهو كثرة أكل الصبيان وتخليطهم في المطعم وحركاتهم بعد الطعام على غير تقدير في اللعب والمرح. وأمّا من يرضع منهم بعد فإنّ مادّة الغذاء قد تعين على ذلك لأنّ اللبن في طبيعته غليظ وهو من أوكد الأشياء في توليد الحصى ولذلك صار من يكثر من أكل الجبن من المستكملين قد نجده كثيراً يتولّد في كلاه الحصى.
(١٦) قال أبقراط: إنّ الأشكال قد تسكّن مثال ذلك الرجل الذي قد كان يشبّك القضبان بيده ويلويها فإنّه أصابه وجع شديد حتّى صرعه فأمسك بيده طرف وتد كان موتّداً فوق مضجعه ولزمه فسكن وجعه.
قال جالينوس: أمّا ما وصف في هذا القول فبيّن واضح. فأمّا السبب فيه فقد يعسر وصفه من قبل أنّ أبقراط لم يصف شيئاً من حاله على أنّه قد كان يمكنه أن يخبر هل عرض له ذلك الألم بغتة أو حدث أوّلاً منه شيء يسير ثمّ تزيّد حتّى تفاقم وأن يخبر أيضاً متى ابتدأ بذلك الرجل ألمه أفي حال الفعل الذي كان يفعله من «تشبيك القضبان» أو من بعد مدّة إمّا من النهار وإمّا من الليل. ولم يخبر أيضاً أيّ أعضائه كان العضو الذي اشتدّ به فيه الألم وقد بيّن المفسّرون أنّ ذلك العضو
الذي كان يشتدّ به فيه «الوجع» كان اليد من قبل أنّه لمّا «أمسك الوتد» انتفع بإمساكه إيّاه.
وأنا أقول إنّ هذا الرجل إن كان إنّما حدث له الإعياء عن «ليّه القضبان» فلا يشبه أن يكون ألمه خفّ وسكن عنه بهذا الشكل. وذلك أنّه قد بيّن أيّ الأشكال من أشكال اليد هو الشكل الذي يبعد فيه من الألم في كتابه في جبر العظام وفي كتابه في أوائل الطبّ وهو المعروف «بقاططريون». فإن كان إنّما أصاب هذا الرجل التواء في بعض عضلات يده من «ليّه» إيّاها أو بسبب ريح فيها غليظة فيما بين عضلتين من يده فلم تجد منفذاً فأخلق به أن يكون لمّا جعل يده بالشكل الموافق لأن ينفّس منه الريح «سكن عنه وجعه».
(١٧) قال أبقراط: الرجل الذي رأيته من طروق الجبل عند الجسر يرمي برجليه لم تدقّ إحدى ساقيه كبير دقّة فأمّا فخذاه فدقّتا جدّاً ولم يحتبس بوله ولا منيه.
قال جالينوس: إنّ من عادة اليونانيّين أن يلقّبوا «بطرّاق الجبال» من كان شأنه أن يجلب من الجبال شيئاً فيحدره إلى المدينة مثل الحطب والحجارة أو ما أشبه ذلك. ولمّا كان أبقراط لم يكتب «إنّي رأيت طارق الجبل يرمي برجليه» لاكنّه استثنى فقال «من طروق الجبل» فكان قوله هذا قد يدلّ على أنّ هذا الرجل إنّما ناله من العمل الذي كان يعمله من «طروقه الجبل» آفة فيما يحويه القطن من 〈النخاع〉 من حيث ينبت العصب الذي يحرّك «الرجلين». وممّا يدلّك على ذلك أنّ قوله «عند الجسر» قد كان وحده دون غيره في أن يذكره بأمر ذلك العليل حتّى لا يحتاج إلى ذكر صناعة.
والبحث عن السبب الذي منه أصابت ذلك الرجل علّة في «رجليه» فضل وكذلك أيضاً البحث عن معناه في قوله «إنّه كان يرمي برجليه» هل هو من أنّ حركتهما بطلت — فقد ادّعى ذلك بعض المفسّرين وبعد عمّا يقبل ويقنع به — أو أنّه ضعفت حركة رجليه — وهو أقرب إلى ما يقبل ويقنع به — حتّى يكون تحريك الرجلين وإرادتهما الحركة من يرمي بهما إلى الناحية الخارجة عن حدّ البدن بغير قوّة.
وقوله أيضاً في «الساقين» إنّهما أو أحدهما «دقّت» وفي «الفخذين» إنّهما «دقّتا جدّاً» ليس يستفيد منه معشر من يقرؤه كبير درك ولا كان أبقراط بالذي ينتفع به من طريق التذكرة. وذلك أنّ هذه الأمور ليست من الأمور التي تكون في الندرة لاكنّها من الأمور التي تراها كثيراً تحدث ويعرفها جميع الأطبّاء معرفة شافية.
وأنا أروم أن أخبر بالسبب الذي له ذكر هذا بعد أن أصف قوله هذا عن آخره بألفاظ أخر أبين وأوجز دعها ما فيها من الحشو. فأنزل أنّ «رجلاً أصابه استرخاء في رجليه فدقّ منه الفخذان بأكثر ممّا دقّ الساقان ولم يحتبس فيه البول ولا المنى» فهذا هو الذي ينتفع بمعرفته. ولعلّ سائلاً يسألني ما يقول فيما قاله أبقراط في كتاب المفاصل حين 〈قال〉: «إنّ من لم يتخلّع منه تركيب فقاره لا إلى داخل ولا إلى خارج لاكن تزعزع تزعزعاً شديداً في طول الصلب فإنّ أكثرهم في أكثر الحالات تضعف حركات أرجلهم وأيديهم وتخدر أبدانهم وتحتبس أبوالهم». وقد دعا هذا القول قوماً إلى أن حكموا أنّ هذه الأعراض إنّما تعرض عند علّة النخاع بسبب استرخاء العصب ولم يفهموا أنّ الفقار إذا أزال عن نسبته الطبيعيّة فأحدث بطريق المشاركة في العلّة أوّلاً أوراماً حارّة في المثانة وفي المعى المعروف
«بالمستقيم» ثمّ أحدث بعد أوراماً جاسئة في تلك المواضع نالت الأفعال الطبيعيّة من هذه الآلات آفة ولذلك يحتبس ما كانت تقذفه قبل ذلك. وأمّا العصب فإذا نالته الآفة وحده من غير أن تكون قد شاركت العلّة شيئاً من هذه الآلات التي ذكرنا فإنّ الآفة عند ذلك ليس تنال الأفعال الطبيعيّة لاكنّها إنّما تنال الأفعال الإراديّة. ولذلك يجري البول والبراز منهم من غير إرادة إذا استحكم استرخاء العصب الذي يأتي إلى العضل على طريق المجريين من المثانة ومن الدبر الذي يغلق ويصمّ كلّ واحد من هذين المجريين.
وقد بيّن أبقراط في قوله هذا «إنّ الطارق للجبل لم يحتبس بوله» لاكنّه لم يبيّن هل كان بوله يجري عن غير إرادة منه أو بإرادته. ولو كانت هذه العلّة لأقاويل أقاويل أثبتها أبقراط في كتاب جعله ليقرأه الناس لقد كان تركه أن يذكر أنّ خروج البول كان عن غير إرادة 〈…〉 لقد كان سيذكر ذلك. ولمّا كانت هذه الأقاويل لم تثبت على أن تكون كتاباً يقرؤه الناس لاكنّها إنّما أثبتت ليجعلها تذكرة له كما قلت مراراً كثيرة فقد يمكن أن يكون قد أصاب هذا الرجل خروج البول منه من غير إرادة إلّا أنّ أبقراط ألغى ذكر ذلك لأنّه اقتصر على ذكر ما يحتاج إليه على أن يتذكّر به أمره. فقد نجده لم يذكر أيضاً شيئاً من أمر البراز على أنّ البراز أيضاً لا يخلو من أن يكون كان لا يحتبس البتّة مثل البول لاكن كان يجري عن غير إرادة أو يكون كان خروجه بإرادة لاكنّ خليقاً أن يكون اكتفى ممّا ذكره في البول في تذكرته بما رآه من أمر ذلك المريض وذلك أنّ استفراغ لما كان إنّما يكون عليه استفراغ البول. لو كان حدث شيء في أحد الاستفراغين مضادّ للحال في الآخر لقد كان لا محالة سيذكره ولمّا كانت الحال في الاستفراغين حالاً واحدة لم يضطرّه شيء إلى ذكرهما جميعاً.
قال: «ولم يحتبس أيضاً المنى» وذلك أنّ خروج المنى أيضاً إنّما يكون بحركة طبيعيّة كما يكون خروج البول والبراز. وأمّا السبب الذي له صار الناس إذا همّوا بالجماع صاروا إلى استفراغ المنى وإذا لم يريدوا الجماع 〈…〉 فقد بيّنته بكلام شافٍ في كتابي في الحركات التي 〈لا〉 يعرف سببها.
(١٨) قال أبقراط: إنّ الطبائع المجنّحة من الجنبين إنّما تكون لضعف المحرّك عند النزلات الخبيثة إذا كان قذف وإن لم يكن قذف فذلك رديء.
قال جالينوس: قد قلنا فيما تقدّم من الذي يصفه الأطبّاء «بالتجنيح» وقد أعلمكم أبقراط في المقالة الثالثة من كتاب إفيذيميا أنّ من كانت هذه حاله فهو مستعدّ لقبول السلّ سريع إليه. ومن عادة أبقراط وسائر القدماء إلّا الشاذّ إذا قالوا «محرّك» أن يعنوا به كلّ شيء يدعو إلى الحركة والفعل بسببه كان ذلك الشيء مالاً أو غيره ممّا يستفاد أو كان عزّاً أو سلطاناً أو عقاراً أو ضيعة أو أمانة أو فعلاً من الأفعال أو سبباً من الأسباب أو غير ذلك أيّ شيء كان بالجملة. وقد ظنّ قوم أنّه إنّما يعني «بالمحرّك» المواضع التي فيها أوّل العلّة وزعموا أنّه إنّما يدلّ بهذا القول أنّه «ينبغي أن يبحث عن المواضع التي ابتدأت بها العلّة كان الألم في الرأس أو كان في الأذن أو كان في الجنب». وهذا المعنى داخل في المعنى الذي وصفته
قبل إذ كان عامّاً شاملاً لمعانٍ كثيرة جزئيّة تجري هذا المجرى. وذلك أنّ الخطباء وأصحاب الأقاصيص والفلاسفة ذكروا «المحرّك» لأفعال الناس إذ كان كلامهم إنّما هو في هذا الباب.
وأمّا أبقراط فاستعمل هذا الاسم على الاستعارة بطريق التشبيه كما تستعار الأسماء لأشياء كثيرة من الأفعال والآثار الطبيعيّة التي يعمّها الشيء الذي منه يبتدئ حدوثها. وأبقراط ذكر في هذا القول الشيء الذي فيه ابتدأت العلّة بأصحابها وقد يمكن أن يذكر على هذا المثال الشيء الذي منه ابتدأ المبتدئ بركوب البحر أو بالمحاربة أو بالقتال أو بالنحاب أو بالتباغض أو بالنداس وكلّ ما كان سوى ذلك شبيهاً به وأن 〈لا〉 يبعد عن الواجب من زعم أنّ أبقراط ذكر في هذا القول «المحرّك» وهو يريد به الابتداء الأوّل الذي منه كان حدوث الحال التي لها ينسب صاحبها إلى «التجنيح». وذلك الابتداء هو ضعف الحرارة الغريزيّة التي تبتدئ وتنبعث من القلب.
فقد أعلمتك أنّه متى كان الدماغ عظيماً عظم بعظمه الرأس وإذا كان الدماغ صغيراً صغر بصغره الرأس كذلك الصدر وقد يتزيّد وينتقص بتزيّد القلب وتنقُّصه وكان القلب أيضاً إنّما يصير صغيراً لضعف القوّة الحيوانيّة التي جوهرها هو الحرارة الغريزيّة. فإذا كانت هذه القوّة في إنسان من الناس بالطبع ضعيفة أعني منذ أوّل خلقته وتصويره فقد يجب ضرورة أن يكون قلبه وصدره صغيرين. وقد أقمت لك البراهين على أنّ الأصول والمبادئ التي يكون بها تدبير بدن الحيوان ثلاثة في كتابي الذي وصفت فيه آراء أبقراط وفلاطن.
وأمّا الذين ظنّوا أنّه إنّما يعني «بالمحرّك» المواضع التي تبتدئ بها العلّة فإنّك تجدهم قد أخطؤوا في أشياء كثيرة من تفسير هذا القول وفي أنّه يريدوننا على أن نفهم من هذا القول لا لفظة واحدة لاكنّ قولاً كما هو بأسره كما لو كان قيل هذا القول على هذا المثال: «إنّ الطبائع المجنّحة من الجنبين لضعف المحرّك عنه النزلات الخبيثة» هي أحرى الطبائع بأن تقع في السلّ «وإن كان قذف وإن لم يكن قذف فذلك رديء». والأجود أن يجعل ذكر «النزلات» افتتاحاً لقول آخر أنا آخذ في ذكره وشرحه:
(١٩) قال أبقراط: عند النزلات الخبيثة إن كان قذف وإن لم يكن قذف فذلك رديء.
قال جالينوس: إنّ المفسّرين قد قالوا أشياء كثيرة في تفسير هذا القول لاكنّي أكتفي بالشيء الذي أرى أنّه أصحّ ما قيل وأقربه من الحقّ وأنفعه لمن يريد تعلّم الطبّ وأقتصر على ذكره بأوجز ما يمكن من القول. فأقول إنّ «النزلات» التي تنحدر من الرأس 〈…〉 إذا كانت رقيقة حادّة معها قوّة تأكل بها فعند ذلك قد ينبغي أن يتوهّم أنّها رديئة خبيثة. وما كان من الرطوبات بهذه الحال فلا تصلح أن تبقى في الرئة إلى أن تنضج فتغلظ كسائر الرطوبات التي هي رقيقة لاكن ليس معها الحدّة التي تأكل بها والبعد من قبول النضج ولا تصلح أيضاً أن تقذف حتّى تصير إلى الرئة. وذلك أنّها إذا بقيت داخلاً لم تنضج بسهولة وسبقت فعقرت الرئة حتّى يحدث فيها قرحاً قبل أن تنضج وإذا قصدت لقذفها هيّجت سعالاً شديداً حتّى تهزّ الرأس هزّاً شديداً فيحدث بسبب ذلك امتلاء ثمّ تعود فتنحدر منه نزلة إلى الرئة. ولا يؤمن أيضاً على الرئة في تلك الحال أن تنصدع بعض العروق التي فيها
لشدّة حبس السعال. ومن عادة السعال أن يشتدّ ويعسر على من لا يمكنه أن يقذف الرطوبات التي في الرئة بسهولة إذا كانت رقيقة مائيّة في قوامها. وذلك أنّ ارتفاعها إنّما يكون من هذا النفس الذي يرتفع فيخرج بحركة السعال فإذا كانت تلك الرطوبات رقيقة مائيّة تنبثّ حول ذلك حتّى تعود فتنحدر قبل أن تنفذ من قصبة الرئة بأسرها. فقد صحّ أنّ الآفة لا محالة نازلة بأصحاب هذه النزل بقيت في الرئة أو استفرغت منها.
(٢٠) قال أبقراط: إنّ النافض أكثر ما يبتدئ في النساء من القطن ثمّ يترقّى في الظهر إلى الرأس وفي الرجال أيضاً يبتدئ من خلف أكثر ممّا يبتدئ من قدّام ويقشعرّون من خارج أكثر ممّا يقشعرّون من داخل مثل ما يبتدئ الاقشعرار من الساعدين والفخذين. والجلد أيضاً هناك متخلخل ويدلّ على ذلك الشعر. وأمّا النافض الذي يعرض من أسباب أخر فخليق أن يكون من القروح فيبتدئ من العروق.
قال جالينوس: أمّا أوائل هذا القول فقد شرحتها في تفسيري لكتاب الفصول وفي تفسيري للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا. وأمّا ما ألحقه في آخر هذا القول فقد أوقع من فسّر هذا الكتاب في عناء كثير. فقد نجد كلّ واحد منهم قد كتبه على غير النسخة التي كتبها عليه الآخر ودلّوا جميعاً أنّه ليس يمكن أن يتأوّل متأوّل هذا القول تأويلاً يقرب من القبول وما يقنع به العقل متى حفظ عن النسخة القديمة التي وجد عليها. والنسخة القديمة توجد على هذا الوجه: «وأمّا النافض الذي
يعرض من أسباب أخر وخليق أن يكون من القروح فيبتدئ من العروق». وقد غيّر قوم من هذا الكلام قوله «وخليق أن يكون من القروح» فجعلوا مكانه «مثل الذي يكون في القروح» حتّى يكون هذا مثلاً ضربه في «سائر الأسباب» التي يكون منها «النافض». وذلك أنّه ليس من «القروح» فقط يعرض «النافض» لاكن قد يعرض من الخراجات إذا تقيّحت وبعض الناس قد يصيبهم النافض إذا كوي أو بطّ وقد رأيت قوماً أصابهم النافض بسبب دواء حادّ وضع على قرحة في أبدانهم. وهذه الأصناف كلّها من النافض فإنّ السبب المحدث لها ظاهر.
وقد يكون من النافض أصناف أخر في حمّى الغبّ والربع ويكون أيضاً كثيراً مع البحران من غير سبب ظاهر وقد زعموا أنّه إنّما عنى هذا النافض بقوله «إنّ النافض أكثر ما يبتدئ بالنساء من الظهر» وسائر ما يتلو ذلك. وأوّل ما يستحقّ أن يعجب منه كيف صار أبقراط في كتاب الفصول وهناك خاصّة يبيّن وأنّه كتب القول في النافض فجعل الحكم فيه حكماً كلّيّاً من غير أن يستثني فيه هذه الشريطة التي استثناها في هذا القول. وذلك أنّه قد يظهر لمن أصغى لهذا القول أنّ أبقراط ليس يرى أنّ جميع أصناف النافض يكون على وجه واحد عند قوله «وأمّا النافض الذي يعرض من أسباب أخر مثل الذي يكون من القروح فيبتدئ من العروق». ومع ذلك أيضاً فإنّ قوله هذا الذي قال: «إنّ هذا النافض يبتدئ من العروق» ليس يوازي في القسمة ما تقدّم منها. وذلك أنّا نقدر أن نقول: «إنّ النافض كلّها إنّما يبتدئ من العروق» أعني من الأخلاط الرديئة التي تكون في العروق ولاكنّ الذي يقشعرّ من البدن أوّلاً القطن والظهر ثمّ من بعد ذلك سائر الأعضاء.
ولذلك قد حرّف قوم النسخة الأولى تحريفاً صارت اللفظة التي دلّت على «العروق» تدلّ على أشياء حتّى صار القول على هذا المثال: «وأمّا النافض الذي يعرض من أسباب أخر مثل الذي يكون من القروح فإنّما يبتدئ من تلك الأسباب»
حتّى يكون معنى هذا القول على هذا المثال: أمّا كلّ نافض يكون من غير علّة في موضع من البدن فابتداؤها يكون من القطن والظهر وأمّا سائر النافض فإنّه يبتدئ من مواضع العلل التي هي الأسباب في حدوث النافض.
وقد حرّف قوم تلك اللفظة تحريفاً آخر صار به معنى القول على هذا المثال: إنّه متى كانت علّة من البدن هي السبب في حدوث النافض فإنّ ذلك الموضع يجتذب إليه بزعمهم في ذلك الوقت الذي يعرض لهم فيه النافض الدم من البدن كلّه فيظهر ابتداء النافض 〈من الأعضاء〉 التي هي في وضعها ضدّ موضع العلّة ويعني أبقراط «بالأضداد» في هذا الموضع الناحية السفلى للناحية العليا أو الجانب الأيمن للجانب الأيسر. فقد تبيّن من أقاويل هؤلاء لمن تدبّرها بعقله لتحريفهم ألفاظ أبقراط فقد يصرفون قوله إلى أحكام متضادّة حتّى يزعم بعضهم أنّ النافض يبتدئ من مواضع العلل ويزعم بعضهم أنّ النافض يبتدئ من المواضع المضادّة المقابلة لها وهي بزعمهم أبعد المواضع مواضع العلل.
〈…〉 وللقائل أن يقول مثل ذلك 〈…〉 فيما يظهر عياناً وذلك أنّه متى أطلق مثل هذا بطلت جميع الصناعات وجميع ما يتصرّف فيه الناس ويتعاملون به. والذي يظهر عياناً كما أعلمنا أبقراط في كتاب الفصول أنّ النافض كلّه إنّما يبتدئ من القطن والظهر.
وهذا الكلام الذي ألحق في آخر هذا القول كان ثاسالس بن أبقراط يقول الذي ألّف هذا الكتاب كما زعموا وجد في تذكرات أبيه فنسخه فيسيء ما صنع في إثباته إيّاه في هذا الكتاب. وذلك أنّ الأشياء التي انتخبها أبوه في مدّة طويلة من الزمان وحكم عليها حكماً كلّيّاً في كتابه في الفصول قد كان ينبغي له أن يعلم أنّها أصحّ وأثبت من الأشياء التي كانت عنده في وقت البحث ولم يكن صحّت
معرفتها عنده بعد. فإن كان هو نفسه ألحق هذا الكلام فذلك من فعله أردأ وشرّ إذ كان عمد إلى حكم بحكم عامّيّ قد حكم به أبوه فأزاله وأفسده. وإن كان أيضاً إنسان من بعد ثاسالس ألحق هذا في هذا الكتاب فذاك أيضاً قد أساء. وذلك أنّ السبار التي يختبر به الأشياء التي تظهر عياناً كما قلت مراراً كثيرة إنّما هو تجربة لا القياس والقول الذي يصوغه كلّ واحد من الناس لنفسه على الطريق الذي يقنع به عقله. وإنّما ينبغي أوّلاً أن يتّفق على أنّ الشيء الذي يكون أيّ شيء كان يطلب بالقياس لِم يكون وأمّا الشيء الذي ليس يراه يكون فالإخبار بالسبب فيه أنّه يكون هذيان.
وقد قال المفسّرون أشياء أخر في شرح هذا القول إلّا أنّي قد استعفيت مراراً كثيرة من ذكرهم أجمعين ولا سيّما متى كان أقرب ما قالوه من الإقناع إذا بحث عنه وجد باطلاً.
(٢١) قال أبقراط: الجملة من المولد ومن السبب المحرّك ومن أقاويل كثيرة تعرف قليلاً قليلاً بعد أن تجمعها وتتدبّرها حتّى تعلم في ماذا تشابه بعضها بعضاً ثمّ تتعرّف ضروب الاختلاف في تلك أيضاً وفي ماذا تتشابه حتّى يكون من ضروب الاختلاف اشتباه واحد. فعلى هذا يكون الطريق وعلى هذا يكون امتحان ما يجري على الصواب وفسخ ما يجري على غير الصواب.
قال جالينوس: إنّ الذي يعسر ليس هو الأمر بما ذكره أبقراط في هذا القول لاكنّه إنّما هو فعل هذه الأشياء عند معاناة المريض وذلك أنّك تجد «جملة» صناعة الطبّ محصورة في هذه الأشياء التي ذكرها. وذلك أنّ من عرف طبيعة المرض التي «ولد عليها» معرفة صحيحة ومن أيّ سبب حدث به في هذا الوقت
المرض وعمد إلى «أقاويل كثيرة تعرف قليلاً قليلاً فيدبّرها حتّى يعرف» ما يظهر فيها من ضروب «التشابه» وما يظهر فيها من ضروب «الاختلاف» واستخراج سائر ما ذكر في هذا القول على ما ينبغي فإنّه يقدر أن يعالج المرضى أفضل العلاج وأبلغه في النجح.
فلننظر في هذه الأنحاء واحد واحد ونذكر بما قد شرحناه وبالغنا في شرحه في غير هذا الكتاب ونضيف إلى ذلك شيئاً إن كان لم يذكره. وقد قلت وبيّنت مراراً كثيرة كيف يصل الواصل إلى معرفة الطبيعة التي «ولد عليها» كلّ واحد من الناس الذي يقصد لعلاجهم على أفضل الوجوه. وقد بيّنت أيضاً ما ينبغي أن يعلم من أمر مواضع العلل والمواضع التي تشاركها في علّتها وكيف يتعرّف ذلك على حقائقه في المرضى. وبيّنت أيضاً أمر الأسباب ما كان منها من خارج وهي التي تعرف «بالبادئة» وما كان منها من داخل وهي التي تعرف «بالسابقة» وما كان منها مضمّناً بالمرض. وقد بيّنت أيضاً في تفسيري لهذه المقالة حيث قال أبقراط «التدبير في المريض» أيّ الأشياء يقدر الطبيب أن يجمعها من «أقاويل» المريض ما ينتفع به في أعمال الطبّ. وأكثر هذه الأقاويل أيضاً التي قلت في هذا الكتاب قد تنتفع بها في أن تتدبّر الأبواب الجزئيّة التي تنظر فيها من صناعة الطبّ فتصفّفه ضروب ما تجد فيها من «الاختلاف» إلى «تشابه واحد» عامّيّ كلّيّ.
وأمّا ما قاله بعد هذا حيث قال: «ثمّ تتعرّف ضروب الاختلاف في تلك أيضاً» فأشار به إلى التقسيم والتجميع من الأشياء الكلّيّة العامّيّة المتشابهة إلى أصنافها التي تتفرّع إليها. وقد بيّنّا هذا أيضاً في جميع أجزاء الطبّ أمّا في المقالة التي وصفنا فيها أصناف الأعراض فهي تقسيم العرض إلى أقسامه وكذلك في كتابنا في
أصناف الحمّى في تقسيم الحمّى وفي كتابنا في المجسّة في تقسيم النبض. وقد يوجد أيضاً 〈في〉 هذه الأصناف على اختلافها تشابه وينقسم أيضاً كلّ واحد من هذه الأصناف كما وصفنا إلى أصناف أخر أخصّ من تلك وأقرب إلى الجزئيّة ويوجد في تلك أيضاً تشابه ما. ولذلك لمّا قال أبقراط: «ثمّ تتعرّف ضروب الاختلاف في تلك أيضاً» أردف ذلك بأن قال: «في ماذا تشابه». وذلك أنّه يريد أن نعرف «ضروب الاختلاف» وهي الأصناف «في ماذا تتشابه أيضاً حتّى يكون من ضروب الاختلاف اشتباه واحد». وذلك أنّ كلّ واحد من الأصناف على حدته قد يوجد فيه اشتباه عامّ ويشتمل على جميع الأصناف الاشتباه الجنسيّ.
فقد أحسن في قوله إنّ هذا هو «طريق الصواب» يعني في قوام كلّ صناعة من الصناعات كما قد علمتم. وقد سمّى من أتى بعد أبقراط هذا الطريق «الحيلة» وبهذا الطريق «يمتحن» صواب ما يستخرج ويعلم في جميع الصناعات ويتبيّن خطاء ما يقال فيها «على غير الصواب».
(٢٢) قال أبقراط: انفجار الدم من المنخرين فيمن يضرب لونه إلى النضرة والسواد وفيمن تغلب على لونه الحمرة ولون المرار وفيمن يضرب لونه إلى النضرة.
قال جالينوس: إنّ أبقراط لم يبيّن في قوله هل يعني به أنّ «انفجار الدم من المنخرين» يصيب هؤلاء الذين ذكرهم في أمراضهم أكثر ممّا يصيب غيرهم وإنّما يعني به أنّ هؤلاء ينتفعون «بانفجار الدم» أكثر ممّا ينتفع به غيرهم. وقوله أيضاً «من يضرب لونه إلى النضرة» ليس يتبيّن منه بياناً شافياً من الذي يعني به. وذلك أنّ الأمر كما قلت مراراً كثيرة أنّ من عادة اليونانيّين أن ينسبوا إلى «النضارة» في أكثر الأمر النبات وهي في لسانهم مشتقّة من اسم «الخضر» ومن لونها. وربّما
استعملوا هذا الاسم على الاستعارة فيسمّون به كلّ ما كان مخصباً مستكملاً لما يحتمل في طبيعته من الخصب وحسن الحال وربّما سمّوا بهذا الاسم الشيء الأصفر من قبل أنّ بعض النبات قد يصير لونه إلى هذه الحال. وعلى هذا المعنى رأى المفسّرون أبقراط قال: «فيمن يضرب لونه إلى النضارة والسواد» كما لو قال: «فيمن يضرب إلى الصفرة والسواد».
وقال بعضهم في هؤلاء إنّ الرعاف إلى هؤلاء أسرع لمخالطة المرار الأصفر لدمائهم إذ كان المرار بحدّته يقدر أن يفتح أفواه العروق وقال بعضهم في هؤلاء إنّهم ينتفعون بالرعاف أكثر ممّا ينتفع به غيرهم. وتعمّ الأمرين جميعاً غلبة المرّة الصفراء على أصحاب هذه الأحوال لأنّ في أبدانهم أخلاطاً رديئة تحتاج إلى الاستفراغ.
وقد اختلف المفسّرون أيضاً «فيمن تغلب على لونه الحمرة ولون المرار». فقال بعضهم إنّ أبقراط يعني أنّ الرعاف أسرع إليهم وقال بعضهم إنّهم أحرى أن ينتفعوا به. وعلى المعنيين جميعاً قد تعمّ غلبة المرّة الصفراء والذي لا يعمّ لاكنّه يخصّ البعض دون البعض أنّه تخالط الصفراء «فيمن يضرب لونه إلى السواد» 〈بما إلى السوداء〉 أقرب وتخالط الصفراء «فيمن تغلب على لونه الحمرة ولون المرار» الدم. وقد حرّف قوم اللفظة التي تدلّ على غلبة الحمرة دون المرار تحريفاً صار به معناها «من تغلب على لونه الحمرة دون المرار».
وقد ذكرنا صنفاً ثالثاً وقال: «فيمن يضرب لونه إلى النضارة» وفهم عنه المفسّرون هذا القول أيضاً كأنّه قال: «فيمن يضرب لونه إلى الصفرة». ولمّا كان مخرج هذه اللفظة قد يدلّ على أنّ الصفرة فيهم يسيرة فقد يجب أن يكون الغالب عليهم لون آخر سوى الصفرة وقد ترك المفسّرون ذكر اللون الذي يخالط الصفرة أيّ
لون هذا. فإن قالوا إنّ ذلك اللون سواد فقد قالوا إنّ ذلك لون أوّل من ذكره وإن قالوا إنّه حمرة فقد قالوا إنّ ذلك لون الصنف الثاني ممّن ذكر. فخليق أن يكون اللون المخالط للصفرة «فيمن يضرب لونه إلى الصفرة» إنّما يعني به البياض. وليس نجد من يغلب على لونه البياض والصفرة يسرع إليه الرعاف ولا ينتفع به أكثر ممّا ينتفع به غيره.
(٢٣-٢٤آ) قال أبقراط: إذا شرحتَ قليلاً فغلّظ بتجفيف وأمّا الباقون فالغلظ فيهم أقلّ.
قال جالينوس: هذه هي النسخة القديمة. فأمّا سابنس وأشياعه فحرّفوا اللفظة التي تدلّ على «القليل» حتّى صار معناها «المأبض» وقالوا إنّ الفصد من المأبض ينفع أصحاب الرعاف باجتذابه الدم إلى ضدّ الجهة التي مال إليها. ولم يقتصروا على أن فسّروا كلاماً جاؤوا به من عند أنفسهم مخالفاً لما يوجد من كلام أبقراط في النسخ القديمة حتّى أرادوا منّا أن نفهم عنه من قولهم «إذا شرحتَ المأبض» «إذا فصدتَ المأبض». وأمّا أنا فأعلم أنّ الفصد من المأبض تكون فيه منفعة قويّة لأصحاب الرعاف إذا أفرط وذلك أنّه يجتذب الدم إلى ضدّ الجهة التي جرى إليها ويمنع من كون الرعاف. لاكنّي لا أرى قول أبقراط هذا يدلّ على هذا المعنى لاكنّ قوله «إذا شرحتَ قليلاً» يشبه أن يكون معناه كما قد فهم عنه أكثر المفسّرين أن يدع الدم حتّى يجري قليلاً ثمّ ينتقل إلى أن يغلّظ الدم.
ولمّا كان 〈لا〉 يأمر «بالتغليظ» مطلقاً لاكن استثنى فقال «بتجفيف» زعم قوم أنّه يأمر بأن يكون «تغليظ» الدم 〈ليس〉 مع ترطيب لاكن مع «تجفيف». وحرّف قوم هذه اللفظة التي تدلّ على «التجفيف» حتّى دلّت على «اليابس» وأقرّوا
الباء على حالها وقالوا إنّه ينبغي أن يفهم عنه من قوله «بيابس» أي «بدواء يابس» وزعموا أنّ ذلك يتبيّن أيضاً ممّا ذكره بعد هذا القول.
وأمّا الذين تأوّلوا أنّ ما أشار به أبقراط من هذه المشورة إنّما أراد به من يصيبه الرعاف كثيراً لا في أمراضه لاكن وهو يذهب ويجيء [و]تأوّلوا أنّ قوله هذا إنّما أراد به التدبير وأنّ أبقراط يأمر أن نودع أصحاب هذه الحال بالأغذية المغلّظة مع التجفيف دماً محموداً. وذكروا أنّ الأغذية التي تصلح لهم الشأن النشاستج والشعير الروميّ المعروف «بخندروس» واللبن والجبن الرطب ولحوم الخنازير وخاصّة الراضع من الخنانيص ولحوم الخرفان والجداء.
وأمّا الذين تأوّلوا فقالوا هذا إنّما أراد به الذين يصيبهم الرعاف في الأمراض فزعموا أنّ أبقراط يأمر أن يغلّظ الدم من غير هذا كان معناه في قوله «بتجفيف». وذلك أنّه يريد إنضاج ذلك الخلط الرديء وقد يعين على النضج استعمال الأدوية القابضة التي توضع على الموضع الذي يجري منه الدم وذلك أنّ هذه الأدوية قد «تغلّظ» الدم كما يغلّظ النضج وقد ذكر بعد هذا بعض الأدوية فجعله كالمثال لها.
وقد حرّف قوم كما قلت اللفظة التي تدلّ على «التجفيف» حتّى دلّت على «اليابس» وزعموا أنّ أبقراط يأمر بهذا القول أن «يغلّظ» الدم الذي يجري من المنخرين في الرعاف بدواء يابس.
(٢٤ب) قال أبقراط: وأمّا الباقون فالتغليظ فيهم أقلّ.
قال جالينوس: قد ذكر المفسّرون أنّه يعني بقوله «الباقون» الذين يعرض لهم الرعاف كثيراً من غير أن يكون في أبدانهم دم رديء حتّى لا يكون يخالط الدم
فيهم المرّة الصفراء ولا المرّة السوداء. وقد كتب قوم في هذا القول أيضاً مكان «التغليظ» «غلظاً» وأرادوا بذلك أن يجعلوا الكلام أبين وأوضح وأمّا المعنى فلم يغيّروا فيه شيئاً لاكنّهم حفظوه بحاله. وذلك أنّهم أيضاً يزعمون أنّ أبقراط يأمر في هذا القول أن يكون القصد في غير ما ذكره أوّلاً من سائر الناس ممّن يعرض له الرعاف كثيراً بسبب كثرة الدم في بدنه لا بسبب ذاته وحدته «للتغليظ أقلّ».
«والتغليظ» أيضاً يفهم على ضربين وذلك أنّ بعض الناس فهمه على التدبير بالأغذية وبعضهم فهمه على الأدوية التي تدخل في الأنف وأشاروا أن يكون «تغليظ» الدم بتلك الأدوية 〈أو〉 بالأغذية كما ذكر الأوّلون وبعضهم فهم أنّ «تغليظ» الدم ينبغي أن يكون بالأمرين جميعاً. وقد قلت مراراً كثيرة إنّه ليس يوقف من شيء من أشباه هذه من الأقاويل على معرفة صحيحة شافية.
(٢٥) قال أبقراط: وينبغي أن تستعمل اليابس في أحدهما مثل العفص وتقصد من المنخرين الأبيض.
قال جالينوس: هذه هي النسخة القديمة ولأنّ التأويل فيها عسر متعذّر حرّفها أمن 〈…〉 كتبها على هذه النسخة: «وينبغي أن تستعمل اليابس الأبيض في المنخرين مثل العفص والشبّ» وذهبوا إلى أنّ المعنى في هذا القول هذا المعنى: إنّ الذين ينفجر منهم الدم من المنخرين فيفرط قد ينبغي أن يعالج مع ما وصف فيما تقدّم بما يعالج به نفس الموضع الذي يجري منه الدم. فإنّ أبقراط ذكر بعض الأدوية الذي يعالج بها ذلك الموضع ليجعله مثالاً يعرف به غيره فقال إنّه دواء «يابس أبيض» يدخل في الأنف. ولمّا كان «العفص» ليس «بأبيض» أضاف قوم إلى «العفص» «الشبّ» فكتبوا «مثل العفص والشبّ». وأمّا قوله «في أحدهما»
فأسقطوه وقد أحسنوا في إسقاطه لأنّه أمر يسير حقير لا يشبه أن يكون أبقراط قصد له إذ كان إنّما يدلّ كما ذكروا من أيّ المنخرين كان انبعاث الدم فينبغي أن يدخل فيه ذلك الدواء «اليابس».
وإذا حفظت النسخة القديمة على ما وجدت عليه كانت على طريق اللغز. وذلك أنّا لا نصل أصلاً إلى أن نعلم أيّ شيء عنى «بالأبيض» الذي ذكر الذي ينبغي أن «يقصد إليه من المنخرين» حتّى يستفرغ أو يستنظف أو ينضج أو خروجه من تلقاء نفسه وذلك أنّ أبقراط لم يزدنا على ذكر «الأبيض» شيئاً. فبالواجب اختلف المفسّرون في هذا أوّلاً وتأوّل كلّ واحد منهم تأويلاً غير تأويل الآخر. ومخرج ذلك «العفص» في هذا القول في لسان اليونانيّين مخرج مناقض جميع من تأوّل فيه تأويلاً. وليس يقدر أحد منهم يتخلّص من أن يكون هذا القول بحسب تأويله مخالفاً لمذهب كلام اليونانيّين وما يجوز لهم أن يغيّروه فيردوه إلى المذهب الصواب في لسان اليونانيّين إذ كان موجوداً على ما هو في جميع النسخ القديمة. وقد قال قوم إنّ جملة قوله في هذا الموضع أيضاً إنّما هي في انبعاث الدم من المنخرين وإنّه يأمر بألّا تزال تستعمل الأدوية اليابسة حتّى تخرج منه وهي باقية على «بياضها» لانقطاع الدم.
وقد تأوّلوا أيضاً تأويلات أخر كثيرة رديئة في هذا القول. وذلك أنّه عندي قول قد وقع فيه خطاء من الأصل ولعلّه أن يكون أيضاً قولاً افتعله ودلّسه بعض المفسّرين للكتب. وإنّي لأعجب من ديسقوريدوس وأصحابه في هذا الموضع وفي مواضع أخر كثيرة كيف استجازوا أن يسرعوا إلى تغيير أقاويل أبقراط إلى شيء خطر لهم على بال. ومن ذلك أنّا نجد جميع المفسّرين إنّما يعرفون هذا القول يكتب على هذا المثال: «وتقصد من المنخرين إلى الأبيض» فغيّروا ذلك وكتبوا مكانه «وتقصد
للمنخرين بالأبيض». وقد قلت مراراً كثيرة إنّه قد يجوز التغيير والتحريف في الأقاويل التي تجري على طريق اللغز إذ كان يميل إلى تأويل قريب مقنع ولاكن إنّما ينبغي أن يفعل ذلك بعد أن يُهدى بعينه حتّى يعلم القارئ كيف النسخة القديمة وأيّ شيء الذي غيّر وأحرف المحرف منها.
(٢٦) قال أبقراط: إذا ابتدأ الغلمان باستعمال الجماع أو راهقوا أصابهم انفجار الدم.
قال جالينوس: إنّ الرعاف يسرع في حال المرض وفي حال الصحّة إلى من كانت سنّه هذه السنّ التي يحدث فيها الحادث الذي يسمّيه باسم مشتقّ باسم السنّ وهي «المراهقة» وعند ذلك يقدر الغلام على «الجماع». وقد كان في أبدان الغلمان قبل ذلك دم كثير في حال الصبيّ لأنّ ذلك الدم كان ينفد فيما كانوا يستمرئون للنشء. فإذا صاروا إلى سنّ المراهقة لم يكن النشء في تزيّده على مثال ما كان ويصير الدم أسخن ممّا كان ولذلك يسرع إليهم الرعاف.
وأحسبكم ذاكرين لما قد وصفت لكم من انفجار الدم الذي يكون من جميع الأعضاء خلا المنخرين قد يذكر معه الموضع الذي ينبعث منه دائماً وأمّا انفجار الدم من المنخرين فربّما ذكر من غير ذِكر الموضع الذي ينبعث منه وإنّه متى قيل «انفجار الدم» مطلقاً فإنّما يعني به الرعاف.
(٢٧) قال أبقراط: إنّ من الناس من يخرج منه عند الاجتماع صوت مثل أركاسيلاوس ومنهم من إذا همّ به اقشعرّ وتغضّن ومنهم من إذا أتى انتفخ بطنه مثل دمنغورس.
قال جالينوس: قد قلت مراراً كثيرة إنّي إن قصدت لكشف خطاء ما أساء في تفسيره جدّاً كثير من المفسّرين استقلّ تفسيري جميع من يقصد لقراءته 〈…〉
فإن أنا ألغيت ذكر تلك التأويلات الرديئة فلم أقصد لكشف الخطاء فيها واقتصرت على ذكر أمثلتها قدر من له عقل أن ينبعث من تلقاء نفسه على امتحان ما ألغيت ذكره ويعرف خطاءه من صوابه وأنا فاعل ذلك في تفسيري لهذا القول أيضاً.
وقد فهم عن أبقراط من قوله «الاجتماع» جميع المفسّرين مجامعة الرجل للمرأة وفهموا عنه أيضاً من قوله «إنّه يخرج منه صوت» خروج الريح من أسفل وقد وصفت الأمر في هذا قبيل. وأمّا قوله بعد «ومنهم من إذا همّ به اقشعرّ وغضّن» فمعناه فيه ما أنا واصفه وهو أنّ من الناس من إذا رام الجماع فسخن بدنه عرض له الاقشعرار 〈…〉 وقد كتب قوم مكان «الاقشعرار» «أن ينفض» والأمر عندي أنّ هذا أقلّ ما يعرض ولا يكاد يكون إلّا في الشابّ من الناس وإذا كان فهو من أعظم الدلائل على أنّ في بدن صاحبه خلط أو أخلاط رديئة. ويبلغ من قلّة هذا أنّي لا أعلم أنّي رأيت أحداً يذكر أنّه يعرض له النافض عند ابتدائه بالجماع.
وقد حرّف قوم اللفظة التي تدلّ على النفض حتّى صار معناها «ينكر». وتأوّل قوم هذه اللفظة فزعموا أنّ معناها أنّه حدث للبدن حال رديئة منكرة وتأوّلها قوم آخرون على معنى آخر فزعموا أنّه أراد بها أن تحدث للبدن رائحة منكرة. وأمّا من أمر النفخة التي تعرض في البطن لبعض من يجامع فقد وصفت الحال فيها قبل.
وأمّا ديسقوريدوس فإنّه غيّر هذا القول كما غيّر أقاويل أخر كثيرة حتّى أزال المعنى الذي أراده فجعله على هذا المثال: «إنّ من الناس من يخرج منه عند الاجتماع صوت وكان يخرج من أركاسيلاوس مع نتن» حتّى يدلّ على أنّ الريح
التي كانت تخرج منه كانت لها ريح منتنة. فأمّا قابيطن وهو أيضاً ممّن يقدم على تغيير أقاويل أبقراط إقداماً شديداً فغيّر هذا القول حتّى صيّره على هذا المثال: «إنّ من الناس من يخرج منه عند الاجتماع صوت مثل أركاسيلاوس ومنهم من إذا همّ به انتفض وصار في بدنه غضون».
(٢٨) قال أبقراط: الانقلاب ممّا ينبغي أن تحذر.
قال جالينوس: قد وصف هذا الكلام بكلام أحرز وأوثق من هذا في كتاب الفصول 〈…〉 وفي غيره من كتبه. وذلك أنّه ليس في «انقلاب» الهواء المحيط بنا إذا كان قليلاً قليلاً خطر ولا في قلبنا وتغييرنا للأبدان بالتدبير أيضاً خطر إذا جرى ذلك منّا قليلاً قليلاً وإنّما الخطر في «الانقلاب» والتغيير الذي يكون كثيراً دفعة وذلك أنّ كلّ انقلاب يكون على هذا المثال غير مأمون أن تبقى معه الصحّة. ولذلك قد «ينبغي أن نحذر الانقلاب» الذي يكون من الهواء المحيط بأن نسكن بجوف البيوت بأكثر الحال وباستعمال الأضداد حتّى نجفّف البدن متى كان انقلاب الهواء إلى الرطوبات ونرطّبه متى كان انقلابه إلى اليبس وعلى هذا القياس أيضاً نسخّنه أو نبرّده إذا احتيج إلى كلّ واحد من هذين. وأمّا في التدبير فالأمر في «حذر الانقلاب» والتغيير وتوقّيهما حتّى لا ننقل الأبدان من الرياضة إلى الخفض دفعة ولا من الخفض إلى الرياضة ولا من ترك استعمال الحمّام إلى استعماله دفعة ولا من استعمال الحمّام إلى تركه دفعة ولا من شرب الماء إلى شرب الخمر ولا من شرب الخمر إلى شرب الماء وفي سائر جميع الأشياء يجري الأمر على هذا المثال.
وهذا القول قول صحيح حقيقيّ وقد قاله أبقراط في مواضع كثيرة ولا أدري ماذا دعا قوماً إلى أن زعموا أنّه ينبغي أن يفهم عنه من قوله «إنّ الانقلاب ممّا ينبغي أن
تحذر» انقلاب الأسنان بعضها إلى بعض. وأبقراط لمّا قال في كتاب الفصول: «إنّ استعمال الكثير بغتة ممّا يملأ البدن أو يستفرغه أو يسخنه أو يبرّده أو يحرّكه بنوع آخر من الحركة أيّ نوع كان خطر وكلّ ما كان كثيراً فهو مقاوم للطبيعة» لم يذكر الأسنان. وذلك أنّه لا يقع «الكثير» في الأسنان إذا كانت إنّما تنتقل قليلاً قليلاً و〈لا〉 يحتاج إلى فضل تحفّظ وتوقٍّ وحذر سوى الطريق العامّيّ الذي ينبغي أن يسلكه جميع الأصحّاء كما ليس يحتاج أوقات السنة إذا كان انقلابها وتغيّرها قليلاً قليلاً. إلّا أنّا قد نجد أوقات السنة ربّما حدث فيها الانقلاب العظيم دفعة من الضدّ إلى الضدّ وليس نجد شيئاً من الأسنان ينقلب دفعة حتّى يكون الإنسان اليوم صبيّاً ثمّ يصير من الغد رجلاً من غير أن يتغيّر قليلاً قليلاً في الأسنان التي فيما بين سنّ الصبيان وبين سنّ الرجال وهي سنّ الإنبات وسنّ الفتيان.
(٢٩) قال أبقراط: إقلال من الطعام امتناع من الإعياء ومن العطش.
قال جالينوس: لمّا قال بالجملة «إنّه ينبغي أن تحذر الانقلاب» أتبع ذلك بأن ذكر بعض ما يحتاج فيه إلى الحذر وإلى التوقّي ليجعله تذكرة لنفسه. وذلك أنّه يحتاج في النوعين جميعاً من الانقلاب والتغيّر أعني في الذي يحدث في الهواء والذي يحدث منّا بالأعمال وبجميع التدبير إلى «الإقلال من الطعام» وإلى تحذّر «العطش والإعياء» في جميع ما نعالجه ونعمله.
وأمّا المفسّرون فزعموا أنّ معناه في هذا القول إنّما هو أنّ «الإقلال من الطعام» يمنع من «الإعياء والعطش» وهذا كذب صراح متى قيل مجملاً. وذلك أنّ من كان في بدنه أخلاط بلغميّة ودم نقيّ كثير «فالإقلال من الطعام» قد يمنع فيه من
«الإعياء والعطش» وأمّا من كان الغالب عليه المرار وكان بدنه ناقصاً «فالإقلال من الطعام» ليس يمنعه من «الإعياء» ومن «العطش» لاكنّه ممّا يوقفه فيهما كما علّمنا أبقراط في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة.
وأردأ هؤلاء قولاً وفعلاً من كتب مكان «إقلال من الطعام» «إمساك عن الطعام» حتّى كتب: «إنّ الإمساك عن الطعام يمنع من الإعياء والعطش». وأصحاب هذه النسخة في غاية الجهل إذ كانوا قد جهلوا ما لا يجهله أحد من عوامّ الناس.
وقد زاد قوم في آخر هذا القول «للجائع» وزعموا أنّ «الإقلال من الطعام» مانع من «الإعياء والعطش» للجائع وذكروا أنّه يريد «بالجائع» الذي يحسّ من بدنه بنقصان. وقد كان الأجود أن يقول ضدّ ما قالوا حتّى يقولوا إنّ من حسّ بدنه بنقصان 〈…〉 وذلك أنّ من كانت تلك حاله فبدنه ممتلئ.
(٣٠) قال أبقراط: كلّ هزال فإنّه يرخي الجلد ثمّ إنّه من بعد يتمدّد والسمن يحدث أضداد ذلك وتغضّن الجلد يكون إذا ضمر البدن وتمدّد الجلد يكون إذا سمن البدن والمقشعرّ والأملس يدلّان على واحد واحد منهما واللون الذي يميل إلى لون المرار واللون الذي يضرب إلى الحمرة وكذلك انجذاب الثديين إلى أسفل فإذا هزلا انجذبا إلى فوق وتمدّدا على أنّه ليس أحد يظنّ أنّ ذلك يكون بهذا السبب لاكنّ ذلك إنّما يكون إذا سمنت الترقوتان الباديتان والعروق الدارّة.
قال جالينوس: إنّ عجبي من المفسّرين لشديد إذ كانوا يتضمّنون وحدهم من بين الناس فهم الأقاويل الغامضة التي تجري مجرى الألغاز حتّى لا يقدر أحد من الناس على فهمها ويعجزون وحدهم من بين الناس عن فهم الأقاويل التي هي عند جميعنا بيّنة واضحة. ومن ذلك أنّهم عمدوا إلى هذا القول وليس هو بالغامض
ولا بالمستغلق ولا يجري مجرى الألغاز فجعلوه على أنحاء شتّى فجعل كلّ واحد منهم مقاطع للأحكام التي فيه يخالف ما جعلها الآخر وفسّروه بما يخالف ما يظهر عياناً لجميع الناس. وذلك ممّا كان ينبغي لهم أن يحذروه ويتوقّوه أشدّ من حذرهم لجميع الأشياء. وذلك أنّ أبقراط في هذا القول إنّما يقصد إلى ما يظهر في أبدان الناس في حال «هزالها» وحال «سمنها».
وقد يظهر من أمر أولائك المفسّرين أنّه لم يبلغ من فهمهم أن علموا ما الذي يعني «بالهزال» أفعل حسب ذلك يبعدهم من أن يعلموا جميع ما يظهر فيهم أو الأسباب التي لها تحدث تلك الأحداث فيهم. وممّا يدلّك على أنّهم لم يفهموا ما الذي عنى أبقراط «بالهزل» أنّهم حكموا بأنّ «الهزل» إنّما يكون يشبه الاستفراغ وقد يتوهّم بعضهم أنّه لا فرق بين أن يقول القائل «استفراغ» أو يقول «هزال» إلّا أنّ هذا كما قلنا ممّا ليس يحتاج في معرفته إلى كبير علم. وذلك أنّا نرى أبداناً كثيرة فيها دم كثير وهي من الهزال في الغاية القصوى ونرى أبداناً كثيرة خصيبة إلّا أنّ الدم فيها قليل.
وقد علمتم حال المرأة التي كان طمثها احتبس عليها ثمانية أشهر وكانت في غاية الهزال فأخرجت منها دماً كثيراً ليس باليسير فعاد بدنها إلى حاله بذلك في مدّة يسيرة جدّاً من الزمان. وقد فعلت ذلك بعدد كثير من النساء إلّا أنّ أمر تلك المرأة خاصّة ذاع وانبثّ ذكره. وذلك أنّها لم تكن امرأة كامنة وكانت تهيب عن الفصد وكان الأطبّاء أيضاً يخافون ويتوقّون أن يتضمّنوا لها ثباتاً أنّها ستنتفع بالفصد لا محالة. وبعضهم أيضاً أقدم على معاندتنا فقال إنّ الفصد سيضرّها لا بسبب هزالها فقط لاكن بسبب أنّ شهوتها كانت مختلفة.
والتطويل في هذا أجود من التطويل في البحث عن إيروديقس الذي ذكره أبقراط أيّ الرجلين هو حتّى يوقف على معرفته وقوفاً صحيحاً. لاكنّ الأمر على ما لا أزال أقول مراراً كثيرة من أنّ الحدث من الأطبّاء مالوا وانحرفوا إلى طريق السوفسطائيّين وأغفلوا التفقّد والرصد والاستقصاء لما يظهر في المرضى ويطلبون الأعراض التي عنها تحدث تلك الأحداث وأشباهها. وهذه الأشياء هي الأشياء التي يستخرج منها العلاج للمداواة وذلك أيضاً إنّما يمتحن بالتجربة.
وأمّا المرأة التي ذكرتها قبيل فأخرجت منها في اليوم الأوّل من الدم نحواً من رطل ونصف ثمّ أخرجت لها في اليوم الثاني رطلاً ثمّ في الثالث أرجح من نصف رطل وذلك أنّ ما أخرجت منها في ذلك اليوم كان نحواً من ثماني أواقٍ. ومن كان طريقه طريق السوفسطائيّين فإنّه إذا قرأ قولي هذا أخذ في البحث والطلب من كان من اليونانيّين المستعمل لاسم «الرطل» ومن كان منهم المستعمل لاسم «الأوقيّة». فأمّا من كان قصده قصد الطبيب فإنّه يشتاق إلى أن يعلم أنّ الدلائل الأخر تدلّ على أنّه قد يحتاج في تلك المرأة إلى الفصد سوى احتباس الطمث. وأنا قاصد قصدها خاصّة بعد أن أقول إنّ السوفسطائيّين عليكم الدبار فأخبر به أنّ عروق تلك المرأة كانت دارّة وكانت ترى مملوءة دماً يضرب لونه إلى الكمودة. فلمّا فصدت لها العرق رأيت الدم في لونه وفي ثخنه بمنزلة السيّال ولذلك رأيت أنّه ينبغي أن أستكثر من استفراغها. وهذا القول جرى منّي على الطريق الذي ينتفع به من كان قصده علاج الطبّ على الصواب.
وأنا راجع إلى ما كنت قصدت له فأقول إنّ المفسّرين لم يصيبوا في حكمهم على الإطلاق أنّ «هزال» البدن إنّما يكون عن الاستفراغ. وذلك أنّه قد كان ينبغي لهم أن يشترطوا فيقولوا إنّ «الهزال» هو نقصان جملة جثّة البدن وضمورها أو انضمامها أو كيف شاؤوا هم أن يسمّوا وأمّا غلظ البدن فعلى ضدّ ذلك من قبل أنّه إنّما يزيد حجم البدن.
وربّما كان «الهزال» من أنّ القوّة التي في اللحم قد ضعفت ويكون في العروق الضوارب وغير الضوارب دم رديء وربّما غلظ الدم وخصبه عن ضدّ هذين السببين حتّى يكون ما في العروق من الدم يسيراً لأنّ جملته تنفد في غذاء اللحم ويكون اللحم خصيباً فيخصب بخصبه ويغلّظ جملة حجم البدن. وقد يعرف ذلك جميع النخّاسين أنّ من كثر لحمه تمدّد جلده ويعرفون طبائع من طبائع الأبدان لا يمكن فيها أن تتزيّد خصباً «بتمدّد الجلد». وذلك أنّهم يمدّون الجلد بأطراف أصابعهم فينظرون كم مقدار ما يباعد عمّا دونه من اللحم ويرجون لكلّ واحد من الأبدان التي قد هزلت من العودة إلى الخصب بحسب ما يجدون الجلد يمتدّ. وذلك أنّ الجلد إنّما يكون مسترخياً فيمن قد هزل أو يكون متمدّداً فيمن قد سمن وغلظ.
«والهزال» يكون من أسباب كثيرة وذلك أنّه قد يكون سبب «الهزال» قلّة الغذاء والرياضة التي هي أكثر من المقدار الذي يحتاج إليه والسهر والهموم والآلام والأمراض التي تذوّب البدن أو تحلّله والاستفراغ الكثير باختلاف البطن وبالقيء وبالعرق أو بالرعاف. وأمّا عودة البدن إلى «الخصب» فإنّما يكون بطريق واحد وهو
اعتدال جميع الأشياء التي يحتاج إليها في حال الصحّة وتلك الأشياء هي كما سيقول أبقراط فيما بعد «التعب والأطعمة والأشربة والنوم والجماع».
فالجهات التي يحدث للبدن «الهزال» كثيرة ويعمّها كلّها أنّ «الجلد» في أوّل الأمر «يسترخي عند الهزال ثمّ إنّه بعد يتمدّد» وذلك إنّما يكون إذا بقي الهزال ودام ولم تعاقبه عودة من البدن إلى الخصب متى عاد البدن إلى الخصب فإنّه يعرض ضدّ ما ذكرنا وذلك أنّ الجلد يتمدّد. وأمّا الأسباب في حدوث هذه الأشياء فقد سمعتموها هي مراراً كثيرة وأنا واصفها في هذا الموضع بجمل وجيزة بعد أن تتذكّروا ما رأيتموه مراراً كثيرة في الأزقاق وفي الجُرُب. وذلك أنّ الفضاء الذي في أجواف الأزقاق والجرب إذا امتلأ تمدّد الجلد حوله وإذا تفرّغ الفضاء استرخى ذلك الجلد فكذلك يكون الأمر في أبدان الحيوان. وذلك أنّه متى خصبت وسمنت رأيتَ الجلد يتمدّد وتراه مسترخياً في الأبدان التي تهزل. وذلك أنّه كما أنّ الرطوبة التي تصبّ في الأزقاق تمدّد صفاقها كذلك اللحم إذا كثر في أبداننا مدّد الجلد من حوله. وأنت قادر أن تتفقّد الجلد حتّى تراه رؤية بيّنة في السمن من الأبدان بحال من التمدّد من كلّ جهة لا تقدر معها إذا اجتذبتَه بيدك أن تفرّق بينه وبين اللحم الذي دونه ولو يسير تفريق وتراه في المهازيل بحال من الاسترخاء يمكن معها أن تمدّه وتفرّق بينه وبين اللحم الذي دونه تفرقة كثيرة جدّاً حتّى يمكنك أن تنفذ فيه إبرة من غير أن تنقب تلك الإبرة شيئاً من الأجسام التي دون الجلد.
وإلى هذا الموضع قد فهم جميع المفسّرين هذا القول على الصواب ثمّ إنّهم اضطربوا من أنّه أتبع قوله «إنّ كلّ هزال فإنّه يرخي الجلد» بأن قال «إنّه من بعد يتمدّد». وذلك أنّهم قالوا إنّ السبب الذي أحدث في الجلد الاسترخاء ما دام
باقياً فليس يمكن أن يحدث منه ضدّ استرخاء. ولذلك ظنّ قوم أنّ قوله «ثمّ إنّه من بعد يتمدّد» دائماً أراد به عند عودة البدن إلى الخصب ولم يفهموا أنّ ما يتلو هذا القول قد نافر قولهم حين قال: «والسمن يحدث أضداد ذلك». وذلك أنّا إن أتبعنا معناهم في التفسير صار معنى هذا القول على هذا المثال: «كلّ هزال فإنّه يرخي الجلد وإذا عاد إلى السمن فإنّه يتمدّد وأمّا السمن فإنّه يحدث أضداد ذلك».
وأنا مبيّن تناقض هذا القول فأقول إنّه من أولى الأمور أنّه لم يكن ينبغي أن يقول لو كان هذا معناه «إنّ السمن يحدث أضداد ذلك» لاكن إنّما كان ينبغي له أن يقول «إنّما يحدث ضدّ ذلك». وذلك أنّه إنّما ذكر في هزال حادثاً واحداً فيجب من ذلك أن يكون الشيء الذي يحدثه السمن شيئاً واحداً وهو ضدّ ذلك الشيء. فإن كان «الهزال يرخي الجلد» فيجب أن يكون «السمن يمدّد الجلد». والثاني بعد هذا أنّه يوجد قد قال الشيء الواحد بعينه مرّتين متواليتين على أنّ الأسهل والأوجز إن كان يقول هذا القول: «كلّ هزال فإنّه يرخي الجلد وكلّ سمن فإنّه يمدّد الجلد» فعلى ماذا يدلّ قوله حين قال: «〈ثمّ إنّه من بعد يتمدّد〉»؟ إنّ المعنى في قوله هذا ليس هو شيئاً غير الشيء الذي يفهمه جميع الناس فهماً بيّناً وهو أنّ البدن إذا هزل استرخى منه الجلد أوّلاً فإذا تمادى به الزمان تمدّد الجلد وذلك يكون إذا دام به الهزال ولم يعد فينتعش ويسمن. وأمّا عند انتعاش البدن وعودته إلى السمن فيكون ضدّ ذلك من قبل أنّ الجلد أوّلاً يتمدّد ثمّ إنّه من بعد على طول المدّة يصير أشدّ استرخاء.
ولو كان المفسّرون لهذا الكتاب قصدوا بعقولهم قصد عناية إلى ما يظهر عياناً مثل أبقراط لقد كانوا هم سيرون أيضاً هذه الأمور تجري هذا المجرى. وأنا مذكّر أيضاً بما قد رأيتموه عياناً رؤية بيّنة ثمّ أقصد بعد ذلك لصفة الأسباب التي تعرف «بالتخسّف». ونذكر حال الجلد في أصحاب هذه العلّة كيف يكون متمدّداً بمنزلة الجلد الذي قد سلخ ثمّ جفّ. وما هو بعجب أن يرى الجلد متمدّداً في أصحاب تلك الحال وقد جفّت أبدانهم على طول المدّة إذ كنّا قد نجد ذلك قد يعرض في أحيان من الأيّام الأول من المرض. فقد ذكره أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة وهو يضيف الأعراض التي تعرض في أوّل المرض في عداد سائر الدلائل التي تعرض في الوجه: «إنّ الجلدة التي على الجبهة تكون صلبة متمدّدة».
وقد علّم أبقراط أنّ الجلد إنّما يصير بتلك الحال بسبب الاستفراغ بما ذكره بعد حين قال: «إنّه ينبغي لك أن تسأل هل سهر ذلك الإنسان أو لان بطنه ليناً شديداً أو أصابه شيء من الجوع». لاكنّ هذا أمر قد اتّفق عليه جميع من رأى رأي أبقراط وجميعهم كأنّه ينطق بلسان واحد فيقولون إنّ بسبب الاستفراغ الكثير الذي ربّما كان محسوساً وربّما كان غير محسوس قد يصير الوجه بهذه الحال التي وصفها أبقراط حين قال: «إنّ الأنف يحتدّ وتغور العينان ويلطأ الصدغان وتبرد الآذان وتنقبضان وتنقلب شحمتاهما وتصلب الجلدة التي على الجبهة وتتمدّد». فإذا كان ما يظهر من هذا يدلّنا دلالة بيّنة أنّ الاستفراغ القويّ يحدث في الجلد الحال التي هي ضدّ حاله المعتدلة فقد بان قولهم إنّه وإن كان مقنعاً فإنّه ليس
بصحيح أعني القول الذي قالوه إنّ الأسباب التي أحدثت الحال إذا بقيت ودامت ليس يمكن أن تنتقل إلى ضدّها. وذلك أنّا قد نراها عياناً تنتقل عند إفراط الاستفراغ كان من الاستفراغ محسوساً فدام مدّة طويلة أو كان غير محسوس عندما يعرض لأبدان الأعلّاء تذوّب أو تحلّل. وما دام الاستفراغ لم يبلغ إلى جوهر الجلد الذي يخصّه فإنّ الجلد يسترخي بمنزلة ما تسترخي الأزقاق والجرب والأوساق إذا تفرّغت. وإذا طال الاستفراغ ودام فإنّ الجلد يصير بمنزلة الجلد المسلوخ اليابس وبمنزلة الدفاتر التي لا يمكن فيها التمدّد لصلابتها وكذلك نرى الجلد من الزقاق والمثانة يصير إذا جفّ جفوفاً شديداً. فأمّا ما دام رطباً ليّناً ويقبل في الفضاء الذي في جوفه شيئاً ثمّ يخرج به فإنّه إذا قبل ذلك حتّى يمتلئ امتلاء شديداً يتمدّد وإذا استفرغ استرخى.
فقد أحسن أبقراط في قوله «إنّ كلّ هزال فإنّه يرخي الجلد ثمّ إنّه من بعد يتمدّد» وذلك أنّا قد نجد ذلك عياناً يكون على ما وصف. وقد وصف السبب فيه وقد أحسن أيضاً في قوله «إنّ السمن يحدث أضداد ذلك». وذلك أنّ الجلد في أوّل الأمر يتمدّد 〈…〉 ثمّ إنّه على حدوث الصلابة فيه عند «الهزال» من بعد حدوثها فيما وراءه من اللحم وكذلك حدوث اللين فيه عند العودة إلى «السمن» إنّما يكون من بعد حدوثه فيما وراءه من اللحم. فإذا كان قد صلب وجفّ بهزال ثمّ أعقب ذلك عودة إلى السمن فإنّ اللحم أوّلاً إذا زاد فقد يجب أن يمتدّ الجلد. فإذا دام ذلك ونال الجلد من الغذاء صار أرطب وألين ممّا كان ولذلك يعود فيسترخي أيضاً بمنزلة الدفاتر والجلود الرقيقة اليابسة إذا بلّت بالماء ثمّ دهنت بالدهن والشحم. فهذه المعاني على أنّ أبقراط قد صدق فيها وصرّح بها لم يفهمها المفسّرون وتأوّلوا الكلام فيها تأويلاً رديئاً بجهلهم بالأمور التي قصد لذكرها.
وأمّا ما قيل بعد هذا الكلام على أنّه ليس بالبيّن مثل الذي تقدّم ولعلّه أن يكون أيضاً ممّا ألحق إلحاقاً في هذا الكتاب فقد يرى المفسّرون أنّها أقاويل بيّنة على أنّهم قد يختلفون في تأويلها ليس بدون اختلافهم فيما تقدّم ويغيّرون النسخ القديمة. وأنا واضع جزء جزء من تلك الأقاويل وأتكلّم فيها كيما يكون كلامي في ذلك أبين.
(٣١) قال أبقراط: وتغضّن الجلد يكون إذا ضمر البدن وتمدّد الجلد يكون إذا سمن البدن.
قال جالينوس: قد بيّنت فيما تقدّم أنّ الجلد عند الهزال يسترخي قبل أن يناله شيء في نفس جوهره فإذا ناله ذلك تمدّد وأنّ «البدن إذا» عاد «فسمن تمدّد الجلد» 〈و〉إذا جفّ على طول المدّة في وقت الهزال انتقل إلى ضدّ حاله الأولى فتمدّد.
وأمّا في هذا القول فذكروا أنّ «البدن إذا ضمر تغضّن الجلد وإذا عاد فسمن تمدّد الجلد». فاليونانيّون إذا وصفوا البدن والجلد «بالتغضّن» فإنّما يعنون بذلك ما صارت فيه غضون مع تقبّض وتشنّج كالذي نراه في أبدان المشايخ فسمّى تلك الحال من الجلد والبدن «تغضّناً». وقد نرى تلك الحال تحدث لأبدان المرضى عند انحلال الأورام وخاصّة إذا كان الدم الذي كان محتقناً في الموضع الوارم قد تحلّل ثمّ وضع عليه الواضع دواء فيه قوّة قابضة عفصيّة. وذكر أبقراط أنّ هذه الحال إنّما تحدث للبدن «إذا ضمر» يعني إذا نقص ما يحويه الجلد حتّى يلطأ به الجلد وتجتمع أجزاؤه بعضها إلى بعض.
وأمّا الحال المضادّة لهذه وهي الحال التي تكون إذا تزيّد في الطول والعرض فإنّ الناس يسمّونها «تمدّداً». وربّما عرض أن يكون التمدّد أو التقبّض في الطول
فقط وفي العرض فقط لاكن في هذا القول قد ينبغي أن يفهم عنه التمدّد والتقبّض في القطرين جميعاً. ومن فهم القول الذي قبل هذا فليست به كبير حاجة إلى هذا القول.
(٣٢) قال أبقراط: المقشعرّ والأملس يدلّان على واحد واحد منهما واللون الذي يميل إلى لون المرار واللون الذي يضرب إلى الحمرة.
قال جالينوس: قد كتب قوم مكان «المقشعرّ» «المتغضّن» حتّى جعلوا افتتاح هذا القول «المتغضّن والأملس يدلّان على كلّ واحد منهما». لاكن لمّا كان قد وصف قبل أمر التغضّن في القول الذي قبل هذا كان الأوجب أن يكون ذكره في هذا القول «للمقشعرّ» لا للمتغضّن. وقد كان أبقراط يقصد بذكر «المقشعرّ» للإشارة إلى الحال التي تكون في الأبدان المتغضّنة أنّها تشبه حال أبدان «المقشعرّين». والتشابه بين هاتين الحالين يكون في اختلاف صفحة الجلد وما يعرض فيه من الحال الشبيهة بالخشونة حتّى يخيّل إليك أنّ بعض أجزائه قد عادت إلى داخل وبعض أجزائه ناتئة بارزة. وذلك أنّه إذا كان هذا العارض في أجزاء المدد بينها يسيرة جدّاً من الجلد كلّه قد يسمّي هذا العارض «اقشعراراً».
〈و〉افهم عنّي أنّ حال البدن «الأملس» شبيهة بحال البحر عند سكون الريح وأنّ الحال في «الاقشعرار» كالحال عندما يبتدئ الاضطراب في البحر. «والملاسة» توجد في الأبدان التي تعود إلى السمن والحال الشبيهة بحال «المقشعرّ» توجد في الأبدان التي حالها ضدّ تلك الحال. فيجب من ذلك أن تكون واحدة واحدة من هاتين الحالين 〈بدليل على واحدة واحدة من الحالين〉
الأخريين وليس كلّ واحدة من الحالين بدليل على كلتي الحالين الأخريين ولا كلتا الحالين دليل على كلّ واحد من تينك الحالين الأخريين.
وعلى هذا المثال أيضاً فإنّ «اللون الذي يميل إلى لون المرار واللون الذي يضرب إلى الحمرة» يدلّ واحد واحد منهما على واحدة واحدة من تينك الحالين الأخريين أمّا «اللون الذي يميل إلى لون المرار» فيدلّ على حال البدن 〈…〉 وأمّا «اللون الذي يضرب إلى الحمرة» فيدلّ على حال البدن الذي يميل إلى السمن. وذلك أنّ البدن يصير فيمن يهزل المرار عليه أغلب للأسباب التي تحدث الهزال وقد وصفتها لك فيما تقدّم من قولي. ويصير البدن فيمن يسمن إلى أن يكون الدم عليه أغلب وذلك أنّ البدن لا يمكن أن يخصب ويسمن من غير أن يكثر فيه الدم المحمود.
ويتلو هذا القول الذي تقدّم حرف وهو قوله «كذلك». وقد عمد قوم إلى هذا الحرف فعزلوه عن هذا القول الذي تقدّم فجعلوه افتتاح القول الذي بعده ووصله قوم بآخر هذا القول الذي تقدّم فجعلوه انقضاء وذلك أنّه قد يحتمل التأويل على الوجهين جميعاً. فليس ينبغي أن نقصد للبحث عن هذا بحرص واجتهاد لاكن ينبغي أن نقبل على ما يتّصل بما ذكرنا فنجعل افتتاح القول الذي يتلو ما تقدّم قوله «كذلك» إذ كان أكثر المفسّرين قد رأوا أنّه ينبغي أن يجعلوه افتتاح ذلك القول.
(٣٣) قال أبقراط: كذلك انجذاب الثديين إلى أسفل فإذا هزلا انجذبا إلى فوق وتمدّدا على أنّه ليس أحد يظنّ أنّ ذلك يكون بهذا السبب لاكن إنّما يكون إذا سمن البدن.
قال جالينوس: هذه النسخة القديمة وقد غيّرها المفسّرون. فبعضهم غيّرها تغييراً يسيراً كالذي فعل سابنس فإنّه كتب هذا القول على هذه النسخة: «كذلك انجذاب الثديين إلى أسفل إذا هزلا وغيرهما ينجذبان إلى فوق». فأراد بذلك أن يكون معنى هذا القول أنّ الثديين في حال الهزال يسترخيان وفي حال السمن ينجذبان إلى فوق.
فأمّا روفس فحفظ النسخة على حالها وحفظ أيضاً تأويل القدماء من المفسّرين فالمعنى فيه ضدّ معنى سابنس في تأويله. وذلك أنّه يزعم أنّ الثديين في حال السمن ينحدران إلى أسفل وفي حال الهزال ينجذبان إلى فوق وكان القول الذي قاله بعد هذا شاهداً على صحّة هذا التأويل. وذلك أنّ أبقراط قال: «على أنّه ليس أحد يظنّ أنّ ذلك يكون بهذا السبب» من قبل أنّ أبقراط تقدّم فقال إنّ عند الهزال يسترخي الجلد وعند السمن يتمدّد فوجد انجذاب الثديين إلى أسفل كأنّه واجب أن يلحق الحال الثانية ولذلك أتبع قوله بأن قال: «ليس أحد يظنّ أنّ ذلك يكون بهذا السبب».
وقد تعلّق بهذا القول قوم من قدماء المفسّرين كانوا من فرقة أصحاب التجارب وهم غلوقياس وإيراقليدس المعروف بطارنطسيّ وزوقسس واشترطوا واتّخذوه حجّة لهم على أهل فرقة أصحاب القياس. وذلك أنّهم ظنّوا أنّهم يقدرون أن يثبتوا من هذا القول أنّ أبقراط موافق لهم في مقالتهم حتّى أنّه لا يثق به بما يجري من القياس على الطريق المقنع لاكنّه إنّما يعتمد على ما يظهر في التجربة فقط. على
أنّا إذا استقصينا الأمر في هذا وجدنا ما يظهر عياناً إذا قيل على غير استثبات وتحصيل كان باطلاً على الوجهين جميعاً أعني إن قلنا: «إنّ الثديين ينجذبان إلى أسفل ويسترخيان عند الهزال» أو إن قلنا: «إنّهما ينجذبان إلى فوق». وقد كان ينبغي لهم أن يكونوا قد استقصوا البحث عن هذا بادئاً حتّى يقفوا منه على حقيقته. وذلك كان واجباً على أهل فرقة أصحاب التجارب وعلى أهل فرقة أصحاب القياس أمّا على أصحاب التجارب فمن قبل أنّهم يزعمون أنّ شأنهم الحفظ لما يظهر عياناً وذكره وأمّا على أصحاب القياس فمن قبل أنّهم إنّما ينبغي أن يصفوا الأسباب في الأشياء الموجودة لا في الأشياء التي ليست موجودة.
وأنا مخبرك بالشيء الذي يظهر في ذلك عياناً بعد أن رصدته وتفقّدته في عدد كثير جدّاً من النساء وسألت عنه خلقاً كثيراً لا من القوابل فقط لاكن ممّن لا يعرف من هذا الباب شيئاً. وذلك أنّ من كانت هذه حاله من النساء فهو أحرى بأن يصدق ما يخبر به عمّا يظهر عياناً ممّن قد اعتقد مقالة من المقالات فأعمته وحالت بينه وبين النظر الشافي إلى تلك الأشياء التي تظهر عياناً.
وهذا هو الشيء الذي يعرض من هذا الباب: أقول إنّ الثديين متى امتلأ من اللبن تزيّدا في جميع أقطارهما وذلك أنّهما ينبسطان إلى العلوّ وفي العرض وتراهما أطول ممّا كانا. فإذا تفرّغا من اللبن صارا أنقص ممّا كانا وينقصان في الأقطار الثلاثة. ومتى تبدّلت حالهما من غير أن يكون فيهما لبن في الهزال والسمن فقط كسائر الأعضاء فإنّ حالهما تكون بحال سائر الأعضاء. وذلك أنّهما يسترخيان أوّلاً عند الهزال ويمتدّان عند السمن فإذا طالت بهما مدّة الزمان صارا إلى حال هي ضدّ حالهما الأولى. وذلك أنّ الجلد إذا جفّ عند إفراط الهزال قصر الثديان وإذا رطب الجلد عند تزيّد السمن طالا كما قلت قبل. وممّا يحقّق ذلك عندكم أنّك
تجدهما على هذا القياس في العجائز يسترخيان أوّلاً ثمّ إنّهما بأخرة ينجذبان إلى فوق.
فقد خبّرت بالأشياء التي تظهر عياناً في الثديين وأضيف إلى ذلك أيضاً الأسباب فيه. وأمّا المفسّرون فلم يفعل واحد منهم البتّة هذا لاكنّ كلّ واحد منهم كتب هذا الكلام على ما أراد وفسّر ما جاء به من الألفاظ من عند نفسه بالواجب كانت تأويلاتهم ونسخهم في ذلك متضادّة. وذلك أنّ هذا الكلام لمّا كان كلاماً تامّاً ناقصاً غير محدود ولا محصول فكيف قال القائل فيه †اٮٮٮع† له الأمر حتّى يكون في قوله صادقاً من وجه من الوجوه وكاذباً في وجه آخر إذا كان الثديان إذا امتلآ من اللبن ينطفان وإذا تفرّغا تنقصا؟ ومن غير اللبن إذا صار إلى حال الهزال أمّا في أوّل الأمر فيسترخيان ثمّ إنّهما بأخرة ينجذبان إلى فوق وإذا صار إلى حال السمن أمّا في أوّل الأمر فإنّهما ينجذبان إلى فوق ثمّ إنّهما بأخرة يسترخيان قليلاً. وفيهما أيضاً في حال السمن من قبل أنّ بعض الناس قد يعود بدنه إلى السمن أن يجفّف الجلد حتّى يتمدّد وبعضهم يعود إلى الهزال قبل أن تبلغ منه الرطوبة أن ترطّب الجلد حتّى يسترخي.
ثمّ قيل بعد هذا:
(٣٤) 〈قال أبقراط〉: الترقوتان الباديتان والعروق الدارّة.
قال جالينوس: ما كان من الأقاويل على هذا المثال فليس يتبيّن منه معنى قائله فيه إذ كان صاحبها لم يستثن فيها فيمن عنى أنّ تلك الأشياء التي ذكرها تظهر. وقد نجد في كثير من المهازيل بالطبع «الترقوتين باديتين والعروق دارّة» مملوءة ونجد أيضاً أبداناً أخر لا تظهر فيها الترقوتان ولا العروق كما قد نجد هذا الاختلاف
بين الأبدان بالطبع كذلك قد نجده في الأبدان التي تزول عن طبيعتها الأولى حتّى تصير إلى حال الهزال أو إلى حال السمن وتكثر فيها الأخلاط أو تقلّ. فإنّ من البيّن أنّ «العروق الدارّة» الممتلئة في البدن المهزول تدلّ على أنّ فيها دماً كثيراً وفي أكثر الحالات يكون ذلك الدم رديئاً كما قلت قبيل في المرأة التي كان احتبس طمثها.
وإنّ في أمر قافيطن لعجباً إذ كان وحده دون غيره من المفسّرين قد كتب مكان هذا القول الذي تقدّم قولاً غيره بهذا اللفظ وهو هذا: «الامتلاء الشديد ظاهر والعروق دارّة». وذلك أنّ هذا القول لو كان وجده مكتوباً على هذا ألما كان شيء يضطرّ جميع المفسّرين أن ينقلوا هذا الكلام من هذه النسخة ومعناها على ما هو عليه من الظهور إلى نسخة يكون المعنى فيها أغمض؟ فإنّهم إنّما يضطرّون إلى تغيير الكلام حتّى يكتبوه بخلاف النسخة التي وجدوها عليه إن أعيتهم الحيلة في تأويله وهو باقٍ على نسخته الأولى فيلتمس بتغييره اتّساع الأمر لهم في تأويله. ومع هذا أيضاً فإنّي ما وجدت نسخة أصلاً فيها هذا الكلام على ما كتبه قافيطن على كثرة ما نظرت فيه من النسخ لأنّي أردت بذلك أن أعرف النسخ القديمة التي اتّفق عليها جميع الناس والتي اختلفوا فيها. فإذ كان جميع المفسّرين إنّما يعرفون هذا الكلام على تلك النسخة وجميع الكتب إنّما يوجد فيها مكتوباً عليها فإنّ قابيطن لم يصب في نقله إيّاها عن حالها. ولعلّ أنا أيضاً أن أكون قد أسأت في ذكر نسخته إذ كنت قد تقدّمت فقلت إنّي ملغٍ في تفسيري ذكر كلّ ما أفسده
المفسّرون على هذا الطريق في النسخ. وأنا فاعل ذلك في تفسيري للأقاويل التي تأتي بعد إشفاقاً منّا من التطويل.
(٣٥) قال أبقراط: كان إيروديقس يقتل المحمومين بالدوران الكثير والصراع والتكميد وذلك رديء من قبل أنّ الصراع والدوران والإحضار والجوع والدلك عدوّ مبين لصاحب الحمّى ومقابلة النصب بالنصب في هؤلاء.
قال جالينوس: قد كتب هذا القول أيضاً كلّ واحد من المفسّرين على نسخة غير النسخة التي كتبها غيره فبدّل بعضهم نظام ما ذكر فيه حتّى صيّروا القول على هذا المثال: «كان إيروديقس يقتل المحمومين بالدوران والصراع الكثير» وحذف بعضهم ذكر «الصراع» منه وألحق بعضهم في أوّل هذا القول ذكر «الجوع». وأبقراط يعني «بالدوران» المشي على تمهّل مدّة طويلة من الزمان كما قال في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة عندما قال: «التطواف بالدوران البطيء الكثير». وقد ذكر أيضاً فلاطن إيروديقس فقال إنّه كان يستعمل الكثير من المشي. والبحث في هذا الموضع عن إيروديقس هذا الذي ذكره أبقراط أيّ الرجلين هذا عنى إروديقس بن لانطنس أو إيروديقس بن سلمرياس فضل لا يحتاج إليه. وذلك أنّي سأصف جميع أشباه هذه الأشياء في قول آخر غير هذا وأمّا الآن فليس هذا وقت البحث عن الأقاصيص إذ كنّا قد تركنا ذكر تأويلات تأوّلها قوم من المفسّرين ونحن مع ذلك نتمنّى أن نتمّ شرحنا لهذه المقالة في ثماني مقالات.
وبيّن أبقراط ماذا رام إيروديقس ولامه بقوله «إنّ الدوران والجوع عدوّ مبين لصاحب الحمّى». وبيّن أنّ سائر الأشياء أيضاً التي عدّدها كلّ واحد منها «عدوّ لصاحب الحمّى» وذلك أنّ كلّ واحد من «الصراع والتكميد والدلك والإحضار» مضادّ لصاحب الحمّى. فإنّ معناه في قوله «عدوّ» إنّما هو أنّه مضادّ ضارّ من قبل أنّ اليونانيّين قد يستعملوا أيضاً اسم «الوليّ الحبيب» على طريق الاستعارة والتشبيه على الشيء الموافق الملائم النافع.
وقد عمد قوم إلى اللفظة التي بين هذين القولين وهي قول «رديء» فأضافها بعضهم إلى قوله الأوّل وهو قوله «كان إيروديقس يقتل المحمومين بالدوران الكثير والصراع والتكميد» وجعلها بعضهم افتتاح القول الثاني وهو قوله «إنّ الصراع والدوران والإحضار والجوع والدلك عدوّ مبين لصاحب الحمّى». وليس أحد ممّن قد عانى أعمال الطبّ يجهل أنّ المشي والإحضار والتكميد والصراع وكلّ ما يزيد في الحرارة التي في البدن يضرّ المحمومين.
وأمّا إيروديقس فكأنّه رجل لم يذهب عليه استخراج مداواة الأمراض بطريق القياس فقط لاكنّه قد ذهب عليه مع ذلك حفظ ما حفظ ممّا يظهر عياناً على طريق أصحاب التجارب. وذلك أنّ القياس يمنع من أن يداوى «النصب بالنصب» أعني الضرر بالضرر والشيء الرديء بالرديء مثله. وذلك أنّ الشيء الذي يعالج به لا ينبغي أن يكون مشابهاً للعلّة المؤذية للبدن لاكنّه إنّما ينبغي أن يكون مضادّاً لها. وإيروديقس كأنّه يقصد إلى أن يقابل العلل بما يشابهها إذ كان يستعمل في «المحمومين المشي الكثير والصراع والدلك والتكميد والجوع». وينبغي أن يفهم عنه قوله «التكميد» كلّ تسخين يلقى البدن من خارج كان ذلك التسخين بنار أو
كان بحمّام. «والتجويع» أيضاً مضادّ لأصحاب تلك الحال إذ كان أبقراط قد قال: «إنّ أصحاب الجوع لا ينبغي أن يتعبوا».
ولم يقتصر المفسّرون على تحريف أوّل هذا القول حتّى حرّفوا أيضاً ما يتلو أوّله إلى آخره فكتب كلّ واحد منهم على نحو ما أراد. وأمّا أنا فإنّي أختار النسخ القديمة وإن كان التأويل لها أصعب.
وأمّا الحرف الملحق في آخر هذا القول 〈…〉 الذي بعد هذا فحذفه قوم البتّة وذلك أنّه كأنّه ليس يدلّ على معنى غير ما ذكرنا.
(٣٦) 〈قال أبقراط〉: حمرة العروق والكمودة والخضرة وأوجاع الأضلاع الخالية.
〈قال جالينوس〉: قد قلت إنّ اللفظة الملحقة في آخر هذا القول الذي قبل هذا قد يمكن أن تجعل افتتاح هذا القول حتّى يصير على هذا المثال: إنّ هؤلاء الذين تقدّم ذكرهم وهم الذين بهم حمّى وقد جنى عليهم إيروديقس فاستعمل فيهم الحركات الموافقة للأصحّاء تعرض لهم هذه الأعراض التي ذكرها وعدّدها في هذا القول. ومن البيّن أنّه ليس تعرض هذه الأعراض كلّها لكلّ واحد من الناس وذلك أنّه ليس يمكن أن تجتمع «الحمرة» مع «الكمودة» ولا مع «الخضرة» لأنّ كلّ واحد من هذه الثلاثة يبطّل وجود الاثنين الباقيين وكلّ واحد منهما على علّة غير مشابهة للعلّة التي حدث عنها الآخر. وذلك أنّ من كانت قوّته صالحة وكان دمه محموداً فإنّه إذا استعمل الرياضة والتكميد «احمرّ» بدنه وأمّا من كانت قوّته ضعيفة أو كان في بدنه أخلاط رديئة فإنّ بدنه عند الرياضة والتكميد يصير إلى حال «الكمودة والخضرة».
وقد زاد قوم في هذا القول ذكر «الانتفاخ» فجعلوا هذا القول على هذا المثال: «انتفاخ العروق والحمرة والكمودة والخضرة». وأمّا قوله في آخر هذا الكلام «وأوجاع الأضلاع الخالية» 〈…〉 وقد سلكوا في ذلك طريقاً قريباً من الإقناع والقبول. ويعنى بالمواضع «الخالية» في لسان اليونانيّين أسفل البطن لأنّ ذلك الموضع كأنّه أخلى المواضع من البدن. وكأنّهم أرادوا أنّ الذين يستعملون الرياضة والتكميد في غير وقت الحاجة إليهما أو تسخن أبدانهم بضرب من الضروب من غير حاجة إلى ذلك تعرض لهم مع «أوجاع الأضلاع» أوجاع فيما دون الأضلاع من البطن وهي المواضع التي تسمّى «الخالية». وأمّا جميع المفسّرين فإنّما يعرفون النسخة التي فيها «وأوجاع الأضلاع الخالية» ويفهمون من «الخالية» الأوجاع التي ليس معها ورم ولا تمدّد.
(٣٧) قال أبقراط: ممّا يقطع العطش ضَمّ الفم والصمت وإدخال الريح الباردة مع الشرب.
قال جالينوس: إنّ أبقراط كتب هذا القول على أنّه أحد الأبواب التي يمكن أن تتذكّر بها جملة علاج المحمومين وهو مع ذلك أيضاً ممّا يمكن أن يتبيّن به سوء تدبير إيروديقس للمحمومين ورداءة علاجه لهم. وذلك أنّه ليس ينبغي أن يلتمس لهم ما يسخّن أبدانهم حتّى يجلب لهم العطش لاكن إنّما ينبغي أن يلتمس لهم ما «يقطع عنهم العطش». وأولى الأشياء التي «تقطع العطش» عن المحمومين الحال المضادّة لحركات البدن وهي سكونه ثمّ هي من بعد ذلك سائر الأشياء
التي تسكّن بها عادية الحمّى وتجنّب الأشياء التي تلهبها وتشعلها فأحد تلك الأشياء التلطّف «لقطع العطش» عن المحمومين وخاصّة حتّى لا يعطش.
وعدّد الأشياء التي تمنع من «العطش» فقال: «ضمّ الفم والصمت وإدخال الريح الباردة مع الشراب» — يعني بذلك أن يجتذب المحموم مع شرابه ريحاً باردة. وإذ كان قد ينبغي أن يجتذب الريح الباردة مع شرابه فبيّن أنّه قد ينبغي أن يجتذب الريح الباردة من غير أن يترك أيضاً عند الاستنشاق بالتنفّس وحده. فيجب من ذلك أن يعنى بالهواء الذي في البيت الذي يأويه المريض كي لا يكون أسخن من المقدار الذي ينبغي وخاصّة في الصيف.
وقد أقدم في هذا القول أيضاً قابيطن وديسقوريدوس غاية الإقدام فغيّر النسخة القديمة وكتباه على هذه النسخة: «ويجتنب إدخال الريح الباردة مع الشراب». إلّا أنّ ديسقوريدوس على حال قد وضع إلى هذه النسخة نسخة ثانية من خارج كما من عادته أن يفعل فيها: «وإدخال الريح الباردة مع الشراب». وأمّا قابيطن فلم يرض بأن يذكر هذه النسخة الثانية الموجودة في جميع الكتب وقد اتّفق عليها جميع المفسّرين لاكنّه أضاف إليها «التجنيب» فكتب مكان «إدخال الريح الباردة» «وتجنيب إدخال الريح الباردة» كأنّه لا ينبغي في حال من الأحوال للمحموم أن يستنشق الهواء البارد.
(٣٨) قال أبقراط: ينبغي أن تطلب الأسباب التي منها ابتدأت العلّة كان الوجع في الرأس أو كان في الأذن أو في الجنب. وممّا يدلّك على ذلك الأسنان واللحم الرخو المعروف «بالغدد».
قال جالينوس: إنّي قد شرحت هذا القول في المقالة الأولى من تفسيري للمقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(٣٩) قال أبقراط: القروح التي تحدث فيكون معها بحران الحمّيات والخَراجات إذا حدثت فلم يتبعها ذلك دلّ على سوء البحران. والذين تبقى لهم بقيّة فالعودة فيهم أصحّ ما يكون وأسرعه.
قال جالينوس: وهذا القول أيضاً لمّا كان يتلو القول الذي تقدّم قبله في المقالة الثانية من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا فإنّي قد قلت في شرحه ما ينبغي أن يقال في المقالة الأولى من تفسيري لتلك المقالة.
(٤٠) قال أبقراط: البزاق الذي يستدير يدلّ على اختلاط الذهن.
قال جالينوس: أمّا السبب الهيولانيّ في «استدارة البزاق» فهو غلظ الأخلاط ولزوجتها واجتماعها في قصبة الرئة وأمّا السبب الذي هو كالفاعل لذلك فهو الحرارة
الغالبة في ذلك الموضع. وقد رأيت هذا يحدث في بعض المحمومين فلبث بهم مدّة طويلة حتّى يظنّ بهم أنّه لا بأس عليهم إلّا أنّ جميع هؤلاء بأخرة آلت الحال فيهم أن ذابت أبدانهم على طريق السلّ. فإن كان ذلك في حال من الأحوال مع حمّى وكانت معه دلائل أخر تدلّ على «اختلاط العقل» فإنّه يستدرك منه مع تلك الدلائل الأخر شيئاً في سابق العلم بحدوث «اختلاط الذهن» وأمّا على غير هذا الطريق فليس يدلّ على «اختلاط الذهن». وإيّاك أن تعتمد على هذا الدليل وحده في حال من الأحوال في التقدّم بالإنذار «باختلاط العقل».
وأمّا الدليل الخاصّيّ الدالّ على «اختلاط العقل» فقد سمعتموه منّي مراراً كثيرة وقد قلت في تفسيري لكتاب التقدّم بالإنذار إنّ الحرارة إذا التأمت إلى تلك الأشياء فقد يمكن أن تعين على حدوث اختلاط الذهن من طريق أنّها تملأ الرأس. وأمّا أن تكون الحرارة على انفرادها دليلاً على اختلاط العقل فليس يمكن ذلك وخاصّة في اختلاط العقل العارض لأصحاب البرسام. فأمّا في أوقات نهايات نوائب الحمّى وشدّة عنفوانها فقد تختلط عقول كثير من الناس بسبب امتلاء رؤوسهم في تلك الأوقات لما تدفع إليها الحرارة.
وقد نجد في بعض النسخ ملحقاً في آخر هذا القول «كالذي في فلينس» وفي نسخة أخرى «كالذي في فيلينيون». ومن قبل هذه النسخة ومنهم سابنس وهو يزعم أنّ هذا الاسم اسم موضع من المواضع لاكنّهم لم يذكروا ذلك الموضع من أيّ مدينة هو.
(٤١) قال أبقراط: الذين تنفتح فيهم أفواه العروق في السفلة لا تصيبهم ذات الجنب ولا ذات الرئة ولا آكلة ولا حبون ولا البثور المعروفة «بالبطم» وأخلق بهم أيضاً ألّا تصيبهم العلّة التي يعرفها اليونانيّون «بالتقشّر» وهي من جنس القوابي إلّا أنّها أصعب وأغلظ وأخلق بهم ألّا يصيبهم غير ذلك من العلل.
قال جالينوس: إنّا نجد هذا القول في جميع النسخ ناقصاً وذلك أنّا ليس نجد فيه هذا الحرف الذي زدنا فيه وهو قوله «تصيبهم» وقد ينبغي أن نفهمه في هذا القول عنه وإن لم نجده مكتوباً. والذي من قبله «لا تصيبهم هذه العلل» بيّن واضح وذلك أنّ الأخلاط الرديئة تستفرغ من أبدانهم «بتفتّح أفواه تلك العروق» فتنقّى أبدانهم منها وقد يسرف استفراغ الدم عليهم حتّى تعرض من ذلك في البدن كلّه الحال التي يعرفها اليونانيّون «بسوء السجيّة» والسريانيّون «بسوء المزاج» وتحول أبدانهم. وأمّا شيء من الأمراض التي وصفها فليس يعرض لهم.
وقد قلت في المقالة الثالثة من تفسيري لكتاب أبقراط في الأخلاط إنّه يعني «بالآكلة» القروح التي يحدث فيها التأكّل وقد يسمّيها قدماء الأطبّاء «القروح المتأكّلة» وقد قال هذا القول في ذلك الكتاب أيضاً بهذا اللفظ. وقد فهم عنه قوم من قوله «〈الآكلة〉» الأكل الكثير يحدث عن الأخلاط الرديئة ونحن نوافقهم. على أنّه قد تحدث عن بعض الأخلاط الرديئة شهوة مفرطة للطعام ولاكن «تفتّح العروق في السفلة» ليس هو شفاء لهذا الجنس من الأخلاط الرديئة لاكنّها إنّما هو شفاء للخلط الرديء الذي من جنس السوداء. وأمّا غلبة الحموضة والبرد على
الأخلاط المحدثة لشهوة الطعام الكثير فقد تعرض «من تنفتح فيه العروق في السفلة».
واسم «البطم» أيضاً إنّما يدلّ على بثور تضرب إلى السواد تحدث خاصّة في الساقين وإنّما سمّيت بهذا الاسم من مشابهتها في الشكل واللون والمقدار لثمر شجر البطم وهي الحبّة الخضراء.
وأمّا ما قاله في آخر هذا القول وهو قوله «وأخلق بهم أيضاً ألّا يصيبهم غير ذلك من العلل» فقد حرّفه قوم تحريفاً يسيراً صار به معناه «وأخلق بهم أيضاً ألّا تصيبهم القوابي» من قبل أنّ القوابي أيضاً إنّما تتولّد عن بعض الأخلاط الرديئة إذا اجتمعت نحو الجلدة.
(٤٢) قال أبقراط: وإذا عولج هؤلاء على غير ما ينبغي فكثير منهم لا يلبثون أن تصيبهم هذه الأمراض وتؤدّيهم إلى الهلاك.
قال جالينوس: إنّه يعني بقوله «إذا عولجوا على غير ما ينبغي» ألّا تتعاهد أبدانهم بالفصد ولا تستفرغ أبدانهم بالدواء المسهل أو بالرياضة ولا يترك من أفواه تلك العروق ولا واحد مفتوحاً لاكن يسدّ كلّها دفعة.
(٤٣) قال أبقراط: وسائر أنواع الخراجات الأخر أيضاً كالنواصير هي شفاء لغيرها.
قال جالينوس: إنّا قد نجد أبقراط لا يستعمل اسم «الخرج» «والخراج» على ما تقذف به الطبيعة على عضو من الأعضاء حتّى يغيض فيه فقط لاكن على ما تنفّذه حتّى تخرجه وتنفده عن البدن. «والنواصير» ممّا يدخل في جنس هذه العلل
ويكون بها نقاء البدن من فضول الأخلاط كالذي قيل إنّه ينبغي أن تفعل في علاج أفواه العروق المنفتحة. وكذلك ينبغي أن تفعل في علاج «النواصير» أيضاً وما أشبهها حتّى لا تعالج على غير استظهار ولا احتياط لاكن باستظهار واحتياط على نحو ما وصف من علاج العروق المنفتحة.
(٤٤) قال أبقراط: المغيض الذي يحدث بعد العلل فيكون به التخلّص منها إذا تقدّمت فحدثت منع من حدوثها.
قال جالينوس: هذه النسخة القديمة وقد غيّرها كثير من المفسّرين وأرادوا بتغييرهم لها أن تكون أبين وأوضح. فجعلوا مكان «الذي يحدث» «وتقدّمت فحدثت» «التي تحدث» «وتقدّم فحدث» حتّى يكون الكلام نسقاً على «المغيض». فإنّ جميعهم إنّما فهم عنه من قوله «المغيض» انصباب الفضول إلى عضو من الأعضاء حتّى «يغيض فيه». ولعلّه يكون الناسخ الأوّل الذي نسخ هذا الكتاب قد أخطأ في تخليصه هذا القول وأمّا المعنى فهو واحد بعينه في النسخ وذلك أنّ أبقراط إنّما يريد أنّ انصباب الفضول التي تنصبّ إلى الأعضاء حتّى تغيض فيها بعقب أيّ العلل حدثت حتّى تتحلّل به تلك العلل فإنّ ذلك الانصباب بعينه إذا تقدّم حدوث تلك العلل بأعيانها منع من حدوثها.
وقد يمكن أن يفهم هذا القول على ضروب أخر كما لو قيل بهذا اللفظ: «إلّا أنّ في هذا موضع نظر هل جميع العلل التي يكون بعقبها انصباب الفضول إلى الأعضاء التي تغيض فيها إذا تقدّم ذلك الانصباب حدوث تلك العلل منع من حدوثها». وذلك أنّ القدماء كانوا يكتبون حرف «الياء» وحرف «الألف المقصورة»
بصورة واحدة وهي الصورة التي يكتب بها أحد الحرفين فقط وهو حرف «الألف المقصورة». فبهذا السبب قد عرض خطاء كثير فيما انتسخ من الكتب القديمة وذلك أنّ الذين نسخوها كثيراً ما كانوا لا يلزمون في نقلهم الأحرف القديمة عن صورتها الأولى 〈إلى الصورة〉 التي يكتب بها الآن معنى أصحاب تلك الكتب. ولذلك قد ينبغي أن ننعم النظر والاستقصاء في النسخ التي قد يمكن فيها أن يغيّر حرف «الياء» إلى حرف «الألف المقصورة» أو يفعل ضدّ ذلك فيكون بذلك صلاح الكلام واستقامته. وكذلك ينبغي أن يفعل في حرف «الواو المفتوحة» وحرف «الواو المضمومة» من قبل أنّ هذين الحرفين أيضاً إنّما كانا يكتبان بصورة واحدة.
وقد يجوز في هذا الموضع أن تكون صورة الحرف الثالث من قوله «سكابسس» كانت تدلّ على «الألف المقصورة» حتّى يكون معناها «النظر والبحث» فغيّرها الناسخ الأوّل إلى صورة «الياء» حتّى صارت «سكيبسس» فيدلّ هذا الحرف على «المغيض» فيكون المعنى في هذا القول إنّما هو ما قلته.
(٤٥) قال أبقراط: قد تقبل مواضع أخر من مواضع أخر إمّا بسبب وجع وإمّا بسبب ثقل وإمّا بسبب غير ذلك فتتخلّص بذلك من عللها لاكنّ ذلك يكون في الأعضاء التي في بينها مشاركة.
قال جالينوس: إنّ هذا القول بعينه قد كتب في كتاب أبقراط في الأخلاط في آخر الكتاب مع الأقاويل التي قبله من القول الذي افتتحه بأن قال: «الذين تنفتح العروق في السفلة» وقد فسّرنا هذه الأقاويل في ذلك الكتاب على الشرح الأتمّ. وأنا واصف في كتابي هذا أيضاً جملة معنى هذا القول فأقول إنّ معناه في قوله هذا هو أنّ العلل قد تنتقل من مواضع من البدن إلى مواضع أخر بانتقال الأخلاط المحدثة لها إمّا «لوجع» يحدث بالعضو الذي تنتقل إليه تلك الأخلاط حتّى تغيض فيه وإمّا «لثقل» الأخلاط أنفسها وإمّا لسبب آخر مثل دواء حرّيف يهيّج الموضع إلى أن ينصبّ إليه شيء من تلك الأخلاط أو دلك أو حرارة تحدث فيه من خارج. وقد يكون أيضاً انتقال الأخلاط والعلل الحادثة من مواضع من البدن إلى مواضع أخر بسبب «مشاركة» فيما بين طبائع الأعضاء. ومن ذلك أنّه قد قال في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا: «إنّ ورم الأنثيين بسبب علل السعال قد يذكر المشاركة بين الصدر والأنثيين وبين المولّدة والصوت».
وقد حرّف قوم آخرون تحريفاً صار به معناه مكان «لاكنّ ذلك يكون في الأعضاء التي في بينها مشاركة» «نوعاً آخر من المشاركة». وجعلوا هذا افتتاحاً للقول الذي يتلوه وذكروا أنّه انتقل إلى ذكر نوع آخر من المشاركة يكون بحسب ملاءمة الأخلاط بعضها لبعض. وممّا يصحّح ذلك بزعمهم أنّ أبقراط قال: «الدم قد يقطع فلا يجري من ذي قبل بسبب ميله لاكن ينفثون بالبزاق بسبب ملاءمة
الأخلاط نوعاً آخر شبيهاً به». وعلى هذا كتب روفس هذا القول وجزّأه فجعل قوله «نوعاً آخر من المشاركة» كأنّه جملة من الرسم تدلّ على ما يريد شرحه فيما بعد وجعل ما يتلوه كأنّه شرح لما تقدّم وأشار إليه. فذكر أنّ بين الدم وبين القيح مشاركة فيمن انقطع عنه نفث الدم حتّى لا يجيء منه شيء من ذي قبل لميله إلى ناحية مضادّة لتلك الناحية فإنّه ينفث عند ذلك رطوبات مجانسة للدم وهي الرطوبات التي من جنس القيح. ولذلك كتب هذا القول على هذه النسخة: «لاكن بسبب ملاءمة الأخلاط ومجانستها ينفثون بالبزاق ورطوبات من جنس القيح».
وأمّا سابنس وأشياعه فحفظوا النسخة القديمة على حالها وجعلوا افتتاحها «إنّ الدم لميله ينقطع حتّى لا يجيء من ذي قبل». وأنا آخذ الآن في شرح هذا القول على معنى تلك النسخة.
(٤٦) قال أبقراط: إنّ الدم قد ينقطع حتّى لا يجيء لميله لاكن ينفثون لمجانسة الخلط ما هو شبيه بذلك.
قال جالينوس: إنّي فسّرت هذا القول على الشرح التامّ في المقالة الثالثة من تفسيري لكتاب أبقراط في الأخلاط. وأنا واصف معناه في هذا الموضع أيضاً بقول أوجز من قولي هناك. فأقول إنّه إذا كان الدم يستفرغ من عضو من الأعضاء مثل ما قد يستفرغ من المقعدة أو من المنخرين أو من الرحم أو من البطن على أدوار أو من ناصور أو من غير ذلك من الأماكن ثمّ إنّه مال إلى أعضاء أخر لم يستفرغ من ذي قبل ذلك الذي كان يستفرغ من الموضع الذي كان يستفرغ فيه. وضرب لذلك مثلاً جزئيّاً الدم الذي «يميل» إلى الصدر والرئة. فإنّه إذا مال إلى تلك
الناحية «نفث» صاحبه منها «شيئاً مشاكلاً» لذلك الدم الذي مال إلى تلك الناحية ويختلف ما ينفث بحسب اختلاف ذلك الدم. وإن كان ما ينفث «مشاكلاً مجانساً له» فمتى كان ذلك الدم مائلاً إلى طبيعة الصفراء كان الذي ينفثه أصفر ومتى كان مائلاً إلى السوداء كان الذي ينفثه أسود ومتى كان الدم الذي غاض إلى الصدر والرئة نقيّاً كان ما ينفثه صاحب تلك الحال أحمر مشبّع الحمرة.
وقد أحسن عندي قوم من المفسّرين في حرف ألحقوه في لفظة من هذا القول حتّى صارت تلك اللفظة تدلّ بتحريفها مكان «الميل» على «الاستحالة». وذلك أنّ اللفظة التي تدلّ على الميل هي في لسان اليونانيّين «روفي» فإذا زيد في أوّلها «طاء» حتّى يصير «طروفي» دلّت على الاستحالة. فذهب أصحاب هذا التحريف إلى أنّه صار الذي ينفث يجري أمره على المجانسة والمشاكلة بسبب الاستحالة. وذلك أنّه يستحيل وينقلب حتّى يميل مرّة إلى طبيعة الصفراء ومرّة إلى طبيعة السوداء.
(٤٧) قال أبقراط: من الأبدان ما ينبغي أن يخرج منه الدم في وقته عند أمثال هذه من الأحوال ومن الأبدان ما لا ينبغي أن يخرج منه الدم كما يخرج من أولائك.
قال جالينوس: يقول «إنّ من الأبدان ما ينبغي أن يستفرغ منه الدم» ويعني من كان الدم فيه كثيراً ولم يستحل بعد كثير استحالة إلى خلط آخر «ولا ينبغي أن يستفرغ» من الأبدان التي قد استحال فيها وفرغ. وقد ينبغي أن يكون العرض المتقدّم في استفراغها العرض الذي من القوّة وإن ألغي ذكره في الأقاويل التي يوصف فيها ما نستدلّ عليه ممّا ينبغي أن نفعل من نفس العلل فقط.
(٤٨) قال أبقراط: منع فيمن ينفث بالبزاق شيئاً دمويّاً الوقت وذات الجنب والمرار.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً قد يوجد بعد الأقاويل التي تقدّمت ملحقاً في آخر كتاب أبقراط في الأخلاط على نسخ مختلفة وعلى تأويلات ممّن فسّره أيضاً مختلفة ووجدت جميع تلك النسخ والتأويلات بعيدة ممّا ينبغي أن يقنع به ويقبل. إلّا أنّ الذي رأيته أشبهها وأقربها ممّا يقنع به ويقبل أمّا من النسخ فالنسخة التي تقدّمت وأمّا التأويل فما أنا واصفه: إنّه ينبغي أن يمتنع «فيمن ينفث بالبزاق شيئاً دمويّاً» 〈الفصد〉 بسبب «الوقت» الحاضر من أوقات السنة 〈…〉 الأمر فيه بيّن. وذلك أنّا قد نتوقّى الفصد في الأوقات المفرطة السخونة مثل وقت طلوع الشعرى العبور وكذلك أيضاً قد نتوقّى الفصد في البدن الذي يغلب عليه المرار غلبة قويّة.
وأمّا الامتناع من الفصد في «ذات الجنب» فهو وحده دون ما ذكر كأنّه مقاوم لما يظهر عياناً. وذلك أنّ هذه العلّة لم «تمنع» من الفصد لاكنّه قد يحتاج فيها إليه إذا ما لم تمنع القوّة والوقت الحاضر من أوقات السنة أو السنّ. فيشبه أن يكون المعنى في هذا القول ما أنا واصفه وهو أنّ «من ينفث بالبزاق شيئاً دمويّاً» فقد ينبغي لا محالة أن يفصد له العرق بحسب ما يوجب نفثهم له بسبب علّة «ذات الجنب». فإنّ أصحاب هذه العلّة ليس يجب لا محالة أن تفصدهم كما يجب أن تفصد من ينفث الدم لاكن ينبغي أن تستعمل فيها الشرائط التي تخصّ أصحاب علّة ذات الجنب التي قد توجب مرّة أنّه ينبغي أن تفصدهم ومرّة أنّه لا ينبغي أن تفصدهم.
وإنّما خطر هذا ببالي بعد أن تقدّمت ففسّرت كتاب أبقراط في الأخلاط بعد أن رأيت مريضاً دعاني إليه لأعالجه على أنّه ممّن ينفث الدم وكان قد نفث شيئاً دمويّاً. فلمّا رأيت ما نفث سألت هل يحسّ في جنبه توجّعاً فذكر أنّه قد يجد هناك وجعاً إلّا أنّه يسير. وكان صاحب تلك العلّة من سجيّته وقوّته بحال لو كان معها صاحب نفث دم لقد كنّا سنقدم على فصده لمطاولة تلك العلّة وشدّة حاجتها إلى الفصد. ولمّا كانت علّته إنّما هي ذات الجنب وكانت منها خفيفة يسيرة لم يكن شيء يدعونا ضرورة إلى الفصد ولذلك لم يستعمله. ويتبيّن لنا بياناً شافياً أنّ علّة ذلك الرجل إنّما كانت ذات الجنب 〈…〉 إذا كان ما ينفث فيها دمويّاً كانت أسهل وأسلم.
وقد عمد قوم من المفسّرين إلى اللفظة التي في أوّل هذا القول وهي قوله «يمنع» فوصلوها بآخر القول الذي تقدّمه وقرؤوا هذا القول الذي نحن في شرحه هذه القراءة: «فيمن ينفث بالبزاق شيئاً دمويّاً بالوقت في ذات الجنب المرار» وزعموا أنّه يعني «بالوقت» الشيء الذي يحدث في وقته على ما ينبغي. وذلك أنّه إنّما يريد بزعمه أن يدلّ أنّ في علل «ذات الجنب» إذا «نفثوا» من بدء الأمر «شيئاً دمويّاً» وكذلك يعرض في أكثر الأمر بانتقال ما ينفث في ذلك الوقت على طبيعة «المرار» بعد ذلك يكون في وقته وعلى ما ينبغي. والنظام في علّة «ذات الجنب» بزعمهم إذا جرى أمرها على ما ينبغي نحو البحران أن «ينفث» بعد «الشيء الدمويّ» الذي هو مال إلى طبيعة «المرار».
وقد قال القوم الذين فسّروا هذا القول أقاويل أخر لا تستحقّ أن نذكرها. وأنا لا أزال أشير كما قد علمتم بألّا يطيل أحد الحرص في الأقاويل التي تجري على طريق
الألغاز والرمز إذ كنّا قد نجد في الطبّ أشياء كثيرة من غير هذا الفنّ تتسبّغ لنا فيها الرياضة والتدرّب ممّا فيه منفعة ودرك عظيم.
تمّت المقالة الثالثة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الرابعة
المقالة الرابعة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: التي تحدث عند الآذان نحو البحران فلا تتقيّح فذاك إذا خلا حدثت العودة وتكون العودة على قياس حدوث العودات فيعود فيتورّم ويلبث كلبث عودات الحمّى على دور مثل دورها وفي هؤلاء يتوقّع حدوث الخراج في المفاصل.
قال جالينوس: إنّ من عادة أبقراط عند ذكر الأورام «التي تحدث» للمرضى «عند الآذان» 〈أن〉 يذكرها مرّة بلفظ تامّ ومرّة بلفظ ناقص كما ذكرها في هذا الموضع. فإنّ اللفظ التامّ إنّما كان يكون لو قال على هذا المثال: «الأورام التي تحدث عند الآذان للمرضى» كما قال في المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا في أوّل ذكره للحال الأولى من حالات الهواء حين قال: «وحدث لكثير من الناس أورام
عند الآذان منها من جانب واحد ومنها من الجانبين وكان أكثر من حدث به ذلك ليست به حمّى ويذهب ويجيء ومنهم من كان يسخن سخونة يسيرة». وقد أعلمتك أنّه كما سمّاها في ذلك القول «أوراماً» كذلك قد يسمّيها كثيراً «تربّلاً» فقد بيّنّا أنّه يسمّي جميع الأورام بهذا الاسم وليس يخصّ به كما فعل من أتى بعده الأورام الرخوة التي ليس معها ألم وفي أكثر الأمر أيضاً لا يكون معها تلهّب. وقد حفظنا عنه أيضاً أنّه يسمّي جميع التلهّب «فلغموني» وإن كان من غير ورم وأمّا من أتى بعده فإنّه خصّ بهذا الاسم أيضاً الورم الذي يكون معه التهاب ومدافعة لليد وضربان مؤلم.
فأبقراط يقول في هذا القول إنّه إذا «حدث» في مرض من الأمراض في وقت «البحران» أورام «عند الأذنين فخلت» من قبل أن «تتقيّح» — يعني بقوله «فخلت» ضمرت حتّى لا يرى لها أثر — فينبغي أن «تتوقّع» لمن يحدث به ذلك «عودة» من مرضه. وقد علمتم 〈أنّ〉 من عادته كثيراً في استعمال هذه اللفظة أعني قوله «خلا» أنّه يستعملها على كلّ ما يضمر على أيّ وجه كان ضموره من قبل الموضع الذي يصير أخلى ممّا كانت. فيقول إنّ «عودة» المرض تحدث لمن حدثت به أورام «عند الأذنين فلم تتقيّح». وربّما عاودت تلك الأورام أيضاً من الرأس فإنّي لست أزعم أنّ ذلك يكون دائماً [فـ]ـحدثت أو تزيّدت وانقضت «على قياس العودات» ويعني بذلك على مثالها «وفي أدوار» بأعيانها من الأيّام. قال: «ويتوقّع» لأصحاب هذه الحال أيضاً «حدوث خراجات في المفاصل» فقد قلت مراراً كثيرة إنّ هذا قد يعرض في الأورام التي تطاول وتزمن. وقد شرحت هذا القول أيضاً في المقالة الثالثة من تفسيري لكتاب أبقراط في الأخلاط لأنّه ملحق في آخر ذلك الكتاب.
ولمّا كان أبقراط قد قدّم فقال: «التي تحدث عند الآذان» ثمّ أتبع ذلك بأن قال: «فذاك إذا خلا» دعا ذلك فيما أحسب ديسقوريدوس إلى أن زاد فكتب «فمنذ ذلك إذا خلا» وزعم أنّه ينبغي أن يفهم عنه من قوله «ذاك» «الوقت» أو يفهم عنه من قوله «منذ ذاك» «بعد ذاك». وأنا أقول إنّه إن كان لأحد بالجملة أن يغيّر النسخ القديمة فقد كان يمكنه أن يجعل مكان «فذاك» «فإنّها» ويستريح من العناء.
وكما غيّر ديسقوريدوس هذه اللفظة كذلك غيّر قوم آخرون قوله «وتكون العودة» فكتبوا مكان «تكون» «تنقضي العودة على قياس بحران العودات». فأرادوا أن يكون تأويل هذا القول على هذه السبيل أنّ الأورام التي تحدث عند الآذان ثمّ تبقى فلا تتقيّح إذا جاءت العودة فإنّه يعرض عند انقضاء تلك العودة بالبحران أن تعود تلك المواضع فترم.
(٢) قال أبقراط: البول الثخين الأبيض مثل البول الذي باله المنسوب إلى أنطيجانس في العلل التي تكون مع الإعياء قد يجيء في اليوم الرابع فيكون به التخلّص من الخراج فإذا انفجر مع ذلك دم غزير من المنخرين كان ذلك أحرى جدّاً بأن يكون.
قال جالينوس: إن كانت النسخة الصحيحة هي التي نجد فيها مكتوباً «المنسوب إلى أنطيجانس» فهمنا عنه إمّا عبده 〈و〉إمّا قرابته وإمّا صديقه وإن
كانت التي نجد فيها «المنسوبة إلى أنطيجانس» فهمنا عنه أمّته أو امرأته أو من هي منه بسبب من أسباب القرابة. وقد استعفيت من ذكر الاختلاف بين النسخ إذ كان المعنى فيها معنى واحداً.
وقد ينبغي في هذا الموضع أيضاً أن أذكر بهذا للحاجة إليه في ما يستأنف ويذكر أيضاً أنّه ليس يعني بالحمّيات التي تكون «مع الإعياء» لا محالة الحمّيات التي تكون قد تقدّمتها حركة كثيرة كان حدوثها عنها لاكنّه يعني بذلك جميع الحمّيات التي تكون معها جنس «الإعياء». فقد قال أبقراط في كتاب الفصول: «إنّ الإعياء إذا كان من تلقاء نفسه ينذر بمرض». وفي هذا القول أحرى أن يظنّ أنّه إنّما عنى من به هذا الجنس من «الإعياء» وأكثر ما يكون هذا الإعياء من كثرة أخلاط رديئة غليظة ولذلك إذا استفرغت «بالبول» سكن المرض. وأحرى أن يكون انقضاء المرض أحرز وأوثق إذا كان ابتداء الاستفراغ في يوم بحران فأمّا من لم يصبه بحران من أصحاب هذه العلل لا «ببول» ولا «برعاف» فإنّ من شأن عللهم أن تؤول إلى فضل يندفع إلى بعض الأعضاء حتّى يغيض فيه.
(٣) قال أبقراط: صاحب وجع المفاصل صار المعى منه في الجانب الأيمن فكان أهدأ فلمّا عولج من ذلك حتّى برأ تزيّد به ألمه.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام أيضاً قد يوجد مكتوباً على نسختين يدلّان على معنيين مختلفين. وإحدى النسختين أقدم وفيها «أنطارن» على أنّ في هذه اللفظة
حرف «النون» يتلو حرف «الألف» ومعناها إذا كانت كذلك في لسان اليونانيّين «المعى». وأمّا النسخة الأخرى فيحدث بعد تلك وليس يتلو فيها في تلك اللفظة «النون» «للألف» وإذا كانت كذلك فإنّها تدلّ في لسان اليونانيّين على «الآخر». والذين كتبوا هذه اللفظة على هذا إنّما أرادوا أنّه عنى بهذه اللفظة أعني «أطارو» الأورام التي عند الأذن فزعموا أنّه أراد «بالآخر» أيّ الورم الذي في أحد الشقّين وهو الأيمن. وأمّا الذين يكتبون مكان «أطارو» «أنطارو» فإنّهم يريدون حدوث وجع في المعى أو انحدار المعى إلى الصفن حتّى يحدث عنه القرو وهو القيلة.
وقد زعم بعض الناس أنّه إنّما أفرد اسم «المعى» ولم يكثره فيقول «الأمعاء» لأنّه أراد أن يدلّ به على المعى المسمّى «قولن» وهو الذي يسمّى وجعه «القولنج». وزعم بعضهم أنّه إنّما أراد المعى المعروف «بالأعور» وهذا المعى أسرع الأمعاء إلى أن يزلق فينحدر إلى الصفن من قبل أنّه مطلق مخلىً. فأمّا قولهم إنّ هذا المعى وحده بين الأمعاء مطلق مخلىً على أنّ سائر الأمعاء كلّها مسدودة متّصلة بجدول الأغشية والعروق المتّصلة بالأمعاء الذي يسمّيه اليونانيّين «ماسنطارين» فهم فيه صادقون. وأمّا قولهم إنّ سبب هذا المعى إن انحدر إلى الصفن هدأ بذلك «وجع صاحب علّة المفاصل فلمّا عولج وبرأ» عاودته علّته فقول يحتاج إلى عرّاف.
وأقرب القولين إلى أن يقبل ويقنع به قول من قال إنّ هذا القول إنّما قيل فيمن أصابه وجع في المعى المعروف «بقولن» وهو الوجع المعروف «بالقولنج». فقد كان يجب أن تخفّ عنه أوجاع المفاصل عند حدوث وجع القولنج من وجهين أحدهما الوجه الذي أشار إليه أبقراط حين قال: «إذا كان وجعان معاً ليس هما في
موضع واحد فإنّ أقواهما يخفي الآخر». والوجه الآخر أنّ الأخلاط التي كانت تجري إلى المفاصل فتحدث فيها الأوجاع انتقلت إلى ذلك المعى فأحدثت فيه الوجع.
وقد زعم قوم من المفسّرين أنّ هذا الرجل الذي ذكر أنّه كان به «وجع في مفصل» 〈كان به وجع في مفصل〉 الوركين وهو الوجع المسمّى «النسا» ولذلك لمّا إن انحدر المعى الأعور خفّ عنه وجعه لأنّ الورك استراحت من مزاحمة ذلك المعى لها وإثقاله إيّاها. وتسمية صاحب وجع النسا «صاحب وجع المفاصل» فخالف لما جرت عليه عادة اليونانيّين.
وهذه الأقاويل كلّها إلى هذا الموضع قد نجدها مكتوبة في كتاب أبقراط في الأخلاط في آخره وأنا منذ الآن مقبل على الأقاويل التي نجدها خاصّة في هذه المقالة وحدها.
(٤) قال أبقراط: الجارية التي كان يقال لها أغاسيس ما دامت بكراً كان نفسها متواتراً فلمّا زوّجت فولدت عرض لها في وقت نفاسها وبها طرف من الوهن أن شالت ثقلاً ثقيلاً فخيّل إليها على المكان أنّ شيئاً يقرقع في مقدّم صدرها فلمّا كان من غد أصابها ربو ووجع في وركها اليمنى. وزعموا أنّه كان وجع وركها متى هاج فإنّ الربو عند ذلك كان يصيبها ومتى سكن وجع الورك فإنّه كان سيسكن عنها الربو. وتقيّأت بزاقاً زبديّاً في أوّل علّتها يضرب إلى الحمرة وكان إذا سكن يشبه القيء الرقيق الذي هو من جنس المرار وكان ألمها خاصّة يشتدّ متى كانت تتعب يدها.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يعني «بالنفس المتواتر» النفس الذي تقصر فيه مدّة الفترة التي تكون بين استنشاق الهواء وإخراجه من الفم والمنخرين. وإذا تزيّد هذا الصنف من سوء التنفّس تزيّداً شديداً يسمّى ذلك العارض «ربو» أو «نفس الانتصاب» إذا جرت عن غير حمّى إمّا عن أخلاط غليظة لزجة تسدّ مجاري النفس وإمّا عن خَراج يحدث في الرئة من الخَراجات التي لا تنضج.
وقد كان بهذه الجارية قبل أن يحدث بها ما حدث «طرف» من سوء التنفّس «فلمّا أن ولدت» تزيّد «الوهن». ولو كان أبقراط لم يذكر أوّلاً أنّه كان بها سوء تنفّس وقال: «إنّها حدث بها في وقت نفاسها وهن» لقد كان الأقرب والأولى أن يفهم عنه أنّها وجدت في بدنها كلّه حسّاً شبيهاً بحسّ الإعياء. فلمّا كان قد تقدّم فقال: «إنّ نفسها كان متواتراً» فبالواجب أن يفهم عنه أنّ «الوهن» إنّما عرض لها في صدرها إلّا أنّ ذلك «الوهن» كان يسيراً. وذلك أنّ معناه في قوله «طرف من الوهن» 〈أنّه〉 عرض لها عارض آخر زاد فيه وقوّاه وهو أنّها «شالت» بيدها «ثقلاً ثقيلاً» فأحسّت «على المكان بشيء يقرقع في مقدّم صدرها» ويشبه أن يكون كان ذلك للانفجار الذي كان في صدرها. «فلمّا كان من غد» سرى ذلك الخلط الذي كان محتقناً في الخَراج إلى قصبة الرئة فعرض من ذلك أنّ رداءة النفس تواتر ولا أن يكون النفس «متواتراً» مطلقاً لاكن يكون النفس الذي يسمّى «الربو». فلمّا قذفت ذلك الخلط «بالبزاق» قليلاً قليلاً سكن عن تلك المرأة البتّة ما كان بها من سوء التنفّس.
وإلى هذا الموضع ليس في هذا القول موضع لبس ولا مطالبة لاكنّ جميع ما حدث قد كان حدوثه على الطريق الواجب. لاكنّ موضع اللبس والمطالبة هو
السبب الذي له كان «وجع الورك» يشتدّ ويسكن بهيجان علّة الصدر وسكونها وليس بين الورك وبين الصدر مشاركة كما بين أعضاء التوليد وبين الصدر. فأقول إنّه خليق أن يكون كان الورك منها ضعيفاً فكان يحدث فيه الوجع في وقت هيجان علّة الصدر بانحدار فضل من الأخلاط إليه. وذلك أنّا قد نجد المشاركة في الألم ليس تحدث دائماً للأعضاء التي في ما بينها وبين المواضع العليلة مشاركة طبيعيّة من قبل أنّه ربّما سبقت أعضاء أخر ضعيفة فقبلت الفضل من الأخلاط المؤذية.
وقد وصف من حال ما نفث من «البزاق» ما دلّ على طبيعة تلك الأخلاط وذلك أنّ النفث «الزبديّ» يدلّ على أنّ الخلط بلغميّ والنفث الذي «يضرب إلى الحمرة» يدلّ على أنّ الغالب الدم. وإنّ النفث الأصفر يدلّ على المرّة التي تسمّى «صفراء» «وحمراء» وكذلك النفث الأسود يدلّ على المرّة السوداء. وقد قلت مراراً كثيرة إنّه إذا ذكر اسم «المرار» مطلقاً فإنّه يعني به المرّة التي تسمّى «صفراء» «وحمراء» وأمّا سائر الأصناف الأخر من المرار فإنّه إذا ذكرها ألحق مع ذكرها اللون الذي هي به. وذلك أنّه قد يتقيّأ من المرار ما هو بلون الزنجار وبلون السمر وما هو باللون القانئ وما هو أسود وما هو أغبر يضرب إلى الدكنة.
وأمّا ما لحقه في آخر هذا القول من أنّ «ألم» هذه المرأة كان «يشتدّ خاصّة عند عملها بيدها» فإنّما قاله لينبّه به على البحث عن هذه المشاركة في الألم. وسمعتموني في قول غير هذا أنّ أعلى الصدر إذا حدثت فيه علّة عند الموضع الأوّل والثاني من الفرج الذي بين الأضلاع قد يجب أن يشرك الصدر واليدين في علّته إذ كان العصب 〈…〉 من تينك الفرجتين من الفرج التي بين الأضلاع. ولعلّه أيضاً أن يكون قد كان انهتك شيء من الجانب «الأيمن» من الصدر عند «شيل الثقل» ولذلك كان أيضاً حدوث العلّة في «الورك» المحاذي له وهو «الأيمن». وإن كان الصدر إنّما يشارك «اليد» في ألمها بسبب العلّة التي حدثت
في العصب عند «شيل» المرأة «للثقل» فواجب أن تكون العلّة إنّما حدثت من الصدر في تلك المواضع خاصّة التي ينبت منها العصب الجائي إلى اليد.
(٥) قال أبقراط: لهذه أن تحتمي من الثوم ولحوم الخنازير ولحوم الضأن الحوليّة ولحوم البقر ومن أشياء ممّا تفعل من الصياح والاحتلاط.
قال جالينوس: إنّه قد يوجد هذا القول مكتوباً أيضاً على نسخ مختلفة. وذلك أنّ بعضهم يكتب افتتاحه على هذه حتّى يكون الكلام على هذه النسخة: «على هذه أن تحتمي من الثوم ولحوم الخنازير ولحوم الضأن والبقر» وبعضهم يكتب هذا القول على ما كتبناه فيجعل مكان «على هذه» «لهذه» ومنهم من يحذف «هذه» البتّة ويجعل افتتاح القول «أن تحتمي». وجميعهم يقولون إنّه ينبغي أن يفهم عنه أنّ المتولّي لعلاج المرأة رأى أن يشير عليها بأن «تحتمي» ممّا عدّده أو رأى أنّ ذلك أصلح لها أو غير ذلك ممّا أشبهه. ولذلك لا ينبغي أن نعني باختلاف النسخ لاكن يطلق لمن شاء أن يكتب كيف شاء إذ كان المعنى واحداً مشتقّاً لجميع هذه النسخ باقياً على حاله لا يتغيّر بتغيّرها.
ولهذا السبب بعينه فإنّي وإن كنت استعفيت من ذكر اختلاف النسخ رأيت ذكره في هذا القول على طريق التمثيل كيما إذا ألغيت ذكره في الأقاويل التي بعد هذا جعلت غرضي فيها المعنى الذي يقصد إليه فيما يستدلّ عليه من النسخ المختلفة. فإنّه متى كان باقياً على حاله أطلقتم لمن شاء أن يكتب كيف شاء واخترتم لأنفسكم التي قد اتّفق عليها القدماء من المفسّرين. ومن ذلك أيضاً أنّ في آخر هذا القول قد يكتب بعضهم «الاحتلاط» وبعضهم «الاستشاطة» والمعنى الذي يدلّ عليه هذان الاسمان معنى واحد بعينه وهو حدّة الغضب.
وأنا تارك المشاحّة بالألفاظ ومقبل على المعاني التي يستفاد منها وهي أنّه ينبغي لهذه المرأة التي تقدّم ذكرها ولكلّ من حالها حالها أن «تحتمي من أكل لحوم الخنازير ولحوم البقر ولحوم الضأن ومن أكل الثوم» فأمّا من أكل تلك اللحمان فإنّها لحوم قويّة يعسر انهضامها وأمّا من الثوم فإنّه حرّيف. ويتوقّون أيضاً «الصياح والاحتلاط» أمّا «الصياح» فلأنّه ليس ما يزيد في تصدّع العروق التي قد سبقت فتصدّعت لاكنّه قد يصدع العروق التي لم تسبق فتصدّع وأمّا «الاحتلاط» فلأنّه يضرّ بالمواضع العليلة من آلات التنفّس من أنّه يحدث فيها تمدّد وحرارة ونفخة. والأمر بيّن في أنّ أبقراط إنّما ذكر هذه الأشياء التي عدّدها على طريق التمثيل وأنّه ينبغي أن تتجنّب كلّ طعام يعسر انهضامه وكلّ ما كانت فيه حدّة وكلّ ما كان يتولّد منه خلط رديء وتتجنّب مع ذلك كلّ ما كان يحدث في آلات التنفّس تمدّداً عنيفاً.
(٦) قال أبقراط: الرجل الذي كانت به العلّة التي تسعى في رأسه الذي كان ذارّه أوّلاً الشبّ المحرق قد كان به خراج في موضع آخر ولعلّ ذلك كان لأنّ عظماً كان مزمعاً بالانقلاع والسقوط. فسقط في يوم الستّين من فوق الأذن وكانت جراحته فوق نحو قلّة الرأس.
قال جالينوس: إنّ كثيراً من هذه الأقاويل التي أثبت على هذه السبيل خليق أن يكون المثبت لها قد ينتفع بها على طريق له وأمّا نحن معشر القارئين لها فليس نكاد ننتفع بها منفعة بيّنة. وذلك أنّه لمّا اقتصّ قصّة قرحة عرضت لإنسان في رأسه من القروح التي تسعى فقال إنّه كان انتفع «أوّلاً بالشبّ المحرق» إلّا أنّه «كان به
في موضع آخر خراج» وهو الموضع الذي «سقط منه العظم» بأخرة. وقد تبيّن أيضاً موضع العلّة من الرأس أيّ موضع كان إلّا أنّ هذا الأمر ليس من الأمور التي تحدث في الفرط ولم يشر في ذلك أيضاً بمشورة وإنّما اقتصّ ما كان فقط.
(٧) قال أبقراط: أعفاجه شبيهة بأعفاج الكلب إلّا أنّها أعظم وهي معلّقة بجداول من عروق وأغشية تتوسّط الأعفاج وتلك معلّقة بأعصاب تأتي من الصلب من تحت المعدة.
قال جالينوس: إنّه من البيّن أنّ هذا القول أيضاً إنّما أثبته أبقراط ليجعله تذكرة لنفسه وهو باب من علوم التشريح. وذلك أنّ «أعفاج الإنسان شبيهة» في طبيعتها «بأعفاج الكلب» وذكر أيضاً أنّها «أعظم» وأنّها «معلّقة بالجداول من العروق والأغشية المتوسّطة للأعفاج» كأنّه قال «المتوسّطة للأمعاء». والمتوسّطة للأمعاء اسم أعمّ «والمتوسّطة للأعفاج» اسم أخصّ وله في لسان اليونانيّين اسم يخصّه والاسم الذي استعمله أبقراط في هذا وهو «ماسوقولن». وأمّا الجدول الذي يلي المعى المعروف «بالصائم» والذي يلي سائر الأمعاء الدقاق فليس له في لسان اليونانيّين اسم يخصّه كما للجدول الذي يلي الأمعاء الغلاظ. وذلك أنّه لم يقل أحد من اليونانيّين «ماسونستيون» ويعني بهذا الاسم الجدول الذي يتوسّط المعى الصائم ولا غير ذلك ممّا أشبهه من الأشياء.
وهذه الجداول التي تلي الأمعاء الدقاق والتي تلي الأمعاء الغلاظ متّصلة إلّا أنّه لا توجد لها على حال أحواز تخصّها وتفرق بينها خاصّة العروق التي فيها. وذلك أنّه ينقسم عرق كبير على حدته في جداول الأمعاء الدقاق وعرق آخر على حدته
في جدول الأمعاء الغلاظ التي تعرف «بالأعفاج» وينقسم مع كلّ واحد من هذين العرقين اللذين ليسا بضاربين عرق آخر ضارب.
وأمّا معلاق «الجدول المتوسّط للأعفاج» فإنّه كلّه واحد متّصل كما قلت يترقّى إلى كلّ واحد من فقار القطن وموضعه دون الحجاب «من وراء المعدة». وهذا المعلاق كلّه من أشبه شيء بالعصب على أنّه في جوهره إنّما هو رباط لأنّ كلّ جسم ينبت من العظام عديم للدم بمنزلة العصب قد يسمّيه «رباطاً». لاكن لمّا كانت هذه الأجسام كما قلت شبيهة بالعصب قد يسمّيها كثير من الأطبّاء «العصب المعقّب» ليفرقوا بينها وبين العصب المحرّك بإرادة. وقد يسمّي 〈في〉 هذا القول أيضاً الرباط باسم «العصب» مشابهة له.
قال أبقراط: المساعدات للمرضى.
(٨آ) قال جالينوس: إنّما نبحث في هذا القول بحثاً تامّاً عن الأمور التي ينبغي للطبيب أن «يساعد المرضى» فيها وعن الأمور التي لا ينبغي أن «يساعدهم» فيها ثمّ نقتصر على ذلك ونكتفي به فلا يحتاج إلى ذكره على الكمال في غير هذا الكتاب كما من عادتنا أن نفعل في سائر الأمور كلّها. فإنّا نذكر جميع ما يحتاج إليه من علم كلّ واحد منها على التمام في موضع واحد فلا يحتاج في غير هذا الكتاب إلى وصف جميع أمره لاكن نقتصر على جملته متى احتجنا إلى ذكرها.
وقد قال أبقراط في كتاب الفصول أيضاً باباً من هذا الفنّ حين قال: «إنّ ما كان من الشراب والطعام أخسّ قليلاً إلّا أنّه ألذّ فقد ينبغي أن يختاره على ما هو
منها أفضل إلّا أنّه أكره». وقد بيّنت في تفسيري لهذا القول أنّ أبقراط منه فيما يتخيّل من ظاهر الأمر كأنّه يقصد «لمساعدة المرضى» على شيء ممّا فيه لذّتهم وليس يقصد لذلك بالحقيقة. وذلك أنّ ما يتناوله المرضى من طعامه ومن شرابه فيكون التذاذه أزيد وإن كان ممّا هو في طبيعته أخسّ فإنّه يكون استمراؤه أفضل وأجود ومن أنفع الأشياء للمريض أن يستمرئ الطعام الذي يتناوله.
وأمّا في هذا القول الذي قصدنا لشرحه فإنّ أبقراط ذكره جنساً آخر ممّا يقصد فيه الطبيب «لمساعدة المريض» على ما له فيه لذّة من غير أن يجني عليه من علّته مثل ما يفعل الطبيب إذا أذن للمريض في دخول الحمّام من قبل الوقت الذي ينبغي أو في أن يتناول الشراب قبل وقته أو بعض الفواكه أو في شرب الماء البارد. فإنّه ربّما كان الوقت الذي ينتفع فيه استعمال كلّ واحد من هذه الأشياء التي ذكرت من غد ذلك اليوم الذي تندقّ نفس المريض فيه إليه فيضطرّ المريض الطبيب أن يأذن له في استعمال شيء من هذه الأشياء قبل وقته بيوم واحد. وكثيراً ما يأذن قوم من الأطبّاء للمرضى في أشباه هذه الأشياء ويستأهلونهم فيها اتّباعاً منهم لشهواتهم وهم يقصدون بذلك لفضل المجازاة على ذلك إلّا أنّ فعل هذا ممّن فعله ليس يجري مجرى صناعة الطبّ. وأمّا ما قاله أبقراط في كتاب الفصول وما يعدّده في هذا القول والإذن فيه للمرضى ممّا قد ينتفعون به ولا يقصد له من الأطبّاء إلّا أفاضلهم.
والدرك في ما يصفه في ما يتلو من قوله هذا ممّا يشير بأن يؤاتي فيه الطبيب للمرضى وما يساعدهم عليه فيه لدقّة فهو الاستدعاء من المرضى للطبيب وقلّة الخلافة عليه. فإنّ المرضى إذا نظروا إلى الطبيب بعين محبّة وهشاشة كانوا أحرى
أن يطيعوه. ومن هذا الطريق صار الأمّ والأب يقدران على أن يجلبا ولدهما إذا تعذّرت شهوته حتّى يحمل على نفسه ويعسرها على تناول الطعام ما لا يقدر عليه منه أحد غيرهما وكذلك يقدر الولد أن يتأتّى لأمّه وأبيه حتّى يقبلا منه وكذلك الأخ لأخيه والصديق لصديقه. وأمّا من يراه الناس بعين البغضاء والاستثقال فإنّه وإن أشار عليهم بما ينتفعون به لم تدعهم أنفسهم التحوّل عنه.
وقد ذكر أبقراط أنّ ممّا قد ينتفع به في استدعاء الطاعة من المرضى التقدمة بالإنذار وبالجملة ما يدعو المريض إلى أن يعجب بالطبيب. ومن هذا الطريق قد نرى في بلدنا هذا وهو برغامس قوماً يرزقون الشفاء من ﷲ بشيء يؤمرون به فنجدهم إلى قبول ما يؤمرون به أسرع وإن كان شاقّاً عسراً حتّى أنّ بعضهم أمر بألّا يشرب شيئاً من الأدوية خمسة عشر يوماً فيصبر على ذلك ولو كان أمره بذلك أحد من الأطبّاء من كان منهم ولو عظم قدره بالذي يطيعه. وذلك أنّ المريض إذا ركن وصحّ عنده أنّ عظيم الانتفاع واقع به لا محالة إن هو أطاع ميّله ذلك تمييلاً عظيماً إلى أن ينتهي إلى كلّ ما يؤمر به.
وأمّا ما ذكره أبقراط في هذا القول الذي قصدنا لشرحه فهو خارج من هذا الباب وأنا واصف الحال التي في كلّ واحد من هذه الأشياء بعد أن أضع حرفاً حرفاً ممّا قاله أبقراط وأشرحه.
(٨ب) قال أبقراط: مثل اتّخاذ الشراب والطعام بنظافة.
قال جالينوس: إنّ الطبيب كثيراً ما «يتّخذ» للمريض «من الأشربة والأطعمة» يعمله بين يديه فأبقراط يأمر أن يكون اتّخاذه لذلك «بنظافة». وذلك يكون أوّلاً متى لم يكن في الأواني التي يقدّم إليه فيها «الطعام والشراب» شيء من الوضر ثمّ بعد ذلك ألّا يكون في شيء ممّا يكون به الخدمة وسخ. فإنّه ربّما كان الإناء الذي يحوي الطعام والشراب الذي يقدّم فيه نقيّاً «نظيفاً» وكان الإناء الحاوي للماء البارد والحارّ الذي مع الخادم وسخاً وكذلك ربّما كان شيء من سائر الأواني التي يتّخذها المريض غير نظيف. ومع ذلك أيضاً فإنّ الطبيب نفسه ينبغي أن يكون نظيفاً بل هو أولى كلّ شيء أن يكون يداه في غاية النظافة ووجهه وشعر لحيته ورأسه وبعد ذلك سائر أعضاء بدنه ويكون ثيابه مع ذلك نقيّة نظيفة.
(٨جـ) قال أبقراط: وما ينظر إليه.
قال جالينوس: يقول إنّه ينبغي أن يكون ما يراه المريض أيضاً ممّا يهشّ له ويلتذّ رؤيته. وقد يرى المريض من يخدمه ومن يعوده وما في البيت الذي فيه يمرض فلا ينبغي أن يكون شيء من ذلك ممّا يكره المريض رؤيته وأن يحضره من خدمته أبداً أحبّهم إليه وأن يطيل اللبث عنده من عوّاده أصدقهم له وأقربهم إلى قلبه. وأمّا غيرهم فالتدبير فيهم أحد أمرين إمّا ألّا يدخلوا إليه البتّة وإمّا ألّا يراهم طويلاً. وجميع هذه الأشياء إذا بحث عنها الطبيب قدر أن يحكمها ويدبّرها على ما ينبغي.
ومنها أشياء يقدر أن يعلمها من غير بحث وتفتيش. من ذلك أنّه ربّما عاد الطبيب المريض أو كان في شيء من علاجه يدخل إليه عبد من عبيده فأعلمه أنّ
فلاناً قد حضر وهو يريد عيادته فربّما ظهر للطبيب أنّه قد هشّ لذكر من ذكر له وربّما اشتدّ بكرهه لذكر من ذكر له والاستثقال لمكانه ويتبيّن للطبيب أنّ دخول ذلك الرجل إلى المريض ممّا يتأذّى به أنّه عنده ممّن لا تخلص له المحبّة لاكنّه إنّما يدافعه ويكاسره. وينبغي عند ذلك للطبيب إذا دخل على المريض من لا يسرّ برؤيته يتلبّث قليلاً ثمّ يتقدّم بأنّه ينبغي للمريض أن يهدأ ويخرج قوله مخرجاً يستحقّ معه أن يقبل فيتقدّم بهذا السبب في خروج جميع من يحضر به ممّن عنده. فإنّه وإن خرج في العاجل الصديق مع غير الصديق فإنّ الصديق قادراً أن يعود فيدخل إلى المريض بعد قليل.
وما يراه المريض من أشباه هذه الأشياء قد يحدث له في نفسه وذهنه حالاً من اللذّة أو من الأذى لا في نفس حاسّته لاكن في فكره. ومن الأشياء التي ترى أشياء أخر لذيذة في نفس حسّ البصر كما قد نجد أشياء لذيذة ممّا يشمّ ويذاق ويلمس. وليس التذاذ الناس بالشيء الواحد بعينه من تلك الأشياء بالسواء وذلك أنّ كلّ واحد من الناس يلتذّ أو ينكره من الألوان والأشكال وزهر النبات وأصناف الثياب والصناعات والصور ما لا تلتذّ رؤيته أو يكرهها غيره. فقد ينبغي للطبيب أن يسأل أهل بيت المريض عن الأشياء التي كان يلتذّها فيأمر بإدخالها إلى البيت الذي فيه المريض.
(٨د) قال أبقراط: وأن يكون ما يلمسه ليّناً.
قال جالينوس: إنّ هذه الأشياء إنّما هي لذيذة عند حسّ اللمس فقط كما أنّ أنواع الزهر وأنواع النبات وسائر ما تقدّم ذكره إنّما يلتذّ حسّ البصر به فقط. وقد ينبغي أن نضيف إلى ما ذكر ما هو من حسّ ما ذكره لاكنّه ألغى ذكره لبيانه. وذلك أنّه ذكر حسّ أعني حسّ البصر وحسّ اللمس وحسّ المذاق وحسّ السمع
ولخّص في حسّ السمع خاصّة كما لخّصت في حسّ البصر بين الأشياء التي إنّما يلذّه هذا الحسّ فقط مثل الأصوات اللذيذة وبين الأشياء التي تغمّ باستماعها مثل الأخبار المكروهة 〈…〉 أو تلذّذ سامعها. وقد يعلم هذا عوامّ الناس فضلاً عن غيرهم أنّه لا ينبغي أن يقال للمريض شيء ممّا يكرهه سماعه وذلك أنّه ينبغي أن يخبر عن جميع ما له بما في استماعه لذّة وسرور وأن يضاف إليه مع ذلك بالتزيّد عنده.
وقد عاد في القول الذي بعد هذا وزاد بعض ما يظنّ لأنّه ترك ذكره في هذا القول:
(٨هـ) قال أبقراط: أخر.
قال جالينوس: إنّ هذا إنّما هو رسم لضروب «أخر» من المساعدة هو على أن يذكرها في ما بعد. وذلك أنّه لمّا تقدّم فقال: «المساعدات للمرضى» ثمّ أتبع ذلك بأن قال: «مثل اتّخاذ الطعام والشراب بنظافة» ثمّ ذكر بعد هذا «ما ينظر إليه» ثمّ ذكر بعد ذلك «الأشياء اللذيذة عند اللمس» فضمن أن يذكر مع ما ذكر من تلك المساعدات مساعدات «أخر» هي واردة عليك فيما بعد. وقد أسقط قوم هذا الرسم أعني قوله «أخر» من نسختهم البتّة.
(٨و) قال أبقراط: ما لا يضرّ مضرّة فادحة ويسهل تلافيه مثل شرب الماء البارد حيث ينبغي.
قال جالينوس: إنّه قد ينبغي أن ينيل في بعض الأحوال من الأشياء الضارّة ما لا «تعظم مضرّته» لمن يشتهيه شهوة شديدة وليس يؤمن إن لم ينله أن يبغض الطبيب
ولا يقبل منه ويعصيه شيئاً ممّا يأمره به. فقد يجب ضرورة أن يؤذن لمن كانت هذه حاله في بعض الأشياء التي يشتهيها إن لم يكن ما يخاف منها من «المضرّة عظيماً» بعد أن يتقدّم الطبيب فينذر بذلك الشيء أنّه سيضرّ المريض وأنّه إنّما يأذن فيه توخّياً منه لإتباع موافقة المريض وأنّه يريد منه في ما يستأنف مكان ذلك الطاعة له في سائر ما يأمره به.
فإنّي أعرف قوماً لمّا أذن لهم في شيء ممّا اشتهوه صاروا إلى الطاعة وإلى المساعدة في كلّ ما يؤمرون به. وعلى هذا الوجه قد أذنت في شرب الماء البارد لكثير من المرضى في الأمراض الذي كان يحتاج فيها بعد يوم واحد إلى شرب الماء البارد فجعلت مساعدتي للمريض في هذا الباب فقط أنّه لم أنتظر به أفضل الأوقات لشرب الماء البارد. وكذلك أعلم أنّي قد فعلت في الإذن لدخول الحمّام وشرب الشراب وجميع أشباه ذلك فإن كان لا يحتاج إليه في المرضى إلى شيء من هذه الأشياء ولا بعد يوم واحد فليس ينبغي أن يساعد المريض ويؤذن له في الشيء الذي يهواه. وذلك أنّ الضرر اليسير قد يمكن أن يتلافى بطاعة المريض فيما بعد وأمّا المضرّة العظيمة التي تبلغ من عظمها أن يشرف المريض منها على غاية المكروه أو يطول بسببها مرضه فليس يمكن أن يستقال ويتلافى.
وقد يكتب هذا الكلام الذي نحن في شرحه على نسخ أخر واحدة منها على هذا المثال: «لاكن لا ينبغي أن يركب ما فيه مضرّة فادحة مثل شرب الماء البارد حيث ينبغي» وقد يعرف هذه النسخة قدماء المفسّرين بل يعرفون غيرها. وقد نجد نسخة أخرى في كتب أخر على هذا المثال: «ما لا يضرّ مضرّة فادحة إلّا أن يكون
ممّا يسهل تلافيه مثل شرب الماء البارد حيث يكون كذلك» ويعني «بما يسهل تلافيه» ما قد تعفو مضرّته ويصلحها يسير العلاج.
(٩) قال أبقراط: أخر.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً إنّما هو رسم متقدّم لما يتلوه. وقد ينبغي أن تتذكّر ما قلته في الرسم الأوّل فإنّك لا تحتاج مع ذلك إلى شرح مستأنف.
(١٠) قال أبقراط: الدخول الكلام الشكل اللباس الموافق للمريض القصاص الأظفار الرائحة.
قال جالينوس: أمّا جلّ ما قيل في هذا القول فالأمر فيه بيّن أنّه إنّما قصد به للطبيب لاكنّه لمّا كان قد ألحق فيما بين ما عدّد «الموافق للمريض» قد وقع بسبب ذلك فيه لبس ومطالبة. ولذلك قد حذف ذلك قوم البتّة ووهّموا أنّه لم يجدوه البتّة مكتوباً لاكنّا قد نجد القدماء من المفسّرين يعرفون هذا الكلام على هذه النسخة. ولعلّنا سنقدر فيه على تأويل مقنع إذا نحن بحثنا فيه عن كلّ واحد ممّا قيل فيه على حدته.
ونذكر أوّلاً «دخول» الأطبّاء إلى المريض كيف يتوخّى فيه موافقته. فأقول إنّ من الناس من يتأذّى بكثرة غشيان من يغشاه منهم ومنهم من يشتدّ بذلك سروره. وإنّ من الأطبّاء من يبلغ من جهله أن يدخل على المريض وهو نائم ويخفق مع ذلك برجليه أو يرفع صوته حتّى ربّما انتبه المريض فضجر على الطبيب وشكا منه أنّه قد ضرّه مضرّة عظيمة. فقد ينبغي أن يتقدّم الطبيب فيتفقّد هذه الأشياء كلّها وينظر
فيها ويقدّرها كيما لا ينقص عن المقدار الذي من عيادته المريض ودخوله إليه ولا يزيد عليه ولا يعوده في الوقت الذي لا ينبغي فيه عيادته ولا يستعمل في دخوله إليه التعجرف والتقدّم حتّى يسمع صوت قدميه أو يرفع صوته حتّى يستكدّ ذلك منه أو يستعمل من المشية أو من اللمح أو من غير ذلك ممّا أشبهه ممّا يسمج. فهذا معناه في ذكره «للدخول».
وأمّا ذكره «للكلام» فلأنّه أيضاً من أعظم الأمور من الأطبّاء عند المرضى إذا كان على ما ينبغي أو على خلاف ما ينبغي. فإنّ من الأطبّاء من هو في غاية الخرق حتّى تكون حالهم كالذي وصف زوقسس أنّ بقخس وصفه من حال قلليانقس تلميذ إيروفيلس في ما أثبت من ذكور أقاصيص إيروفيلس وأهل بيته. وذلك أنّه ذكر أنّ قلليانقس هذا دخل إلى مريض فشكا إليه المريض حاله فقال: «إنّي أموت» فأنشده في جواب قوله هذا البيت: 〈…〉 ودخل إلى مريض آخر فقال له مثل ذلك القول فقال له مجيباً له: «فإنّه قد مات فطرقلس وقد كان خيراً منك بكثير».
ومن أهل دهرنا من الأطبّاء من هو وإن كان ألين عريكة من قلليانقس لاكنّهم قد يستعملون على حال فيما بينهم من المرضى الفظاظة حتّى يبغضوهم 〈و〉منهم قوم يستعملون ضدّ هذا الطريق حتّى يتشهّوا بالعبد واستعملوا الملق
فيستخفّ بهم لهذا السبب. وكما لا ينبغي أن 〈…〉 يصير نفسه عنده بحال يستخفّ معها لاكن يحفظ مع الرقّة الشفقة والتواضع والتخلّق والوقار. فإنّه إن لم يجلّ في عين المريض حتّى يراه كأنّه ملك ويعجب به لم يسلس قياده له ولو لم يلزم نفسه طاعته فالأجود أن لا يستعمل من الملق ما يستدعي به ولا يظهر للمريض منه من الخشونة والفظاظة والخرق مثل ما كان يظهر قلليانقس. وذلك إنّما يكون إذا حفظ الطبيب دائماً في لمحه وفي «كلامه» وفي «شكل» بدنه كلّ الوقار وحدّ المريض على الطاعة له والانقياد لما يريد أن يفعله به.
وفي هذا الباب «كلام» كثير يجري هذا المجرى وأمثّل ذلك ببعض ما يجوز حتّى تفهمه. فأقول إنّ الطبيب قادر على أن يفتنخ كلامه أو لا بمقدّمة مقنعة يقدّمها عند المريض ثمّ يتبع ذلك بأن يقتصّ عليه ما وصفه أبقراط في هذا الباب أوّلاً في كتاب الفصول حتّى قال: «وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على توخّي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض ومن يحضره كذلك والأشياء التي من خارج» ثمّ قال في المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا حين قال: «إنّ قوام الصناعة لثلاثة أشياء المرض والمريض والطبيب. 〈والطبيب خادم الطبيعة〉 〈وينبغي للمريض أن
يقاوم المرض مع الطبيب〉». 〈…〉 فإنّ المريض إن ترك الطبيب وحده يقاوم المرض أو مال مع المرض وقاوم الطبيب عرض من ذلك أن يهزم الطبيب حتّى يغلب المرض. فإن ترك المريض الميل مع المرض على الطبيب ومال على المرض فإنّ الرجاء للغلبة قويّ إذ كان قد يقاوم المرض الواحد إنسانان كما أنّ ضدّ هذا يوجد بالعكس حتّى لا يكون مع ذلك الرجاء البتّة أعني متى كان المريض قد مال مع المرض وضادّ الطبيب فإنّ الطبيب عند ذلك إذا بقي وحده غلبه الاثنان.
وقد يكتفي بهذا المثال من يقدر أن يفهم أنّه قد يمكن الطبيب أن يقول للمريض أقاويل كثيرة تجري هذا المجرى. وليس ينبغي أن يقتصر على أن يكون المعنى في «الكلام» الذي يكلّم به الأطبّاء المرضى يجري هذا المجرى حتّى يكون أيضاً مقدار الصوت الذي يتكلّم به هذا «الكلام» في عظمه وشدّته ومخارجه مشاكلة لهذا المعنى. وإن كان مع ذلك أيضاً الرجل الذي يخاطبه الطبيب أديباً فقد ينبغي للطبيب أن يحذر في كلامه اللحن والخطاء وسوء العبارة فإنّه كثيراً ما يستخفّ المرضى [و]الأطبّاء بهذا السبب.
ثمّ ذكر أبقراط بعد هذا «الشكل» وقد ينبغي أن يكون «شكل» البدن كلّه من الطبيب عند دخوله المريض وجلوسه إليه شكلاً معتدلاً فلا يكون شكلاً يدلّ على ضعة وحمول حتّى يستخفّ به المريض ولا شكل يدلّ على استرخاء أو على بذخ وصلف حتّى يستثقله المريض. فإنّ من الأطبّاء من ينصب قامته ويتعارض عند دخوله المرضى وجلوسه إليهم وبعضهم يظهر منه عند المريض بفتح وتكسّر ومنهم من يدخل إلى المريض وهو منحنٍ متواضع. فقد ينبغي للطبيب أن يحذر جميع هذه الأصناف من الأشكال المفرطة ويلتمس الشكل المتوسّط في ما بينها. فإن
ظهر للطبيب من المريض في بعض الأحوال وقلّ ما يقع ذلك أنّه يحبّ التواضع من الناس فينبغي أن يزول قليلاً عن الشكل الأوسط ويشكّل بشكل هو إلى التواضع أقرب فإن كان الأمر على ضدّ ذلك فينبغي للطبيب أن يميل إلى ضدّ الطريق الأوّل فيزول قليلاً عن الشكل المتوسّط الطبيعيّ إلى النبل.
ثمّ ذكر أبقراط بعد هذا «اللباس» وقد ينبغي أن يكون هذا أيضاً على هذا القياس متوسّطاً حتّى لا تكون ثيابه ثياباً مرتفعة فتدلّ منه على صلف وبذخ ولا رثّة وسخة خسيسة إلّا أن يكون المريض ممّن لا يحبّ اللباس وطريقه طريق القصد أو يكون ممّن يحبّ الإغراق في طريق اللباس. فإنّه إذا كان المريض كذلك فينبغي للطبيب أن يزول عن التوسّط إلى الجانب الذي هو أحبّ إلى المريض بقدر ما يظنّ أنّه عنده معتدل.
ثمّ قال أبقراط بعد هذا «الموافق للمريض». وقد قلت إنّه لمّا أدخل هذا في وسط من كلامه أوقع في اللبس والشكّ ولو كان جعله في أوّل كلامه أو في آخره لقد كان الأمر فيه بيّناً أنّه ينبغي للطبيب أن يتوخّى في جميع هذه الأشياء مساعدة المريض وموافقته أعني في «دخوله» إليه وفي «كلامه» له وفي «شكل» بدنه كلّه عند دخوله وجلوسه إليه وفي «لباسه» وفي «قصاص» شعره وفي مقدار «أظفاره» من الطول والقصر وفي «رائحته». فإنّ الاعتدال في عيادة المرضى «والدخول» إليهم عند كلّ واحد من المرضى غيره عند الآخر كما قلت قبيل وكذلك الحال في «الكلام». وذلك أنّ من المرضى من يشتهي من الأطبّاء الخرافات وكثرة الكلام ومنهم من يتأذّى بذلك ومنهم من يسرّ بالكلام الجدّ ومنهم من يسرّ الهزل والسخف. وقد وصفت أيضاً قبيل أمر «الأشكال» وأمر «اللباس» كيف ينبغي للطبيب أن ينحو فيها نحو ما يسرّ به المريض.
ثمّ ذكر أبقراط بعد هذا «القصاص» وأفضل «قصاص» الشعر بالطبع ما يقصد به قصد صحّة الرأس. فإنّ الذي يوافق كلّ واحد من الناس لصحّة رأسه من القصاص غير الذي يوافق غيره وأمّا المقدار من «القصاص» الذي يستحسنه المرضى فليس هو مقداراً واحداً بعينه عند جميعهم. فقد ينبغي للطبيب أن ينحو فيه نحو ما يعجب الرجل الذي هو في خدمته كما قد يفعل ذلك من كان في خدمة أنطونيس الملك أبي قومودس فإنّ جميعهم كانوا يحفّون رؤوسهم لأنّ ذلك كان يعجبه منهم وكان لوقس الملك يستسمج ذلك ويعبثه منهم وينسبهم به إلى أنّهم ضحكه ولذلك اضطرّوا بعد إلى أن يربّوا شعورهم.
ثمّ ذكر أبقراط بعد هذا «الأظفار». وقد بيّن أبقراط في كتابه المسمّى قاطيطريون مقدار ما ينبغي أن تكون «أظفار» الطبيب فوصف مقدارها المعتدل بالحاجة إليها وهذا المقدار المعتدل هو المقدار الذي يستحسنه منه من يراه من الناس. وأمّا الأظفار الجربة والتي بها علّة من غير ذلك ممّا أشبهه وكذلك العلّة في الشعر الذي يعرف «بداء الثعلب» «وداء الحيّة» فليس يحتاج فيها منّي إلى قول. وذلك أنّ هذه لمّا كانت خارجة عن الأمر الطبيعيّ كان من أسمج الأشياء بالطبيب أن يكون به كما قد يقبح به أن يكون به من علل المفاصل ما يشنع أو غير ذلك ممّا أشبهه.
ثمّ ذكر أبقراط بعد هذا «الرائحة». «والرائحة» من البدن كلّه ومن الفم قد تكون في بعض الناس بالطبع رديئة وتكون في بعضهم غير مذمومة ومن الرائحة الرديئة ما تكون من التواني. فإنّ كثيراً من الأطبّاء قد يرى أنّه لا عيب عليه في أن يعود المرضى ورائحة الثوم أو البصل تسطع من فيه. وأمّا قوانطس وكان رجلاً يعالج الطبّ بروميّة على عهد آبائنا وكان من قصّته ما أنا ذاكره لك وهو أنّه عاد
رجلاً من أهل اليسار والقدر بعد أن تغذّى وكانت رائحة الشراب تسطع من فيه بقوّة. وكانت بذلك الرجل حمّى شديدة وصداع فلمّا لم يحتمل ما كان يقرعه من رائحة الشراب منه سأله أن يتأخّر عنه قليلاً وخبّره بأنّه يتأذّى بما يشتمّ منه من رائحة الشراب وكان مخرج هذا القول من المريض مخرجاً ليّناً وعلى طريق قصد. فأجابه قوانطس جواب خرق فقال له: «احتمل رائحة الشراب منّي كما أحتمل رائحة الحمّى منك» فإنّ رائحة الحمّى ليس تعدل رائحة الشراب.
وأعرف طبيباً آخر في بلدنا هذا وهو آسيا به رائحة رديئة من إبطه وبهذا السبب لم يكن يحتمل أحد من أهل التقزّز دخوله إليه فقد كان ينبغي له أن يعالج نفسه أوّلاً من هذه العلّة حتّى يبرأ منها ثمّ يروم بعد ذلك علاج غيره من المرضى. فإنّه قد يمكن وإن كانت هذه الرائحة غزيرة لبعض الناس كما هي غزيرة للتيوس أن تعالج حتّى تنقص وتقلّ ثمّ يعفى أثر ما يبقى منها من البقيّة اليسيرة في كلّ يوم بالذرائر التي تقمع الروائح الرديئة. فمن كان به رائحة رديئة من فيه فعُني بعلاجها حتّى نقصت وقلّت بالإسهال والقيء وشرب الأدوية التي تصلح لهذا ثمّ كان بعد في كلّ يوم يلقي إلى فمه أحياناً شيئاً من الحماما وأحياناً شيئاً من الساذج وأحياناً غير ذلك من الأشياء الطيّبة الرائحة ولم يكن يخرج من منزله إلّا بعد أن يفعل ذلك.
(١١) قال أبقراط: الماء الذي يغلى منه ما يلتمس منه أن يقبل الهواء ومنه ما لا يملأ إناؤه ويوضع عليه غطاء.
قال جالينوس: إنّه لم يذكر في هذا القول في أيّ العلل ينبغي أن «يغلى الماء» المشروب وأيّ منفعة في ذلك وهل ينبغي أن يفعل ذلك بالماء كلّه أو بالرديء منه فقط فلذلك ليس يستفاد منه كبير منفعة. فقد يظهر لنا أنّه كما رسم أبقراط أقاويل أخر كثيرة على طريق التذكرة لنفسه ليبحث عنها أو ليكتب فيها على الشرح في هذا الكتاب أعني كتاب إفيذيميا كذلك أثبت هذا القول وهو عندنا قول ناقص وعنده ليذكر به ما يحتاج إليه غير ناقص. فإن أنشأنا نحن في ذلك مسألة لأنفسنا فطلبنا أن نحدّ أيّ «المياه» ينبغي أن «نغليها» أوّلاً ثمّ نبرّدها ونشربها إن كان ينبغي أن نشربها باردة وعلى ضدّ ذلك أيّ المياه إذا أراد أن نشربها حارّة لا نغليها على ما فعلنا بتلك لاكن نتّخذ لبعضها «غطاء» مطابقاً لفم الإناء الذي نسخنها فيه وندع الإناء الذي فيه بعضها ونحن نريد إسخانه مكشوفاً بلا غطاء حتّى يلقى الهواء أو نبحث مع ذلك بعد هذا وفي أيّ العلّتين ينبغي أن نشرب الماء وهو حارّ وفي أيّها ينبغي أن نشربه وهو بارد استخرجنا لأنفسنا شيئاً نافعاً. إلّا أنّ ليس ننتفع في استخراج بهذا القول الذي تقدّم وذلك أنّه لم يتبيّن منه شيء أصلاً.
ولذلك وصل قوم هذا القول بالقول الذي قبله 〈مثل〉 أرطاميدورس الذي سمّي بعد قابيطن وأكثرهم عزله عن القول الأوّل ونظر في معناه على حدته. فإن وصل بالقول الذي قبله كان معناه ما أنا واصفه وهو أنّه ينبغي أن يتوخّى المساعدة للمرضى في وجوه شتّى منها في اتّخاذ الشراب والطعام بنظافة ومنها سائر الأشياء التي وصفها أبقراط بعد هذا. ثمّ كأنّه أتبع قوله بأخرة أنّه قد ينبغي في بعض الأحوال أن يسقى المريض ماء مبرّداً إذا ما لم يخف عليهم من شربهم له مضرّة
البتّة أو كان ما يخافه عليهم من مضرّته يسيراً. ثمّ أثبت لنفسه فيما يزعمون تذكرة للجهة التي بها يبرّد الماء. ويمكن أن يكون يقصد لأنّه ينبغي في حال من الأحوال أن يسيل الماء من الأرض فيشرب قبل أن يسخن ويمكن أن يكون عنده فرق يفرق به بين من ينبغي أن يسخن له الماء 〈…〉 البارد من غير أن يسخن له أوّلاً. وخليق أن يكون يريد متى كان الماء جيّداً لا يذمّ منه شيء أن يشرب من غير أن يغلى ومتى كان الماء 〈…〉 أن يغلى أوّلاً ثمّ يشرب ويمكن أن يكون يصف نحوين من تبريد الماء من غير أن يغلى أحدهما يكون بالهواء والآخر يكون بوضع الإناء الذي فيه الماء في الآبار الباردة أو يدفنه في الثلج.
فقد رأيتهم بالإسكندريّة وفي جميع بلاد مصر يبرّدون الماء في أوعية فخّار على هذه الجهة: يأخذون الماء عند مغيب الشمس فيسخنونه أوّلاً ثمّ يلقونه في تلك الأوعية 〈…〉 قبل طلوع الشمس فينزلونها ويضعونها على أرض مرشوشة بماء بارد ويضعون حول الإناء كلّه أوراقاً باردة وربّما نرجو أن يكون ذلك الورق من ورق الكرم أو من ورق الخسّ وربّما كان من ورق غير ذلك ممّا أشبهه حتّى تبقى في الماء البرودة التي اكتسبها في هذا الليل مدّة طويلة من غير أن تتغيّر. ورأيت الناس يضطرّون إلى علاج الماء بهذا العلاج خاصّة إذا لم يحضرهم ماء جيّد غير مذموم وأعني بالماء غير المذموم الماء الذي ليس فيه عكر ولا نتن ولا يجد فيه المتطعّم له مذاقة البتّة. فإنّ من المياه ما تخالطها طعوم رديئة من طعم الملح أو طعم البورق أو من طعم الكبريت أو طعم القير أو من طعم الشبّ أو من غير ذلك ممّا يشبهه
من الطعوم وجميع هذه المياه تحتاج إلى علاج حتّى تصلح. وكما أنّا في كثير من الحبوب نستعمل طبخها فنصيّرها بذلك بحال نصلح معها للأكل أو نفعل ذلك أيضاً ببعض البقول وبعض الثمار وبعض أعضاء الحيوان كذلك قد نفعل بالماء فنحيله أوّلاً بطبخه حاله إلى حال هي أجود ثمّ نشربه.
وقد نضطرّ إلى أن نسخن الماء أوّلاً ثمّ نبرّده ونحن نريد بذلك المنفعة والصلاح من وجه آخر وإن لم يكن فيه طعم رديء ولا رائحة رديئة وكان صافياً نقيّاً في غاية الصفاء إذا نحن جرّبناه فوجدناه يلبث في المعدة فضل لبث أو وجدناه يقرعها أو ينفخها أو يثقلها. فإنّا قد نجد مياهاً كثيرة بهذه الأحوال وأحسب أبقراط إنّما أراد أن يفرق بين هذه المياه وبين أفضل المياه حين قال: «إنّ الماء الذي يسخن سريعاً ويبرد سريعاً فهو أخفّ المياه». وذلك أنّه ليس يحتاج إلى هذا الدليل في الماء المنتن والماء الذي تخالطه حمأة أو يظهر في طعمه شيء من طعوم الأدوية إذ كان الأمر في تلك المياه بيّناً لجميع الناس. لاكنّه إنّما يحتاج إلى هذا الدليل في المياه التي ليس فيها شيء من هذه الأحوال لاكن فيها نوع آخر من الرداءة إمّا لأنّه يخالطها هواء رديء وإمّا لغريزة يخفى السبب فيها. فإنّ أفضل الدلائل التي تسير بها المياه التي هي بتلك الحال ذلك الدليل الذي ذكرناه وذلك أنّ المياه التي هي بتلك الحال لا تسخن سريعاً ولا تبرد سريعاً.
وقد نجد فيها دليلاً آخر شبيهاً بذلك الدليل وهو ممّا يطبخ بها من البقول ومن الحبوب أو من اللحم أو من الثمار أو من الأصول. وذلك أنّ ما يطبخ من هذه الأنواع بالماء الجيّد ينضج في أسرع الأوقات وما يطبخ منها بالماء الرديء يكون
نضجه في أبطأ الأوقات. وما كان في هذه الحال من الرداءة من المياه فقد ينسبه قوم من القدماء إلى إبطاء النضج كما تنسب الحبوب التي هي بتلك الحال أعني الحبوب التي يعسر نضجها.
فلهذه الضروب من المصالح ربّما عمد إلى الماء 〈…〉 ثمّ برّدناه وإن نحن أيضاً أردنا شرب الماء وهو حارّ ثمّ كانت تخالطه حمأة أو كان فيه نتن أو عكر قد نعالجه بهذا العلاج. وذلك أنّه إذا سخن ثمّ برد أمّا في حال طبخه فإنّه يذهب عنه نتنه الذي يكسبه في أكثر الحالات من العفونة ويصير كلّ ما فيه من الأجزاء الأرضيّة بحال يسهل معها رسوبه وقد كانت تلك الأجزاء الأرضيّة قبل أن يسخن الماء متفرّقة فيه مخالطة له كلّه. فكان إذا شرب وهي فيه ضرّت مضرّة ليست باليسيرة وخاصّة متى كانت نواحي كلاه أو مثانته مستعدّة لتولّد الحصى. وأمّا في حال تبريد الماء في الهواء بعد طبخه فإنّ تلك الأجزاء الأخر الأرضيّة التي تميّزت عنه في وقت إسخانه وصارت بحال يسهل رسوبها معها ترسب وتتميّز عنه البتّة فتصير في أسفل الإناء. وأحسب الأطبّاء إنّما ذهبوا في وضعهم جميع ما يضعونه في الهواء حتّى يبرد وهو الباب الذي يسمّونه «التنجيم» ولم يقتصروا على فعل ذلك في الماء وحده بعد تسخينه حتّى فعلوه في أشياء أخر كثيرة غيره إلى هذا التمييز. وذلك أنّ كلّ ما كان منه مركّباً من جواهر مختلفة الأجناس ومخالطة تلك الجواهر فيها بعضها لبعض على أجزاء صغار من كلّ واحد منها فإنّه إذا برد بعد أن يسخن تميّز ما فيه من الأجزاء المختلفة بسهولة وسرعة. فأمّا ما قبل أن يبرد بعد طبخه فإنّ تلك الأجزاء تكون فيه بعد متحرّكة غير مستقرّة ولذلك يكون جميع
أجزائها مختلطاً فإذا هو برد رسب كلّ ما كان فيه من الأجزاء الثقيلة الأرضيّة وطفا في أعلاه كلّ ما كان منه خفيفاً.
فإن وصل القول في طبخ المياه بما تقدّم من قول أبقراط في مساعدة الأطبّاء فمنفعته منفعة بيّنة واضحة ولعلّنا نقدر أن نفهم معناه في قوله على الحقيقة ما الذي أراد به. فإن نحن عزلنا هذا القول الذي نحن في شرحه عن القول الذي تقدّمه ونظرنا في معناه وجدناه مملوءاً من الشكوك. فقد ينبغي أوّلاً أن نتأوّله على أنّه موصول بما قبله فنقول إنّه يستدلّ منه على علاج يصير به «الماء» بحال لا يضرّ معها من يريد شربه وهو بارد.
وهو علاج قد أعالج به الماء الكثير إذا أردت أن أسقي بعض المرضى ماء بارداً ولم أقدر على غيره ممّا لا يذمّ منه شيء. وذلك أنّه ليس في كلّ موضع يقدر على الماء الجيّد الذي لا عيب فيه كما قد يقدر عليه بروميّة فإنّ تلك المدينة كما قد تفضل على سائر المدن في أشياء أخر كثيرة كذلك قد تفضل عليها بجودة العيون التي فيها وكثرتها. وذلك أنّك لا تجد فيها البتّة عيناً من العيون عكرة الماء ولا منتنة ولا ما بها طعم ولا رائحة من الأدوية ولا ممّا يعسر نضجه وكذلك حال الأعين التي في مدينتنا وهي برغامس. وأمّا غيرهما من كثير من المدن فقد نجد فيها مياهاً كثيرة رديئة وأمّا الماء الذي يساق 〈من〉 طيبرطينا في حجارة إلى مدينة روميّة فليس فيه شيء من الرداءة خلا أنّه أميل قليلاً إلى أن يكون أعسر نضجاً حتّى لا يسخن سريعاً مثل مياه تلك المدينة ولا يبرد سريعاً ولا ينضج ما يطبخ فيه من الحبوب والبقول واللحوم سريعاً كما ينضج في مياه عيون تلك المدينة. في بلدان أخر من المياه ما هو أعسر نضجاً من ذلك بكثير حتّى أنّ أهل تلك البلدان ينسبون تلك المياه إلى الصلابة والثقل من قبل أنّها تقرع المعدة كما يقرعها الشيء الصلب
ويحسّ شاربها منها بعد شربها بثقل في معدته. وذلك أنّ من عادة الناس في هذا وفي أشياء كثيرة غيره أن ينسبوا الأسباب التي يحدث عنها شيء من الأشياء إلى ذلك الشيء الذي يحدث عنه من ذلك أنّهم ينسبون الماء المضادّ لهذا وهو أجود المياه إلى الخفّة واللين وهم يريدون بذلك حمده.
وجميع ما وصفناه في هذا قد ينتفع بمعرفته إلّا أنّه ليس يستدرك منه شيء البتّة من هذا القول الذي نحن في شرحه لا مع برهان ولا مع غير برهان ولا بإيجاز وإغماض ولا بشرح وبيان. فالأجود عندي أن يتجاوز القارئ أشباه هذه من الأقاويل البتّة لاكنّ السوفسطائيّين لمّا علا صوته من التأويلات من تلاميذهم يختارون ويقدّمون الأقاويل التي يستدرك منها شيء على الأقاويل التي يستفاد منها ما ينتفع به. وبسبب أولائك حمّل عليّ أصحابي في المسألة فاضطررت إلى التطويل على أنّي قد تركت أشياء كثيرة ممّا قد وصفته لهم في شرح أشباه هذه من الأقاويل من اقتصاصي ما كتبه المفسّرون في تأويل تلك الأقاويل كما اقتصصت في هذا القول.
وزوكسس تأوّله على نحو آخر وإيراقليدس الذي من أهل طارنطس على وجه آخر من التأويل وإيروقليدس الذي من أهل إروثرا على نوع آخر من التأويل وقبل هؤلاء تأوّله غلوقياس على ضرب آخر ومن بعد هؤلاء تأوّله سابنس على وجه آخر حتّى
أدع ذكر المفسّرين الأخر. وتأوّله †مٮساٮوس† على طريق آخر وتأوّله روفس على مذهب آخر وقد فسّره أيضاً مارينس ولوقس وقوم آخرون من أصحاب قوانطس ونوميسيانوس وخالف بعضهم في أكثر ما قالوه وإن كان ينبغي أيضاً أن نذكر روفس الذي من أهل سمريا فإنّ هذا أيضاً قد كتب تفاسير في كتب أبقراط لم يأت بشيء من عنده لاكنّه حكى فيها تأويلات القدماء من المفسّرين.
فإن أنا اقتصصت كلّ واحد من الأقاويل التي قالوها هؤلاء وبيّنت قبح أقاويل جميعهم إلّا الشاذّ طال كلامي طولاً خرج به عن المقدار القصد. وإن أنا أيضاً لم أذكر شيئاً ممّا كتبوه في ذلك ولم أبيّن قبح قول كلّ واحد منهم ثمّ قرأ بعض الأحداث بعض التفاسير الذي كتبت في هذا الكتاب فأعجبه قول بعض من قال شيئاً في شرح أشباه هذا من القول لامني وظنّ بي أنّي إمّا أن أكون تعمّدت أخفى ما قد أحسن فيه من كان قبلي وسترته وإمّا أن أكون أغفلت النظر في تفاسيرهم. وذلك أنّ أكثر من يدخل في هذه الصناعة يدخل فيها وهو لا يقوى على امتحان الأقاويل وتمييز صوابها من خطائها لعلّة مانعة من الآداب. فإن أنا قصدت بسبب هؤلاء أن [لا] أكشف الخطاء في كلّ ما قاله المفسّرون أفنيت مرّتين من الزمان أقتصّ في إحداهما ما قالوه وأبيّن في الآخر أخطاءهم.
ولمّا كان لا يمكن أن أسلم من القوم على غير الانصراف قد كان الأجود ألّا أفسّر البتّة جميع الأقاويل التي تجري مجرى الرمز واللغز إلّا أنّ أصحابي حمّلوني على ذلك كرهاً. وقد برمت على طاعتي لهم وتلبّسي ما تلبّست به من ذلك منذ مدّة طويلة لاكنّ الواجب أحد أمرين إمّا أن لا أكون ابتدأت البتّة بشرح شيء من
أشباه هذه الأقاويل وإمّا إذ قد ابتدأت بيان أتمّه. وأنزل أمري فيه منزلة رجل وقع في أعظم ما يكون من ضروب المناضلة وصبر عليه واحتال فيه حتّى تخلّص منه وأحرز الفضيلة في التخلّص منه.
وأنا مقبل قبل ذلك منذ وقتي هذا فأقول إنّ هذا القول الذي نحن في شرحه إن كان أبقراط إنّما قصد فيه أن يصف كيف ينبغي أن يهيّأ الماء البارد للشرب فإنّ معناه يكون على ما أنا واصفه وهو أنّا متى طبخنا ماء ونحن نريد بطبخه المصالح التي تقدّم ذكرها فقد يجوز أحد أمرين إمّا ألّا نضع على فم الإناء الذي فيه الماء الذي يطبخ شيئاً لاكنّا ندع ذلك الماء المطبوخ مكشوفاً حتّى يلقى الهواء وإمّا أن نفعل ضدّ ذلك فنحول بينه وبين الهواء بغطاء يطبقه على فم الإناء.
وهذا أيضاً الذي قيل قد يجوز أن يكون عنى أنّه ينبغي أن نفعل في إحدى حالين إمّا على حال طبخ الماء وإمّا في حال تبريده بعد. والقول بأنّه عنى بذلك في وقت التبريد أقرب القولين إلى القبول والقول بأنّه عنى بذلك في وقت الطبخ أبعد من القبول. وذلك أنّا لا نقدر أن نتوهّم أنّ الهواء في وقت طبخ الماء إذا لقيه نفع فيه ضرباً من النفع أو إذا منع من أن يلقى الماء في وقت طبخه أغني فيه ضرباً من الغناء. فأمّا في وقت تبريد الماء بعد طبخه فإنّا حيث نجد بئراً باردة ندلي فيها ذلك الماء السخن أو فوّارة نضعه تحتها فقد نضطرّ عند ذلك أن نطبق فم ذلك الإناء الذي فيه الماء السخن إطباقاً ونسدّه من جميع نواحيه سدّاً محكماً. وحيث لا نجد شيئاً من ذلك كالحال في بلاد مصر فقد ينبغي أن نعلّق الإناء وليس على فمه غطاء حتّى يقبل الهواء البارد.
وأمّا قوم من المفسّرين ممّن لم يصل هذا القول الذي نحن في شرحه بما تقدّم قبله وقرأه على حدته فزعموا أنّ قوله هذا إنّما أراد به المياه الرديئة وخاصّة متى كانت رداءته بسبب جوهر أرضيّ مخالط له وأنّه إنّما وصف في هذا القول مقدار
طبخ ذلك الماء من قبل أنّ ذلك الماء في زعمهم ينبغي بأن يطبخ إلى أن يصير إلى حال الصفاء والاستنارة «بقبوله للهواء» من خارج. فإنّ الماء الجيّد في زعمهم إنّما يرى نيّراً مضيئاً لمخالطة الهواء له لا لطبيعته. وألقوا أنفسهم في باب من الكلام في الطبائع لا يصلون فيه إلى حجّة يثبتونه بها. وذلك أنّ الماء الصافي يرى نيّراً لا بوقوع جوهر نيّر فيه من خارج لاكن بالاستحالة التي يقبلها بملاقاة الضوء له كما يقبل الهواء نفسه. فإنّ الهواء أيضاً ليس هو في طبيعته نيّراً مضيئاً ولو كان كذلك كان سيكون بالليل بهذه الحال لاكنّ ضياء الشمس إذا لقي منه طرفه الأعلى استحال كلّه وتغيّر فصار نيّراً إذ كان متّصلاً بعضه ببعض.
وأمّا القول بأنّ في الماء وفي الهواء مواضع خالية من الجسم فقول تابع لمقالة إبيقورس وأسقليبيادس في الأسطقسّات وهو مضادّ لمقالة أرسطوطاليس وأصحاب المظلّة في الأسطقسّات لأنّ أولائك لا يعتقدون أنّ في العالم شيئاً من الخلاء البتّة لاكنّ العالم عندهم مملوء من الأجسام حتّى لا يظنّوا بالفرج الذي في ما بين الأجسام الأرضيّة من الجوهر الذي يعرف «بالكسير» «والفينك» أنّها خالية لاكنّهم يزعمون أنّها تحوي هواء. وأمّا الماء فليس فيه عندهم البتّة مجارٍ وفرج مثل ما في الكسير لاكنّه عندهم متّصل بعضه ببعض ليس فيه تفرّق البتّة.
فالأجود أن تفهم عن أبقراط قوله منه «ما يلتمس فيه أن يقبل الهواء» أنّه إنّما عنى به الماء الذي لا يغطّى الإناء الذي يحويه بطبق يطبق على فيه. وممّا يصحّح ذلك أنّ ما يتلو ذلك القول لا يحتمل ذلك التأويل الذي قيل قبل وهو قوله «ومنه ما لا يملأ إناؤه ويوضع عليه غطاء». وذلك أنّ هذا إنّما وضعه بإزاء ما تقدّم من قوله وهو «إنّ الماء الذي يغلى منه ما يلتمس فيه أن يقبل الهواء». وذلك أنّه لمّا كان القول الثاني الذي يتلو هذا الكلام يوجد أن «يوضع على الإناء غطاء» كان القول
الأوّل الذي وضع بإزائه يدلّ على أنّه لا «يوضع على الإناء غطاء» وعلى ذلك دلّ أبقراط بقوله «ما يلتمس فيه أن يقبل الهواء» من خارج. وأمّا الإناء الذي ليس على فمه طبق فإنّه «يقبل الهواء» بسهولة وإنّما يقول إنّ ذلك يكون في الماء الذي يبرّد بالهواء البارد كما من عادة الناس أن يفعلوا بالإسكندريّة. فأمّا حيث يوضع الإناء الذي فيه الماء المغلّى تحت فوّارة أو يدلى في بئر باردة فقد ينبغي أن يكون الإناء فيه بعض الخلاء حتّى يبرد أوّلاً الهواء الذي في ما بين الطبق الذي على فم الإناء وبين الماء الذي فيه فيبرّد الماء الذي يليه بملاقاته له. وذلك أنّه كما أنّ الماء أسرع إلى قبول السخونة والبرودة من جميع الأجسام الأرضيّة من قبل أنّه أرقّ وألطف منها كذلك الهواء أسرع إلى قبول السخونة والبرد من الماء.
فإن كان أحد من الناس ليس عنده من هذه تجربة وخبر وهو ممّا يكون في كلّ وقت فذلك عندي عجب. وذلك أنّ الأوعية التي فيها الشراب ما ترك منها بلا طبق وغطاء فإنّ الحموضة تسرع إلى الشراب الذي فيه وكذلك أيضاً الأوعية التي عليها طبق وغطاء ما كان منها مملوءاً كانت الحموضة تعرض فيه أقلّ. وذلك أنّ الأوعية التي فيها بعض الخلاء لما كانت تحوي هذا كانت الاستحالة أسرع إلى ما فيها من الشراب من الهواء الخارج بتوسّط ذلك الهواء الداخل فيها وإذا كانت مملوءة إلى أن يلقى الشراب الغطاء الذي على أفواه الأوعية كانت الاستحالة التي تحدث للشراب الذي فيها بتوسّط الأوعية من الضعف والخفاء بسبب مبلغ تلك الأغطية في التلزّز والكثافة. فنجد 〈الشراب الذي في〉 الأوعية التي تسدّ رؤوسها بالزفت وبالجبس أصبر وأبقى ونجد الشراب الذي في الأوعية التي تسدّ بالجلود فقط أقلّ بقاء كذلك الأوعية التي تسدّ رؤوسها بلحاء الشجر 〈…〉 أو بالجلود ثمّ يغلّون ذلك بالزفت أو بالجبس.
فعلى هذا القياس متى أردنا أن نبرّد الماء غاية التبريد ثمّ وجدنا ثلجاً أسخنّا الماء أوّلاً ثمّ جعلناه في إناء ولم نملأه منه وأطبقنا عليه غطاء ودفنّاه في الثلج وإن لم نجد ثلجاً احتملنا له التبريد بوضعنا إيّاه تحت فوّارة أو بتدلّينا إيّاه في بئر باردة. ونريد بما يتقدّم فيه من إسخانه أن يكون سريع الاستحالة وذلك أنّ كلّ شيء يتقدّم فيسخنه فإنّ قبوله يكون للاستحالة ممّا يلقاه أسرع وأسهل ونريد بالفضاء الذي ندعه في الإناء التلطّف لأن يلقى الماء هواء بارداً فيبرّده بالسبب الذي تقدّم ذكره.
فإن كان أبقراط إنّما قال هذا القول وهو يريد به تبريد الماء الذي قد أغلي فقد وقعت فيه على تأويل مقنع وإن كان إنّما قاله وهو يريد به إصلاح الماء الرديء فقد ينبغي أن ننظر في ذلك في ما بعد ونجعل افتتاح النظر أمر الطبخ. فنقول إنّ الطبخ لمّا كان يحلّ الماء كلّه حلّاً مستوياً فإنّه يجعله مستعدّاً للتميّز وما دامت الحركة التي حدثت فيه عن سخونته باقية فلا بدّ من أن يرتفع ويعلو فيه بعض تلك الأجسام الغليظة المخالطة له فإذا ذهبت عنه وبطلت البتّة فإنّ تلك الأجسام الأرضيّة تنحدر لثقلها فترسب في أسفل الإناء ويعلو الماء وهو صافٍ. فإذا صفّينا ذلك الماء برفق إلى إناء آخر قدرنا أن نستعمله من غير أن ينال البدن منه مضرّة.
وأمّا زوكسس فما أدري ما الذي دعاه إلى أن حرّف ابتداء الجزء الثاني من هذا تحريفاً صار به معناه مكان «ومنه ما يملأ إناؤه» «ومنه ما يطفو». وزعم في تأويله أنّ أبقراط إنّما أراد بهذا القول أن لا يرتفع الماء ويطفو في رأس المعدة. ولم يقدر
زوكسس أن يصل ما قيل قبل ذلك وبعده في هذا القول بما حرّفه في الوسط حتّى أزال معناه عمّا ينبغي أن يكون عليه على أنّ زوكسس هذا يرى أنّ هذا من أعظم الخطاء في التأويل كما أنّ من أعظم فضائل التأويل أن يكون جميع ما في القول من الأسماء والكلم موافقاً بعضه لبعض. وقد يناقض كثيراً ويعاند غلوقياس من هذا الباب لاكنّه لمّا كان المحبّ يعمى عمّا يحبّه لذلك صار حبّ الإنسان لنفسه ربّما أعماه عمّا هو له خاصّة دون غيره وإن كان قد يرى غير ذلك على الاستقصاء والحقيقة.
فأمّا ما أخطأ فيه سائر المفسّرين في تأويل هذا الكلام الذي نحن في شرحه فإنّي إن رمت وصفه طالت هذه المقالة طولاً مجاوزاً للمقدار المعتدل. وقد كنت قصدت منذ أوّل تفسيري لهذا المقالة من كتاب إفيذيميا أن أتجنّب التطويل فتجاوزت ما كنت قصدت له من ذلك إلى أن أشرفت على أن يكون تفسيري لها في ثماني مقالات. ولو أنّي حملت نفسي على أن أقتصّ جميع ما قالوه أوّلاً ثمّ كشفت خطاءهم في شيء شيء منه لقد كان عدد المقالات التي أفسّر فيها هذه المقالة من كتاب إفيذيميا سيصير ثلاثة أضعافها أو لا محالة ضعفها.
(١٢) قال أبقراط: إنّ من انفجار الدم قد يعرض للناس الاستسقاء.
قال جالينوس: إنّ هذا القول يجري معناه مجرى القول الذي قاله بهذا اللفظ: «إنّ الدم إذا جرى من الناس استرخوا وضعفوا». وذلك أنّ هذين العرضين جميعاً
إنّما يكونان بما يحدث للبدن من البرد عند استفراغ الدم فما قلته في شرح ذلك القول فانقله إلى هذا القول.
(١٣) قال أبقراط: إنّ استنقاء البدن ممّا ينبغي أن يستنقى منه فإنّه يحتمل ذلك بسهولة.
قال جالينوس: إنّ قوماً يكتبون هذا القول على ما كتبناه من غير أن يزيدوا فيه شيئاً على مثال ما قد كتب في كتاب الفصول وأكثرهم يجعل فيما بين قوله «فإنّه» وبين قوله «يحتمل ذلك بسهولة» واو زائدة وذلك جائز في لغة اليونانيّين. ويذهبون في ذلك إلى أنّه ينبغي أن يفهم عن أبقراط أنّه مع «احتماله بسهولة» «قد ينتفع به» وهو الشيء الذي صرّح به في قول قاله في كتاب الفصول حين قال: «إنّ استفراغ البدن من النوع الذي ينبغي أن ينقّى منه نفع ذلك ويسهل احتماله». فالواو الزائدة الملحقة في هذا القول تدلّ بزعمهم أنّ البدن مع «احتماله» لذلك الاستفراغ «بسهولة» قد ينتفع به كان ذلك الاستفراغ بسقينا الدواء وكان بتنقية الطبيعة للبدن ممّا يؤذيه من الأخلاط. فإنّ من عادة أبقراط أن يسمّي «بالاستنقاء» الاستفراغ الذي يكون بالدواء فقط لاكن قد يسمّي بهذا الاسم أيضاً الاستفراغ الذي يكون من الطبيعة. وأمّا ثوقوديدس فقد يسمّي بهذا الاسم أيضاً الاستفراغ الذي يكون من عرض بسبب الأمراض لا الذي يكون فقط بحركة الطبيعة في
الأمراض. فقد قال في بعض قوله: «إنّه اعتراهم جميع ضروب الاستنقاء من الموادّ التي يسمّيها الأطبّاء» وهذا القول قاله في اقتصاصه أمر الموتان الذي كان عرض في دهره في كتابه الثاني من كتاب الأقاصيص.
وقد كتب قوم من المفسّرين ومنهم زوكسس من بعد هذا القول الذي تقدّم قولاً كتبه في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا وهو هذا القول:
(١٤) قال أبقراط: أهل أينس أصابهم جوع فأدمنوا أكل الحبوب فأعقبهم إناثهم وذكورهم مهانة في الرجلين ودام بهم ذلك وأكلوا أيضاً الكرسنّة فأعقبهم ذلك وجع في الركبتين.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد حذفوا ذكر «أينس» من هذا القول كما قد فعل زوكسس وجعلوا افتتاحه: «إنّ قوماً أصابهم جوع فأدمنوا أكل الحبوب». وقد شرحت القول شرحاً شافياً في تفسيري للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا.
(١٥) قال أبقراط: يتبيّن أنّ المنتبه أسخن من خارج وأبرد من داخل والنائم على ضدّ ذلك.
قال جالينوس: أمّا قوله في أوّل هذا الكلام «يتبيّن» معناه فيه مساوٍ لمعناه في قوله لو قال إنّه قد يظهر ويتبيّن ويضح. وأمّا ما قاله بعد هذا 〈…〉 فيتبيّن عليه وأبقراط يرى أنّ ظاهر البدن من «المنتبه أسخن» سخونة بيّنة وباطنه «أبرد» وأنّ «النائم» يعرض له «ضدّ ذلك». وممّا يدلّك على ذلك أنّ «النائم» يحتاج إلى فضل من الدثار ويحتاج أيضاً ما يكنّ به رأسه إذا كان الهواء بارداً كالحال في الشتاء على أنّ الإنسان بالنهار ليس يحتاج إلى ذلك. وفضل عظم النفس أيضاً في وقت النوم فقد يدلّ على أنّه قد اجتمع في باطن البدن من الحرارة مقدار كثير. وعلى مثال ذلك أيضاً يدلّ ما نجد من الاستمراء: يكون في الذي ينام فيستوفي نومه أكثر منه في الذي يسهر وليس الاستمراء للطعام الذي في المعدة فقط يكون في وقت النوم أزيد لاكن قد يتزيّد أيضاً في ذلك الوقت الهضم الذي يكون في الكبد والعروق [و]للأخلاط النيّة. وذلك ممّا يدلّك أنّ باطن البطن يزداد حرارة في وقت النوم إذ كنّا قد تقدّمنا فبيّنّا أنّ أقوى الأسباب في جميع أنحاء النضج التي تكون في البدن هي الحرارة الغريزيّة.
وكذلك كتب في كتاب الفصول في أمر الأسنان وأوقات السنة والمهن حين قال: «إنّ الأجواف في الشتاء والربيع أسخن ما يكون بالطبع والنوم أطول ما يكون فينبغي 〈أن يكون ما يتناول من الغذاء في هذين الوقتين أكثر وذلك لأنّ الحارّ الغريزيّ في الأبدان〉 في هذين الوقتين كثير ولذلك يحتاج إلى غذاء كثير والدليل
على ذلك أمر الأسنان والصرّيعين». فذكر في هذا القول أمر الأسنان بإيجاز وذكره في فصل آخر ذكراً أطول من هذا ولذلك صار أبين وأوضح فقال هذا القول: «إنّ ما كان من الأبدان في النشوء فالحارّ الغريزيّ فيه على أكثر ما يكون ويحتاج من الوقود إلى أكثر ما يحتاج إليه فإن لم يتناول ما يحتاج إليه ذبل ونقص البدن فالحارّ في الشيوخ قليل فمن قبل ذلك ليس يحتاجون من الوقود إلّا اليسير». وتنقّص الحرارة في الأسنان ليس يكون بنقله الحرارة الغريزيّة إلى داخل وإلى خارج لاكنّه إنّما يكون بذبولها وانطفائها على طول المدّة حتّى يصير مزاج البدن في سنّ الشيخوخة في غاية البرد. وأمّا في الشتاء فإنّ الحرارة الغريزيّة بانتقالها إلى باطن المعدة والأحشاء أسخن ممّا كانت ويصير ما يلي الجلد من البدن أبرد ممّا كان على مثال ما نجد باطن الأرض أيضاً في الشتاء حارّاً حتّى تكون العيون بسبب ذلك أسخن وإذا احتفر المحتفر إلى أن يصل إلى عمق الأرض أحسّ منها بحرارة بيّنة إذا هو تباعد عن سطحها الأعلى.
(١٦) قال أبقراط: الطبيعة المحرورة يوافقها البرد وشرب الماء والدعة.
قال جالينوس: إنّ القدماء من المفسّرين يزعمون أنّهم وجدوا مكان «شرب الماء» «بشرب الماء» ولو كان مكان «البرد» «التبريد» لقد كان يجوز أن يقال «إنّ الطبيعة المحرورة يدافعها التبريد بشرب الماء والدعة». فأمّا «البرد» فلا يجوز أن ينسق عليه «بشرب الماء والدعة» وذلك فساد في اللغة. وقد ذكر زوكسس أنّ
قوماً كتبوا مكان «شرب الماء» «بالشراب المائيّ» ويعني «بالمائيّ» الرقيق المكسور بالماء.
والأمر الذي أشار به في هذا القول بيّن واضح وذلك أنّ من كان مزاجه أسخن من المقدار الذي ينبغي فجملة تدبيره ينبغي أن يضاف إلى التبريد. فينبغي أن يطعم من الأطعمة ما كان مزاجه إلى البرد أميل ويجعل شرابه الشراب الرقيق المكسور بالماء والماء القراح ولا يستعمل الرياضة الكثيرة وذلك أنّه قد يكتفي بالحركات التي يتحرّكها في أعماله التي لا بدّ له منها. ومن البيّن أنّه قد ينبغي أن يتجنّب الغضب والهموم القويّة وأنّه ينبغي أن يستعمل الاستحمام بالماء العذب الشروب في كلّ يوم لا مرّة واحدة فقط لاكنّ مراراً إن أحبّ ذلك وتكون الأطعمة التي يتناولها في قوّتها أقرب إلى البرد وخاصّة في الصيف. وقد ينبغي قبل كلّ شيء أن تحفظ عن أبقراط أنّه إذا قال في أشباه هذه من الأقاويل «الطبع المحرور» أو «المحرور الطبع» فإنّ من عادته ألّا يعني تبريداً لا من الحرارة الغريزيّة كثيرة لاكنّ من تغلب عليه الحرارة الحادّة اللذّاعة التي هي مكتسبة خارجة عن المجرى الطبيعيّ.
(١٧) قال أبقراط: النوم في البرد والإنسان متدثّر.
قال جالينوس: أمّا أكثر المفسّرين فيفسّرون هذا القول على الانفراد وأمّا أنا فأرى أنّ الأجود أن يوصل بالقول الذي قبله ويجعل كلّه قولاً واحداً على هذا المثال: «الطبيعة المحرورة يوافقها البرد وشرب الماء والدعة والنوم في البرد والإنسان متدثّر». وذلك أنّ من كان مزاجه حارّاً بمقدار خارج من الاعتدال مفرط فالأجود له أن ينام في موضع بارد فيجتذب إلى جوفه باستنشاقه الهواء وهو بارد وخاصّة لأنّ الحرارة
في وقت النوم تغور إلى عمق البدن. لاكن إن كانت الحرارة كما تفارق في النوم سطح البدن الخارج فيصير باطن البدن أسخن ممّا كان كذلك يبرد ظاهر البدن ممّا يلي الجلد بسبب برد الهواء فيسخن باطنه ثمّ يستكمل الإنسان التبرّد باستنشاق الهواء البارد. فالأجود إذاً 〈…〉 الحرارة إلى ما يلي الجلد 〈…〉 ويستنشق الهواء البارد حتّى يصير البدن الحارّ إلى المزاج المعتدل بالوجهين جميعاً.
فالأجود إذاً كما قلت أن يوصل ما قيل في هذا القول بالقول الذي تقدّم قبله. وقد يعزل أكثر المفسّرين هذا القول على حدته فيزعمون أنّه ليس أصحاب الطبائع المحرورة فقط لاكنّ جميع الناس كافّة قد ينتفعون بأن يناموا في هواء فيهم البرد أميل كيما تبرّد الحرارة التي تجتمع في أجوافهم. وينبغي مع ذلك أن يتدثّر كيما لا تميل حرارة 〈البدن〉 كلّها دفعة إلى داخل باجتماع الحرارة بسبب غلبة البرد على الأعضاء التي تلي الجلد لبرد الهواء الخارج إلى باطن البدن مع اجتماعها هناك بسبب النوم. قد يصحّ هذا في كثير من الطبائع وليس يصحّ في جميعها. وذلك أنّه كما أنّ من كان مزاجه أسخن من المزاج المعتدل يحتاج إلى أن يبرّد كذلك من كان مزاجه أبرد من المزاج المعتدل يحتاج إلى أن يسخن.
ومن المفسّرين قوم آخرون لم يقتصروا على أن عزلوا هذا القول الذي نحن في شرحه عن القول الذي تقدّم قبله لاكنّهم قسموا مع ذلك هذا القول بقسمين وحرّفوا من القسم الأوّل بعض التحريف حتّى صار معناه أنّ «النوم يبرّد». واضطرّ هؤلاء إلى أن وصلوا القول الذي بعد هذا بآخر هذا القول الذي نحن في شرحه وحرّفوا اللفظة التي كان معناها «متدثّراً» تحريفاً صار معناها «مستلقياً» فقرؤوا ذلك القول هذه القراءة: «للإنسان المستلقي النوم المتمكّن هو للقائم نعاس». ومع ما في هذا التأويل من تعسّف اللفظة التي تدلّ على «المتدثّر» وتحريفها حتّى تدلّ على
المستلقي فإنّ المعنى الذي ذهبوا إليه معنى حقير لا ينتفع به. وذلك أنّهم إذاً كانوا إنّما يريدون أن يفهم أنّ حال البدن التي يميل فيها إلى النوم متى كان الإنسان مستلقياً يحدث النوم المتمكّن الصحيح ومتى كان الإنسان قائماً أحدث النعاس.
(١٨) قال أبقراط: النوم المتمكّن للقائم نعاس.
قال جالينوس: أمّا ما كتبه أكثر المفسّرين في شرح هذا القول فالأجود إلغاء ذكره. وأمّا ما قاله من يظنّ به منهم أنّه قد قال ما هو أقرب من القبول والإقناع فهذا ما أنا واصفه: ذكر قوم منهم أنّ السهر يبرّد البدن وجعلوا الدليل على ذلك ما يعرض لمن يسهر من رداءة اللون. فزعموا أنّا متى أردنا أن نبرّد بدناً محروراً في مزاجه فقد ينبغي مع سائر ما نعالجه به ممّا وصفه أبقراط فيما تقدّم من قوله أن نضيف إلى ذلك هذا الذي وصفه في هذا القول حتّى نشغلهم بشيء يهمّون به أو يعملونه كيما يسهروا أو 〈إن〉 لم يقدروا على ذلك نمنعهم من أن يناموا وهم مستلقون ويضطرّهم أن يفعلوا أحد أمرين إمّا أن يجلسوا وإمّا أن يقوموا.
وذكروا أنّه إنّما أراد «بالنوم المتمكّن» النوم الذي لا ينامه الإنسان وهو جالس من التمكّن والجلوس فإنّ نوم الجالس في القوّة والعمل «بنعاس القائم» ولذلك قال أبقراط: «إنّ النوم المتمكّن للقائم نعاس». وقوله هذا مساوٍ لقوله لو كان جعله كلّه على هذا المثال: إنّه قد ينبغي أن يمنع المحرور في طبيعته من الإكثار من النوم وذلك أنّ الأجود له أن ينتبه في أكثر الأوقات ويشتغل بشيء يعمله والأجود أن يمنعه من الجلوس وإن لم يقدر يمنعه من الجلوس أذنّا له وذلك أنّ نوم الجالس مقارب «لنعاس القائم» وأمّا الاستلقاء فمنعه منه.
وزعم قوم من المفسّرين أنّه عنى «بالنوم المتمكّن» النوم الثقيل المستغرق وذكروا 〈أنّه〉 إنّما ينام «النوم المتمكّن» أعني الثقيل المستغرق من كانت حاله الحال التي ينعس معها وهو قائم لاكنّهم لم يضيفوا إلى ذلك السبب الذي من أجله كتب أبقراط هذا وأمّا الدرك فيه فبقي هذا القول منهم مبتوراً.
فخليق أن يكون الأجود أن نقول إنّ أبقراط إنّما قال هذا القول وهو يشير علينا فيمن نريد أن ننوّمه «نوماً متمكّناً» أعني نوماً ثقيلاً مستغرقاً أن نمنعه من النوم ونأمره أن يبقى وهو مستيقظ مدّة ما حتّى يبلغ به النعاس إلى ألّا يقدر على ألّا يقوم فضلاً عن الجلوس من غير أن ينعس فإنّه إذا صار إلى هذه الحال نام نوماً ثقيلاً مستغرقاً.
وقد دبّرت بها كثيراً من شكا إليّ السهر لمّا دونه إلى النوم فاضطررتهم إلى أن يسهروا فضل قليل فلمّا فعلت ذلك ناموا نوماً لم يذمّوا منه شيئاً. وكذلك قد شكا إليّ قوم اختلال شهوة الطعام فاضطررتهم إلى أن أمسكوا عن الطعام مدّة طويلة من النهار فصاروا بذلك إلى حال الجوع. وذلك أنّ الإنسان إذا طلب النوم أو الطعام من قبل أن تحتاج إليهما طبيعته عرضت له تلك الأعراض التي ذكرت من الأرق واختلال الشهوة. وليس ينبغي أن تستكره الطبيعة إلى شيء في غير وقته لاكن إنّما ينبغي أن تعان على الشيء إذا احتاجت إليه في وقته. أمّا أنا فقد قلت ما ظننت أنّ للقائل أن يقوله في شرح هذا القول الذي تقدّم على الطريق الذي يقرب من القبول والإقناع.
وأمّا من ظنّ أنّ النوم يبرّد دائماً فهو عندي قد جهل من الطبّ باباً جليل القدر عظيم الدرك. وذلك أنّ النوم يرطّب في جميع الأحوال كما أنّ السهر يجفّف في جميع الأحوال وقد وصف لنا ذلك أبقراط وليس من شأن النوم في جميع الأحوال أن يسخن أو يبرّد. لاكنّه متى صادف في البدن وليست به حمّى أخلاطاً بلغميّة أو نيّة أو بالجملة باردة كيف كانت الحال فيها فهضمها وأنضجها حتّى يولّد منها دم جيّد أسخن ذلك البدن وأنمى الحرارة الغريزيّة فيه. ومتى صادف البدن وقد حدثت به حمّى من عفونة أشباه تلك الأخلاط برّده بتطفئته لحرارة الحمّى وأنمى ذلك للحرارة الغريزيّة. ومتى صادف البدن ليست به حمّى أو به حمّى وفيه أخلاط كثيرة من جنس الماء والمرار فإنّه إن قوي على أن يميّز تلك الأخلاط ثمّ ينفضها عن البدن ردّ البدن إلى اعتدال مزاجه في صحّته وإن لم يقو على أن يفعل ذلك حفظ مزاجه على حاله. وإن كان إنسان به حمّى من ورم في بعض أحشائه فنام في ابتداء نوبة الحمّى فإنّ هذا النوم كان في غير وقته تزيّد ذلك الورم فتزيّدت الحمّى بزيادة الورم فيجعل البدن بهذا السبب أسخن بالحرارة الخارجة من الطبيعة.
وقد يمكن في بعض الأحوال أن يصير البدن في وقت واحد أسخن ممّا كان وأبرد ممّا كان في حال واحدة بسبب النوم من قبل 〈أنّ〉 الحرارة في أبدان الحيوان جنسان أحدهما غريزيّ موافق ملائم والآخر خارج عن الطبيعة غريب غير ملائم. فإذا ينمي النوم الجنس الأوّل من الحرارة وزاد فيه وقوّاه ونقص من الجنس
الآخر وأضعفه وأذبله وأطفأه وجب أن يقول القائل إنّ البدن في حال واحدة قد صار أسخن ممّا كان وأبرد ممّا كان بسبب النوم.
وأكثر من فسّر كتب أبقراط لا يعرف هذا الذي ذكرنا البتّة. وأنت قادر أن تعرف صحّة قولي في هذا ممّا ذمّ به لوقس أبقراط على قوله في كتاب الفصول حين قال: «إنّ ما كان من الأبدان في النشء فالحارّ الغريزيّ فيه على أكثر ما يكون». وقد بيّنت أنّ لوقس إنّما أقدم على ذمّ أبقراط لجهله بصواب ما كتبه أبقراط في صنفي الحرارة في مقالة بأسرها جعلت عنوانها «إنّ أبقراط لم يخطئ في الفصل الذي افتتحه بأن قال: ‹إنّ ما كان من الأبدان في النشء فالحارّ الغريزيّ فيه على أكثر ما يكون›».
(١٩) قال أبقراط: التدبير الضعيف بارد والتدبير القويّ حارّ.
قال جالينوس: أمّا «التدبير الضعيف» فيعني إمّا التدبير الذي يكون بالأعمال الضعيفة والأطعمة والأشربة الضعيفة وإمّا التدبير الذي يحدث في البدن ضعفاً. وأمّا «التدبير البارد» فإن كان إنّما ينسب إلى البرد لأنّ مزاجه بارد وإن كان إنّما ينسب إلى ذلك بحسب الحال التي يحدث في الأبدان فلا فرق بين ذلك. والأعمال الضعيفة هي التي تكون بحركات يسيرة من البدن والأعمال القويّة هي التي تكون بحركات شديدة سريعة من البدن والأطعمة الضعيفة هي التي ليست لها رائحة قويّة ولا طعم قويّ من 〈…〉 الملوحة أو المرارة أو من الحرافة لاكنّها تضرب
قليلاً إلى الحلاوة أو فيها مرارة يسيرة أو قبض يسير وكذلك حرارتها يسيرة والأطعمة القويّة أضداد هذه. فإن كان جميع ما يستعمله الإنسان من الأعمال أو من الأغذية «ضعيفاً» فإنّه يبرّد بدنه تبريداً قويّاً وكذلك أيضاً إن كان جميع ما يستعمله من ذلك قويّاً 〈…〉 وبعضه ضعيفاً فيجب اختلاط ما يستعمله من ذلك يكون قربه من أحد الطرفين أو بعده منه.
(٢٠) قال أبقراط: الماء الذي لم يعالج منه ما يخرج عن هواء صافٍ أو عن رعد وهو يكون في الوقت ومنه ما يكون جوداً على العاصف وهو رديء.
قال جالينوس: إنّا قد نستعمل أشياء في الطبّ لا علاج المرضى فقط لاكن قد نستعملها أيضاً في تدبير الأصحّاء ممّا يؤكل ويشرب ويتعالج به من خارج. فقد تسمّى هذه الأشياء بالواجب «موادّ الطبّ» وقد كتب قوم من الأطبّاء كتباً جعلوا عنوانها «في موادّ الطبّ». فربّما استعملوا تلك المادّة على وجوهها من غير علاج 〈في علاج〉 المرضى 〈و〉في تدبير الأصحّاء وربّما أثّرنا نحن أثراً نعالج به لنهيّئها بالحال التي نحتاج منها إليها فنطبخ بعضها ونحرق ونغسل بعضها ونبلّ ونجفّ بعضها ونرطّب بعضها ونبرّد بعضها ونصفّي بعضها أو نفعل بها غير ذلك ممّا أشبهه. وكذلك نفعل في المياه فإنّا ربّما عالجناها بعلاج نهيّئها به الحال التي نحتاج إليها منها كما وصف أبقراط قبيل حين قال: «إنّ الماء الذي يغلى منه ما يلتمس أن يقبل الهواء». فإنّ هذا الطبخ والتبريد [و]بعده ممّا يعالج به الماء ليتهيّأ بالحال التي يحتاج إليها منه.
كيف كان تبريد الماء؟ فقد يبرّد الماء بالهواء أو ببعض الرياح ويبرّد أيضاً بوضعه في بيت فيه هواء بارد — فإنّ من البيوت بيوتاً باردة شبيهاً بالمغاير والأسراب وربّما كانت أيضاً رطبة — وربّما يبرّد بالماء بدفن الإناء الذي يحويه في الثلج أو بوضعنا إيّاه تحت فوّارة أو بتدليتنا إيّاه في بئر. وذلك يكون على ضربين من قبل أنّا ربّما غشّينا الإناء الذي فيه الماء المسخن في جوف ماء البئر وربّما علّقناه فوقه. وكذلك أيضاً تصفيتنا للماء كيفما صفّيناه فإنّا ربّما صفّيناه بأوانٍ فخّار سخيفة متخلخلة كما يصفّى الماء بإسكندريّة وجميع بلاد مصر بأوانٍ فخّار قد احتمل بها بحيلة صيّرتها إلى حال تخلخل سوى العمل المطلق الذي به يعمل الفخّار وربّما صفّى بالخرق إذا لم يحضر مثل هذه الأواني.
فجميع هذه الأصناف ممّا يعالج به الماء ليهيّأ بالحال التي يحتاج إليها. وكذلك ما نتوخّى عمله في قنى الماء التي يجري فيها من الأعين فإنّا ليس نجد تلك القنى من أيّ الحجارة تهيّأ وربّما طلينا بها من داخل وليس يجعل ما يطلى به من أيّ شيء تهيّأ ممّا يمكن أن يطلى به. وذلك أنّ 〈الفرق〉 بين الطلي والطلي حتّى يكون زفتاً أو جبساً ليس باليسير وكذلك الفرق بين أن يكون على القنى طلاء من داخل أو لا يكون عليها طلاء أو تكون القنى متّخذة من آجرّ أو من صنف من الحجارة له كيفيّة من الكيفيّات محمودة أو مذمومة أو ليست له كيفيّة من الكيفيّات محمودة أو مذمومة أو ليست له كيفيّة بيّنة. واحتفار الآبار أيضاً قد يكون في مواضع من الأرض مختلفة ونجري الماء من الأعين في قنى من شأنها أن تحدث في الماء حدثاً تميله به إمّا إلى الجودة وإمّا إلى الرداءة وربّما أجريناه في قنى لا تغيّره البتّة.
فجميع هذه الأصناف ممّا يعالج به الماء لتهيّأ به الحال التي ينبغي. فأمّا متى اغترفنا الماء من عين في الموضع الذي ننزله أو من بطيحة أو من نهر جارٍ فيه أو من ماء المطر فإنّ استعمالنا له عند ذلك يكون من غير علاج. ولذلك قال أبقراط «الماء الذي لم يعالج» ليفرق بينه وبين الماء الذي قد عولج حتّى هيّئ بحال ما.
وكما لم يذكر جميع أصناف الماء الذي يعالج في القول الذي تقدّم كما كان سيذكرها لو كان جعل ما كتبه من هذا كتاباً يقرؤه الناس واقتصر على ذكر ضرب من ضروب علاج أثبته لنفسه تذكرة ليتذكّر به ما يحتاج إلى ذكره كذلك لم يذكره في هذا القول جميع أصناف «الماء الذي لم يعالج» أعني الماء الذي على وجهه لاكنّه إنّما ذكر نوعاً واحداً منه وهو ماء المطر وذكر منه صنفين أحدهما صرّح بذمّه فقال إنّ الماء الذي يكون على المطر «الجود» والريح «العاصف رديء». والآخر لم يتبيّن فيه هل هو غير مذموم فقط أو هو عنده مستحقّ لبعض الحمد وذلك أنّه قال: «إنّ منه ما يخرج عن هواء صافٍ أو عن رعد وهو يكون في الوقت». وقد يمكن أن يفهم عنه من قوله «يكون في الوقت» أنّه يكون في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه وهو يريد بذلك مدحه وقد يمكن أن يفهم عنه من قوله «يكون في الوقت» أنّه إنّما هو المطر الذي يجيء في وسط من الصيف فقط لأنّ اليونانيّين يخصّون باسم «الوقت» ذلك الإبّان من السنة. وقد يسمّون «بالوقت» الخريف والشتاء والربيع على الاسم المشترك العامّ لاكنّهم ربّما خصّوا باسم «الوقت» ذلك الإبّان والوقت الذي تستكمل فيه الفواكه الإبّانيّة.
فهذا ممّا 〈لم〉 يتبيّن من نفس قوله إلّا أن نضيف نحن إلى ما قال شيئاً ممّا شاهدناه أو ممّا يدلّ عليه القياس الطبيعيّ في الأشياء وأيضاً فلأنّه ذمّ الماء الذي يكون من مطر «جود» مع ريح «عاصف» ولم يذمّ «الماء الذي يخرج عن هواء
صافٍ أو عن رعد». ولم يتبيّن هل يريد أن يتّخذ هذا الماء للشرب أو بعلاج يعالج في الطبّ فقد نستعمل ماء المطر في عمل أدوية من أدوية العين ومنه أيضاً نعدّ الشراب المتّخذ بالتفّاح.
وليس ينبغي بأن يفهم عنه قوله «يكون في الوقت» أنّه يكون في الربيع كما قد فهم قوم عنه. وذلك أنّه لم يخصّ أحد الربيع باسم «الوقت» لاكنّه إنّما يسمّى «بالوقت» على الاستعمال المشترك العامّ كما يسمّى سائر أوقات السنة بهذا الاسم ولا نجد للمطر الذي يكون في ذلك الوقت فضيلة تخصّه. لاكنّ الأجود كثيراً أن يفهم عنه أنّه يعني «بالماء الذي يكون في الوقت» الماء الذي يكون من مطر يجيء في ذلك الوقت الذي يخصّ باسم «الوقت» وهو وسط الصيف من قبل أنّ اليونانيّين يخصّون هذا الإبّان من السنة باسم «الوقت» وقد يسمّون بهذا الاسم الخريف والشتاء والربيع إلّا أنّ استعمالهم لاسم «الوقت» على هذا الإبّان من السنة على الطريق العامّ وأمّا استعمالهم إيّاه على الطريق الخاصّ فيريدون به ذلك الإبّان من السنة التي تستتمّ فيه وتستكمل الثمار التي يعرفها اليونانيّون «بالثمار الوقتيّة» وهي البطّيخ والقثّاء والقرع وما أشبه ذلك.
فليس يتبيّن من هذا القول هذين المعنيين أراد أبقراط إلّا نضيف نحن إلى قوله من عندنا بما علمناه بالمشاهدة أو ما يدلّ عليه نفس طبيعة هذا الأمر وأيضاً فمن قبل أنّه ذمّ ماء المطر الذي يكون «جوداً» أو عن ريح «عاصف» ولم يذمّ ماء المطر الذي «يكون عن الهواء الصافي». وأمّا ماء المطر الذي يكون مع «رعد» فليس يتبيّن أيضاً من قوله هل يريد إذا كان هذا الماء للشراب أو لعمل بعض ما يحتاج إليه فيه ممّا يعالجه الأطبّاء. فقد نستعمل ماء المطر في بعض الأدوية التي تعالج بها العين ومنه يتّخذ الشراب المسمّى «إدروميلي» وهو شراب يتّخذ من عسل قد ربّي فيه سفرجل ومن ماء مطر.
وليس ينبغي أن نفهم عنه من قوله المطر «الذي يكون في الوقت» المطر الذي يكون في الربيع كما فهم عنه قوم من المفسّرين. وذلك أنّه لم يخصّ أحد الربيع باسم «الوقت» وإنّما سمّي بهذا الاسم على الطريق العامّ كما يسمّى سائر أزمان السنة «أوقاتاً» ولا نجد أيضاً لماء المطر الذي يكون في ذلك الوقت فضيلة تخصّه. لاكنّ الأجود كثيراً أن نفهم عنه أنّه يريد بالمطر «الذي يكون في الوقت» المطر الذي يجيء في الإبّان الذي يخصّ باسم «الوقت».
فإنّ ممّا يوافق ذلك أيضاً ويصحّحه قوله «إنّه يخرج عن هواء صافٍ» وأنّه سمّى الهواء في هذا الموضع «أيثر». ومن عادة قدماء اليونانيّين أن يسمّوا الهواء بهذا الاسم متى كان في غاية الصفاء والنقاء. ومتى كان يشوبه شيء من الضباب أو الكدرة أو الغيوم لم يسمّوه بهذا الاسم لاكن يسمّونه في تلك الحال «أيرا». وعلى هذا الطريق يسمّون الهواء الذي في الموضع العالي فوق الغيوم بالاسم الأوّل دائماً. وقد دلّ على ذلك الشاعر حين قال: «إنّه صعد إلى شجرة عالية كانت نابتة في الجبل المشرف المعروف بإيدا فتجاوز أيثرا» [ٮعني الهوا الكدر الكدر الدي اٮٮر] يعني الهواء الصافي ولمّا قال أيضاً: «إنّ أيرا جعلت تبثّ أمامه أإير ثخيناً ليحول في ما بينه وبين المطر» قد بيّن أنّه إنّما يعني بهذا الاسم الهواء الكدر الضبابيّ. وعلى هذا المعنى أيضاً دلّ قوله في هذه الأبيات «وكان يحيط بالسفن أإير ثخين حتّى كان القمر لا يظهر في السماء لاكنّ الغيوم كانت قد سترته».
فأقول إنّ الماء إذا لطف في الصيف من سخونة ذلك الوقت حتّى ينحلّ فيصير بخاراً رقيقاً ثمّ يرتفع من غير أن يشعر به لرقّته حتّى يصير في الهواء الذي فوق الأرض. ثمّ حدث له بعد ذلك تكاثف لاستحالة تحدث فيه من ريحين متقابلين
حتّى تتّصل وتتّحد تلك البخارات الرقيقة فتولّد عنها ماء محسوس. فإنّا عند ذلك نصف ذلك المطر بأنّه يكون «في الوقت» ونحن نريد بذلك البلوغ والاستحكام من قبل أنّ الماء في تلك الحال يلطف ويرقّ ويهذب وينطبخ من السخونة التي في الهواء. ومن قبل ذلك نقول إنّه أجود من ماء المطر «الجود» والذي يكون مع الريح «العاصف» من قبل أنّ ماء ذلك المطر لم يرقّ ولم يلطف ويستحيل وينطبخ ويتهذّب حتّى يصير بحال ماء المطر الصيفيّ لاكنّه بحال ماء بعض المياه التي تحويها العيون وهي المياه التي ينسبها القدماء إلى أنّها صلبة فجّة.
وقد ينبغي أن ننظر بعد لم قدّم ماء المطر الذي يكون مع «الرعد» على ماء المطر «الجود» الذي يكون مع الريح «العاصف». والأمر عندي 〈أنّه〉 إنّما فعل ذلك من قبل أنّه علم أنّ الرعد إنّما هو إذا سكنت نار في السحاب ثمّ اضطرّها سبب من الأسباب إلى الخروج فخرقت السحاب الذي يحويها وعند ذلك تسقط الصواعق وإمّا إذا تحكّكت الغيوم [و]بمرور بعضها على بعض. وليس يوجد في المطر «الجود» ولا واحد من هذين الأمرين. وذلك أنّ الهواء في تلك الحال يكون قد صار إلى غاية التكاثف واستولى عليه كلّه غيم واحد متّصل أسود. ولذلك لا يكون في تلك الحال «رعد» وذلك أنّ التحكّك إنّما يجب أن يكون في الغيوم إذا كانت متشتّتة متفرّقة يجري كلّ واحد منها في حيّز يخصّه إذا لاقت بعضها بعضاً. فأمّا متى كان الغيم كلّه متّصلاً متّحداً فليس يمكن أن يكون فيه تحكّك ولهذا السبب ليس تسقط الصواعق في تلك الحال. وذلك أنّه لا يسكن فيها في الغيوم هواء صافٍ حارّ ناريّ ولا تحدث في تلك الحال الرعود والبروق والصواعق من قبل أنّ حدوث هذه الأصوات إنّما يكون إذا كان تسير الغيوم من مواضع متضادّة متقابلة حتّى يلقى بعضها بعضاً فينضغط ما بينها من الهواء الناريّ ويعصره ويكثّفه
حتّى يبدر فيخرق الغيم ويخرج عنه البتّة. وربّما كان خروجه إلى الناحية العليا وإلى جانب وربّما كان خروجه إلى ناحية الأرض فإن كان خروجه إلى هذه الناحية رأيناه وأمّا خروجه إلى سائر النواحي فإنّه يخفى عنّا.
وقد وصفت بإيجاز في شرح هذا القول كيف يكون حدوث «الرعد» ولم قال أبقراط في ماء المطر الذي يكون مع «الرعد» 〈إنّه〉 أجود من ماء المطر «الجود». وإنّ ماء المطر الصيفيّ في غاية الصفاء واللطافة والانطباخ وإنّ ماء المطر الذي يكون مع «الرعود» فيما بين ماء المطر الصيفيّ وبين ماء المطر «الجود» وبحسب ما ينقص ماء المطر «الجود» عن ماء المطر الصيفيّ يفضل عن ماء المطر الشتويّ «الجود».
وقد يهون على من شأنه أن يذمّ كلّ قوم أن يقول إنّه لا يليق بالطبيب أن يبلغ من الكلام في الطبائع هذا المبلغ. ولو كنت لم أتعاط البتّة الإخبار بالسبب في هذه الأشياء وحكمت حكماً مطلقاً أنّ الماء الصيفيّ أجود من ماء المطر الشتويّ «الجود» وأنّ ماء المطر الذي يكون مع «الرعد» متوسّط في ما بينهما لقد كانوا سيطالبونني بإقامة البرهان على ما حكمت به من ذلك وكانوا سيقولون: «إنّه ليس يجب علينا أن نصدّق بما تحكم به ونقبله كما نقبل الشرائع والفرائض ولا تقدر أن تضطرّنا إلى قبول ذلك كما يفعل أمر السلطان».
فإذ كنت على حال لا أسلم من ألسنة من جمع مع الجهل وقلّة الأدب الشرّة والتمويه وكان الأجود أن يكون ذمّهم لي وقد أتيت أجود الأمرين فقد أحسنت في اختياري إن وصفت العلّة في حدوث الرعود والبروق والصواعق وإن كان ذلك ليس هو من الطبّ وإنّما هو من الكلام في الطبائع. وذلك أنّ الشيء الذي ليس معه برهان عند جميع الناس ما لا ينبغي أن يقبل وأمّا قول من يقول إنّه لا ينبغي للطبيب أن يتعاطى شيئاً من الكلام في الطبائع فليس هو عند جميع الناس صواب.
وهو مع ذلك أيضاً يدلّ ممّن حكم به أنّهم يريدون منّا أن نقبل ما يحكمون به كقبولنا أمر السلطان. وقد كان الأجود ألّا يلتمسوا منّا قبول حكمهم قسراً لاكن يثبتون لنا أحد أمرين إمّا أنّ القول الذي لا برهان له أحقّ بأن يقول من القول الذي معه برهان وإمّا إذا فقد تعدّينا الحقّ في صفة شيء من سبب هذه الأحداث. وليس يفعلون بنا ولا واحداً من هذين الأمرين لاكنّهم يذمّون بنا ويلزموننا اللوم في كلتي الحالين. وذلك أنّا إن حكمنا حكماً مطلقاً من غير برهان قالوا: «إنّكم إنّما خطبتم علينا خطباً ليس على ما حكمتم به فيها دليل ولا برهان وإنّما جئتمونا بهر وهذيان» فإن نحن أقمنا لهم البرهان على ما نحكم به قالوا: «لا يليق بالطبيب أن يتعاطى الكلام إنّما هو للفيلسوف إذ كان شأنه استقصاء معرفة الأشياء في جميع الطبائع».
(٢١) قال أبقراط: الماء أكول والسهر أكول.
قال جالينوس: إنّ أبقراط لقّب كلّ واحد من «الماء والسهر» بهذا اللقب حتّى سمّاه «أكولاً» من الفعل الذي من شأن كلّ واحد منهما أن يفعله من أنّهما يجعلان المستعمل لهما «أكولاً». وجميع اليونانيّين يستعملون هذا الاسم أعني «الأكول» على من يقدر أن يأكل من الطعام مقداراً كثيراً وذلك جارٍ في عادتهم إلى وقتنا هذا في بلدنا هذا. وهذه أشياء قد أعلمتكم أنّ شهوة الطعام تتزيّد بشرب الماء البارد والسبب في ذلك هو السبب في تزيّد الشهوة بشرب الماء البارد وتناول
الطعام البارد أو المرّ أو الذي فيه شيء من القبض. وذلك أنّا قد بيّنّا أنّ كلّ ما جمع الدم الذي في طبقتي المعدة حتّى يقلّل حجمه فإنّه يزيد في الشهوة ويحدثها إذا كانت مفقودة وكلّ ما أسخن ذلك الدم وأذابه وحلّله حتّى يكثر حجمه فإنّه ينقص من الشهوة ويسكّنها. فلهذا السبب صار شرب «الماء» يجعل المستعمل له «أكولاً».
وأمّا «السهر» فإنّه يحدث من التحلّل. وقد أعلمتكم الحال في «السهر» كيف هي وكيف الحال في النوم والنوم يهضم الغذاء من قبل أنّ الحرارة تميل فيه إلى باطن البدن «والسهر» يحلّل من قبل أنّ الحرارة الغريزيّة تميل فيه إلى ظاهر البدن فتميل إلى تلك الجهة بميلها إليه من جوهر البدن أجزاء ليست باليسيرة حتّى تتحلّل وتنفذ عن البدن. فلهذه الأسباب قال في «الماء والسهر» إنّهما «أكولان».
وأمّا أنت فاحذر أن تسيء الفهم وتغلط فتظنّ أنّ قول القائل في الإنسان إنّه يأكل كثيراً وقوله إنّه يهضم ويستمرئ كثيراً قول واحد. وذلك أنّ الخمر أجود من الماء في الاستمراء وليس النبيذ أبلغ من الماء في استمراء الطعام في المعدة فقط لاكنّه أبلغ منه أيضاً في تنفيذ ما قد انهضم وفي تولّد الدم في الكبد والعروق وفي قبول البدن للغذاء وفي درور البول وفي تحليل الفضول من أبدان الأصحّاء. فإنّ أبقراط إنّما قال هذا القول في الأصحّاء خاصّة وذلك بيّن من قبل أنّه ليس أحد يجهل مبلغ ضرر النبيذ لأكثر المرضى.
«والسهر» أيضاً لمّا كان قد يكون على ضربين كانت عاقبته أيضاً بعد الطعام وتكون على ضربين. وذلك أنّ المستعمل له إن استعمله وهو يعمل عملاً من الأعمال في الليل كالحال في السهر في الأعياد فإنّ البدن في تلك الحال من اليقظة يستفرغ من غير أن يضرّ القوّة ضرراً بيّناً. وأمّا من كان مستلقياً وهو في ذلك ينام أوقات من الليل ويسهر في سائره فإنّ قوّته تخور وتضعف ولا تكون شهوته أجود ولا استمراؤه من سائر الأفعال الطبيعيّة التي تتلو الاستمراء أتمّ فيه تماماً غير مذموم لكنّه يكون في جميع هذه الأفعال أسوأ حالاً ممّن ينام نوماً جيّداً.
(٢٢) قال أبقراط: للطبيعة المحرورة في الوقت الحارّ المضجع في البارد يسمّن وفي الحارّ يهزّل.
قال جالينوس: إنّ قوماً من المفسّرين قد قسموا هذا القول بقسمين حتّى يحتاج كلّ واحد منهما إلى تأويل يخصّه وبعضهم فسّره على أنّه كلّه قول واحد. وأمّا ديسقوريدوس فإنّه لم يقنع حتّى غيّره فكتبه بألفاظ أبين من الألفاظ التي وجده بها كما من عادته أن يفعل في الأقاويل الغامضة. فكتب الجزء الأوّل من هذا القول على حدته وأضاف إليه لفظة ليست فيه فكتب: «إنّ الوقت الحارّ يهزّل الطبيعة المحرورة». وأراد أن يفهم عن أبقراط من قوله هذا أنّ «الطبيعة المحرورة» يعني البدن الذي تغلب عليه بالطبع حرارة كثيرة غريبة خارجة من الطبيعة «قد تهزل في
الوقت الحارّ» يعني في وقت الصيف لأنّه يتحلّل التحلّل الذي قد جرت عادة جميع الحدث من الأطبّاء أن يسمّوه «التحلّل الذي يدرك فيه شيء» وقد يعبّر قوم آخرون عن هذا المعنى بلفظ آخر فيسمّون هذا «التحلّل الذي يخفى عن الحسّ».
وهذا التحلّل قد يكون في أبدان جميع الناس في جميع الأوقات إلّا أنّه يختلف بحسب اختلاف الأسنان وبحسب اختلاف أوقات السنة وبحسب اختلاف المهن وبالجملة بحسب اختلاف جميع التدبير الذي يتدبّر به الإنسان. إلّا أنّه يعمّ جميع هذه الأصناف من الاختلاف الذي هو منها إلى الحرارة أميل وقتاً كان من أوقات السنة وبلداً من البلدان أو سنّاً من الأسنان أو طبيعة من الطبائع أو تدبيراً من التدبير قد يتحلّل فيه ويجري من البدن إلى خارج من نفس جوهر البدن مقدار ليس باليسير وما كان منها إلى البرودة أميل فإنّ الجلد يتكاثف فيه ويحتقن أكثر ممّا في البدن ويستفرغ أقلّه. فعلى هذا القياس قد يصحّ القول بأنّ البدن الذي تغلب عليه الحرارة «قد يهزل في الوقت الحارّ» وذلك أنّ التحلّل من بدنه يتضاعف إذا كان بدنه قد يتحلّل بالحرارة التي هي مركّبة فيه ثمّ يلتئم إلى ذلك تحلّل آخر من خارج بسبب الوقت الحارّ. إلّا أنّي لم أجد هذه النسخة في شيء من الكتب أصلاً ولا وجدت أحداً من المفسّرين عرفها.
ووجدت أيضاً ديسقوريدوس قد كتب في حاشية كتابه أنّه قد وجد في كتابين فقط هذا القول مكتوباً على هذه النسخة: «للطبيعة المحرورة في الوقت الحارّ المضجع في البارد يسمّن وفي الحارّ يهزّل». وأمّا نحن فلم نجد هذه النسخة في كتابين أو في ثلاثة بهذه الحال لاكنّا وجدناها في جميع الكتب بعد أن نظرنا فيها في جميع الكتب التي في الخزائن العامّيّة وفي جميع الكتب التي وجدناها عند
أصدقائنا وفي كتب أخر كثيرة وجدناها عند باعة الكتب ووجدنا أيضاً جميع من فسّر هذا الكتاب قد كتب هذا القول على هذه النسخة.
وأنا مقبل على تفسيره تارك ما أساء فيه المفسّرون من تأويله. فأقول إنّ الأمر عندي أنّ الجزء الأوّل من هذا القول ينبغي أن يقطع هذا التقطيع: «للطبيعة المحرورة في الوقت الحارّ المضجع في البارد يسمّن» كأنّه إنّ المضجع في البارد في الوقت الحارّ يسمّن المحرور في طبيعته. وقد يمكن أن يفهم عنه من قوله «البارد» الهواء البارد ويمكن أن يفهم عنه الفراش البارد ويمكن أن يفهمهما جميعاً حتّى تكون جملة معنى هذا القول أنّ صاحب الطبيعة الحارّة المفرطة الحرارة قد ينتفع بالوقت الحارّ بالنوم في هواء بارد على فراش بارد وذلك أنّه إذا فعل ذلك خصب بدنه وسمن. وقد وجدت في بعض النسخ مكان «المضجع في البارد» «المضجع البارد» والمعنى في النسختين جميعاً معنى واحد إلّا أنّ النسخة الثانية أبين وأوضح وهي التي فيها مكان «المضجع في البارد» «المضجع البارد».
وبالواجب أمر أبقراط أن نفعل ذلك بأصحاب الطبائع الحارّة المفرطة الحرارة وذلك أنّ صاحب «الطبيعة الحارّة» المفرطة الحرارة مستعدّ سريعاً إلى «الهزال» لكثرة ما ينحلّ من بدنه. فإن التأم إلى ذلك أن يكون الوقت حارّاً حتّى يتضاعف الاستفراغ ثمّ التأم إلى ذلك أيضاً استفراغ آخر ثالث بمضجع ذلك الإنسان في موضع حارّ على فراش حارّ عرض له من ذلك أن يتحلّل تحلّلاً شديداً حتّى يهزل بما يناله من هذه الأصناف الثلاثة من الاستفراغ.
فإن أنت قابلت الصنفين الاضطراريّين من الاستفراغ أعني الاستفراغ الذي يكون بسبب طبيعة البدن إذا كان محروراً والاستفراغ الذي يكون بسبب الوقت إذا كان حارّاً إذا كان ليس منهما مهرب بالمقاومة للصنف الثالث من الاستفراغ
والتمست حالاً ليس من شأنها أن تحلّل من البدن لكن من شأنها أن تمنع من تحلّله لم يصر البدن إلى غاية الاستفراغ بل كان إلى أن يخصب ويسمن أقرب منها إلى أن يهزل. وذلك أنّ «المضجع البارد» لمّا كان ليس يدلّ على الفراش البارد فقط والأغشية الباردة التي تنحدر من الأزر الرقيقة والضعيفة المصقولة ومن الثياب التي هي بهذه الصفة لاكنّه قد يدلّ مع ذلك على أنّه يكون في موضع بارد كان في ذلك أعظم المعونة على صلاح ذلك الإفراط من مزاج الوقت ومن مزاج البدن في طبيعته بما يناله البدن من البرد من ملامسة تلك الثياب الباردة ومن استنشاق الهواء البارد. إلّا أنّ الانتفاع بما يستنشقه صاحب هذه الحال من الهواء البارد قد ذكر فيما تقدّم فأمّا ما زيد عليه في هذا القول فهو أمر الفرش والثياب كيما يكتسب البدن التبريد من كلّ وجه ويعود التحليل المفرط إلى المقدار المعتدل الحافظ للبدن على صحّته. فهذا عندي أفضل تأويل يمكن أن يتأوّل به الجزء الأوّل من هذا القول.
وأمّا الجزء الثاني الذي قال فيه «وفي الحارّ يهزّل» فقد كان سيكون بيّناً لو كان أضيف إلى ذكر «الحارّ» ذكر الشيء الذي وصف بالحرارة وهو الهواء أو الفراش حتّى تكون جملة القول على هذا المثال: إنّ المحرور في طبيعته في الوقت الحارّ قد يسمّنه المضجع في الهواء البارد والفراش البارد ويهزّله المضجع في الهواء الحارّ والفراش الحارّ.
(٢٣) قال أبقراط: استدامة الصحّة تكون بالامتناع من الغذاء من الشبع وبترك التكاسل عن التعب.
قال جالينوس: يعني أنّ ترك الثقل من الطعام والشراب وألّا يبلغ في الطعام غاية «الشبع» ولا في الشراب غاية الريّ جملة عظيمة من جمل تدبير الصحّة وليس بهذه الحال فقط عنده يتمّ تدبير الصحّة. وذلك أنّا قد نضيف إليها أشياء أخر في هذا الكتاب وفي كتب أخر. وإذ كنت قد بلغت في شرح تلك الأسباب فلست أريد أن أشرحها في هذا الموضع أيضاً على أنّ أكثر المفسّرين قد يكتبون في شرح الشيء الواحد بعينه كلاماً واحداً بعينه مكرّراً لا مرّتين فقط لاكنّ ثلاث مرار وأربع وأكثر من ذلك.
(٢٤) قال أبقراط: العطش الخفيف في وقت اليقظة شفاؤه النوم والذي يكون من النوم شفاؤه اليقظة في بعض الناس.
قال جالينوس: «العطش اليسير جدّاً» الذي ليس يكون من البدن كلّه ولا من حال قويّة غالبة على نواحي المعدة لاكن يكون كما قال أراسسطراطس عن جفوف المواضع التي تنحدر فيها الرطوبة من الفم 〈…〉 فهذا «العطش شفاؤه النوم» بترطيبه لباطن البدن وعمقه من قبل أنّ الدم في وقت النوم يميل إلى باطن البدن وغوره وأمّا من انتبه من «النوم» وبه عطش خفيف فإنّ عطشه يسكن «باليقظة» سريعاً. وذلك أنّ هذا العطش يكون بسخونة تلك المواضع التي قلت إنّ أراسسطراطس ذكرها وإنّما تسخن تلك المواضع في وقت استمراء الطعام في المعدة. وذلك أنّ هضم الطعام يكون من الحرارة الغريزيّة بمنزلة الطبخ لما يطبخ فكما أنّه يرتفع من الشيء المطبوخ بخار كذلك قد يعرض هذا بعينه كثيراً في
المعدة وخاصّة لمن شرب الخمر وهو مائل إلى الصروفة. فإذا انتبه صاحب هذه الحال فتفرّغت معدته وخلت حتّى لم يرتفع منها بخار وتحلّلت تلك الحرارة التي كانت تولّدت في تلك المواضع التي سخنت سكن العطش.
إلّا أنّ من الناس من ينتبه من النوم وهو عطشان لحرارة تتمكّن في معدته من حرارة ما أكله أو شربه وهذا العطش لا يسكن إلّا بمعونة على تسكينه من خارج. فإنّ من عادته شرب الماء البارد إذا شربه قبل أن يستحمّ وقبل أن يتناول الطعام 〈ينتفع به〉 فلهذا السبب استثنى في ذكره للصنف الثاني من «العطش» بأن قال «في بعض الناس» 〈…〉
وهذه النسخة هي النسخة التي يعرفها القدماء من المفسّرين توجد في النسخ الصحيحة. وأمّا النسخ المستحدثة التي أخذت عن ديسقوريدوس وعن قابيطن وعن سابنس فهذا الاستثناء أعني قوله «في بعض الناس» يوجد قد أسقط من هذا الكلام وأضيف إلى الكلام الذي بعده فجعل افتتاحه. وأنا واضع ذلك الكلام وهو هذا:
(٢٥) قال أبقراط: الذين تكون الحرارة فيهم على أكثر ما تكون 〈تكون〉 أصواتهم على أعظم ما تكون وذلك أنّه يصل إليهم من الهواء البارد أكثر ما يكون والشيء المتولّد عن شيئين عظيمين يكون عظيماً.
قال جالينوس: قد قلت فيما تقدّم إنّ من أسقط من المفسّرين من آخر القول الأوّل الاستثناء الذي استثنى فيه «في بعض الناس» يكتب أوّل هذا القول وقد
أضاف إليه ما حذفه من آخر القول الأوّل حتّى يجعله افتتاح هذا القول. وكيف ما كتب هذا القول فمعناه واحد. وقد قلت إنّ اختلاف النسخ التي لا تغيّر المعنى لست أحكم فيها شيء كيما لا يطول تفسيري من هذا الوجه أيضاً. فلندع الآن اختلاف النسخ ولننظر في صحّة هذا المعنى الذي يفهم من هذا القول الذي وصفنا فنشرحه. فإنّ الحكم في ذلك أولى من البحث عن الزيادة والنقصان في الأحرف والألفاظ حتّى يفني الزمان بالتشاغل بما لا يحتاج إليه.
فأقول إنّ المعنى في هذا القول معنى بيّن واضح والجزء الثاني منه صحيح حقيقيّ. وذلك أنّ «من كانت الحرارة فيه على أكثر ما تكون» أعني في قلبه — فقد بيّنّا أنّ هذا العضو هو بمنزلة المستوقد للحرارة الغريزيّة — فقد يجب ضرورة أن يكون الهواء الذي يستنشقه على أكثر ما يكون. فقد بيّنّا ذلك في المقالة التي بيّنّا فيها الحاجة إلى التنفّس.
فإن نحن قلنا من قبل أنّ أصحاب هذه الطبائع يستنشقون من الهواء مقداراً كثيراً ثمّ يخرجونه أنّه يجب أن يكون «الصوت» منهم «عظيماً» وكان حكمنا بذلك على غير استثناء كان ذلك منّا خطاء. فقد بيّنّا في كتاب الصوت أنّه لا يمكن أن يكون الصوت من الإنسان عظيماً دون أن يخرج منه من هواء النفس مقدار كثير بسرعة وإنّما يكون ذلك إذا كانت قصبة الرئة والحنجرة واسعتين. فإن كان مع ذلك الصدر كلّه عظيماً لم يكن صاحبه «عظيم الصوت» فقط لاكن كان قادراً على أن يصيح صياحاً متّصلاً مدّة طويلة جدّاً مثل ما يفعل المنادون. فلمّا كان القلب قد يتّسع ويزداد عظماً عند تخلّقه في الرحم من أوّل الأمر فيمن كانت «الحرارة الغريزيّة فيه على أكثر ما تكون» وإذا كان القلب عظيماً فإنّ الصدر أيضاً
يكون على قياسه عظيماً في أكثر الحالات. ويلزم أيضاً ضرورة متى كان الصدر عظيماً أن تكون الرئة عظيمة على قياسه وإذا كانت الرئة عظيمة فإنّ قصبتها تكون عظيمة على قياسها في أكثر الحالات. فبالواجب صار من كانت الحرارة فيه بالطبع كثيرة «عظيم الصوت» في أكثر الحالات. ولو كان القلب متى كان عظيماً فإنّ الصدر لا محالة يكون عظيماً ولم يكن يقع ما قد يقع في الخلقة من الاضطراب في الأبدان الرديئة الخلقة لم أكن بالذي أقول إنّ من كانت الحرارة فيه كثيرة بالطبع يكون «عظيم الصوت» في أكثر الحالات لاكن كنت أقول إنّه يكون كذلك في جميع الحالات. ولست أقول أيضاً إنّه كما أنّ الصدر متى كان عظيماً فإنّ الرئة لا محالة تكون عظيمة على قياس عظم الصدر كذلك متى كانت الرئة عظيمة فإنّ الأجناس الثلاثة من المجاري التي في الرئة تكون لا محالة عظيمة على قياس عظم الرئة.
فقد نرى في تشريح الحيوان أنّ التناسب بين الرئة وبين المجاري التي فيها في العظم ليس يوجد محفوظاً دائماً على الحقيقة. وكذلك أيضاً المناسبة بين الحنجرة وبين قصبة الرئة قد نراها في تشريح الحيوان ليس توجد محفوظة بالحقيقة في جميع الحيوان إلّا أنّ التفاضل بين هذه الأعضاء يسير وأمّا التفاضل بين القلب والصدر فكثير. وهذا هو السبب الأعظم في أن نجد إنسانين متساويين في الحرارة في الندرة مختلفين في مقدار الصوت اختلافاً كثيراً.
وقد أوجب أبقراط في هذا القول عظم الصوت لكثرة هواء التنفّس فقط وليس لذلك وحده هو السبب ولا جلّ الأسباب التي يحدث عنها الصوت. وذلك أنّ الهواء الكثير إنّما هو عنصر ومادّة لحدوث الصوت العظيم وليس هو السبب الفاعل
له كما بيّنت في كتابي في الصوت. وما هو بعجب أن يكون من لم يعلم كيف يكون الصوت قد فسّر هذا القول تفسيراً رديئاً.
(٢٦) قال أبقراط: الذين معدهم حارّة تكون لحومهم باردة ويكونون قضافاً وتكون عروقهم دارّة ويكون غضبهم أسرع.
قال جالينوس: قد بيّنت في مواضع كثيرة من كتب أبقراط أنّ أبقراط يعرف في بدن الحيوان نوعين من الحرارة أحدهما النوع الذي يسمّيه «الحرارة الغريزيّة» وجوهره في الدم 〈وفي〉 الأحشاء المدمّية والنوع الآخر حرّيف لذّاع ناريّ وفي هذا الجنس مثل حرارة الحمّى. وقد كتبت في هذا مقالة مفردة استقصيت فيها بتبيّن هذا المعنى على التمام وجعلت عنوان تلك المقالة «إنّ أبقراط لم يخطئ في الفصل الذي افتتحه بأن قال: ‹إنّ الأبدان التي في النشء فالحرارة الغريزيّة فيها على أكثر ما تكون›». وكان قصدي في تلك المقالة الاحتجاج عن أبقراط ونقض ما ذمّ به لوقس هذا الفصل من قول أبقراط وبيّنت فيها أنّ الذي دعا لوقس إلى أن اعتدى على أبقراط جهل أعظم أقاويله وأجلّها قدراً.
وهذان الصنفان لم يعرفهما لا لوقس ولا غيره من أصحاب أراسسطراطس أو من أصحاب إيروفيلس أو من أصحاب التجارب وذلك لسوّأ التفسير لأقاويل كثيرة من
أقاويل أبقراط. ولم يكن ينبغي لأصحاب أبقراط أن يكونوا ناسبين لأقاويل أبقراط التي يعتقدها عند تفسيرهم لكتبه حتّى يبيّنوا تفاسيرهم لأقاويله على أنّ الحرارة في بدن الحيوان إنّما هي جنس واحد لاكن قد كان ينبغي لهم إذا وجدوا أبقراط أو غيره قد نسب إنساناً إلى أنّ معدته حارّة أن يبحثوا وينظروا على أيّ معنى وضع هذا الاسم وهل يعني صاحب ذلك القول أنّ الحرارة الغريزيّة في معدته كثيرة أو الحرارة الأخرى التي يسمّيها مرّة «مكتسبة» ومرّة «حرارة ليست بطبيعيّة» ومرّة «حرارة خارجة من الطبيعة». ومن كان بدنه بهذه الحرارة الغريبة أسخن فإنّ ما يتحلّل من البدن يكون لذّاعاً حارّاً ولذلك متى انضمّت مسامّ جلده فإنّه يحمّ على المكان. فأمّا من كانت الحرارة الأخرى فيه كثيرة فإنّه إذا احتقن ما يتحلّل من بدنه يزداد امتلاء من غير أن تعرض له من قبل ذلك حمّى.
فهذه الحرارة الغريزيّة إذا كانت في المعدة كثيرة يكون الاستمراء للطعام على أفضل ما يكون كما وصف أبقراط في كتاب الفصول حين قال: «إنّ الأجواف في الشتاء والربيع أسخن ما تكون بالطبع والنوم أطول ما يكون ففي هذه الأوقات ينبغي أن يكون ما يتناول من الطعام أكثر. وذلك أنّ الحرارة الغريزيّة في تلك الحال كثيرة فهي تحتاج إلى غذاء أكثر ومن الدليل على ذلك أمر الأسنان وأمر الصرّيعين». وكما أنّ من دلائل المعدة التي هي بهذه الحال استمراء الطعام الذي لا يذمّ منه شيء كذلك من دلائل المعدة التي هي أبرد منها فساد الطعام فيها وتغيّره إلى نحو الحموضة ومن دلائل المعدة التي هي أسخن منها فساد الطعام وتغيّره إلى الطعم الدخانيّ. ومن كان استمراؤه للطعام جيّداً فإنّ دمه يكون دماً محموداً ومع ذلك
مقدار معتدل من اللحم وربّما كان أزيد ممّا ينبغي إذا هو مال في تدبيره إلى الخفض والدعة ودخل إلى الحمّام مرّة ثانية بعد الطعام حتّى يتزيّد بدنه خصباً من غير أن يجتمع فيه من الفضل ما يمرّضه ويسقّمه. وأمّا من كان مزاج بدنه مزاجاً رديئاً حتّى لا يستمرئ طعامه ويفسد في معدته ويتغيّر إلى الدخان والغبار فإنّه يجتمع في عروقه دم رديء ويكون اغتذاء بدنه كلّه أيضاً اغتذاء رديئاً.
فينبغي أن نفهم أنّ هذا القول الذي قصدنا لشرحه إنّما قيل فيمن كانت معدته بهذه الحال. فإنّ الحرارة الغريزيّة في الكبد والقلب كثيرة منذ أوّل البنية وأمّا «اللحم» فإنّما يستفيد الحرارة الغريزيّة ويستفيدها من الدم. ولذلك قد يجب ضرورة أن يكون «اللحم» في أصحاب هذه الطبائع التي ذكرها أبقراط في هذا القول «بارداً» من قبل أنّه لا يستمدّ دماً غزيراً لاكنّ قليلاً رديئاً.
فإنّ من كان مزاج معدته مزاجاً رديئاً بغلبة الحرارة الناريّة عليها قد يعرض لها عرضان أحدهما أنّ طعامه يفسد ولذلك يكون ما يناله البدن من الغذاء منه يسيراً والآخر أن يكون نفس ذلك الغذاء الذي يناله البدن ليس بالجيّد لأنّه لم ينهضم على ما ينبغي. وذلك أنّه لا يمكن أن يتولّد في الكبد والعروق دم محمود من طعام لم ينهضم في المعدة حتّى فسد. ولو كان الدم في عروق هؤلاء يسيراً ولم يكن رديئاً لكان اللحم إذا اجتذب ذلك الدم يكون ما يغتذي به يسيراً وكانت العروق تخلو حتّى تنقبض وتضمر ولا تظهر إلّا بكدّ. لاكنّه لمّا كان مع قلّته رديئاً صار اللحم لا يجتذبه وإن كان محتاجاً إلى الغذاء كما أنّا نحن أيضاً لا نأكل من الطعام ما فسد وتدخّن أو غلب عليه غير ذلك من الطعوم الرديئة وإن كنّا مشتهين للطعام جدّاً. وذلك أنّ شهوتنا إذا ذقنا من الطعام ما هو بهذه الحال تفتر وتسكن. فلهذه العلّة أيضاً يكون ما يجتذبه اللحم ليغتذي به من العروق أقلّ القليل ولا يكون
إلّا القوت الذي لا بدّ منه لإقامة الرمق حتّى يجتمع من هذا على طول المدّة قليلاً قليلاً دم رديء.
ولذلك إذا فصدت العروق لأصحاب هذه الأبدان لم ير الدم الذي يجري منهم في حال من الأحوال أحمر نقيّ الحمرة لاكن يكون يشوبه لا محالة لون آخر وتجده أيضاً مع ذلك لا محالة رديء الرائحة. فإن كان بدن المفتصد لم يستفرغ منه مدّة طويلة رأيت الدم الذي يجري منه أسود وتجده مختلفاً في الغلظ والرقّة في الحالات المختلفة. وذلك أنّك ربّما وجدته 〈…〉 غليظاً وربّما وجدته غليظاً جدّاً أسود بمنزلة الزفت السيّال.
فجميع ما قلنا في هذا الموضع قولاً مجملاً فقد بالغنا في شرحه في كتب أخر من كتبنا وخاصّة في كتاب في حيلة البرء وأمّا في هذا الموضع فذكرنا ذلك ذكراً وجيزاً لترك المفسّرين ذكره. فإنّ من عادتهم أن يكثروا ويطنبوا فيما لا ينتفع به ويقصروا فيما هو من أبلغ الأشياء نفعاً. فأمّا أنا فإنّي لمّا كان هذا القول الذي نحن فيه من أنفع الأشياء فإنّي معيده بإيجاز واختصار وأصله بشرح قول أبقراط الذي تقدّم.
فأقول إنّه ينبغي أن يفهم من قوله «الذين معدهم حارّة» لا من كانت الحرارة الغريزيّة فيه كثيرة مثل ما قال في الفتيان وفي الصرّيعين إنّ الحرارة الغريزيّة في أبدانهم كثيرة ولا كما قال في الأجواف إنّها في الشتاء أسخن ما تكون بالحرارة الطبيعيّة لاكنّ من كانت الحرارة اللذّاعة الرديئة كثيرة في معدته. وبالواجب قال في هؤلاء إنّ «لحومهم» تكون «باردة» وذلك أنّها تعدم الغذاء الجيّد الغزير الذي يناله من الدم الصحيح في الأبدان المعتدلة المزاج. ويلزم من نقصان الدم أن يكون اللحم
بارداً لأنّ حرارته إنّما هي حرارة مكتسبة مستفادة من الدم لا حرارة طبيعيّة غريزيّة تخصّه مثل حرارة الكبد والقلب.
ويجب ضرورة أن يكون هؤلاء «قضافاً» لنقصان اللحم من قبل أنّ قضف البدن كلّه وخصبه إنّما يكون بنقصان اللحم وتزيّده. وذكر في هؤلاء أيضاً أنّ «عروقهم تكون دارّة» 〈…〉 يعني أنّها تكون ظاهرة بيّنة بارزة من قبل أنّها في أنفسها تكون مملوءة من الدم وتكون أيضاً عارية لقلّة اللحم الذي يغطّيها. وذكر فيهم أيضاً أنّهم «أسرع غضباً» ولم يطلق فيهم القول فيقول إنّهم «سريعوا الغضب» ويحكم عليهم بأنّهم أسرع الناس غضباً لأنّ ذلك إنّما كان يكون لو كانت الحرارة في القلب منهم كثيرة جدّاً. وأمّا الحرارة التي في المعدة فإنّما يصير صاحبها «أسرع غضباً» بما ينال فم المعدة من الآفة بسبب تلك الحرارة. فقد بيّنت أنّ هذا العضو قد تصرف حالات النفس بتصرّف حالاته حتّى أنّه إذا مال إلى البرد جعل صاحبه أبطأ فهماً وأكسل عن الفعل وإذا مال إلى الحرارة الزائدة جعل صاحبه أبسط وأسرع فهماً وأسرع غضباً. وبيّن أنّه إنّما يجعل صاحبه أسرع غضباً إذا كانت الحرارة الزائدة ليست الحرارة الطبيعيّة لاكنّ الحرارة المكتسبة التي كان كلامنا هذا كلّه فيها.
فأمّا الذين نسبوا أنفسهم إلى أنّهم من أصحاب أبقراط وجهلوا أعظم الأقاويل التي يعتقدها أبقراط في الطبّ التي قد يشهد على صحّتها مع القياس ما يظهر بالتجربة فيستحقّون الذمّ واللائمة لصرفهم تأويل هذا القول عمّا تأوّلناه نحن إلى جهة أخرى. وذلك أنّهم ظنّوا أنّ الحرارة في الذين «معدهم حارّة» تميل إلى عمق
البدن وتحلّ ظاهره ولذلك تجعل اللحم منه أبرد. وهذا الميل من الحرارة إنّما يكون بسبب أوقات السنة وبسبب البلدان وبالجملة بسبب مزاج الهواء المحيط بالأبدان وبسبب النوم واليقظة وبسبب الأحداث التي تحدث عن النفس مثل الحزن والرعب ولذّات البدن وفرح النفس. فأمّا هيئة طبيعته من هيئات البدن فلا تحدث مثل هذه النقلة والميل إلى الحرارة الغريزيّة كما لا يميل ذلك السنّ. لاكن من هيئات البدن كما بيّنت في كتابي في تدبير الأصحّاء هيئات رديئة منها ما مزاج البدن كلّه منها رديء ومنها ما هو مختلف مع رداءته في أعضاء البدن مثل هيئة البدن الذي ذكره في هذا القول فيمن يغلب على معدته مزاج رديء لا فيمن مزاج معدته أفضل المزاج مثل المعدة التي الحرارة الغريزيّة فيها كثيرة ولذلك تعين على خصب البدن وامتلائه من اللحم معونة قويّة ولا تعين على نهوكه وقضفه بمنزلة ما تفعل المعدة التي يغلب عليها المزاج الرديء.
(٢٧) قال أبقراط: إذا عزّ المطر خصبت أجناس الطيور.
قال جالينوس: إنّ الذين ينتحلون صناعة أبقراط وهم يبعدون منها لمّا راموا أن يأتوا بالسبب الذي من أجله صارت «الطيور 〈تخصب〉» في أوقات «عزّة المطر» إذا كانت تلك الأوقات أوقاتاً يغلب فيها على الهواء اليبس وعدم المطر مدّة طويلة وصفوا في ذلك ما هو مضادّ لأقاويل أبقراط التي يعتقدونها غاية المضادّة. ولست أعجب من بعضهم أنّهم جهلوا أنّ المزاج الطبيعيّ لكلّ واحد من أجناس الحيوان يبقيه ويحفظه ما شابهه وما شاكله ويقلبه ويفسده ما خالفه وضادّه بخلاف الحال في المزاج الخارج عن المجرى الطبيعيّ فإنّ شفاء الأبدان التي هي على
حال خارجة عن المجرى الطبيعيّ إنّما يكون بالضدّ إذ كان من جهل ذلك ممّن فسّر هذا الكتاب بعضهم من أصحاب التجارب وبعضهم من أصحاب إيروفيلس. وإنّما عجبي من أنّ قوماً من أصحاب أبقراط قد بلغ من جهلهم أن أتبعوا زوكسس وإيروقليدس الذي من أهل إروثرا على أنّ زوكسس إنّما كان رجلاً من أصحاب التجارب وإيروقليس إنّما كان رجلاً من أصحاب إيروفيلس. وتوهّموا أنّ الطيور إنّما تكثر في أوقات «عزّة المطر» من قبل أنّه يحدث في تلك الأوقات وباء وموتان فتقع جثث كثيرة مطرّحة على الأرض من غير دفن فتأكل الطيور من لحومها فتشبع فيكون ذلك سبباً لخصبها وكثرتها.
وهذا القول قول في غاية الشناعة يستحقّ من سامعه الضحك والاستهزاء. وقد كان القول بضدّ هذا أقرب إلى الحقّ وهو أن يقولوا إنّ الطيور تتماوت مع الناس لشيئين أحدهما لإضرار الهواء بها كما يضرّ الناس إذ كانوا بزعمهم يصير وبيئاً والآخر لأكل تلك الطيور ما تأكل من تلك الجثث العفنة. وليس يجوز أن يكون الوباء نال الكلاب والبغال كما وصف أوميرس ولا ينال الطيور البتّة. ولو سلمت الطيور من أن ينالها الوباء في أوّل حدوثه لما سلمت من أن ينالها في آخره إذا امتدّ وتمادى. وقد سمعنا ثوقيدس أيضاً يذكر من أمر الوباء الذي حدث في دهره أنّ الطيور وذوات الأربع التي تأكل من لحوم الناس لمّا بقيت جثث كثيرة على ظاهر الأرض من غير دفن كانت حين تدنو منها فتذوق منها شيئاً تتماوت في مواضعها.
وقد كان ينبغي ألّا يخفى هذا على أولائك المفسّرين على ذلالة أقدارهم لو كانوا لم يشدوا شيئاً من علم الطبّ.
فأمّا إن أنزلت الأمر على أنّهم قد كانوا أطبّاء فلن يخلو من أن يكونوا جهلوا أو أنسوا شيئاً قاله أبقراط في كتاب الفصول فيكون ذلك أيضاً دليلاً على قلّة آدابهم. وذلك أنّ أبقراط قال: «إنّ أوقات عزّة المطر أصحّ من أوقات كثرة المطر والموت فيها أقلّ». وهؤلاء قد بلغ من ذمّهم لتلك الأوقات أنّهم ظنّوا أنّه يحدث عنها وباء. ولو كان ما قالوا من هذا حقّاً لما كانت تقدمة المعرفة بعزّة المطر من خصب الطيور ممّا يخصّ صناعة الطبّ.
وكما أنّ كثيراً من المفسّرين في أقاويل أخر كثيرة لمّا جهلوا معنى أبقراط في قوله خرجوا إلى ما ليس هو من شأن الطبيب كذلك عرض لهم في هذا القول الذي نحن في شرحه. وقد ظننت سابينس أنّه حذر هذا بعينه فقال إنّ هذا القول من أبقراط قول أراد به تقدمة المعرفة بما هو كائن من عزّة المطر وذلك أنّ الطيور تسبق فتحسّ بيبس الهواء فتهبط نحو الأرض حتّى يكون طيرانها قريباً من الأرض فإذا كان ذلك توهّم الناس أنّها قد كثرت. وليس هذا دليلاً يدلّ على عزّة المطر لاكنّه يدلّ على يبس في الهواء أيّاماً.
«وعزّة المطر» ليس المعنى فيها يبس مطلق لاكنّه يفهم مع ذلك اليبس فيها مدّة طويلة من الزمان. وإن نحن سلّمنا أنّ اليبس الذي يحدث في الهواء أيّاماً يسيرة قد يسمّيه أبقراط «عزّة المطر» لم ينفعه تسليمنا له شيئاً من قبل أنّ هذا القول لا يكون خاصّاً لصناعة الطبّ من قبل أنّ تعرّف المطر أو عزّة المطر الكائن قبل حدوثه الخاصّ بعلم الطبّ إنّما هو تعرّف ذلك بالأمراض التي تعرض في أبدان
الناس. وأمّا تعرّف ذلك من الطيور أو من غيرها فليس هو من صناعة الطبّ لاكن من صناعات أخر قد وصف أراطس دلائل كثيرة بعضها يدلّ على المطر وبعضها يدلّ على البرد وبعضها يدلّ على الصحو وبعضها يدلّ على الريح وبعضها يدلّ على الركود.
وقول أبقراط أيضاً «خصبت» ليس يدلّ على أنّها تكثر لاكنّه إنّما يدلّ على أنّها تصحّ صحّة خصب وسمن وهذا هو السبب الذي دعا أبقراط أن يكتب هذا تذكرة لنفسه بأنّ الأبدان الصحيحة التي لا يذمّ من صحّتها شيء تحتاج إلى ما شابهها وشاكلها والأبدان السقيمة تحتاج إلى ما ضادّها. وقد بلغت في شرح ذلك لكم على الاستقصاء والكمال في كتابي في تدبير الأصحّاء وفي تفسيري لكتاب الفصول. ففي هذا الأمر الذي وصفه في هذا القول دليل بيّن على صحّة هذا القول الذي قلناه وذلك أنّ «الطيور» لمّا كان مزاجها أجفّ من مزاج أبداننا كانت أحرى بأن تصحّ في أوقات «عزّة المطر». وقد علمنا من أمر الطيور أيضاً أنّها إنّما ترزأ من الأغذية ما هو أجفّ وأميل إلى اليبس ولا ترزأ من الماء إلّا اليسير دائماً وليس حالها كحال الخنازير التي إنّما شأنها أن تستحمّ بالماء في كلّ وقت فأن تشرب منه شرباً كثيراً دائماً.
(٢٨) قال أبقراط: عند الاحتلام أيّ الأنثيين نشزت فإنّ اليمنى منها إن برزت كان من صاحبها ذكورة وإن برزت اليسرى كان من صاحبها إناث.
قال جالينوس: عند نقلة الغلام من حال الصبيّ إلى حال الشباب كما أنّه يكون ذلك الوقت ابتداء تولّد المنى ونبات الشعر في العانة كذلك قد يكون تزيّد
«الأنثيين» ونموّهما دفعة كما يكون في الجواري تزيّد الثديين ونموّهما مع مجيء الطمث. وعند ذلك قد يتغيّر الصوت وخاصّة في الذكورة وذلك أنّ أصواتهم أوّلاً تكون حادّة فإذا صاروا إلى غاية الشباب ونهايته صارت أصواتهم ثقيلة وأمّا في الوقت الذي فيما بين الحدّين فإنّ الصوت يكون أبحّ.
وليس يحتاج في هذا القول الذي نحن فيه إلى أن نبحث عن السبب الذي صارت هذه الأشياء كلّها تظهر في هذا الوقت من السنّ الذي ذكرناه فأمّا ظهورهما فقد تدلّ عليه التجربة دون غيرها وتدلّ أيضاً على أنّ «الأنثى اليمنى» إذا انتفخت وعظمت قبل اليسرى فإنّ صاحبها إذا تمّ شبابه وتزوّج ولد له من «الذكورة» أكثر ممّا تولّد له من «الإناث» فإن كانت «اليسرى» هي التي تنتفخ وتعظم أوّلاً كان الأمر بخلاف ذلك. وكذلك قوله في الرحم وممّا يدلّك على ذلك قوله في كتاب الفصول: «إنّه ما كان من الأطفال ذكراً فأحرى أن يكون تولّده في الجانب الأيمن وما كان أنثى ففي الأيسر» فما قلته في هذا المعنى في تفسيري لكتاب الفصول فانقله إلى هذا القول الذي نحن في شرحه. فإنّ السبب سبب واحد مشترك في الذكورة والإناث من قبله كان الجانب الأيسر مولّداً للإناث والجانب الأيمن مولّداً للذكورة وقد وصفت هذا أيضاً في كتاب منافع الأعضاء.
(٢٩) قال أبقراط: العينان بقدر ما عليه من القوّة كذلك يكون البدن ويتزيّد اللون جودة أو رداءة.
قال جالينوس: إنّ من البيّن أنّه ينبغي أن تفهم في قوله «بقدر ما عليه» أمن «بقدر ما هما عليه» أو «بقدر ما يكونان عليه». وقد ألحق قوم هذا الحرف الناقص
من نفس كلام أبقراط وقد كان ينبغي لهم أن يتبعوا من فسّر هذا الكتاب لا من القدماء فقط لاكنّ من أتى بعدهم فيقول إنّهم وجدوا هذا الكلام ناقصاً حتّى يحتاج إلى أن يفهم فيه الحرف أعني «هما» أو «يكونان» ولا يلحقونه في نفس كلام أبقراط كأنّهم قد وجدوه كذلك مكتوباً.
وأمّا معنى هذا القول فأفضل ما يؤوّل إليه مع ترك ما أخطأ فيه من أخطأ فهو ما أصف: إنّ أبقراط يريد أن يصف في هذا القول كيف يقدر الإنسان أن يتعرّف من العينين أمر القوّة في البدن كلّه من قبل أنّ العينين خاصّة تدلّان على قوّة البدن أصحّ الدلالة وأوكدها. وممّا يدلّك على ذلك أنّ الذين يصيبهم الغشي أو تخور قوّتهم وتضعف بوجه من الوجوه ليس تقدر أن تتعرّف شيئاً من أمر ضعف قوّة أبدانهم وشدّتهم بأن ترى منهم اليدين أو الرجلين أو مواضع أخر من الوجه خلا العينين لا درّك تقدر أن تتعرّف حالهم في القوّة والضعف من العينين خاصّة. وذلك أنّ شدّة القوّة وضعفها يتبيّنان فيهما بياناً واضحاً وذلك أنّ من بدنه قويّاً يكون بصره حادّاً وأجفانه مفتوحة ومن كان بدنه ضعيفاً فإنّه لا يقدر أن يفتح عينيه فتحاً تامّاً.
«ولون» العينين أيضاً ومقدار حجمهما قد يدلّان دلالة ما على قوّة البدن. وذلك أنّه متى كانت قوّة البدن ضعيفة فإنّ العينين تكونان غائرتين جافّتين رديئتي اللون ومتى كانت قوّة البدن قويّة كان لون العينين حسناً وكانتا منفتحتين ورأيت فيهما رطوبة برّاقة صقيلة. وهذا ممّا قد يظهر عياناً وإن لم يعلم السبب الذي يكون 〈به〉 والسبب الذي فيه بيّن عند من كان عالماً بطبيعة العينين أيّ الطبائع هي. وقد بيّنّا من أمر طبيعة العينين في كتب أخر من كتبنا في أقاويلنا في البصر إنّه يأتي
العينين من الدماغ روح كثير نفسانيّ نيّر فمتى كان هذا الروح ضعيفاً أو يسيراً حدثت في العينين هذه الأعراض التي ذكرنا قبيل.
وقال في «اللون» أيضاً إنّه «يتزيّد جودة أو رداءة» وما هو بالبيّن هل كلامه في ذلك في العينين بعد أو في لون البدن كلّه. وذلك أنّك إن تأوّلت كلامه على المعنيين جميعاً وجدته صحيحاً من قبل أنّ العينين كما قد تختلفان في «القوّة» والضعف كذلك قد تختلفان في حسن «اللون» وقبحه وحال البدن كلّه تتبع حالهما في ذلك. وذلك أنّه متى كانت العينان حسنتي اللون دلّتا على أنّ البدن صحيح ومتى كان في لونهما قبح دلّتا لا محالة على أنّ البدن كلّه قد نالته آفة. وإنّما صار تغيّر اللون يتبيّن في العينين أسرع ممّا يتبيّن تغيّره في سائر الأعضاء بصفائهما واستنارتهما. وليس هذا فقط قد يمكن أن يتأوّل من هذا القول لاكن قد يمكن أن يتأوّل منه أنّ تغيّر اللون في البدن كلّه تابع لما يظهر في العينين من الدلائل وبهذا الطريق يمكن أن يترقّى في الاستدلال من العينين إلى البدن كلّه.
وقد يمكن أن يتأوّل هذا القول على حدته مفرداً إن نحن وصلناه بالقول الذي بعده وأنا آخذ في شرح ذلك القول وأبتدئ به ابتداء آخر:
(٣٠) قال أبقراط: ويتزيّد اللون جودة أو رداءة وواجب أن يكون ظاهر البدن بحسب ما عليه الغذاء.
قال جالينوس: يقول إنّ «اللون» على قياس «الغذاء» يعني الدم «يتزيّد جودة أو رداءة» وأعني بالدم في هذا الموضع الكيموس كلّه الذي في العروق الذي قد يشوبه شيء من البلغم والمرّتان ومن المائيّة فإنّ هذا هو الذي يجوز أن يكون أجود
أو أردأ. وأمّا الدم الذي في ذلك الخلط الذي تحويه العروق الذي يخصّ بالحقيقة باسم «الدم» وإنّما سمّي جميع ما تحويه العروق «دماً» بغلبته عليه فليس يمكن أن يقال فيه إنّه «رديء» ولا إنّه يمكن أن يكون بلون آخر غير اللون الأحمر المشبّع.
(٣١) قال أبقراط: دلائل الموت بخار حارّ في الجلدة وقبل يخرج من الأنف نفس بارد.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام قد يوجد مختلفاً في النسخ إلّا أنّه في جميع النسخ كلام ناقص يحتاج أن يفهم معه شيء من خارج. ومعنى هذا الكلام على حسب ما في بعض النسخ 〈…〉 فإن أحببت أن تتأوّله على ما يشاكل نسخة أخرى كان على هذا الوجه: إنّ من دلائل الموت البخار الحارّ الذي يستفرغ من الجلد من بعد أن يكون قد خرج هواء التنفّس وهو بارد. إلّا أنّ هذا الدليل بعينه الذي من «التنفّس البارد» قد وصف أمره أبقراط وأعلم أنّه من أدلّ الدلائل على الهلاك في كتاب تقدمة المعرفة أيضاً وهذا قوله فيه: «وأمّا التنفّس الذي يخرج وهو بارد من المنخرين والفم فإنّه دليل يدلّ جدّاً على الهلاك».
وأمّا في هذا القول فإنّه أضاف إلى ذلك عرضاً ما ليس باللازم لأصحاب هذه الخصال دائماً وذلك أنّه يجري من أبدانهم «بخار حارّ» يخرج دفعة من الجلد إلّا أنّ ذلك ليس يعرض لجميعهم ولا في جميع الأوقات. وقد كان ينبغي للمفسّرين مع هذيانهم وإطنابهم فيما لا يحتاج إليه أن يكونوا قد خبّروا بهذا وذلك أنّك لا تجد هذا العرض يعرض إلّا لمن تقدّم موته حمّى في غاية الحرارة حتّى أحرقت دم
القلب وأفنت رطوبته ولذلك صيّرته في آخر الأمر إلى حال البرودة الشديدة. فإذا انحلّت القوّة الحيوانيّة عند موت القلب أمّا في سائر الأبدان فيحدث عرق يكون عنه الغشي وذلك يكون إذا كان في البدن فضل من رطوبة. وأمّا من جفّفته حمّى محرقة فإنّه يظهر لك إذا حسست من بدنه مكان العرق «بخار حارّ» ينفشّ. وليس يظهر لك ذلك أيضاً في جميع أوقات المرض لاكن حين يبدأ الهواء الذي يخرج بالتنفّس يميل إلى البرد. فأمّا بعد تطاول المدّة فإنّ «الجلد» يبرد برداً شديداً إذا استفرغ منه الجوهر البخاريّ الذي كان اجتمع في وقت المرض من تلطيف الحمّى لأخلاط.
وليس يمكن أن يتولّد في ذلك الوقت الذي يعرض للقلب فيه بالموت «بخار بارد» أو فاتر فضلاً عن «الحارّ». وكلّ قلب يقرب من الموت فإنّه يغلب عليه سوء مزاج بارد وليس يكون مزاج القلب في كلّ مرض مميّت هذا المزاج دائماً لاكن قد يكون مزاجه كثيراً في غاية الحرارة وذلك يكون في الحمّيات المحرقة التي في غاية الحرارة. وأمّا في الأمراض التي يعرض فيها للقلب أن يغلب عليه سوء المزاج البارد فلا تجد «البخار الحارّ» ينفشّ من «الجلد» إذا قرب المريض من الموت حتّى يبتدئ الهواء الذي «يخرج» منه بالتنفّس يخرج وهو «بارد». وذلك أنّ الرطوبات لا تكون لطفت وانحلّت فيمن تلك حاله إذا لم يحمّ حمّى محرقة ولا كان في بدنه أخلاط من جنس المرار أو مزاجها مزاج حارّ وقوامها قوام لطيف. وذلك أنّ في الأمراض الباردة تكثر في البدن وتغلب عليه الأخلاط البلغميّة النيّة الغليظة وبالجملة الأخلاط الباردة لا الأخلاط الرقيقة التي هي من جنس المرار الحارّة.
فهذه النسخة التي يعرفها سابينس وروفس وديسقورودوس وقابيطن أيضاً قد حفظ جميع ما فيها على حاله ولم يزد فيها شيئاً إلّا حرفاً واحداً وذلك أنّه كتب مكان «بخار حارّ» «بخاراً في غاية الحرارة». فأمّا قوم من المفسّرين ممّن كان قبل هؤلاء فإنّهم إنّما يعرفون هذا الكلام على هذه النسخة: «دلائل الموت جلدة في غاية الحرارة» وليس في تلك النسخة «للبخار» ذكراً البتّة. ولمّا راموا تفسير هذا القول قالوا إنّه يعني به أنّ البدن كلّه قد استولت عليه الحمّى غاية الاستيلاء واستحوذت عليه حمّى حادّة حتّى صار كأنّه ملتهب.
فإذاً جاوزوا إلى القول الذي يتلو هذا وهو قوله «وقبل يخرج من الأنف نفس بارد» ولمّا كان ما قاله في أوّل هذا الكلام مناقضاً لقولهم وهو قوله «دلائل الموت» لأنّه لم يذكر على نحو تأويله إلّا دليلاً واحداً أفرده وتفسير ذلك القول أعني قوله «دلائل الموت» على حدته وتفسير قوله «الجلد الحارّ جدّاً» على حدته. وزعموا أنّه إنّما دلّ بقوله «دلائل الموت» أنّه لا ينبغي أن يقتصر في تقدمة المعرفة بما هو كائن من الموت على النظر في دليل واحد لاكنّه ينبغي أن ينظر في اجتماع دلائل كثيرة معاً ولا يتوهّم أنّ تقدمة المعرفة تصحّ ويوثق بها غاية الثقة إلّا على هذا الوجه. وإنّ هذا المعنى الذي يدلّ عليه قوله «الجلد الحارّ جدّاً» إنّما هو واحد من «دلائل الموت» وكلّ واحد من هذين التفسيرين بعيد من القبول ومن الإقناع إلّا أنّ من الناس قوماً ما يحبّون من التأويلات ما بعد من القبول والإقناع.
وقد يكتب هذا الكلام على نسخ أخر ويتأوّل بتأويلات أخر سوى هذه التي ذكرنا وليس يضطرّني الأمر إلى ذكر تلك النسخ والتأويلات فيها.
(٣٢) قال أبقراط: وأمّا دلائل الحياة فأضداد تلك.
قال جالينوس: إنّ هذا القول لمناقض لقول من زعم أنّه إنّما ذكر في الكلام الذي قبل هذا دليلاً واحداً من دلائل الموت وهي الحمّى الشديدة الحرارة جدّاً. وذلك أنّه أخرج قوله هذا الذي فيه أنّ «دلائل الحياة أضداد تلك» على أنّه بإزاء ما تقدّم من قوله «دلائل الموت» وجعله كأنّه نسق عليه على أنّ قوله «دلائل الموت» غير موصول به على نحو تأويل أولائك بالقول الذي قاله بعد وهو قوله أن يكون «الجلد حارّاً جدّاً» ويصير على حدته من غير أن يصله بقوله «دلائل الموت». وذلك أنّه لا يتبيّن به ما الذي يدلّ عليه «الجلد المفرط الحرارة». وليس يزعمون أنّ قوله «وقبل يخرج من الأنف نفس بارد» يدلّ على أنّ ذلك يكون في الوقت الذي قبل ظهور البخار الحارّ لاكن في الوقت الذي قبل الموت يضف «الجلد المفرط الحرارة» لم يضف إليه ما يدلّ على أنّه من دلائل الموت بل ليس هو من دلائل الموت إلّا أن يتقدّمه الدليل الذي ذكره أبقراط حين قال: «وقبل يخرج من الأنف نفس بارد». وذلك أنّه إن انفشّ من الجلد بخار حارّ في غاية الحرارة من غير أن يكون قد تقدّمه نفس بارد قد يمكن أن يكون ذلك العارض من قبل أخلاط لطيفة في حمّى حادّة ولا يكون دليلاً على الموت لا محالة لاكن ربّما كان ذلك من أمارات الخير لانفشاش تلك الأخلاط التي قد لطفت وانحلّت. وإذا كانت الأخلاط أغلظ قليلاً فإنّ الطبيعة تستفرغها من البدن بضروب من الاستفراغ ظاهرة للحسّ فيحدث العرق وغزارة البول والبزاق والقيء. «ودلائل الحياة» التي هي ضدّ دلائل الموت إلّا أن يكون ما يخرج من هذا النفس بارداً والاستفراغ بعده من الجلد بخار حارّ.
وبالواجب صار آل زوكسس لمّا أفردوا قوله «دلائل الموت» على حدته وتأوّلوه على أنّه مفرد غير متّصل بما يتلوه أسقطوا هذا القول كلّه الذي قال فيه: «وأمّا دلائل الحياة فأضداد ذلك».
(٣٣) قال أبقراط: لاستدامة الصحّة قد ينبغي أن يقدّم التعب قبل الطعام.
قال جالينوس: قد قال هذا المعنى فيما تقدّم إلّا أنّه لم يذكر فيه «الصحّة». وقد وصف هذا المعنى أيضاً في كتاب الفصول وجعل هناك اسم «التعب» مكثّراً فقال: «إنّ ضروب التعب ينبغي أن تتقدّم الطعام» ولم يقتصر على أن جعله مفرداً كما قال في هذا الموضع: «إنّه ينبغي أن يقدّم التعب قبل الطعام». وما عندي في شرح هذا القول شيء أكثر ممّا قلته في تلك الأقاويل لأنّ المعنى واحد بعينه كثّر اسم «التعب» أو أفرد.
تمّت المقالة الرابعة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المعروف بإفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الخامسة
المقالة الخامسة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: إنّ الطبيعة تشفي الأمراض.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام قد يوجد في النسخ مختلفاً فيوجد في بعضها «إنّ الطبيعة تشفي الأمراض» وفي بعضها «إنّ الطبيعة هي طبيب شافٍ للأمراض» وفي بعضها «إنّ الطبائع أطبّاء شافون للأمراض». وقد قلت مراراً كثيرة فيما سلف من قولي إنّي لست أقصد للتمييز بين النسخ التي إنّما الخلاف بينها في اللفظ والمعنى فيها واحداً من جميع الوجوه حذراً من أن يطول تفسيري لما قصدت لتفسيره وما ذكرت من هذا في هذا الموضع أيضاً إنّما ذكرته لأذكر به غرضي في هذا الباب لأنّي لست بذاكر شيئاً من هذا الاختلاف بين النسخ في تفسيري لما يأتي بعد من الأقاويل.
والمعنى في هذا الكلام متى فهمه القارئ على الإطلاق وحده مضى يتأوّل به أبقراط على قوله الذي يعتقده في الطبيعة إنّه ليس من حزب من يسلبها الحكمة والحذاقة لاكن من الحزب الآخر الذي يوجب لها الحكمة والحذاقة والعناية بتدبير أبدان الحيوان. وينبغي أن تفهم في هذا الموضع من أمر «الطبيعة» قوّة حالّة في تلك الأبدان التي تدبّرها. وليس يضطرّنا شيء إلى البحث والنظر من أمر تلك القوّة ما جوهرها كما ليس يضطرّنا شيء إلى البحث والنظر في أشباه هذه من الأقاويل عن جوهر النفس أيّ جوهر هو أو عن جوهر القوّة المدبّرة التي بها يكون التوهّم والتفكّر والتذكّر ما جوهرها لأنّه ليس يحتاج في هذا القول إلى شيء من هذه الأشياء البتّة لاكنّ الذي يكتفي به في هذا القول هو أنّ أبقراط قد أحسن فيما رآه وقاله من أمر «الطبيعة» إنّها «شافية للأمراض».
ولعلّ ظانّاً يظنّ أنّ صناعة الطبّ تبطل من هذا القول فلذلك ليس ينبغي أن يفهم قوله «إنّ الطبيعة شافية للأمراض» على الإطلاق. وذلك أنّ تحت هذا اللفظ معنى أبعد غوراً ممّا يفهم من ظاهره ويحتاج إلى تلخيص بفضل استقصاء. وما فعلت ذلك قبل وقتي هذا في موضع من المواضع وأنتم معشر أصحابي الذين أسعفتكم لتفسيري لهذا الكتاب وإن كنتم عالمين بغرضي فإنّي على حال مذكّركم به في هذا الموضع أيضاً: إنّي قصدت لكلّ واحد من الأقاويل التي تحتاج إلى البرهان فأبيّنه مرّة واحدة البيان التامّ الكامل ثمّ لا أذكره في كتاب آخر تعلّمي بأنّي إن ذكرت القول الواحد بعينه في الشيء الواحد بعينه مراراً طال الكلام في ذلك وكان تكريره فضلاً. وقد فعل ذلك قوم من حدث الأطبّاء فلم يقتصروا على أن كرّروا صفة الشيء الواحد مرّتين حتّى كرّره ثلاث مرار وأربعاً وخمساً وأكثر من ذلك فكتبوا في الشيء الواحد بعينه كلاماً واحداً بعينه في كتب كثيرة من الكتب التي فسّروا
〈فيها〉 أقاويل غيرهم ومن الكتب التي وضعوها عن أنفسهم. فأمّا أنا فإنّي أبيّن الشيء وأقيم عليه البرهان مرّة واحدة ثمّ أنبئ 〈…〉 الأمر عليه في كتاب كذا وكذا.
فأنا أيضاً في هذا الموضع سالك هذا الطريق في اقتصاصي القول في أمر «الطبيعة» على أيّ وجه قال أبقراط فيها إنّها «طبيب شافٍ للأمراض» وأنّ صناعة الطبّ ليس تبطل بهذا القول. فمن قرأ كتابي هذا فليحضر بي ذهنه فإنّي مبتدئ بالقول في هذا الباب من هذا الموضع.
فأقول إنّ قائلاً لو قال إنّ الغذاء إذا قدّر في وقته وقدّرت مع ذلك كيفيّته وكمّيّته كان به شفاء الأمراض لم يكن في قوله بعد كاذباً وكذلك إن قال إنّ شفاء الأمراض قد يكون من الأضمدة أو من التنطيل أو من الحقن أو من الفصد أو من غير ذلك ممّا أشبهه إذا كان البرء من الأمراض قد يكون بكلّ واحد من هذه. وكذلك من قال إنّ شفاء الأمراض والبرء منها يكون من الأطبّاء ليس يكون في قوله هذا كاذباً ولا من قال أيضاً إنّ صناعة الطبّ تشفي وتبرئ المرضى من أمراضهم يكون في قوله كاذباً. فكما أنّ القائل لكلّ واحد من هذه الأقاويل ليس يلزمه في قوله إيّاه خطاء ولا كذب كذلك الحال فيمن قال إنّ «الطبيعة» تفعل جميع ما تفعله لسلامة بدن الحيوان. ويلزم من قول القائل لهذه المقالة أن تكون الطبيعة هي أوّل وأقدم [و]الأسباب المحدثة لشفاء الأمراض وخاصّة إذا هي أحدثت كثيراً البرء إحداثاً بيّناً بعرق تبعثه من البدن أو باستفراغ يكون منها بالبول أو بالغائط أو بالقيء فتستنظف به الأخلاط المؤذية المولّدة للمرض.
وقد ينبغي أن نبحث وننظر أيّ هذه الأسباب من الأسباب المحدثة للصحّة هو السبب الأوّل في الشرف وأيّها هو السبب الثاني وأيّها هو السبب الثالث ولا سيّما إذ كنّا قد نجد منها أسباباً أخر إلى هذه الأسباب يكون بها ومنها البرء من الأمراض وقد ينبغي أن نضيف ونعلم مراتبها كلّها في الشرف كيف تتوالى. فإنّ الأمر عندنا أنّ القول بأنّ «الطبيعة تشفي الأمراض» صواب والقول أيضاً إنّ صناعة الطبّ والطبيب يشفيان من الأمراض صواب والقول أيضاً إنّ خادم الطبيعة يشفي المريض حقّ وكذلك القول بأنّ الفصد واستفراغ الدم الذي يكون عنه يكون بهما شفاء الأمراض. ولعلّ قائلاً أيضاً سيقول إنّ الطبّاخ قد يعين على البرء من الأمراض من وجه ما وكذلك الحائك والبنّاء والنجّار والحدّاد وغيرهم من الصنّاع ممّن يعمل من الآلات ما [لا] نستعمله فيما نهيّئه للناس لنكتسب لهم به الصحّة.
إلّا أنّ بعض هذه الأشياء إنّما هو موادّ نصرّف ونقدّر فيكون بتصريفها وتقديرها الشفاء وليست في نفسها ممّا يحدث به الشفاء من غير تقدّم وتدبير. وبعضها إنّما هي آلات تصلح لأن يستعملها من يكون منه الشفاء وإنّما يصير بها الشفاء بسبب من يستعملها في الوقت الذي ينبغي وعلى ما ينبغي. من ذلك أنّ الخمر إذا شربت فانتفع بشربها فإنّ بشربها الشفاء وكانت سبباً من أسباب الصحّة فإن شربت في غير وقت حاجة إلى شربها فأحدثت اختلاطاً في الذهن أو ورماً في الدماغ فإنّها عند ذلك تكون سبباً للمرض لا سبباً للصحّة ولا ممّا يكون به الشفاء.
والسبب الذي يصير به كلّ واحد من الموادّ بالحال التي تكون بها سبباً للصحّة ويحدث عنها الشفاء إنّما هو المقدار للوقت الذي ينبغي أن يستعمل فيه والمقدّر لذلك الوقت هو المسمّى عند جميع أهل لغتنا «الطبيب» «والشافي». فيجب من
هذا أن يكون الطبيب أولى بأن ينسب إلى أنّه سبب لحفظ الصحّة ولحدوثها من الخمر. وذلك أنّ الخمر إنّما تنفع الأصحّاء إذا قدّر ما يشرب منها في الوقت الذي ينبغي وبالمقدار الذي ينبغي وإنّما يكون بها الشفاء من الأمراض إذا قدّرت في الوقت الذي يحتاج إليها فيه وبالمقدار الذي يحتاج إليه منها.
إلّا أنّ الطبيب ليس من قبل أنّه حيوان ولا من قبل أنّه مشّاء ولا من قبل أنّه ذو رجلين ولا من قبل أنّه ناطق ولا من قبل أنّه مدبّر يعلم الوقت الذي يحتاج فيه إلى كلّ واحد من الموادّ وإلى المقدار الذي يحتاج إليه منها لاكنّه إنّما يقف على ذلك من قبل أنّه يعلم صناعة شأنها تدبير الصحّة وأمور المرضى. ولو كان إنّما يعلم ذلك بسبب شيء من تلك الأشياء التي تقدّم ذكرها لكان مع جميع الناس ذلك العلم بعينه. فيجب من ذلك أن تكون الصناعة التي بسببها صار الأطبّاء أطبّاء متقدّمة في الشرف للأطبّاء في عدد أسباب الصحّة وذلك أنّا إنّما نستعمل القوّة التي استفدناها من تلك الصناعة فنشفي بها من الأمراض.
لاكنّ النسبة بين الموادّ والآلات وبين الطبيب وصناعته هي النسبة بين الطبيب وصناعته وبين «الطبيعة» التي في البدن الذي يلتمس له البرء. فإنّ تلك هي التي تفعل كلّ ما يحتاج إلى فعله في أبدان الحيوان وتغذوها متى احتاجت إلى الغذاء وتعدّ لنفسها الدم حتّى تغذو به الأعضاء التي تحتاج إلى الغذاء وتعدّ أيضاً الدم كيما يتولّد الغذاء الذي ينهضم في المعدة. فأمّا متى ازدرد الطعام فلم ينهضم على ما ينبغي ولم ينفذ من المعدة إلى الكبد ولم يستحل في الكبد فيصير دماً ولم نجد قوّة الأعضاء التي تغتذي به قويّة لم نقل أصلاً عند ذلك إنّ البدن قبل الغذاء. وكما أنّ أعظم الأسباب وأشرفها في قبول الأعضاء التي تحتاج إلى الغذاء هو القوّة التي تغذوها كذلك القوّة التي في المعدة هي أعظم الأسباب وأجلّها خطراً في
استمراء الطعام والقوّة التي في الكبد والعروق غير الضوارب أولى الأسباب بتوليد الدم من المغذّي الذي قد انهضم في المعدة.
وليس شيء يضطرّني أن أصف جميع أعمال الطبيعة الجزئيّة في هذا الموضع لاكنّي أكتفي بأن أذكر فقط أنّي قد بيّنت في كتابي في القوى الطبيعيّة أنّ أقواها الكلّيّة التي بها تفعل جميع أفعالها في أبدان الحيوان هي أربعة 〈الأولى منها〉 القوّة الجاذبة للشيء الملائم المشاكل والثانية القوّة المغيّرة لذلك الشيء بعينه والثالثة القوّة الممسكة للشيء الملائم والرابعة القوّة الدافعة لما ليس بملائم. فبهذه القوى بأعيانها تحفظ الطبيعة بدن الحيوان على صحّته ثمّ لا تقتصر على ذلك حتّى تشفيه وتبرئه إذا هو مرض.
وقد تبيّن من هذا كم مقدار فضلها في الشرف على سائر الأسباب الفاعلة للصحّة. وذلك أنّ سائر جميع تلك الأسباب إنّما تعدّ لها الموادّ الموافقة لها كما قد نرى خارجاً من بعض الصناعات يخدم بعضها بعضاً. وذلك أنّ النجّار يعدّ للحائك الحفّ والنول والمشط والنجّار أيضاً يعدّ له الخشب قطّاع الخشب ويعدّ له الفأس والقدوم الحدّاد والحدّاد أيضاً يعدّ له الحديد المستخرج له من معدنه. ولا نكاد نجد صناعة تعمل عملاً من الأعمال لا تحتاج البتّة إلى صناعة أخرى غيرها تعدّها لها الآلات أو المادّة التي يصلح لها التعمّل منها ما تعمّل. وكذلك قد تعدّ للطبيب الآلات والموادّ التي تصلح له صناعات أخر كثيرة كما أنّ الطبيب نفسه أيضاً يعدّ هو وخدمه للطبيعة ما يصلح لها من الموادّ.
ومثل قياس هندسة صاحب الأعمال الذي يقال له باليونانيّة «أرشيطاقطن» وبالعربيّة 〈…〉 البنّائين والنجّارين وسائر الصنّاع الذين هم رئيسهم يكون قياس
الطبيب هم قلّاعو العقاقير والصيادلة والعطّارون والطبّاخون والمضمّدون والممرّخون والحقّانون والحجّامون والفصّادون والبطّاطون. وإن كنّا نحن قد نعلم هذه الأعمال ونعملها فإنّما نفعل ما نفعله من ذلك بمنزلة ما يكون المدبّر للسفينة الذي يحسن أن يجذّف وأن يصعد إلى أعلى الدقل صعوداً سهلاً سريعاً وسائر الأعمال التي يعملها الملّاحون حتّى يحكمها ويتولّى عملها بنفسه. وكثير من قوّاد الجيوش يحسنون يرمون بالنشّاب ويزرقون بالمزاريق ويقاتلون بالسيوف والرماح ويجيدون ذلك عملاً وعلماً ونجد أيضاً كثيراً من الملوك يحسنون هذه الأعمال ويتعاطونها لاكنّ إسكندر الملك وفيلبس أبوه لم يفعل كلّ واحد منهما هذه الأفعال التي هي أفعال الجند من طريق أنّه كان ملكاً أو من طريق أنّه كان قائد جيش لاكنّه إنّما عمل هذه الأعمال بصناعات أخر تخدم صناعة الملك وصناعة قيادة الجيوش.
فنحن أيضاً معشر الأطبّاء أمّا من طريق أنّا أطبّاء فنعلم أمر الكيفيّة من كلّ ما يتعالج به لطلب الشفاء والكمّيّة والوقت والوجه الذي ينبغي أن يستعمل فإن نحن فصدنا أو علّقنا محاجم أو فعلنا غير ذلك ممّا نفعل باليد. فلسنا نفعل ذلك من طريق أنّا أطبّاء لاكنّا إنّما نفعل ذلك من طريق أنّا خدم الأطبّاء. فالطبّ في مرتبة الشرف أقدم من الأطبّاء والطبيب أقدم وأعلى من صناعة الخدمة وصناعة الخدمة أقدم وأعلى مرتبة من الخدم والخدم أقدم وأعلى مرتبة من الصناعات التي تعدّ لهم الآلات والموادّ التي تعدّ لهم 〈…〉
وأنا معيد تعديد هذه الصناعات بالعكس ليكون علمك ببقاء وحفظك له أثبت في نفسك فافهمه عنّي. أقول أيضاً إنّ أفضل المراتب في حفظ الصحّة وفي إعادتها مرتبة الصنّاع الذين يعدّون لنا المحاقن والمباضع والسكاكين والمقاريض والمكاوي وسائر الآلات التي نستعمل لصناعات الطبّ ومع هؤلاء أيضاً الصنّاع الذين يهيّئون الموادّ التي يحتاج إليها في الطبّ وهم قلّاعو الأدوية والصيادلة والمستخرجون للمعادن وغيرهم ممّن هو شبيه بهم. 〈…〉 والمرتبة التي هي أعلى من تلك أيضاً مرتبة خدم الأطبّاء 〈…〉 ثمّ وراءها مرتبة صناعة الطبّ نفسها وصناعة الطبّ أيضاً إنّما تخدم الطبيعة. وقوى الطبيعة أيضاً منها قوى أولى بها يبقى الحيوان حيّاً وهي في أكمل المراتب وأجلّها قدراً في أفضل حياة يحيا بها البدن. وأعني بأفضل الحياة الحياة التي تكون مع صحّة وذلك أنّ الحياة التي تكون مع أمراض وأسقام حياة رديئة. ولهذه القوى قوى أخر تخدمها ولتلك أيضاً قوى أخر تخدمها.
وإذ كان قصدي تعديد جميع الصناعات والقوى التي يحتاج إليها ضرورة للصحّة والحياة في هذا القول وكنت لم أصف ذلك في موضع آخر من كتبي فإنّي لست أكسل أن أضيف إلى ما ذكرت مراتب أقدار القوى التي تحفظ على الحيوان الاعتدال الذي تكون به الصحّة في الكمّيّة والكيفيّة. وذلك من قبل أنّ جوهر
أبداننا لمّا كان غير ثابت ولا باقٍ على حاله لا في كمّيّة ولا في كيفيّة لاكنّ كمّيّته قد تنقص بالتحلّل الذي يخفى عن الحسّ وكيفيّته قد تحول وتتبدّل لاستحالة مزاجه دائماً لا من قبل الهواء المحيط فقط لاكن قد تحول وتتغيّر من ذاته كما بيّنت في كتابي في تدبير الأصحّاء جعل في أبداننا لإصلاح الفساد الحادث فيها من طريق الكمّيّة القوّة الغاذية ولإصلاح الفساد الحادث في الكيفيّة جعل فيها جنسي التنفّس الذي يكون بحركة الصدر حتّى يدخل الهواء ويخرجه من الفم والمنخرين والنفس الآخر الذي يكون في البدن كلّه بحركة العروق الضوارب بالانبساط والانقباض.
ولمّا كانت الأبدان التي تغتذي تحتاج إلى المادّة ملائمة لها لتغتذي بها جعلت فيها قوّة أخرى وهي القوّة المولّدة للدم ولمّا كان الدم أيضاً يحتاج إلى مادّة يتولّد منها جعلت فيها قوّة أخرى تخدم القوّة المولّدة للدم وهي القوّة الهاضمة للطعام في المعدة. وهذه القوى الثلاث التي ذكرت هي قوى خاصّيّة بعضها قوّة واحدة كلّيّة وهي القوّة المغيّرة.
وفي البدن قوى أخر عامّيّة ثلاث غير هذه القوّة حتّى تكون القوى العامّيّة كلّها التي في البدن أربعاً. وقد ذكرتها قبيل وسمّيتها بأسماء قصدت بها لإيضاح معاني فيها فسمّيت الواحدة «جاذبة» وسمّيت الأخرى «مغيّرة» وسمّيت الثالثة «ممسكة» وسمّيت الرابعة «دافعة». وأنا أسألكم أن تحفظوا عنّي جميع ما أصف لكم من هذا بعد أن تعلموا أنّي لم أصف ذلك ولا أصفه إلّا في هذا الموضع فقط واقتصرت على أن أثبت بالبرهان في هذا الموضع فقط يضف «الطبيعة» أقدم وأعلى مرتبة وأجلّ قدراً من جميع الصناعات في «شفاء» جميع «الأمراض».
(٢) قال أبقراط: إنّ الطبيعة توجد بقدر السبل لنفسها لا من رؤية مثل طرف الأجفان واللسان أيضاً قد يخدم وسائر ما أشبه ذلك فالطبيعة قد تفعل ما ينبغي أن تفعل لأنّها أديبة حسنة الأدب لا بأنّها تتعلّم وتتأدّب.
قال جالينوس: إنّه يعني «بسبل الطبيعة» الطرق والحركات إلى أفعالها فيزيد أنّ تلك الأفعال ليس تكون من الطبيعة على ما تكون أفعالنا ممّا «بالرؤية» والإرادة. وممّا يدلّك على ذلك أنّ «طرف الجفنين» قد يكون من الطفل حين يولد ويعني «بالطرف» إطباق الجفنين ثمّ فتحها بسرعة على المكان. ومن البيّن أنّ بهذا الفعل قد ينال العينين أعظم المنفعة وذلك أنّ الجفنين لو كانا يبقيان في مدّة اليقظة كلّها مفتوحين لكانا يكسلان وينالهما الإعياء وكان أيضاً سيقع في العينين من خارج أشياء كثيرة تضرّ بطبقاتها.
وأعجب من هذا من أفعال الطبيعة بما قد جهله أكثر الأطبّاء فضلاً عن جمهور الناس على أنّه يحدث في كلّ يوم. وإنّك إن عمدت إلى صبيّ ابن سنتين فأريته الخبز وسمّيته له باسمه مع إشارتك به إليه ثمّ فعلت ذلك مرّة ثانية وثالثة فإنّه يفهم عنك أنّ اسم «الخبز» دليل من الصوت على ذلك الجسم الذي أريته إيّاه ويتقبّلك فينطق بذلك الاسم من غير أن يتعلّم كيف ينبغي أن يحرّك «لسانه» حتّى ينطق بذلك الاسم.
ونظير هذا قد يكون في سائر الحركات التي تنسب إلى الإرادة من جميع الحيوان. من ذلك أنّ الحيوان كلّه إذا أراد أن يثني شيئاً من مفاصله في اليدين والرجلين فعل ذلك على المكان على أنّه ليس يعرف تلك العضلة التي بها ينثني ذلك المفصل وكذلك إذا أراد أن يبسط شيئاً من مفاصله بسطه على هذا القياس
بعضلة أخرى وليس يعلم الحيوان الذي يتحرّك هذه الحركات أيّ العضلات هي تلك العضلة ولا على أيّ وجه يكون عملها. وكيف يمكن أن يعلم ذلك وكثير من الأطبّاء لم يعلمه؟ وما قولي «كثير من الأطبّاء» وأنا أجد بعض العضل لم يعرفه أحد قبلي ممّن فاق الناس في معرفة التشريح. وممّا جهله جميع أصحاب التشريح من العضل العضلة التي تثني مأبض الركبة وهي مخفيّة في ذلك المفصل. إلّا أنّ الناس كلّهم وإن كان الأمر كذلك ينثنون مفاصل الركبة مع إرادتهم ذلك سواء وليس هذا النوع من الفعل للناس فقط لاكنّه لسائر الحيوان كلّه أيضاً. فهذا ممّا يدلّ على أنّ قوّة الطبيعة أقوى وأبلغ من كلّ صناعة شريفة في فعل ما ينتفع به الحيوان.
فذكر أبقراط حركة الجفنين التي يحرّكهما بها وإن كانت عقولهم مشغولة بفعل آخر بقوله «مثل طرف الأجفان» وذكر حركة اللسان للكلام بقوله «واللسان أيضاً قد يخدم». وذلك أنّا إذا هممنا أن ننطق بلفظة ما أيّ لفظة كانت خدمنا اللسان فبادر بسرعة فقطّع الصوت وفصّله التقطيع والتفصيل الذي به تكون منه تلك اللفظة. وممّا يدلّك على ذلك أنّ الصبيان إذا سمعوا لفظة من الألفاظ وإن كانت من الألفاظ التي يعسر النطق بها ولم يسمعوها قبل ذلك مثل قول «سطرنكس» ومثل قول «سفنكس» نطقوا على المكان بالامتثال والتقبّل لمن سمعوها منه وهم لا يعلمون أيّ العضلات من عضلات اللسان ينبغي أن يحرّك حتّى ينطق بتلك اللفظة ولا كيف ينبغي أن يحرّك اللسان حتّى يرتفع إلى فوق وحتّى ينثني أو حتّى يستدير أو حتّى يعتمد على الحنك أو على مقاديم الأسنان أو على ناحية أخرى من نواحي الفم.
فأمّا قوله «وسائر ما أشبه ذلك» فينبغي أن يفهم عنه منه 〈أنّه〉 إنّما قصد به ليذكّرك بالحركات الإراديّة التي قد يتحرّكها كما قلت الناس وجميع الحيوان وهم
لا يعرفون العضل البتّة فضلاً عن حركاتها إلّا أنّهم مع ذلك حين يهمّون أن يثنوا عضواً من الأعضاء أو يبسطوه فعلوا ذلك على المكان مع إرادتهم إيّاه وكذلك متى أرادوا أن يلووا العضو إلى جانب أو يديروه أو يقلبوه أو يحرّكوه بغير ذلك من أنواع الحركة أيّ نوع كان فعلوا ذلك مع إرادتهم إيّاه.
ولذلك أردف أبقراط قوله هذا بأن قال: «فالطبيعة تفعل ما ينبغي أن تفعل لأنّها أديبة حسنة الأدب لا بأنّها تتعلّم وتتأدّب». وقد يقال لمن تعلّم تعليماً ما أيّ تعليم كان إنّه قد «تأدّب» بذلك التعليم وأمّا الطبيعة فيقول فيها إنّها «أديبة» بالغة في «الأدب» أعظم مقاديره من غير أن يكون احتاجت إلى تعليم كما قال ثوقوديدس في ثامسطوقليس: «إنّه كان بقريحة ذهنه حين يقصد لشيء أدنى قصد من غير أن يكون قد تقدّم فتعلّم منه شيئاً أورد علمه منه في وقته ذلك من علمه بشيء يعلمه غاية العلم وكان يحدس في الشيء الذي هو كائن بعد أطول المدد أفضل حدس».
ولذلك جميع الحدث من المفسّرين إلّا الشاذّ منهم مستحقّون للذمّ وذلك أنّهم غيّروا من هذا الكلام حرفاً فأزالوا به المعنى حتّى صار معناه على هذا الوجه: «فالطبيعة أديبة حسنة الأدب تفعل ما ينبغي أن تفعله بهواها لا بأنّها تتعلّم وتتأدّب». وليس نجد هذا الكلام في النسخ القديمة المصونة على هذه النسخة التي يتصرّف بها معناها إلى هذا الوجه ولا نجد أيضاً القدماء من المفسّرين فسّروا هذا الكلام على أنّ معناه ذلك المعنى. ومع هذا أيضاً أنّ وضع «الهوى» بحذاء «التعلّم» ممّا لا يعقل ولا يفهم من قبل أنّه إنّما يوضع بحذاء «الهوى» خلافه فليس يجوز أن يكون قال: «إنّ الطبيعة تفعل ما تفعله بهواها لا بأنّها تتعلّمه» لأنّ قوله «لا بأنّها تتعلّمه» ليس هو نقيض قوله «بهواها».
وأمّا القول بأنّ «الطبيعة تفعل ما تفعل لأنّها أديبة حسنة الأدب لا بأنّها تتعلّم وتتأدّب» حتّى يكون الحكم الثاني وهو قوله «لا بأنّها تتعلّم وتتأدّب» موضوعاً بإزاء حكمه الأوّل وهو قوله «بأنّها أديبة حسنة الأدب» على أنّه يقصد لواجب واحد. وذلك أنّه إنّما يقصد لأن يدلّ على أنّ الطبيعة منذ أوّل أمرها «أديبة حسنة الأدب» غير محتاجة إلى أن «تتعلّم» حتّى كأنّه قال هذا القول: إنّ الطبيعة لمّا كانت تحسن ما تحتاج إليه من ذاتها صارت تفعل جميع ما تفعله بمنزلة ما يفعله من قد يعلم الصناعات التي يكون عنها مثل تلك الأفعال.
وقابيطن وحده عندي في هذا القول خاصّة من بين سائر الحدث من المفسّرين مستحقّ للحمد والمدح لأنّه أتبع القدماء من المفسّرين والنسخ القديمة. فأمّا ديسقوريدوس فهو عندي مستحقّ للذمّ والاستجهال على تغييره الذي غيّره فزال به الكلام عن معناه حتّى صار معناه: «إنّ الطبيعة أديبة حسنة الأدب تفعل ما ينبغي أن تفعله بهواها لا بأنّها تتعلّم وتتأدّب».
وقد حرّف هذا الكلام أيضاً جميع الحدث من المفسّرين ضرباً آخر من التحريف صار معناه به على هذا الوجه: «إنّ الطبيعة أديبة حسنة الأدب في فعل ما ينبغي أن تفعله» لاكنّه لمّا كان المعنى باقياً على حاله وإن غيّر النسخة بعض من غيّرها ليكون معناها أوضح فليس ينبغي أن نعني بذلك.
(٣) قال أبقراط: الدموع رطوبة المنخرين العطاس وسخ الأذن لعاب الفم ارتفاع ما يرتفع ليقذف دخول الريح وخروجها التثاؤب السعال الفواق ليست من جميع الوجوه من ذلك النوع بعينه.
قال جالينوس: إنّي أصف أوّلاً في تفسيري لهذا القول أحسن ما أرى أنّه يجوز للقائل أن يقوله ثمّ أقبل على من فسّر هذا الكتاب. فإنّهم كلّهم قد ظنّوا أنّ هذا القول الذي وضعناه منفصل عن هذا القول الذي كتب قبله ولمّا صاروا إلى تفسيره تأوّلوا كلّ لفظة فيه على أنّها إنّما تنفع في سابق العلم وتقدمة المعرفة. وأمّا أنا فإنّي أرى أنّ هذا الكلام كلّه الأوّل والثاني إنّما قصد به أبقراط ليثبت المعنى الذي قصد إليه منذ أوّل كلامه. والغرض الذي كان قصد إليه هو أن يبيّن أنّ الطبيعة تفعل جميع ما تفعله في بدن الحيوان لسلامته وبقاء حياته. فبدأ بذكر أفعالها التي تفعلها في أبدان الحيوان ما دامت صحيحة فاقتصّها في القول الذي قبل هذا ثمّ دلّ في هذا القول الثاني على أفعال الطبيعة التي تفعلها في الحالات المرضيّة أو في الحالات المشتركة بين الأصحّاء والمرضى ليكون بها سلامة الحيوان وحياته. وأنا ذاكر كلّ واحد من تلك الأفعال وأبيّن أنّ بعضها يخصّ كما قال حالات البدن المرضيّة وبعضها هي المشتركة بين الأصحّاء والمرضى.
فأقول إنّ «الدموع» عرض مشترك وذلك أنّه قد يكون في أبدان الأصحّاء وفي أبدان المرضى وربّما كان تابعاً لطبيعة الحال المرضيّة التي تكون في العين كما يكون إذا حدث فيها الورم الحارّ وربّما كان الدموع بدفع الطبيعة للرطوبة الفضل أو بتوليدها رطوبة قد نقصت من العينين في الغدد التي في العينين.
وكذلك أيضاً «رطوبة المنخرين» إنّما تكون باستفراغ الفضول التي تجتمع في الدماغ من المنخرين. «والعطاس» أيضاً هو فعل من أفعال الطبيعة وحدوثه يكون على الحالات المرضيّة. ومعناي في قولي «الحالات المرضيّة» 〈ليس〉 الحالات التي تكون عليها الأبدان في وقت استيلاء المرض عليها فقط لاكنّ الحالات أيضاً التي تكون عليها حين تبتدئ فيها الأمراض. وذلك أنّه كما أنّه تحدث في العينين
الحال التي تخصّ باسم «التثوّر» وهي كأنّها ابتداء الرمد كذلك يحدث فيهما وفي البدن كلّه حالات أخر كثيرة مرضيّة بحين تبدأ تحدث فتتحلّل بدفع الطبيعة لتلك البخارات والأخلاط المولّدة لها وإخراجها عن البدن.وقد وصفت هذه الأمور كلّها في أقاويل في علل الأعراض.
فإنّ بعضها يكون حدوثه دائماً عن الطبيعة ويمنع من حدوث حالات مرضيّة إمّا قد بدأت تحدث وإمّا هي مستعدّة للحدوث وبعضها يشفي أمراضاً قد حدثت واستكملت. وهو الذي غرّ المفسّرين وأوهمهم أنّ قصد أبقراط في هذا القول ليس هو لأعمال الطبيعة لاكنّي في المقالات الثلاث التي وصفت فيها أسباب الأعراض قد بالغت في شرح هذا القول وأتيت عليه عن آخره فبيّنت 〈أنّ〉 جميع هذه الأعراض التي كلامنا فيها الآن إنّما تحدث بفعل يكون من الطبيعة.
〈…〉 «والسعال» أيضاً قد بيّنّا أنّه إنّما يكون من الطبيعة لتنقّى به مسالك التنفّس وكذلك «الفواق» أيضاً «والتثاؤب» والتمطّي إنّما يكون لدفع فضول تدفع فتخرج عن البدن. وبعض ما ذكره أبقراط في هذا القول الذي قصدنا لشرحه ليس هو من الأعراض البتّة مثل جنسي التنفّس وهما التنفّس الذي يكون بحركة الصدر والتنفّس الذي يكون بحركة العروق الضوارب في البدن كلّه. وقد أشار أبقراط إلى الجنس الأوّل من التنفّس بقوله «دخول الريح وخروجها» وأشار إلى الجنس الثاني من التنفّس بقوله بعد «الغذاء والتنفّس».
وتولّد «اللعاب» أيضاً في «الفم» هو أحد الأفعال التي تفعلها الطبيعة بالعناية منها لمصلحة البدن وكذلك «ارتفاع ما يرتفع» من الصدر والرئة «لتقذف» بالبزاق. وقد أشار أبقراط إلى هذين في هذا القول الذي قصدنا لشرحه بهذا اللفظ: «لعاب الفم ارتفاع ما يرتفع ليقذف». فأمّا قوله «لعاب الفم» فتامّ لا يحتاج إلى أن يزاد
فيه شيء حتّى يتبيّن وأمّا قوله «ارتفاع ما يرتفع» فينبغي أن يزاد فيه «ممّا يبزق». ولعلّ ذلك يكون سقط منذ أوّل الأمر في النسخة الأولى من الناسخ الأوّل ولعلّ أبقراط نفسه يكون تركه إنكالاً منه على حفظه لأنّه إنّما أثبت ما أثبت من هذا على طريق الرسم والتعليق ليكون تذكرة له.
وأمّا القول الذي قاله في آخر هذا الكلام الذي قصدنا لشرحه وهو قوله «ليست من جميع الوجوه من ذلك النوع بعينه» فمعناه فيه ما أنا واصفه وهو أنّ جميع هذه الأشياء التي ذكرها أبقراط ليست من نوع واحد بعينه من قبل أنّ الأمر على ما بيّنّا من أنّ بعضها إنّما يكون في الأبدان الباقية على طبائعها فقط وبعضها إنّما يكون في الأبدان المريضة فقط وبعضها يكون فيهما جميعاً أعني في الأبدان الصحيحة وفي الأبدان السقيمة. وبعضها أفعال من أفعال الطبيعة وحدها وبعضها ما يكون عرضاً لازماً من الحال المرضيّة وليس يذكر أبقراط هذه الأعراض في هذا الموضع لاكنّه إنّما يذكر منها ما هو أفعال من أفعال الطبيعة.
وقد يكتب هذا الاسم المفسّرون له على نسخ كثيرة مختلفة وسأصف أمر تلك النسخ بعد قليل. وأمّا الآن فإنّي أقصد أوّلاً لشرح باقي هذا الكلام الذي عدّد فيه أبقراط أفعال الطبيعة.
(٤) قال أبقراط: البول والغائط ونوعا الريح والغذاء والتنفّس وفي الإناث ما لهنّ وفي سائر الجسد العرق الحكّة التمطّي وسائر ما أشبه ذلك.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام أيضاً قد يكتب على نسخ مختلفة إلّا أنّي أقول أنا 〈إنّي〉 في هذا الكلام أيضاً إنّما اخترت النسخة التي اتّفق عليها أكثرهم وهي أيضاً موافقة لجملة المعنى في هذا الكلام كلّه وتوجد مع ذلك في النسخ
الصحيحة من النسخ القديمة. والمعنى فيها ما أنا واصفه وهو أنّه كما وصف في الكلام الذي تقدّم أفعال الطبيعة التي تفعلها بلا تعلّم لمصلحة بدن الحيوان وسلامته وبقائه كذلك ذكر في هذا الكلام أيضاً «البول والغائط ونوعي الريح والغذاء» والأشياء التي هي «للإناث» من الحيوان خاصّة ثمّ ذكر بعد ذلك «العرق والحكّة والتمطّي».
وإن أنت تذكّرت أمر تميّز «البول» كيف يكون دلّك على عناية عجيبة في مصلحة أبدان الحيوان بهيئة الكليتين وبالأغطية المطبقة على فوهتي ذينك المجريين حيث يتّصلان بالمثانة وبالعضلة المحتوية على رقبة المثانة التي هي نظيرة العضلة التي تحوي على الدبر وهي الشرج وسائر الأشياء التي هي وإن كانت أنقص من هذه وأقلّ عجباً فإنّه قد بلغ من عظم عنائها في هذا الفعل أنّها لو لم تكن هيّئت على ما هي عليه من الهيئة لكان أمر تميّز البول واستفراغه إمّا لا يتمّ البتّة وإمّا أن يكون رديئاً على غير ما ينبغي.
وكذلك الحال في أمر «الغائط» وهو دفع فضول الغذاء وما أعدّته له الطبيعة من الآلات التي هي أخصّ بها من آلات الغذاء. فإنّ هذه الأمور أيضاً قد تدلّك على عناية الطبيعة وحكمتها في تدبير مصلحة أبدان الحيوان. وقد وصفت جميع تلك الأمور في كتابي في منافع الأعضاء فاكتف منّي في هذا الموضع أن أذكرك بجملها.
وكما أنّ فضول الغذاء قد يظهر فيها تدبير عجيب في تميّزها وخروجها كذلك يوجد الأمر في خروج «نوعي الريح» أعني خروجها من الدبر وخروجها من المريء الذي يسمّى «جشاء». فقد تظهر في ذلك أيضاً عناية الطبيعة بحركة تلك الآلات التي تجتمع فيها تلك الريح لدفعها وإخراجها من كلي الوجهين فقد نجد تلك
الريح تخرج وإن كان من تولّدت فيه نائماً وكان مستوياً أو مغمى عليه أو مغلوباً من سكات أو من برسام حارّاً كان أو بارداً أو من اختلاط ذهن أو من غير ذلك ممّا أشبهه من العلل.
وقد تجد أيضاً مثل تلك الحكمة واللطف للطبيعة إذا أنت تدبّرت وعرفت فعلها في تدبير «الغذاء» وتدبير «التنفّس» وأحرى أن تعجب إن أنت عرفت ما تلطّف الطبيعة «في الإناث» بسبب الحمل.
ونظير ذلك ما يكون في البدن كلّه من خروج «العروق» ومن «الحكّة» ومن «التمطّي». ويعني «بالحكّة» الأظفار وتحريكها على الأعضاء التي يحدث فيها المرض الذي يدعو إلى الحكّة فقد نرى الحيوان كلّه يفعل ذلك وهو له كلّه بالطبع لا بالتكلّف. فقد رأيتم منه قريباً عندما شرحنا العنز الحامل لمّا أخرجنا منه الجنين وهي مشدودة كيف حين وضعناه على الأرض رام أوّلاً أن يمشي على قوائمه الأربع من غير أن يكون معلّم علّمه إثبات قوائمه على الأرض تحت سائر بدنه ونقلها حتّى يكون منه المشي. ثمّ إنّه بعد قليل نقض عنه الرطوبة التي كانت محيطة به من خارج على جلده. ثمّ إنّه بعد قليل أيضاً شال إحدى قوائمه محكّ بظلفه موضعاً من بدنه حتّى حلف جميع من حضر منكم وحكمتم أوّلاً بأنّ ذلك الجدي استخرج من نفسه مداواة العرض الذي عرض له من غير أن يعلّمه معلّم شيئاً من ذلك ثمّ إنّه لم يكن يمكن أن يكون منه ما فعل إلّا بذلك العضو الذي فعله به فقط ثمّ إنّه لم يكن يمكن يفعل ذلك الفعل إلّا على الوجه الذي فعله به.
وأمّا «التمطّي» فإنّه عارض يعرض في جميع العضل معاً نظير للعارض الذي يعرض لعضل اللحي الأسفل وحده حتّى يكون منه التثاؤب. وقد بيّنت في صفتي لأسباب الأعراض إن كنتم ذاكرين أنّ هذا العارض أيضاً إنّما يحدث عن الطبيعة
لاستفراغ فضول بخاريّة تحتقن في العضل وقد نرى الأطفال وسائر الحيوان يفعل هذا الفعل من غير تعلّم.
فجميع هذه الأمور ومع ذلك أيضاً ما ذكرناه معها مثل نقض الجدي للرطوبة التي كانت على جلده عنه عندما أخرجناه من العنز الحامل التي شرحناها قد يدلّ من الطبيعة على عناية عجيبة في مصلحة أبدان الحيوان وبتلك العناية تبقي على صحّتها وتبرأ من الأمراض إذا عرضت لها.
في التفاسير التي فسّر بها سائر المفسّرين هذا الكلام لست أعلم أحداً ممّن فسّر هذا الكلام فسّر هذا القول المتقدّم كلّه على هذا النحو من التفسير حتّى بيّن أنّ جميع ما قيل فيه إنّما هو أفعال من أفعال الطبيعة وهذا عامّ شامل لجميعهم. إلّا أنّ بعضهم تأوّل الجزء الأوّل من هذا القول وحده هذا التأويل الذي تأوّلناه نحن وبعضهم تأوّل الجزء الأوّل من هذا القول تأويلاً آخر.
وأنا ذاكر أوّلاً الذين تأوّلوا القول تأويلنا. فإنّ هؤلاء جعلوا قول أبقراط «الدموع رطوبة المنخرين العطاس وسخ الأذنين» ابتداء قول آخر ونسبوا القصد فيه إلى الاستدلال على الحالات التي قد حدثت في البدن والحالات التي هي كائنة في ما بعد. وقد كنت سأصف جمل ما يدلّ عليه شيء شيء ممّا ذكر لولا إنّي قد تقدّمت فشرحت أمر جميعها بعض ذلك في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة فيه وبعضها في تفسيري لكتاب الإنذار وبعضها في تفسيري لكتاب الأخلاط. وقد شرحت بعض ذلك أيضاً في تفسيري لكتاب الفصول وفي تفسيري لهذه المقالات من كتاب إفيذيميا. فقد شرحت لكم في هذه الكتب التي ذكرتها قبيل الأشياء التي تدلّ عليها «الدموع» والأشياء التي تدلّ عليها «رطوبة المنخرين» والأشياء التي
يدلّ عليها «العطاس» وجميع ما ذكره بعد ذلك لأنّي قد ذكرت هذه كلّها في تلك الكتب التي تقدّم ذكرها من كتاب أبقراط وشرحت جميعها في تفاسيري لتلك الكتب.
وبعض من تأوّل هذا القول هذا التأويل حتّى عزل الجزء منه على حدته وقطعه عن الجزء الثاني †برٮرويا† حتّى وصل هذا الكلام بالقول الذي تقدّم في الكلام الأوّل حيث قال «دلائل الموت» حتّى يكون ذكره في هذا الكلام «للدموع ولرطوبة المنخرين وللعطاس» ولسائر ما ذكره بعد ذلك إنّما هو نسق على قوله «دلائل الموت». ثمّ يرومون أن ينسبوا ما في كلّ واحد من هذه من «دلائل الموت» يضف بعض تلك الدلائل ليست من «دلائل الموت». فهذا ممّا يبعد به قولهم من أن يقبل ويقنع به. وأحرى أن لا يرضى منهم بوصلهم ما قيل في هذا الكلام بالقول المتقدّم الذي ذكر فيه «دلائل الموت» وذلك أنّ هذا ممّا لا يعقل ولا يفهم أن يبتدئ مبتدئ بأن يصف دلائل الموت فيؤخّر تعديدها ويقدّم قبله قولاً آخر ثمّ يرجع فيما كان من ذكره أولى فترك فيما بين جزئي القول قول آخر. وقد فعلوا ذلك بعينه لا في هذا اللفظ فقط لاكن في كتب كثيرة فتأوّلوا أقاويل شبيهة بهذا القول هذا التأويل. وأنا تارك ذكرهم إذ كانوا إنّما يهذون هذياناً شنيعاً.
وأقبل على الجزء الأوّل فأقول إنّ أولائك أيضاً يتعسّفون هذا الكلام حتّى يزعموا أنّه لم يقصد أوّله إلى الطبيعة التي تدبّر أبداننا لأنّه إنّما قيل كلّه في طبيعة الأمراض كيف حالاتها وكيف يتعرّفها الأطبّاء بالطريق القاصد للاستدلال عليها. وذلك أنّهم يقرؤون أوّل هذا القول قراءة ينقلبها معناه فيصير «طبيعة الأمراض يجدها الأطبّاء
الشفاة بالسبل لا من الرؤية مثل طرف الأجفان واللسان أيضاً قد يخدم» وسائر ما يتلو ذلك ويريدون أن يفهم هذا القول على هذا المعنى: إنّ الأطبّاء الشفاة يستخرجون ويجدون بالسبل طبائع الأمراض. ويزعمون أنّه إنّما أراد «بالسبل» الطرق والقوانين التي يستدلّ بها وأنّهم يتعرّفون طبائع الأمراض من الأمور التي تحدث في البدن وهي جارية على الأمر الطبيعيّ ومن الأشياء التي تحدث فيه على خلاف المجرى الطبيعيّ. ويزعمون أنّه إنّما ذكر «طرف الأجفان وخدمة اللسان» ليكونا مثالاً يستدلّ به على ما يحدث في البدن وأمره جارٍ المجرى الطبيعيّ وأنّ قوله «إنّ هذه الأفعال إنّما تكون من الطبيعة التي تدبّر أبداننا طوعاً لا بأنّها تتعلّم» قول وقع في خلال هذا الكلام وليس منه. ويزعمون أنّه عنى بقوله «طوعاً» أنّها مطبوعة على ذلك لم تتعلّمه تعليماً ثمّ إنّه بعد عدّد الأعراض التي بسببها يتعرّف طبائع الأمراض حتّى يكون ذكره لاسم «الطبيعة» في أوّل كلامه حين قال: «طبيعة الأمراض» على معنى غير المعنى الذي قصد إليه حين قال: «فالطبيعة تفعل ما ينبغي أن تفعل طوعاً لأنّها أديبة حسنة الأدب». وقد خالف بعضهم بعضاً في نفس تعديد تلك الأعراض لا في تأويلاتهم لما عدّد منها فقط على نحو ما في النسخة الصحيحة لاكن في أنّهم حذفوا بعضاً وأضافوا إليها أعراضاً أخر وبدّلوا بعضها.
وتأوّلوا بعضها أسوأ ما يكون من التأويل وأقبحه مثل تأويل من تأوّل «الوسخ» منسوباً إلى «الفم». فإنّ بعضهم قال إنّ ذكر «الوسخ» لمّا كان بين «الأذن» وبين «الفم» فقد ينبغي أن يضاف إلى كلّ واحد منهما ويستعمل في ذلك النحو من التأويل الذي يعرف «بالمشترك» وإنّ «وسخ الأذن» متى كان حلواً كان دليلاً على الموت ومتى كان مرّاً كان دليلاً على الصحّة والحياة وإنّ «وسخ الفم» إنّما عنى به
الحفر الذي يحفر ويجمد على الأسنان بمنزلة ما يتحجّر على الصخور من الماء وذلك يدلّ على حمّى شديدة اللهب والإحراق.
وقد ألحق قوم بعد تعديده تلك الأعراض حيث ذكر «السعال والفواق» لحقاً ووصلوا به ما يتلوه مع ذلك اللحق على هذا المثال: «ليس ينبغي أن يحال هذا من جميع الوجوه». وكتب بعضهم اللحق مع ما يتلوه على هذا المثال: «ينبغي أن يحلّ جميع هذه بطريق واحد بعينه من جميع الوجوه» وتأوّلوا لهذه النسخ تأويلات بعيدة ممّا يقبل ويقنع به وكذلك تأويلاتهم لجملة هذا الكلام. وبان من أمرهم في تأويلهم ألفاظ كثيرة من الألفاظ التي قيلت في هذا القول أنّهم يتعسّفون الكلام تعسّفاً وأنّهم كاذبون فيما ادّعوه من أنّ أبقراط إنّما قصد في هذا الكلام لوصايا أوصى بها الأطبّاء في تعرّف طبيعة الأمراض وتقدمة المعرفة بها ولم يكن قصده في هذا الكلام ليذكر أفعال الطبيعة التي تدبّر أبداننا ممّا قد يظهر في الأبدان الصحيحة والأبدان السقيمة فتدلّ على العناية بمصالح أبدان الحيوان.
ولعلمي بأنّي لو رمت اقتصاص جميع ما قالوا أولائك وكشفت خطاء ما أخطؤوا فيه طال كلامي في ذلك وأنا أقطع كلامي في هذا الموضع بعد أن أزيد فيه أنّ من يتدبّر ما قلت في شرحي فيما تقدّم من هذا الكتاب ويفهمه بعناية قد ردّوني أن يعرف ما أساء في تأويله من فسّره على غير ما فسّرت وخاصّة إن كان قد تقدّم قارئاً من التفاسير التي تقدّم ذكرها.
(٥) قال أبقراط: إنّ نفس الإنسان لا تزال تنبت إلى أن يموت فإن التهبت فإنّ النفس والبدن يبيدان مع المرض.
قال جالينوس: إنّ من أراد أن يعلم ما معناه في قوله «تنبت» يحتاج في ذلك إلى طريق من التكهّن لا إلى طريق من علم الطبّ. وذلك أنّه قد يمكن أن يكون عنى بهذه اللفظة أنّها «تتولّد» كما توهّم أسقليبيادس بأخرة ويمكن أن يكون عنى بهذه اللفظة أنّها «تنمي» ويمكن أيضاً على ما فهم قوم أن يكون عنى بهذه اللفظة «تبقى» باستعمالنا لهذا الغذاء والتنفّس. وذلك أنّ الذين يتوهّمون أنّ «النفس» إنّما هي روح فقد يزعمون أنّ بقاءها وسلامتها تكون من بخار تناله من الدم ومن الهواء الذي يجتذب بالاستنشاق فيجري في قصبة الرئة إلى جوف البدن. ومن البيّن أنّه لا يجوز لنا أن نحكم بشيء من هذه الوجوه التي وصفت على ثقة واستبصار بأنّ ذلك الشيء الذي نحكم به هو الحقّ إلّا أن يكون قد تقدّمت عندنا معرفة جوهر النفس بالحقيقة ما هو. ولو كنت وجدت أبقراط قد حكم في شيء من كتبه الصحيحة التي اتّفق على صحّتها حكماً في النفس كما حكم به فيها في كتاب الأسابيع حكماً بيّناً قاطعاً لقد كنت أيضاً سأصل إلى أن أحكم في معنى قوله «تنبت» بحكم من الأحكام. لاكنّي لمّا لم أجد أبقراط حكم في شيء من كتبه الصحيحة حكماً بيّناً قاطعاً في جوهر النفس بالواجب صرت أقول إنّي لست أصل إلى أن أعلم علماً يقيناً على ماذا يدلّ قوله «تنبت» ومع جهل أيضاً بهذا فإنّ نفسي لم تقف وتسكن إلى أنّي قد علمت من أمر جوهر النفس علماً يقيناً.
والذي وقفت عليه نفسي وسكنت إليه في هذا الباب أنّي قد بيّنت وأقمت البرهان في كتابي الذي وصفت فيه آراء أبقراط وفلاطن على أنّ الدماغ هو أصل
الحسّ والحركة الإراديّة لجميع أعضاء بدن الحيوان. وبيّنت أيضاً مع هذا أنّ الروح الذي في بطون الدماغ هو أوّل الآلات النفسانيّة وقد كان لي لو استعملت بعض العجلة والتقدّم أن أحكم بأنّ ذلك الروح هو جوهر النفس. ولست أدري هل طبيعة جملة الدماغ من مزاج الأسطقسّات الأربعة صارت إلى هذه الخصوصيّة من الجوهر الذي بها صار الدماغ أصلاً ومبدأ للحسّ والحركة لسائر الحيوان ومع ذلك أيضاً للفكر والحفظ والفهم أو هل في الدماغ قوّة أخرى غير جسمانيّة ربطها الخالق به تكون هذه الأفعال ما دام الإنسان حيّاً تفارق الدماغ عند الموت. ولا معي على ذلك برهان البتّة صحيح أثق به وأحسب أيضاً من حكم في هذا الحكم إنّما فضلي بالعجلة والتقدّم في الصريمة لا بالحكمة والمعرفة.
ومع هذا أيضاً فإنّ الأمر عندي أنّ البحث عندي عن جوهر النفس للطبيب فضل لا يحتاج إليه وأنّه قد يكتفي المستعمل للطبّ على طريق القياس أن يعلم أنّ المزاج الطبيعيّ من الدماغ ومن الروح الذي في بطونه ما دام باقياً فإنّ الحيوان يكون باقياً على حياته فإن بان ذلك الروح الذي في بطون الدماغ أصلاً أو خرج عن مزاجه الطبيعيّ خروجاً كثيراً مع جوهر الدماغ وجب ضرورة أن يلحق ذلك إمّا مرض نفسانيّ وإمّا موت. فإنّ الطبيب إذا علم هذا قدر أن يعني باعتدال الدماغ والروح الذي فيه وبأن يكون ذلك الروح في الدماغ موجوداً دائماً بالقوانين والطرق التي وصفناها في كتابنا في تدبير الأصحّاء وفي كتبنا في علاج المرضى. وقد بيّنت أنّ جميع تلك الطرق إنّما كان المستخرج الأوّل لها أبقراط ولذلك لست أحسب هذا القول قولاً صحيحاً لأبقراط لاكنّه قول دلّسه في هذا الكتاب غيره كما دلّست فيه أقاويل أخر كثيرة. ولعلّ ثاسالوس ابنه الذي ذكروا أنّه هو الجامع لتذكرات أبيه والأرسام التي وجدها مثبتة في قطع قراطيس وقطع دفاتر هو كان الملحق لأشباه هذه من الأقاويل.
وأمّا قوم ممّن فسّر هذا الكتاب فذكروا أنّ أبقراط إنّما عنى بقوله «تنبت» أي «تجود» ويزعمون أنّ النفس تجود كلّما تمادت لهذه المدّة فيمن يعني بالأدب والمعرفة. إلّا أنّ هذا القول ليس هو من الطبّ في شيء وهو مع ذلك قول غير موافق لما يتلوه. فقد يدلّك أنّ قوله «تنبت» إنّما أراد به جوهر النفس قوله «فإن التهبت فإنّ النفس والبدن يبيدان مع المرض» وكان قوله «التهبت» يدلّ على أنّ أبقراط يتوهّم أنّ جوهر النفس إنّما هو الحارّ الغريزيّ الذي يجعله السبب في الأفعال الطبيعيّة في مواضع كثيرة من كتبه.
وقد ينبعث من هذا الموضع قول من أعظم أقاويل الفلاسفة قد اختلفوا فيه أيضاً. وذلك أنّ بعضهم يزعم أنّ جوهر النفس وجوهر الطبيعة جوهر واحد وبعضهم يجعله الروح وبعضهم يجعله خصوصيّة البدن. وبعضهم لا يزعم أنّ جوهر النفس وجوهر الروح جوهر واحد لاكنّه يجعل لكلّ واحد منهما جوهراً يخصّه وأنّ الفرق بين جوهريهما ليس بيسير لاكنّ أحدهما مخالف لصاحبه في جملة جنسه من قبل أنّهم يزعمون أنّ جوهر الطبيعة يفسد وجوهر النفس لا يفسد.
وأرسطوطاليس وفلاطن يوقعان على هاتين القوّتين كلتيهما اسماً واحداً وذلك أنّهما ليس يقتصران على أن يسمّياهما القوّة التي نتفكّر ونتذكّر بها حتّى يسمّياها بهذا الاسم بعينه «نفساً» القوّة التي في النبات التي بها تغتذي وتنتمي وتبقى إلى أن تجفّ على طول المدّة. وأمّا أصحاب المظلّة فمن عادتهم أن يسمّوا القوّة التي يكون بها تدبير النبات «طبيعة» ويسمّوا القوّة التي بها يكون تدبير أبدان الحيوان «نفساً» ويجعلون جوهرهما جميعاً الروح الغريزيّ ويتوهّمون أنّ الفرق بينهما بالكيفيّة. وذلك أنّ الروح الذي هو في الطبيعة روح هو إلى الرطوبة أقرب والروح الذي هو
النفس هو إلى اليبس أقرب وكلاهما يحتاجان كيما يبقيا لا إلى الغذاء فقط لاكن مع ذلك إلى الهواء.
والذين يظنّون أنّ إمام أصحاب هذا القول كان أبقراط كالذي قيل في كتاب الأسابيع فيزعمون أنّ قوله هاهنا «تنبت» إنّما عنى به الزيادة التي تقبلها من كلي هذين الجوهرين أعني جوهر الهواء وجوهر الغذاء. وقد تحتاج إلى الهواء وإلى الغذاء ونحن نعلم المنفعة التي تنالها من كلّ واحد منهما وذلك أنّا قد بيّنّا أنّ النفس تحفظ على الحرارة الغريزيّة اعتدالها وأمّا تناول الطعام فإنّه يعيد إلى البدن مكان ما ينحلّ من جرمه حتّى يخلفه ويقوم مقامه. فإن كانت «النفس» إنّما هي صورة ما للبدن فبالواجب يقال فيها إنّها «تنبت إلى وقت الموت» وإن كانت النفس جوهراً آخر سوى البدن قد يصحّ هذا القول في الطبيعة التي يسمّيها أرسطوطاليس «النفس الغاذية» ويسمّيها فلاطن «النفس الشهوانيّة» وليس يصحّ في النفس الفكريّة. وأمّا الحارّ الغريزيّ الذي إليه يضيفه أبقراط خاصّة الأفعال الطبيعيّة فالأمر فيه بيّن أنّه «إذا التهبت» ومال إلى الناريّة لم يمكن أن يفعل أفعاله التي كان يفعلها أو لا أن يغذو البدن وذلك كان أشرف أفعاله. وليس هذا فقط لاكنّه يعود فيفسد ويذوّب البدن كما قد تذوّبه النار وذلك يتبيّن لنا إذا نظرنا فيه بالقياس وإذا تدبّرنا ما نراه عياناً بما يكون من الحمّيات المحرقة من تذويب البدن.
وإذا كان لم نجر في قولنا هذا كلّه في القوّة الثالثة أو النفس الثالثة أو كيف شئت أن تسمّيها التي يسمّيها فلاطن «النفس الغضبيّة» فقد ينبغي أن نصف حالها حتّى لا يكون قولنا في النفس ينقص شيئاً. فأقول إنّ الكبد معدن الحرارة الغريزيّة بها يتولّد الدم. وفي القلب حرارة أخرى أكثر من تلك جعلت فيها لتوليد الغضب وذلك أنّا قد نحتاج إلى الغضب في بعض الحالات كما قد بيّنّا في كتابي
في أقاويل أبقراط وفلاطن. وهذه الحرارة تحتاج إلى التنفّس الذي يكون بحركة الصدر والحرارة الأخرى تحتاج إلى التنفّس الآخر الذي يكون بحركة العروق الضوارب في البدن كلّه. وهو فعل مركّب من حركتين وذلك أنّ العروق الضوارب تدفع وتخرج الفضل الدخانيّ عند انقباضها وتجتذب ما يحيط بالبدن من هواء عند انبساطها.
(٦) قال أبقراط: الأمراض المحالفة تفارق في الشيخوخة بسبب النضج وبسبب التحلّل وبسبب التخلخل.
قال جالينوس: إنّه ليس كلامه الآن في جميع «الأمراض المحالفة» وإنّما يسمّى بهذا الاسم الأمراض التي قد بقيت في البدن منذ مدّة طويلة وذلك أنّ هذا أمر ليس يراه يكون ولا هو جهله. وممّا يدلّك على ذلك أنّه صرّح في كتاب الفصول فقال: «إنّ الكهول في أكثر الأمر يمرضون أقلّ ممّا يمرض الشباب إلّا أنّ ما يعرض لهم من الأمراض المزمنة في أكثر الأمر يموتون وهي بهم» لاكنّه لمّا استثنى في هذا القول فقال «في أكثر الأمر» ولم يجعل حكمه حكماً عامّاً أنّ جميع الأمراض المزمنة التي تحدث بهم «يموتون وهي بهم» فقد بان لجميع الناس من أمره أنّه قد يعلم أنّ بعض تلك الأمراض ينحلّ قبل الموت.
وقد بيّن أبقراط نفسه أيّ الأمراض هي هذه أو أيّ الأمراض هي الأمراض التي لا تنحلّ عنهم في كتاب الفصول بما كتب حين قال: «إنّ ما يعرض من البحوحة والنزل للشيخ الفاني ليس يكاد ينضج». فلمّا إنّما ذكر في هذا القول
أمراضاً باردة فقد بيّن عن نفسه أنّه مقرّ بأنّ بعض الأمراض الحارّة قد يمكن أن ينحلّ في سنّ المشايخ وأنّ «الأضداد شفاء لأضدادها» إلّا أنّ هذه الأمراض أمراض قليلة شاذّة منها ضروب من الصداع يعرض من حرارة إمّا في الرأس كلّه وإمّا في شقّ منه وأوجاع في الكلى من حرارة وأوجاع من أوجاع المفاصل تكون من علّة حارّة شديدة الحرارة. وهذا الضرب من انحلال الأمراض الذي يكون عن مزاج الشيخوخة هو داخل في جنس «النضج» يضف اسم «النضج» إنّما يدلّ على كلّ نقلة تكون إلى المزاج المعتدل كما قد بيّن من أمر الثمار التي تنضج على الشجرة.
وقد أضاف إلى هذا الضرب ضربين آخرين هما أقلّ حدوثاً وأشذّ من النضج أحدهما الضرب الذي يكون على طريق «التخلخل» والآخر الذي يكون على طريق «التحلّل». وهذا الضرب يكون من نفس الجوهر الجسمانيّ الذي يعمّ جميع الأجسام المتنفّس منها وغير المتنفّس وذلك 〈أنّه〉 يذوب ويجري منه لا محالة شيء إلّا أنّ الذي يجري ويتحلّل ممّا كان منها ليّناً على أكثر ممّا يجري وممّا يكون ويتحلّل ما كان منها أقلّ ليناً فهو أقلّ. فبهذا الطريق يتحلّل بعض الأورام بتحلّل الجوهر الذي فيها قليلاً قليلاً في مدّة من الزمان أطول وذلك إنّما يكون فيمن يستعمل التدبير المحمود. فأمّا من يستعمل التدبير الذي يحدث للبدن امتلاء فإنّه بتصيّره إلى الأعضاء العليلة مساوياً لما يتحلّل منها يحفظ علّته على حالها.
فوصف ضرباً ثالثاً من انحلال الأمراض يكون «بتخلخل» البدن. «وتخلخل» البدن قد يكون من الأطبّاء بالقصد منهم لذلك وقد يكون في الندرة بسبب سنّ الشيخوخة إذا ضعفت القوّة وهزل البدن ودقّ الجلد فتخلخلت 〈المسامّ〉 بسبب ذلك واتّسعت.
أمّا نحن فعلى هذا الطريق نتأوّل هذا القول وذلك أنّ شأننا أن نروم دائماً أن نبيّن أنّ ألفاظه موافقة لما يظهر عياناً في المرضى. فأمّا أكثر المفسّرين فهم إلى فعل كلّ شيء أقرب منهم إلى فعل هذا حتّى أنّهم الآن أيضاً يرومون أداء العلل في هذا القول على أنّه إنّما قيل في جميع الأمراض. وأقبح من هؤلاء قولاً قول من قال إنّه إنّما يعني أنّه «ينحلّ» من العلل «في الشيخوخة» أمّا من علل النفس فالغضب ومحبّة الاستكثار من الأموال والقنوط وأمّا من علل البدن فعلل العشق.
(٧) قال أبقراط: المداواة هي المعاندة لا الموافقة للعلّة.
قال جالينوس: إنّ هذا القول مساوٍ في المعنى لقوله «إنّ الضدّ شفاء الضدّ» وهو قول قد تكلّمت فيه مراراً كثيرة.
(٨) قال أبقراط: البارد قد ينفع وقد يقتل.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً إنّما أثبته لنفسه للتذكرة بالحكم العامّيّ الذي تقدّم إذ كان جزءاً منه. وذلك أنّ «البارد ينفع» من كانت به علّة حارّة «ويقتل» من كانت به علّة باردة وكذلك الحارّ أيضاً ينفع من كانت به علّة باردة ويقتل من كانت به علّة حارّة. وذلك أنّه قد ينبغي أن يقتصر من الشيء الواحد بعد أن يجعل مثالاً فيقتاس به على جميع نظائره من الأضداد.
وأمّا القول الذي بعد هذا القول الذي تقدّم فيوجد مختلفاً في النسخ. وأكثر الكتب القديمة إنّما توجد فيها هذه النسخة التي يعرفها زوكسس وغيره من قدماء المفسّرين وفي بعض الكتب النسخة الأخرى الثانية التي تتلوها. وأمّا الحدث من المفسّرين فإنّهم أسقطوا هذا القول البتّة عن آخره وأحسبهم إنّما فعلوا ذلك كيما يستريحوا من العناء في تأويلهم إيّاه. وذلك أنّني أنا أيضاً قد أرى أنّه قد وقع في هذا القول في أوّل نسخته نسخ عليها خطاء وأمّا المعنى فيه فهو ما أنا واصفه: إنّ أبقراط لمّا تقدّم فقال: «إنّ البارد قد ينفع وقد يقتل» أراد أيضاً أن يحكم بهذا الحكم بعينه في الحارّ فإمّا أن يكون كتب أنّ هذه الأمور بأعيانها قد تحدث من الحارّ وإمّا أن يكون كتب أنّ أمثالها تكون من الحارّ. والنسخة الثالثة التي قلت إنّها توجد في بعض الكتب القديمة هي هذه النسخة.
وأمّا القول الذي يوجد في تفسير زوكسس وهو قول كتبه على هذا المثال: «يجتذب من الحارّ» فليس فيه معنى البتّة إذا نحن قرأناه مفرداً على حدته. ولذلك رام أن يصله بالقول الذي يتلوه الذي افتتحه بأن قال: «عند الاختلاط وحدّة الغضب يحتدّ القلب». فقد وجدت في نسخة واحدة من النسخ هذا القول على هذا المثال: «تجتذب من الحارّ الأخلاط وحدّة الغضب ويجرّ أيضاً القلب إلى فوق».
والذي قد ينبغي أن نقبله من النسخ إنّما هو النسخة التي يوجد فيها هذا القول على هذا المثال: «إنّ أمثالها تكون من الحارّ» التي تدلّ أنّ الأمور التي يسبق القول فيها من أمر «البارد» ينبغي أن نتوهّمها بأعيانها في أمر الحارّ. وأمّا النسخة التي يوصل بها قوله «يجتذب من الحارّ» بالقول الذي يتلوه كما وصل إليه زوكسس حتّى يكون قولاً واحداً حتّى يتوهّم أنّ الاختلاط إنّما يحدث عن الحرارة والاجتذاب 〈…〉 وهذه الأقاويل تأويل مستكره بعيد ممّا يقبل ويقنع به ولذلك أرى أنّ الأجمل أن أبتدئ بتأويل القول الذي يتلو هذا من ابتداء آخر على ما هو مكتتب فيما بعد:
(٩) قال أبقراط: عند الاختلاط وحدّة الغضب يجتذب القلب والرئة إليهما الحرارة والرطوبة ويرفعانهما إلى الرأس وأمّا عند السرور فإنّ القلب يخليهما.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام في هذا القول وجد في تذكرات أبقراط مرسوماً على طريق الرمز. ولذلك كثر اختلاف النسخ فيه وجعل لكلّ واحدة من تلك النسخ تفسير مشاكل له. وأقرب القولين إلى الحقّ أنّ أولائك المفسّرين لم يقصدوا إلى نسخ وجدوها فاستخرجوا لها من التأويل والتفسير ما يوافقها ويشاكلها لاكنّهم إنّما تأوّلوا تأويلات فأزالوا نسخة الكلام عمّا وجدوها عليه إلى ما يشاكل تلك التأويلات. وذلك أنّهم لم يجدوا في الكتب القديمة تلك النسخ على ما تأوّلوها عليه فطلبوا لها من التأويل ما يشاكلها لاكنّهم لمّا وجدوا هذا القول في النسخ القديمة غامضاً مستغلقاً على طريق اللغز والرمز فكّر كلّ واحد منهم في أقرب الوجوه التي أمكنه أن يتأوّل عليها ذلك الكلام على ما يقرب ممّا يقبل ويقنع به. فما
وجدوه من الألفاظ في هذا الكلام على النسخة القديمة مناقضاً لتأويلهم مناقضة بيّنة حرّفوه وراموا أن يزيلوه إلى ما هو أقرب إلى تأويلهم.
من ذلك أنّه ليس يوجد في النسخة «عند الاختلاط» وإنّما يوجد فيها «الاختلاط» فقط وإذا وجدت هذه اللفظة في هذا القول على هذا المثال عسر أن يوجد معناها ما هو. وذلك أنّا إن فهمنا المعنى على حقّ هذا الكلام وجب أن يكون المعنى فيه أنّ «الاختلاط يجتذب القلب والرئة حتّى يسلبهما ويرفعهما إليه» لاكنّه لمّا كان قد أتبع ذكره «القلب والرئة» بقوله «إليهما» بان ذلك أنّ المعنى في هذا القول معنى غير هذا وهو أنّ «القلب والرئة يجتذبان إليهما ويرفعان إلى الرأس الحرارة والرطوبة». وقد توجد في النسخة القديمة مكان «الحرارة» «الحرارات» وذلك قريب ممّا لا يفهم وذلك أنّه إنّما كان ينبغي أن يقال «الحرارة» «والحارّ».
والأجود إذ كنّا نيأس من أن نقف على حقيقة الألفاظ الجزئيّة في هذا القول لالتباسه أن ننقله إلى كلام آخر أشرح وأبين وليس يمكن ذلك دون أن نفسّر بعض الألفاظ التي في هذا القول ولو واحدة منها وهو قوله «يجتذب». وذلك أنّ المعنى في هذه اللفظة لا يخلو من أن يكون على أحد وجهين إمّا أن يكون يعنى بها 〈…〉 أنّ «القلب والرئة يجتذبان إليهما من أسفل الحرارة والرطوبة ويرفعانهما إلى الرأس». وممّا يقرب من القبول والإقناع أن تكون الحرارة والرطوبة تجتذبان من نواحي الكبد حيث معدن الدم في وقت الغضب والاختلاط. فقد نجد عياناً عند الغضب والاختلاط القلب ينبض نبضاً أعظم وأشدّ قوّة وكذلك جميع العروق الضوارب التي في البدن كلّه والعروق عند انبساطها أكثر 〈تجتذب أكثر〉.
والدليل على كثرة «ارتفاع الحرارة والرطوبة» في وقت الاختلاط والغضب ما يظهر في العينين والوجه كلّه من الحمرة والانتفاخ. فإن وضعت يدك أيضاً على تلك المواضع في ذلك الوقت وجدتها أسخن ممّا كانت قبل ذلك وترى في العينين من اللمع والبرق أمراً بيّناً ويخيّل إليك أنّهما أنتأ ممّا كانتا وتجد الرأس كلّه أسخن ممّا كان.
«وأمّا عند السرور» فذكر أنّ «القلب يخليهما» يعني الشيئين اللذين تقدّم ذكرهما وهذا هو المعنى على حسب الكلام في بعض النسخ. وقد يوجد في بعض الكتب الكلام على هذا المثال: «وأمّا عند السرور فإنّه يخليهما إلى القلب» والمعنى على ما في هذه النسخة أنّ الرأس عند السرور يخلي ما كان ارتفع إليه من الرطوبة والحرارة إلى القلب.
وقد يكون ينتفع بمعرفة ما قيل في هذا في الحذر 〈…〉 في بعض الأوقات أمّا الحذر منه فمتى كان الرأس قد سخن بأكثر ممّا ينبغي أن يكون عليه من المزاج إمّا لسوء مزاج طبيعيّ وإمّا لعلّة حادثة وأمّا تعمّد ذلك والقصد إليه فمن كان الرأس منه أبرد من المقدار الذي ينبغي أن يكون عليه من المزاج إمّا لسوء مزاج طبيعيّ وإمّا من علل باردة تحدث فيه. وكذلك البدن كلّه قد كان مزاجه أسخن ممّا ينبغي إمّا من علّة حادثة وإمّا بالطبع ناله من «الاختلاط وحدّة الغضب» ضرر عظيم ومتى كان مزاجه على ضدّ ذلك انتفع «بالاختلاط وحدّة الغضب» منفعة عظيمة. فقد بيّنّا أنّه إلى هذا المعنى قصد في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا
حين قال: «إنّه ينبغي أن يتعمّد حدوث الاختلاط وحدّة الغضب لرجوع اللون وتولّد الكيموس المحمود».
(١٠) قال أبقراط: الكدّ للمفاصل واللحم الطعام والنوم للأحشاء.
قال جالينوس: اسم «الكدّ» ربّما ذكره أبقراط وهو يريد به الرياضة وربّما ذكره وهو يريد به 〈…〉 الضرر مطلقاً أيّ نوع كان منه كما قد بيّنت ذلك لكم في كثير من تفاسيرنا لكتبه. ولذلك قصد كلّ واحد من المفسّرين لهذا الكتاب لواحد واحد من تلك المعاني 〈الثلاثة〉 التي ينتظمها هذا الاسم. فتأوّل هذا القول عليه بعضهم فزعم أنّه يقصد بهذا القول إلى أنّ الرياضة هي «للمفاصل» والعضل بمنزلة «الطعام» وأراد «بالطعام» في هذا الموضع الغذاء وشدّة القوّة والمنفعة من قبل أنّ تلك الأعضاء تنمي وتشتدّ وتقوى بالرياضة ليس بدون نموّها وشدّتها وقوّتها بالأغذية.
وتأوّل بعضهم اسم «الكدّ» على الألم فزعم أنّ المعنى في هذا القول أنّ «الطعام» الكثير إنّما هو ألم ووجع «للمفاصل» والعضل. وذلك أنّ الامتلاء مع ما يحدث في «المفاصل واللحم» من الثقل وعسر الحركة قد يعرض بسببه أن يتجلّب فضل إلى «المفاصل واللحم» حتّى يحدث فيها ألماً وإنّما يعنى في هذا الموضع «باللحم» العضل لأنّ جسد «اللحم» إنّما يوجد في العضل خاصّة.
والتأويل أيضاً عن المعنى الثالثة من المعاني التي ينتظمها اسم «الكدّ» تابع لهذا. وذلك أنّ قوماً زعموا أنّ معنى هذا القول إنّما هو أنّ «الطعام» الكثير ويعني بذلك الامتلاء هو مضرّة ووبال على «المفاصل» والعضل وليس يخصّ المفاصل
والعضل الضرر والألم من الامتلاء دون سائر أعضاء البدن كلّها. ولذلك رأى قوم أنّ الأولى والأشبه أن يفهم من اسم «الكدّ» الرياضة للمفاصل والعضل الذي يحرّكها. ومن البيّن أنّ جميع هؤلاء يتأوّلون هذا القول على أنّهم قد وصلوا اسم «الطعام» بما قبله وليس معه «ألف» «ولام» حتّى يكون على هذا المثال: «الكدّ للمفاصل واللحم طعام». ومتى جعلنا الكلام على هذا المثال وتأوّلناه هذا التأويل كانت عبارته خبيثة وكان هذا القول عندي قولاً متّهماً بالتدليس. وذلك أنّا نجد أبقراط في شيء من كتبه التي قد اتّفق على أنّها صحيحة لم يستعمل سوء العبارة كما قد بان من هذا القول إن كان عنى به فيه باسم «الطعام» شدّة قوّة المفاصل والعضل.
والجزء الثاني أيضاً من هذا القول الذي قال فيه «والنوم للأحشاء» 〈…〉 إمّا رياضة جالبة للصحّة وإمّا سبب جالب للألم أو للضرر. وقد يجوز للمتأوّل أن يتأوّل أنّ الرياضة تنال «الأحشاء» في وقت «النوم» من قبل أنّها في ذلك أحرى بأن تفعل أفعالها حتّى تهضم الطعام وتنضجه. فأمّا القول بأنّ النوم يجلب على الأحشاء ضرراً وألماً فليس بصحيح ولا بحقّ. وذلك أنّ النوم أحرى بأن يسكّن الألم ويجلب المنفعة من أن يفعل ضدّ ذلك إلّا أن يقول قائل إنّ النوم يفعل ذلك في ابتداء نوبة الحمّى لاكن لمّا كان هذا القول لم يستثن فيه استثناء ولا اشترط فيه شريطة وجب ألّا يصحّ.
فخليق أن يكون الأجود أن نجعل قراءة هذا القول وكتابته على هذا المثال: «الكدّ للمفاصل واللحم» ثمّ نقطع هذا في هذا الموضع ثمّ نبتدئ ابتداء ثانياً «الطعام والنوم للأحشاء» حتّى يصير معنى هذا القول هذا المعنى: «إنّ الكدّ إنّما ينتفع به المفاصل والعضل والطعام والنوم إنّما ينتفع بهما الأحشاء». وذلك أنّ الحرارة الغريزيّة إذا مالت وغارت إلى عمق البدن كما بيّن أبقراط يكون استمراء
الطعام أجود وتغتذي عند ذلك الأحشاء وأمّا في وقت اليقظة فإنّ الحرارة الغريزيّة تميل نحو الجلد فتصير الأحشاء أبرد ممّا كانت في حال النوم. وما كان للأحشاء في وقت النوم يصير للأعضاء التي في ظاهر البدن مثل اليدين والرجلين وسائر المفاصل والعضل في وقت اليقظة والكدّ.
(١١) قال أبقراط: الاهتمام بكلّ شيء للنفس في الناس.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام ليس يوجد في هذه النسخة في جميع الكتب لاكن يوجد في أكثر النسخ مكان «بكلّ شيء» «مشي» حتّى يكون القول على هذا المثال: «والاهتمام مشي للنفس في الناس». وجميع من فسّر هذا الكتاب فهم من ذكر «المشي» الرياضة حتّى يكون القول على هذا المثال: «إنّ الهموم للناس رياضة للنفس» وذلك أنّهم ظنّوا أنّه استعمل مكان اسم «الرياضة» الشيء الذي يدلّ على نوع من أنواع الرياضة. ولمّا كانت هذه العبارة عبارة خبيثة رديئة تجنّبها وفرّ منها ديسقوريدوس فزاد حرفاً في الاسم الذي يدلّ عليه «المشي» حتّى صار معناه «بكلّ شيء» حتّى صار القول على ما كتبناه أوّلاً: «إنّ الاهتمام بكلّ شيء للنفس في الناس» حتّى يكون المعنى في هذا القول أنّه ينبغي للناس أن يدرّبوا أفكارهم في كلّ شيء. وذلك أنّ الأفكار قد تسمّى «هموماً» ولذلك سمّوا سقراط «المهموم» وسمّوا أيضاً الأفكار اللطيفة من الحكمة «هموماً» كما قد نجد ذلك في شعر أرسطوفانس المعروف «بالسحاب» الذي يهجو فيه سقراط ويذمّه بكثرة الكلام والإطناب.
فإن ظنّ ظانّ 〈أنّ〉 هذا القول إنّما هو من علم الفلاسفة لا من علم الطبيب فينبغي أن يتفكّر أوّلاً أنّ هذا القول مشترك لجميع الصناعات التي يستعمل فيها القياس فإنّ جميع تلك الصناعات تحتاج إلى أن يراض فيها الفكر كما قد وصف ذلك أرسطوطاليس في مواضع كثيرة وكثير من الأطبّاء غيره.
ثمّ بعد ذلك فإنّ عللاً كثيرة تحدث للناس بعضها كأنّها تخدر الفكر والذكر من النفس ومنها ما يحدث سباتاً وخموداً فمن كانت تلك حاله فينبغي أن يتوهّم عليه أنّ «الهموم» تنفعه كما قد علّمنا أبقراط في موضع آخر حيث قال: «إنّ الاختلاط وحدّة الغضب قد تنفع في توليد الكيموس المحمود وردّ السجيّة الجارية على المجرى الطبيعيّ على من قد عدمها».
(١٢) قال أبقراط: إنّ في الضربات يجري الدم جملة وينبغي أن تعين على امتلاء الخلاء.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً إنّما يجري مجرى كلام الرمز واللغز وذلك أنّ المعنى في قوله «يجري جملة» ليس يتبيّن ولا المعنى في قوله أن «يملأ الخلاء». ولذلك قال بعض المفسّرين إنّ هذا القول إنّما قيل في انبعاث الدم من الجراحات وقال بعضهم إنّه قيل في الورم الذي يحدث مع الجراحات. فالفريقان جميعاً يقصدون إلى أنّه «يجري» إلى موضع الجراحة «دم» فإنّ ذلك إذا كان «خلت» العروق التي في البدن كلّه من الدم. وزعموا أنّه ينبغي عند ذلك أن يعنى بتلك العروق حتّى تعود «فتمتلئ» وأنّ امتلاءها يكون بضربين أحدهما أن يصدّ الدم الذي خرج «جملة» إلى موضع الجراحة فيردّ عنه بالأدوية المبرّدة القابضة وبالشكل الذي
يعين على ذلك والآخر أن يتناول المجروح إن كان أصابه نزف من تلك الجراحة من الغذاء ما يردّ الدم ويملأ العروق.
وقد زعم قوم أنّ هذا القول لم يقصد به إلى الجراحات فقط لاكنّه قصد به معها إلى العظام التي قد نالها من الكسر أمر فادح وخاصّة ما قد برز منها شيء فخرج عن الجلد وكذلك قصد به أيضاً إلى كلّ خلع وكلّ ضربة تفسخ وتهشم أو ترضّ من البدن شيئاً بقوّة شديدة. وذلك أنّ من عادة أبقراط أن يستعمل اسم «الضربات» على كلّ آفة عظيمة من سبب من خارج وإن كانت من غير جرح. وتأويل هؤلاء في «سيلان الدم جملة» من هذه العروق «وملء» ما يتفرّغ منها عند القابلين هذا القول هو التأويل الأولى. وقد علمنا أنّ من عادة أبقراط في كثير من كتبه أن يستعمل اسم «الضربات» على ما كان بهذه الحال من الآفات وأمّا الحكم بأنّه في هذا الموضع إنّما أراد بذكره «الضربات» تلك الآفات فحكم عجلة وتقدّم. وقد ذكر قوم أنّ هذا القول إنّما قاله أبقراط في الجراحات التي تنفجر منها فإنّه أشار فيه بأن «يملأ الموضع الخالي» من الجراحة بما يحشى فيه من الأدوية الموافقة لقطع الدم ومن الفتائل.
(١٣) قال أبقراط: إذا اشتكت الأذن فينبغي أن تلفّ على إصبعك صوفاً وتغمرها في دسم وتقطّره في الأذن ثمّ تضع الصوف على راحتك تحت الأذن حتّى توهّمه أنّه يخرج منها شيء ثمّ تلقيه على النار بخدعة.
قال جالينوس: قد اتّهم قوم هذا القول بأنّه إنّما دلّس في هذا الكتاب وخاصّة للحرف الذي ألحق في آخره وهو ذكر «الخدعة». وأمّا الكلام الذي قبل الحرف
فهو على هذا المثال: «متى عرض في الأذن ألم فينبغي أن تلفّ على إصبع من أصابعك صوفاً إمّا على السبّابة وإمّا على الإبهام ثمّ تبلّ ذلك الصوف بضرب من الدسم إمّا بدهن وإمّا بشحم مذاب وتقطّره في الأذن» كما من عادتنا أن نفعل بالميل الذي نلفّ على رأسه صوفاً ثمّ نغمسه لا في «الدسم» فقط لاكن في غيره من كلّ أدوية الرطبة التي تصلح للأذن ثمّ تقطّره فيها.
وينبغي أن يكون ذلك الدواء قد أسخن في مسعط على نار سراج أو على غيرها ممّا أشبهها ولا ينبغي أن يكون تقطير ما «تقطّره» مرّة واحدة ولا مرّتين لاكنّ مراراً كثيرة حتّى يفيض إلى خارج ثقب مجرى السمع. وأمّا ما يفيض من ذلك ويجري من ذلك فإنّا نحن الآن لا نريد على أن نجعل تحته صوفاً حتّى يقبله وأمّا أبقراط فإنّه يأمر أن يوضع لك الصوف على «الراحة» وبيّن أنّه يريد راحة اليد اليسرى حتّى يقبل الرطوبة التي تسيل من الأذن. وهذا ممّا يدلّك أنّه يأمرك في أن «تقطّر» ما تقطّره لا مرّة ولا مرّتين لاكنّ مراراً كثيرة.
ولو كان بعد هذا اقتصر على أن كتب «ثمّ تلقيه على النار» لقد كنّا سنصوّب تأويل من تأوّل أنّه يأمر بإلقائه على النار كيما يمتحنه برائحته حتّى يعلم كيف حاله. فإنّ أبقراط قد امتحن بهذا الطريق الشيء الذي يقذف بالسعال من الرئة لاكنّه لمّا كان ملحقاً في هذا القول «حتّى توهّمه أنّه يخرج منها شيء» وكان ذكره «التوهيم» موافقاً لما ألحق في آخر القول كلّه من ذكر «الخدعة» لذلك فارق المشهورون من المفسّرين هذا المعنى الذي تقدّم إلى أن زعموا أنّ أبقراط إنّما أمر
أن يفعل هذا الفعل وهو يقصد «لخديعة» المريض. وذلك أنّ المرضى كثيراً ما يستريحون إلى أشباه هذه الأشياء ويتوهّمون أنّ مداواتهم قد كانت من الطبيب بفضل عناية وزعموا أنّ ممّا ينتفع به المريض أن يوهّم من علّته ما هو أعظم وأغلظ ممّا هو عليه حتّى لا يشكو من الطبيب الذي يعني بعلاجه أنّه لم يشفه بسرعة وحتّى يطيعه في الحمية واستقصى حقّ التدبير. وقد أضاف قوم إلى هذا أنّه من توهّم من المرضى أنّه قد برئ من علل عظيمة كان حباؤه للمتطبّب وجوائزه له أوفر.
وقد رأى قوم أنّ هذا القول بأسره مدلّس لا يشاكل غرض أبقراط ولذلك اتّهموا هذا القول بأسره. وأمّا ديسقوريدوس فإنّه أثبت هذا القول في النسخة التي أخذت عنه مع سائر نسخ أبقراط إلّا أنّه رسم على رؤوس السطور من هذا القول مثل الأرسام التي رسمها أرسطارخس على الأبيات التي اتّهمها أنّها ليست صحيحة من شعر أوميرس.
وليس يجوز أن يقال في هذا القول ما قاله قوم وظنّوا أنّه قد أتوا فيه بما يقبل ويقنع به وهو أنّه إنّما عنى «بالخدعة» تسكين الألم. وذلك أنّه ليس مداواة المرض الذي عنه يحدث الألم وشفاؤه حتّى ينقطع ما هو للألم بمنزلة الأصل وتسكين الألم حتّى يهدأ شيئاً واحداً. وممّا يدلّك على ذلك أنّ ما يكون به تسكين الألم ربّما أثّر في العلّة أثراً صار به إلى حال أصعب وأردأ. ومثال ذلك أنّا قد نسقي أصحاب القولنج بتسكين الوجع إذا أفرط حتّى يخاف على المريض الموت من المعجونات ما يتّخذ بالأفيون والبنج واليبروح والميعة وهذه الأدوية تبرّد الأعضاء التي عرض فيها الألم تبريداً قويّاً فتصيّرها إلى حال يكون بها إلى أن تعاودها العلّة من تلك الأسباب بأعيانها التي حدثت عنها أوّلاً أسرع وأسهل قبولاً. وليس يجوز كما
قلت أن يفهم من ذكر «الخدعة» أنّه قصد بها لتسكين الوجع وذلك أنّ قوله «حتّى توهّمه أنّه يخرج منها شيء» مضادّ مناقض لهذا المعنى. وذلك أنّ القائل لهذا القول قد دلّ به أنّه إنّما يلتمس هذا العلاج ليخدع به المريض. فالأجود أن يتوهّم أنّ هذا القول ليس هو لأبقراط البتّة.
(١٤) قال أبقراط: اللسان يدلّ على الماء واللسان الأخضر يكون من المرار والمرار يكون عن الشيء الدسم واللسان الأحمر يكون من الدم واللسان الأسود يكون من المرّة السوداء واللسان القحل يكون من احتراق دخانيّ ويكون من العضو الذي هو بمنزلة الأمّ واللسان الأبيض يكون من البلغم.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يقول في هذا القول «إنّ اللسان يدلّ» كيف حال «الماء». ويجوز أن يكون عنى «بالماء» البول الذي يبال في كلّ يوم كما قد جرى في العادة أن يستعمل عليه هذا الاسم ويجوز أن يكون عنى بالمائيّة الأخلاط وأيّهما عنى فالقول يرجع إلى معنى واحد. وذلك أنّ اللسان يدلّ على حال الكيموسات وكذلك البول وإذ كنّا قد نصل إلى ما ينتفع به من القول على أيّ الوجهين فهمنا اسم «الماء» فالبحث عن المعنى الذي إليه قصدنا باسم «الماء» في هذا الموضع فضل. والذي ينتفع به من جملة هذا القول هو أنّ بعض أحوال «اللسان» يدلّ على غلبة «المرار» وبعضها يدلّ على غلبة «الدم» أو غيره من الأخلاط. وسنبحث عن كلّ واحد من تلك الأحوال فيما بعد. وذلك أنّي أشير بالتوقّف عن الأشياء التي ينتفع بها في أعمال الطبّ واللبث فيها والتثبّت والتدبير لها وبالمرور صفحاً عن الأشياء التي البحث عنها إنّما هو من مذهب السوفسطائيّين.
فأقول إنّه إنّما عنى «باللسان الأخضر» اللسان الأصفر. وقد يستعمل الناس هذا بالعادة كثيراً فيقولون: «رأينا لون فلان أخضر» وهم يريدون غلبة الصفرة على لونه لغلبة المرار الأصفر عليه. وهذا الصنف من المرار هو الذي يراد متى قيل «المرار» مطلقاً وأمّا سائر أصناف المرار فليس يطلق له اسم «المرار» دون أن يستثنى معه لونه حتّى يقال «مرار أسود» أو «مرار زنجاريّ» أو «مرار أحمر مشبّع» أو «أحمر ناصع» أو «محّيّ». والمرار الذي لونه اللون الأحمر الناصع قريب جدّاً من المرار الأصفر وكلاهما من جنس واحد لاكن من عادة الناس على الأمر الأكثر أن يقولوا إنّ فلاناً تقيّأ مراراً من غير أن يستثنوا اسم اللون الذي هو به وهم يعنون المرار الأصفر على الأمر الأكثر. وأمّا المرار الأحمر الناصع فلا يكاد يطلق له اسم «المرار» من غير استثناء لونه إلّا في الندرة. وذلك أنّ من عادة الناس أن يستثنوا مع تسمية سائر المرار خلا الأصفر اسم لونه فيقولون إنّ فلاناً تقيّأ مراراً أحمر ناصعاً أو مراراً أصفر. وأمّا المرار الزنجاريّ والسمّيّ والمرار الأسود فليس أحد من الأطبّاء ولا واحد من العامّة يسمّيه «مراراً» مطلقاً من غير استثناء وكذلك الأمر في المرار السلجميّ والمرار الكرّاثيّ والمرار المحّيّ وقد تسمّى بهذه الأسماء من ألوانها المشاكلة للجواهر المعروفة التي هي بتلك الألوان. وعلى هذا الطريق يسمّون بعض المرار «أحمر ناصعاً» وهذا الصنف من المرار إنّما هو مائيّة الدم. وأمّا المرار المحّيّ فإنّما يتولّد من المرار الأحمر الناصع فيغلظ فيصير بتلك الحال كما أنّ المرار الأصفر إنّما يصير بهذا اللون بأن يخالطه جوهر مائيّ.
وقد بان أنّه إنّما عنى في هذا القول «باللسان الأخضر» اللسان الأصفر وإنّما يصبغ اللسان حتّى يصير بهذا اللون المرار الأصفر. وذلك أنّه لمّا كانت فيه عروق عظام وكان جوهره جوهراً رخواً شبيهاً بالإسفنج وجب أن يكون أسرع قبولاً في جثّته
الأخلاط المائيّة من سائر الأعضاء الصلبة الملزّزة ووجب من قبل ذلك أن تصبغه تلك الأخلاط بألوانها كما يصبغ الصوف.
وأمّا قوله «إنّ المرار يكون عن الشيء الدسم» فهو قول أدخله في خلال الكلام وهو خارج عن نسقه والذي أراد أن يدلّ به أنّ أكثر تولّد المرار إنّما هو «من الشيء الدسم» من الغذاء. وينبغي أن يفهم عنه من قوله «الدسم» لا الشيء الدهنيّ فقط لاكن يفهم معه أيضاً الشيء الحلو وبالجملة فينبغي أن يفهم عنه من قوله «الدسم» ما يلتذّه من كان باقياً على حال الطبيعة. وذلك أنّه لا يلتذّ الشيء المرّ والقابض والشيء الحامض إلّا من كانت حاله خارجة عن المجرى الطبيعيّ فأمّا من كانت حاله حالاً طبيعيّة وبدنه نقيّاً من الفضول فليس يلتذّ ممّا يأكله من الطعام إلّا ما كان دسماً وما كان حلواً وليس فيه طعم آخر قويّ من سائر الطعوم البتّة. فجميع هذه الأشياء من الأغذية هي التي عناها بقوله «الدسم». ولذلك قد سمّى كثير من القدماء الأرض التي تثمر ثماراً طيّبة «أرضاً دسمة» «وسمينة» وإنّما أرادوا بهذه الأسماء الأرض التي تكثر فيها الثمار التي نأكلها ونحن على حال الصحّة التي لا يذمّ منها شيء.
وقد بيّنت في كتابي في قوى الأدوية المفردة في المقالة الرابعة منه أنّ المرّة قد تتولّد من العسل ومن جميع الأشياء الحلوة إذا أفرطت عليها السخونة وقد نرى مع ذلك عياناً أنّ هذه الأطعمة إذا لبثت في المعدة مدّة طويلة فلم تنفذ وتتأدّى إلى الأعضاء ولا انهضمت 〈…〉 بما ذكرنا من هذا في اللسان الأصفر.
فأمّا «اللسان الأحمر» فذكر أبقراط أنّه «يكون عن الدم». وذلك واجب من قبل أنّه ليس يمكن أن يكون هذا اللون من خلط آخر قد غلب سوى الدم في عضو من الأعضاء. وذلك أنّ اللون إنّما يكون عن الأخلاط ومن البيّن فيه أنّه يكون من الأخلاط الغالبة على البدن والتي قد كثرت فيها لا من الأخلاط التي قد تعفّنت فيه. وكذلك ذكر أنّ «اللسان الأسود» يكون تولّده من «المرار الأسود» وقولي 〈…〉 في اللسان التي حاله الحال التي تقدّم ذكرها.
وأمّا «اللسان القحل» وهو اللسان اليابس الشديد اليبس فيكون عن حمّى محرقة. فإنّ الحمّى إذا كانت كذلك أحرقت الدم بمنزلة ما يفعله النار وكان ما يترقّى منه أشبه بالدخان منه بالبخار ولذلك يكون «اللسان» الذي حاله هذه في أكثر الحالات «أسود». قد تحدث هذه الحال من أحوال اللسان أيضاً من «العضو الأمّويّ» ومن البيّن أنّه إنّما عنى «بالعضو الأمّويّ» الرحم. وذلك أنّ الرحم إذا عرض فيها ورم حارّ قد تكون معه حمّيات في غاية الحرارة. وكما أنّ اللسان الأصفر يكون من المرار الأصفر واللسان الأسود يكون من المرار الأسود واللسان الأحمر المشبّع الحمرة يكون من الدم [و]كذلك «اللسان الأبيض يكون من البلغم».
وليس تخلو هذه الدلائل التي ذكر إذا ظهرت من أن تكون معها الأشياء التي ذكر أنّها تدلّ عليه في جميع الأحوال وأمّا هذه الأشياء التي ذكر أنّ تلك الدلائل
تدلّ عليها فليس هذه الدلائل لازمة لها ضرورة. وذلك أنّ الرحم 〈ليس〉 متى حدث فيها ورم حارّ تكون الحمّيات التي تحدث عن ورمه حمّيات محرقة شديدة الإحراق وكذلك ليس متى غلب الدم كان اللسان أحمر. وقد تغلب المرّة السوداء في الطحال أو في بعض العروق ولا يتغيّر اللسان عن لونه الطبيعيّ وكذلك المرّة الصفراء والبلغم لاكن متى كان واحد من هذه الأخلاط في المعدة أو كان قد غلب في البدن حرارة كثيرة حلّلت الأخلاط وبخّرتها حتّى تصير رياحاً ارتفع ذلك إلى فوق حتّى يؤثّر في اللسان بحسب لون الخلط الغالب. فقد ينبغي أن نقول بالجملة إنّ كلّ واحد من هذه الدلائل التي ذكرت في اللسان إمّا أن تدلّ على حمّى محرقة مع غلبة كلّ واحد من الأخلاط التي ذكرها أبقراط بحسب لون اللسان وإمّا على أنّ الخلط الذي يدلّ عليه لون اللسان تحويه المعدة.
وإذ كنّا قد بلغنا من شرح ما قيل في هذا الكلام ما يكتفي به فلا بأس عندي بذكر نسخة لوقس تلميذ قوانطس ولست أعلم أحداً علم تلك النسخة سوى لوقس. وذلك أنّه غيّر أوّل هذا الكلام على أنّه ما كان هذا الرجل صاحب إقدام على تغيير النسخ القديمة وتبديلها كما من عادة آل ديسقوريدوس وقابيطن أن يفعلوا. وقرأت المقالة السابعة من تفسير لوقس لهذه المقالة من كتاب أبقراط فوجدته قد جعل افتتاح هذا الكلام على هذا الرسم: «الماء يدلّ على اللسان» ثمّ كتب في تفسير هذا القول وهو قوله بألفاظه: «إنّ أبقراط لمّا قال في هذا القول ‹إنّ الماء يدلّ على
اللسان› لم يقل على ماذا يرى أنّه يدلّ اللسان والبول معاً إلّا أنّه من البيّن أنّه إنّما يرى أنّ الدلالة تكون من هذين كليهما على الأخلاط الغالبة على البدن». فهذا كلام لوقس بألفاظه.
وأمّا أنا كما بيّنت في قول آخر فمَا أعرف هذا الرجل في حياته وذلك أنّ مقامه بماقدونيا وهو بلده دهره كلّه وما كان أحد يعرفه من سائر الأمم. وكنت أنا في تلك الأيّام ملازماً لقوم من أهل النباهة في العلم بالطبّ منهم ساطورس ومنهم أفيقانوس وكان هذان تلميذين من تلاميذ قوانطس ومنهم بالبس وكان تلميذاً من تلاميذ نومسيانوس ومنهم اسطراطونيقوس. وكان هذا رجل من أهل مدينتي وكان تلميذاً لسابينس وكان في أعمال الطبّ وعلاج المرضى أفضل كثيراً من الثلاثة الذين تقدّم ذكرهم. ثمّ بأخرة سمعت باسم لوقس هذا أنّه كان بروميّة بعد أن مات.
فلمّا رأيت الناس راغبين في كتبه لشرحها وبيانها التمست قراءتها فلمّا وجدته يتبع في التشريح جميعاً ما يأتي به مارينس اجتبيت أن أقرأ تفاسيره أيضاً لكتب أبقراط وتفاسير مارينس لأعلم علّة لوقس وهو متبع في تفاسيره أيضاً لمارينس. ويتبيّن لي أنّه يتبعه في جميع تفاسيره ولا فرق بين كلامي الرجلين إلّا في الشرح فقط فإنّ كلام لوقس أشرح من كلام مارينس.
فلذلك لمّا وجدت افتتاح هذا القول قد كتبه لوقس على خلاف ما كتبه سائر المفسّرين أحببت أن أعلم هل مارينس كان أوّل من غيّر افتتاح هذا القول هذا
التغيير. فطلبت المقالة التي فسّر فيها مارينس هذا القول غاية الطلب فلم أقع عليها إلى هذه الغاية يضف كتب مارينس بروميّة موجودة كثيرة جدّاً. ولست أدري ما السبب الذي له تعذّر على وجود هذا الكتاب ولست أدري كيف كتب مارينس افتتاح هذا القول.
وأمّا جميع المفسّرين الآخرين فليس يعرفون إلّا نسخة واحدة وهي التي فسّرتها ورسمتها هذا الرسم: «اللسان يدلّ على الماء». وليست النسخة التي اختارها لوقس بأبين من هذه النسخة ومع ذلك فإنّه يتبيّن منها أنّها لم تستوف المعنى الذي قصد بها إليه وذلك أنّه قيل فيها إنّ اللسان يدلّ مع البول ولم يضف إلى ذلك ما الذي عنى أنّ البول واللسان يدلّان عليه. ولمّا أمرنا لوقس أن نفهم عنه من عند أنفسنا أنّ اللسان والبول يدلّان على الكيموسات لم يف بما تضمّنه لنا وذلك أنّا وجدناه يذكر اللسان وحده وأبقراط أيضاً إنّما ذكر ما يدلّ عليه اللسان فقط إلّا أنّ لوقس لم يغيّر من النسخ التي قد اتّفق عليها أكثر المفسّرين إلّا القليل.
وأمّا قوم قد أقدموا من ذلك على أكثر ممّا أقدم. وإن أنا رمت ذكر جميعهم احتجت أن أكتب في تفسير هذه المقالة التي أنا في تفسيرها ضعف هذه المقالات إمّا في مقاديرها وإمّا في عددها ولا سيّما إن ذكرت مع ذلك النسخ التي لا يغيّر بها المعنى البتّة. مثل أنّ قوماً كتبوا في هذه الكلام الذي نحن في شرحه: «اللسان الأخضر يكون من المرار» وقد يكتبون «اللسان الأخضر مراريّ» وكذلك يكتب بعضهم: «إنّ اللسان القحل يكون من الاحتراق» وبعضهم يكتب: «إنّ اللسان القحل دليل على احتراق». فقد قلت مراراً كثيرة إنّي ألغي ذكر هذه من النسخ على تعمّد.
(١٥) قال أبقراط: البول يوافق لونه لون البدن ولون الشراب وكما تجيء من داخل رطوبة الشراب الذوبان.
قال جالينوس: إنّا قد نجد في أكثر النسخ الحرف الذي معناه «الشراب» وهو باليونانيّة «بطن» «التاء» ثانية فيه ونجد في بعض النسخ ذلك الحرف بلا «تاء» حتّى ينقلب معناه فيصير «حيث». والذي يعرف هذه النسخة أمّا من قدماء المفسّرين فإيراقليدس وأمّا من حدثهم فسابنس. وقد اختلفا في «واو» أثبتها أحدهما وأسقطها الآخر فكتب إيراقليدس «حيث رطوبة 〈ذوبان〉» وكتب سابنس «حيث رطوبة وذوبان» فأثبت الرباط وهو «الواو». وأمّا زوكسس فيعرف هذه النسخة: «ذوبان الشراب والرطوبة» وقد أتبعه روفس الذي من أهل سمريا. وأمّا روفس الذي من أهل أفاسس فكتب «الشراب الرطب ذوبان» وأمّا لوقس فكتب «رطوبة الشراب من الذوبان» وأمّا ديسقوريدوس فكتب «من الشراب ومن الذوبان الرطب». وأمّا قابيطن فأسقط «من» من هذا الكلام فكتب هذا الكلام مطلقاً على هذا الرسم: «الشراب والذوبان الرطب». وأمّا سائر المفسّرين فبعضهم اختار النسخة التي فيها «الشراب والذوبان». وأمّا الجزء الأوّل من هذا الكلام فكلّهم إلّا الشاذّ كتبه على نسخة واحدة على هذا الرسم: «البول يوافق لونه لون البدن ولون
الشراب». وأمّا لوقس فحذف «كما» واقتصر على أن كتب «ويجيء من داخل». وأمّا الاختلاف بينهم في اللغات والهجاء فإنّي قد تركته في جميع تفاسيري.
وذكري ما ذكرت في هذا الموضع من اختلاف النسخ في هذا الباب لم أقصد به لمنفعة رجوتها ينتفعها من عرف ذلك الاختلاف لاكنّي إنّما قصدت لأن أذكر بأنّي تاركه وملغي ذكره. وأمّا الاختلاف الذي يغيّر المعنى ويبدّله فاضطررت في هذا الموضع إلى تعديد أصنافه كلّها على أنّي لست أكاد أفعل ذلك في غير هذا من الأقاويل لأنّ هذا القول غامض جدّاً مستغلق وإنّما هو على طريق الرمز واللغز .وليس عندي فيه حكم بيّن ولهذا اضطررت عند تفسيري لهذا الكتاب أن أجمع تفاسير جميع المفسّرين على أنّي لم أحتاج إلى تفاسيرهم عند تفسيري لكتاب الخلع والكسر ولكتاب تقدمة المعرفة ولسائر كتب أبقراط الصحيحة. وذلك أنّي حيث وصلت أن أعلم علماً يقيناً ما معنى الرجل في أقاويله كان عندي من الفضل أن أقرأ ما يقول زوكسس وإيراقليدس الذي من أهل طارنطس ومن بعدهم ممّن فسّر كتب أبقراط الذي بسببهم صار لكلّ واحد من أقاويل أبقراط وهو قول واحد بعينه نسخ كثيرة مختلفة من قبل أنّ كلّ واحد منهم غيّر نسخة كلّ واحد من أقاويله إلى نحو ما يشاكلها كما فعلوا في هذا القول أيضاً. وذلك أنّ كلّ واحد منهم جعل لهذه النسخ التي ذكرتها قبل من التفسير ما شاكلها على نحو ما ظنّ. ومنهم قوم ذكروا معنى ما في هذا القول ذكراً مجملاً وجعلوا أقاويلهم أشبه بطريق الكلام الذي ينسخ كلاماً بألفاظ أبين منه بطريق التفسير والشرح. من ذلك أنّ القول إمّا كيف «يوافق لونه لون الشراب» فليس يعسر فهم ذلك على أحد وإمّا كيف «يوافق لونه لون البدن» فذلك من أعسر الأشياء فهماً.
ولذلك كان هذا أوّل ما اختلفوا فيه. فقال بعضهم إنّ البول يشبه لونه لون البدن كلّه وقال بعضهم إنّ البول إنّما يشبه لونه لون الأعضاء التي فيها العلّة. وإن حكم حاكم بهذا الحكم على أنّه كذلك يكون في جميع الأحوال لم يصدق. وذلك أنّه كثيراً ما يكون البول مائيّاً أعني أبيض رقيقاً وقد انبثّ في البدن كلّه من المرار الأصفر شيء كثير حتّى يظنّ باللون أنّه قد قرب من لون صاحب اليرقان وربّما كان الأمر على ضدّ ذلك فيكون البول أحمر ناصعاً أو أصفر مشبّعاً أو أصفر رقيقاً أو أسود ولون البدن كلّه لون مخالف للون البول. وإن نحن فهمنا عنه هذا القول على أنّه أتى به ناقصاً وذلك أنّه قد يمكن أن يثبت أقاويل ناقصة على طريق الرسوم والتذكرة لنفسه جاز أن يكون المعنى في هذا القول هذا المعنى وهو أنّ البول الموافق لونه للون البدن أو للون الشراب يحدث عن كذا وكذا من الأسباب أو عن كذا وكذا من الأمراض.
وعلى هذا المثال أيضاً قد وقع في قوله «وكما يجيء من داخل» من البحث ما ليس هو باليسير خاصّة إن كان هذا القول كما مثّلنا. وهذا الحرف قد يعرفه في هذا القول جميع المفسّرين وإنّما حذفه عدد قليل منهم قريباً. وذلك أنّه يتعذّر بالحقيقة على القائل أن يقول ما معنى قوله «من داخل» وليس «يجيء» في حال من الأحوال «من خارج». وأمّا معلّمي بالبس فقد كان شأنه أن يحتال ويتلطّف لتأويل الأقاويل المعتاصة فتأوّل قوله «وكما يجيء من داخل» هذا التأويل وهو أنّه زعم أنّ البول إذا خرج بالحال التي كان عليها الشراب في وقت ما شرب فهو الذي يعنيه أبقراط بقوله «إنّه يكون لونه موافقاً للون الشراب» وهو في ذلك مصيب وإنّ ذلك البول بالحال التي يكون عليها الشراب لو خرج من داخل ولم يكن ورد على البدن من خارج فنالته استحالة من البدن.
وقد بان أيضاً من أمر روفس الذي من أهل أباسس أنّه عند نفسه لم يفهم بالحقيقة معنى هذا الكلام لاكنّه قد رام أن يوهّم من يقرأ كتابه أنّه قد فهمه. وممّا يدلّك على ذلك أنّه كتب تفسير هذا القول بهذه الألفاظ: «إنّ ألوان الأشربة تتبيّن فيما يخرج من البراز وقد تتبيّن أيضاً في البول وربّما كان يشبه الشراب الذي يشرب. وإذا جاء البول أيضاً من داخل من نفس البدن ولم يكن ممّا يشرب ربّما كان لونه لون الشراب وربّما كان لونه لون الذوبان الرطب». وهذا الرجل إذ كان يسلك في تفسيره ما يفسّر دائماً مسلك القصر والاختصار ليس يتبيّن من خطائه مثل الذي يتبيّن من خطاء غيره ولا ينكشف ممّا كتبه في هذا الكلام أنّه لم يقل في شرح هذا القول شيئاً يعتدّ به.
وأمّا لوقس فإنّه إذ كان من أطول الناس كلاماً وأكثرهم إطناباً فإنّ خطاءه ينكشف ويظهر ظهوراً بيّناً إذ كان إنّما ينسخ هذا الكلام بكلام أوضح منه ولم يفسده. وممّا يدلّك على ذلك أنّ الذي كتبه لوقس أيضاً في هذا الكلام إنّما هو ما أنا واصفه بألفاظه وهو هذا: قال: «البول يوافق لونه لون البدن ولون الشراب وتجيء من داخل رطوبة الشراب الذوبان» ثمّ قال: «ليس يريد بهذا الكلام شيئاً غير أنّ البول قد يمكن أن يدلّ على صنفي الأخلاط كليهما اللذين يتولّدان في البدن أعني الأخلاط التي تتولّد من طبيعة الشراب والأخلاط التي تتولّد من حال البدن».
ثمّ من بعد هذا فاسمع التفسير الذي كتبه سابنس لهذا القول. قال: «البول يوافق لونه لون البدن ولون الشراب ولما يجيء من داخل وحيث رطوبة ذوبان» ثمّ قال: «يقول إنّه متى خرج البول بحال من الأحوال فينبغي أن ينظر أيّ شيء يشبه
وما يشبه ما في البدن أو إنّما يشبه الشراب الذي يشرب. فإن كان إنّما يشبه البدن فاعلم أنّ ذلك الإنسان هو ذا يذوب بدنه وإن كان يشبه عضواً من أعضائه أو جزءاً من عضو فالعلّة في ذلك العضو الذي يشبه البول حتّى يفهم قوله ‹كما› لو قال هذا القول: ‹متى كان البول شبيهاً ببول الفرس دلّ على أنّه سيكون صداع›. وذلك أنّ البول يصير بمنزلة اللبن عند ذوبان الدماغ. وإن كان في البول ثفل شبيه بجريش السويق فاعلم أنّه قد حدث الذوبان في العصب. وإن كان فيه قطع بلون الدم أو بلون اللحم دلّ على أنّ الذوبان قد حدث في الكبد. فإن كان ذوبان الكبد قد بلغ من قوّته أن يحلّ ما يذوب خرج في البول شبيه بالأسرنج وذلك أنّ الكبد بهذه الحال. وإن كان يخرج في البول قطع سود دلّ ذلك على ذوبان الطحال والبول أيضاً الدهنيّ يدلّ على ذوبان قويّ قد حدث في العصب وكذلك يدلّ على الموت. فإن كان البول الذي يشبه الشراب الذي يشرب فهو يدلّ على رطوبة كثيرة وذلك أنّ †الحسّ ٮلع الثاني† وهو على ما كان عليه في الحال التي كانت عليها أوّلاً. وكذلك صار إذا كان ليس ينهضم ولا يتأذّى لا تحدث فيه أصلاً استحالة ولا لون لاكنّه ينفذ في الأعضاء المجوّفة والعروق الضوارب وغير الضوارب من غير أن يعمل فيه شيء منها لاكنّه يجري فيها كما يجري فيما ليس فيه نفس ولا روح ولا حسّ». فهذا قول سابنس.
وهو حقيق أن يحمد على التماسه أن يبيّن كيف يشبه لون البول ألوان بعض أعضاء البدن لاكنّه قد أخطأ وأساء في قوله «البول الذي يشبه بول الدوابّ يدلّ على ذوبان الدماغ» وهذا هو عنده البول الذي عناه بقوله «شبيه ببول الفرس». وذلك أنّ أبقراط إنّما قال: «إنّه يتبع هذا البول صداع» ولم يقل إنّه يتبعه ذوبان الدماغ. وقد رأينا مثل هذا البول في عدد لا تحصيه كثرة من المرضى فسلموا من غير أن ينالهم خطر وأمّا ذوبان الدماغ فهو من أخبث العلل وأقتلها. وقد أصاب أيضاً في قوله إنّ الشراب إذا نفذ في العروق الضوارب وغير الضوارب من غير أن يستحيل كان ذلك خبيثاً ولم يصب في قوله إنّه قد ينفذ أيضاً في العصب.
وأمّا سائر المفسّرين فما يحسن بنا ذكرهم فضلاً عن ذكر أقاويلهم. وذلك أنّهم لا يخلون من إحدى منزلتين إمّا أن يكونوا قد قالوا غير هذه صالحاً مشتبهاً فيكون قولهم إنّما هو شبيه بهذه الأقاويل التي وصفناها أو يكونوا قد قالوا غير هذه الأقاويل فأقاويلهم هذيان إلّا أنّه شنيع.
وإنّي لأعرف كثيراً من الناس يعجبون كثيراً بالأقاويل الشنيعة كما قلت لجهلهم باللغة مثل الذي مدح روفس الذي من أهل سمريا في ما قال: «إنّ معنى ‹داخل› في هذا القول إنّما هو أيّ من بين الشيئين اللذين تقدّم ذكرهما أعني الشراب والبدن لأنّ الشيء الذي هو فيما بين شيئين يقال ‹داخل› من كلّ واحد منهما». والأجود عندي أن أكتب في هذا الموضع قول روفس بألفاظه كيما لا يظنّ بي ظانّ أنّي كذبت على الرجل وهو قوله بلفظه: «إنّ البول يوافق لونه لون البدن ولون الشراب وليس يوافق لون كلّ واحد منهما على حدته لاكنّه إنّما يحدث له حال كأنّها حال متوسّطة فيما بين مزاجهما كليهما أعني من الشراب ومن ذوبان البدن
الرطب الرقيق. وذلك أنّ ذوبان البدن الذي يكون أغلظ وأثخن ليس يخرج في البول لاكنّه يبقى في البدن».
فهذا قول روفس الذي من أهل سمريا بلفظه وهو القول الذي مدحه إنسان منشؤه في بلد القوم الذين يسمّون فلسطينيون وكان جاهلاً بلغة اليونانيّين قبل أن يدخل مدينة روميّة ولذلك قد يظهر من فضيحته لمن حيي بين اليونانيّين وعرف كلامهم ما يستحقّ أن يضحك منه ويهزأ به. ولا بدّ لكلّ من كتب كتاباً وخاصّة من الكتب التي يفسّر فيها أقاويل من الأقاويل ولا سيّما إن كانت تلك الأقاويل غامضة تجري مجرى اللغز والرمز من أن يقع عليها حكم أشباه هؤلاء من الناس.
ولعلّ سائلاً يسألني فيقول: «فأنت فليس عندك في تأويل هذا القول شيء البتّة؟» وجوابي للقائل هذا القول هو الحقّ اليقين الذي أعرفه من نفسي وهو أنّه ليس عندي شيء صحيح أثق به على طريق برهانيّ في تأويل هذا الكلام لاكنّي قد تلطّفت لجواب قلته لأصحابي فرأيتهم قد قبلوه ولذلك قد رأيت أن أكتبه. فإنّه إن لم يكن فيه شيء فالناظر فيه على حال يربح منه معنى عظيم الدرك والعناء في صناعة الطبّ وهو أنّ «البول» ربّما رأيناه «موافقاً في لونه للشراب» الذي شربه صاحبه وذلك يكون إذا ما لم يستحل الطعام حتّى ينقلب إلى الدم على ما ينبغي فيستحيل وينقلب معه الشراب الذي يشرب الذي حدث فيه «الذوبان» كما كتب سابينس.
وهذان الصنفان من البول كلاهما إنّما يحدثان إذا كان تدبير من البدن جارياً على خلاف المجرى الطبيعيّ. وأمّا متى كان أمره جارياً على الحال الطبيعيّة فإنّ
مع توليده الأخلاط التي تولّدت 〈…〉 كما بيّنت فيما تقدّم. وإذا حفظ البول لون الشراب الذي شرب فإنّه إن كان الشراب الذي يشرب ماء أو خمراً رقيقاً أو أبيض كان البول عند ذلك مائيّاً رقيقاً أبيض وإن كان الشراب الذي يشرب خمراً غليظة سوداء كان البول أغلظ وأقرب إلى السواد وإن كان الشراب خمراً عتيقة صفراء كان البول إلى الصفرة أميل.
وأمّا لون الأعضاء التي يحدث فيها الذوبان فيتبيّن في البول فمثل أن تخرج في البول قطع شبيهة بفتات الكرسنّة أو بفتات العدس. وذلك أنّه إذا كان هذا دلّ على أنّه من الكبد وإن كانت تلك القطع أشبه باللحم دلّت على أنّها من الكلى وإن كانت شبيهة بالصفائح دلّت على أنّها من المثانة والبول الدسم يدلّ على أنّه من ذوبان الشحم وأمّا القطع الشبيهة بجريش السويق في مقاديرها وصلابتها وليست بيضاء فتدلّ على أنّ الذوبان حدث في اللحم والقطع السود تدلّ على أنّ الذوبان يحدث في الطحال.
فأمّا البول الذي يشبه بول الدوابّ فليس يدلّ على ذوبان الدماغ كما ظنّ سابينس. وقد بيّنت في تفسيري لكتاب الفصول أنّ هذا البول إنّما يتولّد من قذىً اجتمع في بدنه من الخلط المعروف «بالنيّ» وهو الخام شيء كثير جدّاً إذا أذابته
الحرارة. وذلك أنّه يعرض عند ذلك أن تتولّد منه رياح غليظة نافخة ترتفع إلى الرأس ولذلك يعرض الصداع لصاحب ذلك البول.
فهذا هو ما قلت إنّه ينتفع به من قرأه ولست أستجيز أن أقدّم بالحكم الباب على أنّ معنى هذا القول هو هذا المعنى الذي وصفته بذلك 〈القول〉 ولاكن للواصل أن يصل هذا المعنى الذي وصفته بذلك القول على هذا المثال: وأمّا الصنفان الأوّلان من أصناف البول الخارجان عن الحدّ الطبيعيّ فدلّ عليها بقوله «البول يوافق لونه لون البدن ولون الشراب» فأمّا البول الذي يوافق لونه لون البدن فالبول الذي يحدث عن الذوبان وأمّا البول الذي يوافق لونه الشراب فهو البول الذي يكون إذا لم ينهضم ما يتناول من الطعام والشراب.
وأمّا الصنف الثالث من أصناف البول فدلّ عليه بقوله «وكما يجيء من داخل» ولا فرق في هذا التأويل أن يثبت الحرف الذي يثبته بعض المفسّرين ويسقطه بعضهم وهو «كما» أو يسقط وإن سقط كان القول أبين وإن أقرّ لم يبعد عن المعنى الذي تأوّلته عليه. وذلك أنّا نفهم عنه أنّه يريد صنفاً ثالثاً من الصنفين اللذين تقدّم ذكرهما من أصناف تولّد البول وهو البول الذي يبوله من كان أمره جارياً على المجرى الطبيعيّ ويقبل اللون «من داخل» أي من البدن وما فيه من الأخلاط من غير أن يكون لونه عن ذوبان عضو من الأعضاء ولا من الشراب والطعام لم ينهضما.
وأنا أرى أنّه ينبغي أن يقطع الجزء الأوّل من هذا القول في هذا الموضع ويعزله على حدة ويفهم ما بعده على أنّه قول علّقه أبقراط لنفسه تعليقاً بلفظ وجيز على طريق التذكرة ولذلك إنّما هو كأنّه رمز وهو قوله: «رطوبة الشراب بالذوبان». وقد
قلت إنّه قد كتبوا هذا القول على نسخ مختلفة وقد يمكن أن يجعل التأويل مشتركاً لجميع النسخ أو لأكثرها وهو أنّ أبقراط كتب في هذا القول سبب كلّ واحد من صنفي البول الخارجين عن الحدّ الطبيعيّ. فجعل سبب أحدهما وهو الذي يوافق لونه لون الشراب 〈«رطوبة الشراب»〉 فعنى «برطوبته» كثرة رطوبة الشراب وجعل السبب الآخر وهو الذي يوافق لونه لون البدن «الذوبان». وذلك أنّه متى لم ينهضم الشراب مع الطعام فالشراب الذي يشرب بقياس القوّة التي في الآلات التي تحيله وتقلبه 〈…〉 ومتى لم يكن ذلك كذلك فقد حدث في عضو من أعضاء البدن ذوبان. فسمّى كثرة الشراب الذي شرب «رطوبة الشراب» وأمّا «الذوبان» فذكره باسمه على التصريح.
(١٦) قال أبقراط: اللسان يوافق لونه لون الأخلاط التي تغلب ولذلك صرنا نستدلّ به على الأخلاط.
قال جالينوس: إنّه قد يوجد في بعض النسخ «يوافق لونه لون الأخلاط» ويوجد في بعضها مكان «يوافق» «يشاكل» وفي بعضها «يشبه» ولا فرق بين هذه النسخ في المعنى. وأمّا قوله «للأخلاط الغالبة» فليس معناه بالواضح. وقد ظنّ قوم أنّه عنى به الأخلاط التي تتحرّك من المعدة لتخرج بالقيء وقال بعضهم إنّه أراد الأخلاط التي تجمد على اللسان وقال بعضهم إنّه أراد الأخلاط التي يسنى بها جرم اللسان. والأجود أن يفهم عنه جميع هذه الأخلاط حتّى يكون قوله في جميع
الأخلاط التي تلقى اللسان على أيّ وجه كان ملاقاتها له. وذلك أنّ اللسان يصير بلون الخلط الذي لاقاه كان ارتفاع ذلك الخلط من المعدة أو كان مسيره إليه في العروق التي منها يقبل الغذاء أو كان من بخار يرتفع إليه فيجمد عليه وحوله من غير أن يكون قد داخل جرمه. «ولذلك صرنا نستدلّ» من اللسان «على الأخلاط» فمتى رأيناه اصفرّ علمنا أنّ المرار المرّ قد غلب عليه ومتى رأيناه اسودّ علمنا أنّ الخلط السوداويّ قد غلب عليه وعلى قياس هذا نستدلّ على سائر الأخلاط مثل ما وصفنا من أمرها قبيل في شرحنا للقول الذي افتتحه بأن قال: «اللسان الأخضر يكون من المرار».
(١٧) قال أبقراط: متى كان المتطعّم للحم يجده مالحاً كان ذلك من فضل.
قال جالينوس: إنّه ليس اللون من اللسان فقط يدلّ على الأخلاط الغالبة لاكن قد يدلّ على ذلك أيضاً المذاق الذي في اللسان. فلذلك قد نجد من كان في لسانه كيموس مرّ خيّل إليه من جميع ما يذوقه أنّه مرّ وإن كان في غاية الحلاوة كما يعرض لأصحاب اليرقان وقوم آخرون يجدون جميع ما يذوقونه «مالحاً» لغلبة الكيموس المالح. وممّا يدلّك على ذلك دلالة بيّنة ظاهرة ما تجده في الأصحّاء فإنّك تجد من ذاق منهم الأفسنتين ثمّ ذاق بعده على المكان شيئاً غيره وجده مرّاً ومن مضغ منهم ملحاً ثمّ أتبعه بشيء آخر خيّل إليه أنّه «مالح».
وكذلك في حالات الأمراض إذا لم يكن اللسان نقيّاً من الفضول وجد طعم الأطعمة التي تؤكل على حسب طبيعة ذلك الفضل الذي فيه وأصحّ ما يعلم به حسّ المذاق أمر الكيموس الغالب على اللسان متى كان الشيء الذي يذوقه الذائق
معرّى من كلّ طعم قويّ. فإن لم يكن كذلك كان ما يحسّه اللسان مخلوطاً مركّباً من طعمين أحدهما طعم الكيموس الغالب على اللسان والآخر المطعم الغالب على الطعام الذي يؤكل. فإنّ من الأشياء التي تؤكل أشياء قويّة الملوحة ومنها مرّة ومنها حرّيفة ومنها حامضة ومنها حلوة فيصير كما قلت ما يجده اللسان متى ذاق شيئاً من هذه الأشياء الذي هو حاصل في اللسان ومن طعم الشيء الذي يلقاه من خارج. ولذلك ذكر أبقراط «اللحم» واقتصر على ذكره فجعله تذكرة له على ما هو نظيره ممّا ليس فيه طعم قويّ كما من عادته أن يفعل في هذا الكتاب.
وقد كتب قوم مكان «المالح» «غير المالح» وزعموا أنّه يعني اللحم الذي لم يجعل فيه ملح وأنّ أبقراط إنّما عنى بهذا القول أنّ أكل اللحم من غير ملح تتولّد منه في بدنه فضول فهم لا يجعلون هذا القول على هذه النسخة: «متى كان المتطعّم باللحم يأخذه غير مالح كان من ذلك فضل». وقد كتب قوم هذا القول على نسخة أخرى وهي على هذا المثال: «〈إن〉 كان المتطعّم باللحم لا يجده مالحاً كان ذلك من فضل» وزعموا أنّ المعنى في هذا القول إنّما هو أنّ الآكل للّحم المملوح إذا لم يجد ملوحته دلّ ذلك على فضل غالب في بدنه مالح. والأجود كثيراً أن يقال في من غلب على لسانه فضل خارج عن الحدّ الطبيعيّ أن يحسّ من الأشياء المالحة أنّها غير مالحة.
ونحن تاركون هؤلاء وغيرهم ممّن تأوّل لهذا القول تأويلاً أكثر من تأويلهم ومقبلون على القول الذي يتلو هذا من أقاويل أبقراط:
(١٨) قال أبقراط: متى كانت حلمتا الثديين 〈و〉الموضع الأحمر منهما أصفر فالوعاء عليل.
قال جالينوس: إنّ صاحب هذا القول إنّما يعني «بالوعاء» الرحم وليس من عادة أبقراط أن يسمّي الرحم «وعاء». وأمّا المعنى في هذا القول فمعنى بيّن وذلك أنّه متى كان شيء من هذه الدلائل التي ذكرها في «الثديين» دلّ على 〈أنّه〉 في الرحم علّة. وقد وصفت لكم مراراً كثيرة أمر المشاركة بين الثديين وبين الرحم.
(١٩) قال أبقراط: وسخ الأذن متى كان في الناس حلواً دلّ على الموت ومتى كان مرّاً لم يدلّ على الموت.
قال جالينوس: لعلّه أن يوجد في الناس من تطبّب نفسه إذا مرض أن يذوق «وسخ أذنه» وأمّا الطبيب فإن يؤمر بأن يذوق وسخ أذن المريض فأمر بليه أقذر. ومن البيّن أنّه لا يمكن أن يكون «وسخ الأذن» في وقت من الأوقات قد صار «حلواً» إلّا في وقت قد نال الدماغ فيه علّة وذلك أنّ من حال ذلك «الوسخ» الطبيعيّة أن يكون مرّاً. ولذلك زعموا أنّ «وسخ الأذن» إذا كان «حلواً» فإنّما يكون عند ذوبان الدماغ. والأصوب عندي رأي من رأى أنّ هذا القول مدلّس في هذا الكتاب وليس هو قول صحيح من أقاويل أبقراط.
(٢٠) قال أبقراط: أصحاب الأمراض الطويلة المزمنة ينبغي أن ينتقلوا عن الأرض التي نشؤوا فيها.
قال جالينوس: إنّ من ينتقل عن بلده إلى بلد غيره كان مسيره في الماء أو على الظهر فإنّ حركته في مسيره تنفعه وينفعه مع ذلك أيضاً تبديل الهواء خاصّة إذا كان انتقاله إلى هواء مزاجه ضدّ المزاج الذي يضادّ ليس مزاج بلد ذلك المريض فقط
لاكن يضادّ مع ذلك مزاج مرضه. وذلك أنّه 〈إن〉 كان مزاج المريض رطباً احتاج أن يكون الهواء الذي ينتقل إليه هواء فيه فضل يبس وإن كان مزاج المريض مزاجاً يابساً احتاج أن يكون مزاج الهواء الذي ينتقل إليه فيه فضل رطوبة. وكذلك يحتاج البدن من الهواء إلى ما فيه فضل برد متى كان مزاج المرض مزاجاً حارّاً ويحتاج إلى هواء فيه فضل حرّ متى كان مزاج المرض بارداً. وكذلك يجري الأمر على التركيب أعني أنّه إن كان المرض رطباً بارداً احتاج إلى هواء حارّ يابس وإن كان المرض حارّاً رطباً احتاج إلى هواء بارد يابس وعلى هذا القياس يجري التركيبان الآخران.
والمنفعة التي ينالها المنتقل من الهواء الذي ينتقل إليه مساوٍ بالمقدار خروجه كان عن الحدّ الطبيعيّ إلى الحدّ الخارج عن المجرى الطبيعيّ. وذلك أنّ البدن الذي زال عن المجرى الطبيعيّ إلى ما هو أبرد منه زوالاً يسيراً إنّما يحتاج من الهواء إلى ما لم يزل عن المزاج المعتدل إلى الحرّ إلّا زوالاً يسيراً وأمّا البدن الذي زال زوالاً كثيراً فعلى حسب ذلك يحتاج من إفراط مزاج الهواء عليه المضادّ لمزاج المرض. وما قلته في مزاج الأمراض فافهمه عنّي في مزاج البلدان. والأشياء المضادّة بالحقيقة إنّما هي الأشياء التي بعدها عن المعتدل المتوسّط إلى الجانبين بعد مساوٍ.
(٢١) قال أبقراط: الأطعمة التي هي في غاية الضعف إنّما لها من العمر مدّة يسيرة.
قال جالينوس: إنّه ليس يمكن أن يفهم عنه من قوله «طعام ضعيف» شيئاً سوى الطعام الذي يكون ما ينال البدن منه من الغذاء يسيراً. والأطعمة التي هي على هذه
الصفة هي البقول وأكثر الثمار التي يحويها قشر صلب. فقال في هذه الأطعمة: «إنّه إنّما لها من العمر مدّة يسيرة» وقد يجوز أن يكون عنى بذلك أن يكون المستعمل لهذه الأطعمة نقص مدّة عمره بسببها ويجوز أن يكون عنى بذلك أنّ تلك الأطعمة أنفسها لا يكون لها بقاء في البدن لاكن تستفرغ منه بسرعة. ومن سوء العبارة أن يسمّي لبث الطعام في البدن «عمراً» للطعام أو «حياة» له لاكنّا قد نجد قوماً قد تأوّلوا هذا القول على هذا التأويل.
وقد كتب قوم هذا القول على نسخة أخرى و〈هي〉 على هذا المثال: «الأبدان التي هي في غاية الضعف إنّما لها من العمر مدّة يسيرة» وهذا المعنى بيّن هيّن لم يبلغ من قدره أن يقصد له أبقراط. وقد كتب قوم آخرون هذا القول على نسخة أخرى وهي على هذا المثال: «الأطعمة التي هي في الغاية من الضعف تجعل المستعمل لها أنّه له من العمر مدّة يسيرة» وزعموا أنّه وإن لم توجد في النسخ هذه الزيادة التي زادوها وهي قولهم «يجعل المستعمل» فقد ينبغي أن يفهم عنه أنّه أرادها وأن كان أدغمها.
(٢٢) قال أبقراط: إذا كانت بإنسان العلّة التي تسمّى «قدما» فينبغي أن تفصد له العروق التي على الأذنين من خلف.
قال جالينوس: أمّا روفس فزعم أنّ هذا الاسم يدلّ على الألم الذي يكون في العضل من جنس الإعياء وأنّ †اولٮر† وغيره من القدماء قد ذكروا هذا الاسم وأمّا
سابنس فذكر أنّ أناقساغوراس استعمل هذا الاسم. وإنّ قوماً زعموا أنّه يعني به وجع المفاصل والنقرس وإنّه يظنّ أنّه عنى بهذا الاسم في هذا الموضع السلع التي تتحجّر في المفاصل وأنّ تلك السلع قد ينتفع صاحبها في وقت نفورها وهيجانها بكلّ فصد يفتصد إلّا أنّ الفصد الذي ينتفع به دون غيره هو هذا الفصد الذي ذكره في هذا الموضع وذلك من قبل أنّ «العروق التي وراء الأذنين» مشاركة للأنثيين. ولقائل أن يقول: لسنا نتبيّن أنّه لم يكن ينبغي أن تكون عروق تشارك الأنثيين ينتفع فصدها من السلع التي تكون في المفاصل لسبب تلك المشاركة لاكن إنّما ينبغي أن يكون في عروق تشاكل المفاصل ينفع فصدها من تلك العلّة التي تكون فيها.
وقد وصفت أمر هذه العروق وبالغت في شرح الفصد فيها في تفسيري لكتاب الماء والهواء والمواضع وبيّنت هناك أنّه يعني بهذا الاسم الذي تقدّم وهو «قدما» الفضلة التي تنصبّ إلى الرجلين فتغيض فيها وخاصّة من الرجلين في المفصل الأوّل وهو مفصل الورك. ولست أقبل هذا القول الذي قيل في فصد تلك العروق على أنّه قول صحيح حقّ ولا أحد من قبله صحّ عنده بالحقيقة. وممّا يدلّ على ذلك ما تراه من فعلهم وذلك أنّك لا تراهم في حال من الأحوال يستعملون فصد تلك العروق في المرضى الذين تصيبهم علّة من تلك العلل.
وقد توانى صاحب هذا القول في عبارة لفظه وذلك أنّه قال: «العروق التي على الأذنين» ولم يكن ينبغي له أن يقول: «العروق التي على الأذنين» لاكنّه إنّما كان ينبغي له أن يقول: «العروق التي تلي الأذنين». وذلك أنّ خلف الأذنين عروقاً
غليظة ذات قدر وأمّا على الأذنين وفي نفس موضعها فلا نجد من العروق إلّا ما هو صغير جدّاً لا يظهر للبصر وفي أكثر الأمر لا يظهر للبصر.
(٢٣) قال أبقراط: الإكثار من الباه ينفع من الأمراض التي تكون من البلغم.
قال جالينوس: ليس «ينفع» ذلك لجميعهم لاكنّه إنّما ينفع منهم من قوّته قويّة فأمّا الضعفاء فإنّهم إذا «كثروا من الباه» وخاصّة وبهم «أمراض من البلغم» صاروا إلى الغاية القصوى من الضعف والبرد فضرّهم ذلك مضرّة عظيمة. وأمّا من كانت قوّته قويّة والحرارة الغريزيّة فيه كثيرة فإنّ «الإكثار من الباه» لا يضعفه ويجفّف الفضل من «البلغم» الذي قد كثر في بدنه. فقد علمتم أنّ الإكثار من استعمال الباه يجفّف البدن كما يفعل السهر من قبل أنّه يزيد في تحلّل الأخلاط. ومتى كانت القوّة قويّة فإنّ الباه يسخن البدن فأمّا متى كانت القوّة ضعيفة فإنّ الباه يسخن البدن في وقت استعماله ثمّ إنّه من بعد يبرّده تبريداً قويّاً.
(٢٤) قال أبقراط: القويّ من الشراب والطعام يثوّر الأبدان التي الأجواف منها حارّة.
قال جالينوس: «إنّ القويّ من الطعام والشراب» قد يجوز أن يعني به ما غذاؤه منها كثير وقد تأوّلنا فيما تقدّم من التدبير القويّ على هذا المعنى. وأمّا في هذا القول فليس ينبغي أن نفهم «القويّ من الشراب والطعام» على هذا المعنى حتّى يكون «القويّ» منهما ما ينال البدن منه غذاء كثير لاكنّه إنّما ينبغي أن نفهم أنّه
يعني «بالقويّ من الشراب والطعام» ما فيه قوّة قويّة من الحرارة مثل البصل والثوم والكرّاث والأنجدان والحلتيت والخمور العتيقة المتقادمة وسائر ما أشبه ذلك. وذلك أنّ المعدة الحارّة قد تضرّها هذه الأشياء أعظم المضرّة وذلك أنّها تزيد في سوء المزاج الغالب عليها وأمّا الأشياء التي هي أضداد هذه فهي من أنفع الأشياء لأصحاب المعدة الحارّة. فقد أعلمناكم مراراً كثيرة أنّ الطبائع التي لا يذمّ منها شيء تنتفع بالأشياء المتشابهة لها المشاكلة والطبائع الرديئة المزاج فإنّها تنتفع بالأشياء التي هي أضداد لسوء المزاج الغالب عليها وكذلك الحال في الأمراض أيضاً.
وقد عمد قوم ممّن فسّر هذا الكتاب إلى ابتداء القول الذي بعد هذا فوصلوه بآخر هذا القول الذي شرحناه حتّى صار على هذا المثال: «القويّ من الشراب والطعام يثوّر على الأبدان التي الأجواف منها حارّة المرّة السوداء». والأمر في هذه الأطعمة والأشربة بيّن أنّها قد «تثوّر» البطن حتّى تطلقه في أصحاب «الأجواف الحارّة». وليس تثوّرها يكون للبدن كلّه على هذا المثال في جميع الأبدان لاكنّها إنّما تثوّر البدن كلّه فيمن كان مزاجه في بدنه كلّه 〈إمّا〉 حارّاً وإمّا يابساً و〈إمّا〉 كان في هاتين الكيفيّتين جميعاً غير معتدل. فيجب من ذلك ألّا تكون تلك «الأطعمة والأشربة تثوّر» على تلك الأبدان «المرّة السوداء» فقط لاكن قد تثوّر أيضاً عليهم المرّة الصفراء. لاكنّ العلّة لمّا كانت المرّة السوداء تجلب من المضرّة على الأبدان إذا هي ثارت عليها أعظم ممّا تجلبه الصفراء لذلك أوحيوا أن يفهم القول على السوداء خاصّة.
وأمّا أكثر المفسّرين فعزلوا هذا القول على حدته على النسخة الأولى وجعلوا ذكر «المرّة السوداء» افتتاح القول الذي يتلوه على ما أنا واصفه بعد:
(٢٥) قال أبقراط: المرّة السوداء يؤول أمرها إلى حال نضج مثل انفتاح أفواه العروق في السفلة.
قال جالينوس: قد قلت قبيل إنّ قوماً قد وصلوا ذكر «المرّة السوداء» بالقول المتقدّم 〈فـ〉ـقالوا: «إنّ القويّ من الطعام والشراب يثوّر على الأبدان التي الأجواف منها حارّة المرّة السوداء». وقد عمد قوم إلى هذا القول كلّه فأضافوا إليه ما تأوّلوه من قول «يؤول أمرها إلى حال مثل انفتاح أفواه العروق في السفلة» وأرادوا أن يكون المعنى في هذا القول على هذا المثال: إنّ القويّ من الشراب والطعام يثوّر على الأبدان التي الأجواف منها حارّة المرّة السوداء على مثل الحال في تفتّح أفواه العروق في السفلة لأنّ ذلك التفتّح أيضاً إنّما يكون عندما تثوّر المرّة السوداء.
وأمّا جلّ المفسّرين فقصدوا ليفسّروا قوله «المرّة السوداء يؤول أمرها إلى حال تفتّح أفواه العروق في السفلة» على أنّه مفرد على حدته وأرادوا أن يكون المعنى فيه على هذا المثال: إنّ المرّة السوداء إذا غلبت على البدن أو كثرت فيه أو ثارت عليه فرجوع ذلك البدن إلى حاله الطبيعيّة يكون بتفتّح أفواه العروق في السفلة.
وأمّا اسطراطونيقوس تلميذ سابنس وهو رجل من أهل مدينتي ومعلّمي فسّر لنا هذا القول على هذه النسخة: «الحال من المرّة السوداء تؤول إلى مثل حال تفتّح أفواه العروق في السفلة» ومعناه في هذا الكلام هو هذا المعنى بعينه الذي قصد
إليه بالكلام الأوّل إلّا أنّه جاء به بشرح أتمّ وأبلغ. والذين يقرؤون هذا الكلام على النسخة الأولى لا بدّ لهم أن يتوهّموا فيه قوّة ما ألحقه اسطرطونيقس في نسخته وذلك أنّهم يريدون أن يفهم من هذا القول أنّ من يتأذّى بالمرّة السوداء فرجوعه يكون إلى الحال الطبيعيّة بتفتّح أفواه العروق في السفلة.
وقد جعل قوم هذا الكلام على هذه النسخة: «من المرّة السوداء نوع شبيه بتفتّح أفواه العروق في السفلة». وقد عمد قوم من أصحاب هذه النسخة فأفردوه عن هذا القول وقرؤوه على حدته ووصله بعضهم بالقول الذي تقدّمه فجعلوا جملة القول على هذا المثال: «القويّ من الشراب والطعام يثوّر على الأبدان التي الأجواف منها حارّة من المرّة السوداء نوعاً شبيهاً بتفتّح العروق في السفلة». وأرادوا بذلك أنّ المرّة السوداء تثور من القويّ من الطعام والشراب وأنّ ذلك النوع من تثوّرها شبيه بالتثوّر الذي يكون عند تفتّح أفواه العروق في السفلة». وقد بان لمن أراد أنّ المعنى في هذا التأويل والمعنى في التأويل الأوّل واحد بعينه.
والأمر في أنّ أصحاب الوسواس السوداويّ قد ينتفعون «بتفتّح أفواه العروق في السفلة» من الأمور التي تظهر بالمشاهدة. وقد رأيت كثيراً ممّن احتبس ما كان يجري منه من أفواه تلك العروق وقد عرض له الوسواس السوداويّ؛ وقد رأيت قوماً منهم ممّن وقعوا في الوسواس السوداويّ لا مرّة ولا مرّتين فقط لاكنّ ثلاث مرار وأربعاً وأكثر من ذلك مع احتباس ما يجري من الدم من أفواه العروق؛ ورأيت قوماً منهم يقعون في هذه العلّة أعني في الوسواس السوداويّ في كلّ سنة وإن لم يتقدّم قبل وقت حدوثها تفتّح أفواه العروق أو شرب دواء ينقص المرّة السوداء أو يستنظفها من الأبدان بالإسهال أو بالقيء حتّى يبلغ له ذلك من المنفعة ما يأمن به من تلك العلّة.
وأكثر من تنفتح منه العروق في السفلة يخرج منه دم أسود لاكنّه ليس جميعهم يخرج منه دم أسود. وذلك أنّ تفتّح أفواه تلك العروق ليس حدوثه عن سبب واحد ولاكنّه ربّما كان عند قصد من الطبيعة لاستنظاف الخلط السوداويّ؛ وربّما كان من الطبيعة بالقصد منها لاستفراغ دم قد كثر في البدن كالذي يصيب من يحدث به الرعاف؛ وربّما كان تفتّح أفواه تلك العروق بحفو من دم غاض إليها من غير أن تكون الطبيعة فعلت ذلك بالقصد منها لمصلحة البدن ولذلك ربّما لم يكن الدم الذي يخرج من تلك العروق أسود. وإذا كان انفتاح أفواه تلك العروق أيضاً بالقصد من الطبيعة لاستنظاف الدم الأسود فقد يعرض في بعض الأحوال بعد استفراغ الدم الرديء أن يتبعه الدم المحمود إن لم تتقدّم فوهة العرق الذي انفتح فتنضمّ قبل أن يكون ذلك ولبثت على انفتاحها مدّة أطول.
فليس قصد أبقراط في هذا الكلام إلى أنّ كلّ تفتّح من أفواه العروق في السفلة إنّما يكون عن المرّة السوداء وإنّما ينبغي أن يتوهّم عليه أنّه قصد إلى تفتّح أفواه العروق في السفلة قد يستفرغ الخلط السوداويّ ولذلك قد ينفع أصحاب الوسواس السوداويّ في وقت حدوثه ويضرّهم في وقت احتباسه. وإنّه ينبغي متى انضمّت أفواه تلك العروق انضماماً ينقطع معه ما يجري منها من الدم في الأوقات التي ينبغي أن يجري منها أن يتلطّف لتفتّحها.
(٢٦) قال أبقراط: في الأمراض التي تكون في النموّ الجماع.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قول ناقص مبتور وذلك أنّه لم يحكم فيه هل ينفع «الجماع» في تلك «الأمراض» أو يضرّ. ولمّا كان جميع المفسّرين قد أجمعوا
على أنّ «الجماع» ينفع في تلك «الأمراض» وفهموا عنه من قوله «الجماع» جماع الرجل للمرأة سوى إيراقليدس الذي من أهل إيروثرا واختلفوا في معنى قوله «الأمراض التي تكون في النموّ» فأنا تارك أقاويلهم وسائر ما أساؤوا فيه وأقصد قصد ما هو عندي أقرب إلى القبول والإقناع فأجرّده وحده وأقوله وهو أنّه يعني «بالأمراض التي تكون في النموّ» الأمراض التي تتزيّد كلّما تمادى بها الوقت ولا تزال تزداد خبثاً إن لم يسبق ذلك تحلّلها وانقضاؤها. وأعرف من الأمراض ما هو كذلك كالنقرس وأوجاع المفاصل وعلل الكلى والصرع والوسواس السوداويّ وجميع هذه الأمراض يضرّ فيها الجماع.
وأمّا سابنس ففهم عنه من قوله «الأمراض التي تكون في النموّ» الأمراض التي تصيب الصبيان ثمّ لا تزال تتزيّد بهم إلى أن يمكنهم استعمال الباه. وذكر تلك الأمراض بأسمائها فقال: «إنّها الصرع وعلّة الكلى وحمّى الربع والصداع» وأردف قوله هذا بأن قال: «وما كان من غير هذه الأمراض شبيهاً بها». وليس نجد من هذه العلل شيئاً يصيب الصبيان خلا الصرع ولذلك سمّى القدماء من اليونانيّين هذه العلّة باسم «الصبيّ» في لسانهم وهو †دَفاتر†. وقد تتولّد في الصبيان الحصاة في المثانة إلّا أنّه ليس تولّدها يكون في كثير منهم كما يصيب الصرع كثيراً منهم فقد يعرض في أكثر الحالات عند انتقال السنّ من حال الصبى إلى السنّ التي تتلوها أن تنحلّ هذه العلّة عن الصبيّ وتنقضي وذلك يكون فيمن لم يخطئ على نفسه منهم كبير خطاء في تدبيره. وأمّا الحجر الذي يكون في المثانة فليس ينحلّ بانتقال السنّ لاكنّه إنّما يكون البرء منه بعلاج الحديد.
وإذ كنّا قد علمنا من غير هذا القول الذي قصدنا لشرحه أنّ الصبيان قد ينتفعون عند انتقالهم سنّهم إلى سنّ الفتيان في علّة الصرع وفي جميع العلل البلغميّة منفعة عظيمة وإن 〈لم〉 يكن مع ذلك الانتقال استعمال الباه وكنّا نعلم مع ذلك أنّه لا تسكن باستعمال الباه لا علّة الكلى ولا حمّى الربع ولا وجع المفاصل [و]ليس نستفيد من هذا القول الذي قصدنا لشرحه إذ كان إنّما هو على طريق اللغز فائدة كما أنّا لا ننتفع بشيء من الأقاويل البتّة التي تجري هذا المجرى.
وإذا نحن قصدنا إلى شيء ممّا نعلمه فرمنا أن نتناول أشباه هذه الأقاويل عليه ونتلطّف لأن يصير موافقاً له أفنينا الدهر بالباطل كما قد أفنينا منه في هذا القول ما أفنينا إذ كنّا لا نعلم بالحقيقة أيّ الأمراض هي الأمراض التي عناها بقوله «الأمراض التي تكون في النموّ». وإن نحن قصدنا إلى أمراض من الأمراض فبيّنّا الأمر على أنّه عناها لم نجدها كلّها ينحلّ باستعمال الجماع ولا كلّها يبرّد بدنه.
فأخلق عليّ بقابيطن وديسقوريدوس أن يكونا فيما فعلاه أشدّ. وذلك أنّهما كتبا هذا القول على هذا المثال: «في الأمراض التي تكون في النموّ الجماع يبرّد» من قبل أنّ هذا القول إذا كان على هذه النسخة لم يكن ناقصاً ولا مبتوراً كالذي كان عليه في النسخة الأولى أيضاً في أكثر هذه الأمراض التي ذكرت استعمال الجماع يبرّد البدن صحيح خلا الصرع الذي يصيب الصبيان. وقد يجوز لقائل أن يقول في هذه العلّة أيضاً إنّه ليس الذي ينال صاحبها من الانتفاع إنّما هو بالجماع لاكنّه إنّما هو بانتقال السنّ فينفع صاحب هذه العلّة من غير أن يكون معه جماع فقد نجد انتقال السنّ ينفع. ولذلك قد يظهر أنّ أصحّ القولين قول من
قال إنّ الجماع كما يجفّف دائماً كذلك قد يبرّد دائماً والمنفعة التي ربّما نالها بعض الناس من الجماع إنّما ينالها بتبريده لبدنه. وذلك أنّ الجماع لا ينفع إلّا من كان في بدنه بخار دخانيّ لغلبة سوء المزاج الحارّ عليه بالطبع فقط فإنّ هؤلاء إذا احتقن فيهم ذلك البخار الدخانيّ فلم يتحلّل ضرّهم ذلك مضرّة عظيمة. فهؤلاء هم الذين ينتفعون باستعمال الباه إذا استعمل في وقت الحاجة إليه وبالمقدار الذي يحتاج إليه.
ونحن تاركون من جاء في تأويل هذا القول الذي قصدنا لشرحه بما لا يتّصل به ولا يوافقه أصلاً مثل إيراقليدس الذي من أهل إيروثرا القائل 〈إنّه〉 إنّما عنى بالجماع إدخالنا على الفضل الرديء ما يقمع رداءته ويعدّله. وتاركون أيضاً ما يباعد عن النسخة الأولى ومقبلون على شرح القول الذي يتلو هذا.
(٢٧) قال أبقراط: البرد يشدّ البطن.
قال جالينوس: إنّ في هذا القول أيضاً شيئين أحدهما نافع لجميع من يتعاطى هذه الصناعة كان من أصحاب التجارب أو كان من أصحاب القياس والآخر ينتفع به من شأنه طلب العلم بأسباب كلّ واحد من الأشياء التي تحدث فقط. وأنا ذاكر أوّلاً الأمر الذي ينتفع به جميع الأطبّاء فأقول إنّ من قوله هذا في «البرد» إنّه «يشدّ البطن» قد فهم عنه جميع من فسّره ممّن عرضته أنّه إنّما يعني «بالبطن» ما يخرج
من البطن بالبراز حتّى يكون هذا القول في المعنى هذا القول الذي قاله في كتاب الفصول. قال: «إنّه متى هبّت الشمال حدث سعال وحلوق وبطون مشتدّة».
وقد ترك المفسّرون أن يبحثوا ويطلبوا هل يعني «برد» الأعضاء الظاهرة فقط الذي يعرض إذا هبّت الشمال أو يعني «برد» الأعضاء الباطنة التي منها المعدة والأمعاء على أنّ بين البردين فرقاً ليس باليسير. وذلك أنّا قد علمنا معشر ما يتفقّد ما يعرض للناس أنّ برد الأعضاء الظاهرة «يشدّ البطن» دائماً فبرد الأعضاء الباطنة يفعل ضدّ هذا وذلك أنّه يلين البطن. وهذا البرد هو الذي ربّما أحدث العلّة المعروفة «بالذرب» وفي ذلك الوقت قد يجوز أن تكون أجرام الأعضاء الباطنة قد ازدادت شدّة وصلابة ويخرج البراز ليّناً من قبل أنّ الطعام لا يستمرأ على ما ينبغي ولا ينفذ إلى البدن. فهذا ما قد يضطرّ جميع الأطبّاء إلى معرفته.
وأمّا السبب فيه فليس يحتاج إليه إلّا من كان في الطبقة العليا من الأطبّاء. وقد قال المفسّرون لهذا القول قولاً في ذلك ليس يصحّ وهو أنّ البرد يجمع ويجمّد ما يلقاه فلهذا السبب يجعله أشدّ وأصلب ممّا كان من قبل. إنّ هذا القول إنّما يصحّ في نفس الأجرام التي ينالها البرد وهي الأعضاء التي في ظاهر البدن. وأمّا «البطن» فلا يمكن أن يبلغ منه «البرد» أن يجمّد الطعام والشراب الذي فيه حتّى يصير إلى حال الصلابة كما يصيب الأشياء التي هي أبرد الأشياء لأنّ الإنسان يموت قبل أن يناله من البرد هذا كلّه. وإنّما يشتدّ ويصلب البراز إذا بردت الأعضاء الخارجة فقط من الهواء من غير أن يكون نال المعدة والأمعاء ضرر بل عند ذلك يكون الجوف
أسخن بالحرارة الغريزيّة كما قال أبقراط: «إنّ الأجواف في الشتاء والربيع تكون أسخن ما تكون بالطبع».
ونجد المفسّرين يقولون دائماً إنّ الحرّ ينافر البرد فيعود إلى عمق البدن إذا نال البرد ظاهر البدن. وكذلك أقول الآن إنّ المعدة إذا تزيّدت حرارتها وقويت واحتبس البراز للسبب الذي أنا قائله بعد قليل انهضم الكيموس الذي يتولّد من الطعام كلّه انهضاماً محكماً ونفذ إلى البدن بأسره وإذا عرض ذلك لزم منه أن يجفّ البراز ويلزم من جفوفه أن «يشتدّ» ويصلب. والشيء الذي «يشتدّ» ويصلب ما يتلقّاه من الأجرام إنّما هو أحد شيئين إمّا ما يبرّد وإمّا ما يجفّف. والسبب من قبل «البرد» لا يعرض فيما يحويه «البطن» للإنسان ما دام حيّاً في حال من الأحوال وأمّا السبب من طول لبث البراز داخلاً إذا كان من غير أن تكون قد نالت الاستمراء ونفوذ الطعام آفة فهو لازم لا محالة.
فقد بقي أن نبيّن ما أخّرنا بتبيينه فنجيء بالسبب الذي له صار البراز عندما يكون الهواء بارداً يلبث في الجوف لبثاً طويلاً. والذي يعرض في تلك الحال هو ما أنا واصفه: أقول إنّ انحدار الطعام في الأمعاء فعل طبيعيّ وقد بيّنت في كتابي في القوى الطبيعيّة أنّه يكون بانضمام الأمعاء على الطعام حتّى تعصره. وعلى الطرف الأسفل من الأمعاء عضل يضمّ المقعدة فهذا العضل عند غلبة البرد يجتمع ويتقبّض فيصير بحال هي ضدّ الحال التي يكون عليها إذا كمّد بالماء الحارّ. وذلك أنّه في تلك الحال يسترخي ويقبل ما ينحدر إلى المقعدة بانضمام الأمعاء على البراز وعصرها له وخاصّة متى استدعى الماء الحارّ ذلك العضل واجتذبه. فقد اتّفق الناس على الحارّ أيضاً أنّ من شأنه أن يستدعي وينسجر ما يخرج من البدن.
فإذا بردت نواحي المقعدة حتّى تجتمع وتنضمّ عرض عارض هو ضدّ العارض الأوّل الذي ذكرت وهو أنّ الفعل الذي تفعله الأمعاء بانضمامها وعصرها يبتدئ من أسفل فيرفع به ما تحويه الأمعاء إلى فوق كما قد نرى كثيراً إذا انحدر إلى المقعدة مرار أو براز لذّاع فحبسناه بالتعمّد إمّا لشغل يكون منّا في ذلك الوقت وإمّا لتعذّر المكان الذي يتهيّأ فيه ذلك. فإنّ الرجيع عند ذلك يرتفع بسرعة إلى فوق حتّى لا يؤاتي إلى الخروج بسهولة وإن اجتهدنا في ذلك الجهد كلّه.
فقد خبّرنا بالسبب الذي له صار الطعام والشراب يبطئان في الجوف متى كان الهواء المحيط بارداً وقد بيّنّا أنّه يلزم من هذا السبب أن يجفّ البراز ويلزم من يبسه أن «يشتدّ» ويصلب. فأمّا الأجرام التي في البطن أنفسها إذا هي «بردت» فإنّه يجب ضرورة أن يدخل الضرر على الاستمراء فإذا كان ذلك فإنّما يجب أن يكون البراز إلى اللين أقرب منه إلى اليبس.
وإذ كنّا قد فرغنا من هذا القول كلّه على النسخة الأولى فإنّا نقبل على نسخ أخر فنكتب عليها هذا القول. واحد تلك النسخ فيها «الجماع يشدّ البطن». وقد قلت إنّ أكثر المفسّرين إنّما يعرفون النسخة التي تقدّم شرحها وهي أنّ «البرد يشدّ البطن». وأمّا هذه النسخة التي وصفنا الآن التي فيها مكان «البرد» «الجماع» فإنّ لوقس فسّرها هذا التفسير وهو قوله بلفظه: «إنّ هذا القول صحيح حقيقيّ وذلك أنّه قد رصد وتفقّد فوجد كذلك». ولم يزدنا لوقس وهو من أكثر الناس كلاماً وأطولهم خطباً على هذا الذي وصفته من قوله في شرح هذا القول شيئاً ولم ير أن يأتي بسبب له صار «الجماع يشدّ البطن» لاكنّه حكم بأنّ هذا الأمر يرى عياناً يكون بهذه الحال وقد أخطأ من قبل أنّه اعتمد على الرصد والتفقّد من غير استثناء ولا شريطة. وذلك أنّ الاستكثار من الباه وإن كان قد اتّفق الناس على أنّه
يجفّف البدن كلّه فإنّا لا نجده يجفّف دائماً الفضول التي تنحدر من «البطن» لاكنّه إنّما يفعل ذلك إذا لم تثقل تلك الفضول على الأمعاء لضعف القوّة الحادثة عن الجماع وبرد الأمعاء التي يكون بها هضم الغذاء ونفوذه إلى البدن.
وقد كتب هذا القول على نسخة أخرى وهي على هذا المثال: «الجماع يبرّد ويشدّ البطن». وأمّا قابيطن فعلى هذا المثال كتب هذا وأمّا جميع النسختين الموجودتين في الكتب التي ذكرت وفسّرهما من تقدّم ذكره من المفسّرين فجعل منهما نسخة واحدة. وأمّا ديسقوريدوس فإنّه جمع أيضاً النسختين جميعاً وخلطهما كما فعل قابيطن إلّا أنّ جمعه إيّاهما كان بضرب آخر من التركيب. وكلاهما يريد أنّه يحدث عن الجماع وعن برودة البطن اشتداده. وقد بيّنّا أنّ اشتداد البطن ليس يكون بسبب البرودة لاكنّه إنّما يكون بسبب اليبس.
وقد تركت في الأقاويل المتقدّمة شيئاً خليق أن يكون استثناؤه في هذا الموضع أجود وذلك أنّي بيّنت أنّ «〈برد〉» ظاهر البدن «يشدّ البطن» ويصلّب البراز. فلعلّ ظانّاً يظنّ أنّ هذا السبب وحده هو الذي يكون به يجفّ «البطن». وليس يكون يبس البطن من هذا السبب وحده لاكنّه قد يكون من ضعف القوّة التي في الأمعاء التي تضمّها على الطعام حتّى تعصره ويكون أيضاً من شدّة القوّة الممسكة والقوّة التي ينفذ بها الطعام عن المعدة إلى الكبد ويكون أيضاً من قلّة حسّ الأمعاء من الغذاء أن أليس معه لذع. فإن ظنّ ظانّ أنّي قد ألغيت ذكر الأطعمة والأشربة القابضة كان في ظنّه ذلك مسيئاً لأنّ هذه الأطعمة والأشربة داخلة فيما يحدث الشدّة للقوّة الممسكة.
(٢٨) قال أبقراط: شارب الخربق إن أردت أن يكون عمله فيه أسرع فينبغي أن تحمّه أو تطعمه.
قال جالينوس: أمّا القول العامّ الشامل لكلّ تنقية فقد أتى به أبقراط في فصل من كتاب الفصول وهو هذا الفصل: «إنّ من أراد أن ينقّي بدناً من الأبدان فينبغي أن يجعل ما يريد أن يجري منه يجري بسهولة». وأمّا في هذا الموضع فذكر ضرباً واحداً من ضروب البدن ليجري بسهولة وهو «الاستحمام» في نوع واحد من أنواع الأدوية المنقّية وهو أقواها. وذلك أنّ «الاستحمام» يذيب الأخلاط وإن كان في البدن موضع قد تمدّد وصلب أرخاه وحلّله. وينبغي أن يكون استعمالك لصبّ الماء الحارّ على بدن «الشارب للخربق» لا من قبل أخذه إيّاه مدّة طويلة ولكن ينبغي أن يكون فعلك ذلك من قبل أن يتناوله. فإنّ فعلك ذلك به في هذا الوقت أبلغ وقد يمكن أن تفعله حين يتناوله. فإن فعلت ذلك الفعل به وقد ابتدأ الدواء يعمل أو قد حان له أن يبتدئ عمله جاذب الدواء الأخلاط التي قد اجتذبتها وميّلها إلى باطن البدن. كما أمر أبقراط فيمن دمه غليظ أن يصبّ على بدنه الماء الحارّ ثمّ يفصد كذلك أمر متى أردنا تنقية بدن من الأبدان أن نستعمل «الاستحمام» حتّى تكون تنقيته أسرع وأبعد من الأذى وأمّا أبقراط فإنّما ذكر في هذا القول «السرعة» فقط.
والأجود أن لا نقتصر على أن يكون صبّنا للماء الحارّ على البدن الذي نريد تنقيته في ذلك اليوم الذي يأخذ فيه الدواء حتّى نستعمل ذلك أيضاً في الأيّام التي قبل ذلك اليوم ما دام يستعدّ للدواء. فإنّ أبقراط نفسه قد أمر بهذا في كتاب الفصول حين قال: «متى أردت أن تسقي إنساناً الخربق فكان ممّن لا يؤاتي فيه عمله بسهولة فينبغي أن ترطّب بدنه قبل ذلك بالغذاء والراحة». فإذا كان يأمر باستعمال الراحة والغذاء ويأمر بالحيلة لترطيب البدن فبيّن أنّه يأمرنا باستعمال «الاستحمام» الكثير بالماء العذب الشروب فإنّ الاستحمام بهذه المياه يرطّب البدن.
وقد أضاف في هذا القول أيضاً إلى ذكر «الاستحمام» ذكر «الطعام». وذلك أنّه يأمر أن «تطعمه» إمّا في الوقت الذي تناول فيه الخربق أو في الأيّام المتقدّمة التي تريد فيها التدبير الذي يصير به مستعدّاً لسهولة عمل الدواء فيه. وقد قلنا إنّ في ذلك التدبير سوى الترطيب جملة أخرى ينبغي أن تقصد إليها وهي تلطيف الأخلاط وتسليس المجاري للأخلاط التي تنحدر إلى البطن. وذلك أنّ هذه الأمور كلّها قد حصرها أبقراط في قوله في كتاب الفصول إنّه «ينبغي أن يجعل ما يريد أن يجري بسهولة».
(٢٩) قال أبقراط: الدم في وقت النوم يفرّ إلى داخل أكثر.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد كتب فيما تقدّم قولاً دخل فيه هذا القول وهو قوله «إنّ ظاهر البدن المنتبه أسخن وباطنه أبرد وأمّا النائم فعلى ضدّ ذلك». وقد شرحنا ذلك القول فيما تقدّم بقدر تفسيري لذلك القول مشتركاً بينه وبين هذا القول. وما فهمته عنّي في حركة الحرارة ونقلتها في وقت اليقظة وفي وقت النوم فافهمه عنّي في «الدم» وذلك أنّ الحرارة الغريزيّة إنّما جلّها في الدم وفيما يغتذي من الدم.
(٣٠) قال أبقراط: النافض من البطن الأعلى والحمّى من البطن الأسفل أكثر.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قول غامض من كلّ وجه وذلك أنّه لم يبيّن البتّة هل يريد أنّ من يبتدئ به «الحمّى» يحسّ أنّ «البطن الأسفل» منه يبرد أو لا أم إنّما يريد أنّ هذه المواضع هي أسباب هذه الأعراض أم إنّما يريد أنّه وإن كان موضع آخر هو سبب هذه الأعراض فإنّ ابتداء «النافض» إنّما يكون «من البطن الأعلى» و[في] ابتداء «الحمّى» يكون «من البطن الأسفل».
وقد اختلف المفسّرون أيضاً في معنى قوله «البطن الأعلى». وذلك أنّ بعضهم فهم عنه من قوله «البطن الأعلى» المعدة وما يتّصل بها من الأمعاء وفهم عنه من قوله «البطن الأسفل» الأمعاء السفل التي تسمّى «قولون». وبعضهم فهم عنه من قوله «البطن الأسفل» هذين الموضعين جميعاً ومن قوله «البطن الأعلى» الصدر. وبعضهم فهم عنه من قوله «البطن الأعلى» الدماغ ومن قوله «البطن الأسفل» جميع المواضع التي بين الترقوتين وبين الوركين. وتسمية هؤلاء الدماغ «البطن الأعلى» خارجة عن جميع ما جرت به العادة.
وأمّا الباقون فقد أخذوا الأسماء مجرى العادة لاكنّهم لم يقدروا ولا هم أيضاً على أن يثبتوا شيئاً صحيحاً لا شكّ فيه. وذلك أنّه قد بقي عليهم موضع شكّ مع الشكوك التي ذكرتها وهو أنّا نحتاج إلى أن نبحث فنعلم هل يعني أنّ كلّ «نافض» إنّما هي «من البطن الأعلى» وكلّ «حمّى» إنّما هي «من البطن الأسفل» كان ذلك بأنّ حسن ابتدائهما إنّما نجده من ذينك الموضعين أو كان حدوثهما من ذينك الموضعين أو كان هذان الموضعان هما سببا النافض والحمّى. والأشبه أن يكون في هذا القول إنّما قاس أعضاء البدن بعضها على بعض ولم يحكم حكماً مطلقاً في كلّ نافض أو في كلّ حمّى حتّى يكون قوله يجري في المعنى هذا المجرى: إنّ الجزء «الأعلى» من «البطن» هو أولى بأن يكون مولّد «للنافض» 〈…〉 والحاسّ بها والمبتدئ بهـا. وذلك أشبه الأشياء وأقربها من القبول والإقناع ولذلك فيما أحسب استثنى في قوله فقال «أكثر» كأنّه إنّما قال قوله هذا على مقايسة تلك الأجزاء من البطن بعضها ببعض فقط.
وإن نحن أيضاً سلّمنا ذلك فإنّه يبقى علينا موضع بحث ومطالبة من قبل أنّا لا نعلم هل يعني أنّه إذا حدث ورم في تلك المواضع تتبعه تلك الأعراض أو إذا انصبّت إليها أخلاط لذّاعة من البدن أو إنّما فسد الغذاء. وأحسب أنّ الأجود أن يتوهّم أنّ قوله هذا إنّما جعله في الضرر الذي تنال تلك المواضع من الأخلاط ومن فساد الطعام. وذلك أنّه متى اجتمع في فم المعدة خلط بارد أو لذّاع من فساد الطعام أو من رداءة كيفيّته أو انصبّ إلى فم المعدة من البدن خلط هو بحال من تلك الأحوال كان ابتداء «النافض» من ذلك الموضع. وذلك أنّي قد بيّنت في قولي في النافض أنّه إنّما يكون عن سبب بارد أو عن سبب لذّاع إذا كان ذلك السبب متحرّكاً جارياً في الجسم الحسّاس بفضل قوّة وسرعة. وكما أنّ هذا قد
نجده يعرض على هذا المكان كذلك قد نجد الحمّى تحدث من فساد الطعام إذا انحدر الطعام الذي فسد إلى أسفل البطن من غير أن يتقدّمها نافض كما يتقدّم النافض إذا كان اللذع واقعاً بما على فم المعدة.
(٣١) قال أبقراط: الجذب الرئة اللهيب اليابس الخاوي يهزّله النوم الكثير.
قال جالينوس: أمّا إيراقليدس فكتب هذا الكلام على نسخة أنا واصفها بعد وقسمه بقسمين وتأوّل الجزء الأوّل منه تأويلاً خصّه به على حدته وقطع الجزء الأوّل من هذا الكلام هذا القطع: «الجذب الرئة اللهيب اليابس». وأوّل الجزء الثاني أيضاً على حدته وقطعه هذا القطع: «الخاوي يجفّفه النوم».
وذكر في الجزء الأوّل أنّ أبقراط يصف فيه منفعة التنفّس وذلك أنّه إنّما عنى «بالجذب» التنفّس. وسمّاه بهذا الاسم من أعظم جزئه خطراً وهو اجتذاب الهواء إلى داخل على نحو ما أقول أنا وذلك أنّ إيراقليدس لم يذكر هذا في تفسيره لهذا القول. فإنّه لمّا كانت الرئة حارّة يابسة لمجاورتها القلب احتاجت لذلك إلى معونة من الهواء المحيط. وأمّا الجزء الثاني من هذا الكلام فذكر أنّ معناه هذا المعنى: «الخاوي يجفّفه النوم» وأنّ معناه في قوله «الخاوي» من قد أفرط عليه الاستفراغ.
وأنا أحمد هذه النسخة التي قسم عليها إيراقليدس هذا الكلام وأذمّ من قسمها القسمة الأخرى التي صار بها الجزء الأوّل منه يقرأ هذه القراءة: «الجذب الرئة اليابسة» والجزء الثاني منه يقطع ويقرأ هذه القراءة: «اللهيب يهزّل الخاوي» لأنّ
جميع الناس يعلم أنّ من أفرط عليه الاستفراغ حتّى دقّ وجفّ يجفّفه الحرّ. وما أثبته أبقراط لنفسه على طريق التذكرة ينبغي أن يكون له معنى عظيم.
وأذمّ أيضاً كذمّي لهؤلاء من زاد حرفاً في اللفظة التي تدلّ على «الخاوي» حتّى صار معناه «المفرط القويّ» فكان معنى القول أنّ «الحرّ المفرط الشديد يجفّف». وذلك أنّ جميع الناس يعلمون أنّ الحرّ الشديد المفرط يجفّف بتحليله للأبدان.
وأمّا الأمر فيمن قد استفرغ بدنه أنّه «يجفّفه النوم الكثير» فإنّك تقدر أن تعرفه بالتجربة التي بها يسير جميع الأقاويل. وتصل أيضاً من قبل التجربة إلى السبيل التي إذا سلكتها صدّقت ما قبل هذا ممّا قد تقدّمت عندك معرفته. وذلك أنّه إن كان الدم والحرارة الغريزيّة في وقت النوم يميلان إلى داخل وفي وقت اليقظة ينتشران إلى خارج فإنّه يحسب أن ينهضم في وقت النوم ما في المعدة والكبد وأن يغتذي البدن كلّه في وقت اليقظة. فمن كان البدن قد استفرغ فإنّ الحرارة الغريزيّة إذا غارت فيه إلى باطنه لم تجد ما تهضمه خمدت وطفئت. وذلك أنّ الحارّ الغريزيّ هو الذي يغتذي مثل سائر ما في البدن كما يغتذي النار من الحطب.
وقد استعمل الوثيقة في استثنائه لمّا ذكر «النوم» بقوله «الكثير» وذلك أنّ النوم القليل يشفي التعب الذي قد نال الإنسان بما تقدّم من الاستفراغ بالإسهال أو بالقيء فإن كانت قد بقيت بقيّة من الأخلاط غير نضيجة في الكبد والعروق الأولى هضمها عن آخرها.
وهذا الجزء الثاني من هذا الكلام ليس فيه شيء من الخطاء وأمّا الجزء الأوّل المكتوب بهذا اللفظ: «الجذب الرئة اللهيب اليابس» فبعيد جدّاً من عادة أهل لساننا في كلامهم. وذلك أنّه كان ينبغي أن يقال بهذا اللفظ: «الجذب إنّما يكون
في مزاج الرئة من اللهيب اليابس» على أن يفهم عنه من قوله «الجذب» اجتذاب الهواء إلى داخل بالتنفّس.
وأمّا قوانطس فإنّه يزعم أنّه ليس لأنّ الرئة حارّة يابسة يصير التنفّس سريعاً متواتراً لاكنّ الرئة تصير حارّة يابسة إذا كان التنفّس سريعاً متواتراً. وذلك أنّه يزعم أنّه لم يعن «بالجذب» كلّ تنفّس مطلقاً لاكنّه إنّما عنى به التنفّس السريع المتواتر فقط. وقد قال أبقراط في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة إنّ التنفّس المتواتر يجفّف الرئة.
وقد غيّر أيضاً قوينطس النسخة القديمة قليلاً كما فعل الرجلان اللذان لا يزال يفعلان ذلك وهما قابيطن وديسقوريدوس وغيرهما من المفسّرين. من ذلك أنّ قابيطن ألحق مع ذكر «اليابس» في هذا الكلام ذكر «الرطب» لأنّه أتبع من زعم أنّه لم يعن «بالجذب» جذب الهواء لاكنّه إنّما عنى به جذب الرطوبة وذلك أنّ الرئة إذا سخنت وجفّت اجتذب إليها رطوبة من الرأس.
(٣٢) قال أبقراط: من أبرد الأطعمة العدس والجاورس والقرع.
قال جالينوس: أمّا «الجاورس والقرع» فهما من «الأطعمة الباردة» وذلك من أمرهما بيّن وإن كانا ليسا من أبرد الأطعمة وأمّا «العدس» فلست أوافق أحداً على أنّه «طعام بارد». وذلك أنّه كما نجد القرع والسرمج والبقلة المعروفة «باليمانيّة» والخسّ والهندباء ومن الحبوب الشعير والجاورس يبرّد وذلك من أمرهما بيّن كذلك نجد العدس على ضدّ ذلك من قبل أنّا لا نحسّ منه تبريد البتّة لا حين نأكله ما
دام في المعدة ولا بأخرة إذا صار إلى الأمعاء الدقاق أو الغلاظ. ولعلّ ظانّاً يظنّ أنّه إذا كنّا قد بيّنّا في كتابنا في الأدوية المفردة أنّ لما طعمه الطعم القابض شيئاً من التبريد فإنّ العدس لا محالة يبرّد. والمتوهّم لهذا قد استثنى شيئاً قلته في ذلك الكتاب وهو أنّ كلّ واحد من الأطعمة والأدوية قد يوجد في ظاهر أمره ويقال فيه إنّه بارد إذا قيس إلى ما نتولّى نحن تهيئته بالتركيب وليس هو بالحقيقة مفرداً كذلك.
ومن ذلك أنّي قد بيّنت من أمر العدس في المقالة الأولى في قوى الأغذية أنّه مركّب من جوهرين متضادّين أحدهما يحبس البطن والآخر يطلقه. والجوهر الذي يحبس البطن من الجوهرين اللذين في العدس بارد أرضيّ والجوهر الذي يطلق البطن منه حارّ ولذلك صار «العدس» طعاماً مجفّفاً وليس هو طعام «بارد» البتّة كما ليس هو طعام حارّ لاكنّه مخلوط منهما متوسّط بينهما أو يكون زائلاً قليلاً عن المزاج المتوسّط إلى الحرارة.
فإذا كان ليس لأحد أن يسلّم في «العدس» على الإطلاق أنّه بارد فأحرى أن لا يكون أحد يسلّم أنّ من «أبرد الأطعمة» حتّى يوضع في غاية البرد. وإذا ضمدنا به أيضاً الأورام الحارّة قد نجده يصدّ الأخلاط عن العضو العليل ويدفعها وبرّدها ومن البيّن أنّه إنّما يفعل ذلك بما فيه من القبض.
ونجد فيه أيضاً شيئاً من القوّة التي تنضج وتفتّح وهذه القوّة لا تكون في الأشياء الباردة. فصاحب هذا القول أبقراط كان أو غيره ممّن ألحق هذا في قوله لا يعلم الصواب من أمر قوّة العدس.
(٣٣) قال أبقراط: إذا تعب الإنسان وبدنه غير نقيّ خرجت به قروح.
قال جالينوس: إنّ ذلك لواجب وذلك أنّا قد بيّنّا أنّ الحرارة عند «التعب» أعني الرياضة تكثر في البدن فترفع الأخلاط من عمق البدن إلى ناحية الجلد وتحلّلها. فإذا كانت الأخلاط قد سبق فاجتمع منها في البدن شيء رديء أكل بحدّته الجلد فأحدث «القروح» كما أنّ الأخلاط إذا كانت غليظة لزجة أحدثت عند التعب سدداً في الكبد والكلى وأحدثت في الجلد عللاً معها أورام.
(٣٤) قال أبقراط: المرأة والعنز إذا تناولت قثّاء الحمار أو عصارته كان بذلك تنقية للأطفال.
قال جالينوس: ليس «قثّاء الحمار» فقط «أو عصارته إذا تناولته» الأنثى يصيّر لبنها سهلاً «للأطفال» الذين يرضعون منها أو يشربون من لبنها لاكن قد يكون ذلك [و]إن تناولت غير ذلك من سائر الأدوية المسهلة. ولا فرق عندي بين أن يقال إنّه يعني أنّ «المرأة إذا تناولت عصارة قثّاء الحمار» أو «العنز إذا تناولت قثّاء الحمار أسهل لبنه الأطفال» وبين أن يقال إنّ كلّ واحدة من «المرأة والعنز إذا تناولت» كلّ واحد من «قثّاء الحمار وعصارته أسهل لبنه الأطفال» وكذلك لا فرق عندي إذا «تناولت» أو إذا «أكلت» أو إذا «شربت».
وهذا القول قول نافع في وجه من الوجوه التي يحتاج إليها في الطبّ 〈وفي رأي من الآراء الطبيعيّة〉. فإنّا متى أردنا أن نسهل الأطفال سقينا أمّهاتهم أو مرضعاتهم شيئاً من أشباه هذه الأدوية أو أطعمنا شيئاً منها عنزاً وسقينا الصبيّ من ذلك اللبن المتولّد بعد أخذ ذلك الدواء حتّى يسهله فينقّى بدنه.
وأمّا منفعة هذا القول في محنة رأي من الآراء الطبيعيّة قد اختلف فيه. فمن قبل أنّ قوماً قد ظنّوا أنّه ليس يبقى في الأغذية من القوى التي كانت فيها منذ أوّل أمرها من بعد أن يستمرأ ويستحيل فيصير دماً شيء البتّة وقال قوم إنّ القوى التي في الأغذية إذا كانت قويّة فإنّها تبقى في الدم المتولّد منها مدّة طويلة حتّى تفوح رائحته من العروق. وقد يشهد هذا القول على صحّة هذا الرأي وذلك أنّا نجد قوّة الشيء الذي تناولته الأنثى باقية في لبنها. وعندنا أيضاً ببلاد آسيا إذا أكلت المعز أغصان السقمونيا صار لبنها مسهلاً وذلك بعينه يعرض متى أكلت العنز اليتّوع. وقد رأينا في بلاد دورس وفي بلاد بووطيا وما يليها من بلاد ثططاليا عدداً كثيراً من الناس اعتراهم تمدّد في عضلهم من أكلهم السمّان لأنّ السمّان تعتلف الخربق واعلم أيضاً أنّه قد أصاب هذا قوماً بأثينيا من استكثارهم من أكل السمّان.
وقد قطع قوم هذا القول عند هذا الموضع وأضاف إليه آخرون شيئاً من الكلام الذي يتلوه وهو قوله «إذا أكل بالحارّ» وقالوا في تأويل هذه الزيادة إنّه يأمر أن يؤكل اللبن وهو حارّ. لم يرض قوم بأن يكون قد قال: «إذا أكل بالحارّ» وهو يريد: «إذا أكل وهو حارّ» لأنّه لو أراد هذا المعنى لقال: «إذا أكل وهو حارّ». وهؤلاء بأعيانهم هم الذين يعزلون هذا الكلام عن الكلام الأوّل ويجعلونه افتتاح الكلام الثاني وأنا مقبل على ذلك الكلام.
(٣٥) قال أبقراط: في الحارّ التبريد من داخل بما يأكل ومن خارج يناله كدّ في الشمس والنار والدثار والوقت الصيفيّ ولضدّه أضداد ذلك.
قال جالينوس: إنّ هذه الأقاويل الغامضة المستغلقة الجارية مجرى الرمز واللغز التي في هذا الكتاب قد تتخلّص من اللوم الشديد بأنّ هذا الكلام لم يجعل في كتاب يتداوله الناس لاكنّه إنّما وجد في تذكرات. ومن كان بعبارة أبقراط خبيراً فقد يظهر له من هذه الأقاويل أيضاً المستغلقة أنّ بعضها حافظة حفظاً بيّناً لمذهب أبقراط ورأيه وعبارته وبعضها على ضدّ ذلك والأمر فيها بيّن أنّها ليست بحافظة لا لمذهب أبقراط ولا لعبارته. ومنها أقاويل متّهمة إلّا أنّه لا يقدر الإنسان أن يقف منها على معرفة صحيحة إلّا أنّ بعضها أزيد تهمة وبعضها أنقص تهمة مثل أقاويل قالها قبل هذا القول وأقاويل قالها بعده غير قليل عددها.
وأمّا هذا القول فقد يخطر بالبال من صاحبه وتهمة بأنّه يعتمد أن يؤلّفه تأليفاً يكون على طريق الرمز واللغز ولذلك عرض للمفسّرين له أن خرجوا في تأويله إلى معاني هي في غاية التضادّ. وذلك أنّ بعضهم ظنّ أنّ هذا القول إنّما قيل في أصحاب المعدة الحارّة فقط وبعضهم ظنّ أنّه قيل في جملة مزاجه حارّ. وكلّ واحد من الفريقين انقسم قسمين فقال أحد القسمين 〈…〉 ويستعمل من خارج الأشياء المسخنة حتّى تعتدل الحرارة في باطن البدن من البرد الذي يصل إليه من داخل وتتحلّل الحرارة الغالبة عليه بالحرارة التي تلقى الشيء البارد لها فقط لاكن قد يبرّدها مع ذلك استفراغ الشيء الذي قد سخن وعلا منها.
فأهل هذا القسم الأوّل يزعمون أنّه إنّما عنى باسم «الكدّ» في هذا القول الرياضة ويعدّون الرياضة في عداد ما يحلّل الحرارة. وأمّا أهل القسم الثاني فيقولون إنّ اسم «الكدّ» في هذا القول إنّما عنى به الضرر. والقبول لقول هؤلاء أولى بخلال
شتّى أمّا الأولى فلأنّهم صادقون في قولهم وأمّا الثانية فلأنّ قولهم ذلك موافق لأقاويل قاله أبقراط في هذا الكتاب وفي غيره من كتبه. وذلك أنّه قال في هذا الكتاب: «إنّ صاحب الطبيعة الحارّة ينفعه البرد وشرب الماء والقرار» ومعنى «القرار» الامتناع من الرياضة الشديدة. فكيف يجوز مع هذا أن يكون أمر في هذا القول صاحب الحرارة بالرياضة وكيف يجوز أيضاً أن يأمره بأن يسخن بدنه «الشمس والنار»؟ وأمّا الاستحمام بالماء الحارّ فقد بيّنّا أنّه يبرّد أصحاب هذا المزاج بتحليله البخار الدخانيّ الذي يولّده المزاج الحارّ وبتندية الأعضاء الثابتة من البدن برطوبة مبرّدة.
فأمّا «النار والشمس» فمسخنان وكذلك الثياب «والدثار والوقت الصيفيّ». وممّا يدلّ على ذلك أنّه قال في كتاب الفصول هذا القول: «أمّا في أوقات السنة فإنّ الصبيان ومن يتلوهم في السنّ يكونون في الربيع وأوّل الصيف على أفضل حالاتهم وأكمل صحّتهم وأمّا المشايخ فتحسن حالهم في باقي 〈الصيف وطرف من〉 الخريف وأمّا المتوسّطون في السنّ فتحسن حالهم في باقي الخريف وفي الشتاء». وإن كان صاحب السنّ الحارّة يكون في الشتاء أحسن حالاً وصاحب السنّ الباردة يكون في الصيف أحسن حالاً فقد يجب على هذا القول أن يكون صاحب المزاج الحارّ أيضاً يكون في الشتاء أحسن حالاً وفي الصيف أسوأ حالاً. فيجب من ذلك أن يكون الأولى ألّا نفهم عنه أنّ صاحب المزاج الحارّ «تناله» معه «من الشمس
والنار والدثار والوقت الصيفيّ» 〈منفعة〉 لاكن يجب أن نفهم عنه أنّه تناله من هذه مضرّة.
واللفظة التي افتتح بها هذا القول وهو قوله «في الحارّ» إذا كان اسم «الحارّ» يحتاج إلى من يفهم موصوفاً به إمّا مزاج وإمّا طبيعة وإمّا بدن وإمّا إنسان فقد علمنا بما وصفه بإزائه أنّ الأولى أن يكون عنى به البدن أو الإنسان ولم يعن به الطبيعة لأنّه لو كان إنّما عنى «بالحارّ» الطبيعة لم يكن بالذي يقول «ولضدّه» لاكن كان يقول «ولضدّها» فيصير جملة قوله على هذا المثال أن «كان صاحب البدن الشديد الحرارة يوافقه من داخل التبريد بالأطعمة والأشربة وتضرّه من خارج الحرارة التي تكون من الشمس والنار والصيف والدثار» ومن جميع هذه تكون الحرارة مع يبس. فأمّا الحرارة المعتدلة التي معها رطوبة مثل حرارة الحمّامات فإنّا قد بيّنّا أنّها تبرّد بالقوّة.
ومن البيّن أنّا في أشباه هذه من الأقاويل إنّما نعني دائماً «بالحمّامات» هذه الحمّامات المألوفة إذا لم نستثن فنقول الحمّامات التي ماؤها من الحمّامات أو من ماء البحر أو من الماء الكبريتيّ أو من الماء الشبّيّ أو من الماء القفريّ أو غير ذلك ممّا أشبهه. وذلك أنّ تلك الحمّامات تجفّف وأمّا الاستحمام بالماء العذب الشروب فإنّه يرطّب بدن المستعمل له ويبرّده.
قال: «ولضدّه أضداد ذلك» وينبغي أن يفهم عنه من قوله هذا أنّه يريد أنّ ما ينفعه ضدّ ما ينفع الأوّل وما يضرّه ضدّ ما يضرّ الأوّل. وقد يحتاج إلى معرفة الأمرين جميعاً أمّا ما ينفع فليختار ويجتبي وأمّا ما يضرّ فليجتنب ويهرب منه. وذلك أنّه إن كان يأمر أصحاب الطبائع الحارّة أن يبرّدوا أبدانهم بالأطعمة والأشربة فمن
البيّن أنّه يأمر أصحاب الطبائع الباردة أن يسخنوا أبدانهم بأضدادها وإن كان قال إنّ أصحاب الطبائع الحارّة يضرّها «الشمس والنار والصيف» فإنّ أصحاب الطبائع الباردة ينتفعون بذلك وتضرّهم أضدادها.
(٣٦) قال أبقراط: الأطعمة منها ما يغلب سريعاً ومنها ما يغلب بطيئاً.
قال جالينوس: لا أعلم أحداً كتب مكان «بطيئاً» «على الضدّ» إلّا قابيطن وحده وذلك أنّه جعل هذا القول على هذا المثال: «الأطعمة منها ما يغلب بسرعة ومنها على الضدّ». والمعنى في هذا القول على النسختين جميعاً معنى واحد وذلك أنّه إنّما يعني به 〈أنّ〉 الأشياء التي تؤكل يخالف بعضها بعضاً فإنّ «منها ما يغلبه البدن سريعاً ومنها ما لا يغلبه البدن إلّا بإبطاء». وينبغي أن تفهم عنه قوله «〈يغلب〉» إنّما يعني به أن يستحيل ويستمرأ ويستقرّ في الأعضاء ويتشبّه بها. وقد لخّصت على الاستقصاء من أمر الأطعمة أنّها تستمرأ «سريعاً» وتستحيل إلى الدم وتغذو البدن وأنّها لا يكون ذلك فيه إلّا «بإبطاء» في ثلاث مقالات وصفت فيها قوى الأطعمة.
تمّت المقالة الخامسة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة السادسة
المقالة السادسة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: اللحم الذي يجتذب من البطن ومن خارج دليل حسّ بتنفّس إلى خارج وإلى داخل.
قال جالينوس: يزعم أنّ «اللحم يجتذب إليه من البطن ومن خارج». أمّا «من البطن» فيجتذب الغذاء الذي يتولّد من الأطعمة والأشربة حتّى يغتذي به وأمّا «من خارج» فليس الأمر بالبيّن على مثل بيان الأوّل هل يعني به أنّه يجتذب غذاء أو يجتذب إليه هواء. وذلك أنّه قد يمكن أن يفهم عنه أنّ اللحم كما يجتذب الغذاء من البطن كذا يجتذبه من المواضع الخارجة إلى باطن البدن على ضدّ الجذب الأوّل وقد يمكن أن يفهم عنه أنّ الهواء ينفذ إلى اللحم بالعروق الضوارب التي تنتهي عند الجلد باجتذاب اللحم به وهذا المعنى الثاني هو ألزم لنسق قوله.
وقد اختلف الأطبّاء والفلاسفة في أمر «الجذب» وذلك أنّ بعضهم قال 〈إنّه〉 ليس يكون جذب البتّة وقال بعضهم إنّه قد يكون جذب لاكنّه ليس يكون الجذب من اللحم. وقد قلنا إنّه ليس يمكن أن نكتب البراهين على جميع أشباه هذه الأقاويل في كتب المفسّرين. وذلك أنّي لو كنت قصدت لهذا لأضطرّ في الأمر أن أذكر الشيء الواحد مراراً كثيرة وإلى أن أكتب من كتب التفسير ما يطول مقداره ويكثر عدده حتّى لا نضبطه الإحصاء بسهولة. وكان أيضاً مقدار عمري لا يكفي لتفسير كتب أبقراط إن ذهبت أن أقصد إلى كلّ واحد من آرائه متى جرى له ذكر فأقيم عليه البراهين في تفسيري لكلّ واحد من أقاويله. ومع هذا فإنّه كان يلزم من يقرأ كتبي منها مشقّة وأذى ويلزم من يريد اتّخاذها أن يحتاج إلى زمان طويل ونفقة كثيرة حتّى يجدها.
فرأيت أنّ الأجود أن أقصد في كتبي للتفسير إلى معنى واحد من الأقاويل فأفسّره وأشرحه وهو هذا العمل الذي يجب على المفسّر وهو مخصوص به. ثمّ أضيف إلى ذلك في كثير من كتبي من الأقاويل أسباب ما يذكره أبقراط على نسق ما قد أقمت عليه البراهين من أقاويله. وأمّا نفس أقاويله التي يعتقدها فلا أقصد في كتبي إلى تفسيرها لتبيّنها بالبراهين لاكن أقتصر على أن أذكرها ذكراً واحداً في أيّ كتاب من كتبي أقمت البراهين عليها كما أنّا مخبر في هذا الموضع بأنّ الأمر في مصير الغذاء إلى الأعضاء إنّما يكون باجتذابها له قد بيّنته في كتابي في القوى الطبيعيّة. وأمّا الأمر في أنّ البدن كلّه «يتنفّس إلى خارج وإلى داخل» فقد بيّنته وأقمت عليه البراهين في المقالة الأولى من هاتين المقالتين اللتين ذكرتهما أنّ الحاجة إلى التنفّس إنّما هي لحفظ اعتدال الحرارة التي في القلب. وبيّنت في كتابي في منفعة
النبض أنّ اعتدال الحرارة في البدن كلّه إنّما يكون حفظه بعمل العروق الضوارب. فهذا ما يكتفي به دون غيره في شرح الجزء الأوّل من هذا القول.
وأنا مقبل على شرح الجزء الثاني منه وهو قوله «دليل حسّ». وهذا الجزء لمّا كان خارجاً على عادة أبقراط ولا على عادة أهل لساننا البتّة رام قوم إيضاحه فبعضهم زاد في ذكر «الحسّ» لامين فكتب «للحسّ» حتّى يكون قوله على هذا المثال: «بيّن للحسّ أنّ بدن الحيوان كلّه يتنفّس إلى خارج وإلى داخل». وأردف هذا القول بالقول الأوّل الذي قال: «إنّ اللحم يجتذب من البطن ومن خارج» على أنّ «الحسّ» يشهد على صحّته ومعنى هذا القول: «لأنّه يشهد على صحّة هذا المعنى ما يظهر لنا ظهوراً مكشوفاً بالحواسّ» لاكن لم يضف إلى ذكر تلك الأشياء التي تظهر لنا هذا عياناً. وقد ذكرنا تلك الأشياء في الكتب التي سمّيناها قبل.
وقد سمعت قوماً من عوامّ الناس يعجبون من شيء عرض لهم عند استحمامهم بالماء العذب الشروب. وذلك أنّهم ذكروا أنّهم قدموا من سفر وقد أصابتهم شمس حارّة فجفّفت أبدانهم وقحلت وجفّت أفواههم غاية الجفوف وأصابهم من الظماء ما لا يقدر. فما هو إلّا أن استحمّوا فسكن عنهم العطش وابتلّت أفواههم ورطبت وكذلك أبدانهم لانت وابتلّت بأسرها وذهب عنها الجفوف الذي كان بها. ومنهم من يزعم أنّه أحسّ إحساساً بيّناً أنّ أبدانهم اجتذبت إليها الماء من الأبزن. فهذا ما يظهر للعوامّ فضلاً عن غيرهم بما يشهد على صحّة هذا القول وهو ممّا يظهر «حسّاً». وقد انبسط الأطبّاء أشياء أخر تدلّ على صحّة هذا من البراهين القياسيّة
وأحد تلك البراهين الذي وصفه أبقراط في قوله الذي يتلو هذا القول وتستعرفونه عند شرحي لذلك القول الذي يتلو هذا.
فأمّا هذا القول الذي كنّا قصدنا لشرحه ففيما قلناه كفاية إذ كنتم قد نصلون بمعرفة ما قلناه من الصواب إلى معرفة ما أخطأ فيه المفسّرون.
(٢) قال أبقراط: العرق الذي هو أسخن بكثرة الدم يولّد الحريق ثمّ يخرجه على المكان.
قال جالينوس: إنّي أريد أن أذكّر أصحابي الذين سألوني وضع هذا التفسير بشيء قد ينتفع به غيرهم أيضاً ممّن يريد أن يقرأ هذا التفسير الذي شرحت به هذا الكتاب لكم مشافهة. وذلك أنّي في شرحي لهذا الكتاب لكم بالمشافهة بيّنت لكم ما كتبه المفسّرون في شرح الأقاويل الغامضة من هذا الكتاب ثمّ أردفت ذلك بأن بيّنت لكم صوابها من خطائها وحكمت فيها بالحقّ الواجب وميّزتها التمييز الذي ينبغي. وأمّا الآن فليس يمكن أن أفعل ذلك لأنّي إن رمت هذا صار تفسيري لهذه المقالة الواحدة من هذا الكتاب في عشرين مقالة أو في أكثر من ذلك.
فرأيت أنّ الأجود أن أقتصر على ذكر ما يثبت أنّه الصواب في شرحي لكم كلّ واحد من تلك الأقاويل بالمشافهة في كثير من الأقاويل وإلغاء ذكر ما قاله قوم في شرحها على غير صواب فيه وربّما ذكرت لك ذلك ذكراً يسيراً على نحو ما تبعثني عليه الحاجة في التفسير. وقد قال المفسّرون في شرحهم لهذا القول الذي تقدّم قبيل أقاويل ليست باليسيرة كما بيّنت لكم كلّها غير موافق لرأي أبقراط ولا لحقائق الأمور فإنّي تارك الأقاويل كلّها وأقتصر على أن أكتب القول الذي بيّنت لكم أنّه أفضل الأقاويل في تأويل كلام أبقراط هذا.
فأقول إنّه يعني «بالعروق» العروق الضوارب وذلك أنّ جميع المفسّرين لكتب أبقراط متّفقون أنّ العروق الضوارب قد يسمّي على الإطلاق باسم «العروق» وليس يسمّيها كذلك كثير غيره من القدماء. قال: فهذا «العرق» إذا هو «سخن بكثرة الدم فيه ولّد الحريق وأخرجه عنه» ويعني «بالحريق» الشيء الذي يتولّد عن الحرارة الشبيه بالدخان من الكيموس الذي يسخن سخونة مفرطة. وهذا الشيء لمّا كان مزاجه مزاجاً حارّاً وقوامه قواماً لطيفاً صار خروجه يكون من العروق بسهولة وسرعة. فهذا التأويل عندي أقرب التأويل من القبول والإقناع إذ كان الغرض في التأويل ينبغي أن يكون الحقّ ويكون مع ذلك موافقاً لأقاويل أبقراط.
وقد بيّنت أنّ هذا القول الذي قلته في هذا الموضع قول حقّيّ في المقالة التي وضعتها في منفعة التنفّس وبيّنت ذلك أيضاً في المقالة التي وضعتها في منفعة النبض. وذلك أنّي بيّنت أنّا ننال باستنشاق الهواء بالفم وبتنافس الجلد كلّه منفعتين أحدهما أنّ الحرارة الغريزيّة تقوى دائماً 〈بما〉 ينالها من التبريد كيما لا تتحلّل فتبيد وخاصّة متى تزيّدت بسبب من الأسباب. والمنفعة الأخرى أنّها تنتعش وتشهّل وتنهض وتقوى في حال ما تثقّلها كثرة المادّة الباردة عليها بمنزلة ما يحدث للنار عندما تروّح. وإنّ هذه الحركة المضعّفة نفسها هي للحرارة الغريزيّة رياضة خاصّيّة ملائمة طبيعيّة تصير بها إلى حال الشدّة والقوّة وذلك أنّ منفعة الرياضة وطبيعتها إنّما هي هذه المنفعة وهذه الطبيعة.
وإنّما كان أبقراط عندما قال فيما تقدّم «إنّ اللحم يجتذب» من الفم «ومن خارج» ثمّ أضاف إلى ذلك أنّ البدن «يتنفّس إلى خارج وإلى داخل» قد بيّن أمر حدوث التنفّس إلى داخل ومنفعته بقوله «إنّ اللحم يجتذب» ولم يقل في التنفّس
إلى خارج شيئاً. فبالواجب وصف أمره في هذا القول الذي قصدنا لشرحه فجعل كلامه في العروق الضوارب وهو قول مشترك يشتمل على القلب إلّا أنّه أقلّ بياناً وظهوراً. وممّا يدلّك على أنّ هذا القول مشترك ما أنا واصفه لك: قد بيّنّا أنّ الفضل الدخانيّ إنّما يتولّد في الدم بسبب الحرارة الغريزيّة ولا سيّما إذا كانت أسخن ممّا ينبغي. وقال 〈إنّ〉 هذا الفضل الدخانيّ يحتاج إلى أن يخرج وقد تلطّفت الطبيعة لخروج ذلك الفضل الدخانيّ أمّا من القلب فبإخراج التنفّس وأمّا من البدن كلّه فبانقباض العروق الضوارب. فأمّا ما يخرج من العروق الضوارب ومن العروق غير الضوارب إذ كنّا قد بيّنّا أنّ أفواههما منفتحة بعضها إلى بعض فإنّه يخرج من منافذ الجلد عندما ينعصر بانقباض العروق الضوارب. وأمّا ما يندفع من القلب من ذلك الفضل الدخانيّ فإنّ الرئة أوّلاً تقبله إذ كانت الرئة جعلت بمنزلة خزانة الريح للقلب وكان القلب يجتذب منها الريح في وقت انبساطها ويدفعها عليها في وقت انقباضها. فهذا قول في هذا الكلام الذي قصدنا لشرحه وسنبيّن بعد قليل القول الذي يتلو هذا القول حافظاً ليتنسّق هذا القول والقول الذي قلته.
وأمّا من ظنّ أنّ هذا القول من أبقراط إنّما جعله في حدوث الحمّى المحرقة فإنّه قد ترك أوّلاً 〈أنّ〉 قوله في أنّ «اللحم يجتذب» ناقصاً إذ كان اللحم ليس يجتذب فقط إليه الشيء الملائم له لاكنّه مع ذلك قد يدفع ويخرج عنه الشيء الذي ليس هو ملائماً. والمنفعة في جذبه ما ينجذب أبين وأوضح وأمّا المنفعة في دفع ما يدفع ويخرجه فهي أخفى ويحتاج إلى قول يصحّحها ويقوّيها.
ثمّ إنّه مع ذلك لا يقدر أن يرينا قوله هذا الذي ادّعاه مشاكلاً لكلّ جزء من أجزاء هذا القول الذي قاله أبقراط من قبل أنّ قول القائل إنّ العروق التي تمتلئ من «الدم تولّد الحريق» قول لازم للقياس وأمّا قوله إنّه «يخرجه» فليس بينه وبين تولّد الحمّى المحرقة نسب البتّة. ولذلك يضطرّون إلى أن يقولوا إنّه عسى أن يكون عنى بقوله «يخرجه» بما يخرج من البدن في الحمّيات المحرقة بالقيء والإسهال وعسى أن يكون بزعمهم قد عنى بقوله «يخرجه» معنى آخر وهو أنّ حدوث الحمّى المحرقة يكون على ضربين أحدهما يكون ابتداؤه من جرم العروق وقد ذكر هذا الصنف من الحمّى المحرقة في الكلام الملحق في كتاب أبقراط في تدبير الأمراض الحادّة والضرب الآخر من الحمّى المحرقة يكون عن الأخلاط فقط من غير أن تكون نالت العلّة الأجرام الثابتة وأبقراط يريد أنّ خروج ما يخرج من البدن إنّما يكون في الضرب الثاني من تلك الحمّى وهو الذي تكلّم به في هذا القول.
وقد قال قوم إنّه إنّما عنى بقوله «يخرجه» لا أنّه يخرج من البدن شيئاً لاكنّه على أنّه يحلّل تلك الحمّى حتّى تنقص. وقد قال قوم آخرون إنّه إنّما عنى بقوله «يخرجه» أي ينقله لأنّ ما يحدث في الأجرام الثابتة يبقى في الموضع العليل ولا ينتقل عنه وما يحدث في الرطوبات ينتقل ويتبدّل من موضعه.
فإذاً القول قولاً غامضاً يجري مجرى اللغز والرمز فجميع من يقول فيه شيئاً أيّ شيء كان فهو معذور اللّهمّ إلّا أن يكون قوله ممّا لا يقبل البتّة ولا يقع فيه. فلنقبل الآن على القول الذي يتلو هذا القول إذ كان هو أيضاً قد يعين بعض المعونة كما قلت قبيل على تمييز التأويل الأفضل.
(٣) قال أبقراط: والدسم يولّد المرّة الصفراء والدم يولّد السوداء.
قال جالينوس: ينبغي أن تكون ذاكراً للقولين اللذين قبلا في الكلام الذي تقدّم تفسيره وذلك أنّا نحن قلنا إنّه يريد أن يبيّن به الحاجة إلى التحلّل. وهذا الاسم يدلّ على نفوذ الهواء من البدن كلّه بانقباض العروق الضوارب إلى خارج ونظيره من الصدر يكون من الفم. وظنّ قوم أنّ هذا القول إنّما قيل في تولّد الحمّى المحرقة وقد قلنا إنّ قول أبقراط «يولّد الحريق ويخرجه» ليس بالشاهد على صحّة قولهم. وذلك أنّ ما ذكروا أنّه يخرج بالقيء والاختلاف في الحمّيات المحرقة ليس يخرج على المكان حين تحدث ولم يكن أيضاً يضطرّ أبقراط شيء من القول في تولّد الحمّى المحرقة إلى أن يضيف إليه شيئاً من الأعراض اللازمة لها. وأمّا تأويلنا فنقول إنّه أجود من هذه الخصال أوّلها أنّه نرى من هذه 〈…〉 والثانية 〈أن〉 يكون أبقراط بحسب ذلك التأويل. وقد وصفت رأيه عن آخره في نفوذ الهواء إلى داخل وإلى خارج الذي قد بيّنّا في كتابنا أنّه ليس يكون بالتنفّس الذي يجري من الفم لاكنّه يكون أيضاً بالتنفّس الذي يخرج من البدن كلّه.
وقد قال قوم إنّ التنفّس إلى داخل يكون ليتولّد منه الروح النفسانيّ مثل ما قال أسقليبيادس. وقال قوم إنّ التنفّس إلى داخل يكون لا لتولّد الروح النفسانيّ فقط لاكن لتوليد الروح الحيوانيّ أيضاً. وقد قال قوم أيضاً إنّ التنفّس إلى داخل يكون ليغتذي منها هذان الروحان واعتاص عليهم الأمر في الإخبار بالمنفعة التي لها يكون التنفّس إلى خارج.
وأمّا أبقراط كما بيّنّا فيما تقدّم ذكره من كتبنا فإنّه وصف في هذا القول الذي نحن في شرحه المنفعة الحقيقيّة التي ينالها بدن الحيّ من التنفّس إلى خارج لا الذي يكون بالفم فقط لاكنّ الذي يكون أيضاً من البدن كلّه. وأمّا من فسّر هذا القول على غير هذا المعنى فحقيق بأن يذمّ وذلك أنّهم أنسوا كتاب من يفسّرون وذلك أنّهم لو كانوا ذاكرين كتاب من يشرحون لما راموا أن يحيّروا قوله إلى رأي قوم آخرين ويدعون أن يشتقّوه على رأي أبقراط. من ذلك أنّ أبقراط جرّد القول فقال: «إنّ اللحم يجتذب من البطن ومن خارج» وبين هذا وبين أن يظنّ أنّ نفوذ الغذاء من البطن إلى البدن إنّما يكون باتّباعه لما يتفرّغ وهو اضطرار الخلاء فرق عظيم جدّاً. فقد كان ينبغي لهم أوّلاً أن يفهموا أمر هذا أنّه ليس في اللحم قوّة جاذبة فقط لما يوافقه لاكن فيه أيضاً مع تلك القوّة قوّة تدفع وتخرج ما خالفه ونافره. وذلك أنّ هذا لازم لقول من قال إنّ الطبيعة تبقى ببقاء بدن الحيّ وسلامته وقد كان أراسسطراطس واحداً ممّن قال بهذا القول. ثمّ قد كان ينبغي لهم أيضاً أن يقولوا ماذا هو الشيء الذي يحتاج إلى أن يخرج عن البدن وذلك أنّه لا يجوز لهم أن يقولوا هو الدم الذي منه يغتذي البدن. وأولائك لم يفعلوا ولا واحداً من هذين الأمرين.
وأمّا أبقراط فإنّه تقدّم أوّلاً فقال إنّ الأشياء التي تظهر حسّاً لتشهد على صحّة كلّ واحد من هذين الأمرين ثمّ ذكر الحاجة إلى التنفّس إلى خارج من البدن كلّه فوصف السبب الذي يولّد ضرورة الفضول الدخانيّة. وذلك أنّ الحرارة التي في بدن الحيوان تولّد دائماً فضولاً هي بهذه الحال تحتاج إلى أن تستفرغ دائماً. ثمّ وصف في هذا القول الذي نحن في شرحه المادّة التي منها تتولّد الفضول. وذلك أنّه كما
أنّ الحرارة الزائدة من شأنها أن تولّد تلك الفضول كذلك هي من الموادّ متهيّئة مستعدّة لتوليدها. فبالواجب ذكر «المرّة السوداء» فقد علمتم أنّ تولّد المرّة السوداء يكون على وجهين إمّا أن يكون من الدم الغليظ وإمّا من المرّة الصفراء إذا احترقت. ولو كان كلامه إنّما هو في تولّد الحمّى المحرقة لكان ذكره «للمرّة السوداء» باطلاً وعبثاً فقد كان من هذا أيضاً أنّ تأويلنا صحيح وهو مع ذلك موافق لآراء أبقراط وأمّا تأويل أولائك فمخالف لآرائه.
وقد قال أبقراط هذا القول بعينه في موضع آخر من هذا الكتاب وقد تقدّمنا فشرحناه. وبعض ما قلناه في شرحه إنّه ينبغي أن يتوهّم عليه أنّه يعني «بالدسم» لا الشيء السمين الشحم فقط لاكنّه يعني به مع ذلك كلّ شيء حلو حتّى يكون قد حصر في هذا القول العسل والطلاء الذي يسمّيه أهل آسيا بلادنا «العقيد» وليس أهل آسيا فقط يسمّونه بهذا الاسم لاكن قد يسمّيه كذلك أهل مدن بلاد دوريس وبلاد أوليس.
(٤) قال أبقراط: من العقل ومن الحفظ ومن الشمّ ومن غيره ومن الجوع من الآلات الاستعمال التعب والأطعمة والأشربة والنوم والباه يكون قصد.
قال جالينوس: إنّ بعض المفسّرين يفسّر هذا القول بعد أن يقسمه بقسمين وبعضهم يفسّره بعد أن يقسمه بثلاثة أقسام وأنا ذاكر أوّلاً ما قاله من قسمه
بقسمين. ومن فعل ذلك فإنّه قطع الجزء الأوّل من هذا الكلام هذا القطع: «من العقل ومن الحفظ ومن الشمّ ومن غيره ومن الجوع» وفسّر معناه على هذا الوجه وزعموا أنّ أبقراط يأمرنا أن نتفقّد «عقول» المرضى وروائحهم حتّى نعلم بأيّ حال هي ونتفقّد أيضاً أمر «الجوع» منهم «وغير ذلك» ممّا أشبهه. ويزعمون أنّ قوله «وغيره» وضع غير موضعه بين ذكره «الشمّ» وبين ذكره «الجوع» والواجب أن يوضع لا في ذلك الموضع لاكن بعد ذكره «الجوع». والأمر عندي أنّهم في قولهم هذا خاصّة لم يبعدوا عمّا يقبل ويقنع وأنا ناظر فيما بعد هل سائر قولهم يجري هذا المجرى.
فقد وصل قوم بهذا ذكره «الآلات» وما ذلك من فعلهم بالقريب بما يقبل ويقنع به. والأجود كان أن يوصل بهذا القول لا ذكر «الآلات» لاكنّ ما يتمّ به المعنى فيه وهو أنّه ينبغي أن تتعرّف أمور المرضى أو تتقدّم بعلمها من هذه الأشياء التي ذكر حتّى يكون قوله على هذا المعنى: إنّه ينبغي لك أيّها المتطبّب أن تجعل تعرّفك لأمور المرضى وسائر عملك بها «من العقل ومن الحفظ ومن الشمّ ومن الجوع وغيره». فإن أضفنا إلى هذا ذكر «الآلات» — وليس يدلّ هذا الاسم إلّا على أعضاء البدن التي تتمّ بها الأفعال — كان أبقراط قد كرّر الشيء الواحد مرّتين. وذلك أنّ حال «الآلات» داخلة في ذكره الأفعال التي ذكرها حتّى يتبيّن من «العقل والحفظ» حال العضو الذي فيه القوى المدبّرة من النفس ويتبيّن من «الشمّ» حال الموضع الذي يحوي حاسّة الشمّ ويتبيّن من «الجوع» حال الموضع الذي فيه حسّ المذاق.
ويشبه أن يكون قوله بعد هذا «وغيره» لم يرد به جميع الآلات لاكنّه إنّما يريد به آلات الحسّ فقط. وذلك أنّه بعد أن قال «وغيره» ذكر «الجوع» وفي أمر الجوع
موضع بحث ومطالبة من أيّ جنس هو هل هو فعل من الأفعال وانفعال من البدن أو حسّ أو شيء مركّب من انفعال أو قوّة وبحسّ ذلك الانفعال. ولذلك ذكر على حدته إذ كان لا يدخل في عداد الأفعال الحسّاسة دخولاً بيّناً ونظير «الجوع» فيما يظهر العطش.
وممّا يخفى على الكثير فعل آخر من أفعال الطبيعة شبيه به يكون في حال التنفّس وليس له اسم يعرف ويتقدّم قصد الحيّ إلى أن ينبسط صدره كما يتقدّم «الجوع» والعطش قصد الحيّ إلى أن يأكل ويشرب. فلمّا كانت هذه الأفعال ليس يكون منها شيء إلّا ناله كان القول بأنّه ينبغي أن تتفقّد الآلات التي تكون بها هذه الأفعال أيّ الحالات هو فضلاً لا يحتاج إليه. وذلك أنّ الوقف على أحوال تلك الآلات ليس يخرج عن تلك الأفعال التي ذكرها التي تكون بتلك الآلات.
وإذا كان الأمر كذلك فخليق أن يكون من وصل بذكره «الآلات» ذكر «الاستعمال» أصوب رأياً وأجود فعلاً حتّى تكون جملة هذا القول على هذا المثال: «من العقل ومن الحفظ ومن الشمّ وغيره ومن الجوع الاستعمال من الآلات» حتّى يكون المعنى في هذا القول هذا المعنى: إنّ استعمال الآلات نافع للناس أعني الآلات التي يكون بها العقل أعني الرؤية ويكون بها من الأفعال من الناس ويكون بها مع ذلك الحفظ والحواسّ والجوع وما هو شبيه به من الأفعال. وذلك أنّهم يريدون أن يكون هذا القول من أبقراط قولاً داعياً إلى استعمال الآلات التي تكون بها الأفعال الطبيعيّة والنفسانيّة.
وقد زعم قوم أنّه أراد «بالآلات» خاصّة الآلات التي أعدّت للحركات الإراديّة. وأوّل هذه الآلات العضل ثمّ بعدها اليدان والرجلان واللسان والحنجرة والصدر كلّه
فهو يشير بأن تستعمل هذه الآلات خاصّة لأنّ العروق الضوارب والأصل الذي تنبت منه وهو القلب ليس يكون فيها استعمال بإرادة لأنّ لها حركة تخصّها طبيعيّة من غير إرادة. ولم يفهم هؤلاء أنّه قد يكون في القلب والعروق استعمال بإرادة عند الرياضة إذ كانت العروق الضوارب والقلب في وقت الرياضة تتحرّك حركة شديدة.
وقد يكتفي بما قلناه من هذا وذلك أنّ قولي أيضاً فيمن قسم هذا الكلام بثلاثة أقسام قد بان ووضح من جهة ما. وذلك أنّهم قطعوا الجزء الأوّل منه هذا القطع: «من العقل والحفظ ومن الشمّ وغيره ومن الجوع» ثمّ جعلوا الجزء الثاني مركّباً من اللفظين فقط على هذا المثال: «الاستعمال من الآلات» ثمّ جعلوا الجزء الثالث بعد هذا باقي ذلك الكلام وجعلوا افتتاحه «التعب والأطعمة والأشربة». وقد فسّر هذا الكلام بقسمين إلّا أنّهم قطعوا الجزء الأوّل منه بعد ذكر «الاستعمال من الآلات» وقد وصفت المعنى الذي ذهب إليه أصحاب النسخة.
وأمّا من جعل افتتاح ما يتلو هذا الكلام ذكره «الاستعمال» فجعلوا القول على هذا المثال: «الاستعمال التعب والأطعمة والأشربة والنوم والباه يكون قصداً». وقد وصل قوم بهذا القول ذكر «الآلات» وجعلوا هذا القول كلّه في معنى واحد على هذا المثال: «الاستعمال من الآلات والتعب والأطعمة والأشربة والنوم والباه يكون قصداً». ومن البيّن أنّ هؤلاء أيضاً قد قسموا هذا الكلام كلّه بقسمين لاكنّهم لم يقسموه على ما قسمه الأوّلون.
وأمّا أنا فأرى أنّ الأجود أحد أمرين إمّا أن يجعل ذكره «الاستعمال» افتتاح المعنى الثاني وإمّا أن يجعل افتتاحه ذكره «للتعب والطعام والشراب». وأنا واصف جملة المعنى في هذه القسمة فأقول إنّه كما كتب في كتاب الفصول إنّ استعمال
الصحّة يعني استقامتها يكون بالامتناع من الشبع من الغذاء أو بترك التكاسل عن التعب كذلك نجده في هذا القول قد ابتدأ على ذلك المثال بذكر «الاستعمال» ثمّ عدّد جميع الأشياء التي يحتاج الأطبّاء إلى معرفتها في حفظ الصحّة باستقصاء أبلغ وقد دلّ بمراتب ذكره ما ذكره في هذا القول على مراتب استعمالها. وذلك أنّه يشير أن «يستعمل» أوّلاً «التعب» يعني الرياضة ثمّ يستعمل بعد التعب «الأطعمة والأشربة» — ولم يقتصر في هذا القول على ذكر «الأطعمة» وحدها حتّى ذكر معها «الأشربة» وقد كان ألغى ذكرها في كتاب الفصول — ثمّ ذكر بعد «الأطعمة والأشربة» «والنوم» 〈…〉 أنّه لا ينبغي أن يستعمل بعد استعمالها — وقد ذكر أبقراط «النوم» أيضاً في كتاب الفصول في موضع آخر — ثمّ بعد هذه كلّها «الباه» لأنّه يشير بأن يكون استعمال الباه آخر هذه كلّها.
وقد أعلمتكم في كتابي في تدبير الأصحّاء أنّ هذا الترتيب أفضل المراتب وأجوده وبيّنت مع ذلك أيضاً في ذلك الكتاب أنّه ينبغي أن يكون المقدار الذي يستعمل من كلّ واحد من هذه الأشياء بأن يقف على المقدار المعتدل حتّى يقدر على ما ينبغي. وأمّا في هذا الموضع كما قلت قبيل فليس ينبغي أن أقصد لإقامة البرهان على هذا وشبهه ولا أن أنقل إلى هذا الموضع علم تدبير الأصحّاء على آخره فأجعله شرحاً لهذا القول لاكن ينبغي أن أقتصر على أن أبيّن أنّ جمل ما كتبناه هناك فقط محصورة في هذا القول.
(٥) قال أبقراط: الذي هو أبرد في الوقت البارد والبلد البارد يصير أسخن.
قال جالينوس: قد اتّفق جميع الناس على أنّه لا يمكن أن «يصير من كان بدنه أبرد» من علّة «في الوقت البارد والبلد البارد أسخن» فلذلك قال آل سابنس إنّ هذا القول إنّما يصحّ فيمن كان في طبيعته أبرد بدناً. وأنا أقول 〈إنّ〉 هذا القول لا يصحّ ولا في أولائك أيضاً إذا قيل مطلقاً من غير استثناء وشرائط والذي يحتاج إليه من الاستثناء والاشتراط فيه حتّى يصحّ هو ما أنا ذاكره: أقول إنّ الشيء البارد الذي يحيط بالبدن من خارج فقد يظهر من أمره حسّاً أنّه يكثّف ما يلي الجلد ويبرّده فأمّا غور البدن فليس يعمل فيه دائماً هذا العمل لاكن ينبغي لنا أن نستثني ونشرط في هذا القول الذي قال فيه: «وربّما أحدث صبّ الماء البارد في علّة التمدّد إذا كان ممّن ليس في بدنه قرحة وهو شابّ وافر اللحم وكان ذلك في الصيف وكان الماء البارد الذي يصبّ كثيراً تراجعاً في الحرارة». وذلك أنّ الشيء البارد الذي يصبّ على البدن إمّا أن يصل إلى غوره حتّى يبرّد الأعضاء التي فيه بمنزلة ما يبرّد ما في ظاهره من الأعضاء وإمّا ألّا يبرّد إلّا ما يلي الجلد منه. فإذا هو وصل إلى غوره برّد الأعضاء التي فيه وأحدث من الضرر في جميع بدن الحيّ أمراً ليس باليسير وإذا بطلت قوّته عند الأعضاء التي في ظاهر البدن فليس لا يبرّد فقط الأعضاء التي في باطن البدن لاكنّه يجعلها أسخن من المزاج الذي كان عليه قبل ذلك بكثير.
وقد ظنّ قوم أنّ قول أبقراط هذا إنّما قاله فيمن الجلد منه وما تحته من اللحم سخيف متخلخل وأنّ أصحاب هذه الحال من قبل أنّ حرارة أبدانهم تحلّل تصير أبدانهم أبرد ولذلك تسخن أبدانهم إذا تكاثف ظاهرها واحتقن الجوهر الحارّ الذي كان يتحلّل منها. وأصحاب هذا القول قد قالوا شيئاً من الحقّ ولاكن لم يكن ينبغي لهم أن يتوهّموا على أبقراط أنّه قال فيمن هذه حاله «أبرد» بدناً. وذلك أنّ أكثر ما يعرض من هذا كما قد أعلمتكم إنّما يعرض 〈…〉 للأبدان الحارّة وإن كانت كذلك من غير رطوبة. وأمّا الأبدان الباردة فليس منها شيء يسرع إليه التحلّل لاكنّها كلّها يعسر التحلّل منها إلّا أنّ ما كان منها رطباً يعسر التحلّل منه أقلّ وما كان منها يابساً فذاك فيه أكثر والأبدان الحارّة أكثر تحلّلاً من هذين كليهما.
ففي هذا المعنى أخطأ أصحاب هذا القول فإن قال قائل إنّ قول أبقراط هذا إنّما قاله فيمن يفرط عليه التحلّل من علّة مثل الذي يعرض لمن يصيبه الغشي كان قوله هذا قول من لم يفهم الألفاظ على حقائقها. وذلك أنّ من عادة أبقراط إذا قال «بدن أبرد وأسخن» أن يعني به غير الذي هو أبرد وأسخن أو إنسان أبرد وأسخن من علّة به وتكاثف الجلد في الأبدان التي يفرط عليها التحلّل إنّما يجعلها أقلّ برداً ممّا كان وأمّا حارّة فليس يجعلها.
(٦) قال أبقراط: للآلام تنقية أقرب البطون وشقّ بطن من بطون الدم والكيّ والبطّ والتسخين والتبريد والعطاس وصبيب النبات حيث تبلغ قوّته والنقيع المؤذية اللبن والثوم والخمر المغلى والخلّ والملح.
قال جالينوس: إنّ أبقراط في هذا الكلام يعدّد أنواعاً من العلاج تنفع من «الآلام» ما كان منها يسيراً وما كان عظيماً كما عدّد في كتاب الفصول أنواع علاج آلام العينين دون غيرها حيث قال: «إنّ آلام العينين يحلّها شرب الخمر الصرف أو الحمّام أو التكميد أو الفصد أو شرب الدواء». وقد أضاف إلى هذه الأنواع من العلاج في هذا الكلام أنواعاً أخر لا توافق آلام العينين.
وأوّل علاج ذكره في هذا الكلام هو «التنقية» وهي التي عناها في كتاب الفصول بقوله «شرب الدواء». فقد أعلمتكم أنّ أبقراط في كثير من كتبه يستعمل اسم «الدواء» وهو يريد خاصّة الدواء الذي ينقّي بالإسهال أو بالقيء أو بغيرهما. واستثنى في هذا الكلام أنّه ينبغي أن تكون «التنقية لأقرب البطون» يعني أقرب المواضع التي فيها فضاء من المواضع التي فيها آلام. وسنبحث عن هذا كيف قاله بعد قليل من بعد أن ننظر ما الذي أراد في هذا القول على ما كتبه من علاج العينين في كتاب الفصول.
فأقول إنّه بعد أن ذكر «التنقية» ذكر «الشقّ لبطن من بطون الدم» وعنى بذلك فصد عرق عظيم. ثمّ ذكر بعد هذا «الكيّ والبطّ» ولم يذكرهما في علاج العين وبالواجب لم يذكرهما هناك. ثمّ ذكر بعدهما «التسخين» وهو علاج عامّ يشتمل على علاجين ذكرهما من علاج العين وقد أحسن في إلغاء ذكرهما هناك كما سنبيّن بعد قليل.
وقد ذكر في علاج العين «شرب الصرف» واقتصر في هذا القول على ذكر «الخمر» عند آخر هذا الكلام لمّا ذكر أنواع علاج «المؤذية» وعنى «بالمؤذي» الخبيثة التي فيها خطر على الحياة. وأمّا عند ذكره علاج سائر الآلام فقد أدخل ذكر «الشراب» في قوله «النقيع» إلّا أنّه لم يفرده.
وكما بيّنت في كتاب الفصول أنّه ليس يستعمل جميع أصناف العلاج التي ذكرها في علّة واحدة من العلل التي تحدث عنها الآلام كذلك أبيّن لكم في هذا الموضع أيضاً بل قد بيّنت لكم ذلك مراراً كثيرة عند قراءتكم عليّ هذا الكتاب وقبل قراءتكم إيّاه في مزاولة أعمال الطبّ التي يجهل أكثر المفسّرين بها. لم يميّزوا ولم يجدوا العلل التي يصلح لها كلّ واحد من هذه الأنواع من العلاج ويفنون أعمارهم بالباطل في المعاني التي دركها في الطبّ يسير أو لا درك فيها البتّة. فإذا جاؤوا إلى معانٍ دركها في الطبّ عظيم تجاوزوها صفحاً من غير تمييز ولا تحديد وألغوا ذكر أنواع من العلاج معها من القوّة ما يجلّ قدره غاية الجلالة. وذلك أنّك لا تجد أحداً منهم في وقت من الأوقات سقى من تمكّن ألم في عينيه خمراً ولا تجد أحداً منهم أدخل من تلك حاله إلى الحمّام كما قد رأيتموني أفعل ولا تجد أحداً منهم ذكر العلل التي ينتفع بها كلّ واحد من هذه الأصناف من العلاج. فبالحقّ الواجب صار عوامّ الناس يقولون فينا جميعاً معشر من يتعاطى كتب القدماء إنّا أحسن مرتبة في الطبّ من المرتاضين المتدرّبين في أعمال الطبّ من غير معرفة بما كتبها القدماء فيها.
فقد رأيت أنّ الأجود أن أدع ذكر المفسّرين وآخذ في شرح باب من الطبّ هو من أشرف أجزائه وأبالغ في تلخيصه وإن احتجت أن أطيل الكلام فيه وأفني من الزمان في ذكره مدّة طويلة لم أتكاسل عن ذلك. فإنّه يقبح أن يكون أولائك
المفسّرون يطلبون اللبث للمطالبات السوفسطائيّة وتجاوزون دائماً المعنى الذي هو من أعظم المعاني دركاً ونتوقّى نحن طول اللبث على المعاني التي فيها أعظم المنفعة والدرك.
فأقول إنّه يظهر لنا عياناً أنّ كلّ ألم من الآلام إنّما يحدث عن علّة تنزل بتلك الأعضاء التي يحدث فيها الألم وأنّه ينبغي أن يكون العضو الذي تنزل به العلّة حسّاساً لا عديماً للحسّ مثل العظم والغضروف والشحم والرباط. وذلك أنّه ليس شيء من هذه الأعضاء التي ذكرتها يألم لا إن كويته ولا إن بططته ولا إن ضغطته ولا إن مددته أو شرحته. وليس لا يألم فقط إذا فعلت به شيئاً من ذلك لاكنّه لا يحسّ البتّة متى حدثت به حال خارجة عن المجرى الطبيعيّ. لاكنّ ذلك ليس يعرض في الجلد ولا فيما وراءه من الأعضاء اللحميّة والعصبيّة والعرقيّة وذلك أنّك ترى هذه الأعضاء كلّها تألم عند نزول العلل التي تقدّم ذكرها بها.
وأسباب الآلام كثيرة كما قلت وذلك أنّا نرى الأعضاء كثيراً إذا بطّت أو نخست أو طعنت أو رضّت أو مدّدت أو ضغطت أو سخّنت تسخيناً قويّاً أو برّدت تبريداً شديداً ينالها من الألم أشدّ ما يكون منه وأعظمه. ويشبه أن تكون العلّة التي يحدث عنها جميع الآلام في الأجسام الحسّاسة إمّا واحدة وإمّا أن لا تكون أكثر من اثنتين. وقد شرحنا أمرهما وبالغت في شرحه في كتب أخر من كتبي.
وإنّ جميع الآلام إنّما تعرض إمّا بسبب تفرّق الاتّصال وإمّا بسبب سوء مزاج مختلف إذا كان عظيماً قويّاً حتّى يقدر الإنسان أن يتثبّت بذلك على طريق ما يقرب من القبول والإقناع أنّه يحدث فيه أعني في سوء المزاج المختلف المفرط
ضرب من تفرّق الاتّصال. ومتى كان الاتّصال قد تفرّق وفرغ تفرّغاً تامّاً حتّى لا يكون بقي من التفرّق شيء إلّا وقد كان وفرغ لم يكن عند ذلك كبير ألم وإنّما يكون الألم على أشدّ ما يكون عليه ما دام التفرّق. وقد يحدث لا عندما يبطّ عضو من الأعضاء ويكوى فقط لاكنّه قد يحدث أيضاً عندما يؤكل من أخلاط البدن وعندما يمدّد قسراً. وذلك أنّ الشيء إذا مدّد هذا التمديد ثمّ دام به ذلك لم يؤمن عليه أن ينفطر. وأمّا ما كان من الليف الرقّة والضعف عليه أغلب فكثيراً ما ينهتك إذا مدّدت الأعضاء هذا التمديد ولذلك نجد الأعضاء التي تمتلئ حتّى يبلغ منها الامتلاء أن يمدّدها قسراً إلى جميع النواحي ينالها ألم شديد.
وكذلك الأعضاء التي ترضّ وذلك أنّ بعض ما فيها ينفطر كما قد يدلّ ما يستكنّ تحت الجلد من الدم. وذلك أنّه لا يمكن أن يكون هذا دون أن يكون بعض العروق التي في ذلك العضو الذي ناله الرضّ [و]قد تصدّع. فإذا كان تأكّل قد حدث في عضو من الأعضاء من أخلاط حرّيفة أو حامضة وبالجملة لذّاعة تعقب عند ذلك التنقية وذلك أنّها تستفرغ الأخلاط التي عنها كان حدوث العلّة.
«والتنقية» هي أولى ما ذكره أبقراط في هذا الكلام الذي قصدنا لشرحه فأمر أن نقصد «بالتنقية لأقرب البطون» من موضع العلّة ليكون انتزاع الداء من ذلك الموضع بسرعة. ويعني «بالبطن» كلّ تجويف عظيم وهذا التجويف يوجد في
جميع الأمعاء وقبل الأمعاء في المعدة وفي الصدر وفي المثانة أيضاً والرحم من التجويف ما ليس هو باليسير. ومن «تنقية البطون» أيضاً التنقية التي تكون بما يجتلب من البلغم من الفم ممّا يمضغ أو ممّا يتحنّك به أو ممّا يتغرغر به والتنقية التي تكون بما ينقّى به الدماغ من المنخرين بما يردها من السعوط وغيره وذلك أنّ مجريي الأنف ينفذان إلى بطون الدماغ.
وكما أنّ الأخلاط اللذّاعة من شأنها أن تستفرغ بهذه الأصناف من التنقية كذلك أيضاً الأخلاط الباردة. وذلك أنّ هذه الأخلاط أيضاً تحدث آلاماً شديدة إمّا بسبب سوء مزاج منها مختلف وإمّا بتوليدها رياحاً غليظة نافخة ليس لها منفذ. ومتى ما نال عضواً من الأعضاء ألم شديد من تمدّد عرض له بسبب كثرة الدم فيه كالذي يعرض في الأورام الحارّة فينبغي عند ذلك أن يفصد عرقاً عظيماً قريباً من موضع العلّة حتّى يتفرّغ به الدم بسرعة من الموضع الممتلئ. ومن البيّن أنّه متى كانت إنّما هي من كثرة الأخلاط فقط فإنّ شفاءها يكون بالفصد ومتى كانت العلّة إنّما هي من رداءة الأخلاط فقط فشفاؤها يكون بالتنقية فقط ومتى اجتمعا
كلاهما أعني كثرة الأخلاط ورداءتها فينبغي أن تستعمل العلاجين أعني الفصد والتنقية ويكون استعمالك للفصد أوّلاً ثمّ من بعده التنقية.
ولذلك كتب أبقراط في «التنقية» أنّه ينبغي أن يقصد بها إلى «أقرب البطون» من موضع العلّة لأنّ من عادته أن يكتب علاج كلّ واحد من العلل على حدتها مفردة وذلك أفضل الطرق وأحكمها. وذلك أنّه إذا وصف علاجها على هذا الطريق قدر من كان له عقل متى اجتمعت علّتان أو ثلاث علل في إنسان واحد أن يستعمل أصنافاً من العلاج ما يوافقها كلّها.
وقد عدم قوم هذا العقل وتعمّدوا التجاهل فاعتدوا على أبقراط فذمّوه في كثير من أقاويلهم كما يهون في هذا القول عليهم أن يثلبوه ويذمّوه فيما أمر به من القصد «بالتنقية» التي هي «أقرب البطون». وذلك أنّه متى كانت في البدن كثرة من الأخلاط ثمّ قصد بالتنقية البطن القريب من موضع العلّة كان اجتلابنا إلى موضع العلّة أكثر من استفراغنا له منها مثل أن تكون العلّة في العينين فنقصد بالتنقية إلى الفم أو تكون العلّة في الكلى فنقصد بالتنقية إلى المثانة أو تكون العلّة في الأمعاء فنقصد بالتنقية إلى البطن من المقعدة أو تكون العلّة في المعدة فنقصد لها بالتنقية بالقيء أو تكون العلّة في الصدر والرئة فنقصد للتنقية بالأدوية التي تهيّج السعال أو تكون العلّة فيما يلي الدماغ فنقصد لتنقيته من المنخرين بما يردهما من السعوط وغيره. وهذا وإن كان هكذا فإنّه متى كان إنّما هو في موضع العلّة رداءة من
الأخلاط فقط من غير كثرة منها في البدن ثمّ قصدت بالتنقية إليه من أقرب المواضع كان الانتفاع بها أسرع من الانتفاع الذي يكون بالتنقية من موضع أبعد.
وليس أحد عانى أعمال الطبّ وشاهدها يأبي أنّه ينبغي أن يقصد بالفصد عند حدوث الألم في الأعضاء إلى العروق القريبة منها وأنّه ينبغي أن يفصد منها أعظمها. والأمر أيضاً في أنّ القياس يدلّ على أنّ الدم الذي يحدث الورم يميل إلى العروق القريبة منه ويجري إليها بيّن عند من كان لا يستعمل الإلظاظ والمشاغبة لنكر فيه أو محبّة الغلبة ونصرة الرأي ولا كان †ٮمده† عديم عقل. فقد شرحت الصنفين الأوّلين من العلاج شرحاً تامّاً على أيّ وجه ذكرهما أبقراط وأنا مقبل على الأصناف من العلاج الذي يتلوهما.
وأوّل ما ذكر من تلك الأصناف «الكيّ» وهذا العلاج يستعمل في المواضع التي ينزل بها من العلل أمر عظيم بسبب أخلاط رديئة كثيرة كالذي يكون من القروح في أخبثها حتّى ربّما كويناها بالحديد المحمى بالنار وربّما كويناها بأدوية محرقة. وذكر بعد «الكيّ» «البطّ» وهذا العلاج أيضاً يسكّن الألم في المواضع التي قد اجتمعت فيها مِدّة كثيرة مستحكمة بعقب أورام متقدّمة من الأورام الحارّة العظيمة.
〈وذكر〉 بعد ذكر ذلك «التسخين» ومن البيّن أنّ «التسخين» يكون بالحمّام وبالتكميد وقد أخذتم عندي في ما يعدّ موادّ التكميد وما ينبغي أن يستعمل منها
في علّة علّة من العلل التي يكون معها «الألم». مثال ذلك أنّه ينبغي أن يكون التكميد لنواحي الصدر بما ذكره أبقراط في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة 〈و〉ينبغي أن يكون التكميد للعينين بإسفنج ليّن لأنّ هذا العضو لا يحتمل التكميد بالكيس الذي يجعل فيه الجاورس أو الشعير أو الملح ولا التكميد الذي يكون بالأضمدة. وصبّ الدهن السخن أيضاً على المواضع التي في وسط البدن وعلى الرأس قد يكون به شفاء آلام تلك المواضع وهي من جنس «التسخين» والتكميد وكذلك صبّ الماء على اليدين والرجلين. واستعمال «التسخين» في الأعضاء التي ينالها الألم كثيراً جدّاً دائم عند الأطبّاء لأنّه يرخي المواضع المتمدّدة ويستفرغ المواضع الممتلئة ويسخّن المواضع التي قد أفرط عليها البرد.
وأمّا «التبريد» فاستعمالنا له في الأعضاء التي يصيبها الألم أقلّ من قبل أنّه يكثّف سطحها الظاهر ولذلك يمنعها من التحلّل ويزيد في تمدّد المواضع المتمدّدة. فليس يشفي «التبريد» إلّا سوء المزاج الحارّ الذي يكون من غير 〈…〉 التلهّب من الحمّى. ومن ذلك أنّا إذا غرّقنا تلك المواضع بدهن ورد كثير سكّنّا عنهم ما كانوا يجدون من الألم. والأورام أيضاً المعروفة «بالحمرة» إذا كان معها ألم لإفراط الحرارة فيها قد نداويها بالأدوية المبرّدة وكذلك أورام النقرس إذا كانت المادّة الذي انصبّت إلى القدمين حارّة من جنس المرار.
ثمّ ذكر بعد ما تقدّم ذكره «صبيب النبات حيث بلغ قوّته» ومعنى هذا القول أيضاً فيما أحسب هو ما أنا واصفه: يقول إنّ «صبيب النبات» قد يكون منه في بعض الأحوال شفاء الآلام. وأنواع «الصبيب» كثيرة جدّاً منها باقية على رطوبتها ومنها ما يجمد أوّلها الزيت وقد يبلغ لنا من المنفعة في شفاء المواضع التي يحدث فيها الألم وتسكينها مبلغاً كثيراً جدّاً إذا نحن استعملناه بعد أن نسخّنه ثمّ من بعد أدهان أخر كثيرة تسخّن أكثر ممّا يسخّن الزيت مثل دهن الغار والقطران ودهن الخردل ودهن الفجل فهذه كلّها رطبة سيّالة. ومن الجامد ما هو أكثر جموداً ومنها ما هو أقلّ وهي أصناف عروق الشجر التي يدخل فيها العلك والراتينج والمصطكى والقلفونيا وخاصّة بما كان من هذه العروق يجري من الشجر من تلقاء نفسه والفربيون والأفيون وجميع أصناف لبن الشجر ومنه الحلتيت الذي يجلب من بلاد قورني والذي يجلب من بلاد خراسان والذي يجلب من بلاد ماذية والذي يجلب من بلاد الموصل والسكبينج ولبن اليتّوع والجواشير. من هذا الجنس أيضاً القنّة وأشياء أخر كثيرة وقد وصفتها لكم في كتابي في قوى الأدوية المفردة. وذلك أنّ ما كان من هذا الجنس لبن شجر من الشجر أو كان عصارة نبات من النبات فهو داخل في اسم «الصبيب» محصور فيه. ومن هذا الجنس أيضاً الزفت الرطب المعروف «بصير الزفت» والنفط الذي ببلاد قليقيا المعروف «بدهن الدخان» وأصناف كثيرة غير ذلك منها حشائش ومنها من أشجار ما صغر منها وممّا عظم وقد يشتمل على هذه الأجناس كلّها اسم «النبات» الذي ذكره أبقراط في هذا القول حين قال: «وصبيب النبات».
واستثنى فحدّد ذكره هذا فقال: «حيث يبلغ قوّته» إلّا أنّ قوله هذا لوجازته غمض واستغلق. فبالواجب اختلف فيه المفسّرون ولم يقتصروا على أن تأوّله كلّ
واحد منهم على غير ما تأوّله الآخرون حتّى غيّروه عمّا وجده عليه كلّ واحد منهم على حسب ما يلائم تأويله. فكيما لا يطول كلامي في شرحه فإنّي تارك هؤلاء المفسّرين مقتصر على ما أتوهّم أنّه أقرب التأويل من القبول والإقناع. فأقول إنّ الأدوية التي من شأنها تسكين «الألم» كما أنّ واحداً واحداً منها تخصّ قوّته علّة من العلل المؤلمة غير العلّة التي تخصّها قوّة غيره كذلك كلّ واحد منها تخصّ قوّتها واحدة من الأعضاء غير العضو الذي غيره من الأدوية تخصّه قوّته.
ولمّا كان هذا القول أطول من أن يحتمله كتاب تفسير رأيت أن أوجزه وأبيّنه بمثالات قليل عددها فأجعل مثالك الآن العلل المؤلمة لا يحتاج كلّها إلى أدوية بأعيانها هذا المثال: متى كانت رطوبات لذّاعة في الأمعاء فاحقن أوّلاً بما يغسلها مثل ماء العسل وماء الشعير حتّى إذا خرجت تلك الرطوبات اللذّاعة حقنّا بما يسكّن اللذع وأمّا من شأنه أن يغذي ويلصق بالسطح الباطن من الأمعاء حتّى يغشيه ويغرّيه. وذلك أنّ هذه التغرية تصير وقاية له مانعة من أن تلتقي الأمعاء الأخلاط اللذّاعة التي تنحدر إليها من فوق وتطعمهم من الأطعمة ما يولّد كيموساً محموداً وهو مع ذلك بعيد من أن يفسد.
ومتى كانت الأخلاط هي بهذه الحال في المعدة وخاصّة في فم المعدة فإنّا نأمر أوّلاً بالقيء فإن كان العليل ممّن يعسر عليه القيء حسّيناه دهناً على حدته أو مضروباً مع ماء أو غير ذلك ممّا أشبهه ثمّ أمرناه بالقيء. فإذا استنظف وضعنا على معدته من خارج شيئاً ممّا فيه قبض وليس رائحته بالكريهة وأوردنا على معدته من
داخل من الأغذية ما يولّد كيموساً محموداً وهو مع ذلك بعيد من أن يفسد وفيه شيء من القبض.
ومتى انصبّ إلى العينين شيء ممّا هذه حاله من الأخلاط ثمّ كان في البدن كلّه فضل من الأخلاط الرديئة تقدّمنا أوّلاً بالتنقية للبدن. وإن كان الدم كثيراً فصدنا له العرق الذي في مأبض اليد من الجانب الوحشيّ الذي يسمّونه «الكتفيّ» وهو القيفال ثمّ استعملنا بعد دواء من الأدوية التي هي في غاية اللين وغاية البعد من التلذيع ومنعناه معه من الطعام نهاره كلّه ثمّ أدخلناه إلى الحمّام بالعشيّ.
فإن لم يحتج إلى التنقية بالإسهال ولا إلى الفصد استعملنا بعض الأدوية التي ذكرتها ثمّ الحمّام بعدها كما قد علمتم منّي أنّي أداوي أمثال هذه الأورام. وليس نحقن الأمعاء عندما يحدث فيها اللذع بشيء من الأكحال ولا نصبّ في العينين ماء الشعير الذي يعرف «بإيطراغس» ولا شحم الماعز ولا شحماً مذاباً بدهن بعيد من التلذيع أو غير ذلك ممّا أشبهه ممّا يحقن به من المقعدة.
وقد يكتفي هذا المقدار من التمثيل ليدلّ على أنّ العلّة الواحدة ليس تحتاج إلى أدوية بأعيانها إذا كانت في أعضاء مختلفة. وذلك أنّ غرضنا في هذا الكلام أن نبيّن على أيّ معنى قال أبقراط: «وصبيب النبات حتّى يبلغ قوّته» يعني «حيث يبلغ قوّة» كلّ واحد من أصناف ذلك «الصبيب». وذلك أنّه يجب ضرورة أن تفهم عنه من قوله «حيث يبلغ قوّته» إمّا حيث يبلغ من الأعضاء أو حيث يبلغ من العلل أو حيث يبلغ من جهة الاستعمال. وأعني «بجهات الاستعمال» أن يكون الإنسان يقصد لقطع السبب الذي بسببه حدث الألم في العضو العليل أو يقصد لتحليل ما
يتولّد عنه من الريح الغليظة النافخة. وهذا أيضاً قد نفعله على وجهين إمّا بأن نلطّف غلظه ونرقّقه ونذهب عنه الحال التي بها ينفخ وإمّا بأن نسخّف العضو الذي تجري تلك الريح ونوسّع مسامّه.
وقد يكون من تسكين الوجع وجه آخر غير هذه الوجوه بإخدار الحسّ من العضو الذي فيه الألم ويحتاج في هذا الوجه من الفهم والفطنة إلى أمر ليس باليسير حتّى يخلطه بالدواء المخدر غيره ولا يستعمله مفرداً وحده. فما يذهب على أحد من أمر الدواء المنسوب إلى فيلن ويسمّى «الفلونيا» أنّ سكون الألم إنّما يكون عن إخداره الحسّ والذي يفعل ذلك الخدر ممّا في الدواء هو لبن الخشخاش وهو الأفيون وبزر البنج. وإن أنت استعملت هذه الأدوية على حدتها مفردة فكان مقدارها مقداراً يسيراً جدّاً لم تقو على تسكين الألم وإن كان مقدارها المقدار الذي هو أكثر قويت به على تسكين الألم وحدث عنها من الضرر في العضو العليل مقدار ليس باليسير. فكيما لا يضرّ بذلك العضو كبير مضرّة ويخدر الحسّ تلطّف خلط بتلك الأدوية غيرها ممّا خلطه بها. وقد وصفت في كتابي في تدبير الأدوية أيّ الطرق هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه من أراد هذا الضرب من تهيئة الأدوية.
وقد يكتفي بما قلنا من هذا الباب فلننظر الآن فيما قيل بعد هذا وأوّل ما ذكره بعد هذا «النقيع». وقد أعلمتكم في تفسيرنا لكتاب الفصول أنّ الخمر الصرف يسكّن آلام العينين التي تكون عن سدّة. وأمّا الآن فتذكروا ما رأيتموني كثيراً في
سائر الآلام التي تكون على هذا الطريق فربّما كانت من غلظ الدم وربّما كانت من برد من الآلام التي تكون في البطن وفي الآلام المعروفة «بالشقيقة» من أنّ الخمر إذا شربوها وهي إلى الصروفة أميل تنفعهم على المكان منفعة بيّنة ثمّ يتبع ذلك نوم فيسكن بعده الألم سكوناً تامّاً. وقد رأيتموني أسقيهم الخمر لا على الريق لاكن بعد الطعام وأمّا في هذا القول فإنّ أبقراط خلطهما جميعاً أعني الشراب والطعام. فإنّ «النقيع» إنّما هو شيء مركّب من طعام وخمر كما قد أعلمكم ذلك أوميرس بقوله فيه. وكلّ واحد ممّن يتّخذ هذا «النقيع» يخلط بالخمر شيئاً من الطعام غير ما يخلطه غيره إلّا أنّه يعمّ جميع أصناف ما يتّخذ منه أنّها كلّها إنّما تتّخذ بالخمر.
وخليق أن يكون لقائل أن يقول إنّ خلط سويق الشعير بالخمر واجب ضرورة في عمل «النقيع» وأمّا خلط سائر ما يخلط في هذا الذي يسمّيه القدماء باسم «النقيع» فليس بالواجب ضرورة ويتبيّن أنّ الأولى أن يكون استعمال هذه اللفظة على هذا المثال. وقد أمرت مرّة بعض من وجد شيئاً من أشباه هذه الآلام باستعمال الخمر 〈…〉 كيما أصحّح ظنّي فرأيته كما كنت توهّمت قد هيّج عليه ألمه
بسبب بخار كثير حارّ ارتفع دفعة إلى الموضع العليل فلزمه بسببه سوء مزاج مختلف وامتلاء في ذلك العضو. وقد بيّنت لكم أمّا من أمر الامتلاء فإنّه إنّما يحدث الآلام في الأبدان الضعيفة بأن يمدّد الأجسام إلى كلّ جهة وأمّا من أمر سوء المزاج المختلف فمن قبل أنّ بعض أجزاء العضو يكون باقياً على الحال الطبيعيّة وبعض أجزائه يلقى تلك الأجزاء وقد غلب عليها البرد وذلك أنّه يتأدّى إلى الأجزاء التي هي على الحال الطبيعيّة من الأجزاء التي هي على حال خارجة عن المجرى الطبيعيّ من البرد ما يؤذيها.
وأمّا العضو الذي قد برد كلّه بأسره حتّى صار هذا المزاج كأنّه حال ثابتة فيه فإنّ صاحبه لا يجد فيه ألماً. وذلك أنّ أبقراط قد قال: «إنّ الألم إنّما يحدث في الأجسام التي تستحيل وتتغيّر وتفسد» لا في الأجسام التي قد استحالت وفرغت. فالخمر قد كان ظنّي بها أنّها إذا شربت مفردة وحدها من غير طعام ضرّت ثمّ لمّا جرّبتها بعد فوجدتها تفعل ذلك تأكّد بما جرّبته منها ذلك من أمرها عندي وازداد صحّة وثباتاً.
وأمّا «النقيع» فليس يمكن أن يضرّ لأنّ الطعام فيه مخلوط بالخمر. وذلك أنّه باختلاطها فيه على الاعتدال تحدث عنه سخونة مستوية في جميع أجزاء العضو الآلم ونفوذاً قليلاً قليلاً من غير بخار كثير فتسخن تلك الأجزاء التي قد أفرط عليها البرد وتحلّل السدد من المواضع التي لحج فيها الفضل. وذلك أنّ تلك الفضول التي كانت غاضت ولحجت لغلظها في مواضع 〈…〉 من العضو العليل من
قبل أنّها هي ترقّ وتنحلّ والأجسام التي تحيط بها تسخف وتتّسع مسامّها وهذه الأحوال من شأنها أن تحدث عن الأشياء التي تسخن إسخاناً مستوياً.
«والعطاس» أيضاً الذي ذكره بعد «التبريد» فقد نجده عياناً يشفي الصداع الذي يحدث عن كثرة رياح غليظة نافخة تسكن في الرأس. فقد بيّنت أنّ جميع هذه الأشياء التي ذكرها إلى أن ذكر «النقيع» لازمة للغرض الذي قصده منذ أوّل الأمر وقد أساء المفسّرون في تقطيعهم هذا القول وتصييره أقاويل كثيرة ليس فيما بينها تناسب.
وأنا منذ الآن آخذ في شرح الكلام الذي قيل بعد هذا وقد يخيّل ذلك الكلام أنّه منقطع عن الكلام الذي قبله بأكثر ممّا تخيّل أجزاء الكلام الأوّل أنّها منقطعة بعضها عن بعض. وقد يمكن أن يكون الكلام أيضاً إنّما قيل في «الألم» كما قيل الكلام الذي قبله ولا يكون بين هذه الآلام التي ذكرها في هذا القول وبين الآلام التي ذكرها في القول الأوّل فرق إلّا في الرداءة فقط. فقد يكون من الألم آلام خبيثة تحدث عن أشياء «مؤذية» كانت تلك الأشياء معروفة «بالسموم» أو كانت من الهوامّ ذوات السموم أو كانت أخلاطاً تولّدت في البدن من تدبير رديء أو من هواء وبيء.
فأقول إنّه إنّما وصف هذه الأصناف من العلاج لهذه الآلام التي ذكرها وهي «اللبن والثوم والخمر [و]المغلاة والخلّ والملح». وأمّا «اللبن» فإنّه يصلح للسموم التي تقتل بطريق التأكّل وذلك أنّ هذه السموم تحتاج إلى ما يكسر حدّتها ويقمعها ويعدّلها. وأمّا «الثوم» فيصلح للسموم التي تقتل بالبرد. وأمّا «الخمر» فتصلح للسموم التي تقتل بإفراط إخراج البدن عن الاعتدال. وقد استثنى في «الخمر» فقال «المغلاة» وقد يجوز أن يكون عنى «بالمغلاة» المسخنة إسخاناً شديداً وقد يجوز أن يكون عنى بها التي قد طبخت حتّى صارت عقيداً. وذلك أنّ العقيد فيه قمع وتعديل وتسكين للحدّة التي يحدث عنها التأكّل. وأمّا «الخلّ» فيحتاج إليه لتقطيع الأخلاط اللزجة 〈مثل〉 التي تتولّد عن 〈الفطر〉 ويحتاج إليه للتبريد
في مثل ما يناول الينتون. وأمّا «الملح» فيحتاج إليه لأنّ من شأنه أن يفني جوهر الأخلاط والأدوية 〈التي〉 تشكس أخرة.
لاكنّه لمّا كانت المنافع والمضارّ به تنال أبداننا لا من قبل الكيفيّات البسيطة ممّا يلقاها جملة فقط لاكنّها قد تنالها أيضاً من جملة جوهر بعض ما يلقاها — وقد أعلمتكم هذا في كتاب آخر وأقمت لكم عليه البرهان — فبالواجب قال أبقراط: «وصبيب النبات حتّى يبلغ قوّته». وذلك أنّا الخواصّ عن جملة الجوهر الموافقة لأبداننا والمخالفة لها القريبة منها توجد في أربع موادّ وهي الأدوية المسهلة والأغذية والثالثة هذه الأشياء التي سمّاها أبقراط في هذا القول «المؤذية» والرابعة الأشياء التي تشفي من هذه «المؤذية». والجنس الثالث من هذه الموادّ ينقسم قسمين أحدهما الأدوية التي تعرف «بالسموم» والآخر سموم الهوامّ ولذلك صارت هذه الأشياء 〈التي〉 تشفي من هذين الصنفين تنقسم أيضاً قسمين ولكلّ واحد من هذين الصنفين عند اليونانيّين اسم يخصّه. وذلك أنّهم يسمّون الأشياء المقاومة للأدوية المعروفة «بالسموم» «ألكسفارمقا» واسمها عند الفرس «البادزهر» ويسمّون الأدوية التي تشفي نهش الهوامّ ذوات السموم «الترياقات». ولعلّ مدخلاً سيدخل الأدوية المسهلة والمقيّئة في جنس الأدوية المعروفة «بالسموم» وذلك أنّ هذه الأدوية أيضاً قد تفسد أبداننا إذا تناولنا منها مقادير أكثر من المقادير المعتدلة.
وإن وافقنا صاحب هذا القول لزمنا أن ندخل البادزهرات والترياقات في عداد الأدوية المعروفة «بالسموم». وذلك أنّ من شأن هذه أيضاً أن تقتل إلّا أن يكون ما يتناوله المتناول منها قليلاً جدّاً. ولهذا المعنى بعينه فيما أحسب قصد الأطبّاء إلى بعض هذه الأدوية فسمّاها «قتّالة» وهي الأدوية التي قد تنال أبداننا منها منفعة في بعض الأوقات وقصدوا إلى بعضها فسمّوه «سموماً» وهي الأدوية التي لا تنفع شيئاً في وقت من الأوقات أبدان الناس لا في حال أمراضهم ولا في حال صحّتهم. فإنّ الزئبق وإسفيداج الرصاص والمرتك والأرنب البحريّ والدواء الذي يسمّيه اليونانيّون «أقونيطن» ليس منها شيء ينتفع به منفعة بيّنة إذا تناوله المتناول حتّى يصل إلى جوفه وكذلك نجد أشياء كثيرة غير هذه قد ذكرتها في قولي فيما ينفع ويضرّ بخاصّة جملة جوهرها.
(٧) قال أبقراط: إنسان أصابه إعياء من سفر فأعقبه ضعف وثقل وقذف بالبزاق وذلك أنّه سعل من الهامة وكانت به حمّى حادّة عند ملمسه اليد لها لذع خفيّ وأصابه في الثاني ثقل في رأسه واحتراق في لسانه وعقر أنفه بالظفر فلم ينفجر منه الدم الأيسر لطحال كان عظيماً صلباً مؤلماً.
قال جالينوس: أمّا من أصابه هذا المرض فقد وصفه أبقراط إلّا أنّه ترك أن يخبر هل مات أو سلم وهذا هو الشيء الذي يجب أن يكتب من جميع ما يكتب من أحواله. ولعلّ القارئ لقصّة هذا المريض يحبّ أن يسمع منّي ما الذي كنت أحكم به عليه أنّ أمره يؤول إليه بحسب ما وصف أبقراط من أحواله. وقد ينبغي أن أصدق
هذا الحقّ فأقول إنّي لو رأيت بوله لقد كنت سأجرّد الحكم عمّا عندي في هذا المريض وذلك أنّ حاله بحسب ما وصف منها في حال تنذر بهلاك. فلو كان بوله بولاً حسناً لكنت سأحكم عليه بأنّه سيسلم إلّا أنّ مرضه مرض حادّ ولو كان بوله أيضاً بولاً رديئاً لكنت سأحكم عليه بأنّه يموت سريعاً ولو كان بوله متوسّطاً حتّى لا يحمد ولا يذمّ لكنت سأحكم أنّه سيلبث في مرضه فضل مدّة ثمّ يموت.
وجميع الأعراض التي عرضت له خلا عرض واحد فإنّها كانت كأنّها متوسّطة بين ما ينذر بالهلاك وبين ما ينذر بالسلامة. وأمّا ما ذكر من أمر «الأنف» أنّه «عقر بالظفر فلم يخرج منه دم» فمن أردأ الدلائل وإنّما قلت «لم يخرج منه دم» لأنّ زوكسس المفسّر هكذا كتب: «وعقر أنفه بالظفر فلم يخرج منه دم». فإن فهمت القول على ما يوجد في أكثر النسخ وهو أنّه «عقر أنفه بالظفر فلم ينفجر منه الدم» فهذا الدليل أيضاً دليل ينذر بالهلاك إلّا أنّه أقلّ دلالة على الهلاك من «الأنف الذي يعقر فلا يخرج منه دم» البتّة. ومن البيّن أنّه قد كان علاجه بما عولج به من «عقر الأنف» قد كان على ما ينبغي ثمّ «لم يخرج منه الدم» وذلك أنّه ما كان بالذي يكتب البتّة في قصّة هذا المريض أنّ «أنفه عقر بالظفر فلم ينبعث الدم» لو كان ذلك إنّما عرض من قبل سوء العلاج. وقد يقال في القدماء إنّهم كانوا يخدشون «الأنف ويعقرونه» لا «بالأظفار» فقط لكن بحديدة مهيّئة لهذا العمل.
ويشبه أن يكون الأطبّاء الذين تولّوا علاج هذا الرجل الذي نحن في قصّته قصدوا لخدش أنفه «للثقل الذي أصابه في رأسه».
وأمّا ذكره «الأيسر» فقد وصله قوم بذكره «الطحال العظيم» وقد قال بعضهم إنّ إلحاقه «الأيسر» في ذكره «الطحال» يجري مجرى إلحاق الشاعر «الأبيض» في ذكر «اللبن» وإلحاقه «الرابضة على الأرض» في ذكره «الخنازير» على أنّه ليس شيء من اللبن ليس هو أبيض ولا شيء من الخنازير ليس يربض على الأرض.
وقال بعضهم إنّه يعني «بالأيسر» أنّ الجانب الأيسر من الطحال كان وارماً وقال بعضهم إنّه عنى بذكره «الأيسر» أنّ الطحال كلّه كان زائلاً مائلاً إلى الجانب الأيسر من البدن. وليس يستفيد شيء فيه كبير درك ألا في تعرّف الأشياء الحاضرة ولا في سابق العلم بالأشياء الكائنة ولا من واحد من هذه الأقاويل. فخليق أن يكون أبقراط إنّما وصل «الأيسر» بذكر «الأنف» وعنى المنخر الأيسر هو الذي «عقر فلم ينفجر منه الدم». وذلك أنّ هذا المنخر هو محاذٍ للطحال ويشبه أن يكون المعالج الذي عالجه «بعقر الأنف» قصد على تعمّد إلى هذا المنخر فعقره.
ولعلّ الناسخ الأوّل قد أخطأ في نسخة هذا الكلام فبقي خطاؤه إلى هذه الغاية. وقد وجدت في نسخة واحدة من النسخ القديمة هذا الكلام على هذه النسخة: «وعقر أنفه الأيسر بالظفر فلم ينفجر منه الدم» وقد ذكر روفس الذي من أهل سمريا أنّه وجد هذا بعينه في بعض النسخ وروفس هذا يكتب هذا القول على ما كتبه
زوكسس وذلك أنّه جعل مكان «لم ينفجر» «لم يخرج» على أنّ جميع المفسّرين إلّا الشاذّ إنّما كتبوا «لم ينفجر».
وقد وقع المفسّرون لهذا الكتاب من قوله أيضاً «سعل من الهامة» في اختلاف. فقال بعضهم إنّه عنى بذلك أنّ السعال أصاب هذا المريض من رأسه لا من صدره ورئته وقصبتها كما من شأنه أن يكون كثيراً عند حدوث العلّة بهذه المواضع. ولا ظنّ بعضهم أنّ قوله «من الهامة» عنى به ما يدلّ عليه اللفظ بالحقيقة حتّى لا يكون سبب ذلك السعال إنّما كان نزلة انحدرت من الرأس فقط لاكن من ذلك الموضع الذي من الرأس الذي يسمّى «الهامة». وليس يستفيد أيضاً ولا من هذه أشياء ذا قدر ما ينتفع به لا في تعرّف الأمور الحاضرة ولا في تقدمة المعرفة الحاضرة بالأمور الكائنة بعد. ولذلك استجهل قوم على هذا التأويل وقالوا إنّه إنّما يعني بقوله «من الهامة» أي من أوّل الأمر حتّى يكون قوله على هذا المثال: «وذلك أنّه سعل بعد أوّل الأمر» أي عاوده. وقد قلت فيما تقدّم إنّا ليس ننتفع بهذه القضيّة شيئاً لأنّه لم يخبرنا فيها هل عاش ذلك المريض أو مات.
(٨) قال أبقراط: الذين تعتريهم حمّى الربع لا يعتريهم المرض العظيم فإن اعتراهم أوّلاً ثمّ حدثت بعده الربع سكن عنهم.
قال جالينوس: إنّ القدماء يسمّون الصرع «المرض العظيم» والمرض المسمّى «الصبيّ» كما قد سمّاه أبقراط في كتابه في الماء والهواء والأماكن لأنّ هذه العلّة
تعرض للصبيان كثيراً. وقد سمّى قوم هذه العلّة بعينها «الهرقليّة» لا لأنّ هرقل الجبّار كان أصابه الصرع لاكن يشبه أن يكون من سمّاها بهذا الاسم إنّما قصد لما قصد له من سمّاها «العلّة العظيمة» فاخترع لها اسماً دالّاً على العظيم من اسم «هرقل» لعظم شأنه. وقد سمّى هذه العلّة بعينها قوم له «المرض الإلاهيّ» على ظنّ كاذب ظنّوه فيها كما قد بيّن في كتاب أبقراط المرسوم «في المرض الإلاهيّ».
وقد يكون هذا المرض من علّة تحدث في مواضع غير الدماغ وإنّما أكثر من تعرض له فإنّما تعرض له بحدوث العلّة في الدماغ أوّلاً بمشاركة لعضو آخر في علّة به. والسبب الذي منه يكون هذا المرض هو خلط غليظ بارد يجتمع في بطون الدماغ ويستولي على منابت العصب وخاصّة على أصل النخاع الأوّل.
قد تنفع من هذا الخلط حمّيات أخر غير «الربع» وخاصّة ما كان من الحمّيات طويلاً مزمناً وأبلغ من «الربع» منفعة في هذا الباب أطولها مدّة وما يكون معه منها نافض. وذلك أنّ النافض نفسه يقوى أن يقلع ذلك الخلط الذي قد لحج في أصول العصب وسدّد مجاريه وحرارة الحمّى أيضاً تقوى أن تذيبه وتلطّفه وتحلّله. وتقوى مع ذلك أن تقلب مزاج الدماغ كلّه وتحيله إلى المزاج الذي هو أسخن عن ذلك المزاج الرطب البارد الذي كان عليه قبل وذلك أنّ الخلط البلغميّ إنّما يتولّد عن هذا المزاج.
ويتبع أيضاً النافض القويّة الشديدة خروج الفضول من البدن. وأكثر ما يكون ذلك بالعرق وربّما كان أيضاً بالقيء أو بالاختلاف فيجب أن ينقّى البدن أيضاً بهذه الوجوه من الاستفراغ. وقد قال أبقراط في كتاب الفصول إنّ حدوث الحمّى بعد التشنّج خير من حدوث التشنّج بعد الحمّى والصرع إنّما هو تشنّج يعرض في البدن كلّه. وأمّا في المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا فقال أبقراط: «إنّ أوثق الحمّيات وأسهلها وأسلمها الربع وإن كانت من أطولها وليست كذلك في نفسها فقط لاكنّها قد تخلّص من أمراض أخر عظيمة». وإنّ من أصابته حمّى الربع لا يمكن أن يحدث به الصرع وذلك أنّه من قبل أنّه إذا كانت الربع وإن ألّفت البدن وقد تمكّن فيه الصرع أذهبت به عن صاحبه فأحرى أن لا يكون لا تركه يحدث بمن لم يتقدّم به حدوثه.
(٩) قال أبقراط: بدل أيّ مرض يكون.
قال جالينوس: إنّ هذا القول من أبقراط أردف به القول المتقدّم ومعناه فيه هذا المعنى: ينبغي أن تعلم بدل أيّ أمراض يكون. وذلك أنّ في هذا القول ما يستدعي من القارئ له أن يفهم منه ما أوردناه فيه مرغماً. وأمّا قوله «أيّ أمراض» فللمتوهّم أن يتوهّم أنّه قد كان أبقراط كرّره مرّتين فكتبه الناسخ الأوّل مرّة واحدة بالخطاء منه
وبقي خطاؤه إلى هذه الغاية ووقع بذلك للمفسّرين أصل لكثرة الكلام والإطناب فيه. وقد ينبغي لنا أن نطرح ونلغي ذكره ونقتصر على ذكر ما ينتفع به فقط وهو ما ألغى ذكره أولائك المفسّرون.
فأقول إنّه كما أنّ الربع تشفي من الصرع وكلّ حمّى تشفي من التشنّج ومن النزلة ومن الربو كذلك يشفي الذرب الرمد ويشفي الجشاء الحامض الاختلاف الذي يعرف «بزلق الأمعاء» وتشفي ذات الجنب ذات الرئة ويشفي السرسام الحارّ السرسام البارد. 〈…〉 ولا في نقلة ذات الجنب إلى ذات الرئة. وتفتّح أفواه العروق في السفلة حتّى ينفجر منها الدم عند ابتداء حدوث الوسواس السوداويّ قد يمنع كثيراً من حدوثه وإذا كان أيضاً قد حدث وثمّ قد يشفي منه ومن صلابة الطحال المعروفة «بالشُهد». †وٮٯلٮلس† هذا إلّا خير في نقلة السرسام الحارّ إلى السرسام البارد ولا العروق أيضاً التي تتّسع التي يسمّيها اليونانيّون «قرسوس» وتعرف «بالدوالي» تشفي من هذه العلّة 〈و〉من النقرس ومن وجع المفاصل ومن وجع الكليتين ومن الربو وقد تكون نقلة من هذه العلل إلى تلك العلل الأول لا خير فيها.
ومن النقلة التي فيها خير أنّه قد يكون بعلّة الكلى وبالذرب استفراغ البدن من خلط رديء قد غلب في أمراض خبيثة. وربّما كان ذلك باختلاف الدم والجرب أيضاً الرطب واليابس المعروف عند اليونانيّين «بالمتقشّر» والقوابي والبهق وغير ذلك ممّا أشبهه من الأعراض ويتخلّص بها كثير من الناس مراراً كثيرة من أمراض حادّة ومن أمراض مزمنة. وكذلك قد يكون هذا بعينه عند اندفاع جميع ما يندفع إلى عضو من الأعضاء حتّى يغيض فيه إمّا إلى الغور الذي عند الأرنبتين حتّى يورمهما وإمّا إلى الورك حتّى يحدث وجع النسا أو إلى غير ذلك من الأعضاء حتّى يحدث غير ذلك من العلل.
(١٠) قال أبقراط: المرار كما ذكرت.
قال جالينوس: هذا القول إن أفرد على حدته كان فضلاً لا يحتاج إليه. وذلك أنّه لا من قصد ليثبت تذكرة لنفسه يثبت تذكرته مثل هذا القول مطلقاً من غير أن يضيف إليه القول الذي قد كان قاله مثل أنّ «المرار هو خلط حاله الحال التي وصفت حين قلت: ‹إنّ الدسم يولّد المرّة الصفراء والدم يولّد السوداء›.» فإن قسم هذا القول بقسمين كما فعل قوم وصل القسم الأوّل منه بالقول المتقدّم وجعل قسمه الثاني افتتاح القول الذي يتلوه ووصله كلّه بالقول الذي يتلوه حتّى يصير كلّه قولاً واحداً كان قوله ممّا لا يقبل ويقنع به من كلّ وجه. فأنا أحسب أنّ هذا القول والقول الذي بعده قولان أدخلا في هذا الكتاب من قبل إنسان دلّسهما فيه وليس أبقراط صاحبهما.
(١١) قال أبقراط: في الطيور أنّها مولّدة للمرار.
قال جالينوس: قد قلت إنّ قوماً وصلوا القولين فجعلوهما قولاً واحداً على هذا المثال: «المرار كما ذكرت في الطيور أنّها مولّدة للمرار» حتّى يكون معنى هذا القول هذا المعنى: إنّ المرار لمّا كان على ما وصفت صار دليلاً على الطيور أنّها تولّد المرار. ولو كان القول بأنّ «الطيور تولّد المرار» حقّاً لكان تأوّل من تأوّل هذا التأويل صواباً لاكنّه لمّا كان هذا القول باطلاً فإنّي أقول: لو كان أبقراط بالحقيقة كتب هذا القول ولم يدخله مدخل ولا وقع خطاء من ناسخ لقلت إنّ أبقراط قد كذب في قوله هذا وظنّ الباطل وإنّ المتأوّلين لقوله هذا التأويل قد أصابوا. لاكنّه لمّا كان أبقراط ليس يرى هذا ولا يقول به فليس يخلو أن يكون هذا القول خطاء وتأويله وقع بالخطاء.
وقد قال قوم ممّن فسّر هذا الكتاب إنّ الطيور بالحقيقة يغلب عليها المرار وأتوا على ذلك عند أنفسهم بشواهد هي عندي هذيان. وليس يضرّ هذا الهذيان ما دام إنّما يكون من أصحابه في الكتاب فأمّا من عمل عليه في ما يحتاج إليه المرضى فإنّه يكون من أضرّ الأشياء. وذلك أنّهم يأمروننا أن نحذر إطعام المرضى الطيور من قبل أنّها تولّد في أبدان من يأكلهم 〈المرار〉 ظهوراً بيّناً في كلّ يوم. و〈من〉 أصغى إلى الأقاويل التي تجري مجرى الهذيان ثمّ رام أن يعالج الطبّ كان ما ينال أبدان الناس منه من الضرر أعظم ممّا يناله منه من †الجلاورة† المؤكلين بالعذاب. وذلك أنّا نجد المرار يتولّد في المعدة بسبب أكل لحوم الطير ولا في غير المعدة من سائر أعضاء البدن.
وقد وصفت قوى الأغذية في ثلاث مقالات وصفاً تامّاً. ومن شاء أن يتعرّف قواها فمن ذلك الكتاب يقدر أن يتعرّف ما ينتفع به من أمرها ويدفع قول من قال
إنّ محّ البيض الذي منه تتولّد الفروخ هو مرار حلو وأمّا الطيور فإنّها لمّا كانت حارّة يابسة صار الغالب عليها المرار. والدليل على أنّها حارّة يابسة بزعمهم أنّه يكون منها ولذلك بزعمهم قال أبقراط في هذا الكتاب فيما تقدّم: «إنّه إذا عزّ المطر خصبت أجناس الطيور».
فما الذي ينبغي أن يتوهّم أنّه يعرض للغلمان إذا سمعوا أشباه هذه من الأقاويل ثمّ كانوا ممّن ليس في طبيعته ذكاء فهم وكان ممّن لم يتقدّم فيتأدّب الأدب الذي يتأدّبه الصبيان عند اليونانيّين أليس مع ما لا يستفيد شيئاً ينتفع به في هذه الصناعة يفيد منه هذا الفعل العامّيّ الذي يفعله الناس كلّهم؟ أمّا أنا فالأمر عندي في ذلك على غاية الحقّ.
قال حنين: إنّي قد وجدت هذا الكلام المنسوب إلى أبقراط مع الكلام الذي تقدّمه وهما القولان اللذان أنكر جالينوس أن يكونا لأبقراط. وقد يجوز أن تكون ترجمته بالعربيّة على نحو من الأنحاء التي ينصرف عليها الكلام اليونانيّ ترجمة غير الترجمة التي ترجمها عليه على نحو ما وجدت جالينوس يقصد إليه من التأويل. والأمر عندي أنّه خليق أن يكون أبقراط لم يقصد لهذه المعاني التي ذهب إليها جالينوس لاكنّه قصد المعنى الذي أنا ذاكره بعد أن أضع كلام أبقراط على الترجمة التي أرضاها وهي هذه: قال أبقراط: «المرار كما قلت في الطيور إنّها مولّدة للمرار حيث تكون حرارة».
قال حنين: إنّ الأمر عندي أنّ أبقراط يقصد بهذا القول أنّ المرار لمّا كان على ما وصفت من أنّه يتولّد عن الشيء الدسم الحلو كانت لحوم الطير فسدت في معدهم وانقلبت إلى المرار وإذا أكلوا اللحوم الغليظة مثل لحوم البقر استمرؤوها
لأنّها لا تفسد الأغذية الغليظة سريعاً كما تفسد الأغذية الرقيقة اللطيفة التي منها لحوم الطير. ويكون ترك أبقراط لذكره ما تقدّم ومن قوله في تولّد المرار اتّكالاً منه على أنّ ما ذكره من أمر الطيور وتوليدها للمرار تذكرة له بالقول الأوّل الذي قاله فيها شاهد على صحّته منتسق عليه إذ كان الشيء الدسم الذي يدخل فيه الحلو إنّما صار ينقلب إلى المرار سريعاً لقوّة الحرارة عليه حتّى يخرجه من الاعتدال وكان لحم الطير لخفّته إذا صادف من البدن حرارة أزيد من المقدار الطبيعيّ عرض له مثل ذلك.
(١٢) قال أبقراط: دليل الحدّة الأذى والطرق.
قال جالينوس: قد قلت مراراً كثيرة إنّ المفسّرين لمّا لم يجدوا سبيلاً إلى تفسير ما كان من أقاويل أبقراط يجري مجرى الرمز واللغز اضطرّوا بسبب ذلك إلى أن يقسموا تلك الأقاويل كلّ واحد منهم على نحو ما أرادوا أن يكتبوا تلك الأقاويل على أقرب ما يتهيّأ لهم فيها من التأويل المقنع.
وقد جعل قوم ذكر أبقراط «للحرارة» كما قلت آخر القول الأوّل وجعله قوم افتتاح هذا القول الذي قصدنا لشرحه حتّى يكون على هذا المثال: «الحرارة دليل على الحدّة الأذى الطرق». وقد قسم هذا القول بقسمين وتأوّلوا كلّ واحد من القسمين على حدته أمّا القسم الأوّل فعلى هذا المثال: الحرارة دليل على الحدّة 〈التي〉 تتولّد منها. إنّ إنساناً لو لبث مدّة طويلة يأكل أطعمة كثيرة الغذاء لكان
ذلك سبباً للامتلاء ودليلاً عليه وكذلك لو كانت جرت عادة إنسان بالرياضة ثمّ امتنع منها وكانت جرت العادة بأن يستفرغ بدنه بضرب من الضروب فاحتقن ما كان يستفرغ.
وأمّا الجزء الثاني فكتبوه على هذا المثال: «الأذى لا ممرّ له» وزعموا أنّه يعني بهذا أنّ «الأذى» إنّما يكون ليس للسبب المؤذي منفذ يمرّ فيه حتّى يكون معنى هذا القول أنّه متى تأذّى إنسان في عضو من أعضائه أيّ عضو كان فإنّما ذلك الأذى من قبل أنّ أخلاطاً غليظة قد لحجت في منافذه وسدّتها حتّى لم يبق لها منفذ.
وقد حفظ قوم النسخة القديمة على ما وجدوها عليه وقالوا إنّه في القسم الأوّل من هذا القول يعني أنّ الحرارة تدلّ على الحدّة وفي القول الثاني يعني أنّ الحرارة تتولّد عن الشقاء ويعني بالشقاء «والأذى» التعب والإعياء ويعني «بالطرق» الأسفار. وقد زاد قوم في اسم «الطرق» حرفاً صار به معناه «المنافذ» وزعموا أنّه يعني «بالمنافذ» المنافذ التي تنفذ فيها الرطوبات من البدن.
والأجود عندي أن يقال في هذا القول إنّه قول واحد على هذا المثال: «دليل الحدّة الأذى والطرق» وذلك أنّ من دلائل الحدّة بالحقيقة هذين العرضين اللذين ذكرهما. وذلك أنّه ما كان من الأجسام ليس فيه «طريق» فإنّه يحدث فيه عن «الحدّة أذى» فقط وأمّا الأعضاء التي فيها «طرق» فالإحساس باللذع إنّما يكون فيها في تلك «الطرق». وليس ينبغي أن يفهم «الأذى» في بدن الأعضاء ولا في الطرق التي فيها الحادث عن «الحدّة» مطلقاً لاكن ينبغي أن يستثنى معه نوع
ذلك «الأذى» والحسّ الذي يوجد في «الطرق» والشيء الذي ينبغي أن يستثنى فيه هو شيء واحد وهو «اللذع».
وأمّا الذين زعموا أنّ هذا القول كلّه الذي تقدّم إنّما قيل في الطيور فكتبوا هذا القول على نحو آخر وذلك أنّهم أسقطوا من اسم «الأذى» حرفاً فصار به معناه «الاعتماد» فكتبوا 〈مكان〉 «الأذى والطرق» «الاعتماد والطرق». وزعموا أنّه يريد «بالاعتماد» الذي تعتمده الطيور على الهواء ويعني «بالطرق» المسالك التي تسلكها فيه وأنّ هذين الشيئين من دلائل المزاج الحارّ الناريّ.
وقد زاد قوم في اسم «الطرق» حرفاً صار به معناه «الدائم» فبدّلوا هذا القول أصلاً حتّى صار معناه «الاعتماد الدائم». وزعموا أنّ أبقراط يعني بهذا القول أنّ تحليق الطيور في الهواء واعتمادها عليه دائماً دليل على خفّتها وخفّتها إنّما تكون من الحرارة.
(١٣) قال أبقراط: إنّ فيمن يختلط تنقص آلام الجنبين وفيهم من تنقص عنه الحمّى أيضاً وفيهم من لا يكون ذلك فيه إلّا بعرق ومنهم من يكون ذلك فيه مع أذى وفيهم من يصير الجلد منه قحلاً متمدّداً مالحاً.
قال جالينوس: إنّ هذا اللفظ يدلّ أنّ هذا الكلام إنّما قيل فيمن به «ألم» في أضلاعه وأنّ ذلك «الألم ينحلّ» إذا «اختلط» عقله. لاكنّه لما كان الألم ليس ينحلّ في صاحب هذه الحال دائماً لاكنّه إنّما ينحلّ إذا انقلبت العلّة من الصدر إلى الدماغ فقط.
قال قوم إنّه لم يعن «بالانحلال» في هذا الموضع المعنى الذي يفهم من هذه اللفظة على الحقيقة لاكن يعني أن يفهم عنها من الاستعارة وهو أنّه إذا كان صاحب العلّة لا يحسّ بعلّته قلنا فيه إنّه لا ألم به وعلى هذا الوجه نقول في من شرب الفلونيا إنّه قد يسكن عنه الألم. وقد أحبّ قوم التخلّص من هذه الاستعارة فقالوا إنّه ليس «آلام الجنبين» تبطل فيمن «يختلط عقله» لاكنّ اختلاط العقل يذهب عن صاحبه إذا حدث ألم في الأضلاع.
وفهم كلّ واحد من الفريقين جميع ما ذكره على حسب متأوّله فأجراها أحد الفريقين على «اختلاط العقل» والفريق الآخر على «ألم» الأضلاع. والأشياء التي ذكرها بعد هي «الحمّيات والعرق والأذى» ويعني «بالأذى» الأعراض المؤذية التي تظهر في وقت البحران. وذكر مع هذه الأشياء أنّ «الجلد يصير قحلاً» ويعني «بالقحل» المفرط اليبس ولذلك يصير «متمدّداً مالحاً».
وقد فهم المفسّرون هذه الأشياء كلّها كما قلت على المعنيين جميعاً أعني نقلة علّة الأضلاع إلى الدماغ حتّى «يختلط» العقل ونقلة علّة الدماغ التي يكون عنها «اختلاط» العقل إلى الأضلاع حتّى يكون عنها «الألم» فيها. لاكنّه لمّا كان قول القائل بأنّ ألم الأضلاع ينحلّ عند اختلاط العقل ليس يجري على حقائق الألفاظ لأنّ الذي يخيّل إلى صاحب هذه الحال من سكون الألم عنه ليس يكون بأنّ الألم قد سكن بالحقيقة لاكنّه إنّما يكون بأنّه لا يفهم حينئذ ما في بدنه من العلل والأعراض ولا يعقله مال قوم بسبب هذا أن يقولوا إنّه ليس الألم للأضلاع يعني أنّه ينحلّ من اختلاط الذهن يذهب عن صاحبه بانتقال الأسباب المحدثة له إلى الصدر. ونجد هؤلاء أتبعوا المعنى الذي يدلّ عليه هذا اللفظ وذلك أنّه إنّما قال «ينقص ألم الجنبين» ولم يقل «ينقص اختلاط العقل».
فخليق أن يكون الأجود أن يفهم من هذا القول أنّ فيمن قد شارف اختلاط العقل فإنّ آلام الجنبين تنتقص عنه. وقد نرى ذلك بالحقيقة يكون على هذا المثال فيمن قد اختلط عقله اختلاطاً خفيّاً حتّى يخفى عن عوامّ الناس وهو مزمع بعد قليل أن يصيبه اختلاط شديد من العقل وذلك أنّهم لا يحسّون بآلامهم. وهذا هو القول الذي قاله في كتاب الفصول: «إنّ من كان به ألم في موضع من بدنه وكان في أكثر الحالات لا يحسّ بألمه فذهنه عليل».
وإذا نحن فهمنا عنه من قوله «فيمن يختلط» أي «فيمن سيختلط» كان قوله قولاً صحيحاً حقيقاً وكان مع ذلك جارياً على عادة القدماء. وذلك أنّهم يستعملون الكلام الذي يدلّ على الزمان الحاضر كثيراً مكان الكلام الذي يدلّ على الزمان الماضي والمستأنف. ولعلّ حرف «السين» إنّما سقط بالخطاء منذ أوّل الأمر من الناسخ الأوّل ويكون أبقراط قد كان كتب «فيمن سيختلط ينقص آلام الجنبين» فأخطأ الورّاق الأوّل الذي جرّد هذا الكلام فكتب «فيمن يختلط» من غير «سين». وممّا يصحّ ذلك أنّه إنّما قال في تلك «الآلام» إنّها «تنقص» ولم يقل فيها إنّها تسكن البتّة لاكنّها كأنّها تقلّ لأنّ من هو مستعدّ لأن يختلط عقله اختلاطاً ظاهراً محسوساً عند عوامّ الناس يقلّ حسّه قبل ذلك «وينقص» عمّا كان عليه.
قال: «وفيهم من تنقص عنه الحمّى أيضاً» ومن البيّن أنّه يعني بذلك كما قال في آلام الأضلاع إذا كان مستعدّاً أن يحدث به اختلاط في ذهنه. وذلك واجب من قبل أنّ الأسباب إذا تساوت فإنّ الحمّيات التي تكون من حدوث العلّة بالمواضع التي من القلب أقرب تكون أعظم والحمّيات التي تكون إذا تباعدت العلّة عن تلك المواضع وتنحّت عنها تكون أقلّ وأيسر.
قال: «وفيهم من لا يعرض ذلك له» فقط لاكنّ انحلال العلّة يكون عنه «بعرق وفيهم من يكون ذلك فيه مع أذى» ويعني «بالأذى» كما قلت الأعراض المؤذية التي تحدث بصاحب العلّة. وأمّا ما كتبه بعد هذا حيث قال: «وفيهم من يصير الجلد منه قحلاً متمدّداً مالحاً» فليس بعد دلائل انحلال السرسام لاكنّه إنّما يعدّد فيه أعراض السرسام.
(١٤) قال أبقراط: الخدر من الأذنين ومثل الذي أصاب صاحب الورك.
قال جالينوس: قد يكتب مكان «ومثل الذي أصاب صاحب الورك» «ومثل ما أصاب الورك» ولا فرق في المعنى أن يكتب على النسخة الأولى أو على النسخة الثانية. وذلك أنّ قوله «ومثل الذي أصاب صاحب الورك» يدلّ على واحد ممّن أصابه ألم في ذلك الوقت في وركه وكان ذلك الألم إمّا ألماً يحسّ فيه إمّا لازم في هذه العلّة كلّها وإمّا حادث بعدها من تلقاء نفسه وإمّا من دواء عولج به في مدّة العلّة كلّها 〈…〉 بالقول الذي تقدّمه. وأرادوا أن يكون المعنى هذا المعنى الذي أنا واصفه: إنّ «الخدر» مثل الخدر الذي يكون في «الورك» إذا كان بتلك الحال حلّ ألم الأضلاع. وممّا يناقض هذا التأويل أنّا ليس نستعمل في حال من الأحوال في الآلام التي تعرض في الورك شيئاً من الأدوية المخدرة كما نستعملها في آلام العينين والمعى المسمّى «قولن» 〈…〉 في «الأذنين» آلام معها حسّ «خدر».
فإن قرئ هذا الكلام مفرداً على حدته كان أشدّ غموضاً واستغلاقاً وأشبه باللغز لأنّه لا يتنسّق على شيء البتّة. ولذلك وصل قوم بهذا الكلام الكلام الذي بعده فجعلوا القول كلّه على هذا المثال: «الخدر الذي يعرض في البدن مثل الخدر
الذي يكون في الأذنين الذي †رٮٮا† في الورك هو قتّال وذلك أنّ الناس على الأكثر إنّما يموتون ممّا يأتي الأذنين أو ممّا يأتي من الأذنين». وعلى هذا التأويل أيضاً نجد ذكره 〈ما〉 كان «للورك» فيما بين هذين القولين باطلاً فإذاً كان هذا القول أيضاً قولاً يجري مجرى اللغز والرمز فإنّا تاركوه.
(١٥) قال أبقراط: ممّا يأتي الأذنين وممّا يأتي من الأذنين يموتون على الأكثر.
قال جالينوس: أمّا قوله «على الأكثر» فيريد به «في أكثر الأمور» وذلك أنّ هذه العبارة أيضاً جارية في عادة القدماء. ويعني بهذا القول أنّ كثيراً من الناس يموتون من الآذان وأورامها. وربّما كان ابتداء العلّة من داخل من الدماغ وأمّته وربّما كان ابتداؤها بالعكس حتّى يكون أوّلها من الأذنين ثمّ يترقّى إلى الدماغ وأمّته. وسمّى العلّة الأولى «ما يأتي الأذنين» لأنّها تأتي الأذنين إلى خارج بعد أن يكون ابتداؤها من داخل وسمّى الأخرى «ما يأتي من الأذنين» وهي التي يكون ابتداؤها من الأذنين ثمّ تسعى إلى داخل.
وقد زاد في آخر هذا القول ديسقوريدوس وحده ولا أدري ما دعاه إلى ذلك زيادة وهي «في الثالث» حتّى جعل نسخة هذا الكلام «ممّا يأتي الأذنين وممّا يأتي من الأذنين يموتون على الأكثر في الثالث».
(١٦) قال أبقراط: من تمدّد جلده وكان قحلاً صلباً فإنّه يموت بلا عرق ومن كان جلده رخواً فإنّه يموت مع عرق.
قال جالينوس: إنّ أبقراط لمّا ذكر من حاله حال مهلكة أردف ذلك بتقدمة معرفة وقد يكون فهم كأنّه قال: «إنّك إذا تقدّمت فعلمت بدلائل ما أنّ المريض يموت ثمّ أحببت أن تعلم أيضاً من أمره هل يكون موته بلا عرق أو مع عرق فتفقّد جلده فإنّه إن كان قحلاً صلباً فإنّه يكون بلا عرق فإن كان رخواً دلّ ذلك على أنّ موته يكون مع عرق».
وينبغي أن تنظر لم زاد في قوله ذكر «تمدّد الجلد» وقد كان يكتفي بأن يقول: «من كان جلده قحلاً صلباً». ولقائل أن يقول إنّ ذكره «الصلابة» أيضاً فضل وذلك أنّ «الجلد القحل» هو لا محالة «صلب». وأشنع من هذا إن كان في هذا القول كما قد يكتب قوم ذكر «اليبس» أيضاً وذلك أنّ «اليابس» محصور في «القحل» وذلك أنّ «القحل» عند أهل لساننا إنّما هو الشيء اليابس المفرط اليبس جدّاً.
فإذا أسقطت ذكر هذه الأشياء كان القول على هذا المثال: انظر في من تؤول حاله إلى الموت وتفقّد حال الجلد كيف هي فإنّه إن كان قحلاً فإنّه يموت من غير عرق وإن كان رخواً فإنّ ذلك يدلّ على أنّ موته يكون مع عرق. وذلك أنّ الجلد القحل إنّما يكون من سوء مزاج يابس والجلد الرخو إنّما يكون من سوء مزاج رطب. فإن كان الرخو رطباً فإنّه لا محالة يوجد ليّناً حتّى يكون القول على أيّ الوجهين قيل صحيحاً أمّا على أحد الوجهين فيكون بهذا اللفظ: إنّ من جلده رخو ممّن هو مشرف على الهلاك يكون موته مع عرق وعلى الوجه الآخر على هذا المثال: من كان جلده رطباً ممّن هو ميّت لا محالة فإنّ موته يكون مع عرق.
فإن كان ينبغي أن يفهم هذا القول على هذا الطريق فإنّ أبقراط في الجزء الأوّل من هذا القول قد ذكر الأعراض اللازمة لصاحب تلك الحال وجعل أمر الثاني أن
يقول إنّها سبب ويكون في الجزء الثاني منه لمّا ذكر «الرخو» وحده وهو ضدّ «التمدّد» فقد اتّكل علينا في أن نفهم عنه العرضين الباقيين. وذلك أنّ «الرطب» ضدّ «القحل» «والليّن» ضدّ «الصلب» فيجب أن يكون هذان العرضان لازمين «للجلد الرخو». وليس يعسر وجود السبب الذي له صار من كان جلده يابساً «يموت من غير عرق» وذلك أنّ كلّ من يموت إذا انحلّت قوّته الحيوانيّة فإنّ فضل الرطوبة 〈…〉 ومن كان جلده رطباً «يموت مع عرق» وذلك 〈أنّه〉 الذي في بدنه يخرج فأمّا من لم تكن في بدنه رطوبة البتّة فليس يمكن أن يخرج من بدنه ما ليس هو فيه البتّة.
(١٧) قال أبقراط: في العلل ذوات الكرّات ينفع الانتقال وينبغي أن ينقل أصحابها قبل أن تنالهم الآفة إلى ما يجب مثل ما كان في خايرين ما يهيّج من العلل مثل علل القنخروسيّة — وفي بعض النسخ «القرخنوسيّة».
قال جالينوس: ينبغي أن نتوهّم عليه أنّه عنى بقوله «العلل ذوات الكرّات» في هذا الموضع لا العلل الخبيثة كلّها على الإطلاق كما ظنّ قوم لاكنّ العلل التي من بعد أن يظنّ أنّها قد انحلّت وانقضت تعاود من الرأس حتّى تصير بحالها الأولى من غير سبب. فهو يشير في هذه العلل أن يستعمل «الانتقال» في جملة التدبير «إلى ما يجب» ويعني «بما يجب» ما ينفع في تلك الأمراض.
وهذا القول لوجازته قد غمض واستغلق فيجب ضرورة كيما يصحّ ويتبيّن أن نقتصّه من أوّله إلى أن نبلغ آخره وهو على هذا المثال: إذا كان بإنسان مرض أيّ مرض كان ثمّ ظننت أنّه قد انحلّ عنه وانقضى فعاود من غير أن يكون عرض خطاء في شيء من التدبير البتّة فينبغي أن نتوهّم أنّه قد بقيت في البدن بقيّة من المرض شبيهة بالبزر. ولذلك بعد معاودة ذلك المرض بعينه إذا أوهم العليل أنّه قد صلح لا ينبغي أن يوثق بصلاحه وخفّته ويتّكل على ذلك ويترك ويؤذن له أن يتدبّر بتدبير الناقه كما قد يؤذن لمن قد برئ وصحّ الصحّة التامّة لاكن ينبغي لك أن تتذكّر العودة الأولى وتنظر بعد كم يوم كانت وتتقدّم فتعالجه بأنواع العلاج التي تتلافى بها الصحّة حتّى لا تزول. فإن أنت فعلت ذلك على ما ينبغي فعاوده على حال القلب من الرأس فينبغي أن تستعمل من العلاج الذي يسمّيه بعض الأطبّاء «الحسم» ويسمّيه بعضهم «قلب المجتمع».
وقد نرى من العلل ما تكون له خاصّة هذه العودات السدر والصرع وعلل المفاصل وعلل الكلى وعلل الكبد وعلل الطحال وعلل التنفّس والشقيقة أيضاً والصداع المعروف «بالبيضة» والفضول التي تجري إلى العينين وما ينحدر منها مع ذلك إلى الرئة والصدر والمعدة من الرأس. فمن كان يتأذّى بهذه العلل وما أشبهها فينبغي إذا سكنت عنه علّته أن لا يؤذن له أن يتدبّر تدبير من قد خرج عن أمراض أخر إلى مدّة طويلة ثمّ يتدبّر به من خارج. وذلك أنّ الأجود أن ينقل إلى التدبير الذي يحسم العلّة ويفعل ذلك في أدوار من الأيّام وهي الأدوار التي يسمّيها قوم من الحدث من الأطبّاء «الدوائر» لأنّها تدور في أعداد بأعيانها حتّى تعود إلى أعداد بأعيانها وهذا هو أمر خاصّ بالشكل المستدير وحده من بين الأشكال كلّها. وذلك أنّا إن ابتدأنا من نقطة واحدة فخططنا منها خطوطاً متشابهة الأجزاء أعني أنّ
أجزاء كلّ واحد منها متشابهة كانت الخطوط التي نخطّها من تلك النقطة كثيرة جدّاً إلّا أنّه ليس شيء منها يعود إلى النقطة الأولى إلّا الخطّ المحيط بالدائرة وحده.
وقد فهم قوم قوله «ينقل» على النقلة من بلد إلى بلد وهذا إنّما هو صنف واحد من أصناف النقلة وليس ينبغي أن يكون مطلقاً لاكن ينبغي أن يكون إلى بلد موافق في تلك العلّة التي بذلك العليل المنتقل عن بلده. فإنّ إنساناً لو أشرف على أن تحدث في رئته قرحة حتّى يقع في السلّ وكان بمدينة رومة ثمّ انتقل من ذلك البلد وصار إلى بلد آخر على مثال حال رومة من الرطوبة لما انتفع بانتقاله شيئاً. وذلك أنّه إنّما ينبغي أن تكون نقلته إلى بلد حارّ يابس كما يفعل جميع الأطبّاء برومة وإنّهم يبعثون بمن يشرف على السلّ إلى بلاد اللوبة.
وقد ظنّ قوم على غير الصواب أنّه يعني «بالعلل ذوات الكرّات» في هذا الموضع الحمّيات التي ذكرت في الكلام الذي زيد في كتاب أبقراط في تدبير الأمراض الحادّة وسمّيت «غير منتظمة ولا واقفة على حدّ» وهذا هو اللفظ الذي ذكرت به تلك الحمّيات. قال: «وأمّا الحمّيات التي هي غير منتظمة ولا واقفة على حدّ فينبغي أن تترك حتّى تقف على حدّ فإذا هي وقفت 〈قصدت〉 إليها بالتدبير والعلاج الذي ينبغي». وزعموا أنّ أبقراط في هذا الكلام أيضاً أمر أن يحفظ المرضى على الحمية من الطعام أصلاً إلى أن تقف حمّياتهم وأنّه في هذا القول الذي نحن في شرحه أيضاً يعني «بالانتقال» الحمية من الطعام.
وأمّا أنا فالأمر عندي أنّ هذا القول يدلّ من صاحبه على غاية الحمق والبعد من العقل أمّا قبل كلّ شيء فمن قبل أنّه ليس يمكن أن تنسب حمّى أو مرض إلى أنّه «ذو كرّات» من غير أن تكون له عودات كما ذكرت وهذا إنّما يكون في مدّة
طويلة من الزمان. وأمّا الثانية فإنّا وإن سلّمنا أنّ المرض «ذا الكرّات» يمكن أن نتعرّف في الأسبوع الأوّل فليس يمكن أن نحفظ المريض على الحمية من الطعام البتّة طول المدّة كلّها. وذلك أنّا لا نجد من المرضى من يقدر على احتمال الإمساك عن الطعام إلى اليوم السابع إلّا الفرد الشاذّ ومن احتمل ذلك منهم ليس يحتمله مطلقاً لاكنّه لا بدّ له من أن يتناول ماء العسل وماء الشعير وإن كان لا يغذو غذاء قويّاً فإنّه على حال قد يغذو غذاء ما وإن قلّ. وقد ينبغي لنا أن نفارق من تفسير الأقاويل هذا التفسير ونباعد عنه وأخلق لي أن أكون لم أصب في ذكري لهم إذ كنت قد اعترمت على أن ألغي ذكر الغيّ وما هي في غاية الشناعة.
وأنا مقبل على ما قيل في هذا القول الذي أنا في شرحه وأنظر ما معناه. ويوجد مكتوباً بهذا اللفظ: «في خارين ما يهيّج من العلل مثل العلل القنخروسيّة — وفي بعض النسخ ‹القرخنوسيّة›». وقد يصل قوم هذا القول الذي كنت في شرحه إلى هذه الغاية وقد يقوله قوم عنه ويقتصرون على أن يضيفوا إلى الجزء الأوّل «مثل ما كان في خارين» كما من عادة أبقراط أن يثبت في أقاصيصه كثيراً للتذكرة أسماء المرضى الذين مرضوا تلك الأمراض. فأمّا المعنى في هذا القول على أنّه مؤلّف من ألفاظ مشترك فيها فهو ما أنا واصفه: إنّ ما يهيّج من العلل أو من الأعراض أو من الأبدان — فإنّ لفظه قد يحتمل أن يفهم على هذه كلّها — مثل العلل القنخروسيّة هو من جنس «ذوات الكرّات».
فقد قال قوم إنّه يعني في هذا الموضع «بالعلل القنخروسيّة» البثور التي تظهر في الجلد في بعض المرضى الشبيهة بحبّ القنخرس وهو الجاورس. وقد قال قوم إنّ هذا الاسم لم يشتقّ من اسم الجاورس عنى به البثور الشبيهة بحبّه لاكنّه إنّما
اشتقّ اسمه من «قرخنوس» وهي البثرة وإنّه ينبغي أن يكتب المقطع الأوّل من هذا الاسم «بقاف» «وراء» والمقطع الثاني «بخاء» «ونون» «وواو» ومعنى «البثرة» السعال اليسير الذي يحدث في الحنجرة وقصبة الرئة من رطوبة رقيقة مائيّة تنحدر إليهما من الرأس.
(١٨) قال أبقراط: الحدّ فيمن قد بقي منه شيء غير صحيح أسفل بعد ارتفاع السبب أن تنفضه أو تشدّه أو تنزعه أو تقطعه أو تكويه وفيمن لم يبق منه شيء ألّا تفعل شيئاً من ذلك.
قال جالينوس: إنّ في هذا القول لفظة غامضة افتتحه بها وهي قوله «الحدّ». وأمّا ما يتلوها فليس ينبغي أن تفهم منه شيء غير أنّ كلامه إنّما هو في العلاج باليد الذي ينبغي أن تقطع وتستأصل منه الموضع العليل كلّه. فإنّ «الحدّ» في هذا العلاج من علاج البدن أن تبقي الموضع الذي هو باقٍ على طبيعته وهو الذي سمّاه الموضع «الصحيح» بعد أن تستقصي الموضع الخارج عن طبيعته فترمي به كلّه. فأمّا من لم يبق فيه الموضع الصحيح وحده في غور القرحة «بعد ارتفاع السبب» كلّه الذي دعا إلى علاج اليد فإنّه يأمر فيه أن يقصد لما يعدّ ممّا هو خارج عن المجرى الطبيعيّ بما بقيه.
أمّا بأن «تنفض» يعني بذلك أن نستعمل دواء من الأدوية التي شأنها أن تأكل وتفسد أشباه هذه الأشياء وإنّما نبقي بقيّة من الموضع الخارج عن المجرى الطبيعيّ إمّا لأنّ القرحة أو العفونة أو الناصور غائرة إلى مدّة كثيرة من العمق وإمّا لأنّه تجاوز الموضع عروق كبار وخاصّة من العروق الضوارب فنتوقّى أن نبلغ
الموضع الذي هو بمنزلة الأصل للموضع العليل. وقد يمكن أيضاً أن نشدّ تلك البقيّة حتّى تذبل وتموت وتسقط على طول المدّة كما من عادتنا أن نفعل بالثآليل المتعلّقة منها والناتئة والتوث وأفواه العروق التي تنفتح وتبرز في السفلة وفي غير ذلك ممّا أشبهه.
وأمّا قوله بعد «وتنزعه» فغامض غير بيّن وذلك أنّه ليس يفهم منه فعل خاصّ مثل ما يفهم من العلاجين الأوّلين والعلاجين اللذين ذكرهما بعد وهما قوله «أو تقطعه» وقوله «أو تكويه». وذلك أنّه يعمّ جميع هذه الأصناف من العلاج «انتزاع» الموضع العليل إلّا أن نقول إنّه عنى به الشيء الذي ينزع بأطراف الأصابع بعد أن يستعين على انتزاعه بالأظفار. فإنّا ربّما اضطررنا إلى أن نفعل هذا وخاصّة متى كان شيء قد قطع فلم يبن بالقطع وبقي متعلّقاً إذ كان شيئاً متّصلاً بالجزء الأسفل منه بقاعدة ضيّقة. وإذا قيل في هذا الموضع «أسفل» وإنّما يقال ويفهم بقياس من بنية الجلد جميع ما هو في غور البدن. فما كنّا قد عالجنا بهذا النحو من العلاج حتّى لا يكون بقّينا الموضع الصحيح وحده لاكن بقّينا معه شيئاً من الخارج عن المجرى الطبيعيّ فينبغي أن نجذب ما بقي من الخارج عن المجرى الطبيعيّ كما قد أمر أبقراط.
وأمّا ما قد عالجناه على غير الطريق وبالغنا في جذبه من قلعنا الموضع العليل كلّه من أصله فليس ينبغي أن نفعل فيه شيئاً من هذه الأشياء التي ذكرت. وإلى هذا المعنى أشار أبقراط بما قاله في آخر هذا القول حين قال: «وفيمن لم يبق فيه شيء ألّا تفعل شيئاً من ذلك».
(١٩) قال أبقراط: الذين ينبعث منهم دم كثير مراراً كثيرة من المنخرين فأمّا من كان لونه منهم حائلاً صرفاً كان منفعته قليلاً ومن كان منهم غالب الحمرة فليس يكون
أمره على ذلك المثال ومن كان رأسه خفيفاً مستقلّاً فإنّ الصرف ينفعه ومن لم يكن كذلك فلا ينفعه.
قال جالينوس: قد تأوّل قوم هذا القول على أنّه من طريق التعرّف للأمور الحاضرة من أمور المرضى وتقدمة المعرفة بالأمور الكائنة بعد وتأوّله قوم على أنّه من طريق العلاج للمرضى. وأنا واصف أوّلاً قول من رأى أنّ هذا القول قول قيل في تعرّف أحوال المرضى وتقدمة المعرفة بها. وأصحاب هذا القول يختلفون أيضاً وذلك أنّ بعضهم يزعم أنّ «الصرف» إنّما عنى به «اللون الحائل» وبعضهم يزعم أنّ «الصرف» إنّما عنى به «الدم المنبعث من المنخرين». وكذلك اختلفوا في تأويل قوله «ينفعه قليلاً» فزعم بعضهم أنّه يعني بذلك أنّ المنفعة التي ينالها البدن من خروج ذلك «الدم المنبعث من المنخرين» تكون قليلة يسيرة وزعم بعضهم أنّه يعني بذلك أنّه لا ينتفع به البتّة. وذلك أنّه قد جرى في عادة الناس أن يقولوا «ما أقلّ» «وما أكثر» أي لهذا الباب ومثالاً †ٮٮى† به وهم يريدون «إنّي لست أبالي به» «ولا أكترث به البتّة» وكذلك يقول القائل «ما أقلّ ما ينفعك هذا» وهم يريدون أن «لا ينفعك».
قال: «ومن كان منهم غالب الحمرة» إمّا في لون جلدته وإمّا في لون دمه «فليس يكون أمره على ذلك المثال». وإنّما كان يكون قوله «ليس يكون أمره على ذلك المثال» واضحاً لو كان أطلق قوله في «انبعاث الدم» وقال إنّه «ينفع» «ويضرّ» على الإطلاق ولم يستثن فيه ما استثنى من قوله «قليلاً». وذلك أنّ قوله «ليس يكون أمره على ذلك المثال» لمّا كان قد وضعه بإزاء قوله إنّه «ينفع قليلاً» كأنّه ينقضه فقد يجب ضرورة أن يكون يدلّ على أحد هذين المعنيين إمّا على أنّه
لا ينفع البتّة أو لا قليلاً حتّى يكون معنى ذلك أنّه لا ينال البدن منه شيئاً من المنفعة البتّة وإمّا على أنّه ينفع كثيراً وذلك أنّ هذا المعنى أيضاً يناقض قوله «ينفع قليلاً».
فقد بان من هذا أنّ بحسب هذه الألفاظ التي في هذا القول ليس يمكن أن يستفاد منه شيء بيّن وأمّا بحسب ما تدلّ عليه طبيعة الأمور فإنّا قد نصل إلى أن نعلم وإن لم نفهم هذا القول على أيّ حال من الأحوال يدلّ «انبعاث الدم من المنخرين» وأيّ الأعراض تتبعه في أكثر الحالات إذا كان مفرطاً. فقد ينبغي أن نقصد إلى شيء ممّا نعلمه ونحسّه يجوز أن يطابق هذا القول فنتأوّله عليه ونجعل قصدنا في ذلك المعاونة لهذا القول كيما لا يبقى غير مفهوم ولا معقول لا لنستعين به على علم شيء ليس يحسنه.
فإنّي أعرف عدداً كثيراً «قد انبعث منهم الدم الكثير من المنخرين مراراً كثيرة» فكان لون الجلد من بعضهم في مدّة الزمان بين أوقات انبعاث الدم أحمر شديد الحمرة وكان لونها من بعضهم لوناً حائلاً رديئاً. فمن كان منهم الحمرة على لونه غالبة ثمّ لم يسرفوا على أنفسهم في وقت الاستفراغ حتّى تعدم أبدانهم الدم لم ينلهم كبير ضرر من كثرة الاستفراغ. فإن حالت ألوانهم وعدمت أبدانهم الدم وبردت برداً شديداً لم يؤمن عليهم الوقوع في الاستسقاء. فأمّا من بقي منهم اللون الحائل في مدّة الزمان التي فيما بين أوقات انبعاث الدم فقد ينبغي أن ننظر إلى الحال في ذلك اللون الحائل أيّ الحالات هي هل يظهر منها أنّ الغالب على البدن المرّة الصفراء أو المرّة السوداء أو البلغم وكم مقدار ما يزيد كلّ واحدة من هذه وغلبته على البدن. وذلك أنّ الأبدان التي المرار عليها أغلب فإنّ الآفة التي تنالها
من انبعاث الدم المفرط أقلّ والأبدان التي يغلب عليها البلغم أو هي بالجملة باردة ينالها من انبعاث الدم المفرط أعظم الآفة وأجلّها وما هو منها في الغاية القصوى.
فهذا ما عندي بالجملة فيما كان من انبعاث الدم مفرطاً بقول وجيز وإنّما استفدت هذا الذي وصفته من طبيعته الأمور من هذا الكلام الغامض. لاكنّه لمّا كان «اللون الحائل» لم يجمل في هذا الكلام مطلقاً لاكنّه استثنى فيه فقيل «حائلاً صرفاً» حين قال بهذا اللفظ: «فأمّا من كان لونه منهم حائلاً صرفاً» كان الأمر علينا في المعاونة لهذا الكلام حتّى يصير له معنى مفهوم اعتبر. وذلك أنّه ليس يمكن البتّة أن يوصل «الصرف» «بانبعاث الدم» حتّى يوصف به كما تأوّل ذلك قوم وذلك أنّه لو كان هذا الكلام مكتوباً على هذا المثال: «الذي ينبعث منه دم كثير مراراً كثيرة من المنخرين صرفاً فإنّ من كان لونه منهم حائلاً كان منفعته قليلاً» لكان ما تأوّلته مقنعاً لاكنّه لمّا وصل «الصرف» «باللون الحائل» ونسق عليه بان من ذلك أنّ تأويلهم ما تأوّلوا من ذلك رديء.
ولمّا كان أيضاً في ذكره «الصرف» غموضة ازداد بذلك هذا القول كلّه غموضاً واستغلاقاً وذلك أنّ الخلط «الصرف» إنّما يعني به الذي لم يمتزج به غيره. ولعلّه يمكن أيضاً أن يقال في بعض «اللون الحائل» إنّه «صرف» إذا كان يظهر فيه الخلط الغالب على البدن بذلك الحال وأمّا «انبعاث الدم» فليس يمكن أن يكون «صرفاً» على هذا المثال وخاصّة متى كان البلغم أو المرّة الصفراء أو الفضول المائيّة هي الموصوفة «بالكثرة والصروفة». فإن قال قائل إنّه عنى «بالدم الصرف» الدم الذي لا يخالطه غيره من الأخلاط كان قد أغرق في الخطاء وبالغ فيه وبلغ منه كلّ مبلغ إذ كان بدم أفضل الدم وذلك أنّ الدم ينبغي أن يكون قد بلغ من غلبته أن يظنّ من رآه أنّه مفرداً وحده.
وممّا يدلّ على أنّ ذكره «الصرف» أمّا على حسب نسق الألفاظ فهو متّصل بذكره «اللون الحائل» موصوف به منسوق عليه وأمّا بحسب المعنى الذي يفهم من هذا اللفظ فهو متّصل بالدم المنبعث موصوف 〈به〉 فما قاله في الجزء الثاني من هذا القول حين قال: «ومن كان رأسه خفيفاً مستقلّاً فإنّ الصرف ينفعه». فإنّه قد بيّن في هذا القول أنّه وصف «بالصرف» الدم المنبعث في «اللون الحائل» إن كان هذا القول إنّما قيل في تقدمة المعرفة بما سيكون أو في تعرّف الحال الحاضرة في البدن.
ويصير هذا القول أيضاً من وجه آخر غير مفهوم ولا معقول وذلك أنّه لا يفهم ولا يعقل كيف يجوز أن يكون «من رأسه خفيف مستقلّ ينفعه الدم المنبعث الصرف». وذلك أنّ أصحاب هذه الحال أعني أصحاب الرؤوس التي هي بهذه الحال لا يحتاجون البتّة إلى شيء ممّا ينتفع به لأنّهم مستغنون عن الانتفاع بشيء من قبل أنّه ينتفع بالرعاف. وإذا كان الرأس ثقيلاً متأذّياً بكثرة الأخلاط فيه أو لكيفيّة فيها رديئة أو لكثرة البخار فيه أو رداءة كيفيّته 〈…〉 فينبغي أن ندع ذكر من زعم أنّ هذا القول إنّما قيل في تقدمة المعرفة بالأشياء التي ستحدث أو التعرّف للأشياء الحاضرة.
ونأخذ في صفة قول أصحاب الفرقة الأخرى الذين يزعمون أنّ هذا القول إنّما قيل في علاج المرضى. ويقولون إنّه إنّما عنى «بالصرف» الخمر الصرف ويحرّفون اللفظ قليلاً حتّى يجوز أن يحتمل هذا التأويل فكتبوه على هذا المثال: «ينبعث منهم دم كثير مراراً كثيرة من المنخرين فإنّ من كان لونه منهم حائلاً فإنّ الصرف ينفعه قليلاً ومن كان منهم غالب الحمرة فليس يكون أمره على ذلك المثال ومن كان رأسه خفيفاً مستقلّاً حمولاً فإنّ الصرف ينفعه ومن لم يكن كذلك فلا ينفعه».
ويذكرون أنّ «الصرف» إنّما عنى به الخمر لا في الجزء الثاني من هذا القول فقط لاكن في الجزء الأوّل. وذلك أنّ الأمر في «الصرف» إنّما عنى به في الجزء الثاني الخمر قد يوافق عليه أصحاب هذا القول وغيرهم وهذا الجزء يناقض قول أولائك مناقضة بيّنة.
وبيّن أنّ هذا المعنى في هذا القول كلّه إنّما هو هذا المعنى: إنّ من بلغ به الرعاف الكثير المتواتر إن حال لونه أن ينفعه الصرف وأمّا من كان لونه أحمر غالب الحمرة فليس ينفعه على ذلك المثال إلّا من كان رأسه خفيفاً مستقلّاً حمولاً فقد ينفعه الصرف. معناه في «الصرف» بيّن وهو أنّكم قد سمعتم منّي في هذا مراراً كثيرة وعلمتم أنّه إنّما يعني «بالصرف» الخمر فقد مزج مزاجاً هو إلى الصروفة أقرب كما أنّ المائيّ من المزاج إنّما يقال لمزاج يكون فيه مزاج الماء بالشراب زائلاً عن الاعتدال إلى الرقّة والمائيّة.
وقد ينبغي بعد هذا أن نخبر من هو أصحاب الرعاف الكثير المتواتر الذي ينبغي أن نسقيه الخمر التي هي إلى الصروفة 〈أقرب〉. وذلك أنّي أرى أنّه ينبغي للمفسّر أن يقف على المعاني التي فيها من الدرك والمنفعة مثل ما في هذا المعنى ويصبر عليها وإن طال الكلام فيها لا على المطالبات السوفسطائيّة. وقد اتّفق جميع الناس أنّه ليس عندنا شيء أبلغ وأوفق من شرب الخمر في استيراد القوّة إذا خارت وضعفت وسقطت غاية السقوط ونحن نبادر فنسقيه صاحب هذه الحال إذا ما لم نخف أن يكون منه شيء آخر البليّة فيه أعظم ممّا يناله فيه من المنفعة كالذي ربّما عرض لأصحاب الرعاف. وذلك أنّ الخمر على الطريق العامّ الشامل
لجميع الأشياء المسخنة المذيبة للأخلاط [و]تهيّج انبعاث الدم إلّا أنّه متى كان الإنسان قد بلغت منه مضرّة الرعاف أن يبرد بدنه كلّه برداً شديداً وحال لونه جدّاً فإنّه يجب ضرورة أن نسقيه الخمر لأنّها تردّ إليه قوّته ولا يبلغ من إسخانه للأخلاط فيه أن يحرّك الرعاف.
وأحرى أن نسقي الخمر من كان قد كان لونه من قبل حدوث الرعاف به حائلاً. فأمّا من كان لونه من قبل حدوث الرعاف به متجاوزاً في الحمرة المقدار الذي ينبغي — فإنّ هذا هو المعنى الذي ذهب إليه في قوله «غالب الحمرة» — ثمّ لم ينتقل لونه في وقت حدوث الرعاف إلى ضدّ ذلك اللون انتقالاً تامّاً فقد يلزم أن نستثني هذا أيضاً فليس ينبغي أن نسقيه الخمر. وذلك أنّها تحرّك الرعاف فتجلب من الضرر ما هو أعظم من المنفعة التي تنالها منها لتقويتها القوّة.
(٢٠) قال أبقراط: الذين آنافهم بالطبع أرطب هم أصحّاء والمنى منهم أرقّ وأكثر وأسقم أبداناً الذين فيهم أضداد هذه.
قال جالينوس: قد اختلف في هذا القول جميع المفسّرين وليس الحدث منهم فقط لاكن قد اختلف فيه أيضاً القدماء فلم يكتبه جميعهم على نسخة واحدة ولا تأوّلوه على معنى واحد بعينه. وإحدى تلك النسخ هي هذه النسخة التي أنا واصفها: «الذين آنافهم أرطب بالطبع والمنى منهم أرقّ وأكثر هم أصحّاء وأسقم أبداناً الذين فيهم أضداد هذه». وأصحاب هذه النسخة يريدون أنّ من دلائل البدن
الصحيح رطوبة المنخرين ورقّة المنى وكثرته وأمّا الأبدان التي تلزمها أضداد هذه وهي يبس المنخرين وقلّة المنى وغلظه فإنّها أسقم.
وقد اختلف المفسّرون في السبب في هذا ولم يقصد جميعهم إلى سبب واحد بعينه. فقال بعضهم إنّه إنّما صار أصحاب الآناف الرطبة والمنى الكثير الرقيق أصحّ أبداناً من قبل أنّ مزاجهم أرطب وقال بعضهم إنّ ذلك إنّما كان من قبل أنّ أدمغتهم تنقّى بخروج الرطوبة الفضل عنهما من المنخرين ويبيّنون الأمر في قولهم هذا على أنّ المزاج الذي هو أجفّ أصحّ.
ولهذا القول نسخة أخرى على هذا المثال: «الذين آنافهم أرطب بالطبع فهم أصحّاء والمنى منهم أرقّ وأكثر». وتأويل هذا القول عند أصحاب هذه النسخة أنّ من كان المنخران منه أرطب بالطبع فإنّه أحرى أن يكون صحيحاً ويكون 〈المنى〉 منه أرقّ وأكثر. ولهذا القول أيضاً نسخة أخرى تكتب على هذا المثال: «الذين آنافهم بالطبع أرطب وهم أصحّاء فالمنى منهم أرقّ وأكثر». وتأويل هذا القول عند أصحاب هذه النسخة أنّ من كان المنخران منه أرطب لا في حال مرضه لاكن وهو باقٍ على طبيعته وعلى حال الصحّة فإنّ المنى منه يكون أكثر وأرقّ من غير أن يستثنى في هذا القول هل ينبغي أن يتوهّم على أصحاب هذه الطبائع أنّهم أصحّاء أو أنّهم مرضى.
والذين يتأوّلون هذا التأويل يكتبون ما يتّصل به على هذا المثال: «والذين آنافهم أضداد ذلك ففيهم أضداد هذه» ويريدون أنّ أضداد تلك الأشياء التي ذكرها أوّلاً تلزمها أضداد تلك الأشياء التي ذكرها أخيراً. ولذلك كرّروا «الأضداد» مرّتين متواليتين أعني أنّه يلزم يبس الأنف غلظ المنى وقلّته على أنّا لا نجد على هذا القياس أضداداً لأنّا ليس نجد في كلّ واحد من القولين شيئين يلزمان شيئاً واحداً لأنّ رطوبة الأنف تلزمها كثرة المنى ورقّته ويبس الأنف يلزمه غلظ المنى وقلّته.
وهذا الجزء الأخير من هذا القول قد يكتب أيضاً على هذا المثال: «والذين بهم ذلك من مرض ففيهم أضداد ذلك». وأصحاب هذه النسخة يريدون أنّ من كان المنخران منه بالطبع أرطب وكان المنى منه أكثر وأرقّ فإنّه أصحّ بدناً ومن كانت حاله تلك الحال على غير مجرى الطبع لعارض عرض له من مرض فإنّه توجد فيه أضداد ما يوجد في الأوّل. إلّا أنّ أصحاب هذه النسخة ليس يقدرون يقولون إنّ أضداد الأشياء التي ذكر تلزم صاحب تلك الحال وذلك أنّهم لا يجدون شيئاً آخر البتّة يقولون إنّه لزم من كانت حاله تلك الحال من مرض.
ولهذا الجزء الأخير من هذا القول نسخة أخرى هي على هذا المثال: «وفي أكثر الناس تكون أضداد هذه». وقد تخلّص أصحاب هذه النسخة من أن يكون قولهم غير معقول ولا مفهوم كقول أصحاب النسخة التي وصفت قبلها. وذلك أنّهم يزعمون أنّ المرض هو السبب في الأعراض المضادّة للأعراض التي ذكرت أوّلاً وهي يبس الأنف وغلظ المنى وقلّته.
وقد يكتب هذا القول على نسخة أخرى غير هذه النسخ كلّها الذي تقدّم ذكرها مخالفة لها جدّاً وذلك أنّه غيّر فيها حرفاً فانقلب بسبب ذلك المعنى حتّى صار القول على هذا المثال: «الذين البشرة منهم أرطب بالطبع». ومن البيّن أنّ أصحاب هذه النسخة يعنون «بالبشرة» الجلدة. ويحكمون أنّ من كان مزاجه ذلك المزاج الذي ذكر لنا كان بدنه أسرع تحلّلاً وكان أصحّ بدناً. وأمّا الجزء الأخير من هذا الكلام المتّصل بالجزء الأوّل الذي تقدّم ففيه من الاختلاف ما ذكرنا فيه في ما تقدّم.
(٢١) قال أبقراط: ما يستدير ممّا يقذف بالبزاق فهو يدلّ على الاختلاط مثل الذي كان في الرجل الذي كان يسكن في موضع البلينس ورعف من الأيسر وانحلّ في الخامس.
قال جالينوس: إنّي قد تكلّمت في أمر هذا المريض في شرحي لكتاب أبقراط المعروف بسابق القول فبيّنت أنّ «ما يستدير في ما يقذف بالبزاق» ليس هو من الدلائل الخاصّيّة التي تدلّ على «اختلاط» الذهن 〈لاكن〉 كان فيه تصحيح وتثبيت لتقدمة المعرفة ممّا بذلك وزيادة في الاستبصار به وذلك من قبل أنّه يدلّ على حرارة كثيرة مع يبس والحرارة التي هي بهذه الحال تعين على اختلاط الذهن معونة ليست باليسيرة.
وأمّا ذكره من «الرعاف» الذي كان في اليوم «الخامس» فإنّه لمّا كان لم يضف إلى ذكره هل مات ذلك المريض أم سلم فإنّه لا درك فيه. وقد نجد في كثير من النسخ هذا القول مكتوباً على الإطلاق على هذا المثال: «ورعف من الأيسر وانحلّ» وفي بعض النسخ وجد على هذا المثال: «ورعف من الأيسر في الخامس وانحلّ» حتّى يكون قد استثنى فيه ذكر عدد اليوم. وهذه النسخة هي النسخة التي يعرفها زوكسس وكثير من القدماء غيره وأمّا النسختان الأخريان فكان سائر المفسّرين يودعونها على تعمّد فجعل كلّ واحد من الفريقين تأويله فيها مشاكلاً موافقاً لها.
وأمّا الأمر في أنّ أصحاب علّة السرسام ينفعون بالدم الذي يجري منه وكذلك أصحاب الحمّى المحرقة وقد اختلف فيهم الأطبّاء فليس ينبغي أن أقول في هذا الموضع في جواب هذه المسألة شيئاً لأنّي قد استقصيت وبالغت في استيفائه في موضع آخر.
(٢٢) قال أبقراط: البول الذي يرسب فيه الثفل الكثير يكون به التخلّص من اختلاط الذهن مثل الذي كان في بول دقسيبس من بعد القرع ليس تجاوز الربع السنة الآذان في الصيف الانفجار في الخامس وربّما كان أبعد.
قال جالينوس: أمّا في النسخ فقلّ ما اختلف المفسّرون لهذا الكتاب في هذا الكلام وأمّا في تقسيمه فقد اختلفوا اختلافاً كثيراً وجميعهم يقسّمه إلى أقاويل شتّى لاكنّه ليس يوافق بعضهم بعضاً في تقسيمهم إيّاه. ومن ذلك أنّ القول الأوّل من هذا الكلام قطعه قوم هذا القطع: «البول الذي يرسب فيه ثفل كثير يكون به التخلّص من اختلاط الذهن مثل الذي كان في بول دقسيبس». ويريدون منّا أن نفهم مع قوله «البول الذي يرسب فيه ثفل كثير» مع ما وصفه به من الكثرة أن يكون أبيض ويكون مستوياً أو يكون أملس كما اشترط وحدّد في كتاب تقدمة المعرفة أنّه يكون بهذا البول التخلّص من السرسام بأنّه يدلّ على نضج المرض.
وقد أضاف قوم إلى هذا القول قوله «من بعد القرع» على أنّ قوماً لا يعرفونه البتّة في هذا الكلام وقوم ما يعرفونه إلّا أنّهم يصلونه بالقول الذي يتلوه فيجعلونه افتتاحاً.
والفريقان جميعاً يزعمان أنّه إنّما عنى «بالقرع» سقوط شعر الرأس ويزعمون أنّ الشعر يسقط [و]في علّة السرسام إذا ارتفع إلى الرأس بخار حارّ أو خلط حارّ من جنس المرار فأحرق أصول شعر الرأس. وهم [لا] يجعلون ما بعد هذا قولاً آخر يبتدئ ابتداء آخر وهم في ذلك عندي مصيبون ويقطعون ذلك القول هذا القطع: «ليس تجاوز ربع السنة».
وأمّا قطع من قطع هذا القول هذا القطع: «من بعد القرع ليس تجاوز الربع السنة» فهو قريب من أن يكون غير مفهوم ولا معقول وكذلك إن وصل بآخره «في الصيف». لاكنّ قوماً قد قالوا إنّه ليس يصحّ القول «بألّا تجاوز مدّتها السنة» وقد يمكننا أن نحتجّ على أصحاب هذا القول على وجهين أحدهما أنّا قد نجد أبقراط قد قال أقاويل أخر كثيرة على هذا المثال من غير أن يستثني فيها أنّ الحكم فيها على أن يكون كثيراً أو يكون في أكثر الأمور وليس يكون دائماً والوجه الآخر أنّه متى لم يكن خطاء لا من المريض ولا من الطبيب ولا من خدمه ولا حدثت آفة من خارج فليس يكون «الربع» أكثر من «سنة». فأمّا من لم يفعل ما ينبغي له أن يفعل من المرضى أو كان طبيبه طبيباً لا حذق له بصناعته أو كان خدم الطبيب يخطئون في ما يؤمرون به أو عرضت آفة من خارج تمنع من برئه فقد يعرض له أن تطول به «الربع» أكثر من تلك المدّة.
ومن بعد هذا القول قول آخر يكتب على وجهين أحدهما هذا الوجه: «في الصيف الانفجار في الخامس» والوجه الآخر يكتب على هذا المثال: «الآذان في الصيف الانفجار في الخامس». وأصحاب النسخة الأولى من المفسّرين
يزعمون أنّ المعنى في هذا القول أنّ انفجار الدم يكون في الصيف في اليوم الخامس من المرض على الأمر الأكثر فقد دلّ أبقراط نفسه على ذلك باستثنائه في قوله «وربّما كان أبعد». وأمّا أصحاب النسخة الثانية فيزعمون أنّ المعنى فيها أنّ الآذان في الصيف أحرى أن يشتكي منها في الشتاء لأنّ الرأس في ذلك الوقت ثقيل فترم الآذان وأنّ انفجار أورامها تلك يكون في أكثر الأمر في اليوم الخامس وربّما كان أبعد من ذلك.
(٢٣) قال أبقراط: ما يحدث نحو اللثة واللسان يتقيّح في اليوم السابع وبخاصّة ما كان في اللثة نفسها وما يتقيّح في الأنف.
قال جالينوس: إنّا نجد في بعض النسخ «الياء» ثابتة في قوله «ما يحدث» وفي أوّل قوله «يتقيّح» ونجدها في بعض النسخ 〈ساقطة. وإذا〉 «الياء» ثابتة كان هذا القول قولاً عامّاً شاملاً يعني به أنّ جميع الأورام التي تكون «نحو اللثة واللسان تتقيّح في اليوم السابع» كما عنى في القول الذي قبل هذا أنّ أورام الأذنين تتقيّح في الخامس وإن كانت «الياء» ساقطة من تينك اللفظتين فإنّما ذكر أوراماً وافدة أصابت الناس في ذلك الوقت. وأمّا باقي هذا القول فبيّن واضح.
(٢٤) قال أبقراط: الذين بهم ألم في الأسنان ويأتي من الجبين شيء رقيق إذا حشي الموضع نعماً بفلفل سال منه شيء غليظ من غد إذا كانت الأشياء الأخر لم تغن فإنّ إيجيسبس لم يبلغ له المنوّم من هناك ومع ذلك أيضاً فإنّه كبس بفضل عنف.
قال جالينوس: إنّ هذا القول إنّما قاله أبقراط في «الألم» الذي يحدث «في الأسنان» عندما ينحدر إليها «شيء رقيق» من فوق. وذلك أنّه إنّما يشبه أن يعني بقوله «من الجبين» أي من فوق وإن كان هذا من قوله غامضاً غير مشاكل لغرض أبقراط.
ويقول إنّ من كان به هذا «الألم» ثمّ عولج بأصناف العلاج الأخر «فلم يغن» فإنّه «إن حشي موضع الألم بفلفل» انتفع بذلك لأنّ تلك الفضلة الرقيقة التي تنحدر إلى ذلك الموضع تنضج حتّى يجري «من غد شيء غليظ». ويجب أن يتوهّم أنّ قوله هذا إنّما هو في الأسنان المتأكّلة المثقوبة وذلك أنّه إنّما قوله «إذا حشي الموضع بفلفل» صواباً إذا فهمناه على هذا المعنى.
وقد أحسن وأصاب في استثناء ما استثنى بقوله «إذا كانت الأشياء الأخر لم تغن». وذلك أنّه يأمر ألّا يستعمل حشو الموضع بالفلفل منذ أوّل الأمر من قبل أنّه ينبغي في ذلك الوقت أن نصبّ من المادّة عن الموضع وندفعها عنه. فإن قدرنا على ذلك ولم نحدث في الموضع ورماً فقد تمّت لذلك الأسنان الصحّة. وإن حدث بورم فينبغي أن نقاوم العلّة أوّلاً بالأشياء التي تستفرغ المادّة من غير تلذيع
وهي أشياء حارّة رطبة. وإن عولج صاحب هذه العلّة بهذه الأشياء في الوقت الذي ينبغي ثمّ بقي به الألم ثابتاً فعند ذلك يكون وقت استعمال ما يسخن إسخان الفلفل. وذلك أنّه قد ينبغي أن يحشو النقب الذي في السنّ في ذلك الوقت بالدرديّ المحرق وبالعاقرقرحا وبالفربيون وبالجملة بكلّ ما يسخن إسخاناً قويّاً.
وسكون الألم يكون بضربين أحدهما حسم السبب الذي عنه يحدث الألم والآخر بإخدار الحسّ «فالفلفل» هو من الضرب الأوّل «والمنوّم» هو من الضرب الثاني. ويشبه أن يكون إنّما عنى «بالمنوّم» الأدوية التي تجلب النوم أو يظنّ أنّه نوّم لمن يسهر بسبب ألم من حرارة المزاج ويبسه مثل لبن الخشخاش وهو الأفيون وعصارة اليبروح وقشور أصله وبزر البنج وغير هذه ممّا أشبهها التي تؤلّف مع غيرها وتستعمل من خارج أو من داخل لتحدث سباتاً فإنّ الشيء الذي يحدث عنها بالسبات أشبه منه بالنوم الصحيح. ومن أشباه هذه من الأدوية الدواء الذي ألّفه فيلن وهو المعجون المعروف «بفلونيا». إلّا أنّه ذكر أنّه عندما يستعمل ذلك الدواء المنوّم لم ينجح ولعلّ ذلك إنّما كان لأنّه حشي في ثقب السنّ «بفضل عنف» فإنّه يشبه أن يكون هذا معناه في قوله «ومع ذلك أيضاً فإنّه كبس بفضل عنف».
فأمّا ما بدّله ديسقوريدوس أو غيره من الألفاظ في هذا القول فإنّي ألغيت ذكره على تعمّد إشفاقاً من التطويل.
(٢٥) قال أبقراط: طبيعة العظام من الرأس ثمّ إنّ أمر العصب والعروق واللحم وغيرها والأخلاط وما فوق وما أسفل من البطون والذهن والضروب وما يحدث في السنة في وقت من أوقاتها ممّا يتقدّم في السنة مثل البثور وما أشبه ذلك ممّا هو نظير لما يتقدّم عن وقته في اليوم وما يتأخّر عن وقته على ذلك المثال.
قال جالينوس: إنّي إن ذكرت جميع ما قاله المفسّرون في شرح هذا القول فأطالوا وحشّوا وكذبوا أفنيت في ذلك مقالة بأسرها وأرى أيضاً أنّي إن تركت ذكرهم أصلاً فلم آت بجملة منه وجيزة كان ذلك منّي كسلاً. فإنّي أروم أن أفعل ذلك فأقول إنّ أوّل كلّ شيء أنّه لم يكن ينبغي أن يجعلوا شرحهم ما قيل في هذا القول أن يثبّتوا ويصحّحوا أنّ معرفة الأشياء التي ذكرها أبقراط في هذا القول نافعة لنا — ومن البيّن أنّا إنّما ننال معرفتها من التشريح — إذ كان أبقراط نفسه يتجنّب ذلك ويتوقّاه. وذلك أنّه إنّما ينبغي أن يعلّمناه مرّة واحدة أنّ علم هذه الأشياء نافع ثمّ يذكرنا بذلك متى احتاج إلى الإذكار به في قول من أقاويله من غير أن يروم تثبيته وتصحيحه ثانية. والثاني ممّا لم يكن ينبغي ما كان من القوم الذين راموا أن يصفوا كلّ واحد من «العظام» بأيّ حال هو وكلّ واحد من «الأعصاب» وكلّ واحد من «العروق» وكلّ واحدة من قطع «اللحم» ثمّ بعد ذلك كلّ واحد من «الأخلاط» وكلّ واحد ممّا هو «فوق» أو ممّا هو «أسفل» من أعضاء أبداننا أو من «البطون» التي فيها.
وقد تأوّلوا هذا القول على ضرب من التأويل لأنّهم اختلفوا في نسخته. وذلك أنّ بعضهم كتب مطلقاً «وما فوق وما أسفل» من غير أن يستثنوا فكتبوا «من البطون» وبعضهم استثنى ذلك. وذلك أنّه لم يكن ينبغي أن يضعوا أحوال هذه الأشياء التي ذكرت في هذا الموضع لا بتطويل ولا بإيجاز لاكنّه كان ينبغي إن كانوا قد كتبوا في كتاب آخر علم أمر هذه الأشياء أن يدلّوا على ذلك في الكتاب وإن لم يكونوا
فعلوا أن يدلّوا على من كتب في ذلك صواباً ويحيلون عليه كما من عادتي أنا أن أفعل.
وذلك أنّه إذا جرى ذكر «العظام» أحلت من يريد أن يعلم ما ينتفع به من أمرها باختصار وإيجاز على المقالة التي وضعتها فيها وهي المقالة التي جعلت عنوانها «في العظام للمتعلّمين» وأحلت من يريد أن يعلم قول من قال في بعضها غير الصواب على المقالات الأول من كتاب مارينس في التشريح الذي جعله في عشرين مقالة واختصرته أنا في أربع مقالات. وكذلك من أراد علم أمر «العصب» فإنّي قد وصفت له جميع ما علمته ممّا يظهر في التشريح من أمره في كتب أخر أمّا على نحو ما ينتفع به المتعلّمون ففي مقالة مفردة وضعتها فيه وأمّا على الكمال والتلخيص الشافي الذي يصلح للمستكملين ففي كتابي الذي وضعته في علاج التشريح. وقد وصفت 〈في〉 ذلك الكتاب أيضاً مع تشريح العروق غير الضوارب تشريح العروق الضوارب وتشريح العضل والأعضاء الآليّة المركّبة من هذه التي رام آل سابنس أن يذكروها في تفسيرهم لهذا القول الذي نحن في شرحه كلّها عن آخرها.
وقد ملأ أيضاً إيراقليدس الذي من أهل إروثرا شرحه لهذا هذياناً وكذباً على أنّه لم تكن عادته أن يهذي في كثير من الأمر. فأمّا لوقس الذي من أهل ماقدونيا فيكتفي أن أقول فيه فقط إنّه فسّر هذا القول في ابتداء مقالته الثانية من المقالات التي فسّر فيها هذه المقالة السادسة من كتاب إفيذيميا. فإنّي إذا قلت هذا بان أنّه لم يكن بدّ من أن يفني في شرحه كلاماً كثيراً. وذلك أنّ من عادته في شرح الأقاويل التي يضعها في أوّل كلّ مقالة من مقالته أن يبلغ فيه غاية التطويل ثمّ يكون
شرحه للأقاويل التي بعد ذلك بالقرب من وسط المقالة أطول من المقدار المعتدل بقليل ثمّ يكون شرحه للأقاويل التي يصفها في وسط من المقالة شرحاً متوسّطاً معتدلاً ثمّ يكون شرحه لما بعد تلك أوجز قليلاً من المعتدل ثمّ لما بعد تلك بإيجاز ثمّ للأقاويل التي بآخره بغاية الإيجاز حتّى نجده ربّما كان شرحه للقول الواحد بمقدار عشرة أبيات من شعر أوميرس في أواخر مقالاته وأمّا في أوائل مقالاته فليس يبطّل أن يجعل شرحه للواحد من أقاويل أبقراط في مقدار ثلاث مائة بيت من ذلك الشعر أو أربع مائة بيت أو خمس مائة بيت وربّما جاوز هذا المقدار فقد نجده في شرحه لبعض الأقاويل قد بلغ مقدار ألف بيت. ومن سمع أنّه قد بلغ في شرحه قولاً واحداً ألفاً وأربع مائة بيت لم يصدّق بذلك وقد نجده قد فعل ذلك في المقالة الخامسة من تفسيره لهذه المقالة في شرحه للقول الذي افتتحه أبقراط بأن قال: «إن كان صوته خشناً». وذلك أنّه لم يدع في شرحه لهذا القول شيئاً البتّة ممّا كان القائل يقوله إذا قصد ليضع كتاباً في الصوت.
وأمّا أنا فإنّي لمّا اضطررت لذكر ما ذكرته من هذا قد أسفت على ما أفنيته من الزمان في ذكره لاكنّه قد كان يجب إذ كان ما ذكرت به ولم أقصد به لإذكاركم معشر من عاشرني حين أسعفته بوضع هذا الكتاب. وذلك أنّي [لا] أعلم أنّكم ذاكرون لهذا وقادرون على الوقوف على ما يجري مجرى الهذيان من أقاويل الناس إذ كنتم قد تعوّدتم أن لا تسمعوا إلّا ما ينتفع به فقط لاكنّي إنّما قصدت به غيركم ممّن أعلم أنّه سيقرأ هذا الكتاب في وقت من الأوقات. فلنقطع الآن ذكر المستعملين للهذيان ونأخذ في شرح هذا القول الذي قصدنا لشرحه ونبتدئ أمرنا فيه كما لو لم يكن ذكره بأشياء من قصّة أولائك المفسّرين.
فنقول إنّ الكلام الأوّل من هذا القول الذي ذكرنا فيه «طبيعة العظام من الرأس» إمّا أن يكون يأمر فيه ولا يقصد بالإخبار عن طبيعة العظام أن نبتدئ في مراتب العظام من الرأس وإمّا أن يكون يعني به أنّ تولّد العظام إنّما هو عن عظام الرأس كما أنّ تولّد العصب إنّما هو عن الدماغ وأمّته وتولّد العروق النابضة إنّما هو من القلب. فإن كان أبقراط إنّما قال: «طبيعة العظام من الرأس» وهو يريد بقوله أيّ العظام ينبغي أن نبتدئ بالإخبار عنها من مواضع مختلفة وإن كان إنّما يعني المعنى الآخر الذي هو أبعد غوراً من العلم وهو أنّ طبيعة العظام في الكون الأوّل تبتدئ من الرأس فقد كان ينبغي للمفسّرين أن يقولوا في ذلك شيئاً ولو بإيجاز كما أنا فاعل في هذا الموضع ناسق قولي على ما قد بيّنته وأقمت عليه البراهين في كتب أخر من كتبي.
فأقول إنّ الدماغ لمّا كان قد ابتدأ العصب منه وذلك أنّ العصب إمّا أن ينبت منه لنفسه وإمّا أن ينبت منه بتوسّط النخاع وكان مقدار الجمجمة مناسباً لمقدار الدماغ وجب أن يكون النخاع النابت من الدماغ الذي هو أعظم 〈أعظم〉 اللّهمّ إلّا أن تكون هيئة البدن رديئة فيكون تركيب أعضائه غير مستوٍ ولا متعادل. ويتبع أيضاً مقدار النخاع مقدار الفقار الذي يحويه الذي يقال لتركيبه «الصلب»؛ ومقدار الصلب أيضاً يناسبه مقدار العظم العريض المتّصل بطرفه الأسفل؛ ومقدار هذا العظم أيضاً أن يناسبه مقدار كلّ واحد من العظمين المتّصلين به الذي فيه الحُقّ؛ ومقدار هذا العظم مناسب لمقدار الفخذ إذ كان رأس عظم الفخذ داخلاً في الحُقّ من ذلك العظام ومن هناك يكون ابتداء الرجل. فيكون الساق بعد الفخذ بحسبه والقدم بعد الساق بحسبها. وذلك أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّ أصابع القدم تخلق أوّلاً ثمّ يتبعه سائر العظام التي في القدم ثمّ يتبعها عظما الساق ثمّ يتبعها عظم الفخذ ثمّ يتبع عظم الفخذ عظم الحقّ ثمّ يتبع هذا العظم العظم العريض ثمّ
يتبع العظم العريض الفقار ثمّ يتبع الفقار الجمجمة وليس يمكن أيضاً أن تكون الأضلاع من الصدر أو عظم القصّ أو عظم الترقوتين إلّا من بعد فقار الظهر.
والقول في اليد بأسرها شبيهة بالقول في الرجل بأسرها وذلك أنّه ليس يمكن ولا في اليد أيضاً أن يتوهّم أنّ الطبيعة إنّما أسّست أوّلاً عظام الأصابع من اليد ثمّ بنت عليها عظام مشط الكفّ ثمّ بنت على تلك العظام الرُسغ ثمّ بنت على تلك عظام الساعد ثمّ على عظم الساعد عظم العضد ثمّ على عظم العضد عظم الكتف. فقد كان ينبغي للمفسّرين أن يقولوا هذا ولو قولاً 〈وجيزاً〉 في شرح الكلام الأوّل من هذا القول الذي ذكر فيه «طبيعة 〈العظام» وطبيعة〉 «العصب» وطبيعة «العروق».
وهو في ذكره «العروق» كما خبّرتكم مراراً كثيرة يشتمل مع العروق غير الضوارب العروق الضوارب وقد يحتاج إلى أن تعلم أيّ المواضع هي ابتداء العروق غير الضوارب وأصلها وأيّ المواضع هو أصل العصب وابتداؤه. فإنّه ليس يعني بذكره هذه الأشياء التي ذكرها أنّه ينبغي أن تعلم «طبيعة العظم من الرأس» وكذلك طبيعة «الأعصاب» النابتة من الرأس «والعروق» الضوارب وغير الضوارب «واللحم» لاكنّه ينبغي أن تعلم من أمر «العصب» ما أعلمناه أبقراط في غير هذا الكتاب من أنّ أصله ومبدأه الدماغ وتعلم من أمر العروق الضوارب أنّ أصلها ومنبتها القلب ومن أمر العروق غير الضوارب أنّ أصلها ومنشأها الكبد ثمّ إنّ كلّ واحد من هذه الثلاثة الآلات بعد أن ينبعث من المواضع التي ينبعث منها ينبثّ في البدن كلّه.
وينبغي أن تعلم أيضاً من أمر «اللحم» أشياء أوّلها أنّ ابتداء تدبير حياته ليس هو كابتداء حياة العصب والعروق الضوارب وغير الضوارب والعظام. وذلك أنّا قدّمنا من أمر العصب والعروق الضوارب وغير الضوارب أنّه يجري إلى كلّ واحد من هذه الأجناس الثلاثة قوّة من الأصل الذي ينبت منه وأمّا العظام فإنّه إنّما تنبعث إليها
مادّة فقط منها تغتذي. وأمّا اللحم فتنبعث إليه من العصب قوّة وتنبعث إليه من العروق الضوارب وغير الضوارب مادّة.
وبيّنت أيضاً أنّ هذه الأجناس الثلاثة من الأوعية تتشعّب من أوعية أعظم منها هي لها بمنزلة ساق الشجرة للشعب والأغصان ونباتها من أوّله شبيه بنبات ما ينبت في الأرض. وأمّا نبات العظام ونبات اللحم فليس هو كذلك لاكنّه كأنّه بتأليف البيت أشبه. وذلك أنّ البيت أيضاً ليس ينبت فيه الحائط من الأساس ولا السقف من الحيطان ولا القراميد من السقف لاكنّه إنّما يوضع كلّ واحد من هذه على الآخر ويعمد عليه. فهذه الأشياء كلّها أشياء قد بيّنّاها وأتينا عليها بالبراهين كما قد علمتم في الكتب التي تليق بها وينبغي أن يكون القارئ لهذا الكلام الذي نحن في شرحه الآن ذاكراً. وكذلك ينبغي أن يكون ذاكراً لأمور غيرها يعني من سائر أعضاء البدن وهي الرباطات والغضاريف والأغشية والغدد والشحم والأظفار فإنّ طبيعة اللحم يحصرها العضل وأمّا هذه الأخر فطبيعة كلّ واحد منها مخالفة لطبيعة سائرها ولطبيعة تلك الأعضاء التي تقدّم ذكرها.
ثمّ إنّ أبقراط بعد ذكر «الأخلاط» في تعديده ما عدّد ممّا في البدن. وقد أخطأ قوم فوصلوا ذكر «الأخلاط» بقوله «وغيره» فكتبوا «اللحم وغيره من الأخلاط» وظنّوا أنّه يعني بهذا القول أنّه يحتاج إلى أن يعلم طبيعة العظام والعصب والعروق وإلى أن يعلم أيضاً طبيعة اللحم وطبيعة غيره من الأخلاط. وليس يشبه عقل أبقراط ولا عبارته أن يسمّي اللحم «خلطاً من الأخلاط» من قبل أنّ تولّد اللحم وغذاءه إنّما يكون من الدم.
ثمّ كتب بعد هذا: «وما فوق 〈و〉ما أسفل من البطون». وقد تعرّف هذا الكلام قوم من المفسّرين فكتب من غير ذكر «البطون» فإن كان يكتب من غير
ذكر «البطون» فينبغي أن يفهم عنه من الأعضاء حتّى يكون قوله على هذا المثال: إنّه ينبغي للطبيب أن يعرف مع ما يعرف طبيعة الأعضاء التي هي فوق 〈و〉الأعضاء التي هي أسفل. وإن كان يكتب مع ذِكر «البطون» فهمنا عنه جميع الأغوار المحسوسة وهي في الدماغ أربعة كما قد رأيتموها مراراً كثيرة 〈و〉في المنخرين اثنان وغور آخر في الفم من بعده غور آخر في الحلق ثمّ من بعده غور في الحنجرة وقصبة الرئة ومن بعده فضاء آخر فيما بين الصدر والرئة. وفي آلات الغذاء أغوار أخر بعضها في المريء وبعضها في المعدة وبعضها في الأمعاء الدقاق وبعضها في الأمعاء الغلاظ وأغوار أخر في الكلى والمثانة والرحم وإلى هذا الموضع قد نجد قوله متّصلاً اتّصالاً بيّناً.
وأمّا ما كتبه بعد هذا من قوله «والذهن والضروب» فقد عزله قوم عمّا تقدّم ذكره وللواصل أن يصله به. وذلك أنّه كما أمر الطبيب أن يعرف الأشياء التي تقدّم ذكرها كذلك يجوز أن يكون أمره أن يتفقّد «ذهن» المريض «وأخلاقه» كيف حاله فيهما بعناية. ويعني «بالذهن» القوّة التي تكون بها الرؤية ويعني «بالضروب» القوّة التي تكون بها الأخلاق. وذلك أنّ الذهن إذا كانت قد دخلت عليه آفة أو كان باقياً على الأحوال الطبيعيّة دلّ على أحوال الدماغ وأمّا الأخلاق فتدلّ على أحوال القلب والكبد والأخلاط. وأعني «بالأخلاق» أن يكون المريض قد صار أحدّ ممّا كان أو صار أشدّ تقدّماً ممّا كان أو صار أشدّ غمّاً أو صار طلقاً من غير سبب يدعو إلى ذلك أو صار أميل إلى الصمت والسكوت ممّا كان أو صار أشدّ حياء ووقاراً ممّا كان أو أوقح ممّا كان أو أخبث نفساً ممّا كان. فقد أعلمتكم كيف تتعرّفون الغالب على البدن من الأخلاط من جميع هذه الأخلاق.
وقد ظنّ قوم أنّه لا فرق بين «الذهن» وبين «الأخلاق» فقرؤوا اللفظة التي معناها في العربيّة «الضروب» قراءة انقلب بها معناها فصار »الانقلاب» هرباً منهم من تكرير الشيء الواحد باسمين مختلفين. وزعموا أنّه يعني «بالانقلاب» تغيّر الهواء المحيط بالأبدان التي ينقلب بها مزاجه فيصير أسخن ممّا كان أو أبرد أو أجفّ أو أرطب أو يصير راكداً أو متحرّكاً بالرياح إمّا بالشمال وإمّا بالجنوب وإمّا بالصبا وإمّا بالدبور. ويصلون بهذا ما يتلوه فيحذفون «الواو» ويجعلون مكانها «ميماً» حتّى يكون اتّصال الكلام على هذا الطريق: «والذهن والانقلاب ممّا يحدث في السنة في وقت من أوقاتها». وذلك أنّ جميع المفسّرين إلّا الشاذّ إنّما 〈يعرفون〉 النسخة التي «الواو» فيها ثابتة وكذلك توجد في النسخ القديمة.
وقد فهم قوم عنه من قوله «الانقلاب» أن كان عناه لا حلّ انقلاب يكون في الهواء المحيط بالأبدان لاكنّ منقلبي الشمس فقط اللذين يكونان عنه في الشتاء والصيف. ولو كان ذكر منقلبي الشمس فقط اللذين يكونان عنه في الشتاء والصيف لقد كان أضاف إلى ذكرهما الاستوائين وطلوع النجوم المشهورة وغروبها. وذلك أنّا نجد أبقراط كما يذكر المنقلبين كذلك يذكر الاستوائين وطلوع الكواكب الجليلة المشهورة وغروبها وليس يذكر ذلك في هذه المقالات من كتاب إفيذيميا فقط لاكنّه يذكرها أيضاً في غيرها من كتبه.
فالأجود أن نفهم عنه من قوله «الانقلاب» أن كان عنى به كلّ تغيّر يحدث في الهواء المحيط بالأبدان. وذلك أنّا قد نجد الهواء في وقت طلوع الكواكب الجليلة القدر وغروبها وفي الاستوائين أعني الاستواء الربيعيّ والاستواء الخريفيّ وفي المنقلبين أعني المنقلب الشتويّ والمنقلب الصيفيّ ينقلب ويتغيّر ويستحيل الاستحالات التي ذكرتها قبل إلى الحرّ وإلى البرد وإلى اليبس وإلى الرطوبة وإلى الحركة بالرياح وإلى الركود.
وقد يحدث في الهواء انقلاب أيضاً في أوقات أخر كالذي ذكرناه على التفاريق في هذا الكتاب أعني كتاب إفيذيميا في مواضع كثيرة وذكره بالجملة في كتاب الفصول حين قال: «إنّ السنة إذا كانت منتظمة يرى كلّ واحد من أوقاتها حقّه كانت أمراضها حسنة النظام ومحمودة البحران وإذا كانت السنة غير منتظمة كانت أمراضها أمراضاً غير منتظمة مذمومة». وذلك أنّ السنة إذا كانت غير منتظمة كان من شأنها أن تفسد استحالات الهواء التي تكون في أكثر الحالات. وقد دلّ على ذلك في هذا الموضع أيضاً خاصّة بقوله في هذا الكلام «ممّا يتقدّم في السنة مثل البثور». وذلك أنّه يريد بهذا الكلام أن ترصد وتتفقّد استحالات الهواء التي تكون في أوقات السنة هل تتقدّم أو تتأخّر عن حدّها. من ذلك أنّ «البثور» من شأنها أن تكون في الربيع لاكنّها ربّما تقدّمت وكانت قبل في كثير من الناس ولا تنظر إلى وقتها وحدّها وهو وقت الاستواء الذي هو انقضاء الشتاء وابتداء الربيع.
وقد ذكر في كتاب الفصول الأمراض التي تشاكل كلّ واحد من أوقات السنة وتخضّه وقال هناك في الربيع هذا القول: «وذلك أنّه يحدث في الربيع وسواس سوداويّ وجنون وصرع وانبعاث دم وذبحة وزكام وعلّة التقشّر وقوابٍ وبهق وبثور متقرّحة كثيرة وخَراجات وعلل المفاصل». فذكر في هذا الموضع «البثور» بأسمائها وهي علّة ربيعيّة فأذكر بسائر تلك العلل الربيعيّة بقوله «وما أشبه ذلك» فذكر بجميع ما ذكره من العلل في هذا الفصل الذي وصفناه قبيل.
وإذا قال بعد هذا: «ممّا هو نظير لما تقدّم عن وقته في اليوم وما يتأخّر عن وقته على ذلك المثال» فقد ينبغي أن تتذكّر أيضاً ما قاله في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا فجعل فيه بين اليوم وبين السنة كلّها مناسبة وهو القول الذي افتتحه بأنّ «الدود الذي يكون في الدبر يهيج بالعشيّ». فكما أنّ استحالات الهواء المحيط بالأبدان في جملة السنة ربّما تأخّرت عن حدّها ووقتها الذي من عادتها أن تكون فيه وربّما تقدّمه كذلك في اليوم الواحد فيه وتتأخّر عن أوقاتها.
(٢٦) قال أبقراط: البدن الذي يغلب عليه المرار والدم تغلب عليه السوداء إذا لم تكن له استفراغات.
قال جالينوس: قد قلت مراراً كثيرة إنّه ليس ينبغي أن نعني بالتمييز بين النسخ المختلفة إذا كانت كلّها حافظة لمعنى واحد بعينه كبير عنايته كما لا نعني في الأمور الخسيسة الحقيرة أو نتخلّف من الأشياء الجليلة النفيسة. وكذلك لست أقصد للبحث في هذا القول على أيّ نسخة أجود النسخ التي وضعتها قبيل إمّا التي افتتاحها ذكر «البدن» كما كتب قوم أو النسخة التي فيها مكان ذكر «البدن» ذكر «اللون» فإنّ قوماً قد كتبوا هذا القول على هذا المثال: «اللون يغلب عليه المرار والدم تغلب على صاحبه السوداء إذا لم تكن له استفراغات». وقد كتب قوم أيضاً مكان «الذي يغلب المرار» «الذي يميل إلى المرار» ومكان «الذي يغلب عليه الدم» «〈الذي〉 يميل إلى الدم». وكتب قوم أيضاً مكان «غلبه المرار» «الذي الاستفراغات صبابات» وقد كتب قوم ما هو أردأ من هذا فجعلوا مكان «الاستفراغات» «أبوالاً». فإنّه لم يفسد شيء من كتب أبقراط كما أفسدت هذه
المقالة من كتاب إفيذيميا وكذلك أنّ كلّ واحد ممّن ضرب يده إليها غيّر ألفاظها إلى الألفاظ التي أحبّ وهوى.
فالمعنى في هذا القول من أبقراط هو هذا المعنى الذي أنا واصفه: يقول إنّ البدن الذي يغلب المرار يعني البدن الذي يجتمع فيه من المرار المعروف «بالأحمر» «والأصفر» مقدار كثير — فقد علمنا أنّه متى قيل اسم «المرار» مطلقاً بلا استثناء يدلّ على لونه فإنّما يعني به هذا المرار — مستعدّ متهيّئ لأن يجتمع فيه من المرار الأسود مقدار كثير لأنّ المرار الأصفر يسخن حتّى تفرط عليه الحرارة فيعرض له شبيه بالاحتراق على طول المدّة. وكذلك الطبائع التي يكون الدم فيها كثيراً قد يجتمع فيها على طول المدّة الخلط السوداويّ بمنزلة الثفل والدرديّ وهذا الخلط السوداويّ هو مستعدّ متهيّئ لأن يكون مرّة سوداء إذا أفرطت عليه الحرارة من سبب من الأسباب. وهذه المرّة السوداء تكون غليظة جدّاً وتكون الحدّة فيها والتأكّل أقلّ وأمّا المرّة السوداء التي تتولّد عن الصفراء إذا أسخنت سخونة مفرطة فهي أخبث المرّة السوداء وأشدّها حدّة وتأكّلاً. ومن شأن ذلك أن يكون فيها إذا لم يستفرغ الفضل منها الغالب الزائد على المقدار الطبيعيّ إمّا بتفتّح أفواه العروق التي في السفلة فإنّ بذلك خاصّة يكون استفراغ هذا الخلط وإمّا بالرعاف وإمّا بالقيء وإمّا باختلاف الدم وإمّا بالحيض في النساء.
(٢٧) قال أبقراط: لوقينس في الأقاصي عظم طحاله وأوجعه وهو بعد في الرابع أو في الخامس.
قال جالينوس: هذا القول ليس ينتفع به إلّا الذي كتبه فقط وجعله تذكرة له وذلك أنّه هو العالم بما كان عرض للوقينس هذا فيما تقدّم. وقد ذكر لوقينس هذا في المقالة الرابعة من كتاب إفيذيميا.
تمّت المقالة السادسة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة السابعة
المقالة السابعة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: السعال ابتدأ نحو منقلب الشمس الشتويّ إمّا في اليوم الخامس عشر وإمّا في اليوم العشرين من تغايير متوالية من رياح جنوبيّة وشماليّة ثلجيّة وكان بعض العلل الحادثة من ذلك أقصر وبعضها أطول وعلل من علل ذات الرئة كثيرة. ثمّ من بعد ذلك من قبل الاستواء عاودت العلل أكثرهم وكانت العودة في الأكثر بعد أربعين يوماً منذ أوّل الأمر وكانت العلل في بعضهم يسيرة جدّاً حسنة البحران وأصابت بعضهم أورام في حلوقهم وأصابت بعضهم ذبحة وأصابت بعضهم علل من علل الفالج وأصاب بعضهم عشى وخاصّة الصبيان منهم.
قال جالينوس: إنّ «تغايير الرياح الجنوبيّة والشماليّة» قد تضرّ بالبدن كلّه وتقرع الرأس خاصّة لأنّ هذا العضو لا يزال في أكثر الحالات مكشوفاً. وطبيعة الجنوب إن كنتم ذاكرين لما قيل في كتاب الفصول فيما يملأ الرأس رطوبة فأمّا طبيعة الشمال فإنّها تستفرغه بجمعها إيّاه وتلزيزها له وعصرها لما قد كان اجتمع فيه قبل. ولذلك إذا ذهبت الشمال بعد الجنوب حرّكت على الناس «السعال» وأحدثت «علل الذبحة وذات الرئة» وسائر العلل التي شأنها أن تحدث عن النزلات من الرأس كالذي حدث في هذه الحال التي وصفها أبقراط ذات الرئة أوّلاً ثمّ حدثت بعدها علل أخر ولا سيّما من قبل أنّ «رياحاً ثلجيّة» هبّت فبرّدت الرأس تبريداً شديداً وفعلت ذلك من أعضاء التنفّس خاصّة ممّا يلي الحلق والحنجرة. ثمّ إنّ تلك العلل «قبل الاستواء» بقليل أو بعده بقليل — قد نجد هذا الكلام يختلف في النسخ على هذين الوجهين — «عاودت» من الرأس فكان إضرارها بالأبدان أشدّ وأقوى حتّى حدثت علل من جنس «الفالج» لأنّ ذلك الفضل الذي ينحدر من الرأس غاض في أعضاء البدن. وسنذكر تلك الأعضاء ونصف أمرها وصفاً أبلغ بعد قليل وكذلك سنصف فيما بعد أمر «العشى» بشرح أبلغ.
(٢) قال أبقراط: أمّا ما حدث من علل ذوات الرئة فكان يسيراً جدّاً.
قال جالينوس: ما هو هذا مناقض لما قاله قبل حين قال: «وعلل من علل ذات الرئة كثيرة» لأنّ تلك حدثت في «أوّل الأمر» من بعد «المنقلب الشتويّ» وأمّا هذه العلل فحدثت نحو «الاستواء» الربيعيّ.
(٣) قال أبقراط: والعشى إنّما أصاب من لم يسعل بأخرة أصلاً أو كان سعاله يسيراً جدّاً حتّى كان ما أصابه من العشى مكان ما أصاب غيره من السعال.
قال جالينوس: إنّ الفضل الذي كان ينحدر من الرأس إلى الرئة إذا مال إلى العينين فإنّه كان يسكن «السعال» ويحدث «العشى». ومعنى «العشى» أن يكون صاحبه لا يبصر بالكلّ لا في القمر ولا عند السراج. والأعشى يسمّى عند اليونانيّين «نقطالبس» ويزعمون أنّه اشتقّ له هذا الاسم من «نقطوس» وهو الليل ومن «ألاس» وهو العشى ومن «أوبس» وهو العين كأنّهم سمّوا «الأعشى بالليل».
(٤) قال أبقراط: وكانت علل الذبحة وعلل الفالج إمّا أن يقذف منها شيء صلب يابس وإمّا أن يقذف منها شيء يسير نضيج مراراً يسيرة وقد كان فيهم من يقذف جدّاً.
قال جالينوس: إنّ قول أبقراط هذا إنّما هو فيما يقذف بالبزاق وذلك ملازم «للذبحة» وليس بملازم «للفالج». وذلك لأنّ «الذبحة» تكون في عضل الحنجرة
وأمّا علل «الفالج» فتكون خاصّة في اليدين والرجلين كما قد وصف أبقراط نفسه بعد قليل.
ومن المفسّرين قوم لا يعرفون هذا الكلام الذي تقدّم منذ ابتدأت هذه المقالة مثل زوكسس والمتبع له في أكثر نسخة وهو روفس. وأمّا ما يتلوه فجميع المفسّرين يعرفه.
(٥) قال أبقراط: ومن كان منهم أتعب نفسه بالصوت فضل تعب أو أصابه برد كان أحرى أن تصيبه ذبحة ومن كان منهم تعب بيده فإنّ الفالج كان يصيبه في يديه فقط وأمّا من كان تعبه بفضل ركوب أو سفر أو بغير ذلك ممّا يتعب الرجلين فإنّ سوء التماسك الفالجيّ كان يعرض له في أسفل الظهر وفي الرجلين أو كان يعرض له في الفخذين والساقين إعياء وألم.
قال جالينوس: إنّ الفضل المنحدر من الرأس أحرى أن يضطرّ إلى الأعضاء التي تقدّم له «تعب» منه إلى غيرها. وقد حرّف قوم قوله «كان أحرى أن تصيبه ذبحة» بعض التحريف فانقلب به معناه فصار «كان أحرى أن يموت بالذبحة». وليس إلى اقتصاص هذا يقصد أبقراط في هذا الكلام — ولاكنّ علل الذبحة في
تلك الحال خبيثة — لاكنّ جملة قوله إنّما هو أنّ الأعضاء التي قد تقدّم لها تعب هي التي تقبل النزلة المنحدرة من الرأس.
وأمّا «سوء تماسك الرجلين» فعنى به ضعفهما حتّى لا يمكن صاحبهما أن يعتمد ويثبت عليهما بقوّة. وأمّا ما ذكر من أنّه «عرض» لبعض اعتلّ في تلك الحال «في الفخذين من الإعياء والألم» فقد يجوز أن يكون عنى به أنّ ذلك وحده عرض لهم من غير علّة الفالج ويجوز أن يكون عنى به أنّه عرض ذلك لبعض أصحاب الفالج. وذلك أنّ الفالج التامّ إنّما يحدث في العضو إذا عدم الحسّ والحركة أصلاً. وقد رأينا من عدم في بعض أعضائه الحركة بغتة إلّا أنّه مع ذلك يحسّ ويألم ذلك العضو وخاصّة متى حرّك ذلك العضو العليل بنوع من الحركات أيّ نوع كان.
(٦) قال أبقراط: وأشدّ ما كان منها وأعنفه ما كان أمره يؤول إلى الفالج.
قال جالينوس: ما يسهل أن يعلم ما هو الشيء الذي عناه بقوله «إنّه أشدّ ما كان منها وأعنفه» وذلك أنّه إنّما كان ذكره «الألم» فقد كان ينبغي لو كان يشقّ هذا عليه ألّا يقول «وأشدّ ما كان منها» لاكن يقول «وأشدّ ما كان منه» إلّا أن يكون وقع في هذا الكلام أيضاً خطاء منذ أوّل الأمر فأثبت. وقد كان ينبغي أن نذكر كما قد نجد في هذا الكتاب كلاماً كثيراً قد وقع فيه من الخطاء البيّن مثل هذا وأكثر منه لأنّه إنّما نسخ من أرسام كان أبقراط أثبتها لنفسه للتذكرة.
ولعلّ أبقراط نفسه لمّا كان قد ذكر «الألم» وكان الألم في لسان اليونانيّين قد يسمّى بأسماء أخر تحتوي على التأنيث خطر بعض تلك الأشياء بباله فظنّ بالسهو والغلط أنّه ذكره فنسّق عليه قوله هذا وقد يعرض لنا من السهو والخطاء كثيراً مثل هذا. ولعلّه أيضاً يكون لم يذهب عليه تبديل النسق لاكنّه استخفّ واستهان به وقد نجد مثل ذلك في كلام غيره من القدماء في مواضع كثيرة. وأنا ناسخ بعض تلك المواضع من كتب القدماء ليكون لك مثالاً.
قال حنين: ثمّ اقتصّ جالينوس أقاويل من أقاويل أوميروس وأفلاطن وغيرهما من القدماء قد يدلّ النسق فيها ونسق الشيء على غير ما هو ملائم له ليس له في العربيّة نظائر تحسن فتركت ترجمتها لأنّه لا ينتفع بها في العربيّة إذ كانت لا تفهم فضلاً عن أن تستحسن أو ينتفع بها.
ثمّ قال جالينوس: فقد كتب كثير من القدماء كلاماً كثيراً جدّاً رأيت أنّي إن نسخته كلّه في هذا الموضع كنت بسببه أن أنسب إلى التخلّف عن العلم أولى منّي بأن أنسب إلى التقدّم فيه وكثرته ولذلك رأيت أن أقطع كلامي في هذا الموضع.
(٧) قال أبقراط: وجميع هذه الأشياء كانت تكون بعد العودات وأمّا في ابتداء الأمر فقلّ ما كانت تكون.
قال جالينوس: أمّا في أوّل تلك الحال من أحوال الهواء وابتداء حدوث الأمراض التي كانت في الشتاء من بعد المنقلب الشتويّ فإنّ جميع الأعراض التي كانت تعرض للمرضى كانت يسيرة. وأمّا نحو الاستواء فكانت الأمراض تعاود الأكثر
وتكون أخبث ممّا كانت عليه قبل لأنّ بطول لبث تلك الحال من الهواء على الاختلاف كان ينال البدن من الضرر أكثر ممّا كان قبل ولأنّ الأبدان مرضت قبل.
(٨) 〈قال أبقراط:〉 وفي كثير من هؤلاء كان السعال يتماثل في وسط من الأمر وأمّا إقلاع فلم يكن يقلع بسرعة لاكنّه كان مجمعاً للعودة.
قال جالينوس: أمّا قوله في «السعال» إنّه «كان يتماثل» فلم يعن به أنّه كان يسكن سكوناً تامّاً لاكنّه إنّما عنى به أنّه كان ينتقص. وهذا بعينه أعني أنّه لم يكن يسكن قد كان دليلاً على ما كان بأن يحدث من عودة تلك الأمراض التي لها أن يزيد السعال.
(٩) قال أبقراط: ومن تفطّر صوته منهم بالسعال فأكثرهم لم يحمّ أصلاً ومنهم من حمّ يسيراً ولم تصب أحداً أيضاً من هؤلاء ذات الجنب ولا فالج ولا شيء آخر قويّ أصلاً لاكنّه كان ينقضي بالصوت.
قال جالينوس: إنّ أبقراط لمّا ألحق في آخر كلامه هذا اللحق أعني قوله «كان ينقضي بالصوت» قد يبيّن لنا السبب في ذلك العارض الذي عرض: إنّ من غاض فيه جميع الفضل في نواحي الحنجرة وقصبة الرئة فإنّ الصوت منهم نالته آفة عظيمة
حتّى فسد أصلاً وهذا كان معناه في قوله «تفطّر». وأمّا سائر الأعضاء فإنّها سلمت من الصدر من تلك النزلة.
(١٠) قال أبقراط: وأمّا علل العشى فكانت تستقرّ كالتي كانت تكون من أسباب أخر.
قال جالينوس: إنّي لأعجب كيف توهّم قوم أنّه عنى بقوله «تستقرّ» «تنقص وتنحلّ». وذلك أنّ من عادة أهل لساننا أن يوقعوا هذا الاسم على ما يتمكّن ويثبت وقد نجده أيضاً إنّما قال هذا القول على هذا المعنى كما سيتبيّن لك بما يأتي به من قوله بعد.
(١١) قال أبقراط: وكانت علل العشى تصيب الصبيان خاصّة ومن الأعين الكحل والمختلفة الألوان والتي الناظر منها صغير وجملة السواد منها كبير ومن كان ينسب إلى أنّه أعين أولى من أن ينسب إلى أنّه صغير العينين وكان أكثرهم سبط الشعر أسوده.
قال جالينوس: إنّ الناظر إذا نظر في أمر أكثر الأطبّاء أعجب منه وذلك أنّهم يمنعوننا من أن نبحث كيف يكون النظر منّا ولا يمتنعون من أن يصفوا الأسباب في العلّة التي تسمّى «العشى» وفي غيرها من العلل التي تكون في العينين. ومن عادة أهل لساننا أن يسمّوا «بالأعشى» من كان لا يقدر أن يبصر بالليل لا في ضوء القمر ولا في ضوء السراج ويزعمون أنّ أصحاب هذه الحال إنّما سمّوا بالاسم الذي يسمّيهم اليونانيّون به من قبل أنّهم يصيرون بالليل عمياناً.
وقد تصيب قوماً علّة يعرض لهم منها ضدّ هذا حتّى يبصرون بالليل أكثر وبالنهار أقلّ وقد يزعم بعض الناس أنّ الاسم الذي سمّى به العشى في لسان اليونانيّين قد
يعمّ أصحاب تلك العلّة أيضاً حتّى يكون ذلك الاسم يسهم نوعين من العلّة إحداهما علّة من لا يرى بالليل والآخر علّة من لم يرى بالنهار.
ومن سلك في الطبّ طريق القياس فقد يجب عليه أن يبحث وينظر ما هي العلّة التي يعرض منها العارض وليس يمكن أن يعلم أحد ذلك ما دام يجهل كيف يكون البصر منّا. وأولائك الأطبّاء يمنعوننا من البحث عن هذا والنظر فيه لأنّه عندهم مجاوز لمقدار النظر في الأمور الطبيعيّة من الطبّ ويزعمون أنّ النظر في الطبائع في الطبّ حدوداً لا ينبغي أن يتجاوزه من يتعلّل في البحث والنظر إلى أن يبحث وينظر كيف يكون البصر من المبصر. فقد تجوز تلك الحدود إلّا أنّا إذا سألناهم عن تلك الحدود أيّ الحدود هي لم نجد عندهم شيئاً بيّناً واضحاً مخلّصاً لاكنّهم يحيلون أقاويلهم إلى فوق وأسفل بالهمز والهذيان. وذلك أنّهم لا يجدون للنظر في الطبائع من الطبّ مقداراً خلا الحال التي منها يكون الاستدلال على ما يكون به شفاؤها وليس يمكن أن توجد الحال التي عنها يكون العشى أو الجهر دون أن يعلم كيف يكون البصر من المبصر.
وأحرى أن يعجب منهم إذ كانوا في هذا القول الذي وصفناه بشرحه يرومون أن يردّوا السبب الذي له صار «الصبيان» أولى من غيرهم من أصحاب سائر الأسنان بأن «أصابتهم علّة العشى» والسبب الذي صارت «الأعين الكحل» أولى بهذه العلّة «والأعين المختلفة الألوان» والتي «الناظر منها صغير وجملة السواد عظيم» والسبب الذي صارت له «الأعين» أولى بهذه العلّة والذي «شعره سبط» والذي «شعرته سوداء» حتّى عرض لهؤلاء أن أصابتهم هذه العلّة أكثر ممّا أصابت من حاله أضداد حالات أولائك. فقد يذكرون في ذلك أسباباً بديعة ليست تصحّ لا
بالقياس على الظاهر من الظاهر الذي يسمّيه اليونانيّون «سلوجسموس» ولا بالقياس من الظاهر على الخفيّ الذي يسمّيه اليونانيّون «أنالوجسموس» من القياس الذي يقبل ويقنع به. وذلك أنّهم لا يعرفون الفرق فيما بين هذين القياسين فضلاً عن أن يكونوا قد تخرّجوا وتدرّبوا فيها.
فأمّا أنا فإنّي وإن كنت قد ألغيت ذكر ما قالوه على غير ما ينبغي فإنّه على حال قد طال تفسيري لهذه المقالة حتّى أنّ هذه المقالة منه المقالة السابعة. فأنا تارك ذكر أولائك وملتمس الإخبار بالأسباب فيما ذكره أبقراط وأستعين على وجودها واستخراجها بأشياء ممّا يظهر حسّاً وبأشياء قد بيّنتها في كتب أخر من كتبي.
وممّا يظهر في الناس أنّهم ليس من الظلمة فقط يعمون لاكنّ الأبصار التي هي أضعف قد يعميها أيضاً الضرّ إذا كان أصابه رمد منذ مدّة ليست بالكثيرة. وأمّا الشمس فلم يقدر أن يثبت نظره فيها أحد ممّن عيناه في غاية القوّة فضلاً عن عيناه ضعيفتان من غير أن يناله ضرر عظيم. وأمّا في الضوء المعتدل فإنّ أحدّ الناس بصراً ينظر إلى مسافة بعيدة ويدرك بصره الأشياء على غاية الاستقصاء والإثبات وهو مع ذلك بالليل يقدر أن يقرأ في القمر. وأمّا من كان بصره أقلّ حدّة فهو يحتاج إلى أن يقرب منه ما يراه حتّى يراه ولا يقدر يرى الشيء الصغير رؤية بيّنة 〈ويرى〉 ما يرى في السراج وفي ضوء القمر رؤية خفيّة. فهذا ما ينبغي أن يستعمله من القياس من الشيء الظاهر على ما هو ظاهر إلّا أنّه أقلّ ظهوراً منه في الأبصار التي هي أقوى والأبصار التي هي أضعف.
وأمّا الأشياء التي قد بيّنّاها بطريق القياس من الظاهر على الخفيّ وينبغي أن نتّخذها أصلاً لهذا القول الذي نحن فيه فهي ما أنا واصفه: أقول إنّ الجوهر المضيء الذي ينبعث من الدماغ إلى العينين ينفذ في الرطوبات التي فيها أعني الرطوبة التي تشبّه بالزجاج الذائب والرطوبة التي تشبّه بالجليد حتّى يخرج في الثقب الذي في موضع الناظر إلى الفضاء الذي بين الناظر وبين الطبقة التي تشبّه بالقرن المنحوت المملوء من الرطوبة الرقيقة المائيّة. وقد ينفذ ويخرج من هذا الجوهر بعينه شيء من بدن الطبقة العنبيّة إلى ذلك الفضاء بعينه الذي بين الطبقة العنبيّة وبين الطبقة القرنيّة فمن اختلاط هذه الأشياء التي ابتضعها وامتزاجها يكون اختلاف الألوان من العينين في موضع الناظر وما حوله إلى بياض العين.
والأجود عندي في هذا الموضع أن نبتدئ بما يظهر في البحر وذلك أنّه قد تتولّد في البحر ألوان كثيرة من قبل اختلاف الهواء ومن قبل مقدار غور الماء. وفي المواضع التي يرى فيها قعر البحر قد يعين ذلك على تولّد اللون معونة ليست باليسيرة حتّى يرى لون الماء يضرب إلى الشهلة أو إلى الزرقة أو إلى الأسمانجونيّة أو إلى السواد أو إلى شيء مختلط فيما بين ذلك. وذلك أنّه متى كان قعر البحر يرى من تحت مائه وكانت الشمس تسطع فيه بنور مشرق فإنّ الماء في ذلك الموضع يخيّل أنّ لونه لون الجسم الذي تحته وخاصّة متى كان غوره يسيراً. وأمّا حيث لا يظهر قعر الماء وكثره غوره فإنّه إنّما يختلف لون البحر هناك بسبب الهواء الذي
فوقه. وذلك أنّه إذا كان مظلماً غير مشرق رأيت الماء أسود وإذا كان ضوء الشمس يسطع فيه وهو في غاية الصفاء والإشراق رأيته أبيض وإذا كان ضوء الشمس أقلّ إشراقاً رأيت لونه يضرب إلى الشهلة وإلى الأسمانجونيّة. وعلى هذا المثال نفسه يختلف لون السماء في البرك والخياض.
فإنّا قد وجدنا في اختلاف الألوان من الماء وجوهره باقٍ على حاله ثلاثة أسباب. وقد ينبغي أن ننظر ونبحث في الرطوبات التي في العين عن كلّ واحد من هذه الأسباب التي ذكرها أبقراط في أصحاب العشى. فأقول إنّه ينبغي أن يتوهّم أنّ السبب الذي له صار المبصر بالليل إنّما هو ضعيف القوّة المبصرة وأنّ سبب ذلك الضعف كثرة الرطوبة التي يزعم أنّها الحادر من الرأس إلى العينين. وأصحاب المزاج الرطب فإنّ الأسباب الرطبة فيهم أعمل وإلى الغلبة عليهم أسرع وحدوث الأمراض الرطبة بهم أسهل. ولذلك كانت «علّة العشى تصيب الصبيان خاصّة» أكثر ممّا تصيب غيرهم وذلك أنّ مزاج الصبيان في غاية الرطوبة. وأمّا غير الصبيان فكانت تلك العلّة أحرى بأن تصيب منهم من كان «أكحل العينين» ومن كان «عينه مختلف اللون» — إن شئت أن تفهم كلّ واحد من هذين القولين على
حدته مفرداً أو إن شئت أن تفهمهما مجتمعين — وذلك أنّ العين الكحلاء إنّما يرى فيها ما يرى من السواد إمّا لكثرة الرطوبة فيها وإمّا لنقصان النور المبصر فيها. والعين أيضاً «المختلفة اللون» تدلّ على أنّ مزاجها مختلف وكلّ ما هو مختلف فهو لا محالة ضعيف.
وقد تبيّن أيضاً في كتابي في المزاج أنّ أصحاب الشعور الجعدة مزاجهم إلى اليبس أميل وأصحاب «الشعور السبطة» مزاجهم إلى الرطوبة أميل. وكذلك من كان «الناظر» من عينه «صغيراً وجملة السواد منها» واسعاً كثير السعة فعظم السواد منه يدلّ على أنّ مزاج عينيه أميل إلى الرطوبة «وصغر الناظر» منه يدلّ على أنّ الضوء المبصر أقلّ. وذلك أنّ الناظر إذا كان أعظم خرج منه من الضوء مقدار أكثر اللّهمّ إلّا أن يكون الناظر عظيماً مفرط العظم فإنّه إن كان كذلك يبذّر البصر كالذي يعرض في العلّة التي تفرط فيها السعة على الناظر.
فأجود الناظر الناظر المعتدل ولا سيّما إذا كان فيه من الجوهر النيّر شيء كثير كما يكون في العين الشهلاء والعين الزرقاء. فإنّ أصحاب هذه الأعين يرون في ضوء القمر أكثر ممّا يرى غيرهم وأمّا في الضوء النيّر المشرق فإنّ بصرهم يكون أقلّ من بصر غيرهم وذلك أنّه يفرط التحلّل على أبصارهم وإن قرّبت منهم ناراً نيّرة
مشرقة كان بصرهم أقلّ من بصر غيرهم. ولهذا صارت الأسد لا ترى شيئاً إذا أدنيت منها مصابيح عظام وإمساكها عند ذلك عن الافتراس ليس يكون لأنّها تخاف تلك المصابيح لاكن لأنّها لا ترى الشيء الذي هو أمامها. وكما أنّ الأعمى لا يمكنه أن يصنع شيئاً لأنّه لا يرى الشيء الذي يريد أن يفعل به ما يقصد إلى فعله كذلك يعرض للأسد إذا أدنيت منها ناراً كثيرة حتّى لا ترى ما هو أمامها.
«والأعين» أيضاً من الناس إنّما تعظم العينان منه لفضل من الرطوبة كما أنّ من كانت العظام منه عظيمة فإنّما يكون عظمها سبب اليبس. وذلك أنّ أيبس جميع الأعضاء التي في بدن الحيّ العظم وأرطبها الرطوبة التي تشبّه بالزجاج المذاب والرطوبة التي تشبّه بالجليد وتفضلها في الرطوبة الرطوبة الرقيقة المائيّة التي فيما بين الناظر وبين الطبقة القرنيّة. وجميع هذه يعين على البصر على أنّها أعضاء وآلات للبصر. وأمّا الدم فإنّه إنّما هو غذاء وليس هو عضو ولا آلة وكذلك الشحم وذلك أنّ الشحم إنّما يتولّد من جمود جوهر رطب دسم على الأغشية.
وعلى هذا يصحّ قولي الذي قلت إنّ أرطب جميع أعضاء بدن الحيّ هي الرطوبات التي في العينين وهذه الرطوبات هي آلات البصر التي هي أولى آلاته به.
وأمّا سائر ما في العين ممّا هو حول هذه الرطوبات فإنّما هي لحم وظروف وأغشية لهذه بالحقيقة كما قد تسمّى وهذه الأغشية أعني طبقات العين مزاجها مزاج يابس وأمّا الأشياء التي في جوفها فهي رطبة وعنها يكون عظم العين وصغرها. وذلك أنّها إذا تزيّدت كان عنها عظم العين وإذا انتقصت كان عنها صغر العين. فبالواجب إذاً قلنا إنّ عظم العين إنّما يكون عن كثرة الرطوبة.
فهذا ما يكتفي به من القول في هذا الباب وأحرى أن يقبله ويقنع به من قرأ كلامنا الذي بيّنّا فيه كيف يكون البصر من المبصر. وقد بلغنا في شرحه في كتابنا في البرهان بعد أن بيّنّا فيه جميع ما يستعان به على تصحيحه.
(١٢) قال أبقراط: وأمّا النساء فلم يوجعهنّ من السعال مثل ما أوجع الرجال وكان الذي حمّ منهنّ عدد قليل والذي أصابه أيضاً من أولائك النساء علّة ذات الجنب عدد قليل جدّاً وذلك منهنّ من كان أطعن في السنّ وكلّهنّ سلم وكان السبب في ذلك عندي أنّهنّ لسن يخرجن كما يخرج الرجال ولا يبتلين من سائر الأمراض بمثل ما يبتلي به الرجال.
قال جالينوس: قد أحسن في ذكره الأسباب التي لها سلم النساء ممّا ابتلى به الرجال حتّى كفانا أن نخاصم في تلك الأسباب أيضاً من الناس من لا أدب معه وقد جمع مع ذلك تهوّراً وإقداماً حتّى يحكم بما لا علم له به. ومعناه في هذا القول أنّ النساء لمّا كان لقاء الهواء المختلف لهنّ أقلّ للزومهنّ في أكثر الأوقات البيوت كان ما نالهنّ من الضرر من اختلاف ذلك الهواء أقلّ.
وهذا سبب واحد من أسباب سلامتهنّ وذلك 〈أنّه〉 سبب آخر وهو أنّ ما يصيبهنّ من علل الصدر والرئة أقلّ ممّا يصيب الرجال لنقاء أبدانهنّ بدرور الطمث واستفراغ ذلك الموضع خاصّة بالطمث كما وصفنا ذلك مراراً كثيرة. وإن لم يكن من النساء خطاء أصلاً في التدبير فإنّ الذي يبتلين به لا من هذه العلل لاكن من العلل 〈الأخر〉 يكون أقلّ ممّا يبتلي به الرجال. وذلك أنّ «منهنّ» أعني من النساء من كان «أكبر سنّاً» يعني أنّه ابتلى بتلك الحال من أحوال الهواء أكثر ممّا نالت الرأس من غيرهنّ. ولا ينبغي أن يذهب عليك أنّ النساء وإن كان ما ينالهنّ من الضرر من الهواء المحيط أقلّ ممّا ينال الرجال فإنّ الذكور إذا كان مع رطوبة أو كان جنوبيّاً عديماً لحركة الرياح 〈…〉 فإنّ الهواء الذي في البيوت أقصر وأشدّ خنقاً وأشدّ إرخاء للأبدان وأكثر عفونة من الهواء المكشوف للسماء وخاصّة ما كان أعلى منه موضعاً ويهبّ فيه من الرياح الطبيعيّة ولو يسير وإن لم يكن ذلك دائماً كان في أوقات من النهار والليل.
(١٣) قال أبقراط: وأمّا علل الذبحة فقد أصابت من الحرائر اثنتين وكانت من أسلمها حالاً فيهما وكان ما أصاب الإماء منها أكثر ومن أصابته منهنّ كانت شديدة في غاية الشدّة وكان عطبهنّ في أسرع الأوقات.
قال جالينوس: أمّا قابيطن فحذف من هذا القول ذكر «الاثنتين» وكتب «فقد أصابت الحرائر» على أنّ جميع الباقين إلّا الشاذّ إنّما يعرفون النسخة الأولى. ومنهم قوم لم يكتبوا ذكر «الاثنتين» على النصب لاكنّهم كتبوه على الرفع على هذا المثال: «وأمّا علل الذبحة فقد أصابت الحرائر اثنتان» حتّى يفهم من هذا القول أنّه أصاب الحرائر نوعان من الذبحة في ذلك الوقت لا أنّ الذبحة أصابت مرأتين. والنسخة القديمة أجود وقد اتّفق عليها الجميع والمعنى فيها أنّ علل الذبحة إنّما أصابت من الحرائر اثنتين فقط وكان ما أصاب تينك المرأتين من علّة الذبحة يسيراً سهلاً في غاية السهولة والخفّة. واليونانيّون قد يستعملون اسم «السليم» على ما كان خسيس المذهب رديئة ويستعملونه على ما هو ضدّ ذلك فاستعمل أبقراط هذا الاسم في قوله «أسلمها» في هذا الموضع مكان «أسهلها» «وأخفّها».
قال: «وأمّا ما كان أصاب الإماء من تلك العلل فكان أكثر» وما بعد هذا قد يكتب على نسختين مختلفتين أحدهما على هذا المثال: «ومن أصابته منهنّ فكانت في غاية الشدّة كان عطبهنّ في أسرع الأوقات» والنسخة الأخرى على هذا المثال: «ومن أصابته منهنّ فإنّها كانت شديدة في غاية الشدّة وكان عطبهنّ في أسرع الأوقات». وقد يجوز أن يحرّف هذا الكلام أيضاً تحريفاً يصير به معناه لهذا المعنى: «ومن أصابته منهنّ كان عطبهنّ كان يكون شديداً في غاية الشدّة وفي أسرع الأوقات» حتّى تكون «الشدّة» التي هي «في الغاية» إنّما وصف بها لا علل الذبحة لاكنّ الطريق الذي كان عليه هلاك منها من النساء.
(١٤) قال أبقراط: وأمّا الرجال فأصابت منهم عدداً كثيراً ومنهم من سلم ومنهم من هلك.
قال جالينوس: هذا شيء قد كان قاله فيما تقدّم لاكنّه لمّا ذكر النساء أعاد ذكر «الرجال».
(١٥) قال أبقراط: وبالجملة فإنّ من كان منهم لا يقدر أن يزدرد فقط فإنّ علّته كانت سليمة خفيفة.
قال جالينوس: أمّا قوله «سليمة» فمن البيّن أنّه إنّما يعني به في هذا الموضع لا أنّها كانت خبيثة رديئة ولاكنّ المعنى الذي هو بهذه اللفظة أخصّ وهو المعنى الذي يقصد إليه عند حمد المذهب لا عند ذمّه. وذلك أنّه لمّا أردف قوله «سليمة» بقوله «خفيفة» لم يجز لأحد أن يتوهّم أن يكون إنّما ذهب إلى العلّة الرديئة الخبيثة. إلّا أنّا أيضاً إن فهمنا قوله على هذا المعنى فإنّه قد يخيّل إلينا أنّ هذا المعنى مضادّ لقوله «لا يقدر أن يزدرد» وذلك أنّه يجب من هذا العارض أن يكون صاحبه من علّته في حال خطر.
والخروج من هذا يكون لما أنا قائله وهو أنّ هذا القول يبيّنه بالقول الأوّل الذي قاله قبيل بهذا اللفظ: «ومن تفطّر صوته منهم بالسعال فأكثرهم لم يحمّ أصلاً ومنهم من حمّ يسيراً ولم تصب أحداً من هؤلاء ذات الجنب ولا فالج ولا شيء آخر قويّ أصلاً لاكنّه كان ينقضي بالصوت». وذلك أنّه لمّا أردف قوله بأن قال: «لاكنّه كان ينقضي بالصوت» فقد دلّ على أنّ الخلط الغالب على تلك الأبدان كان الغيض في تلك الأعضاء التي يكون منها الصوت وحدها دون غيرها من غير أن ينال غيرها من الأعضاء شيء من الضرر أصلاً. كما أنّه يكون انقضاء الأمراض وبحرانها بجميع ما يغيض من الأخلاط المولّدة لها إلى موضع آخر كذلك قال في
هذا الموضع إنّ انقضاء هذه العلّة وبحرانها كان بما غاض من الفضل المولّد لها إلى الحلق. ولعلّه أيضاً قد كان غاض إلى المريء أو إلى الجزء الأعلى منه لا محالة ولذلك لم يكن يمكن أولائك الأعلّاء الازدراد لاكنّ الورم لمّا سكن وضمر في أصحاب هذه الحال انقضت العلّة بأسرها وخرج الأعلّاء من عللهم خروجاً تامّاً.
(١٦) قال أبقراط: وأمّا من كان منهم كلامه مع ذلك خفيّاً فكانت علّته أشدّ أذى وأطول مدّة.
قال جالينوس: وذلك من قبل أنّ العلّة في أولائك لم تكن نالت نواحي الحلق ورأس المريء فقط لاكنّها كانت نالت مع ذلك الآلات التي يكون بها الكلام أو الآلات التي يكون بها الصوت.
(١٧) قال أبقراط: وأمّا من كانت منه العروق أيضاً التي في الصدغ والعنق قد كانت انتفخت فإنّ علّته كانت رديئة.
قال جالينوس: وذلك من قبل أنّ هذه العروق إنّما تدرّ وتنتفخ في أشباه هذه من العلل إذا شارف أصحابها الاختناق وإذا كان قد بلغ من كثرة الأخلاط في البدن ألّا يكون الفضل منها ينصبّ إلى الحلق فقط حتّى يشتمل معه على مواضع أخر.
(١٨) قال أبقراط: فأمّا من كان نفسه مع ذلك يرتفع فإنّ علّته كانت تكون أردأ تلك العلل وذلك أنّ هؤلاء كانوا يسخنون على العلّة.
قال جالينوس: ينبغي أن يفهم من قوله في هذا الموضع أنّ «النفس كان يرتفع» كما فهمنا عنه في مواضع أخر بسبب ضيق المجاري 〈بسبب ضيق〉 مجرى الحنجرة. وقد يعرض لمن يختنق من هذا السبب أن تقلّ وتسيل وترفع مع المواضع السفليّة من صدره المواضع العالية منه التي هي عند الكتفين عند استنشاق الهواء. وقد دلّ بقوله «وذلك أنّ هؤلاء كانوا يسخنون على العلّة» أنّ غيرهم من أصحاب تلك العلّة لم تكن بهم حمّى.
(١٩) قال أبقراط: وكانت مصادفات الأعراض على ما كتبته من أنّ ما كتبته منها أوّلاً كان من غير أن يكون معه ما كتبته منها أخيراً وما كتبته منها أخيراً لم يكن يخلو ممّا كتبته منها أوّلاً.
قال جالينوس: يعني «بالمصادفات» حدوث تلك الأعراض بأعيانها بالاتّفاق وذلك أنّ الاتّفاق «والمصادفة» في معنى واحد. وقد قيل فيما تقدّم لِم كانت العلل الأخيرة أردأ من العلل التي كانت قبلها.
(٢٠) قال أبقراط: وكان أسرعهم موتاً من كان ينتفض نافض حمّى.
قال جالينوس: يعني «بنافض الحمّى» التي تكون مع حمّى لأنّ من النافض ما يكون من غير حمّى.
(٢١) قال أبقراط: ولم يكونوا ينتفعون منفعة ذات قدر لا إذا غمزوا ولا إذا استطلقت بطونهم ولا إذا افتصدوا بقدر ما جرّبت وقد قطعت لبعضهم أيضاً العروق من تحت اللسان واستعملت في بعضهم الدواء من فوق.
قال جالينوس: إنّ الأورام التي تكون في النغانغ وما يليها من جانب الحنك قد «تغمز» إلى هذه الغاية بعد أن تطلى الأصابع التي «يغمز» بها ببعض الأدوية التي من شأنها أن تنفع في أورام تلك المواضع. وهذا الوجه من العلاج ينفع خاصّة في اللحم الرخو الذي في هذه المواضع المعروف «بالغدد» إذا حدث فيه ورم. وذلك من قبل أنّ هذه الغدد لمّا كانت رخوة سخيفة منفوشة متخلخلة صارت تسرع إلى قبول الفضل الذي ينصبّ إليهما فتنتأ وتنتفخ وتجتمع فيها أيضاً رطوبة بلغميّة إذا هي ورمت. فلهذه الأسباب كان الغمز المعتدل عليها بالأصابع يدفعها فيلطّئها بأصولها بمنزلة ما تفعل الأدوية القابضة.
ونحن أيضاً قد نستعمل هذا من العلاج وما دام الورم في ابتداء حدوثه فإنّا نستعمل من الأدوية مع هذا الغمز ما هو شبيه بربّ التوت وهو أشدّ قبضاً منه. وإذا تطاولت هذه العلّة ونضج الورم كانت تلك الغدّة مملوءة من رطوبة لزجة فإنّا نخلط في ذلك الدواء من أدوية ألقم شيئاً من البورق أو من رغوته أو من الملح أو من الكبريت أو من غير ذلك ممّا يفعل فعله من التلذيع والتحليل واجتذاب البلغم إلى خارج واستفراغه.
وأمّا متى كان الورم في الحلق نفسه فليس ينبغي أن يستعمل من الأدوية ما هذه حاله ولا الغمز. ولذلك صار كثير من الجهّال يستعملون هذا الوجه من العلاج وربّما لم ينفع بل ضرّ لأنّهم يستعملون هذا العلاج على غير تمييز وتحديد. وقد يخطئ مثل خطاء هؤلاء من يرفض هذا العلاج على غير تحديد وتمييز وهو يظنّ أنّ جميع من يغمز يضرّه الغمز.
ومن هؤلاء من كتب هذا القول على خلاف ما يعرفه يكتب جميع المفسّرين الذين تقدّموا وذلك أنّهم كتبوه على هذا المثال: «ولم يكونوا ينتفعون منفعة ذات قدر لا إذا ضغطوا ما بحمية». وقابيطن اقتصر على هذه النسخة التي أخذت عنه وأمّا ديسقوريدوس فكتب النسخة القديمة في بطن الكتاب الذي أخذ عنه وألحق في الحاشية نسخة ثانية وهي نسخة قابيطن وألحق في آخر السطر خارجاً عنه بإزاء ذكر «الحمية» «لعلّه يكون كذا» كما من عادته أن يفعل في نسخ كثيرة. ومن البيّن أنّ الحدث من الأطبّاء يعنون «بالحمية» الأزم وهو الامتناع من الطعام وأمّا
القدماء فليس يسمّون الامتناع من الطعام بهذا الاسم. وأعني «بالحدث» من الأطبّاء في هذا الموضع جميع من كان منهم بعد وفاة الإسكندر.
ولهذا أيضاً كانت النسخة الأولى بأن يتوهّم عليها أنّها أصحّ وهذه النسخة التي فيها «إذا غمز». وقد يصحّ ذلك أيضاً من وجه آخر وهو أنّ العلاج أعني الغمز بالأصابع علاج قويّ مثل سائر أصناف العلاج الذي ذكرت معه وأمّا العلاج بالأزم فهو من أضعف أصناف العلاج كلّها في أشباه هذا من العلل. وذلك أنّ أصحابها إنّما ينتفعون باستفراغ البدن كلّه إذا كان دفعة لا بما يكون منه قليلاً قليلاً في مدّة طويلة كما من شأن الأزم أن يستفرغ البدن.
وقد وصف أبقراط بعد ذكر «الغمز» سائر أصناف العلاج الذي عولج بها أولائك الأعلّاء فذكر «استطلاق البطن» «والفصد» من سائر العروق ومن العروق التي «تحت اللسان». وقد يمكن أن يكون عنى «بالغمز» الغمز الذي يسبل في ذلك النوع من الذبحة الذي ذكره أبقراط في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا حين قال: «وكانت علل أصحاب الذبحة هذه العلل: كان الفقار من الرقبة يميل إلى داخل» وذلك من قبل أنّ في ذلك النوع من الذبحة قد يغني هذا العلاج غناء ليس باليسير لأنّه يدفع الفقار الذي زال إلى داخل حتّى يردّه إلى موضعه.
وأمّا سائر ما في هذا القول فكلّه بيّن مفهوم خلا قوله «واستعملت في بعضهم الدواء من فوق». وذلك أنّه إنّما يعني «بالدواء» إذا ذكر مطلقاً دائماً الدواء المسهل أو القيء فقد يحتاج إلى البحث والنظر كيف قال في هذا الموضع إنّه «استعمل الدواء من فوق». وذلك أنّ نواحي الحلق والحنجرة إذا كان فيها ورم ثمّ رام أحد التنقية بالقيء أضرّ ذلك بتلك الأعضاء التي فيها العلّة. ولذلك قال المفسّرون لهذا
الكتاب إنّه إنّما عنى «بالدواء» في هذا الموضع الدواء الذي يعالج به موضع العلّة كأنّه قال: «إنّي عالجت بعض من كانت تلك حاله فيما عالجناه بأدوية قويّة وضعتها على موضع العلّة فلم ينتفع بذلك شيئاً». والأجود عندي أن يفهم عنه من قوله «استعملت الدواء من فوق» استعمال الغرغرة والسعوط بالأدوية التي تجلب الرطوبة البلغميّة وذلك أنّ هذه الأدوية هي من جنس الأدوية المنقّية بالإسهال والقيء.
وأمّا ديسقوريدوس فكما أقدم على أقاويل أخر كثيرة من أشباه هذه الأقاويل فغيّرها كذلك غيّر قوله «من فوق» إلى ضدّه فكتبه «من أسفل» حتّى جعله على هذا المثال: «استعملت في بعضهم الدواء من أسفل». وزعم أنّ «استطلاق البطن» الذي ذكره أبقراط في هذا القول لم يعن به الإسهال بالدواء لاكنّه إنّما عنى به الاختلاف الكثير الذي قد يكون كثيراً من تلقاء نفسه.
(٢٢) قال أبقراط: وكانت هذه العلل دائمة في الصيف حتّى كان ينفجر منها كثيراً جدّاً.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد فهموا عنه من قوله «ينفجر» أنّه عنى الأمراض القويّة التي تحدث بغتة. وقد قال قوم إنّ استعمال «التفجّر» على الأمراض ليس هو من استعمال الألفاظ على حقائق معانيها وإنّه إنّما عنى «بالتفجّر» تفجّر المواضع التي تحدث فيها العلّة وتلك المواضع هي الحلق واللسان. وقد نرى هذه المواضع تتشقّق كثيراً وتنصدع من غلبة اليبس عليها.
(٢٣) قال أبقراط: أمّا أوّل ما حدث في أوقات عوز المطر فوفد رمد مؤلم.
قال جالينوس: إنّ «أوّل ما حدث في أوقات عوز المطر» من ذلك الصيف الذي تقدّم ذكره «الرمد» ثمّ لم يذكر بعده علّة أخرى أصلاً لاكنّه أقبل على انبعاث الدم 〈فـ〉ـيصف على كم وجه ينقطع. ولذلك رام قوم ومنهم قابيطن أن يغيّروا النسخة القديمة إلى نسخة جعلوها على هذا المثال: «أمّا أوّلاً في أوقات عوز المطر فوفد رمد ثمّ دم من العروق» حتّى يفهم في هذا القول مدغماً إمّا انبعاث وإمّا استفراغ وانصباب ثمّ كتب بعد هذا: «وقطعه يكون بالغشي وبالشكل». وجميعهم يتوهّم أنّه أمر على طريقه ذكر أصناف العلاج التي ينقطع بها الدم على أنّه لم يكن هذا غرضه. وذلك أنّه إنّما كان غرضه أن يقتصّ العلل التي حدثت في تلك الحال.
وقد كتب بعد هذا تعديد علل أخر وافتتح ذلك على معنى نسخة قابيطن بذكره «التعقّد والآذان» وديسقوريدوس أيضاً موافق على هذا فهذا رأي هذين. فلنقبل على النسخة القديمة التي قد اتّفق عليها جميع المفسّرين فننظر ما يقولون فيها:
(٢٤) قال أبقراط: انقطاع دم العروق الغشي الشكل الضبط الآخر فتل الفتيلة الحشو الشدّ.
قال جالينوس: إنّ هذه النسخة أيضاً لمن النسخ القديمة ويدلّك على ذلك أنّ زوكسس أيضاً قد يعرفها. وقد توجد أيضاً نسخة أخرى معناها معنى هذه إلّا أنّ لفظها من الألفاظ التي لم تجر بها العادة عند اليونانيّين والمعنى في هذا القول أنّه إذا تفرّغ من الدم من العروق مقدار كثير «فانقطاعه» يكون بهذه الوجوه وهي «الغشي والشكل» وما ذكره بعدهما.
وأمّا ديسقوريدوس فحرّف الاسم الذي يدلّ على «العرق» تحريفاً صار به معناه «الخرير» من قبل أنّ أبقراط نفسه قد ذكر في غير هذا الكتاب انبعاث الدم «بالخرير» وهو يريد بهذه اللفظة أن يدلّ على انبعاث الدم الشديد القويّ الذي كان معه روحاً يبرز بقوّة.
وقد كتب قوم مكان «دم العروق» «دمويّ العروق» ووصلوه بالقول الذي تقدّم فجعلوا جملة هذا القول على هذا المثال: «أمّا أوّل من أوقات عوز المطر فوفد رمد مؤلم دمويّ العروق» وزعموا أنّه يريد بهذه اللفظة الرمد الذي تكون فيه العروق من العينين ممتلئة من الدم.
وليس هو من البيّن هل كتب أبقراط هذا القول على نحو ما فسّر هؤلاء أم لا وذلك أنّ الأقاويل الغامضة ليس يمكننا أن نصل منها إلى علم يقين لاكنّا نشهد لهؤلاء أنّ ما قالوه من هذا قول ينتفع به وهو قبل ذلك قول صحيح حقيقيّ. وذلك أنّ الرمد الذي هذه حاله 〈…〉 أن يكون «في أوقات عوز المطر» ويكون شفاؤه بالاستحمام في الحمّام وبشرب الشراب وبجميع التدبير الذي يرطّب مع حرارة معتدلة.
ومن تأوّل هذا القول هذا التأويل: «انقطاع الغشي الضبط الآخر فتل الفتيلة الحشو الشدّ» — وخليق أن يكون الناسخ الأوّل قد كان وجد ذكر «الدم» «والعروق» مكرّراً فظنّ أنّه خطاء فأفسده لأنّه لم يفهم المعنى في ذكر «الدم» «والعروق» بعد ذكرهما الأوّل إذ كان وجد أوّلاً «دمويّ العروق» ثمّ وجد بعده «دم
العروق ينقطع» — فأمّا من جعل انقضاء القول الأوّل عند «دمويّ العروق» ثمّ ينسقه على «الرمد» جعل افتتاح القول الثاني «دم العروق ينقطع» فليس يلزمه شيء من الشناعة.
وأنا راجع من ذي قبل تفسير هذا القول على أنّه يكتب على هذه النسخة: «انقطاع دم العروق الغشي الشكل الضبط الآخر فتل الفتيلة الحشو الشدّ». أمّا النوع الأوّل من «انقطاع الدم» الذي ذكر في هذا الكلام فربّما كان من تلقاء نفسه عندما يغشى على المريض بسبب انبعاث الدم فيكون «الغشي» نفسه هو الذي يحدث حبس الدم وقطعه.
وليس من شرح هذا القول الذي نحن في شرحه أن يقال من كم سبب يكون الغشي وهل ينبغي للطبيب في وقت من الأوقات أن يدع الدم يجري فينقطع الدم بأخرة وقد تكلّم قوم من المفسّرين في هذه الأبواب في شرح هذا القول. ومن عادة أولائك بأعيانهم أن يدّعوا كثيراً أشياء ممّا يحتاج إلى البحث عنها ممّا هي خاصّة بهذا القول الذي نحن في شرحه. وأمّا السبب الذي له صار الغشي يحبس انبعاث الدم ويقطعه فإنّ إلحاقه في شرح هذا القول ليس من خواصّ الشرح إذا ألزمت القول حقائقه إلّا أنّ ذلك قد جرى بالعادة أن يفعله جميع المفسّرين حتّى أنّ قوماً من أصحاب التجارب يرومون أن يؤدّوا الأسباب على طريق ما يقبل ويقنع به ويشاكل قول صاحب الكتاب.
ثمّ قال بعد هذا «الضبط الآخر» فهذا الحرف الذي يدلّ على «الآخر» قد يتصرّف في اللسان اليونانيّ على وجوه شتّى تختلف المعاني فيها. والمعنى في أحد تلك الوجوه يكون على هذا المثال: انقطاع الدم من العروق يكون أوّلاً بالغشي ثمّ بالشكل ثمّ يكون بعدها بضبط آخر. والمعنى في وجه آخر من تلك
الوجوه يكون على هذا المثال: انقطاع دم العروق يكون بالغشي وبالشكل ومن وجه آخر بالضبط وبفتل الفتيلة والحشو والشدّ. والمعنى في وجه آخر من تلك الوجوه يكون على هذا المثال: انقطاع 〈الدم〉 من العروق يكون بالغشي وبالشكل وبصرف الدم إلى موضع آخر من البدن وحسمه عن الموضع الذي يجري منه وبفتل الفتائل والحشو والشدّ. والمعنى في وجه آخر من تلك الوجوه يكون على هذا المثال: انقطاع الدم من العروق 〈…〉
وقد نرى الرباطات التي يشدّ بها اليدين والرجلين ممّن ينبعث منه الدم تفعل هذين الأمرين جميعاً والمحجمة أيضاً التي تعلّق على المواضع التي دون الشراسيف من جنس هذا العلاج كان انبعاث الدم من المنخرين أو كان من الرحم أو كان من الفرج أو كان من المقعدة. وأمّا أنا كما قد علمتم فإنّي قد أعلّق المحجمة على القفا أيضاً إذا أسرف الرعاف مع استعمال ما أبرّد به الرأس وقد ذكر هذا أيضاً أبقراط في كتاب آخر من كتبه.
وقد فهم قوم من قوله «الضبط الآخر» أنّ انقطاع الدم قد يكون بنوع آخر من الأنواع التي يقطع بها الدم ويمنع من أن يجري وهو الضبط الذي يكون بخيط يدار حول العرق حتّى يشدّ ويحزم به. وقد زعم قوم أنّ قوله «الضبط الآخر» إنّما هو كأنّه تقدمة رسم لما يأتي بعده حتّى يكون معنى قوله «الضبط» إنّما يدلّ على الانقطاع وحده من غير ذكر الوجه الذي يكون إلّا أنّ الوجوه التي ذكرها بعد ممّا
يكون به انقطاع الدم وجوه شتّى وهو «فتل الفتيلة والحشو والشدّ» وقد زاد قوم مع هذا «الخياطة».
وأمّا التفسير الأوّل الذي قبل هذا فصاحبه يريد به هذا المعنى الذي أنا واصفه وهو أنّ الوجوه التي يكون بها حبس انبعاث الدم هي هذه الوجوه: الغشي الشكل حزم العروق — وقد يساوي هذا في القوّة المحجمة — وشدّ الأطراف. وقد يمكن أن يفهم عنه من قوله «الضبط» الحزم من الموضع الذي يجري منه الدم بالخياطة. وقد ألحق قوم ذكر «الخياطة» في عداد أصناف العلاج حتّى يكون بها قطع الدم فجعلوا جملة القول على هذا المثال: «انقطاع دم العروق الغشي الشكل الضبط الآخر فتل الفتيلة الخياطة الحشو الشدّ».
وقد ألحق قوم في آخر هذا القول ذكر «الضماد» وقد وصل هؤلاء افتتاح القول الذي بعد هذا فكتبوا آخر هذا القول على هذا المثال: «الوضع الضماد وذلك أنّ أكثرها يتعقّد». وأمّا أكثرهم فيتعرّف قوله «إنّ أكثرها يتعقّد» افتتاح القول الذي يتلو هذا وليس معه ملحق وذلك على هذا المثال: «أكثرها يتعقّد» وفي بعض النسخ «أورام الغدد وآذان كثيرة».
وقد ذكر في هذا القول أشياء أخر أنا ذاكرها منها «فتل الفتيلة الحشو». وقد كتب قوم مكان «الحشو» «الدحش» والفريقان جميعاً يريدون بهذين الاسمين علاجاً واحداً بعينه كأنّه قال: «فتل الفتيلة بعد أن تفتل في جرح العضو الذي يخرج منه الدم».
وقد زعم قوم أنّه ينبغي أن يفهم عنه في ذكره «فتل الفتيلة» حشوها مرغماً ويتأوّلون الحرف الذي يجوز أن يفهم منه «الحشو» على معنى آخر قد يمكن أن
ينصرف إليه وهو «الوضع». وذلك أنّهم يزعمون أنّه ليس في كلّ موضع تحشى الفتيلة في جرح العضو الذي يخرج منه الدم لاكنّه إنّما يفعل ذلك إذا كان العرق الذي يخرج منه في غور البدن. فأمّا متى كان في ظاهر البدن فوضع الرفائد عليه يكفي فقط وهو المعنى الذي ذهب إليه بزعمهم في ذكره «الوضع». وقد فهم قوم من ذكره «الوضع» وضع أصابعنا على موضع الجرح فإنّه ربّما اكتفى في حبس الدم بوضع الأصابع فقط على موضع الجرح الذي يخرج منه الدم لأنّ الدم الذي يخرج يجمد فيصير كأنّه غطاء لفم العرق.
وآخر ما ذكر من أصناف علاج انبعاث الدم «الشدّ». وقد علمتم كما رأيتموني أفعله مراراً كثيرة أنّه ينبغي أن يبتدأ بهذا «الشدّ» من المواضع التي ينبعث منها الدم ثمّ يترقّى منها إلى المواضع التي منها يجري الدم إلى ذلك الموضع الذي ينبعث منه.
(٢٥) قال أبقراط: أكثرها يتعقّد لأنّه كبديّ فإن كان ذلك من أنّ الشريان نزلت به آفة فذلك دليل رديء كالذي عرض لبوسيدنيا.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً لمّا كان قولاً غامضاً يجري مجرى اللغز قد كتبه كلّ واحد ممّن التمس فهم هذا الكتاب على نحو من الأنحاء غير النحو الذي كتبه عليه غيره. وأنا مبتدئ بالنسخة التي هي أقدم النسخ وقد اتّفق عليها أكثرهم وهي هذه النسخة التي كتبتها قبيل وهي على هذا المثال: «أكثرها يتعقّد لأنّه كبديّ».
وهذا القول بعينه قد عمد إليه قوم فقسموه هذه القسمة: جعلوا قوله «أكثرها يتعقّد» مقطوعاً على حدته ثمّ ابتدؤوا ابتداء آخر فقالوا: «لأنّه كبديّ». وعمد قوم إلى قوله «يتعقّد» فعزلوه على حدته ثمّ قرؤوا بعد موصولاً قوله «أكثر هؤلاء لأنّه كبديّ». وظنّوا أنّ قوله «يتعقّد» متّصل منتسق بما تقدّم ذكره من أمر انبعاث الدم هذا الانبعاث حتّى احتاج إلى شيء من هذه العلاجات التي تقدّم ذكرها لزمتها أورام في الغدد من الأورام المعروفة «بالتعقّد».
وقد زعم قوم أنّ تلك العروق التي ينبعث منها الدم هي التي «تتعقّد» يعني أنّها تغلظ وتدرّ وتتّسع وأنّ أكثرها إنّما يعرض فيها ذلك لأنّ العرق الكبديّ هو الذي ينبعث منه الدم أعني العرق العظيم. وذلك أنّ من عادة أبقراط أن يسمّي «بالكبديّ» خاصّة العرق الذي هو أعظم العروق غير الضوارب وهو الذي يسمّيه من أتى بعد أبقراط «العرق العظيم الأجوف». ويشبه في زعمهم أن يكون عنى «بالكبديّ» في هذا الموضع سائر العروق العظام.
وقد كتب قوم آخرون منهم روفس هذا القول على هذا المثال: «لِم صارت الأبعاد التي هي أكثر تتعقّد» وزعموا أنّه ينبغي أن يقرأ هذا الكلام على حدته مفرداً عمّا قيل قبله. وذلك أنّ أبقراط بزعمهم إنّما يبحث فيه لِم صارت أورام الغدد المعروفة «بالتعقّد» إنّما تكون في المواضع البعيدة من مواضع العلّة. مثال ذلك أنّه متى كانت قرحة في إصبع من أصابع الكفّ أو القدم تعقّد موضع الإبط من القرحة التي في إصبع الكفّ وتعقّد أصل الفخذ من قرحة إصبع القدم. وقد وصف في ذلك شيئاً ليس بالمقنع ولا بالمقبول فكتب في ذلك بهذا اللفظ: «وذلك أنّ
الروح في ذلك الموضع يقف أوّلاً وبصدمه يعقد لأنّه لا يقدر أن يتحرّك على الاستقامة لاكنّه يكون كأنّه متعلّق بطرف ما». فهذا قول روفس.
وقد جعل السبب في ذلك بعضهم عطفة العروق في ذلك الموضع وذكروا أنّها هي السبب فيما يعرض من الألم في ذلك الموضع الذي بسببه يحدث الورم. لاكنّه ليس يحدث في ذلك الموضع ورم على الإطلاق وذلك من أولى ما كان ينبغي أن يعلموه أنّه إنّما يعرض الورم في ذلك الموضع في اللحم الرخو الذي فيه فقط وهو المعروف «بالغدد» وإن لم يكن موضع الغدد في أصل الفخذ فقد ترى ذلك في بعض الأبدان. فقد كان ينبغي لهم أن يوجبوا السبب في ذلك لطبيعة تلك الغدد خاصّة وذلك أنّها مسترخية منفوشة شبيهة بالإسفنج وهي حشو يملأ ما بين العروق من الفضاء حيث تنقسم منها شعب عظام. وإذا حدثت قرحة بالقرب من عرق ذي قدر في موضع من اليد أو من الرجل وعرض لذلك العرق أن يرم فقد نرى كثيراً عياناً ورم ذلك العرق العظيم يترقّى في ذلك العضو كلّه. فإذا امتلأ ذلك العرق دماً حارّاً قبلت تلك الغدد فضلة منه لأنّه يرشح إليها شيء من العروق.
وهذا السبب أولى بأن يقبل ويقنع به من السبب الذي قيل قبله لاكنّه ليس يحتاج إليه في هذا القول. وذلك أنّ الأجود أن يقرأ هذا القول هذه القراءة: «أكثرها يتعقّد لأنّه كبديّ» ثمّ يبتدأ بما يتلو ذلك ابتداء آخر على هذا المثال: «فإن كان ذلك من أنّ الشريان نزلت به آفة فذلك دليل رديء». وذلك أنّ هذه القراءة كأنّها أحرى بأن يكون لها اتّصال واتّساق لأنّ أبقراط يكون بحسبها قد عاد إلى قوله الأوّل
إمّا في انبعاث الدم وإمّا في الانتفاخ والاتّساع الذي يحدث في العروق لأنّ قوماً قد فهموا قوله «يتعقّد» على هذا المعنى.
فإن نحن فهمناه أنّ قوله في «التعقّد» إنّما هو مسألة سألها لينبّه بها على طلب السبب الذي له صارت المواضع البعيدة من القرحة هي التي تتعقّد ووجوده فإنّ باقي هذا القول يصير غير مفهوم ولا معقول لأنّه يصير على هذا المثال: «كبديّ فإن كان ذلك من أنّ الشريان نزلت به آفة فذلك دليل رديء». فإنّ هذا القول إذا أفرد وجرّد على حدته فقيل: «فإنّ ذلك من أنّ الشريان نزلت به آفة فذلك دليل رديء» كان له معنى مفهوم. وأمّا ما قلته من ذكر «الكبديّ» فإنّه إن وصل بما بعده من قوله «فإن كان ذلك من أنّ الشريان نزلت به آفة فذلك رديء» كان غير مفهوم ولا معقول وسواء كتب «كبديّ» أو كتب «ضلعيّ» أو «كلويّ» أو «طحاليّ» أو «رئويّ» إذ كان لم يضف إلى ذكر «الكبديّ» ما يقال فيه وذلك أنّ الأسماء إذا قيلت على حدتها مفردة لم تدلّ على معنى أصلاً دون أن يقال فيها شيء.
ولمّا كان هذا الكلام كلّه كلاماً غامضاً مستغلقاً يجري مجرى اللغز جاز أن يتأوّله قوم هذه التأويلات وذلك أنّ كلّ واحد منهم إنّما يعبّر عن معنى يصوّر في نفسه لا عن معنى كاتب هذا الكلام. فيجب من ذلك أن لا ينال من يقرؤه منه كبير درك وذلك أنّ المتعلّمين إنّما يصيرون إلى قراءة كتب أبقراط ليتعرّف رأيه وليس يتعرّفون رأيه من الكلام الغامض المستغلق لاكنّهم إنّما يتعرّفون آراء المتأوّلين له. وأنا أقول هذا القول دائماً ولست أرى الناس يقبلون بما أشير به عليهم من التباعد من الأقاويل المستغلقة التي تجري مجرى الرمز.
وأنا راجع إلى ما قصدت قصده فأقول إنّ بعض الناس قد فهم من قوله «الشريان» «الخشن» وهو الذي كان يخصّه القدماء باسم «الشريان» وهو قصبة الرئة وبعضهم فهم من قوله «الشريان» العروق التي تنبض ما دام البدن باقياً على المجرى الطبيعيّ. وإنّما عنى «بالدليل الرديء» انبعاث الدم يكون منه وذلك أنّه يعسر حبسه لأنّه يعسر انضمامه ولأنّه دائم الحركة ولأنّ موضعه في غور البدن لأنّ ما كان موضعه من العروق في غور البدن لم يمكن فيه الحزم بسهولة ولا حشو الفتيلة. فهذا ما ينبغي أن يقال في هذا الباب.
ولعلّه ينبغي لنا أن نصف ما وصفنا نسخة قابيطن وديسقوريدوس لأنّهما قد اتّفقا فيها في بعض الأمر وتباعد فيها من سائر أصحاب النسخ الأخر. وذلك أنّي لم أجد تفسيراً من التفاسير ولا نسخة من النسخ فيه هذا الكلام على ما كتبه هذان. وذلك أنّهم كتبوا مكان «أكثرها يتعقّد» «تعقّداً» ثمّ إنّ قابيطن كتب بعد ذلك «كثيرة لأنّه كبديّ» وأمّا ديسقوريدوس فكتب «وأبعاد أكثر لأنّه كبديّ» حتّى تكون جملة القول من كلّ واحد منهما على هذا المثال: أمّا قول قابيطن فهذا: «تعقّد وآذان كثيرة لأنّه كبديّ» وأمّا قول ديسقوريدوس فهذا: «تعقّد وآذان وأبعاد أكثر لأنّه كبديّ». ولم يكتب أحد من هذين شرحاً لكتب أبقراط. ولذلك قد كان يمكننا أن نفسّر مع ما فسّرناه فيما تقدّم من هذا القول على النسخة القديمة معناه على هاتين النسختين اللتين اختارهما هذان الرجلان إذ كانا أقرب إلى اللغز وأغمض من
النسخ التي تقدّمت إلّا أنّا إن فعلنا ذلك كنّا بالحقيقة قد أفنينا الزمان فيما لا درك فيه.
(٢٦) قال أبقراط: كانوا يموتون من غير أن تعرق منهم الجبهة لاكنّهم كانوا كأنّهم ضامرين.
قال جالينوس: هذه إحدى النسخ التي يكتب عليها هذا القول. وأصحابها يريدون أن يصلوا هذا القول بالقول الذي تقدّم في انبعاث الدم وذلك أنّهم يرون أنّ هذا القول بعد إنّما هو في انبعاث الدم الذي عرض في تلك الحال من أحوال الهواء. ويقولون إنّ البدن أفرط عليه انفجار الدم في ذلك الوقت من قبل أنّه برد وجفّ بالواجب «مات» من مات منهم «من غير أن تعرق جبهته» يعني من غير أن يندى أصلاً الندوة التي ينداها أكثر من يموت. ولذلك قال أبقراط: «ولاكنّهم كانوا 〈كأنّهم〉 ضامرين» وإنّه إنّما عنى «بالضامرين» الذين قد استفرغوا استفراغاً كثيراً كما قال في كتاب الفصول حيث قال: «ولا ينبغي أن يبلغ في الإضمار لأنّ ذلك خطر».
وهذا القول يكتب على نسخة أخرى المعنى فيها هو المعنى في النسخة الأولى بعينه إلّا أنّ افتتاحها ذكر «الذين نزفوا». ويكتب أيضاً على نسخة ثالثة على هذا المثال: «الذين نزفوا يموتون من غير أن تعرق منهم الجبهة». والفرق بين هذه النسخة وبين النسخة الأولى في شيء واحد فقط وهو أنّ الحكم في هذه حكم كلّيّ في جميع من نزف والنسخة الأولى إنّما كان الحكم فيها على من ذكر في القصّة التي تقدّم وصفها فقط. ويكتب أيضاً على نسخة رابعة المعنى فيها هو
المعنى في النسخة الثالثة بعينه إلّا أنّ فيها مكان «الذين نزفوا» «الذين ينزفون» فاللفظة الأولى من هذه النسخة تجري لا على الزمان الماضي لاكن على الزمان الحاضر أو المستأنف.
ويعمّ هذه التأويلات كلّها أنّها إنّما قيل هذا القول فيمن «لم تعرق جبهته» أو «لا يعرق» عند «الموت» لأنّ هذا شيء قد يعرض لأكثر من يموت وذلك لأنّ أكثرهم ليس يعرق منهم البدن كلّه لاكنّه إنّما تعرق منه الجبهة فقط ومنهم من ينحدر عرقه إلى أن يبلغ إلى رقبته ومنهم من ينحدر منه حتّى يبلغ إلى صدره. وكلّ عرق يكون على هذا الوجه فهو يدلّ على ضعف القوّة الحيوانيّة.
(٢٧) قال أبقراط: والذين يعطبون من العرق.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً هو جزء من جملة القول الذي فرغت قبيل من النظر في الجزء الأوّل منه. فكما أنّ قوماً في ذلك الجزء قد زعموا أنّ كلامه هذا بعد إنّما هو في تلك الحال من أحوال الهواء التي ذكرها وزعم قوم أنّه حكم عامّيّ كذلك في هذا الجزء وكلّ واحد من الفريقين يرى هذا الرأي. وبعضهم يكتب «والذين يعطبون من العرق» وبعضهم يكتب مكان «العرق» «الاستسقاء» لأنّ الفرق بينهما في اللفظ في اللسان اليونانيّ يسير.
وينبغي أن يفهم عنه أنّه إنّما عنى «بالمتنفّسين» الذين يتنفّسون تنفّساً متواتراً كما قال في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة: «إنّهم كانوا يصيرون متنفّسين سريعاً». وقد ظنّ قوم أنّه عنى «بالمتنفّسين» الذين تصيبهم نفخة من رياح تتولّد فيهم. وقد فهم قوم أنّ تلك النفخة من الرياح إنّما يعني بها النفخة التي تكون في مواضع البطن وفهم قوم أنّه يعني بها النفخة التي تكون من الرياح في الصدر. والنفخة التي تكون في المعدة ونواحيها قد يمكننا أن نحسّها باللمس وأمّا الرياح التي تتولّد في الصدر حتّى تحدث نفخة فليس يمكن أن نتعرّفها باللمس لاكنّهم يزعمون أنّ أصحاب العلّة أنفسهم يقدرون بأنّهم يحسّونها.
وأمّا القول في أصحاب هذه الأحوال إنّهم يهلكون من غير عرق يكون في الجبهة فليس لأحد أن يحكم به حكماً مطلقاً على غير استثناء. وذلك أنّ كلّ واحد من هذه الأشياء التي ذكرت ليس يحدث الموت من غير عرق يكون 〈يبرّد〉 تبريداً بالغاً ويجفّف تجفيفاً بالغاً يحبس الحمّى من البدن مع الجلد.
فإنّ القول الذي قيل في هذا قول صحيح حقيقيّ وهو أنّ الذين تتمدّد جلودهم وهي قحلة يموتون من غير عرق والذين تكون جلودهم رخوة فإنّهم يموتون مع عرق. وأحرى ألّا يجوز أن يحكم بذلك على أصحاب الاستسقاء لأنّ أصناف الاستسقاء كثيرة لا الأصناف الجزئيّة منه فقط لاكنّ الأصناف النوعيّة والمقادير فيها ليست بمساوية لا مقادير العلل ولا مقادير القوى. فقد يكتفي بأن نعلم السبب الأعظم في العرق الذي يعرقه من يشفي على الموت ثمّ نتدبّر في أنفسنا وننظر في الحالات التي تحيله. وذلك أنّ الجبهة إنّما تعرق عند الموت فيمن لم تجفّ من بدنه
الرطوبة ولا استكثف جلده وتلزّز من شدّة البرودة وحال القوّة الحيوانيّة منه حال ضعف.
(٢٨) قال أبقراط: والمتنفّسين والذين يعطبون من العرق الرديء.
قال جالينوس: أمّا القول فيمن كتب هذا القول «من العرق» مطلقاً أو لم يستثن في آخره «الرديء» فقد تقدّم منّي. وأمّا الآن فإنّي أذكر من ألحق بعد ذكر »العرق» ذكر «الرداءة» على ضربين فبعضهم يضيف إلى «الرديء» «الألف» «واللام» وبعضهم يحذفها. ومعنى أصحاب النسخة الأولى فيها هذا المعنى الذي أنا واصفه: «الذين يموتون» بما تقدّم ذكره أو «من العرق الرديء» أو من الاستسقاء الرديء — فقد قلنا إنّهم يكتبون هذا على هذين الوجهين — ليس يعرقون في الجبهة. وأمّا معنى أصحاب النسخة الثانية فهو هذا المعنى الذي أنا واصفه: يفهمون هذا القول مفرداً على حدته ويزعمون أنّه يدلّ على «المتنفّسين الذين يهلكون من العرق» فحالهم حال «رديئة» وهذا قريب ممّا لا يفهم ولا يعقل. وذلك أنّ «الذين يهلكون من العرق» ليس يحصل فيهم على علم أبقراط حتّى يعلم من أمرهم أنّ حالهم حال رديئة لأنّه إذا كان قد قال «الذين يعطبون» فليس يحتاج فيهم إلى تقدمة المعرفة أصلاً.
(٢٩) قال أبقراط: الخفّ من البطون عن استطلاق كالذي كان في بوسيدونيا.
قال جالينوس: إن بدل مبدّل نظام هذه الأشياء فقدّم منها ما ينبغي أن يقدّم وأخّر ما ينبغي أن يؤخّر صار هذا القول قولاً واضحاً بيّناً إذا نظم هذا النظام: «الخفّ على استطلاق من البطون هو دليل محمود». وذلك أنّه متى كان «الخفّ
على استطلاق» دلّ على أنّ ذلك الاستطلاق محمود نافع وإن لم يكن ذلك دلّ على أنّه صار رديء. وقد قيل هذا كما قد علمتم على وجه آخر في كتاب إفيذيميا وفي كتاب الفصول.
(٣٠) قال أبقراط: السباع أيّ الأشياء تحدث أو تحدثها.
قال جالينوس: إنّ جميع من فسّر هذا الكتاب إلّا الشاذّ إنّما فهم عن أبقراط من ذكره «للسباع» الحيّات التي تكون في البطن لأنّ أبقراط قد قال في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا في تلك الحيّات «إنّ في الخريف يكون السبعيّ وألم الفؤاد».
وقد نجد في بعض النسخ «أيّ الأشياء تحدثها» وفي بعضها «الأشياء تحدثها» وفي بعضها «إنّ الأشياء تحدث» وكلاهما جائز. وذلك أنّه قد يجوز أن يكون عنى أنّه يحتاج إلى أن يعلم أيّ الأطعمة وأصناف التدبير إذا تقدّمت ولّدت الحيّات في البطن ويجوز أن يكون عنى به أنّه يحتاج إلى أن يعلم أيّ الأعراض تحدث الحيّات المتولّدة في البطن مثل أنّ التخم المتواترة. وأكل الأشياء التي قد شابتها عفونة والخبز الخشن تولّد الحيّات في البطن. والحيّات أيضاً المتواترة في البطن تحدث ألم الفؤاد واختلال الشهوة والسبات واختلاط الذهن والسهر والحمّى وربّما كان منها أيضاً تصريف الأسنان في النوم.
وقد وصل قوم بآخر هذا القول ذكر «اللطافة» على أنّ أكثر المفسّرين جعلوا ذكر «اللطافة» افتتاح القول الذي بعد هذا فكتبوا: «السباع أيّ الأشياء تحدث عند اللطافة والدقّة هزال البدن ونحافته» وفهم قوم عنه من ذلك الأزم. وأصحاب التأويل الأوّل يشيرون بأن ينظر أيّ الأشياء 〈…〉 وقد فهم قوم عنه من قوله «اللطافة والدقّة تحدث الحيّات المتولّدة في البطن» في الأبدان القضيفة النحيفة وأصحاب التأويل الثاني يشيرون بأن ينظر أيّ الأعراض تكون عن الحيّات المتولّدة في البطن عند الأزم والإمساك عن الطعام. وذلك أنّ هذه الأعراض بالحقيقة التي تقدّم ذكرها إنّما تكون عن الحيّات المتولّدة في البطن في أوقات الإبطاء عن الطعام.
(٣١آ) قال أبقراط: مثل الأشياء التي تحدث عند الدقّة التمدّد قبل الموت وانجذبت السرّة منها واستطالت وحدث قرح في اللثة وفي ما يدخل إلى الطريق.
قال جالينوس: إنّي أكتب أوّل هذا القول وآخره على ما كتبته وأنا أرضى هذه القسمة وهذه القراءة لاكنّي إنّما فعلت ذلك وأنا أريد أن أخبر مع ما أخبرت به بنسخة روفس — وهو أحد من قدماء المفسّرين — وتأويله فيها. فإنّ روفس كتب هذا الكلام وقسمه على هذا المثال ووصل ذكر «السباع» بالقول الذي قبل هذا وجعل افتتاح هذا القول «مثل الأشياء التي تحدث عند الدقّة» فأمّا ذكر «السباع» فوصله بذكر «استطلاق البطن» لأنّ تلك الحيّات قد تنحدر كثيراً مع ما ينحدر من البراز.
وتأوّل روفس هذا القول هذا التأويل الذي أنا واصفه من ذي قبل بألفاظه. قال: «قد ظنّ قوم أنّ أبقراط عدّد في هذا القول الأعراض التي لزمت فوسيدونيا من قبل موتها عندما وقعت في علّة الاستسقاء من نزف أصابها وبعض من توهّم ذلك علم †قياس†. وأمّا †ٮلٮوٮٮاس† فزعم أنّ أبقراط في هذا القول يصف علّة الاستسقاء على الإطلاق وذلك أنّ الجلدة التي على البطن في أصحاب الاستسقاء تتمدّد ولذلك ترقّ السرّة وتنبأ من قبل الموت وتحدث في الفم قروح بفساد الرطوبات التي في البدن. وقد نجد ذلك يعرض للصبيان الذين ينهكون وكثيراً ما نرى تلك القروح قد آلت إلى النواصير. وزعم أنّه يعني ‹بالموضع الذي يلي بالسنّ› جميع الفقار الذي من دون الرقبة. وأمّا غلوقياس فلم يكتب في نسخته ‹للسنّ› ذكراً لاكنّه كتب مكان ‹السنّ› ‹الطريق› وقال إنّه خليق أن يكون أبقراط عنى ‹بالطريق› في هذا الموضع المسلك النافذ في الحلقوم وفي المريء فإنّ القروح إنّما كانت من اللثة في تلك المواضع خاصّة التي تلي المريء والحلقوم. وقد فهم قوم أنّه إنّما عنى ‹السنّ› والسنّ هو الفقرة الأولى من الرقبة التي تلي الرأس». فهذا هو ما كتب روفس وجعل اللفظة الأخيرة من هذا القول الذي تقدّم «الطريق» لا «السنّ».
وأمّا من أتى بعده فكتبوا مكان «الطريق» «السنّ» لأنّ هذين الاسمين متقاربين في اللسان اليونانيّ. وفهم بعضهم من قوله «السنّ» الفقرة الأولى من فقار الصلب من قبل أنّ أبقراط نفسه قد كتب في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا عند
ذكر الذبحة: «فإن كان أسفل من الموضع الذي يسمّى ‹السنّ›». وفهم بعضهم عنه الشيء الذي يسمّى به هذا الاسم على الحقيقة.
وأنا مقبل من ذي قبل على سائر المفسّرين فأضع هذا القول على قسمتهم ونسختهم ثمّ آخذ في تفسيرها.
(٣١ب) قال أبقراط: عند الدقّة التمدّد قبل الموت وانجذبت السرّة منها واستطالت وحدث قرح في اللثة وما داخل الأسنان.
قال جالينوس: إنّي متى وجدت المعنى في كلّ واحد من هذه الأقاويل معنى بيّناً واضحاً وهو مع ذلك صحيح حقيقيّ ألغيت ذكر المفسّرين لكتب أبقراط تجنّباً منّي للتطويل ومتى لم أقدر على الوقوف على المعنى في قول من الأقاويل الغموضة ولا على أن تسكن نفسي إليه على أنّي قد عرفت معنى قائله فيه بالحقيقة فإنّي عند ذلك أذكر من فسّر هذا الكتاب من أولائك المفسّرين الذين لهم التفاسير المشهورة. لاكنّي قد أعرف قوماً من معلّمينا قد أتوا بتفاسير وتأويلات لم يأت بها من كان قبلهم من المفسّرين ومنهم قوم لم يكتبوا في ذلك أصلاً كتاباً مثل سطراطونقس تلميذ سابينس وهو رجل من أهل مدينتي وكذلك إبيقورس. ومنهم من قد كتب من أصحاب التجارب وهو أيضاً من أهل مدينتي كتباً يشرح فيها كتب أبقراط إلّا أنّهم لم يدفعوها إلى الناس في حياة منهم. ثمّ إنّهم لمّا ماتوا بادرت تفاسير بعضهم وبقيت منها بقايا ليست باليسيرة عند أقوام لا ينهجون بها حتّى أنّ فالبس قد كتب تفاسير لجميع كتب أبقراط ولم يبق منها في أيدي الناس إلّا عدد
قليل جدّاً. وقد كتب أيضاً ساطورس معلّمي وفيلبس وهو رجل من أصحاب التجارب وغيرهم من ذوي الأقدار ممّن كان على عهد أبي وأجدادي تفاسير كثيرة إمّا أن لا يكون بقي منها شيء أصلاً في أيدي الناس وإمّا أن يكون الذي بقي منها يسيراً.
وأمّا أنا فقد قرأتها كلّها إلّا الشاذّ وأثبتّ لنفسي بإيجاز رسوم ما كتبه من كتب نسخها. ولا رأيت أيضاً أن أذكر جميع أولائك المفسّرين في هذه التفاسير التي كتبتها الآن لاكنّي اقتصرت على ذكر المشهورين منهم ومن قال في شرح شيء من الأقاويل الغامضة شيئاً مقنعاً. فإنّي قائل في هذا الموضع أيضاً شيئاً قد سمعتموني أقوله دائماً وهو أنّ الأقاويل الغامضة التي تجري مجرى الرمز ليس يستحقّ أحد أن يصدّق في تفاسيرها سوى قائلها وحده.
وأمّا غيره من سائر الناس فمنهم من لا يبلغ تأويله ولا المقدار الذي يكون به بما يقبل ويقنع به ومنهم من يكتب ما لا يفهم ويعقل ومنهم من يكتب في شرح الأقاويل القديمة التي يرسم شرحها ما هو أغمض منها. وذلك أنّ جميع الناس إلّا القليل منهم يحرصون على قراءة الكتب الغامضة التي هي في غاية الغموضة الجارية مجرى الرمز على المعلّمين وما كان منها أيضاً إنّما يدّعي فهمه أولائك المعلّمون فقط ولست أدري ما الذي يدعوهم إلى ذلك.
وقد رأيتكم أنتم أيضاً معشر أصحابي مع علمكم بأنّه لا ينتفع أصلاً بأشباه هذه من الكتب تشتهون قراءتها بسبب من يزعم أنّه قد انتفع بقراءتها. وقولي ما قلت في هذا إنّما أردت به التذكرة بما لا أزال أقوله دائماً في التفرقة بين الأدب الصحيح الحقيقيّ وبين الشيء الذي يسمّى «أدباً» بالباطل وبقي فيه أكثر الناس أعمارهم لأنّ أكثر الناس يحرص عليه ويجتهد فيه على أنّه أدب.
وأنا راجع فيه إلى غرضي الذي قصدت إليه وواضع ما كتبه روفس بألفاظه في شرح هذا القول الذي نحن في شرحه لاكنّي أريد أوّلاً أن أذكركم شيئاً قد قلته لكم مراراً أخر وهو أنّه من بعد روفس الذي كان من أهل أفاسس كان رجل آخر يسمّى بهذا الاسم في أيّامنا وأنا بعد حدث من أهل يوديا وفي نسخة أخرى 〈…〉. ولم يكن عند أهل الرجل قوّة تخصّه في شرح كتب القدماء لاكنّه جمع شرحها من تفاسير غيره وذلك أنّه قد كان ملكها كلّها فألّف من تلك التفاسير بعناية واجتهاد تفاسير لكتب أبقراط. فإذا قلت في تأويل من التأويل إنّ روفس جاء به فافهموا عنّي أنّ صاحب ذلك التأويل إنّما هو روفس الذي من أهل أفاسس وأمّا متى آثرت أن أذكر روفس الذي من أهل سمريا فإنّي أضيف إلى اسمه ذكر مدينته وأمّا متى أطلقت الذكر فقلت «روفس» فافهموا عنّي روفس الذي من أهل أفاسس وهو رجل ذو قدر في صناعة الطبّ وفي العبارة.
فروفس هذا قد كتب في شرح هذا القول الذي نحن في شرحه ما أنا واصفه بألفاظه وهو هذا: «إنّ البدن إذا دقّ وهزل قبل الموت يجرد الجلد الذي على البطن وعلى سائر البدن ولذلك تنبأ السرّة وتستطيل. وليس بعجب أن تحدث القروح في اللثة إذا كان الغذاء الذي يأتيها والأسنان رديئاً واجب أن يكون جميع نواحي الفم يشرك نواحي المعدة والأمعاء في علّته. وممّا يقرب من القبول والإقناع أن يكون قصد بجميع هذه الأشياء التي ذكر هذا المعنى أنّ البطون إذا خفّت يعني إذا كانت الشهوة فيها قويّة كان ذلك سبباً لاستطلاقها كالذي عرض لبوسيدونيا والسباع يعني الحيّات عند ذلك تتولّد. وذلك أنّ الحيّات إنّما تتولّد فيمن يكثر من
الطعام وإذا استطلق البطن واجتمعت فيه الحيّات أفرط الهزال على البدن وتمدّد الجلد وانجذبت السرّة إلى خارج وحينئذ إذا أفرط هذا الفساد حدثت القروح في اللثة». فهذا ما كتبه روفس فشرح هذا القول الذي نحن في شرحه فلنقبل الآن على سائر المفسّرين.
(٣١جـ) قال أبقراط: وحدث قرح في اللثة فيما تداخل الأسنان.
قال جالينوس: إنّ المفسّرين والمصلحين لنسخ لم يمتنعوا من اختلاف ولا في هذا على أنّ تلك النسخ المختلفة ليس تحدث كبير اختلاف في المعنى لاكنّهم على حال قد كتب بعضهم «قرح» وبعضهم «قروح» وبعضهم «تداخل الأسنان» وكتب بعضهم «نفس الأسنان».
وقد نرى اللثة تتأكّل في المرض بسبب حدّة الأخلاط وربّما رأينا ذلك يحدث في اللثة كلّها وربّما رأينا ذلك يحدث فيما يلي منها أصول الأسنان فقط وربّما رأينا ذلك يحدث في أطرافها الخارجة وربّما رأينا ذلك يحدث منها خاصّة في الزوائد التي تقال «العمر». وقد رأى قوم أنّه إنّما قال «التي كداخل الأسنان» يعني الأسنان فيزعم أنّه أراد بذلك ما ينطبق على الأسنان من اللثة. إلّا أنّا ليس ننال من هذا ولا ممّا قبله منفعة ذات قدر في علم الطبّ لأنّه إن كان القصد إنّما هو أنّه قد تحدث في أبدان المرضى أعراض كثيرة من أشباه هذه الأعراض التي ذكر أنّها عرضت لفوسيدونيا فإنّا نعلم ذلك ممّا قد رأينا مراراً ليست باليسيرة وإن كان القصد إنّما هو إلى أنّه قد واجباً أن يحدث لفوسيدونيا ما حدث من هذه الأعراض فإنّ هذا ليس يتبيّن من هذا الكلام على أنّ هذا هو الشيء الذي ينتفع به. وذلك أنّه لم
يذكر أيّ مزاج كان مزاجها في وقت ما حدثت لها هذه الأعراض ولا كيف كان طمثها ولا كيف كان تدبيرها ولا كيف كان مزاج الهواء المحيط بها وهذا هو الشيء الذي كان ينتفع به.
ومع هذا فإنّه ليس يتبيّن لنا أن نصل هذا الكلام أو نقطعه إلى أجزاء صغار. فإنّه قد قسم هذا الكلام بتقاسيم أخر سوى هذه التقاسيم التي ذكرتها في هذا الموضع بعضها كانت ممّن كتب فيه تفسير وبعضها كانت ممّن هو باقٍ في دهرنا هنا ممّن يقول بها ولم يضعها في كتاب وبعضها كانت ممّن أصلح نسخ كتب أبقراط. ويدلّ على رأي المصلح لها مثل هذه النسخة التي أنا واصفها ليكون مثالاً يفهم به أمر سائر تلك النسخ.
فأقول إنّ ديسقوريدوس الذي كان على عهد أدريانوس الملك قصد لكتب أبقراط فأصلح نسخها كلّها إصلاحاً يحمده الناس ويمدحونه. فهذا الرجل قسم هذا القول وكتبه على هذا المثال: «الخفّ من البطون بالاستطلاق كالذي كان في فوسيدونيا» 〈و〉وضع النقطة السفلى التي تدلّ على أنّ ما يأتي بعدها قضاء على ما تقدّمها من بعد ذكر «البطون» وزاد في «الاستطلاق» «باء» فكتب «بالاستطلاق». ثمّ قطع هذا القول بعد ذكره «فوسيدونيا» ووضع النقطة الفوقى التي تدلّ على انقضاء المعنى. ثمّ كتب قولاً آخر يأتي قطعه هذا المقطع: «والسباع أيّ الأشياء تحدث عند الدقّة». ومن البيّن أنّه يريد أن يكون نظرنا في أمر الحيّات المتولّدة في البطن ما الذي من شأنها أن تحدث لا مطلقاً لاكن عند الدقّة والهزال فقط. ثمّ قطع هذا القول في هذا الموضع وفصله بخطّ وابتدأ بقول آخر هذا الابتداء: «الذي عرض لها التمدّد قبل الموت» ثمّ سائر ما يتلو تلك. وأراد
أنّ هذا القول يدلّ على أنّ امرأة من النساء أصابها تمدّد قبل وفاتها وسائر الأعراض التي ذكرها بعد فإنّه ذكر أنّه عرض لهذه المرأة قروح في لثتها.
وأنا واضع هذا القول كلّه على ما كتبه ديسقوريدوس وهو على هذا المثال: «التي عرض لها التمدّد قبل الموت وانجذبت السرّة منها فاستطالت فإنّه حدث لها قرح في اللثة فيما يتّصل منها بالأسنان». فأنزل أنّ هذا هكذا وأنّ أبقراط إنّما كتب أنّه عرض لهذه المرأة التمدّد قبل الموت وما ذكره بعد ذلك وأنّ هذه حدثت لها قرح في اللثة على معنى ديسقوريدوس ما الذي نرتجيه من هذا وأيّ مداواة من مداواة الأمراض يستفيد عملها من هذا أم أيّ تقدمة معرفة نقنيها من هذا القول؟ فقد بان أنّه ليس يحصل من جميع أمثال هذه الأقاويل إلّا تمسّح العمر والشغل والتعب بالباطل.
(٣٢) قال أبقراط: إنّه قد يمكن في كلّ واحد من الأشياء أن يؤمر بأشياء كثيرة على الصواب بعضها قوّتها قوّة واحدة بعينها وبعضها ليس قوّتها قوّة واحدة بعينها مثل هذه التي أنا واصفها أن يتحلّل الشيء وأن يتلزّز وأن يخرج الشيء وأن يصلّب الشيء وأن ينضج الشيء.
قال جالينوس: لو كان أبقراط قال لنا أيّ «الأشياء» ممّا ذكر في هذا القول «قوّتها قوّة واحدة بعينها» وأيّها قواها أو 〈أيّها〉 مختلفة اختلافاً مطلقاً لا تكون قوّتها «قوّة واحدة بعينها» ولا قواها متضادّة لكنّا عند ذلك سننال المنفعة التي تستفاد من هذا القول. لاكنّه لمّا كان إنّما كتب ما كتبه من هذا على طريق الرمز
لأنّه جعله تذكرة لنفسه فلم يفدنا به شيئاً فقد اضطرّنا الأمر إلى أن نصنع ما كنّا صانعيه. ولو كانت هذه المسألة ألقيت علينا من غير أن نقرأ هذا القول من أبقراط 〈…〉 من البحث عن الجواب فيها ونصل ذلك بشرح هذا القول.
وهذه المسألة هي من المسائل التي تكلّمنا بها والكلام فيها يطول حتّى يكاد يحتاج فيه إلى مقالة بأسرها إن أراد مريد أن يستقصي الجواب في هذه المسألة على ما يجب فيها. إلّا أنّ الأمر يضطرّني إلى أن أوجز الجواب فيها وأختصره كيما لا يظنّ بي ظانّ أنّي قد خرجت عن حدّ التفسير ومقداره. وأنا أقول من ذي قبل ما لا بدّ منه في تلخيص الجواب في هذه المسألة مبتدئاً من أوّل شيء ذكر فيها. فأقول إنّ الأشياء بما يتداوى بها قوّتها قوّة واحدة بعينها هل هي الأشياء التي يلحق استعمالها تمام واحد وهو أن يبرأ الإنسان من علّته الأشياء التي تؤدّي إلى ذلك التمام بطريق واحد أم على جهة واحدة؟ وأدلّ على ما قلته من هذا دلالة بيّنة بمثالات أضعها. فأقول إنّ غلاماً أصابه في الربيع في ساعده أو في فخذه الورم الذي يعرف «بالحمرة» وإنّ بعض من رآه من الأطبّاء أشار عليه بأن يجعل ابتداء ما يتعالج به الفصد وأشار عليه آخر بشرب الدواء الذي ينقص المرار. فقد يحتاج إلى البحث عن أمر هذين هل قوّة العلاجين اللذين أشار بهما قوّة واحدة بعينها أو قوّة الواحد منهما غير قوّة الآخر. وذلك أنّ قوّتها قوّة واحدة بعينها في الجنس لأنّهما جميعاً يستفرغان البدن كلّه ويختلفان في
النوع بأنّ أحدهما يستفرغ من البدن من الأخلاط كلّها بالسواء والآخر إنّما يستفرغ منه المرار وحده.
فأنزل أنّ ذلك الإنسان قد سقي دواء فنقص عنه المرار ثمّ احتاج بعد إلى أدوية يعالج بها موضع العلّة. فأشار عليهم بعض الأطبّاء أن يضمد موضع العلّة بضماد متّخذ من عنب الثعلب وأشار عليه آخر بأن يضمده بضماد متّخذ من الحشيشة التي تسمّى «حيّ العالم» وأشار عليه آخر أن يضمده بالطحلب. فقد نقول في هؤلاء أيضاً إنّ الذين أشاروا به من الأضمدة شيء واحد بعينه في الجنس وذلك أنّها كلّها تبرّد وتدفع الفضل الذي يجري إلى الموضع عنه وتختلف في أنواعها حتّى لا يكون بها شيء واحد بعينه بسبب اختلاف مقادير التبريد فيها وبسبب ما في بعضها من القبض وعدم بعضها له حتّى لا يكون فيها إلّا البرودة المائيّة مبرّده فقط.
فتوهّم أيضاً أنّه قد عولج ذلك العليل يوماً وليلة بضماد من تلك الأضمدة فسكن عنه بها أكثر ما كان يجده من الالتهاب إلّا أنّه بقي منه بعد مقدار ذو قدر. ثمّ إنّ بعض الأطبّاء رأى أنّه يحتاج إلى ما يدفع ما يجري إليه من الفضل ورأى بعضهم أنّه ينبغي أن يقصد لتحليله. فقد نقول في هذين أيضاً إنّ الذي أشار به كلاهما شيء واحد بعينه إن كان العلاجان اللذان أمر بهما كلاهما يباعدان عن العضو العليل الخلط الذي أحدث فيه علّته أمّا أحدهما فبأنّه يدفعه إلى داخل إلى
غور البدن وأمّا الآخر فبأنّه يجعله إلى خارج البدن ويفشّه. وأنزل في المثل أيضاً أنّ بعض من استعمل الأضمدة المحلّلة ضمد بدقيق الحنطة وبعضهم ضمد بدقيق الشعير فالجنس في هذه الأضمدة أيضاً جنس واحد بعينه والاختلاف بينهما في الكثرة والقلّة.
فقد يتبيّن من هذا أنّ في تعليم أصحاب المنطق لنا على كم وجه يقال له في الأشياء إنّها شيء واحد لم يكن باطلاً ولا عبثاً. وذلك أنّه ربّما قيل في الأشياء إنّها شيء واحد بعينه في الجنس وربّما قيل فيها إنّها شيء واحد بعينه في النوع وربّما قيل في الشيء إنّه شيء واحد بعينه بالجوهر المفرد الذي لا ينقسم. وقد يمكن في حال من الأحوال أن يكون شيئان كلّ واحد منهما غير الآخر من وجه وهما من وجه آخر شيء واحد. فإذا قال القائل في شيئين أو أكثر منهما إنّهما شيء واحد لم يستثن على أيّ وجه حكم بذلك الحكم فيهما وكان السامع لقوله جاهلاً بما قاله أصحاب المنطق من التفصيل وجب من ذلك أن يقع المراء والمشاجرة. ويدوم أكثر المراء بين من قد جمع من الأطبّاء مع حبّ الغلبة قلّة الأدب فيقول بعضهم في ذينك الشيئين إنّهما شيء واحد ويقول بعضهم إنّ كلّ واحد منهما غير الآخر وأحرى أن لا تنقص المنازعة بينهم إذ كانوا لا يحسبون يفرقون بين المثل الذي هو الشيء بعينه وبين الشبه الذي هو نظير الشيء. فإذ كان هذا البحث الذي قصدنا إليه يخرج إلى هذه المطالبات كان من ارتاض وتدرّب في تمييز بعضها من بعض يقدر أن يحكم في العلل وفيما تداوى به حكماً صحيحاً حسناً فأمّا من لم يتعلّم هذه المطالبات ولم يرتض ولم يتدرّب فيها فإنّ هذيانه لا ينقطع.
والمفسّرون الذين قد جلا عجبهم مع جهلهم بهذه الأشياء فيهم من لا يعلم مع ذلك المعاني التي تدلّ عليها هذه الأسماء المكرّرة المذكورة في هذا القول وهذا هو الأمر الخاصّ بمن يتعاطى التفسير لشيء من الأشياء أيّ شيء كان. فلنقبل الآن على هذا بعينه ونجرّد القصد إليه فنقول ما معنى قوله «يتحلّل» فإنّ هذا هو أوّل ما ذكر في هذا القول وما معنى قوله «يتلزّز» لأنّ هذا هو الثاني ممّا ذكر والثالث بعده «يخرج».
فأقول إنّ معنى قوله «يتحلّل» هو أن يتفتّح جوهر الجسم الذي يتحلّل حتّى يتزيّد حجمه فيصير أعظم ممّا كان من غير أن يدخله من خارج جوهر آخر. وأمّا معنى قوله «يتلزّز» فضدّ ذلك وذلك أنّ الناس إنّما يصفون «بالتلزّز» الجوهر الذي يجتمع حتّى يصير حجمه أقلّ ممّا كان وقد يقال في هذه الطبائع الأربع أعني النار والماء والهواء والأرض إنّها إنّما تقبل الاستحالة بعضها من بعض بالتحلّل والتلزّز. والشيء الثالث بعد هذين ممّا ذكره هو قوله «يخرج» وهذا هو شيء مشترك فيما بين ذينك الشيئين وذلك من قبل أنّ العضو من بدن الحيّ إذا اجتمع وتقبّض من الأشياء المبرّدة ضغط الخلط الذي فيه وعصره فرمي به إلى بعض الأعضاء القريبة منه وإذا انحلّ من الحرارة استفرغ ذلك الخلط منه وانفشّ عنه إذا ما لم يكن في ذلك البدن امتلاء. ويعرض من كليهما أعني من الضغط ومن التحلّل والانفشاش أن يخرج من العضو الجوهر الرطب الذي فيه ولذلك قد يمكن أن يقال إنّ التحلّل والتلزّز يفعلان فعلاً واحداً بعينه بطريقين مختلفين وجهتين متباينتين.
وأمّا السببان اللذان ذكرهما بعد هذا فالأمر فيهما بيّن ظاهر أنّهما ضدّان وذلك أنّ «الصلابة» إنّما تكون عندما تجفّ الأجسام التي تصلّب أو تتمدّد أو تجمد عن البرد وأمّا «النضج» فيكون من الحرارة الغريزيّة وربّما أعنت أيضاً بأشياء تورد عليها من خارج.
وقد نجد من النسخ ما ليس فيه هذا القول موجوداً أصلاً مثل نسخة قابيطن وكذلك نجد من المفسّرين قوماً لم يذكروا هذا القول أصلاً. ومنهم من زاد فيه «وأن يضغط» ومنهم من زاد فيه مع ذلك «وأن يجفّف» ومنهم من كتب بعض هذه الأشياء وبعضها لم يكتبه واستعمل الإقدار والتسلّط الشديد في ذلك فكتب كلّ واحد منهم ما شاء. فإن أنا بحثت عن معنى كلّ واحد منهم طال كلامي في ذلك وقد قلت في ما تقدّم إنّ غرضي القصد للتوسّط بين الإيجاز الذي معه نقصان وتقصير عمّا يحتاج إليه وبين التطويل الذي يدخل فيه حشو وفضول لا يحتاج إليها. وذلك أنّي لو قصدت من الإيجاز إلى مثل ما قصد إليه روفس لكانت جملة تفسيري لهذه المقالة تلتئم في ثلاث مقالات ولو قصدت إلى أن أصف جميع النسخ وجميع التفاسير لكنت عسى سأحتاج إلى أن أجعل تفسيري لهذه المقالة في عشرين مقالة ولا أكتفي فيه بثماني مقالات كما قد رجوت أن أكتفي بها فيه.
(٣٣) قال أبقراط: وحيث يورّك تدفع الذين ليس معهم جرأة يحتاج إلى التغيير بتنبيه من قد غلب عليه الخدر.
قال جالينوس: إنّهم قد كتبوا هذا الكلام على نسخ مختلفة وقطّعوا قراءته تقطيعاً مختلفاً لزم منها أن كانت التأويلات منهم له مختلفة. وذلك أنّ بعضهم
كتب مكان قوله «يورّك» «الأريكة» وكتب بعضهم «تورّك الأخلاط وتقبلها إلى المواضع القريبة من الموضع الذي فيه العلّة» كما قد قال أبقراط في كتابه في الأخلاط منذ أوّل ما افتتحه في الكلام الذي ذكر فيه التمييل للأخلاط إلى الأعضاء القريبة من موضع العلّة واستفراغها منها. وأمّا بعضهم كما قلت فيكتب مكان «يورّك» «الأريكة» ويفهمون من هذا الاسم السرير الذي ينام عليه ويزعمون أنّ أبقراط يشير في هذا الكلام علينا أن نعني بأن نعلم في أيّ موضع ينبغي أن ندفع عن الأعضاء ما يؤذيها وما يكون عنه حدوث العلّة فيها.
وأمّا ذكره «الذين ليس معهم جرأة» فقد وصله قوم بما تقدّم ذكره وجعله قوم افتتاحاً لما يأتي بعده. فأمّا أصحاب التأويل الأوّل فيزعمون أنّه قال إنّ الأريكة تدفع في الذين ليس معهم جرأة وهو يريد أنّ الذين قد غلب عليهم الخدر حتّى صاروا ليس معهم شيء من الإقدام فأمرهم الطبيب أن يفارقوا السرير ويتصرّفون في المشي أو في الركوب أو في التدلّك أو في الاستحمام في الحمّام. وأمّا أصحاب التأويل الثاني فجعلوا قوله «الذين ليس معهم جرأة يحتاجون فيهم إلى التغيير والتنبيه ممّن قد غلب عليه الخدر» قولاً واحداً وزعموا أنّ أبقراط أراد به أنّه ينبغي للطبيب أن يعرف الذين ينبغي أن ينبّههم ويتعبهم ويحثّهم على الحركات ممّن قد جبن عنها.
وأمّا قوله «من قد غلب عليه الخدر» فقد فهمه بعضهم عنه على البدن وفهمه بعضهم عنه على النفس. أمّا على البدن ففيمن قد غلب عليه البرد وأشرف على
الاسترخاء وهو يعطّل الحسّ والحركة وأمّا على النفس ففي من قد غلب عليه غاية الكسل. فإنّ من كانت هذه حاله فينبغي أن ينبّه ويتعب بالكلام بعد أن يعلم أنّ ممّا يبلغ في البرء من الأمراض مبلغاً ليس باليسير أن تقوّى النفس وتشدّد. وممّا يدلّ على ذلك أنّا قد نعرف قوماً دامت بهم الهموم والغموم فذوّبت أبدانهم ونهكتها ونعرف قوماً حدثت بهم نعمة سرّوا بها فتخلّصوا لذلك من أمراض كانت بهم ونعرف خلقاً كثيراً سلموا من أمراض كانت بهم برؤية من أسرّوا رؤيته. وقد قصد قوم من المفسّرين إلى قول أبقراط في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا وهو القول الذي قال فيه إنّه ينبغي أن يعتمد الاختلاط وحدّة الغضب لرجوع اللون والدم فجعلوا مكان «الاختلاط» «في السرور» وزعموا أنّ أبقراط يشهد بأنّ البدن العليل يبلغ به السرور في اكتساب الصحّة مبلغاً ليس باليسير.
(٣٤) قال أبقراط: ممّا يفرط في تأخيره: أصحاب الماء ينبغي أن يفجّروا أسرع وأصحاب السلّ يكوون والرؤوس تنشر وما أشبه ذلك.
قال جالينوس: أمّا قوله «أصحاب الماء» فجميعهم يزعم أنّه إنّما أراد به المستسقين الذين يسمّون «أصحاب الحبن» وذلك أنّه ليس يمكن أن يفهم من ذكر «الماء» شيئاً غير هذا. وأمّا قوله «يفجّرون» فقد فهمه بعضهم أي تثقب بطونهم حتّى تستفرغ الرطوبة التي فيها وفهمه بعضهم على أنّه ينبغي أن يفصدوا
لأنّ النساء اللواتي يبتدئ بهنّ الاستسقاء بسبب احتباس الطمث قد يشير عليهنّ بالفصد حذّاق الأطبّاء وكذلك من عرض له هذا العارض من احتباس دم قد كان جرت العادة بأن يجري منها ما يفتح أفواه العروق التي في السفلة. وأمّا بالرعاف فإنّ في ابتداء هذه العلل من علل الاستسقاء قد ينتفع بها بالفصد إذا كان قبل أن تنحلّ القوّة وتسقط.
فأمّا أصحاب الاستسقاء فليس ينبغي أن يبادر بثقب بطونهم لاكنّ الذي ينبغي ضدّ ذلك لأنّا إنّما نضطرّ إلى ثقب الصفاق بأخرة إذا كثرت الرطوبة حتّى تثقل المريض وتوهّنه وإنّما يكون ذلك في الصنف من الاستسقاء المعروف «بالزقّيّ» وهو الذي يكون منه الفضاء الذي بين الأمعاء وبين الصفاق مملوءاً من رطوبة مائيّة.
وممّا يزيد أصحاب هذا التأويل استبصاراً به وميلاً إليه القول الذي أردف به هذا القول فقال فيه: «أصحاب الماء لا ينبغي أن تمسّ منهم الثنّة ولا الحجاب». وسنبحث عن معنى هذا القول بعد قليل باستقصاء أشدّ من هذا إذا نحن بلغنا إلى موضعه. وأمّا الآن فإنّي راجع إلى ما يتّصل بما تقدّم من هذا القول وهو الكلام الذي أمر فيه أن لا يؤخّر «كيّ أصحاب السلّ». ومن البيّن أنّه عنى «بأصحاب السلّ» الذين يذوب منهم البدن كلّه وينهك بسبب قرحة في الرئة. فمن أراد أن
يكوي هؤلاء كما كان القدماء يكوونهم بمكاوٍ كانوا يحمّونها ثمّ يضعونها على الصدر فليس ينبغي أن ينتظر بذلك حتّى تتأكّل القرحة التي في الرئة وتعظم وتخبث لاكن يبادر بكيّهم منذ أوّل الأمر.
وإذا احتاجت أيضاً «الرؤوس» إلى أن «تنشر» بالمنشار فهو يأمر أن يبادر بنشرها بسرعة ولا ينتظر إلى أن يحدث عمّا ينحدر إلى أمّ الدماغ من الصديد ضرر كما قد يفعل قوم في علاج عظام الرأس إذا حدث فيها كسر فينتظرون حتّى يستكمل التقيّح كيما يفارق الأمّ الجافية الجمجمة. وقد ينبغي أن يعنى بهذا ويقصد له وخاصّة متى كانت الأمّ ليس يضغطها شيء ولا يزحمها. فإنّه إن كان شيء يزحمها أو يفسخها من تلك المواضع التي تكسّرت فليس يمكن أحداً أن ينتظر حتّى يحدث التقيّح لاكنّه وإن لم يكن شيء من هذا فقد ينبغي أن يكون لانتظار التقيّح مقدار معتدل حتّى لا يتجاوز في انتظاره في حال من الأحوال اليوم الثالث منذ أوّل العلّة حتّى يكون هذا هو أقصى حدود وقت العلاج بالنشر وأمّا أكثرهم فينبغي أن يعالج في اليوم الثاني. فأمّا من يعرض له في الأمّ الجافية ضغط أو فسخ ومن البيّن أنّ ذلك إذا كان فهو يعرض أيضاً في الأمّ الرقيقة التي من ورائها وفي الدماغ نفسه فينبغي أن تقلع من رأسه العظام المنكسرة من أوّل يوم وإن لم تقلع كلّها قلع منها ما يخصّ على القلع. وقد خبّر أبقراط في كتابه في جراحات
الرأس أنّه لا ينبغي أن يتجاوز بنشر عظام الرأس اليوم الثالث في قول قاله وهو هذا القول: «إذا أنت جردت العظم بالمجراد إن رأيت أنّه ينبغي أن تنشره فينبغي أن تنشره ولا ينبغي أن تجاوز في نشره اليوم الثالث».
قال: «وسائر ما أشبه ذلك» يعني ما يضرّ التأخير فيه والأجود أن يبادر في علاجه. فإنّه كما قد يعرض في أمّي الدماغ من الضغط ومن النخس من قبل العظم المنكسر ما يدلّ على أنّه ينبغي أن يبادر فقلع العظم الذي يؤذي كذلك قد يعرض في بعض الكسر الحادث في اليدين والرجلين أن تكون العظام المنكسرة تنخس العضل الذي فيهما أو تضغطه وقد يحتاج في بعض الأوقات أن نبادر بالفصد أو بالتنقية بالدواء كما خبّر أبقراط نفسه في كتاب الفصول.
(٣٥) قال أبقراط: أصحاب الماء لا ينبغي أن تمسّ منهم الثنّة — وفي نسخة أخرى مكان «الثنّة» «الصفاق» — ولا ما داخله. قال: في كثير منهم يكون الأمر شبيهاً بما يكون في الركبتين.
قال جالينوس: إنّا قد نجد في بعض النسخ «ليس ينبغي أن تمسّ الصفاق ولا الحجاب» ولمّا كان قد نها في هذا القول عن أن يمسّ الصفاق وكان قد قال في القول الذي قبل هذا إنّه لا ينبغي أن ينتظر بأصحاب الماء ولا يؤخّر علاجهم ألحق قوم من الحدث من المفسّرين في هذا القول لفظة جعلوا بها هذا القول على هذا المثال: «أصحاب الماء لا ينبغي أن تمسّ منهم الصفاق 〈…〉» وأرادوا أن يكون معنى هذا القول هذا المعنى: يقول إنّه لا ينبغي في أصحاب الماء أن يمسّ
الصفاق أي لا يثقب ولا يكوى وذلك أنّه إنّما ينبغي أن يفعل ذلك في أصحاب الاستسقاء الزقّيّ فقط الذي تجتمع فيهم الرطوبة المائيّة فيما بين الأمعاء وبين الصفاق.
فأمّا أصحاب الاستسقاء المسمّى «اللحميّ» فحالهم «شبيهة بالحال التي تعرض كثيراً من الركبتين» فقد عرض لقوم أن توهّموا على «الركبتين» أنّهما تحويان رطوبة فبطّوا ذلك الموضع فلم يجدوا فيه رطوبة مجتمعة لا مائيّة ولا لحميّة لاكنّهم وجدوا العضلة إمّا منتفخة وإمّا مبلولة برطوبة كثيرة وربّما وجدوها في الحالين جميعاً.
وقد بدّل الألفاظ من هذا القول الحدث من المفسّرين على أنحاء شتّى وبدّلوا التأويل فيه على حسب تبديل اللفظ. فرأيت أنّ الأجود في هذا الموضع أيضاً إلغاء ذكر ما فعلوه من ذلك كلّه فوﷲ ما أنا بالملتذّ لاحتباسي على ما أنا محتبس عليه لأنّي مبادر إلى التخلّص من هذه الأقاويل الغامضة والراحة منها.
(٣٦) قال أبقراط: الذي عرض في القلب لكسانرخس أن يستنشق الحارّ دفعة إلى القرحة وأن يسخن مكان الاستفراغ منذ أوّل الأمر.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً قول غامض مستغلق شديد الاستغلاق حتّى كأنّه بأن يكون قول مفتعل قصد فيه التدلّس له إلى الإغماض أشبه من أن يكون قول كتبه أبقراط. وقد نجد أقاويل كثيرة في هذا الكتاب تجري هذا المجرى ممّا تفنى به الأعمار بالباطل كما قد قلت مراراً كثيرة.
فذكر كسانرخس هذا الذي ذكر أنّه عرض له ما عرض «في القلب» أو «فيما يلي القلب» — وقد نجده يكتب على الوجهين جميعاً في نسخ النصّ من هذا الكتاب وفي تفاسير من فسّره — ليس ينتفع به أصلاً في هذا المعنى الذي نلتمس
استفادته من هذا القول. وأمّا سائر ما ذكر فيه ممّا القصد فيه لمعنى من الطبّ فيكتب على أنحاء كثيرة مختلفة.
وإحدى تلك النسخ هي التي وضعتها قبيل وهي على هذا المثال: «إنّ من يستنشق الحارّ دفعة» من غير أن يذكر فيها «القرحة». وتوجد أيضاً على نسخة ثالثة فيها مكان «دفعة» «معها» وهذه تكتب على ضربين وذلك أنّ بعضهم يلحق فيها «إلى القرحة» وبعضهم لا يلحق ذلك. وليس بين قول القائل «أن يستنشق دفعة» وبين قوله «أن يستنشق معاً» كبير فرق وأمّا بين إلحاق «إلى القرحة» وبين حذفه ففرق عظيم. وذلك أنّه إن كتب هذا القول من غير أن يلحق فيه «إلى القرحة» كان تأويل من تأوّل هذا القول أنّه قيل في ألم الفؤاد والغشي كافّة وخاصّة إن جعلوا هذا القول كلّه كما قد جعلوه على هذا المثال: «الذي عرض في القلب لكسانرخس أن يستنشق الحارّ دفعة أو معاً وأن يسخن مكان الاستفراغ». فقد قلت إنّه ليس بين النسخ في هذا كبير اختلاف.
فأمّا إن كتب هذا القول على هذا المثال: «الذي عرض نحو القلب لكسانرخس أن يستنشق الحارّ دفعة إلى القرحة وأن يسخن مكان الاستفراغ» كان تأويل من تأوّل أنّ هذا القول إنّما قيل فيمن به قرحة في رئته فإنّه أصدق وذلك أنّه ليس يمكن أن يفهم عنه شيء غير هذا متى كان في هذا القول ملحقاً «إلى القرحة». وممّا يوافق لهذا أيضاً قوله «نحو القلب» وقد يظهر من هذا أنّه قصد بهذا القول بالتعمّد إلى أن جعل الغموضة في طريق اللغز والرمز وهذا الطريق أيضاً لا يشبه طريق أبقراط. وذلك أنّ أبقراط لو قصد لهذا المعنى لكان الأسهل أن يقول إنّ من كانت به قرحة في رئته فينبغي له أن يستنشق الحارّ دفعة.
ومن الشنيع أن يقول قائل «نحو القلب» وهو يريد الرئة وكذلك إن قال قائل «في القلب» أو «حول القلب» وهو يريد الرئة. إلّا أنّه وإن كان الأمر كذلك فقد توهّم أنّه على حال عدد ليس باليسير من المفسّرين 〈قالوا〉 إنّ هذا القول يكتب على هذا المثال: «الذي عرض نحو القلب لكسانرخس أن يستنشق الحارّ دفعة إلى القرحة». وإنّ هذا القول قول نافع وذلك أنّه يستفاد منه معرفة مداواة القروح التي تكون في الرئة وذلك من قبل الاستنشاق دفعة بالجملة وهو نافع في تنقية تلك القرحة.
وينتفع بالحارّ أيضاً في إنضاج ما يحتاج إلى إنضاجه فيها. وقد قال بعضهم إنّ القول الذي يوجد مكتوباً في كتاب أبقراط في تدبير الأمراض الحادّة: «وينبغي من ذلك أن تحصر السخونة بثوب حتّى يلقى البخار التنفّس» إنّما يدلّ على المعنى بعينه الذي قصد إليه في هذا القول فإنّ البخار في أصحاب هذه العلّة قد ينتفع به أكثر ما يمكن من الانتفاع بتكميده لموضع القرحة وإسخانه إيّاها وإنضاجه لما فيها.
وأمّا الذين يزعمون أنّ هذا القول إنّما قيل في أصحاب علّة القلب التي يعرض عنها الغشي فليس يكتبون «الذي عرض نحو القلب» ولاكن يكتبون «الذي عرض في القلب» ويقولون إنّه بالواجب صار البرد إذا غلب على ينبوع الحياة حتّى يغلب بسبب ذلك على البدن كلّه يأمر أبقراط «بأن يستنشق الحارّ دفعة».
وأمّا ما يتلو هذا من قوله «وأن يسخن مكان الاستفراغ» فقد تأوّلوه على الوجهين. وذلك أنّه قد يمكن أن يكون عنى به أنّه ينبغي مكان ما نعالج به أصحاب علّة القلب التي يعرض منها الغشي بالاستفراغ وإن كانت العلّة إنّما حدثت بسبب كثرة رطوبات باردة فإنّا لا نستفرغهم ضربة لاكن نسخّنهم ومن البيّن أنّ ذلك التسخين يكون باستعمال الدلك والأدوية المسخّنة. ويمكن أن يكون عنى هذا المعنى أنّه ينبغي أن نسخّنهم مكان ما تفرّغ منهم التفرّغ الذي يلحق البرد. وهذا الجزء من هذا القول قد تأوّله على هذا المثال أيضاً الذين يزعمون أنّ هذا القول إنّما قيل فيمن به قرحة في رئته.
وقد يلحق في آخر هذا القول في بعض النسخ «منذ أوّل الأمر». وقد يلحق ذلك 〈من〉 يريد أنّ أبقراط أشار إلى ما أشار بفعله في هذه العلّة فالأجود أن يبادر بفعله «منذ أوّل الأمر» لا بعد أن تعظم العلّة العظم الذي لا رجي معها برء صاحبها.
وأمّا ديسقوريدوس فلم يجعل قوله «منذ أوّل الأمر» آخراً للقول المتقدّم لاكنّه جعله ابتداء القول الذي يتلوه فكتب ذلك القول على هذا المثال: «منذ أوّل الأمر دليل الغضب وما أشبه ذلك». وأمّا قوم آخرون فإنّهم من بعد انقضاء القول المتقدّم افتتحوا القول الثاني على ما أنا ناسخه بعد وهو على هذا المثال:
(٣٧) قال أبقراط: ما يوجد منه دليل واحد.
قال جالينوس: إنّه ليس يوجد هذا القول في جميع النسخ مكتوباً على هذا المثال لاكنّه قد يوجد في كثير من النسخ من بعد القول المتقدّم افتتاح القول الثاني: «دليل الغضب وما أشبه ذلك». وأمّا الذين كتبوا «ما يوجد منه دليل واحد» فيتأوّلون هذا القول هذا التأويل: قالوا إنّ أبقراط يأمر أن ينظر في الشيء الذي
يجوز أن يوجد منه دليل واحد على أعراض شتّى تعرض لأقوام وهذا القول هو عندهم كأنّه تقدمة رسم وعنوان لما يتلوه.
(٣٨) قال أبقراط: دليل الغضب وما أشبهه الصوت إذا كان بالطبع فيمن ليس بغضبان على مثال الحال التي يكون عليها فيمن هو غضبان والعينان إذا كانتا بالطبع مضطربتين مثل ما تكونان إذا غضب من ليس هو كذلك وسائر الأشياء على هذا المثال ومن الأمراض أيضاً مثال ذلك أنّ الصورة إذا كانت بالطبع شبيهة بصورة صاحب السلّ فإنّ صاحبها يكون واقعاً في تلك العلّة وسائر الأمراض على هذا المثال.
قال جالينوس: قد قلنا إنّ ذكره «الدليل» قد يصله قوم بقوله «ما يوجد منه واحداً» ويجعلونه عنواناً لما يتلوه. فأمّا ما بعد ذلك من الكلام فمعناه عند الفريقين جميعاً معنى واحد بعينه أعني عند من جعل قوله «ما يوجد منه دليل واحد» عنوان لما بعده ولمن جعل افتتاح القول الذي يتلوه «دليل الغضب وما أشبه ذلك». والمعنى في هذا القول بالجملة هو المعنى الذي أنا واصفه وهو أنّ كلّ واحد من الناس إذا كان بالطبع على مثل الحال التي تظهر منه في علّة من العلل فهو مستعدّ متهيّئ للوقوع في تلك العلّة.
فكان الأمر 〈كذلك〉 في الأخلاق وأعراض النفس وذلك أنّ الإنسان إذا كان بالصورة التي يكون عليها الغضبان فهو غضوب وإن كان بالصورة التي يكون عليها
العاشق فهو عشّاق وإن كان بالصورة التي يكون عليها المرعوب فهو جبان وإن كان بالصورة التي يكون عليها المكفهرّ فهو شديد الغضب. وكذلك من كان بالصورة التي يكون عليها المهموم فإنّه يكون صاحب هموم ومن كان بالصورة التي يكون عليها السكران فهو مغرى بالنبيذ ومن كان بالصورة التي يكون عليها الجامح فهو جموح متهوّر ومن كان بالصورة التي يكون عليها المشتهي فهو شهوانيّ.
وقد وصف وضاع الكتب في الفراسة أيّ الصورة صورة كلّ واحد من هؤلاء. وقد امتحنوا أولائك أيضاً بالتجربة هذا القول الذي قاله أبقراط في هذا الموضع فحكموا به. وليس يكون الاستعداد والتهيّؤ في كلّ واحد من الناس على غير ما هو في الآخر من الاستعداد والتهيّؤ إلى حدث من أحداث النفس فقط لاكن قد يكون ذلك الاستعداد والتهيّؤ أيضاً في كلّ واحد من الناس على غير ما هو في الآخر من الاستعداد والتهيّؤ إلى حدث من أحداث البدن وعلّة من علله. وذلك أنّه من كان بالطبع على مثل الحال التي يكون عليها البدن إذا وقع في علّة السلّ فإنّ السلّ يسرع إليه ومن كان بالطبع على مثل حال المستسقي فالاستسقاء يسرع إليه ومن كان بالحال التي يكون عليها من به الوسواس السوداويّ فإنّ الوسواس السوداويّ يسرع إليه وكذلك من كان سريع الحركة بدناً شديد البطش سفيهاً نزقاً فإنّه مستعدّ متهيّئ للوقوع في اختلاط العقل الذي يكون مع الحمّى المعروف «بالسرسام الحارّ» وفي الجنون الذي يكون من غير حمّى ومن كان بليداً بطيئاً كسلان فهو
مستعدّ متهيّئ للوقوع في السرسام البارد المعروف «بالسهو». وسائر الخلق والعلل يجري أمرها على هذا القياس.
(٣٩) قال أبقراط: السعال الإعيائيّ يقرع المنكوبة وخاصّة المفاصل.
قال جالينوس: يعني «بالسعال الإعيائيّ» السعال الذي يكون معه جنس إعياء في البدن كلّه على نحو ما عنى به فيما بعده في ذكر «الحمّيات الإعيائيّة». فهو يزعم في هذا السعال أنّه «يقرع المنكوبة» ويعني «بالمنكوبة» التي قد نالتها آفة فيما تقدّم بضرب من الضروب أيّ ضروب كان ويعني بقوله «يقرع» أي يضرّ تلك الأعضاء. ومن البيّن أنّ مضرّته إنّما تكون بأن تغيض إليها الأخلاط حتّى تحدث فيها الخَراجات. وإنّما قال إنّ ذلك «السعال» إنّما «يقرع خاصّة المفاصل» لأنّ هذا قول عامّ لجميع ما يغيض من الفضول حتّى يحدث الخَراجات. وذلك أنّ من شأن تلك الفضول أن تغيض إلى المفاصل خاصّة لسعتها ولحركتها.
وقد يكتب هذا القول على نسخة أخرى بحذف فيها من «الإعيائيّ» «الألف» «واللام» على هذا المثال: «السعال إعيائيّ». وأصحاب هذه النسخة يتأوّلون هذا القول على أنّ أبقراط أراد به أنّ السعال يحدث إعياء. وهذا القول إذا أطلق على الجملة لم يصحّ لأنّه ليس يحدث الإعياء من السعال والأرق إلّا ما كان منه قويّاً شديداً متواتراً فالحكم على السعال كلّه بهذا من غير اشتراط ولا استثناء ليس يصحّ.
وأمّا الذي يرضون هذه النسخة فإنّهم يلحقون فيها قبل قوله «يقرع» «واو» زائدة حتّى تكون جملة القول على هذا المثال: «السعال إعيائيّ ويقرع المنكوبة» حتّى يكون القول في السعال قولين الأوّل منهما أنّه «إعيائيّ» أي يحدث الإعياء والثاني أنّه «يقرع المنكوبة». وهذا القول الثاني أيضاً إذا أفرد على حدته ولم يستثن فيه ما ينبغي أن يستثنى يكون باطلاً. وذلك أنّه ليس كلّ السعال «يقرع المنكوبة» لاكنّه إنّما يقرعها منه ما كان معه «إعياء» وإنّما يكون انقضاء ذلك السعال وبحرانه بشيء يغيض إلى تلك المواضع فيحدث فيها خَراجات بسبب ذلك «الإعياء». ومن البيّن أنّه إنّما يراد «بالإعياء» في هذا الموضع الإعياء الذي يحدث من تلقاء نفسه من قبل أنّ ذلك الإعياء إنّما يكون عرضاً يعرض إذا كان في البدن كثرة من الأخلاط وأخلاط رديئة.
وبعضهم يكتب هذا القول مطلقاً على هذا المثال: «السعال الإعيائيّ يقرع المنكوبة وخاصّة المفاصل» وبعضهم يلحق فيه «أيضاً» حتّى يصير على هذا المثال: «السعال الإعيائيّ يقرع المنكوبة وأيضاً خاصّة المفاصل». وقد قلت مراراً كثيرة إنّه ليس من شأني أن أميّز بين النسخ التي تستوي في المعنى ومن ذلك أيضاً أنّ بعضهم قد يفتح القول الذي يتلو هذا الافتتاح: «وأيضاً في الحمّيات الإعيائيّة» وبعضهم يحذف «أيضاً» ويكتبه «وفي الحمّيات الإعيائيّة».
(٤٠) قال أبقراط: في الحمّيات الإعيائيّة يكون السعال يابس.
قال جالينوس: أمّا المعنى في هذا القول فبيّن لاكنّ الذي يحتاج إلى أن يبحث عنه ويعلم إنّما هو السبب فيه. وقد قال فيه كلّ واحد من المفسّرين غير ما قاله فيه
الآخر إلّا أنّ جميع ما قالوه قد بلغ من بعده ممّا يقبل ويقنع به أنّي أنتحي أن أذكره. وأمّا أنا فقد عرض لي ثلاث مرار أو أربعة أن حممت من إعياء فعرض لي مع الحمّى ثورة من سعال في أوّل العلّة إلّا أنّه سعال يابس يسير. فأثبتّ ذهني فيه وتفقّدته بعناية حتّى قدرت أن أحسّ منه هل إنّما هو خشونة في الحلق والحنجرة وقصبة الرئة أو تحلّب رطوبات إليها فلم أحسّ من هذين شيئاً لاكنّي وجدت الذي عرض لي إنّما هو بسبب سوء مزاج آلات النفس بكلّيّاتها. وقد تكلّمت في هذا الصنف من السعال في مواضع أخر بلغت به آخره وقد تكلّم في هذا الصنف من السعال آل أرخيجانس أيضاً.
(٤١) قال أبقراط: السعال اليابس ينكي على المفاصل مع الحمّى إن تخلّف.
قال جالينوس: هذه هي النسخة القديمة ولمّا لم يفهمها أقوام من الحدث غيّرها. فبعضهم كتب «إن تخلّفت» وبعضهم من وصل بهذا القول ابتداء القول الذي يتلوه حتّى تكون جملة هذا القول على هذا المثال: «السعال اليابس ينكي على المفاصل إن تخلّفت الريح». وكتب قوم هذا القول ملحقاً فيه الحرف السالب وهو «لم» حتّى صار «إن لم تتخلّف الريح». وقد كانت هذه النسخة أحرى بأن يكون فيها معنى مفهوم من سائر النسخ لو لا أنّ وصل ذكر «الريح» بما يجعل القول الذي يتلو هذا القول لا معنى فيه لأنّه يصير على هذا المثال: «الخفيّة في أصحاب السلّ رديئة وفي من لا يلد وما أشبه ذلك». وسأصف بعد قليل أيّ معنى يتأوّلونه بهذا القول على الاستكراه الذين وصلوا ذكر «الريح» بآخر هذا القول الذي نحن في شرحه.
ونحن راجعون إلى القول الأوّل الذي وصفنا فنذكر ما نراه في تأويله أقرب من تأوّله ممّا يقبل ويقنع به. فقد قلت مراراً كثيرة فيما تقدّم إنّه ليس يمكن أن يؤتى في الأقاويل الغامضة المستغلقة بتفسير صحيح لا شكّ فيه. فأقول إنّهم يزعمون أنّه عنى «بالسعال 〈اليابس〉» السعال الذي لا يقذف معه صاحبه شيئاً وأنّ ذلك السعال «يتخلّف» إذا كان قد عرض مع حمّى مثل ما يعرض في أصحاب ذات الجنب وذات الرئة فإنّ السعال بأخرة إذا كان بعد أن سكنت الحمّى بالواجب يقال فيها إنّه «تخلّف».
ويدلّ هذا السعال إذا طال وأزمن على خراجات تحدث فيما بعد. وممّا يصحّح ذلك ما قاله أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «فأمّا من حدثت به الخراجات من علل ذات الرئة عند الأذنين 〈و〉في المواضع السفليّة فإنّ تلك الخراجات تتقيّح وتنفجر وتصير نواصير وأصحاب هذه العلل يتخلّصون. وينبغي أن تنظر في مثل هذه الوجوه على هذا المثال: متى كانت الحمّى الدائمة وكان الألم لم يسكن وكان نفث البزاق لم ينبعث على ما ينبغي ولا كان الغالب على ما ينحدر من البطن المرار ولا كان منطلقاً صرفاً ولا كان البول كثيراً جدّاً وفيه ثفل راسب كثير وكان سائر الدلائل كلّها يدلّ على السلامة فقد ينبغي أن تتوقّع لأصحاب هذه الحال حدوث مثل هذه الخراجات». ولمّا كان أبقراط قد قال في هذا القول «وكان نفث البزاق لم ينبعث على ما ينبغي» زعموا أنّ هذا موافق لما ذكره في هذا الموضع من أمر السعال اليابس.
وقد ألحق قوم في هذا القول الحرف السالب فكتبوا: «إن لم يتخلّف» وقالوا إنّه يعني بهذه اللفظة «إن لم يسكن السعال». والمعنى في هذا التأويل هو المعنى
في التأويل الأوّل إلّا أنّه على وجه آخر كأنّه مضادّ للوجه في ذلك التأويل الأوّل. وقد كتب بعضهم «إن تخلّفت» وجعلوا الحرف «ياء» «[و]تاء» وتأوّلوا هذا القول هذا التأويل: السعال اليابس يغيض إلى المفاصل إذا كان مع حمّى إن بقيت بقيّة من المرض يعني إذا كانت الأخلاط التي حدثت عنها ذات الجنب وذات الرئة لم تتحلّل ولم تنفشّ.
وأمّا الذين وصلوا ذكر «الريح» في آخر هذا القول فمنهم من فعل ذلك من غير أن يلحق قبل قوله «تخلّف» الحرف السالب فجعلوا هذا القول على هذا المثال: «السعال اليابس يغمّ على المفاصل إذا كان مع حمّى إن تخلّفت الريح» ومنهم من ألحق الحرف السالب فكتب «إن لم تتخلّف الريح». ولمّا كان قوله «تخلّف» يمكن أن يفهم على معنيين جميعاً فنقول مرّة إنّ هذا القول يدلّ على أنّ الريح إذا هبّت ولبثت — يعني «بالريح» سوء التنفّس — حدث عنه ذلك الخراج ونقول مرّة إنّ سوء التنفّس إن سكن لم ينفث شيئاً فينبغي أن يتوقّع لصاحب هذه الحال الخراج.
ومن البيّن أنّ البحث عن هذه الأمور كلّها فضل لأنّها كلّها أشياء قد قالها أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة. لاكنّ الأمر كما قلت مراراً كثيرة أنّ السوفسطائيّين إنّما ينصبون للغلمان تأويلات الكتب الغامضة وأنّ فيها معانٍ عجيبة بديعة لما يتناولونه منها عليها الأجرة. وأمّا الغلمان فإنّهم يستخفّون بالأقاويل الواضحة البيّنة لأنّه تسهل معرفتها على كلّ واحد ويهشّون للأقاويل الغامضة ظنّاً منهم بأنّ فيها حكمة دقيقة بديعة.
(٤٢) قال أبقراط: الخفيّة في أصحاب السلّ رديئة وفيمن لا يلد وفي سائر ما أشبه ذلك من هذه الحال بعينها.
قال جالينوس: قد قلت إنّ على هذه القسمة يقسم هذا القول القوم الذين ألحقوا ذكر «الريح» في آخر القول المتقدّم وهم [لا] يجعلون كما قلت هذا القول الثاني الذي وصفناه الآن لشرحه لا معنى له إلّا أنّهم يتأوّلونه على حال هذه الجهة: يزعمون أنّ هذا القول هو ذلك القول بعينه في المعنى الذي قاله أبقراط في الجملة حين قال: «إنّ العلل الرديئة إذا سكنت عن غير إنذار فإنّها تنزل بأصحابها الموت». وذلك أنّ الشيء الذي قاله في ذلك القول بالجملة هو الشيء الذي قاله في هذا القول في أصحاب السلّ خاصّة «وفيمن كان لا يلد» ولم يشرح لنا هؤلاء ما الذي يعني بقوله «من لا يلد».
وقد يظهر أنّ كلّ واحد من هذين القولين يحتاج فيه إلى ذكر «الريح» فإذا كان الأمر كذلك فقد يمكن أن يتوهّم أنّ أبقراط قد كان ذكر «الريح» فيما أثبته من تذكّر لنفسه مرّتين مرّة في آخر القول الأوّل ومرّة أوّل القول الثاني ويكون الناسخ لتلك الذكور لم يفهم الكلام وظنّ أنّ ذلك التكرير إنّما هو غلط وسهو فأسقط أحد ذكر «الريح». وأمّا نحن فليس يمنعنا مانع من أن نلحق ذكر «الريح» في آخر القول الذي تقدّم وفي أوّل هذا القول الذي نحن في شرحه حتّى تصير جملة هذا القول على هذا المثال: «الريح. الريح الخفيّة في أصحاب السلّ رديئة وفيمن لا يلد».
وقد فهم قوم عن أبقراط من قوله «الريح الخفيّة» أنّه عنى به النبض وزعموا أنّه يعني بذلك من النبض النبض الضعيف الخفيّ الذي لا يحسّ إلّا بكدّ لقلّة ما تبيّن من حركته. وفهم قوم معنى أجود من هذا وهو التنفّس وذلك أنّا قد نجد يوقع اسم
«الريح» على التنفّس في كتاب تقدمة المعرفة وفي مواضع كثيرة من كتاب إفيذيميا. فيزعمون أنّه سمّى التنفّس الذي هو من الصغر بحال لا يتبيّن معها أصلاً أنّ الإنسان يتنفّس أو أن يتبيّن أنّه يتنفّس تنفّساً يسيراً حتّى تعسر رؤيته «ريحاً خفيّة» وأنّ هذا التنفّس «رديء في أصحاب السلّ وفيمن لا يلد» من النساء وذلك بالواجب. ويعني بقوله «من لا يلد» إمّا الأرامل والمعنّسات أو الذين لا يحبلن وهنّ العواقر. فأصحاب السلّ إذا قربوا من الموت وأشفوا عليه بلغ من صغر التنفّس فيهم أن يخفى على من شاهدهم ويراهم إلّا أن يتفقّدهم المتفقّد لهم بغاية الاستقصاء ومن لا يحبل من النساء فقد يتبيّن بالعلّة التي تسمّى «خنق الرحم» وهي علّة يكاد يبطل التنفّس فيها أصلاً. وقد خاض الأطبّاء في طلب السبب في تلك العلّة وقد بحثنا عنه نحن أيضاً في قول آخر.
وأمّا قوله «وفي سائر ما أشبه ذلك من هذه الحال بعينها» فالأمر عندي أنّه أراد به هذا المعنى وهو أنّه من كان تنفّسه بهذه الحال فعلّته هي العلّة التي تصيب الأرامل والمعنّسات بعينها وتلك العلّة فيما نقول نحن هي برد قويّ يغلب على الحرارة التي في القلب. ولأن تسمّى تلك العلّة «عدم التنفّس» «وبطلان التنفّس» أجود من أن تسمّى خنقاً أو اختناقاً.
(٤٣) قال أبقراط: الخريف لأصحاب السلّ رديء والربيع أيضاً لهم رديء إذا صار ورق التين شبيهاً برجل العقعق.
قال جالينوس: قد قيل في «الخريف» في كتاب الفصول أيضاً إنّه «رديء لأصحاب السلّ». والسبب في ذلك بيّن واضح وذلك أنّه لمّا كان مزاجه مختلفاً والغالب عليه مع ذلك البرد واليبس وجب أن يضرّ «أصحاب السلّ» بأكثر ممّا يضرّ غيرهم إن كان عنى «بأصحاب السلّ» جميع من يذوب بدنه وينهك على أيّ وجه كان ذلك وإن كان عنى بذلك الذين بهم قرحة في الرئة فقط. وذلك أنّه يعمّ الفريقين جميعاً الضرر من اختلاف الهواء مع غلبة البرودة عليه لدقّة أبدانهم وسرعة قبولها للآفات إلّا أنّها يخصّ أصحاب القرحة في الرئة أو في غيرها من آلات النفس منه مضرّة أشدّ من قبل أنّ الآفة قد تنالهم أيضاً باستنشاقهم لذلك الهواء.
قال: «والربيع أيضاً قد يضرّ أصحاب السلّ» من علّة عضو من الأعضاء من قبل أنّ الربيع يحلّ الأخلاط ويذيبه فتجلب بسبب ذلك الموادّ إلى تلك الأعضاء التي فيها العلّة. ولمّا كان من الربيع كما من سائر أوقات السنة شيء متوسّط وشيء منه ابتداء وشيء منه آخر وكانت فيه مدّتان أخريان من الزمان لهما من العرض أكثر ممّا لتلك الأوقات التي ذكرناها قبل أعني المدّة التي بين أوّل الربيع وبين وسطه والمدّة التي من بعد وسطه إلى آخره دلّ أبقراط على الوقت الذي فيه خاصّة يرى
أصحاب السلّ ينالهم الضرر بقوله بهذا اللفظ: «إذا صار ورق التين شبيهاً برجل العقعق». إلّا أنّ هذه الدلالة فيها فضل تكلّف وليست أيضاً بمشاكلة لهمّة أبقراط لاكنّها أحرى بأن تكون مشاكلة لهمّة أسيودس القائل بأنّه «أوّل ما يصير مقدار ما إذا وطئه العقعق يكون أثر كفّه فيه بمقدار ما يظهر للإنسان من ورقة التينة في أقصى أغصانها: عند ذلك يكون البحر مسلوكاً». فإنّه يشبه الراعي والفلّاح أن يدلّ بأشباه هذه الدلائل على الوقت الذي ينبغي فيه عمل من الأعمال وأمّا القادر على تحديد الأوقات بالدلائل التي هي أعظم وأعمّ وأشدّ اشتمالاً على جميع الأمم فليس يليق به هذا التمثيل. وذلك أنّه قد نجد أبقراط إنّما من عادته أن يدلّ على الأوقات بالاستوائين والمنقلبين وبطلوع الكواكب المشهورة وغروبها.
وقد يوجد في بعض النسخ في وسط من هذا القول ملحقاً «يتقدّم †ڡٮٮٮررربه†» حتّى تكون جملة الكلام على هذا المثال: «الخريف لأصحاب السلّ رديء والربيع أيضاً لهم رديء إذا صار ورق التين شبيهاً برجل العقعق». وقد قبل ديسقوريدوس هذه النسخة فيمن قبلنا وأمّا قابيطن فإنّه اختار النسخة التي ليس فيها «†وٮٮرربه†».
(٤٤آ) قال أبقراط: في بارنثس ابتلى أكثرهم في الربيع وكان السبب المعين على ذلك السعال الشتويّ الذي كان وفد عليهم وفي غير أولائك العلل القديمة المزمنة وذلك أنّه حقّق الأمر في المشكوكين منهم. وبعض أصحاب العلل المزمنة لم يصبه ذلك
مثل من كانت به أوجاع الكلى وغيرهم أيضاً مثل الرجل الذي أدخلني إليه كونسقس.
قال جالينوس: إنّ أبقراط لم يسمّ العلّة التي اعتلّها أهل بارنثس باسمها فيشبه ويقرب من القبول والإقناع أن يكون إذ كان قد تقدّم منه كلام في أصحاب السلّ أنّه يزعم في هذا القول أنّ هذه العلّة «وفدت عليهم في الربيع». وما يأتي بعد أيضاً كأنّه موافق لما توهّمناه من ذلك وذلك أنّه قال: «وكان السبب المعين على ذلك السعال الشتويّ». وقوله أيضاً إنّ من كانت حاله حالاً «مشكوكة» فيما صحّ فيه حدوث هذه العلّة دليل مبين على الضرر الذي نالهم من الربيع. وأمّا من كان به ألم في عضو آخر من أعضائه فإنّه لم يحدث به السلّ وذلك أنّه قد أعلمنا مراراً كثيرة أنّ الفضول من الأخلاط إنّما تغيض إلى أضعف الأعضاء كلّها.
ثمّ إنّه في آخر هذا القول كتب مثالاً جعله تذكرة لنفسه وهو «إنسان أدخله إليه كونسقس» وهو رجل كان هذا اسمه أو لقبه فإنّه لا فرق بين هذين. في بعض النسخ ليس نجد الحرف الذي يتّصل به ذكر هذا الرجل بما تقدّم من القول وهو قوله «مثل» لاكنّا نجد في تلك النسخ ذكر هذا «الرجل الذي أدخلني إليه كونسقس».
(٤٤ب) قال أبقراط: الرجل الذي أدخلني إليه كونسقس.
قال جالينوس: قد قلنا إنّ هذا القول يكتب على ضربين وذلك أنّ منهم من يلحق في أوّله الحرف الذي يصله بما تقدّم وهو «مثل» ومنهم من يسقط «المثل» ويجعل ذكر هذا الرجل افتتاح كلام آخر ويقرؤه ويتأوّله مفرداً عمّا تقدّم في قوله. ومنهم من يقطع هذا القول هذا القطع ومنهم من يصله بما يتلوه.
والواجب أن نذكر أوّلاً من يقطع هذا القول هذا القطع ويجعل معناه محصوراً فيه منقطعاً عمّا قبله وبعده. فأقول إنّ هؤلاء يزعمون أنّ أبقراط أثبت هذا لنفسه تذكرة على طريق الإشارة من أمر هذا الرجل ولعلّه فعل ذلك لأنّه لم يصبه السلّ ولعلّه فعله لأنّه نالته أعراض كثيرة غليظة أو لم تنله. وأمّا في المقالة الرابعة من كتاب إفيذيميا فقد ذكره أبقراط كونسقس وكتب في صاحبه هذا القول: «الرجل الذي أدخلني إليه اشتدّت علّته في السابع. فلمّا كان نحو الرابع عشر أتاه بحران قليلاً قليلاً وكان حلقه هذا قذف شيئاً يسيراً مالحاً نضيجاً وقطر من منخريه شيء يسير وأصابه ثقل في رأسه واستسقاط في يديه ورجليه وانطلق بطنه وانتفع بذلك وكانت قدماه مسخنتين دائمتي السخونة وكان ينام. وأظنّ أنّه إنّما لم يعرض له ورم عند أذنه لأنّه قذف شيئاً نضيجاً». ولم يتبيّن لي هل كونسقس هذا هو الذي ذكره في هذا القول فجعل ذكره تذكرة لنفسه ولصاحبه أو هل هو غيره وغير صاحبه.
وأمّا الذين يحكمون بأنّ هذا هو ذاك بعينه والذين يحكمون أنّه غيره 〈…〉 وذلك أنّ الأمرين جميعاً غير يتبيّن وليس يبيّن أيضاً هل هذا الرجل هو ذاك الرجل بعينه إلّا أنّ علّته هذه غير تلك العلّة. وأنا مقبل من ذي قبل على من يقسم هذا القول غير هذه القسمة.
(٤٤جـ) قال أبقراط: مثل الرجل الذي أدخلني عليه كونسقس وهو مسحور من الآلام في الأضلاع وفي القصّ وفي مواضع أخر.
قال جالينوس: هذه النسخة نسخة سوّاها قوم من الحدث من المفسّرين وليس يعرفها أحد ممّن تقدّم حتّى يكون المعنى فيها في جملة هذا القول أنّ كثيراً ممّن كانت به أمراض مزمنة لم يصبه سعال مثل الذي أصابهم آلام في الكلى وغيرهم «مثل الرجل الذي أدخلني عليه كونسقس» الذي رأيته «وهو مسحور بآلام» إلّا أنّه على حال لم يسعل. ومن البيّن أنّ من كان يؤلمه صدره من غير أن يسعل فليس به في باطن صدره حيث الغشاء المستبطن للأضلاع علّة اللّهمّ إلّا أن تكون علّته تمدّد من ريح. فأمّا أورام الغشاء المستبطن للأضلاع فقد يرشح فيها شيء لا محالة إلى الفضاء الذي في باطنه ولذلك قد يسعل أصحاب أمثال هذه من العلل. وأنا مقبل الآن على ضرب آخر من القراءة والقسمة.
(٤٥) قال أبقراط: ينبغي أن تتفقّد من الأوجاع العارضة في الأضلاع ومقدّم الصدر وغير ذلك من سائر الأعضاء عظم اختلافها بحسب أوقات السنة.
قال جالينوس: أمّا في كتاب الفصول فقد كتب هذا القول بعينه بهذا اللفظ: «ينبغي أن تتفقّد من الأوجاع العارضة في الأضلاع ومقدّم الصدر وغير ذلك من
سائر الأعضاء عظم اختلافها». وقد شرحت هذا القول في المقالة السادسة من تفسيري لكتاب الفصول.
وأمّا في هذا الموضع فإنّه زاد فضلاً على ما في ذلك القول قوله «بحسب أوقات السنة» وهو يشير بذلك إلى أنّه ينبغي لنا أن ننظر في أوقات السنة أيضاً ونتفقّد هل الفرق بين الآلام التي تكون في الأعضاء فيها عظيم. وهذا النظر يكون على وجهين وذلك أنّه لا يخلو من أن يكون يعني أنّه ينبغي أن ننظر إمّا في اختلاف الأعضاء وإمّا في مقدار الألم في كلّ واحد من الأعضاء. وذلك أنّا قد نجد كلّ واحد من هذين الأمرين يتبدّل بحسب اختلاف الأوقات. أمّا اختلاف الأعضاء فكما قال أبقراط نفسه في كتاب الفصول إنّ في الربيع تكثر الذبحة والبثور المنفرجة والتعقّد وعلل المفاصل وكلّ واحد من هذه العلل يخصّ عضواً من الأعضاء ويكون معه ألم؛ ويكثر في الصيف الرمد وأوجاع الأذنين وتقرّح الفم والعفونة في الفروج؛ ويكثر في الخريف الأطحلة وتقطير البول والنسا والذبحة والقولنج المستعاد منه؛ وتكثر في الشتاء ذات الجنب وأوجاع الأضلاع والقطن والصداع.
وقد ذكر أبقراط عللاً أخر تحدث في كلّ واحد من هذه الأوقات إلّا أنّا اقتصرنا في هذا الموضع على ذكر ما معه من تلك الأمراض ألم. ونحن نريد بذلك أنّه قد يكون لهذا التأويل معنى إن قال قائل إنّ أبقراط يأمر أن ننظر «بحسب أوقات
السنة» في أعضاء البدن التي تكثر فيها الأوجاع. فإنّ الأوجاع كلّها قد تكون في جميع الأوقات كما قد قال ذلك أبقراط نفسه حين قال: «إنّ الأمراض كلّها تكون في كلّ وقت من أوقات السنة إلّا أنّ بعضها في بعض الأوقات أحرى أن يحدث ويشتدّ».
قد تبيّن من هذا أيضاً أمر التأويل الثاني وذلك أنّ «اختلاف الأوجاع بحسب اختلاف أوقات السنة» قد قال فيه أبقراط إنّه ليس يكون في نفس الأعضاء التي يعرض فيها الألم فقط لاكنّه قد يكون مع ذلك في شدّة الألم وصعوبته بالحكم الذي حكم في كتاب الفصول حين قال: «إلّا أنّ بعضها في بعض الأوقات أحرى أن يحدث ويشتدّ». وذلك أنّ الأمراض التي تكون مع ألم إذا هي اشتدّت كان ألمها أقوى فيجب من ذلك 〈أنّ〉 آلام هذه العلل التي تكثر في كلّ واحد من أوقات السنة أقوى وأشدّ في تلك الأوقات.
وهاهنا ضرب آخر من القراءة والتأويل ينظّم جميع هذه الأقاويل التي تقدّم ذكرها في معنى واحد. وقد استعمل هذا الضرب من القراءة والكتابة ديسقوريدوس وذلك أنّه كتب هذا الكلام كلّه على هذا المثال: «أهل بارنثس ابتلى أكثرهم في الربيع وكان السبب المعين على ذلك سعال شتويّ وفد عليهم وفي غير أولائك العلل القديمة المزمنة وذلك أنّه حقّق الأمر في المشكوكين منهم وبعض أصحاب العلل المزمنة لم يصبه ذلك مثل من كانت به أوجاع الكلى وغيرهم مثل الرجل الذي أدخلني إليه كونسقس †انيں† الأوجاع في الأضلاع والقصّ وغير ذلك من سائر
الأعضاء». وعلى قياس ما كتبه ديسقوريدوس من هذا يكون افتتاح القول الذي يتلو هذا القول: «ينبغي أن تتفقّد من أوقات السنة عظم اختلافها».
(٤٦) 〈قال أبقراط:〉 مثل أن تصلح حال المريض أو تسوء حاله من غير أن يكون منه تفريط ولا خطاء.
قال جالينوس: إنّ أكثر من فسّر هذا الكتاب يتوهّم أنّ في هذا الكتاب قولين وأنّ أبقراط يشير في الأوّل من هذين القولين بأن «تتفقّد من أوقات السنة» مبلغ «عظم اختلافها» وأنّها كلّها يخالف بعضها بعضاً لاكنّ بعضها يخالف بعضاً خلافاً عظيماً. وأمّا في القول الثاني فيزعمون أنّ أبقراط يعني أنّ كثيراً من المرضى بعد أن يظنّ بهم أنّهم قد صلحوا تعود حالهم فتزداد سوءاً من غير أن يجنوا جناية على أنفسهم لاكنّ ذلك يكون نحو المرض. وأمّا أنا فأزعم أنّ هذا أيضاً حقّ وجميع الأطبّاء يعرفه إلّا الشاذّ ولو لم يروا من هذا إلّا ما يرونه في أصحاب الربع المزمنة لكان فيه كفاية. وذلك أنّهم يكونون في اليومين اللذين لا يحمّون فيها بحال صلحة لا ينكرون منها شيئاً وهم وإن يريدوا في ذينك اليومين بأحمد التدبير وأجوده فإنّهم على حال يحمّون في اليوم الرابع ما دامت العلّة لم تنقض.
إلّا أنّ مقدار هذا من الطبّ مقدار خسيس يخلّ أبقراط مع علوم بيّنة في الطبّ أن يثبته تذكرة له. وأولى الأمر أن يكون أبقراط إنّما قصد لهذا المعنى الذي أنا واصفه وهو أنّ تغايير أوقات السنة تبلغ في عملها في الأبدان مبلغاً عظيماً. فإنّ هذا أمر لا يعرفه جميع الجهّال بالطبّ ولا يعرفه جميع المخالفين لرأي أبقراط. وقد جعل أبقراط من أعظم الدلائل على صحّته أنّ بعض المرضى قد تراهم بعد أن قد
صلحت حالهم إذا تغيّر عليهم الوقت يعودون إلى سوء الحال من غير أن يكونوا جنوا جناية على أنفسهم.
(٤٧) قال أبقراط: في اختلاف الدم إذا طال الأزم رديء وخاصّة إن كانت معه حمّى.
قال جالينوس: ما يذهب على أحد ولا ممّن قلّ علمه أنّ القدماء قد كانوا يستعملون اسم «الأزم» على بطلان الشهوة وأبقراط يقول إنّ بطلان الشهوة في «اختلاف الدم المتطاول» دليل «رديء» في هذه العلّة وفي سائر العلل المزمنة كلّه وذلك أنّ بطلان الشهوة في جميع العلل المزمنة دليل رديء. وذلك أنّ بطلان الشهوة إنّما يكون عن أخلاط رديئة تجتمع في المعدة وخاصّة في الموضع الذي يسمّيه بعضهم «فم المعدة» وبعضهم «رأس المعدة» وإمّا من موت القوّة الحيوانيّة من هذا العضو. وفي الأمراض المزمنة ليس يبقى من فضل الأخلاط ما يجتمع منه في فم المعدة ما يبطل الشهوة.
فيبقى أن يكون بطلان الشهوة في الأمراض المزمنة إنّما كان عن موت القوّة الحيوانيّة وهذا واجب أن يكون في جميع الأمراض المزمنة وخاصّة في اختلاف الدم المتطاول. وذلك أنّه يجتمع في هذه العلّة الأمران جميعاً أحدهما أنّه لا يبقى فضل من الرطوبات يمكن أن يجتمع في المعدة. وذلك أنّ كلّ ما كان في البدن من الرطوبات يستفرغ من المعدة لأنّ المعدة متّصلة بالأعضاء التي فيها العلّة وهي الأمعاء التي يكون اختلاف الدم عن القرحة الحادثة فيها. ومن البيّن أنّ أصحاب
اختلاف الدم المزمن [و]إن تبطل منهم الشهوة أو اعترتهم حمّى فليس حالهم بالصالحة وذلك أنّ الحمّى تحدث بهم على عظم قدر الورم التي في الأمعاء.
(٤٨) قال أبقراط: القروح التي يتقشّر ما حولها قروح خبيثة.
قال جالينوس: إنّ أشباه هذه من «القروح» تدلّ على خلط رديء حادّ أكّال كما قلت في المقالة السادسة من تفسيري لكتاب الفصول. وذلك أنّ الشعر إذا انتثر من الجلد المحيط بالقرحة وانقشرت البشرة منه بسبب ذلك الخلط الرديء فواجب أن تنسب تلك القروح إلى أنّها من القروح التي «تتقشّر» وتتساقط.
(٤٩) قال أبقراط: إذا كان بإنسان ألم في القطن متقدّم فارتفاعه إلى الجنب والبثور التي تسمّى «العفونة».
قال جالينوس: ينبغي أن يتبيّن هذا القول على ما ذكره في آخر القول الذي قاله في ذلك القول: «إنّ القروح التي ينتثر ما حولها قروح خبيثة». فينبغي أن نتوهّم في هذه الأشياء التي ذكرها في هذا القول أيضاً أنّها خبيثة. وذلك أنّ نقلة العلّة من المواضع التي هي أخسّ وأقلّ خطراً إلى المواضع التي هي أشرف وأجلّ خطراً بالواجب نتوهّم عليها أنّها خبيثة رديئة. وأمّا «البثور» فيعني بها جميع ما
يخرج في ظاهر البدن إلّا أنّ العلّة التي سمّاها «بالعفونة» هي علّة تتعفّن فيها تلك «البثور» سريعاً.
(٥٠) قال أبقراط: علل الكلى لم أر من برئ منها ممّن جاوز الخمسين سنة.
قال جالينوس: إنّ بعضهم يكتب هذا القول على هذا المثال فيريدون أنّ هذا القول إنّما قيل في «علل الكلى» وبعضهم يكتب مكان «علل الكلى» «علل السرسام» لأنّ الاسمين متقاربان في اللسان اليونانيّ. وقد يجوز أن يصحّ القولان جميعاً أمّا القول الأوّل فلأنّه داخل في معنى ذلك الفصل الذي قال فيه أبقراط: «الكهول في أكثر الأمر يمرضون أقلّ ممّا يمرض من الشباب إلّا أنّ ما يعرض لهم من الأمراض المزمنة في أكثر الأمر يموتون وهي بهم» وأمّا القول الثاني فلأنّه داخل في جملة معنى ذلك الفصل الذي قاله أبقراط: «إذا كان المرض ملائماً لطبيعة المريض وسنّه وسجيّته والوقت الحاضر من أوقات السنة فهو أقلّ خطراً من المرض إذا كان ليس بالملائم لواحدة من هذه الخصال». وذلك أنّ السرسام علّة ملائمة للطبيعة الحارّة والسنّ الحارّة وهي مضادّة للطبيعة والسنّ الباردتين.
(٥١) قال أبقراط: ما يشتدّ ويتزيّد في النوم من العلل ومن تبرد أطرافه ومن يضطرب ذهنه وسائر ما أشبه ذلك ممّا قد يكون في النوم ومن يصيبه ضدّ ذلك.
قال جالينوس: هذا القول قول ينبغي أن نتوهّم أنّه رسمه على طريق الإشارة لا على طريق اللغز. وذلك أنّ بين هذين فرقاً وذلك أنّ الذي يرسم لنفسه شيئاً على طريق الإشارة ليس يغمضه إغماضاً تامّاً ولا يجعله ممّا لا يصل إلى معرفته وأمّا الذي يكتب شيئاً على طريق الرمز أو يقوله فهو إمّا أن يغمضه وإمّا أن يغلقه أصلاً حتّى لا يفهم.
فأمّا في هذا الموضع فالأمر عندي أنّ أبقراط إنّما يقصد للمعنى الذي قصد إليه في الفصل الذي قال فيه: «إذا كان النوم في مرض من الأمراض يحدث وجعاً فذلك من علامات الموت وإذا كان النوم ينفع فليس ذلك من علامات الموت». وقد بيّنت في شرحي لهذا الفصل أنّه يعني في هذا الفصل «بالوجع» «الضرر».
وقد دلّ أبقراط في هذا القول أيّ الضرر يكون من النوم بقوله «ما يشتدّ ويتزيّد في النوم من العلل ومن تبرد أطرافه ومن يضطرب ذهنه وسائر ما أشبه ذلك». وقد ألحق قوم في هذا القول لفظة أزالوه بها عن أن يكون على التصريح وتلك اللفظة هي «رديئة» وليس تلك اللفظة بموجودة في النسخ القديمة ولا يعرفها المفسّرون. وألحقوا أيضاً مع قوله «ومن يصيبه ضدّ ذلك» ضدّ تلك اللفظة الأولى فكتبوا «فهو جيّد» وليس ذلك أيضاً بموجود في النسخ القديمة ولا يعرفون المفسّرون.
وأمّا «أضداد» ما ذكر فهو ألّا تهيج العلّة وتتزيّد في النوم لاكن يسكن ما قد كان من هيجانها وتزيّدها وأن يسخن القدمان إن كانا بردا ويستوي الذهن في وقت النوم إن كان قد اختلط قبل ذلك.
وقد ألحق قوم في آخر هذا القول مكان «ومن يصيبه أضداد ذلك» «ومن يتأذّى بأضداد ذلك» وهم يظنّون أنّهم يصلحون ذلك بهذا القول ويزيلونه عن طريق الإشارة
إلى طريق التصريح. وقد جعلوا هذا القول ما غيّروا فيه قولاً كاذباً من قبل أنّ أبقراط إنّما تقدّم من قوله «ما يشتدّ ويتزيّد في النوم من العلل ومن تبرد أطرافه ومن يضطرب ذهنه» فأضداد هذه ينبغي أن نتوهّم أنّها أشياء جيّدة محمودة لا أشياء مؤذية. لاكنّ جملة قوله إنّما هو ما أنا واصفه وهو أنّه ينبغي للطبيب أن ينظر ويتفقّد ما يهيج في النوم وما يعرض فيه ضدّ ذلك من قبل أنّ العلل التي تهيج وتتزيّد بالنوم والأمر فيها بيّن أنّه من علل الموت وأمّا العلل التي ينفع منها النوم فينبغي أن نتوهّم فيها أنّها علل سليمة.
(٥٢) قال أبقراط: أمّا متى كانت الأشياء التي تصيب المرأة في أوقاتها المحدودة ليس يكون منها شيء قبل وقته فإنّ الذي يولد يكون مولوداً تامّاً. الأشياء التي تظهر بعد تكون في الشهور التي تكون فيها الأوجاع في الأدوار.
قال جالينوس: إنّي قد شرحت هذا القول كلّه في تفسيري للمقالة الثانية من كتاب إفيذيميا في المقالة الثالثة منه وأنا تارك شرحه أصلاً في هذا الموضع فمن أراد شرحه فإنّي قد أرشدته إليه فليقرأه هناك. وذلك أنّ غايتي أن أفرغ من هذا الكتاب الذي أنا فيه إذ كان سعى فيه بغير هوائي فإن أنا آثرت أن أعيد ذكر ما شرحت به هذا القول احتجت إلى مقالة تاسعة. وأنا أريد أن أفرغ من تفسيري لهذه المقالة كلّها في مقالة أخرى فأنا تارك ذكر ما قاله في هذا القول ومبتدئ بالمقالة التي بعد هذه بالكلام الذي عنوانه «ما هو من الصُحَيفة الصغيرة».
تمّت المقالة السابعة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
شرح جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثامنة
المقالة الثامنة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١) قال أبقراط: ما هو من الصحيفة الصغيرة.
قال جالينوس: إنّ بعضهم يقرأ «الصُحَيفة» وبعضهم يقرأ «الصَحِيفة» ولا فرق فيما بين القراءتين في المعنى. وقد قلت مراراً كثيرة إنّ الألفاظ التي تختلف في الكتاب أو في القراءة وتتّفق في المعنى لست أبالي كيف كتبتها ولا كيف قرأتها. وأمّا المعنى في هذا القول الذي تقدّم فمشكوك فيه. وذلك أنّ بعضهم يصله بما تقدّم من قوله على أنّ أبقراط أثبت هذا لنفسه على طريق التذكرة كيما يلحق ما هو مكتوب في «الصحيفة الصغيرة» لما تقدّم البحث عنه وقد ظنّ قوم أنّه إنّما هو تقدمة رسم وعنوان لما يأتي بعده. وكلّ واحد من الفريقين قد توهّم شيئاً ممكناً فأمّا حقيقة الأمر فليس يقدرون أن يقفوا عليها.
(٢) قال أبقراط: ممّا ينبغي أن ينظر فيه ويبحث عنه.
قال جالينوس: هذا القول أيضاً قد وصله قوم بما تقدّم من قوله «بما هو من الصحيفة الصغيرة» وجعله بعضهم ابتداء لما يتلو هذا القول وأرادوا أن يكون معناه
على هذا الطريق وهو أنّه ينبغي للطبيب أن ينظر في كذا وكذا. وأمّا القول الأوّل ممّا يتلو ذلك فهو هذا القول:
(٣) قال أبقراط: التدبير يكون بالتملّؤ والاستفراغ من الأطعمة والأشربة وبتغيّر هذه من أيّها إلى أيّها وكيف تكون.
قال جالينوس: لا فرق في هذا القول أيضاً بين أن يكتب اسم «التدبير» [ويكتب] «التدابير تكون» وبين أن يوجد فيكتب «التدبير يكون». وذلك أنّ المعنى في اللفظين جميعاً معنى واحد بعينه والمنفعة متساوية فيهما. وذلك أنّ أبقراط إنّما يأخذ في هذا القول بأن يعلّم ما يحتاج إليه من جمل صناعة التدبير وأنّ ذلك يوجد في «التملّؤ والاستفراغ من الأطعمة والأشربة وفي تغيير هذه» بأعيانها من البعض إلى البعض ومع ذلك أيضاً في تبديلها في الكيفيّات فإنّ قوله «من أيّها إلى أيّها» دلّ به على تغاييرها في الكيفيّات.
(٤) قال أبقراط: الروائح التي تسرّ والروائح التي تؤذي والتي تملأ والتي تقع بالموافقة.
قال جالينوس: أمّا «الروائح التي تسرّ» فيعني بها الروائح التي تلذّذ وأمّا «الروائح التي تؤذي» فعنى بها الروائح الكريهة مثل الروائح التي من عادة الأطبّاء أن يقرّبوها من المنخرين في علل النساء التي يحبس فيها التنفّس ويقال لها «خنق الرحم».
وأمّا «الروائح التي تملأ» فعنى بها الروائح التي من شأنها أن تغذو مثل رائحة السويق ورائحة الخبز الحارّ ورائحة الخمر.
وقد خاضوا في البحث عن «الروائح التي تقع بالموافقة» أيّ الروائح هي وذلك أنّهم ظنّوا أنّ معنى قوله «الروائح التي تقع بالموافقة» ومعنى قوله «الروائح التي تسرّ» معنى واحد. وإذ كان قد ذكر «الروائح التي تسرّ» فلم يكن لذكر «الروائح التي تقع بالموافقة» معنى ولذلك قال قوم إنّ قوله «الروائح التي تقع بالموافقة» إنّما عنى به الروائح التي تنفع.
(٥) قال أبقراط: ما يرد على البدن وما يداخله من الأرواح ومن الأجسام.
قال جالينوس: ينبغي أن يفهم مع كلّ واحد من هذه الأقاويل ما قدّمه قبله وهو قوله «ممّا ينبغي أن ينظر فيه ويبحث عنه». وبعض «ما يرد على البدن» يرد عليه من الفم وبعضه يرد عليه من الجلد كلّه. وذلك أنّ أبقراط يرى أنّ البدن كلّه من الحيّ يتنفّس إلى داخل وإلى خارج وأخلق به أن يكون عنى بقوله «ما يرد على البدن» [و]ما يصل إليه من الفم وعنى بقوله «ما يدخله» ما يصله إلى باطنه من الجلد.
قال حنين: إنّ جالينوس ترك شرح ما ذكره أبقراط في هذا القول من «الأرواح والأجسام» لأنّ أمرهما عند اليونانيّين بيّن وليس أمرهما كذلك عند أهل العربيّة.
فرأيت أن أشرح المعنى فيهما على حسب ما يمرّ متعارف عند اليونانيّين وهو أنّهم يستعملون كثيراً اسم «الأرواح» وهم يريدون به كلّ اسم هوائيّ ويخصّون باسم «الأجسام» الأجسام الباقية الأرضيّة منها والمائيّة. فأبقراط يعني 〈في〉 هذا القول «بالأرواح» ما ورد على البدن من الفم والجلد من الهواء وما يخالطه من الرياح والبخارات ويعنى «بالأجسام» ما يرد على البدن من الفم ممّا يؤكل ويشرب وما يصل إليه من الجلد بجذب العروق الضوارب من الماء عند الاستحمام به والاستنقاع فيه ومن الدهن عند التمرّخ به ومن غير ذلك ممّا أشبهه.
(٦) قال أبقراط: وممّا يسمع ما يسرّ وما يؤذي.
قال جالينوس: إنّ كلّ واحد من هذين المسموعين قد يمكن أن يفهم على وجهين أحدهما على القرعة التي يقرع الصوت لآلات الصوت والآخر على فهم ما يؤدّيه الصوت. أمّا على القرعة فمن الصوت الحسّ الطيّبة ومن الصوت الذي يبغض وأمّا على الفهم فمن الصوت الذي يبشّر بخير أو ينذر بشرّ. وذلك أنّه قد يعرض من اللذّة والأذى الحادثين عن هذين أن ينال المريض منفعة أو مضرّة.
(٧) قال أبقراط: مذاقة اللسان أيّ الأشياء هي ومن أيّ الأشياء يستدعيها إلى الالتذاذ.
قال جالينوس: إنّ في هذا القول لفظة تدلّ عندي على أنّ هذا القول إنّما قيل فيمن قد اختلّت شهوته أو بطلت وهي قوله «يستدعيها» وهو يأمر في هذا القول بأن ننظر بأيّ الأطعمة أو بأيّ الأدوية نستدعي الشهوة ونستردّ إذا اختلّت أو بطلت. وقد قلت إنّ الشهوة تختلّ وتبطل في بعض الناس بسبب أخلاط رديئة تجتمع في آلات الشهوة وفي بعضهم لضعف القوّة الشهوانيّة. فمن كان اختلال شهوته بسبب تلك الأخلاط فينبغي أن يطعمه من الأطعمة ويسقيه من الأشربة ما يجلو تلك الأخلاط وينقّيها بالقيء أو بما من شأنها منها أن ينقصها من أسفل أو ما من شأنه أن يمازجها ويعدّلها ويكسر من شرّها حتّى يصير في كيفيّتها بحال أجود من الحال التي كانت عليها. ومن كان اختلال شهوته إنّما هو 〈بـ〉ـسبب ضعف القوّة الشهوانيّة فينبغي أن يقصد لسبب ذلك الضعف من تلك القوّة فيصلحه. ولأنّ كلّ قوّة من القوى إنّما يضعف بسبب سوء مزاج يغلب على الأعضاء التي فيها تلك القوّة فقد ينبغي أن ننظر أيّ الأصناف 〈من〉 سوء المزاج غلب على آلات الشهوة حتّى أبطلها فنداويه بأضداده.
(٨) قال أبقراط: الريح من هناك أن تكون أسخن أو أبرد أو أغلظ أو أرقّ أو أجفّ أو مملوءة رطبة أو أقلّ أو أكثر.
قال جالينوس: إنّما أضاف إلى ذكر «الريح» قوله «من هناك» وهو يريد أن يفرّق بين هذا الهواء الذي يجتذب من الفم إلى البدن وبين الهواء الذي يجتذب من ظاهر البدن كلّه. وهذا الهواء إذا كان «أسخن» أو كان «أبرد» فإنّ الأمر فيه بيّن وأمّا الهواء الذي هو «أغلظ أو أرقّ» فليس الأمر فيه بالبيّن. وأمّا أنا فإنّي أرى من الصواب أن يقال في الهواء الذي طبيعته مضادّة لطبيعة الهواء الشماليّ الخالص اليبس إنّه هو «أغلظ» وفي الهواء الشماليّ الخالص اليبس إنّه هو «أرقّ». وقد يسمع العوامّ كثيراً يقولون إنّ هذه الزابية هواءها هو رقيق وكذلك يقولون في الهواء الذي في البيوت المملوءة من التكرّج وفي هواء المغارات والأسراب والآجام ونقائع الماء إنّه هو «أغلظ» وقد نجد مواضع كثيرة منها فيها نقائع ماء ومنها غائرة من غير أن يكون فيها ماء قائم هواؤها هو أشدّ حتّى لا نقدر أن نرى في هوائها الكواكب الصغار.
وبين الهواء «الغليظ» وبين الهواء «الرطب» من الفرق أنّ الهواء الغليظ هو في جملته فجّ غير نضيج وأجزاءها متساوية وذلك يحدث فيه إمّا من أنّه لا يتحرّك وإمّا
من أنّ عفونته تشوبه وإمّا من بخار أرضيّ يخالطه. وأمّا الهواء الرطب فهو في طبيعته يابس وإنّما يصير رطباً بمخالطة جوهر أرطب منه له وبحيرة فيه حتّى يكون غير متشابه الأجزاء على أنّ الهواء الغليظ متشابه الأجزاء. ولذلك لم يقل أبقراط فيه إنّه «رطب» مطلقاً كما قال في اليابس لاكن قال فيه إنّه «مملوء رطوبة». وقد كتب قوم مكان «أو يابس أو مملوء رطوبة» «أو يابس أو أرطب أو مملوء» والذين كتبوا ذلك قد بقي عليهم «المملوء» ولا يجدون له تأويلاً.
وأمّا ما قاله في آخر قوله هذا وهو قوله «أو أقلّ أو أكثر» فدلّ على اختلاف هذا التنفّس في الكمّيّة وليس يوجد هذا في جميع النسخ. فإن كان أبقراط إنّما عنى «بالهواء» في هذا الموضع الهواء الذي يستنشق فإنّ هذا القول يكون من باب المداواة في الطبّ وإن كان إنّما عنى به الهواء الذي يخرج في التنفّس فإنّ هذا القول يكون من باب التعرّف وتقدمة المعرفة في الطبّ.
(٩) قال أبقراط: التي تكون منها التغايير أيّ الحالات حالاتها ومن أيّ الحالات كانت وكيف كانت.
قال جالينوس: من يقول إنّه ينبغي أن يبحث ويعلم أمر «التغايير» من الأرياح فإنّ كلامه إنّما كان بتنقّل إليها «ومن أيّ» أرياح «كانت» نقلتها إليها «وكيف كانت» تلك النقلة هل كانت دفعة أو إنّما انتقلت قليلاً قليلاً من هواء هو بحال
من الأحوال إلى هواء آخر حاله حال ضدّ ذلك الهواء. فهكذا [و]يجري القول على الهواء الذي يستنشق وعلى هذا القياس يجري أيضاً أمر الهواء الذي يخرج بالتنفّس إن كان إنّما عناه فقد ينبغي في ذلك الهواء أيضاً أن تنظر وتتدبّر من تغاييره من أيّ الحالات تكون.
وقد تأوّل هذا القول قوم من المفسّرين على أنّه ليس متّصلاً بما تقدّم قبله ولا بما قيل بعده كما قد تأوّله قوم آخرون لاكنّهم تأوّلوه مفرداً على حدته على أنّه قد يجوز أن يكون قولاً كلّيّاً يشتمل على جميع الأشياء وذلك أنّه قد قيل ذلك فيما تقدّم وسيقال أيضاً فيما يأتي بعده.
(١٠) قال أبقراط: الحاصرة والنافذة فيها والمحصورة.
قال جالينوس: قد يتأوّل هذا القول أيضاً كلّ واحد من المفسّرين على خلاف ما يتأوّله الآخر. إلّا أنّ أحمدهم تأويلاً عندي من قال إنّه يعني «بالحاصرة» الأجسام الثابتة الأصليّة ويعني «بالنافذة فيها» أو «النافذة» على الإطلاق — فقد تكتب هذه اللفظة على هذين الوجهين — الأرواح ويعني «بالمحصورات» الرطوبات التي تحتوي عليها تلك الأجسام. فأبقراط يأمر أن يبحث عن هذه الثلاثة الأشياء التي منها تركيب بدن الحيّ ما طبيعة كلّ واحد منه وما قوّته.
(١١) قال أبقراط: النطق السكوت ألّا يعوّق المريض عمّا يريده.
قال جالينوس: إنّ من بعد العنوان الذي قال فيه «ما هو من الصحيفة الصغيرة ممّا ينبغي أن ينظر فيه ويبحث عنه» جميع ما كتبه بعده من هذا القول وما قبله فإنّما هو تعديد أمور يقدر الإنسان أن يتعرّف بها أمر المريض ويستفيد منها سابق علم بما يحدث له بعد.
«والنطق» ضربان منه ما يكون بالصوت وهذا مشارك اللفظ والكلام ومنه ما يكون بالرؤية والفكر. والنطق الذي هو بالصوت [و]هو شبيه بالسفير لهذا النطق الذي في الرؤية والمعبّر عنه. فإذا قلنا في إنسان من الناس إنّه كان منه فعل من الأفعال على ما يليق بالناطق أو على ما لا يليق به فإنّما نعني «بالنطق» في قولنا ذلك النطق الذي يكون بالرؤية والفكر وإذا قلنا في إنسان من الناس إنّه «حسن النطق» أو «سمجه» أو «وجيزه» أو «طويله» أو «نطق فأطال» أو «نطق فأوجز» فإنّما نعني «بالنطق» في قولنا ذلك النطق الذي يكون بالصوت.
وأمّا في هذا الموضع فينبغي أن نتوهّم على أبقراط أنّه أراد بذكره «النطق» 〈النطق〉 الذي يكون بالصوت 〈الذي〉 يدلّ على النطق الذي في الرؤية. فإنّا بمقايستنا بين النطقين من عادتنا أن نقول في الإنسان إذا لم يحسن فيما يتكلّم به أنّه تكلّم بما ليس هو من النطق ولا من الرؤية في شيء. وذلك أنّ أبقراط يريد منّا أن نفهم من الكلام الذي يتكلّم به المريض حاله في ذهنه. وذلك أنّه ربّما ابتدأ بالمريض اختلاط ذهن ثمّ تزيّد قليلاً قليلاً فيظهر لمن تفقّدهم بذهنه أنّه قد حدثت آفة في رؤية المريض وذهنه وخاصّة متى كنّا قد علمنا كيف كانت حال المريض لمّا كان باقياً على طبيعته. فإنّ من الناس من هو في جميع الأحوال عديم الرؤية حتّى إن نالت 〈آفة〉 فننسبه إلى أنّه عديم الرؤية كان بالكلام على تعرّف
الأحوال الحاضرة من أحوال المريض ولا على سابق العلم بالأحوال الجارية في ما بعد إن تكلّم بشيء غير مفهوم. وأمّا ذو الألباب الذين لا يتكلّمون بما لا يفهم فإنّهم إذا تكلّموا بما لا معنى له استدللنا بذلك على أنّه قد ابتدأت بهم علّة اختلاط الذهن.
وكذلك «السكوت» أمّا فيمن هو في طبيعته سكوت سوداويّ فليس يستدلّ به على كبير علّة في الذهن فإن كان الإنسان في طبيعته فرفاراً كثير الهذيان أو ما كان بالجملة كثير الكلام فلزم السكوت والصمت فإنّ ذلك يدلّ منه إمّا على علّة سوداويّة قد حدثت به وإمّا على علّة قد أحدثت له كسلاً وسباتاً مثل العلّة التي تسمّى «السهر» وما أشبهها.
وقد يكون من الخطاء والزلل في الرؤية صنف آخر يستدلّ عليه من الكلام وهو قريب من تلك الأصناف التي تقدّم ذكرها وهو أن يبتدئ المريض يقتصّ شيئاً من حاله فلا يقدر أن يقتصّه كلّه حتّى يعتاص عليه ذلك أصلاً فيسكت ويقطع الكلام في وسطه من الاقتصاص أو يفتر عن المعنى الذي يريده ويتلجلج لأنّه يعسر عليه وجود أسماء وكلم يدلّ به على المعنى الذي يقصد إليه.
(١٢) قال أبقراط: في نطقه ممّا ينطق به إن كان عظيماً أو كثيراً أو كان شديداً أو كان متخرّصاً.
قال جالينوس: قد انتقل في هذا القول إلى النطق الآخر الذي يكون بالصوت وهو الكلام الذي يتكلّم به المريض إمّا بيسير الصوت وإمّا «بعظيم» منه وبذكر
أبقراط «للعظيم» قد دلّ على اليسير. ولعلّه أن يكون غلط سقط منذ أوّل الأمر على الناسخ الأوّل كما قد بيّنّا ذلك في أقاويل أخر كثيرة. وهذا «النطق» الذي يكون بالصوت قد يكون «كثيراً» ويكون قليلاً ويكون «شديداً» يعني صادقاً ويكون على ضدّ ذلك متخرّعاً «متخرّصاً» كاذباً. فإنّ من المرضى من يكذب في أشياء من اقتصاص ما يقتصّه ممّا فعلوه أو ممّا عرض لهم وينبغي للطبيب أن يتفقّد أوّلاً ما يتكلّمون به هل يوافق بعضه بعضاً أو يناقض بعضه بعضاً ثمّ يقيس بعد ذلك بين ما يقولونه وبين ما يظهر عياناً في البدن. فإنّ كثيراً ما يختلف بينهما فيفتضح ويتبيّن كذبه ويسلم الطبيب من الاختداع والاعترار.
(١٣) قال أبقراط: وما يذهب.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يأمر أن ننظر أيضاً «فيما يذهب» أي ما يخرج وما يتفرّغ بعضه بالقيء وبعضه بالسعال وبعضه بالتنخّع وبعضه بالبزاق وبعضه من المنخرين وبعضه من المقعدة وبعضه من الفروج وبعضه من البدن كلّه. وقد ذكر ذلك فيما بعد أبقراط نفسه باسمه فجعله كأنّه أمثال لتبيّن قوله هذا.
(١٤) قال أبقراط: العرق من أين ابتدأ وأين انقطع وفي أيّها تسبّب.
قال جالينوس: أمّا قوله «من أين ابتدأ وأين انقطع» فبيّن وذلك أنّ «العرق» قد يبتدئ من مواضع مختلفة من البدن وكثيراً ما لا يكون انقطاعه دفعة في جميع المواضع من البدن. وأمّا قوله «وفي أيّها تسبّب» فقد يمكن أن يفهم عنه في أيّ موضع من البدن تسبّب العرق ويمكن أن يفهم منه في أيّ الأوقات من الزمان تسبّب: أمّا في أيّ المواضع من البدن تسبّب فلأنّ أعضاء البدن ليس يعرق كلّها بالسواء لاكنّ بعضها يعرق أكثر وبعضها يعرق أقلّ وبعضها لا يعرق أصلاً فأمّا في الأوقات من الزمان فلأنّ العرق قد ينقطع من قبل أن يستتمّ فيسكن ثمّ إنّه من بعد يظهر وهذا أمر عامّ يستعمل على سائر ما يستفرغ من البدن على أيّ وجه كان من الاستفراغ.
وأمّا ما ألحقه في آخر هذا القول حيث قال: «وفي أيّها تسبّب» فقد يكتب على نسخة أخرى تكتب على هذا المثال: «وفي أيّها كان متسبّباً». وهذا القول أشدّ اتّساقاً على العرق من الأوّل وأمّا المعنى في النسختين جميعاً فمعنى واحد بعينه. فقد ينبغي لكم أن تكونوا ذاكرين لأمر قد قلته لكم مراراً كثيرة في أشباه هذه من الأقاويل وهو أنّا ليس نستفيد منها شيئاً. وذلك أنّا قد فهمنا عنه في كتابه في تقدمة المعرفة جميع ما يحتاج إلى معرفته من أمر العرق وكذلك من أمر البول ومن أمر البزاق وفيما يقذف بالبزاق وبالجملة من أمر جميع الأشياء التي يكون فيها سابق العلم. وأمّا هذا التعديد الذي عدّده في هذا الموضع إنّما يذكر إذكاراً فقط بالأشياء التي ينبغي أن يعلمها من أراد تعرّف حال المرض حقّ معرفتها وذلك هو الأمر الذي تكون منه تقدمة المعرفة بما هو كائن.
(١٥) قال أبقراط: والألوان فيه والحرارة والملوحة والحلاوة والغلظ.
قال جالينوس: أمّا بعضهم فيكتب «الألوان في هذا» وأمّا بعضهم فيكتب ذكر «الألوان» مطلقاً من غير أن يضيف إليه شيئاً لاكنّه يلحق في ذكره «الحرارة والملوحة». ومنهم من عزل ذكر «اللون» على حدته وكتبه وقرأه مفرداً وبعضهم كتبه فجعل مكان «اللون» «ألواناً» ثمّ إنّهم من بعد ابتدؤوا ابتداء آخر على هذا المثال: «في هذه الحرارة والملوحة والحلاوة والغلظ». وكتبوا هذا وقرؤوه مفرداً عمّا تقدّم قبله وأرادوا أن يكون المعنى في هذا القول هذا المعنى الذي أنا واصفه وهو أنّهم زعموا أنّه ينبغي أن ينظر مع ما ينظر إليه في ألوان المريض أو في لونه — فإنّه لا فرق فيما بين هذين في المعنى — وينبغي أيضاً مع ذلك أن ينظر في حرارة العرق وفي ملوحته وفي حلاوته.
وقد كان كلامه المتقدّم إنّما كان في العرق في القول الذي قبل هذا فلهذا بعينه أرى أنّه يقرب بما يقبل ويقنع به أن يقال إنّ أبقراط إنّما يأمر بالنظر في «لون» العرق كما ينظر في لون البول. وذلك أنّه ليس ممّا يقرب بما يقنع به أن يقال إنّه أدخل ذكر لون البدن كلّه في وسط من القول في العرق. فإنّا إذا أجرينا هذا القول هذا المجرى صار على هذا المثال: «العرق من أين ابتدأ وأين انقطع وفي أيّ المواضع من البدن أو في أيّ الأوقات تسبّب ولونه وحرارته وملوحته وحلاوته وغلظه ممّا ينبغي أن ينظر فيه ويبحث عنه» حتّى يكون أبقراط يأمر في هذا القول بالنظر في جميع هذه الوجوه من أمر العرق. ويقولون إنّه ليس يصعب النظر إلى لون العرق وإذا كنّا قد نصل إلى أن نلتقي العرق الذي يسيل من الجبهة بصدفة الميل أو غيرها ممّا أشبهها بعد أن نضعه تحت الجبهة فنناول العرق من هناك بسهولة كما قد نأخذه في الأصحّاء إذا دخلوا الحمّام بالإناء المتّخذ له على مثال الطرجهارة.
وأمّا طعم العرق فقد يمكن أن نعرف لا بعد أن نجمع فقط لاكن بأنّه كثيراً قد دخل إلى فم المريض منه بشيء ممّا ينحدر من فوق فيحسّ طعمه.
(١٦) قال أبقراط: على استواء أو على غير استواء.
قال جالينوس: قد يظنّ أنّ هذا شيء قد قاله فيما تقدّم عند ذكره «العرق المتسبّب». وذلك أنّا إن فهمنا عنه من قوله «المتسبّب» العرق الذي يكون اختلافه في أعضاء البدن وإن فهمنا عنه العرق الذي يكون اختلافه في اتّصال مدّة الزمان فذلك بعينه يظنّ أنّه يفهم من قوله «على غير استواء». فخليق أن يكون في ذلك القول إنّما أمر بالنظر في الاختلاف من نفس جوهر العرق مجرّداً وحده ويكون هذا القول إنّما قصد للكيفيّات التي ذكر أنّها توجد فيه من «الحرارة والملوحة والحلاوة والغلظ». وذلك أنّ كلّ واحدة من هذه الكيفيّات قد يمكن أن تكون «على استواء» في العرق أعني في مدّة الزمان كلّها وقد يمكن أن تكون «على غير استواء» وربّما لم تكن أصلاً.
وقد يخصّ الذي يكون للعرق ذكره «على غير استواء» في المعنى ذكر الكيفيّات التي هي مضادّة لتلك الكيفيّات التي ذكرها. وذلك أنّ العرق الحارّ إن لم يكن حارّاً في جميع مدّة الزمان فلا بدّ من أن يكون في وقت من الأوقات بارداً وفي وقت من الأوقات حارّاً وفي وقت من الأوقات متوسّطاً بين الحارّ والبارد.
(١٧) قال أبقراط: البدن.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً واحد ممّا عدّدوه من الأمور التي يأمر بالنظر فيها وكان ذكره فضل وذلك أنّ جميع ما ذكره وجميع ما يستأنف ذكره إنّما هي أعراض من أعراض البدن وليس يقصد بالنظر إلى «البدن» من غير هذه الأعراض التي تلزمه. وذلك أنّ نظرنا فيه إنّما يكون ممّا نراه أو ممّا نلمسه أو ممّا نشمّه أو ممّا نذوقه وهذه الأشياء كلّها إنّما هي أعراض لازمة للبدن. ولذلك وصل قوم ذكر
«البدن» بما ذكر قبله على هذا المثال: «البدن يكون على استواء وعلى غير استواء» وأراد بهذه القراءة هذا المعنى: إنّك قد تجد البدن من المريض إمّا بحال مستوية وإمّا بحال مختلفة فتصل بذلك إلى أن تعرف الحاضر من أموره وإلى سابق العلم بما سيكون بعد من أموره.
(١٨) قال أبقراط: الزمان.
قال جالينوس: يقول: انظروا إلى «الزمان» أيضاً الذي تحدث فيه هذه الأشياء أيّ زمان هو من أزمان المرض أعني في أيّ وقت تكون من أوقاته في ابتداء المرض أو في تزيّده أو في تناهيه أو فيما بين ذلك. ويمكن أن يكون أيضاً قصد بقوله «الزمان» ليأمر بالنظر فيه في جميع ما تقدّم ذكره كما أشار بأن ينظر هل يكون «على استواء أو على اختلاف» وكذلك يأمر بالنظر في الزمان الذي يكون فيه كلّ واحد من تلك الأشياء هل هو طويل أو قصير أو معتدل. وذلك أنّ الأشياء التي تكون «على استواء» قد تختلف الدلالة فيها بقدر اختلاف مقدار مدّة الزمان وأحرى أن يكون في تلك الأشياء التي تكون «على غير استواء». وذلك أنّه إن عرض في المثل أن يكون العرق مرّة بارداً ومرّة حارّاً ومرّة متوسّطاً فقد ينبغي لك أن تنظر كم مقدار مدّة كلّ واحد من الثلاثة. وذلك أنّ بين أن يكون لبث العرق المتوسّط مدّة من الزمان أطول ويكون لبث كلّ واحد من الصنفين الآخرين الخارجين على المجرى الطبيعيّ مدّة من الزمان أقصر وبين أن يكون الأمر على ضدّ ذلك حتّى يكون العرق الخارج عن المجرى الطبيعيّ مدّة من الزمان أطول والصنفان الآخران في مدّة من الزمان أقصر فرقاً ليس باليسير.
(١٩آ) قال أبقراط: النقل بأيّ الأشياء ومن أيّ الأشياء وكيف يكون ولم تمنع ولم تغلب.
قال جالينوس: أمّا القدماء من المفسّرين ومنهم غلوكس وزكسس فعلى هذا يكتبون هذا القول: «نقل الأزمان التي بسببها من أيّ أحوالها لم تغلب ولم تمنع». ويتأوّلون هذا القول هذا التأويل وقد رأيت أنّ الأجود أن أنسخ لك قول زوكسس بألفاظه وهو هذا: «إنّ أبقراط يوصيك في ما ذكر غلوكيس في هذا القول أن تبحث عن ‹النقل› في الأمراض المزمنة الطويلة وإنّما أراد بذكره ‹الأزمان› بأنّه ربّما كانت النقلة فلم تغلب الطبيعة المرض وهذا هو معناه في قوله ‹لم تمنع› وعلى هذا المعنى بعينه يقع قوله ‹لم تغلب›. وقد ينبغي أن يفهم مرغماً في هذا أنّه ربّما غلب وقد يوجد في بعض النسخ مكان ‹لم تمنع› ‹منعت›. فإن صحّت هذه النسخة فالمعنى فيها قائم بيّن مفهوم ممّا فيها لا يحتاج معه إلى غيره. وذلك أنّ المرض ربّما غلب ومنع من اللبث والبقاء أو من التزيّد وربّما لم يغلب عند النقل. وقد يمكن أن يفهم من هذه اللفظة على الحقيقة فيجعل المعنى في هذا القول هذا المعنى الذي أنا واصفه وهو أنّ النقل من الأزمان التي تلزم من الأمراض أعني من الأزمان التي تكون فيها النقلة من مرض إلى مرض ليس يكون بها في جميع المرضى انقضاء عللهم وذلك يكون متى لم تغلب طبائعهم الأسباب المولّدة للمرض». فهذا قول زوكسس.
وأمّا المفسّرون الذي أتوا بعده فيكتبون هذا القول على خلاف ما كتبه زوكسس وليس يكتبه جميعهم على نسخة واحدة ويتأوّلونه أيضاً على تأويلات مختلفة.
لاكنّي كما فعلت في جميع الأقاويل التي تقدّمت من أنّي لم أذكر جميع النسخ ولا جميع التأويلات لاكنّي اقتصرت على ذكر المشهورين أو من أتى بتأويل يقرب بما يقبل ويقنع به كذلك أفعل في هذا القول وفي سائر الأقاويل الباقية لمبادرتي إلى الفراغ من هذا الباب والإقبال على شيء ممّا 〈…〉 قلته علم بيّن واضح.
فأقول إنّه يظهر من هذا القول أنّ أبقراط يشير فيه بالنظر في الوجوه التي بها يكون «النقل» في الأمراض حتّى يفهم عنه من قوله «النقل بأيّ الأشياء» أو بأيّ الوجوه. وأمّا قوله «من أيّ الأشياء» فيدلّ على الأشياء التي كانت قبل. وذلك أنّ «النقل» يكون على وجوه مختلفة مثال ذلك أنّه قد يكون بالعرق ويكون بالاختلاف ويكون بالقيء ويكون بالبول ويكون بكلّ واحد من هذه إمّا بالكثير منه وإمّا بالقليل ويكون بالنوم ويكون بالسهر ويكون بالغذاء ومن الغذاء بأصناف مختلفة ويكون بالأزم. وليس ينبغي أن تقتصر على النظر في الوجوه التي يكون بها النقل وكيف هي في ذلك الوقت يعني كيف كان في الأمراض حتّى تنظر مع ذلك في أيّ الحالات كانت ذلك النقل وكيف حالات المريض قبل أن تحدث به النقلة وكيف صارت حالاته بعد النقلة. ولا فرق بين أن يقال «أيّ الحالات كانت» أو «هي» وبين أن يقال «كيف كانت الحالات» أو «كيف هي».
وقد يكتب هذا القول على نسخة أخرى على هذا المثال: «النقل من أيّ الأشياء يحدث» حتّى يكون المعنى في هذا القول أنّه ينبغي أن ينظر كيف الحال في نقل الأمراض وذلك يكون إذا نحن نظرنا كيف كانت الأمراض قبل أن تحدث وكيف صيّرتها بعد أن حدثت. وكان هذا القول في العرق وحده كما ظنّ قوم أو كان في جميع ما تكون به النقلة فذلك ليس ممّا يضطرّنا الأمر إلى البحث عنه.
وذلك أنّ كلّ واحد من هذين المعنيين قد ينتفع بالبحث عنه. ولهذا القول نسخ أخر تجعل معناه شبيهاً بهذا المعنى لاكنّي لست أفرغ كما قلت للمقام عليها.
(١٩ب) قال أبقراط: منعت أو لم تغلب.
قال جالينوس: هذه هي النسخة القديمة المتّفق عليها وليس يضطرّني شيء إلى ذكر غيرها. وأمّا قوله «منعت» فبعضهم يرى أنّه قاله مكان «روغت» وبعضهم يرى أنّه قاله مكان «غلبت» وتأويل الفريقين جميعاً كأنّه يؤول إلى معنى واحد. وذلك أنّهم يزعمون أنّ أبقراط يأمر في هذا القول أن ينظر من أمر العرق أو غيره ممّا يحدث في البدن هل «يمنع» المرض «ويغلب ويمنعه» من التزيّد أو يكون ضدّ ذلك حتّى يغلب المرض لذلك الشيء ويقهره.
وأمّا الذين غيّروا النسخة القديمة فبعضهم كتب مكان هذا القول قولاً على هذا المثال: «التفتيش لم يقو عليه» وبعضهم كتب مكانه على هذا المثال: «ابتدأ فلم يغلب». والقول الأوّل بأنّه «لم يقو على التفتيش» مساوي المعنى لقول القائل «إنّه لم يقو على البحث» وأمّا القول بأنّه «ابتدأ فلم يغلب» فقال فيمن ابتدأ أن يغلب فلم يغلب الغلبة التامّة. وقد يكتب مكان هذا القول «يمنع أو غلب» وقد اختار قوم هذه النسخة وزعموا أنّ أبقراط يأمر في هذا القول أن ينظر هل العرق الذي حدث أو غيره بالجملة ممّا حدث يمنع المرض ويغلبه أو قد غلبه.
(٢٠) قال أبقراط: الدموع عن إرادة أو عن غير إرادة الكثيرة والقليلة والحارّة والباردة.
قال جالينوس: إنّ «الدموع» أيضاً ممّا يخرج من البدن مثل العرق لاكن ليست تعين البدن كلّه كما يفعل العرق لاكنّها تكون دليلاً فقط على الحال الحاضرة من المرض التي منها تكون تقدمة المعرفة وقد وصف لكم أمر «الدموع» مراراً كثيرة.
(٢١) قال أبقراط: الغلظ.
قال جالينوس: أمّا أكثر المفسّرين فيزعمون أنّ هذا أيضاً إنّما قيل في الدموع حتّى ينظر في مقدار «غلظ» الدموع كما ينظر في كثرتها وقلّتها وحرارتها وبرودتها. وفي ذكر «الغلظ» ذكر «الرقّة» مدغم فإنّا نجد أبقراط كثيراً يذكر الضدّين جميعاً كما ذكر «الكثيرة والقليلة والحارّة والباردة» ونجد ربّما اقتصر على ذكر الواحد من الضدّين فإنّه إذا ذكر الواحد بيّن به الضدّ الآخر.
وقد فهم قوم من قوله في «الغلظ» القوام والقوام جنس يعمّ الرقيق والغليظ حتّى يكون الغليظ ينتظم معنيين كما ينتظم اسم «العظم» معنيين. وذلك أنّ العظم يقال على الشيء المضادّ للصغير ويقال «العظم» أيضاً وهو يراد به المعنى الذي يعمّ الضدّين جميعاً أعني الصغر والكبر. وكذلك «الغلظ» يقال على النوع المضادّ للرقّة والمعنى الجنسيّ الذي يعمّ الغلظ والرقّة. وجميع ما قيل في العرق إلى هذه الغاية فإنّهم يقولونه في جميع ما يستفرغ من البدن في تأويلهم معنى هذه اللفظة أعني قوله «الغلظ» ولم يقتصروا على ذلك في الدموع فقط.
(٢٢) قال أبقراط: الطعم.
قال جالينوس: أمّا بعض المفسّرين فيزعمون أنّ أبقراط إنّما عنى «بالطعم» في هذا الموضع طعم الدموع وحده حتّى كأنّه قال إنّه ينبغي أن ينظر أيّ طعم هو طعم الدموع. وذلك أنّه كما أنّ العرق والريق يوجد مالحاً ومرّاً وحامضاً وحلواً كذلك قد توجد الدموع بهذه الطعوم. وأمّا بعضهم فيزعم أنّ ذكره «الطعم» ذكراً مطلقاً على جميع حسّ المذاق ويريد بهذا القول أن يأمر أن ينظر من أمر هذا الحسّ هل تدرك الطعوم على حقائقها على مثال ما يدركها الأصحّاء أو قد جار عن ذلك إلى وجه من الوجوه. فإنّ كثيراً من الناس ممّن حاله حال خارجة عن المجرى الطبيعيّ يحسّ جميع الأشياء التي يذوقها مالحة وكثير منهم يخيّل إليه أنّها إلى المرارة وكثير منهم يخيّل إليه أنّها في طعم آخر منطق أو غير منطق بحسب الطعم الذي قد غلب في كلّ واحد من الأحوال في بدن المريض.
(٢٣) قال أبقراط: البزاق من الموضع نفسه أو ممّا يرتفع بالسعال.
قال جالينوس: إنّ الاختلاف بين هذه الأصناف من «البزاق» بيّن وذلك أنّها تختلف أوّلاً من المواضع التي تجيء منها لأنّا قد نعلم أنّ الشيء الذي «يرتفع بالسعال» يرتفع من آلات التنفّس وأمّا الشيء الذي ينتخع «من نفس الموضع» فإنّه إنّما يخرج من نواحي الحلق والحنك والنقبين اللذين ينفذان من الفم إلى المنخرين. [و]ثمّ من بعد تعرّف المواضع التي نفذ منها ما يقذف بالبزاق فقد
ينبغي أن تنظر في كمّيّة ما يقذف به وكيفيّته والوجه الذي يكون عليه ارتفاعه من الصدر كما بيّن في كتاب تقدمة المعرفة.
(٢٤) قال أبقراط: القيء.
قال جالينوس: إنّ «القيء» أيضاً لواحد ممّا يدخل في عداد ما عدّد وقد قيل فيه وفي غيره من جميع الأشياء التي [لا] تنتفع بمعرفتها في الاستدلال على الأمراض وتقدمة المعرفة بها في كتاب تقدمة المعرفة.
(٢٥) قال أبقراط: الشمس والحرّ والبرد والبلّة واليبس.
قال جالينوس: إنّه يعدّد في هذا الموضع العلل البادئة وجعل أوّل ما ذكر منها «الشمس» يعني ما ينال الرأس من حرّها في الصيف من أطاله اللبث فيها ثمّ ذكر بعد «الحرّ» وهو السخونة التي قد تكون من غير الشمس. وأمّا «البرد» فهو ضدّ «الحرّ» لاكنّه هو أيضاً واحد من الأسباب البادئة وكذلك الضدّان الآخران اللذان ذكرهما وهما «البلّة واليبس» فإنّ هذين أيضاً سببان من الأسباب البادئة.
(٢٦) قال أبقراط: النقلة بسبب أيّ الأشياء ومن أيّ الأشياء وأيّ الأشياء تحدث.
قال جالينوس: إنّي أقصد أوّلاً إلى هذا القول على هذه النسخة فأشرحه ثمّ أقصد من بعد إلى سائر نسخه. يقول إنّه ينبغي لك أن تنظر في «انتقال» الأمراض بأيّ الأسباب كان من الأسباب البادئة وهذا هو معناه في قوله «بسبب أيّ الأشياء». وأمّا قوله «من أيّ الأشياء» فيعني به من أيّ الحالات التي كانت للمريض قبل حدوث النقلة فحدثت النقلة وهو فيها. وأمّا قوله «وأيّ الأشياء تحدث» فيعني به أيّ الحالات تحدث للمريض بعد النقلة حتّى تكون جملة هذا
القول على هذا المثال: وقد ينبغي لك أن تنظر في نقلة المريض من حال إلى حال بأيّ الأسباب كانت من الأسباب البادئة ومن أيّ الحالات التي كان عليها بدنه قبل الانتقال انتقل إلى هذه الأحوال التي حدثت. ولا فرق 〈بين أن يقال «وأيّ الأشياء تحدث» وبين〉 أن يقال له «وأيّ الأحوال هذه الأحوال التي حدثت» ولا فرق بين أن يقال هذا المعنى بهذه العبارة أو يعبّر عنه بهذه العبارة الأخرى وهي أن يقال «إنّه ينبغي أن تنظر في نقلة المريض من أيّ مرض إلى أيّ مرض تكون ومن أيّ حال إلى أيّ حال وبأيّ سبب». وأمّا سائر النسخ والتأويلات فيها فذكرها فضل قد يكفي ما أفنيناه من العمر فيما ذكرناه منها.
(٢٧آ) قال أبقراط: الكدّ والخفض والنوم والسهر.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يعدّد في هذا الموضع جنساً آخر من العلل البادئة. وذلك أنّ «الكدّ» — ويعني «بالكدّ» الرياضة الزائدة على المقدار 〈القصد〉 — ليس يحدث الأمراض لطبيعته وكذلك «السهر» فإنّ «السهر» أيضاً ليس يحدث الأمراض بذاته كما يحدثها الحرّ والبرد والرطوبة واليبس لاكنّ «الكدّ والسهر» إنّما يحدثان الأمراض بالعرض من طريق أنّهما قد يسخنان بالعرض أو يجفّفان أو يبرّدان أو يرطّبان. وليس الذي يفعل بكلّ واحد منهما من ذلك مثل الذي يفعله الهواء الحارّ من الإسخان والهواء البارد من التبريد واليابس من التجفيف والرطب من الترطيب لأنّ الهواء الذي هو بحال من هذه الأحوال يفعل فعله بطبيعته وذاته وعلى القصد الأوّل.
وأمّا كلّ واحد من هذه الأسباب التي ذكرها في هذا الموضع فإنّما تفعل ما تفعله بطريق العرض لا بطبيعته ولا على القصد الأوّل وكلّ واحد منها ربّما أسخن
البدن وربّما برّده وربّما جفّفه وربّما رطّبه. فالرياضة تسخن في أكثر الأمور وتجفّف لأنّها تحلّل الرطوبات الفضل من البدن وربّما أحدثت الرياضة أمراضاً باردة وأمراضاً رطبة بطريق العرض. وذلك أنّ الأبدان التي قد اجتمع فيها من البلغم مقدار أزيد ممّا يحتاج إليه إمّا في العروق وإمّا في غيرها من الأعضاء التي ليست ذوات خطر فإنّ الحركات إذا كثرت تذيب ذلك الفضل المجتمع الجامد فتضطرّه إلى أن يجري حتّى لا يؤمن أن ينصبّ إلى بعض الأعضاء ذوات خطر.
وقد بيّنّا أنّ كلّ واحد من الفضول إنّما ينصبّ إلى العضو الذي هو في تلك الحال أضعف الأعضاء فإذا اتّفق في وقت ما يذوب ذلك البلغم أن يكون عضو من الأعضاء ذوات الخطر ضعيفاً بسبب من الأسباب فإنّ ذلك البلغم ينصبّ إليه ويغيض فيه ويبرّده وإذا برد عضو ذو خطر شاركه في علّته البدن كلّه واستحال ومال إلى البرد. وبهذا الطريق يجوز أن تكون الرياضة سبباً لمرض بارد.
وكذلك أيضاً قد يجوز أن تكون سبباً لمرض رطب. وذلك أنّ البلغم إذا ذاب وانحلّ في وقت الرياضة ثمّ جرى إلى الدماغ أو إلى القلب أو إلى بعض الأعضاء التي هي أقلّ خطراً من هاتين إلّا أنّها على حال ذوات خطر أحدث مرضاً رطباً في ذلك العضو الذي جرى إليه وغاض فيه وفي البدن كلّه بمشاركة ذلك العضو.
«والخفض» أيضاً في أكثر الأحوال قد يجتمع بسببه في البدن فضل بارد وقد يسخن في الندرة إذا كانت طبيعة البدن رديئة المزاج حتّى يكون ما يتحلّل منه
حارّاً دخانيّاً. فإنّه إذا كان الأمر كذلك ثمّ كانت الحركات بمقدار قصد يتحلّل بها ما يتحلّل من البدن بسهولة. فأمّا عند «الخفض» والسكون الذي ليست معه حركة أصلاً وخاصّة إذا كان الهواء المحيط بذلك البدن بارداً فإذا كان البخار الحارّ الدخانيّ الذي كان يتحلّل من البدن يحتقن فيه فيجتمع ويورث حرارة من جنس الحمّى. وقد يجفّف «الخفض» والسكون أيضاً من طريق العرض إذا هو أضعف القوى الطبيعيّة التي يكون بها نفوذ الطعام إلى الأعضاء والشهوة والاغتذاء. وذلك أنّ نقصان الغذاء في هذه الحالات يجفّف أعضاء البدن.
وكذلك «النوم والسهر» قد يحدث بطريق العرض أضداد الأشياء التي تحدث عنها كثيراً. وذلك أنّ «النوم» من شأنه أن يفعل في أكثر الأمر شبيهاً بما يفعله «الخفض» والسكون في بدن الحيّ «والسهر» من شأنه في أكثر الأمر أن يفعل شبيهاً بما تفعله الحركات كما قد بيّنّا ذلك بشرح أبلغ من هذا في مواضع أخر من أمر هذه الأشياء.
(٢٧ب) قال أبقراط: الكدّ والخفض والنوم والسهر.
قال جالينوس: أمّا أنا فقد قلت إنّ ذكره لهذه الأشياء متّصل بذكره لما تقدّم من أسبابها حتّى تكون جملة قوله على هذا المثال: «الشمس والحرّ والبرد والبلّة واليبس والكدّ والخفض والنوم والسهر». فإنّ ذكره لهذه الأشياء كلّه إنّما هو تعديد أسباب توقع البدن في المرض إلّا أنّ منها ما يفعل ذلك بذاته على القصد الأوّل وبحسب طبيعته ومنها ما يفعل ذلك بتوسّط أسباب أخر على طريق العرض.
وأمّا قوم من المفسّرين فيزعمون أنّ أبقراط إنّما ذكر هذه الأشياء في صفة أحوال المرضى وفهموا عنه من قوله «الكدّ» أنّه أراد به الألم الذي يكدّ صاحبه أو كثرة قيام المريض من فراشه الذي قد يكون كثيراً من المرضى بسبب من الأسباب أيّ سبب كان وأنّه يعني «بالخفض» الكسل عن الحركات. وزعموا أنّه ينبغي أن يتفقّد ذلك من أمر المرضى ويتفقّد أيضاً أمر «النوم» كم مقداره هل هو أكثر ممّا ينبغي أو أقلّ من المقدار الطبيعيّ أو بالمقدار المعتدل وينبغي أن يتفقّد أمر «السهر» وينظر كم مقداره على مثل ما ينظر فيه من أمر «النوم».
(٢٨) قال أبقراط: ما يكون في النوم المنامات.
قال جالينوس: أمّا قوم فألحقوا بين قوله «ما يكون في النوم» وبين قوله «المنامات» «من» ووصلوه بها وجعلوه قولاً واحداً وزعموا أنّ أبقراط يأمر فيه أن ينظر في «المنامات» التي «تكون في النوم» يعنون الأحلام التي يتخيّلها المريض في النوم هل هي أحلام مقلقة مزعجة وحشة خارجة عن المجرى الطبيعيّ أو مألوفة جارية على العادة.
وقد قال قوم إنّه لو كان قصد بذكر «المنامات» فقط لما كان بالذي يقول «ما يكون في النوم من المنامات» لاكنّه كان يكتفي بأن يقول «المنامات» فقط إذ كانت المنامات لا تكون إلّا في النوم. وقالوا إنّ قوله «المنامات» يعني به ما يتخيّله المريض في أحلامه وأمّا قوله «ما يكون في النوم» فيعني به الأعراض التي أنا واصفها وهو أن يظهر شيء من بياض العين عند انطباق الجفنتين وأن يفارق اللحي الأسفل اللحي الأعلى فضل مفارقة حتّى يكون المريض كأنّه فاغر فاه قليلاً
وأن يكون ملقى في بطنه ولم تكن تلك عادته أو يكون بشكل آخر من أشكال المضجع خارج عن الحدّ الطبيعيّ. ويدخل في عداد هذه الأشياء تصريف أسنان المريض وامتصاصه وصياحه وعسر التنفّس عليه وبرد قدميه وكفّيه وترقّي البرد من القدمين والكفّين إلى ما هو أعلى منهما من المواضع وأن يحول لون وجه المريض في وقت نومه إلى لون أردأ ممّا كان.
(٢٩آ) قال أبقراط: المراقد.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يأمر أن ينظر في «مراقد» المرضى أيّ المراقد هي هل يرقدون في الليّن منها أو في الجافي الخشن وفي النقيّ منها أو في الوسخ وفي الحارّ منها أو في البارد ويتفقّد ذلك كلّه من الفرش وممّا يتدثّر به. وقد فهم قوم من قوله «المراقد» أنّه يعني به الهواء الذي في البيت الذي يرقد فيه المريض كأنّه قال: «إنّه ينبغي أن ينظر في مرقد المريض في أيّ هواء يكون».
وقد قال قوم إنّه عنى «بالمراقد» مضجع المريض على جنبه واستلقاءه على قفاه واتّكاءه على بطنه. وليس من عادة أبقراط أن يسمّي هذا «مرقداً» لاكنّه إنّما يسمّيه «مضجعاً» وإنّما استعمل اسم «المرقد» على الفراش واللحف وسائر ما يتدثّر به وعلى هذا المعنى ذكر في كتاب الأخلاط «المرقد» حين قال: «المرقد في الصوف الوسخ».
(٢٩ب) قال أبقراط: وفي أيّ الحالات ومن أيّ الحالات.
قال جالينوس: ينبغي أن تتوهّم أنّ هذا قول أردف به جميع ما تقدّم ذكره حتّى يكون هذا القول على هذا المثال: «ينبغي أن تنظر في أيّ الحالات تجد المريض 〈و〉من أيّ الحالات آل أمره إلى هذه الحالات التي هو بها».
(٢٩جـ) قال أبقراط: المراقد في أيّ المواضع وبأيّ الأشياء.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد وصلوا ذكر «المراقد» بما بعده وحرّفوا ذلك تحريفاً صار به معناه هذا المعنى الذي وصفته قبيل وزعموا أنّ أبقراط يأمر فيه بالنظر في «مراقد» المرضى في أيّ البيوت تكون وبأيّ الدثار يدثّرون. ومنهم قوم آخرون يقسمون هذا القول على القسمة التي تقدّمت.
(٣٠) قال أبقراط: وتوهّم الفكر فيما بينه وبين نفسه من غير الآلات والأشياء التي يوجد بها حتّى يتأذّى أو يلتذّ أو يخاف أو يجترئ أو يرجو أو يسيء الظنّ.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يدلّ في هذا القول أنّه قد يعرض للنفس من غير أن يحرّكها محرّك بالآلات الحسّاسة من شيء من المحسوسات من خارج أن تصير من ذاتها إلى حال سرور وإلى حال غمّ وإلى حال فزع وإلى غير ذلك من أحداث النفس وأحداث النفس هي أن «يتأذّى أو يلتذّ» أو لا يرجو أو ييأس. فإنّ ديسقوريدوس كتب مكان «يسيء الظنّ» «ييأس» وذلك ضدّ أن «يرجو» حتّى يكون معنى قوله «ييأس» مساوياً لمعنى قوله «لا يرجو». وأمّا أكثرهم فكتب «أو يسيء الظنّ» وزعم بعضهم أنّه يعني بقوله «يسيء الظنّ» أي يسيء الظنّ بأكثر الناس وزعم بعضهم أنّه أراد بذلك أن يسيء أكثر الناس بذلك الإنسان الظنّ.
(٣١آ) قال أبقراط: مثل أمر حافظة بيت إبوثاس فإنّه كان من فكرها فيما بينه وبين نفسه سنة.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قول غامض مستغلق يجري مجرى اللغز ولذلك كان ما قاله المفسّرون في تأويله إلى الهذيان أقرب. وممّا يدلّك على ذلك أنّ أقربهم قولاً بما يقبل ويقنع به قال إنّ حافظة بيت إبوثاس اختلط عليها ذهنها فبقيت بذلك سنة بأسرها. ومن كان من المفسّرين أقدم فهو يعرف ذكر «السنة» ملحقاً في هذا القول وأمّا من أتى بعده من المفسّرين فجميعهم حذف ذكر «السنة». وقد ألحق قوم مع ذلك في هذا القول أشياء ليس يعرفها القدماء من المفسّرين فيه ومنهم أيضاً من غيّر بعض ما كتب فيه. وأنا واصف من ذي قبل ما كان من تلك النسخ ليس بالرديء جدّاً وشارح للمعنى فيها:
(٣١ب) قال أبقراط: حافظة بيت إبوثاس كان أمرها من فكرها فيما بينه وبين نفسه على معرفة كانت منها في علّتها.
قال جالينوس: إنّ الذين رضوا بهذه النسخة يقولون في تفسيرها إنّ حافظة بيت إبوثاس أتتها آفة في «فكرها فيما بينه وبين نفسه» من غير الآلات فكانت تلبث مدّة ما بين الزمان وذهنها مختلط ثمّ كانت بعد تفيق فترجع إليها «معرفتها» وحفظها لما تكلّمت به وفعلته ورأته في وقت اختلاط ذهنها. وقد كتب بعضهم: «على معرفة كانت بما كان يكون في علّتها» ولعلّ هذه النسخة تكون أجود من قبل أنّها تدلّ على هذا المعنى وهو أنّ حافظة بيت إبوثاس اختلطت لا في تخيّل
الأشياء المحسوسة كما قد يصيب قوماً لاكن بأن نالت الآفة فكرها على حدته على أنّها كانت تعلم وتعرف جميع الأشياء المحسوسة.
فقد رأينا بعض من يختلط تكون هذه حاله في الاختلاط حتّى تلبث معرفة جميع معارفه ويسمّيهم بأسمائهم ولا يذهب عليه شيء من أمر تعرّف جميع الأشياء المحسوسة لاكن يدركها على حقائقها ويحفظ أسماءها فلا يخطئ فيها لاكن يكون خطاؤه في الذهن والرؤية فقط. من ذلك أنّ رجلاً اختلط برؤيته واتّفق في يوم من الأيّام أن اجتمع الناس في ملعب لهم هناك فخرج جميع من كان في منزل ذلك العليل إلى الملعب وخلّفوه في ذلك المنزل ومعه غلام يعالج الصوف وأغلقوا الباب عليهما إغلاقاً محكماً. فعمد ذلك المختلط إلى شيء من الأواني التي كانت في ذلك المنزل فجعل يحمله فيرمي به مارّة الطريق ويسألهم هل يأمرونه أن يرمي به إليهم من فوق إلى أسفل فجعل أولائك يضحكون ويأمرونه بإلقاء شيء ممّا كان يحمله. فكسر أوانٍ كثيرة من خارج ثمّ رمى إليهم بعد ذلك بأشياء كثيرة ممّا كان في ذلك المنزل إلى الطريق. ثمّ إنّه بأخرة جعل ذلك الغلام المعالج للصوف فزجّ به إليهم إلى أسفل بعد أن سأل مارّة الطريق هل يحبّون أن يروا †الاٮٮارس† وكان هذا اسم ذلك الغلام وهو مترّدٍ نحوهم. فهذا أمر كان بروميّة.
وأمّا في مدينتنا في بلاد آسيا فإنّ متطبّباً عاد مريضاً صاحب سرسام فقام العليل إلى الطبيب فسلّ سيفاً وأمسك السيف ودفع إلى الطبيب غيره وأراده على المبارزة. ورجل آخر أصابته هذه العلّة بمدينة كومي وكان في منزله جبّ عظيم مملوء دقيقاً ففرّغ ذلك الدقيق على الأرض فلمّا أتاه المتطبّب أراده أن يصارعه على ذلك الدقيق كما يصارع المصارعون بعضهم بعضاً على التراب الدقيق في موضع النضال.
ورجل آخر من أصحاب هذه العلّة كمن خلف الباب حتّى دخل إنسان فأطبق الباب وأغلقه وقال الداخل إنّه غير فاتح له الباب دون أن يصارعه. وجميع هؤلاء فعلوا ما فعلوا من هذا وهم يثبتون وجوه الداخلين عليهم ويحفظون أسماءهم ويدلّ حفظهم لأسمائهم على معرفتهم بصورهم.
وقد رأينا أشياء كثيرة غير هذه من أصحاب السرسام تدلّ على أنّ الذهن وحده منهم هو الذي نالته الآفة من غير أن يكون نال التخيّل للأشياء المحسوسة شيء من الآفة فأحسب أنّ أبقراط إنّما قصد لذكر هؤلاء. والوسواس السوداويّ أيضاً من هذا الجنس وذلك أنّ أصحابه يحسّون جميع الأشياء حسّاً شافياً ويحفظون إلّا في رؤية الذهن فقط.
وقد قلنا من هذا ما قد اجتمع فيه أنّه حقّ يقين وأنّه ممّا ينتفع بمعرفته أعني من تلخيص أصناف اختلاط الذهن. وأمّا أن يكون أبقراط في هذا القول إنّما قصد للدلالة على هذا المعنى فليس ذلك عندي بالبيّن كبيان صحّة ما وصفته. وذلك أنّ القول لمّا كان قولاً غامضاً مستغلقاً جارياً مجرى الرمز وكان مع ذلك قد يكتب على نسخ مختلفة وكلّ واحد من المفسّرين يكتبه على خلاف ما يكتبه الآخر لم يمكن فيه الوصول إلى معناه على الحقيقة واليقين. ولذلك رأيت أنّ الأجود ألّا أذكر من ذي قبل من كتب هذا القول على نسخ أخر كيلا نضطرّ إلى شرح المعاني في تلك النسخ وقد كان قصدنا من أوّل الأمر غير ذلك.
(٣٢آ) قال أبقراط: ممّا يكون في المرضى أمّا السنّ فكم مبلغه منها وفي السنّ إن كان متقدّماً أو متأخّراً عمّا ينبغي مثل أن يفلج في الشتاء من سنّه سنّ المشايخ أو صبيّ في الصيف.
قال جالينوس: إنّا في بعض النسخ ليس نجد الجزء الثاني من هذا القول الذي هو مثال في القول المتقدّم فافتتاحه «مثل أن يفلج في الشتاء» وليس يكتب جميعهم هذا القول على مثال واحد. وأمّا روفس فكتب هذا القول على هذه النسخة التي تقدّمت قبيل وكتب في شرحه هذا الكلام:
قال روفس: «إنّه ينبغي أن يفحص عن الأمراض التي تكون بحسب السنّ وبحسب الوقت الحاضر من أوقات السنة كم مبلغ المريض من السنّ وهل ذلك المرض الذي حدث به ملائم لسنّه أو متقدّم من قبل الوقت الذي ينبغي أو متأخّر عنه. وضرب لذلك مثالاً أن يكون شيخ قد فلج في الشتاء فهذا إذا كان فإنّ هذا المرض يكون ملائماً للسنّ وللوقت الحاضر من أوقات السنة. فأمّا متى فلج صبيّ في الصيف فليس يكون هذا المرض ملائماً لسنّه ولا للوقت الحاضر من أوقات السنة. ولذلك فيما أحسب تكون الطبائع التي عنها يكون الفالج على الشيخ [و]في الشتاء أسرع عليه وعلى الصبيّ في الصيف أبطأ عليه. وقد نجده في هذا الموضع أيضاً كما وجدناه في مواضع أخر يتوهّم على الصبيان أنّهم أسخن من أصحاب الأسنان الأخر». فهذا ما كتبه روفس وهو يسوق هذا الكلام كلّه إلى معنى واحد.
وقد قسم قوم هذا الكلام إلى أقاويل شتّى فجعلوا أوّل قول منها «ممّا يكون في المرضى» فإنّهم قطعوا هذا وأفردوه على حدته وزعموا أنّه ينبغي لنا أن نفهم عنه من هذا القول أنّه ينبغي للطبيب أن ينظر في شيء شيء ممّا يكون في المرضى. ثمّ ابتدأ ابتداء ثانياً فكتبوا «ممّا يحدث فيه» وزعموا أنّ المعنى في هذا أنّه ينبغي أيضاً أن يكون الطبيب ممّا يحدث في المرضى خبراً. ثمّ إنّهم من بعد أفردوا قوله «أمّا السنّ فكم مبلغه منها» ثمّ قطعوا سائر أجزاء هذا الكلام جزءاً جزءاً ونظروا في كلّ واحد من تلك الأجزاء على حدته. وقد كتب قوم: «ممّا يكون في المرضى ويحدث» على أنّه تقدمة رسم وعنوان لما بعده ثمّ جعلوا ما بعده تعديد تلك الأشياء التي هي داخلة في هذا الباب من السنّ وما ذكره بعدها بأخرة. وقد عمد قوم إلى ابتداء القول الثاني فجعلوه آخر القول الأوّل ثمّ قرؤوا «أمّا السنّ فكم مبلغه منها» على أنّه ابتداء قول آخر. وقد وصفنا قبيل كيف جعل التأويل أصحاب هذه النسخة.
(٣٢ب) قال أبقراط: أمّا السنّ فكم مبلغه منها.
قال جالينوس: إنّ المفسّرين لهذا الكتاب قد فهموا هذا القول على ضربين فبعضهم توهّم أنّ هذا القول قيل في اختلاف الأسنان على الإطلاق وبعضهم توهّم أنّه قيل في التفاصل واختلاف في كلّ واحد من هذه الأسنان من طريق الأكثر والأقلّ. والأسنان التي تنقسم إليها مدّة الحياة كلّها هي أربعة إلّا أنّ في كلّ واحدة من الأسنان من العرض مقدار ليس باليسير وفي ذلك العرض من الاختلاف في الأكثر والأقلّ ما عدد أصنافه ليس باليسير. مثال ذلك أنّ في سنّ الصبيان وهو
يخالف سنّ الشباب بالرطوبة نجد رطوبة الأطفال منهم كثيرة جدّاً ورطوبة المترعرعين منهم أقلّ منها ورطوبة المراهقين أقلّ من تلك ورطوبة المحتلمين أقلّ من ذلك أيضاً على أنّ هذه السنّ أيضاً ليس يحسبونها جزءاً من السنّ الثانية التي تسمّى «سنّ الشباب». فلهذا بعينه ذكر قوم أنّ الأسنان ليست أربعاً لاكنّها سبع كما قيل في كتاب الأسابيع. وإن قسم قاسم أيضاً جملة حياة الإنسان إلى أسنان سبع ثمّ جعلوا مدّة سنّ الصبيان إلى أربع عشرة سنة فإنّ الفرق على حال بين الطفل الذي أتى عليه ثلاثة أشهر أو أربعة وبين الغلام الذي قد أتى عليه ثلاث عشرة سنة كثير. وكذلك إن قال قائل إنّ هذه السنّ الثانية منه أربع عشرة سنة إلى ثمانٍ وعشرين سنة وجد الفرق فيها أيضاً بين الغلام الذي قد أتى عليه خمس عشرة سنة وبين الفتى الذي قد أتى عليه سبع وعشرون سنة ليس باليسير. وعلى هذا القياس بعينه يجري أمر سائر الأسنان الذي يتلو هذه وذلك أنّ الاختلاف في الأكثر والأقلّ في جميع الأسنان كثير جدّاً.
وأمّا قابيطن فإنّه أسقط هذا القول كلّه الذي شرحته من نسخته وأتبع القول المتقدّم بهذا القول: «في السنّ إن كان متقدّماً أو متأخّراً عمّا ينبغي خروج الأسنان نبات الشعر المنى».
قال حنين: هذا الكلام بهذا التأليف في اليونانيّ يكون معناه مساوياً لمعناه بهذا التأليف الآخر: «خروج الأسنان ونبات الشعر والمنى قد ينبغي أن ينظر في أمر كلّ واحد منها هل هو متقدّم في السنّ التي يكون فيها أو متأخّر عمّا ينبغي».
قال جالينوس: وأمّا ديسقوريدوس فجعل هذا الكلام كلّه قولاً واحداً كتبه على هذا المثال: «ممّا يعرف في المرضى السنّ كم مبلغه منها وفي السنّ إن كان متقدّماً أو متأخّراً عمّا ينبغي مثل خروج الأسنان ونبات الشعر والمنى». وأمّا ما كتبه غيره على هذا المثال: «مثل أن يفلج في الشتاء من سنّه من المشايخ أو صبيّ في الصيف» فهو أيضاً يزعم أنّه لحق ألحق على طريق الشرح في حاشية الكتاب فنسخ في باطن الكتاب بالجهل من الناسخ.
(٣٢جـ-٣٣) قال أبقراط: في السنّ إن كان متقدّماً أو متأخّراً عمّا ينبغي 〈والتزيّد والاشتداد والغلظ و〉التنقّص.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام قد يقسّمه ويكتبه واحد منهم على خلاف تقسيمه وتكتّبه غيره ومن البيّن أنّهم يتأوّلونه تأويلات مختلفة. لاكنّي أقصد من التأويل إلى معرفته أبلغ نفعاً لمن يقصد قصد الطبّ فأقتصر عليه إشفاقاً منّي أن يطول تفسيري لهذا الكتاب.
والذي أرى أنّ أبقراط يأمرنا في هذا القول أن ننظر في اختلاف الطبائع في مرورها في الأسنان هل تكون أسرع أو أبطأ. وذلك أنّ بعض الأبدان نراها تصير إلى حدّ الرجال سريعاً ومنها بالعكس وذلك أنّها لا تصير إلى منتهى الشباب إلّا في مدّة طويلة من الزمان. وكذلك نرى تلك الأبدان الأول تجوز سنّ الشباب في مدّة يسيرة وكذلك تجوز سنّ المكتهلين وسنّ المشايخ ومنهم من يموت من قبل السنّ الأخيرة. وذلك أنّه كما نجده في جملة جنس الحيوان أو في جملة جنس النبات
من الاختلاف في العمر ما ليس هو باليسير إذ كان الأسد يكون تنقّله في الأسنان بحدود غير الحدود التي ينتقل بها غيره من الحيوان والفرس بحدود غير تلك والديك بحدود غير تلك والفيل بحدود غير حدود جميعها والإنسان بحدود غير حدود تلك كلّ واحد من أنواع الحيوان 〈كذلك أيضاً〉 نجد في الأشخاص من الاختلاف في ما بين بعضها وبين بعض أمراً ليس باليسير حتّى نجد بعض الأشخاص يشيخ أسرع ونجد بعضها يشيخ أبطأ. من ذلك أنّا قد رأينا من الناس من جفّ بدنه جفوف الشيخوخة في ستّين سنة ورأينا منهم من هو أشدّ وأقوى من هؤلاء ويبقوا على التسعين ورأينا منهم من جاوز المائة السنة.
فينبغي أن ننظر في هذا أوّلاً مع سائر ما ننظر فيه ممّا تستفيد به تقدمة معرفة بما هو كائن أعني هل يوجد الإنسان الذي نتفقّد أمره في علّته يكون مروره في الأسنان مروراً سريعاً حتّى تكون مدّة أسنانه يسيرة أو مروراً بطيئاً حتّى تكون مدد أسنانه مدداً طويلة. فإنّا إن توهّمنا مريضين قد ساويا في جميع الحالات خلا أنّ أحدهما أبطأ مروراً في الأسنان والآخر أسرع مروراً نحو الشيخوخة رجونا أن يكون الذي هو في طبيعته بطيء المرور إلى الشيخوخة أحرى أن يحتمل مرضه ويسلم وتوقّعنا خلاف ذلك فيمن حاله على ضدّ ذلك.
فوصف لنا أبقراط في هذا القول كيف نتعرّف هذا منذ أوّل الأمر في الصبيان ورسم لنا من الدلائل «خروج الأسنان ونبات الشعر» ثمّ من بعد إذا تمادت السنّ بالصبيّ [و]تولّد «المنى». ومن البيّن أنّه ينبغي أيضاً أن نستدلّ على الأشياء التي
بعد هذه على هذا القياس من الأشياء التي ذكرها فإنّ نبات اللحية داخل في «نبات الشعر» وكذلك الشعر الأوّل الذي ينبت للأطفال والشعر الذي ينبت بعده في العانة.
وقد ذكر أيضاً «تزيّد» الشعر باسمه في هذا القول وذكر أيضاً «الاشتداد والغلظ والتنقّص» ولم يعن بذلك الشعر دون جملة البدن. وذلك أنّ أبدان الصبيان فأبدان نابتة مشتدّة وذلك عنى بقوله «الاشتداد». وكما أنّ الأبدان التي صارت إلى منتهى الشباب والقوّة بسرعة تنحطّ أيضاً وتنهدّ سريعاً كذلك الأبدان التي لا تبلغ إلى منتهى الشباب إلّا بإبطاء يكون انحطاطها إلى أن تصير إلى حال الموت أبطأ. فذكر أبقراط «الاشتداد» وهو يريد به أبدان المتناهين في الشباب وذكر «التنقّص» وهو يريد به من قد صار إلى الانحطاط. وذلك أنّ الطبائع التي تصير إلى منتهى الشباب بسرعة فإنّ تنقّصها أيضاً يكون قصير المدّة حتّى تنحلّ الأعضاء والقوى التي فيها منها غاية الانحلال بسرعة.
(٢٤) قال أبقراط: الجنسيّ وما هو من ذاته.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قول عامّ مشترك لجميع ما يحدث في البدن في مروره في الأسنان التي تقدّم ذكرها في القول الذي قبل هذا وفي تولّد الأمراض وتزيّدها. وذلك أنّه يجري في الولد من الوالدين معاقبة ومشابهة لهما وذلك يظهر فيما لا نطق له من الحيوان أبين الظهور أمّا أوّلاً ففي الإنسان وذلك أنّ ما يتولّد منه
عن أبوين شابّين يكون أقوى وما يتولّد عن أبوين طاعنين في السنّ يكون أضعف وأمّا ما †ٮبا قى† ما كان من الحيوان في سنّ واحدة 〈…〉 إلّا أنّه مختلف في مقدار العظم أو في القوّة. وذلك أنّك قد تجد الخيل العظيمة الخبب الشديدة القوّة تنتج مثلها وكذلك الكلاب وغيرها من الحيوان وتجد الخيل الضعيفة القميئة تنتج خيلاً قميئة ضعيفة وكذلك الكلاب وغيرها من الحيوان وتجد أيضاً أعضاء البدن تشتبه بأعضاء الوالدين تشبيهاً بيّناً.
وذلك موجود في الناس وفي سائر الحيوان إلّا أنّ الشبه يظهر في سائر الحيوان أبين ممّا يظهر في الناس لأسباب منها أنّ تدبير الناس يختلف وتدبير الحيوان تدبير واحد منتظم ومنها أنّ 〈تدبير〉 الذكورة التي يكون عنها نتاج الدوابّ يعرف معرفة بيّنة لأنّا إنّما نعني بنتاج الخيل في وقت واحد من أوقات السنة وهو أقوى أوقاتها ويطعم في ذلك الوقت تلك الفحولة من الأغذية أفضلها ما يعني بفضيلة النتاج. وسائر التدبير في الدوابّ أيضاً منتظم لازق لطريق واحد وليس يقع في الدوابّ ما قد يقع في الناس من السفاح الذي يخفى. وأمّا الناس فتدبير أكثرهم تدبير رديء ووقت استعمالهم للجماع لطلب الولد ليس بمحدود إذ كانوا قد يجامعون كثيراً وهم سكارى أو لم يستمرئوا طعامهم وقد يقع فيهم السفاح كثيراً الذي يخفى حتّى
لا يشعر به. ولذلك يكون شبه الأولاد للآباء في الناس أقلّ منه في الدوابّ وغيرها من الحيوان الذي لا نطق له.
وقد يتشعّب من هذا القول باب من البحث ليس باليسير وهو البحث عن العلل الجنسيّة التي تجري في الجنس من الآباء في الأولاد. وقد وصفت الأمر في ذلك بشرح أبلغ في موضع آخر وأمّا في هذا الموضع فإنّي أكتفي بأن أصفه جملة. فأقول إنّي قد بيّنت أنّ الفضول من الأخلاط التي صارت فضولاً بسبب كيفيّتها أو كمّيّتها إنّما تصير من الدم إلى أضعف أعضائه وبيّنت أيضاً أنّ الأعضاء الآليّة في خلقتها في الأبدان التي هي على أفضل الطبائع تكون كلّها متساوية القوّة 〈وأمّا〉 في الأبدان التي طبائعها طبائع رديئة تكون بعض تلك الأعضاء قويّة وبعضها ضعيفة في غاية الضعف. وتجد تلك الأعضاء لا تزال تنكب من الفضول التي تتولّد في البدن أعني الأعضاء التي هي أضعف ولذلك صار بعض الناس تسرع إليهم علل الكلى وبعضهم تسرع إليهم علل النقرس وبعضهم تسرع إليهم علل الصرع وكذلك يجري الأمر في سائر العلل.
وأمّا ما ذكره في آخر قوله حين قال: «وما هو من ذاته» فإنّه وضعه بإزاء «الجنسيّ» على أنّه مقابل له في القسمة مضادّ له. وذلك أنّ من الصواب أن يقال في المرض الذي ليس هو جنسه إنّ حدوثه كان عن ذات البدن الذي حدث فيه إذ كان المرض الجنسيّ ليس هو من ذات بدن المريض ولا حدث عن طبيعته التي تخصّه لاكنّه إنّما يكون على المشابهة للوالدين والمعاقبة لهما.
(٣٥) قال أبقراط: بحسب ما يكون أكثر وأقلّ.
قال جالينوس: قد يكتب هذا القول على هذا المثال أيضاً: «أكثر وأقلّ» وأمّا المعنى في النسختين جميعاً فهو معنى واحد من قبل أنّ النسخة الأولى تدلّ أنّه على حسب فعل ما يكون في المريض من كلّ واحد من تلك الأشياء التي ذكرت تكون فضل تشبّه المرض بالحال التي يوجبها ذلك الشيء وعلى حسب فضل نقصان ضدّه فيه يكون فضل بعد المرض عن الحال التي يوجبها ضدّه. وأمّا النسخة الثانية فإنّ صاحبها يشير بأن ينظر هل في بدن المريض من كلّ واحد من تلك الأشياء التي ذكرت مقدار أكثر ومقدار أقلّ.
وقد يمكن أن يكون قوله «بحسب ما يكون أكثر وأقلّ» نسقاً على قوله ما قال قبيل والذي قاله قبيل هو قوله «الجنسيّ» 〈على〉 هذا المثال: «والجنسيّ وما هو من ذاته إن كان كلّه أو أكثر أو أقلّ» حتّى يكون هذا القول على هذا الطريق: إنّه ينبغي أن ينظر في المرض الجنسيّ وفي المرض الذي هو من ذات البدن مفرداً على حدته هل كان واحد منهما بكلّيّته من واحد واحد من هذين الجنسين أو من مرض مركّب مختلط وإن كان مركّباً مختلطاً فمن أيّ الجنسين فيه أكثر. وذلك أنّه كما أنّ قوماً يحدث بهم النقرس وعلل المفاصل لسوء تدبيرهم وقلّة ضبطهم لشهواتهم وقوم آخرون تصيبهم هذه العلل برداءة الناس الذين تولّدوا بهم كذلك قد تحدث أشباه هذه العلل بأقوام من هذين الشيئين جميعاً أعني من السبب الجنسيّ ومن السبب الذي هو من ذات البدن الذي يكون من سوء التدبير.
(٣٦) قال أبقراط: والوقت من السنة الذي يكون فيه وإن كان الوقت أزيد تقدّماً أو أزيد تأخّراً.
قال جالينوس: يقول إنّه ينبغي لك أيّها المتطبّب أن تنظر في الوقت من السنة الذي يحدث فيه المرض وهو 〈…〉 الآن موجود فيه وينبغي لك أيضاً أن تنظر في ابتداء ذلك الوقت من أوقات السنة هل تقدّم على أيّانه الذي جرت به العادة أو تأخّر عنه. وقد يكتب هذا القول أيضاً على نسخ مختلفة.
(٣٧) قال أبقراط: إن كان مطيراً أو عديماً للمطر أو بارداً أو حارّاً أو راكداً أو متحرّك الرياح وأيّ الرياح وفي أيّ أيّان من الوقت أفي أوّله أو في وسطه أو في آخره أو فيه كلّه.
قال جالينوس: إنّ هذا القول وغيره من الأقاويل قد قيلت في أوقات السنة مراراً كثيرة وأبقراط يأمر فيها أن تنظر في التغايير التي تحدث في أوقات السنة في الرطوبة واليبس والبرد والحرّ والأرياح وأيّ الأرياح تهبّ وفي أيّ الأوقات تكون أكثر عليها «في أوّل الوقت» من أوقات السنة «أو في وسطه أو في آخره أو فيه كلّه» منذ أوّله إلى آخره.
(٣٨) قال أبقراط: في الوقت الذي جاز أو في الوقت الحاضر.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يأمر في هذا القول أن تنظر كيف الحال في كلّ واحد من الوقتين أعني بكلّ واحد من الوقتين الوقت السالف والوقت الحاضر الذي حدث فيه المرض.
(٣٩) قال أبقراط: ومدّة زمان المرض.
قال جالينوس: يعني أنّه ينبغي لك أن تنظر في هذه «المدّة» أيضاً هل هي قصيرة أو طويلة أو متوسّطة في ما بينهما.
(٤٠) قال أبقراط: الأعراض الحادثة.
قال جالينوس: يقول إنّه ينبغي أن ينظر المتطبّب أيضاً في «الأعراض الحادثة» في الأمراض. وقد سمعتم منّي مراراً كثيرة ما الفرق بين الأعراض اللازمة «والأعراض الحادثة». وتقدرون أن تعرفوا ذلك من كتاب بركساغورس في الأعراض اللازمة والحادثة حتّى تقفوا على الفرق بينهما فإنّ بركساغورس قد كتب في الأعراض اللازمة مقالتين ووضع في الأعراض الحادثة مقالة واحدة.
(٤١) قال أبقراط: الأدوار ومن الأدوار أعظمها أو ما يكون تزيّدها بين مدد أطول.
قال جالينوس: إنّه ينبغي أن يفهم عنه من قوله «أعظم الأدوار» 〈الأدوار〉 التي تكون في مدّة أطول حتّى يكون دور الربع أطول من دور الغبّ ويكون دور الغبّ أطول من دور الحمّى النائبة في كلّ يوم. وقد يمكن أن يكون عنى «بالأدوار»
التي هي «أعظم» الأدوار التي هي أطول الأدوار التي تنقص بالبحران. وأعني بقول «الأدوار التي هي أطول» الأدوار التي في مدّة من الزمان أطول.
فأمّا قوله «ما يكون تزيّدها بين مدد أطول» فأحسبه أراد أن يدلّ به على الجزء من الأدوار التي يكون منها انحطاط الحمّى الذي قد يحسب معه كثيراً وقت إقلاع الحمّى إذا كان لها إقلاع. وذلك أنّ كلّ دور من أدوار الحمّى ينقسم قسمين أحدهما وقت تزيّد الحمّى إلى أن تبلغ إلى منتهاها والآخر المدّة الباقية كلّها التي فيما بين منتهى الحمّى وبين ابتداء النوبة الثانية منها «فتزيّد» الحمّى «بين مدد أطول» إنّما يدلّ على طول هذه المدّة التي بعد المنتهى إلى ابتداء النوبة الثانية.
(٤٢) قال أبقراط: وتزيّد سائر الأمراض وتراخيها ومنتهاها الذي يكون به أكثر أو أقلّ ومتى وكيف وفي أيّ وقت من السنة وفي أيّ سنّ.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام قد يكتب أيضاً على نسخ مختلفة إلّا أنّي إذ كنت مبادراً إلى الاستراحة منه فإنّي أقتصر على ذكر معنى هو إلى القبول والإقناع أقرب. فأقول إنّ أبقراط يأمرك أن تنظر في «تزيّد الأمراض» التي تكون من غير أدوار. وذلك أنّه لمّا ذكر الأمراض التي لها أدوار في القول الذي قبل هذا أردفه بأن قال: «وتزيّد سائر الأمراض» يعني اشتدادها ونموّها. وأمّا «التراخي» فهو شيء مضادّ «للتزيّد» والنموّ وذلك أنّه يدلّ على التنقّص والانحطاط. وأمّا «المنتهى» فهو متوسّط في مرتبته فيما بينهما.
إلّا أنّ المعرفة بأنّه ينبغي أن ينظر في هذه الأشياء ليست ممّا يعتدّ به وكذلك الأشياء التي ذكرها بعد وأكثر الأشياء التي ذكرها قبل. وذلك أنّ الذي ينتفع به إنّما هو أن يوصف كيف يتعرّف وكيف تنال تقدمة المعرفة وأمّا أنّ كلّ واحد منها ممّا
ينبغي أن يعرفه المتطبّب فذلك ممّا قد يعرفه من لا يخبر شيئاً من الطبّ فضلاً عن غيره. فليس في هذه الأقاويل شيء تحلو فيه تفاسيرها في قلوب الناظرين فيها وتكثر به في أعينهم إلّا غموضة هذه الأقاويل واستغلاقها وذلك هو الذي يتّفق تأويلات السوفسطائيّين فيها لا لانتفاع بمعانيها. وذلك أنّه ليس من أحد إلّا وهو يعلم أنّه ينبغي أن تكون عند الطبيب تقدمة المعرفة لتزيّد المرض ومنتهاه وبانحطاطه ولا من أحد إلّا وهو يعلم أنّ المعرفة بالمقدار الأكثر أو الأقلّ في كلّ واحد من هذه ممّا ينتفع به ولا من أحد إلّا وهو يقول إنّ العلم بكلّ واحد من هذه متى يكون وعلى أيّ وجه يكون من أنفع الأشياء للمتطبّب — وذلك هو المعنى الذي قصد إليه بقوله «وكيف» — ولا من أحد إلّا 〈وهو يعلم أنّ معرفة〉 الأشياء «في أيّ وقت من أوقات السنة وفي أيّ سنّ» تكون ممّا قد ينتفع به المتطبّب. فهذه الأشياء أشياء قد نجده قد أشار بها لا في هذا الكلام فقط لاكن في غيره أيضاً مراراً كثيرة والذي ينتفع به منها إنّما هو تعرّفها وتقدمة المعرفة بها لا البحث على معرفتها.
(٤٣) قال أبقراط: وضروب الأمراض الوافدة.
قال جالينوس: يقول إنّ ممّا ينبغي أن يبحث عنه المتطبّب ويعلمه «ضروب الأمراض الوافدة» فإنّ تقدمة المعرفة عند من عرفها تكون أصحّ وأوكد.
(٤٤) قال أبقراط: وهل الذي ابتدأ به من غير أن يتقيّأ أو قد تقيّأ على ما ينبغي وهل شرب فأمسك أو استنقى قليلاً.
قال جالينوس: إنّه يشير بأن يتفقّد هذا أيضاً وينظر من من المرضى «ابتدأ به» المرض «من غير أن يتقيّأ» ومن منهم «ابتدأ به» المرض «وقد تقيّأ» واستنظف ومن منهم «شرب» الشراب فبقي في جوفه أو قذف منه ولو يسيراً. وأمّا اختلاف العبارة في تغيّر الأعداد والأجناس فليس يوجد في هذا القول فقط لاكنّه قد يوجد في كثير من الأقاويل التي تقدّمت وفي أكثر الأقاويل التي بعد. وإن أردت أن يتبيّن لك القسم الذي قسم المفسّرون من هذه الأقاويل عليها على أنحاء شتّى إذ كانت غموضتها تعينهم على ذلك معونة ليست باليسيرة فاقرأ في تفاسيرهم حتّى تعرف ذلك. فإنّي قد أستعفيكم من نسخها لكم في كتابي وذلك أنّي إذ كنت قد احتجت في تفسيري لهذه المقالة إلى أن آتي به في مقالة ثامنة فلم أذكر جميع تلك النسخ المختلفة ولا من التأويلات فيها لكنت سأحتاج إلى ضعفي هذا العدد من المقالات أو ثلاثة أضعافه.
(٤٥) قال أبقراط: المفرطو البياض أصحاب الشفاه أخلق بهم أن يكونوا أصحاب حمّى.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد ذكر في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا «المفرطي البياض البرش الذين يتشقّق منهم الجلد والشفتان» ففي هذا القول أيضاً
قد ينبغي أن يفهم عنه من قوله «أصحاب الشفاه» أصحاب الشفاه المتشقّقة. وقد ينبغي أن يبحث عن أمر هؤلاء هل هم «أصحاب حمّى» ويعني بذلك أن كانت الحمّى تسرع إليهم.
وقد قال قوم من المفسّرين إنّ هذه الأبدان تسرع إليها العلّة بضعفها والأمر في أنّ «المفرطي البياض» ألين أبداناً وأضعف في جميع الأفعال أمر تدلّ عليه التجربة ويدلّ عليه أيضاً القياس إذ كان يوجد به مزاجهم مزاجاً بارداً. لاكنّهم ليس تسرع إليهم الحمّى وحدها بأكثر ممّا تسرع إليهم سائر الأمراض لاكنّ الأولى أن تكون الأمراض التي تسرع إليهم الأمراض التي هي إلى الرطوبة والبرد أميل.
وأمّا ما ألحقه في آخر قوله حين قال: «أصحاب الشفاه» فهو يقتضي أن يضاف إليه «المتشقّقة» كما كتب في المقالة الثانية من كتاب إفيذيميا عند ذكره «البرش تتشقّق شفاههم». وذلك أنّ الشفاه إنّما تتشقّق من أولائك إلّا من الذين بياضهم مفرط لأولائك في أبدانهم أخلاط رديئة 〈و〉أولائك أيضاً أحرى بأن تكون الحمّى إليهم أسرع من الذين بياضهم مفرط.
وقد زعم قوم أنّ «المفرطي البياض» تسرع إليهم الحمّى وتتشقّق شفاههم بسرعة تأثير الأسباب فيهم وبسرعة قبولها للعلل. والقول بأنّ الحمّى تسرع إليهم إنّه استثنى فيه ما ينبغي أن يستثنى كي صحيح حقيقيّ وأمّا القول بأنّ الشفاه من هؤلاء تتشقّق فباطل. وذلك أنّ من كان بياضه مفرطاً لم يكن أبرش فليس تجد الشفتين منه يعرض لهما التشقّق. وذلك من قبل أنّه ليس كلّ بدن سريع القبول لكلّ علّة
لاكنّ كلّ واحد من الأبدان السريعة إلى قبول التأثير فيها حتّى تحدث فيها العلّة يسرع إليه بعض العلل ويقرب منه ويبعد عن سائر العلل حتّى لا يسرع إليه.
والاستثناء الذي قلت إنّه ينبغي أن يستثنى في أصحاب البياض المفرط ما أنا واصفه: أقول إنّ أصحاب هذه الحال يسرع إليهم التأثير من حرّ الشمس ومن برد الهواء ومن التعب والإعياء فتسرع إليهم بسبب ذلك الحمّى وإمّا أن يكونوا مستعدّين من ذات أبدانهم لحدوث الحمّى فيهم مثل أصحاب الأبدان التي فيها أخلاط رديئة وتحلّلها مع ذلك يعسر. وأمّا تشقّق الشفتين فإنّما يعرض للأبدان التي مزاجها أقرب إلى اليبس وفيها أخلاط رديئة لا للأبدان التي اللحم منها ليّن ناعم اللّهمّ إلّا أن يكون فيها مع ذلك خلط رديء أكّال.
(٤٦) قال أبقراط: الضروب كيف هي ومدد الزمان.
قال جالينوس: إنّه قد يوجد مكان هذا القول هذا القول الآخر: «أيّها هي ومدد الزمان والضروب». ويقرؤون كلّ واحد من هذه الأسماء على حدته القوم الذين رضوا هذه النسخة ويزعمون أنّ أبقراط يأمر في هذا الكلام أن ينظر أوّلاً في الأمراض والأعراض التي يقصد لها أيّ الأمراض وأيّ الأعراض هي ثمّ ينظر في «مدّة الزمان» كم هي في كلّ واحد منها ثمّ ينظر أيّ «الضروب» ضروبها أي أصنافها.
وقد وصل قوم هذا الكلام بعضه ببعض حتّى صارت نسخته على هذا المثال: «الضروب كيف هي ومدّة الزمان» وزعموا أنّ تأويل هذا القول أنّه ينبغي للطبيب أن ينظر في المرض من أيّ ضرب هو من ضروب الأمراض وأيّ المدد مدّته من الزمان.
وقد كتب قوم مكان هذا القول هذا القول الآخر على حسب الأسباب التي أحدثت الأمراض أيّ الأسباب كانت تكون: «ضروب الأمراض ومددها من الزمان الذي يمكن أن تبلغ إليها».
(٤٧) قال أبقراط: العمل البدن يستعمل في البحث والنظر البصر السمع الحسّ الأنف اللسان الفكر.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد حذفوا الاسم الأوّل من هذا القول وهو قوله «العمل» حتّى صار قوله على هذا المثال: «البدن يستعمل في البحث». وقد وصل قوم ذكره «البدن» بقوله المتقدّم وذكروا أنّ أبقراط يريد بذكر «البدن» أنّه يأمر بالنظر مع ما ذكر في هذا القول في «البدن» أيضاً أيّ هيئة هيئته وأيّ طبيعة طبيعته ثمّ يبتدئون ابتداء آخر على هذا المثال: «مستعمل في البحث البصر والسمع والحسّ والأنف واللسان والفكر».
وبعضهم يكتب هذا القول على هذا المثال: «العمل أن يستعمل البدن في البحث» ويتأوّلون هذا الجزء من هذا القول مفرداً على حدته على هذا الوجه: إنّ عمل الطبيب الذي هو أعظم قصده أن يستعمل بدنه ونفسه في البحث والنظر في أمر المرضى. ويزعمون أنّه فيما بعد هذا عدّد الآلات التي بها يستعمل النظر وتلك الآلات هي الحواسّ أعني «البصر والسمع والحسّ» هي أشياء تدلّ على الحواسّ وأمّا «الأنف واللسان» فهما اسمان للآلتين اللتين بهما هذان الحسّان. وقد كان الألزم للقياس كما قال «البصر والسمع والحسّ» أن يقول أيضاً «الشمّ والمذاقة» ولا يقول مكانهما «الأنف واللسان» لاكنّ الأمر على ما قد قلته فيما تقدّم من أنّه توجد في هذا الكتاب تغايير كثيرة في العبارة. ولعلّ ذلك كان لأنّها كذا وجدت
في تلك الأرسام والتذكرات التي أثبتها أبقراط لنفسه ولعلّ ذلك كان لتحريف من السوفسطائيّين للكلام والإدغال منهم فيه إذ كانت غايتهم إنّما هي أن يشغلوا المتعلّمين ويفنون أعمارهم بالباطل بكلّ وجه يقدرون عليه.
وقد ألحق في آخر هذا القول ذكر «الفكر» وذلك أنّه لا يمكن أن تصير المعرفة التي تنال بالحواسّ داخلة في علم صناعة الطبّ إلّا «بالفكر». وقد قيل معنى هذا القول بعينه في صدر كتاب أبقراط المسمّى بقاطيطريون.
(٤٨) قال أبقراط: الأورام التي تبقى في الجفن الأعلى وقد ضمرت غيرها على العودة.
قال جالينوس: إنّا نجد هذا القول يكتب على هذا المثال: «الأورام التي تبقى في الجفن الأعلى وقد ضمرت غيرها معاودة» وأحسب أنّ الناسخ الأوّل لمّا لم يفهم القول على ما وجد عليه مرسوماً من نقصان حرف تركه أبقراط على أنّه مدغم في قوله قلّب الكلام فكتب مكان «على العودة» «معاودة». وذلك أنّ هذه «الأورام» التي ذكرها أنّها «تبقى في الجفن الأعلى وقد ضمرت غيرها» — ويعني «بغيرها» ما يكون في الوجه منها ونواحيه — تدلّ على «العودة» من المرض. وقد وقع مثل هذا التغيير في أقاويل كثيرة من هذا الكتاب إمّا لأنّ كاتبها الأوّل ألّفها هذا التأليف وإمّا لأنّ نسّاخها غيّروها عمّا وجدوها عليه. وأنا تارك البحث عن هذا للسوفسطائيّين.
وأمّا البحث عن السبب الذي له صارت «أورام الجفن الأعلى» إذا أزمنت وتطاول أمرها تدلّ على «عودة» المرض فليس هو من صناعة التفسير وطريقه في
شيء ولا هو من الأمور التي تخصّه. لاكنّه لمّا كان 〈كما〉 قد قلت فيما تقدّم جميع من كتب التفاسير في هذا الكتاب قد جرت عادتهم بأن يفعلوا ذلك فإنّي أتبعتهم أنا أيضاً في عادتهم هذه فألحقت مع هذا الشرح والتفسير التأدية للأسباب وربّما تخيّرت من الأسباب التي وجدت المفسّرين قد ذكروها أمثلها وأقربها من القبول والإقناع وربّما استجهلت جميعهم في ما أدّاه من الأسباب فطلبت أنا سبباً مقنعاً في الشيء الذي يحتاج إلى البحث عن سببه كما أنا فاعل في هذا القول.
فإنّي أقول إنّه ربّما كان الوجه كلّه يرى متهيّجاً تحطيماً ما وعند ذلك قد نجد الجهّال بالطبّ فضلاً عن غيرهم يشيرون بالتفقّد لأصحاب تلك الحال علماً منهم بأنّ المرض معاود لهم إن لم يتحفّظوا في تدبيرهم. وكثيراً ما يكون ذلك التهيّج في الجفن الأعلى فقط فيختفي على جمهور الناس وعند ذلك ينبغي للطبيب أن يمتثل فعل الربّان فإنّ الربّان ربّما رأى السحابة الصغيرة فاستدلّ بها على مطر كائن وتقدّم فأنذر فيه. وكذلك ينبغي للطبيب أن يستدلّ بذلك التهيّج اليسير الذي في الجفن الأعلى على أنّ المرض يعاود ويتقدّم فينذر بذلك.
ويشبه أن تكون هذه «الأورام» إنّما تكون لضعف الحرارة الغريزيّة لأنّ الأعضاء التي تشرف على الموت تنتفخ كما تنتفخ جثث الموتى. وذلك أنّ الأبدان التي قد
عدمت أصلاً الحرارة الغريزيّة فقد ماتت أصلاً وأمّا الأبدان التي قد أشرفت على أن يعدمها فقد أشرفت على الموت فيعرض فيها شيء ممّا يعرض في جثث الموتى.
(٤٩) قال أبقراط: وفي الطرف ما يلي الحمرة صلب وفي هؤلاء ينتفخ جدّاً ويلحج ويحتبس في هؤلاء مثل الذي كان في فرسالاس وفي فولوميدس.
قال جالينوس: يقول إنّ الأورام التي في «طرف» الجفن ولونها «يلي الحمرة» وهي مع ذلك «صلبة سمجة جدّاً تلحج وتحتبس» تدلّ على العودة من المرض كالتي تدلّ الأورام التي ذكرت قبلها أنّها تكون في الجفن الأعلى. وقد زعم قوم أنّ هذا الكلام كلام مفرد على حدته اقتصّ فيه أمر أورام حدثت بتلك الحال من السماجة في طرف من الجفن بسبب أخلاط غليظة لحجت واحتبست في ذلك الموضع حتّى لم يمكن فيها التحلّل. وقد يخيّل إليك قوله «وتلحج وتحتبس» أنّه إنّما قاله في الأورام مكان «تبتدئ» وأمّا قوله «تحتبس» يعني به أنّ مدّتها تطول وتلبث زماناً طويلاً. وليس ينقصان هذان التأويلان اللذان يزعم أصحابهما فيهما أنّه يعني بهذا القول أنّ الأورام الصلبة الحادثة في أطراف الأجفان تدلّ على عودة من الأمراض التي تقدّمت لاكنّه إنّما يعني به أنّ هذه الأورام تكون عن كيموسات متضادّة تلحج في تلك المواضع عن التأويل الأوّل الذي قدّمناه في القرب من القبول ومن الإقناع.
(٥٠آ) قال أبقراط: الأورام التي تنفجر أو الخضرة في الرمد أو في القروح فإنّ التي تنحدر من الخَراجات والتقيّح غيرها إن كان ذلك دليل.
قال جالينوس: إنّه ينبغي أن يفهم في هذا الكلام أيضاً على مثال ما فهم من الكلام الذي قبله إمّا أنّ هذه «الأورام» أورام رديئة وإمّا أنّها تدلّ على عودة من المرض. 〈…〉 قال: «الذي ينحدر من الخَراجات وينضج» وليست هذه بأعيانها لاكنّهم يغيّرون نسخة هذا القول على أنحاء شتّى ويقسمونه. ولم يقل أحد من المفسّرين كيف صارت تلك غير هذه وليست بأعيانها لاكنّها تقاسيم مختلفة.
وأنا ذاكر بعضهم فأقول إنّ بعضهم يكتب هذا القول على هذا المثال: «الأورام التي تنفجر أو الخضرة في الرمد أو في القروح» فإنّها هكذا كتب ديوسقوريدوس هذا القول. فإنّه ألحق في آخره «يعمّ» إلّا أنّ ما يتلوه من قوله «فإنّ الذي ينحدر من الخَراجات والتقيّح [و]غيرها» لا هو فسّره وهو عندنا أيضاً بحسب نسخته قريب ممّا لا يعقل ولا يفهم.
ولذلك أنا ذاكر سائر النسخ فأقول إنّ النسخة التي رضيها قابيطن من نسخ هذا القول هي هذه النسخة: «الأورام التي تنفجر والخضرة في الرمد أو في القروح فإنّ التي تنحدر من الخَراجات والتقيّح وغيرها إنّ ذلك دليل». ثمّ إنّ قابيطن بعد هذا القول ابتدأ بما يتلوه ابتداء آخر جعله على هذا المثال: «نحو الحصاد مغص في السرّة والألم». وما غيّره من هذا القول الثاني كما كان عليه في النسخة القديمة قريب ممّا يقبل ويقنع به وذلك أنّ النسخة القديمة إنّما يوجد فيها مكان «〈الحصاد〉» «الحصار». وأمّا غيره 〈فغيّره〉 ديسقوريدوس أيضاً من هذا
القول حتّى صار فيه بمعنى قد قرب ممّا يقبل ويقنع به. إلّا أنّه لزم كلّ واحد من ديسقوريدوس وقابيطن أمر شنيع أمّا ديسقوريدوس فيلزمه أن يكون ما يتلو قوله بمعنى لا يوجد له تأويل يقرب ممّا يقبل ويقنع به 〈…〉 وقد توجد في بعض الكتب نسخة أخرى لهذا الكلام وقد رضي هذه النسخة روفس الذي من أهل سمريا ففسّرها وهي بهذا اللفظ: «الأورام التي تنفجر أو الخضرة في الرمد أو في القروح على غير ما يجب في القياس والتي تنحدر من الخَراجات والتقيّح إنّها دليل يميل إلى جهتين». أمّا الكلام فهو على هذه الحكاية وفيه مكان ما نجد في النسخ القديمة وما يعرفه قدماء المفسّرين وهو قوله «تقوير» «يميل إلى جهتين». وأمّا تفسير روفس الذي من أهل سمريا لهذا القول فإنّي واصفه بألفاظه وهو هذا:
قال روفس: «أمّا قوله ‹التي تنفجر› فيعني به ‹التي تحدث دفعة› وأمّا قوله ‹على غير ما يجب في القياس› فيعني به ‹على خلاف ما ينبغي› وأمّا قوله ‹التي تنحدر› فيعني به ‹ما ينحدر من البطن› وأمّا قوله ‹يميل إلى الجهتين› فيعني به ‹المشكوك فيه الممكن أن يكون على الوجهين جميعاً›. فيصير هذا القول على هذا المثال: إنّ الأورام التي تحدث عن الرمد أو عن القروح دفعة على خلاف ما ينبغي والخضرة وما ينحدر من الخَراجات والتقيّح الذي يكون في غور البدن من جنس القيح فإنّها دليل مشكوك فيه يمكن أن يكون على الوجهين جميعاً». فهذا هو شرح روفس الذي من أهل سمريا بألفاظه لهذا القول الذي نحن في شرحه.
(٥٠ب) قال أبقراط: الأورام التي تنفجر.
قال جالينوس: إنّ قوماً من المفسّرين فهموا قوله «تنفجر» على المعنى الذي تدلّ عليه حقيقة هذه اللفظة كأنّه قال: «الأورام التي تنشقّ فيها الجلد من تلقاء نفسه من غير أن يبطّه الطبيب». وقالوا إنّ هذه الأورام في العينين تحدث الحمّى وأمّا في سائر أعضاء البدن فليس تحدث ذلك. وقد وجدت روفس الذي من أهل أفاسيس كأنّه قد قبل هذا التأويل ورضيه.
(٥١) قال أبقراط: دليل تقوير.
قال جالينوس: إنّ اللفظة التي تدلّ على «التقوير» قد يحرّفها قوم تحريفاً يصير به معناها «يميل إلى وجهين» كما قلت قبيل عندما نسخت لك شرح روفس الذي من أهل سمريا لهذا القول. وقد يكتبون مكان «يميل إلى جهتين» «تقوير» وكان القدماء من المفسّرين إنّما يعرفون هذه النسخة ويفسّرون هذه اللفظة فيقولون إنّ أبقراط إنّما يعني «بالتقوير» أنّ ما كان من الأورام بهذه الحال يحتاج إلى «التقوير». وقد زعم قوم أنّه إنّما أراد بهذه اللفظة الشيء المقطوع المحدود الذي لا يشكّ فيه من قبل أنّ أبقراط قد قال في قول آخر: «إنّ الحدّ فيمن هو مزمع بأن يحدث فيه التقيّح أن ينفجر البطن ما يخرج منه من الشيء الكثير دفعة». وقد زعم قوم أنّه إنّما أراد بهذه اللفظة الشيء المشكوك فيه.
وأمّا روفس الذي من أهل أفاسس فإنّه كتب مكان «التقوير» «متصرّف على وجهين» ويرى أنّ المعنى في هذه اللفظة أنّ ذلك الدليل هو دليل دائم الدلالة على أمر واحد. وذلك أنّه قطع قول أبقراط «التي تنحدر من الخَراجات والتقيّح» عمّا قبله ووصل به ما يتلوه من قوله «إنّ ذلك دليل» ثمّ وصل بذلك اللفظة التي قلت
إنّه أبدلها حتّى صارت «متصرّفة على جهتين» فجعل جملة القول على هذا المثال: الأشياء التي تنحدر من الخَراجات والتقيّح إنّها دليل متصرّف على جهتين. وقال إنّ ما يخرج باختلاف البطن تكون تقدمة المعرفة منه «متصرّفة على وجهين» مشكوكاً فيها وذلك أنّ صاحبه ربّما آلت حاله إلى الصلاح وربّما آلت حاله إلى المكروه.
وأمّا ديسقوريدوس فإنّه بدّل تلك اللفظة فجعل مكانها «على الرحم» وجعل أيضاً هذا الكلام على حدته عمّا قيل قبله كما فعل روفس فكتبه على هذا المثال: «الأشياء التي تنحدر من الخَراجات والتقيّح إنّها دليل على الرحم» حتّى يكون أبقراط إنّما عنى بقوله «على الرحم» أي دليل على العلل التي تكون في الرحم.
وأمّا قابيطن فإنّه خالف هذه النسخ كلّها فلم يكتب ولم «يتصرّف على جهتين على الرحم» ولا «تقوير» ولا «يميل إلى جهتين» لاكنّه كتب مكان ذلك كلّه «نحو الحصاد» حتّى يكون قوله «نحو الحصاد» ابتداء للقول الذي بعدها بهذا اللفظ:
(٥٢) قال أبقراط: نحو الحصاد مغص في السرّة وألم في بعض الناس من الكرّاث ومن الثوم أيضاً وهذا بأخرة.
قال جالينوس: كان هذا القول إذا جعل أوّله «نحو الحصاد» كما فعل قابيطن يكون أوقع وأعظم درجاً حتّى يكون المعنى في هذا القول على هذا المثال: في وقت الحصاد أو نحوه يعني في الصيف أصاب عدداً كثيراً من الناس آلام ومغص
فيما يلي السرّة أو في أوّل حدّة من الصيف فمن كرّاث كانوا يأكلونه ثمّ بأخرة من أنّهم أكلوه أيضاً ثوماً. فقد نعلم أنّ الأطعمة الحادّة الحرّيفة قد تحدث مثل هذه الأعراض في بعض الأبدان فيشبه أن يكون هذا عرض في ذلك الوقت لعدد من الناس أكثر بسبب من الأسباب.
ولسنا نجد إلى وجود ذلك السبب سبيلاً ممّا كتبه في هذا القول كما قد نجد السبيل إذا اقتصّ قصّة الحال من الهواء التي كانت. فإن كتب هذا القول وليس في أوّله ذكر وقت «الحصاد» كما يكتبه سائر جميع المفسّرين فقد يمكن أن يكون هذا القول كلّيّاً وليس هو قولاً جزئيّاً في المغص الذي حدث في ذلك الوقت لاكن يكون القول أنّ إدمان أكل الكرّاث يحدث مغصاً في ما يلي السرّة وأمّا إدمان أكل الثوم فليس يحدث ذلك على المكان لاكنّه يورث أشباه هذه من الأعراض بأخرة.
وقد يمكن أيضاً على نسخة قابيطن أن يجعل هذا القول قولاً كلّيّاً على هذا التأويل: في وقت الحصاد أعني في الصيف أكل الكرّاث والثوم يحدث مغصاً من قبل أنّ هذا الوقت وقت يغلب فيه المرار. وأمّا في الشتاء فإنّ البلغم فيه هو المستولي على البدن فإنّ هذه الأطعمة ليس تحدث المغص لاكن بل تكون سبباً لمنفعة عظيمة تنالها الأبدان منها في ذلك الوقت وذلك أنّها تسخن الأخلاط الباردة وتقطع الأخلاط الغليظة اللزجة التي تكثر في الشتاء وتغلب على الأبدان.
(٥٣) قال أبقراط: والحمرة في بعض الناس تنقص من الرقبة ومن المواضع التي تليها في الوجه.
قال جالينوس: إنّا نجد في جميع النسخ هذه اللفظة أعني قوله «تنقص» ثانية وكذلك يعرفها جميع المفسّرين خلا قابيطن وحده. فإنّه من بين المفسّرين بدّل هذه اللفظة وجعل مكانها «وكانت تنتقص» وذلك أنّ هذا موافق مطابق لاقتصاص ما حدث في ذلك الوقت. وأمّا قوله «تنقص» فيدلّ على حكم كلّيّ وذلك أنّ من كتب هذا القول على هذا التحديد: «أورام الحمرة التي تكون في الرقبة يكون لها دائماً انقضاء وبحران» 〈…〉 ولمّا كان هذا الحكم حكماً باطلاً قد أجار قابيطن في تفسيره لهذه النسخة اللّهمّ إلّا أن يكون أبقراط لهذه النسخة كتب هذا القول في الوقت الذي كان يكون فيه الانقضاء والبحران لهذه الأورام من أورام «الحمرة».
(٥٤) قال أبقراط: ما كان أسود فيمن به علّة في الرقبة فهو رديء وما كان منها من النفّاخات فهو رديء وما كان منها مزعجاً فهو رديء.
قال جالينوس: أمّا قوله «ما كان أسود» فقد قال قوم إنّه عنى به ما كان من أورام الحمرة أسود فإنّه قال إنّ أورام الحمرة التي تكون في الرقبة إذا هي اسودّت فهي رديء وكذلك أورام الحمرة التي تكون في الرقبة فتحدث فيها نفّاخات وتأليفه مع هذه أورام الحمرة «المزعجة». وقد قال قوم إنّه يعني «بالمزعجة» التي يضطرب فيها الذهن وقد قال قوم إنّه يعني «بالمزعجة» التي تحدث أعراضاً مزعجة مقلقة
وقالوا إنّ الأعراض المزعجة المقلقة هي الألم والسهر واختلاط الذهن والقلق وسوء النفس.
وقد قال قوم إنّه يعني «بالمزعجة» التي تطلق البطن بإزعاج وقد قال قوم أيضاً إنّه إنّما عنى بما قاله في أوّل قوله حين قال: «ما كان أسود» البراز الأسود حتّى يكون معنى هذا القول على هذا المثال: إنّ البراز الأسود فيمن به ورم الحمرة في الرقبة وخاصّة إن كان فيه بثر شبيه بالنفّاخات ليس بمحمود وأحرى أن يكون كذلك ما كان انحداره وخروجه مع إزعاج واضطراب. ويزعمون أنّ الإزعاج يكون مع الاختلاف إذا كان معه مغص ولذع شديد أو كان معه ألم بالجملة من الألم أيّ ألم كان أو غشي أو كرب.
فأمّا قابيطن فإنّه غيّر من هذا القول أيضاً شيئاً ممّا في آخره حيث قال: «وما كان مزعجاً فهو رديء» فجعل جملة هذا القول على هذه النسخة: «وما كان مزعجاً فهو رديء وما كان فيه نفّاخات وذلك أنّ هذا مزعج». لاكنّه لمّا كان قابيطن لم يكتب تفسير النسخة التي رضيها ولا كتب أيضاً شرحاً لألفاظ أبقراط كما فعل أيضاً ديسقوريدوس فغير ممكن أن تعلم على أيّ معنى قال: «وذلك أنّ هذا مزعج» من قبل أنّه قد يمكن كما قلت قبل أن يفهم عنه بعض الناس أنّه أراد الاختلاف المزعج ويفهم عنه بعضهم إزعاج الذهن واضطرابه ويفهم عنه بعضهم الأعراض المزعجة. وذلك أنّ الناس قد فهموا «المزعج» في هذا القول على هذه الوجوه الثلاثة.
(٥٥) قال أبقراط: أدامنطس الرجل الذي كانت السوداء غالبة عليه تناول من اللفائف فأكثر فتقيّأ مرّة سوداء ومرّة أخرى من بصل تناوله.
قال جالينوس: إنّي وجدت في هذا القول «أديمنطس» ووجدت فيها «أدامنطس» فلا فرق بينهما. وأمّا ما يوجد من الاختلاف في النسخ أنّ بعضهم يكتب «من اللفائف» وبعضهم «من الهليون» وبعضهم «من الفرفخ البرّيّ» وبعضهم «من الصدف» فالفرق فيه ليس باليسير وكذلك الفرق بين أن يكتب بعد «تناول» «فأكثر» وبين ألّا يكتب أنّه «أكثر» فإنّه يكتب أيضاً هذه اللفظة على هذين الوجهين.
والنسخة القديمة التي يعرفها جلّ المفسّرين إنّما يوجد «من اللفائف». وأمّا قابيطن فكتب مكان «اللفائف» «الفرفخ البرّيّ» وأمّا ديسقوريدوس فأثبت ذكر «اللفائف» من داخل في بطن الكتاب وذكر «الفرفخ البرّيّ» برّاً في حاشيته فجعل نسخة ثانية وأثبت أيضاً نسخة ثالثة في الحاشية مكان «اللفائف» «الهليون». وجميعهم إلّا الشاذّ قد فهم عنه من قوله «اللفائف» قضبان الكرم الغضّة. وقد ذكر زوكسس أنّ غلوكيس كتب مكان «من اللفائف» «من الصدف» المعروف «بالطلسس».
وقد تبيّن لنا من هذا القول أيضاً كما تبيّن لنا 〈من〉 أقاويل أخر كثيرة قبلت في هذا الكتاب أنّا ليس ننال منه منفعة. وذلك أنّه ليس نحصل منه إلّا أنّ رجلاً كانت غلبت عليه السوداء عرض له في بعض الأوقات أن تقيّأ شيئاً أسود بعد أن أكل قضبان الكرم أو صدفاً أو بصلاً فأعقبه ذلك بعض السكون من الوسواس السوداويّ الذي كان أو لم يعقبه سكون فإنّ هذا أيضاً قد ألغى ذكره. وقد نعلم من غير هذا القول أنّه قد يتقيّأ أصحاب الوسواس السوداويّ الشيء الأسود فيخفّ عليهم به أو لا ينتفعون به شيئاً.
وقد ألحق قوم مع ذكره «اللفائف» لفظة فكتبوا «تناول من اللفائف فأكثر» لأنّهم رأوا أنّ من الشنيع أن يقال إنّه أصاب إنساناً من أكله يسيرة من قضبان الكرم قيء أسود لاكنّه يشبه أن يكون أكثر منها فأصابته تخمة فثوّرت المعدة وهاجتها للقيء فخرج منها فيما خرج ممّا لم يكن اسم الخلط الغالب كان في بدن الرجل الذي كان به الوسواس السوداويّ.
(٥٦) قال أبقراط: الحمّيات في بعض الناس تقرح الشفتين وأخلق بها أن تكون ذوات فترات وغبّ برد ومنها ما يحسّها اليد حتّى تلقى البدن شديدة الإحراق ثمّ إنّها تحلّلت.
قال جالينوس: إنّ قوماً من المفسّرين لا يعرفون ذكر «البرد» في هذا القول لاكنّهم يكتبون هذا القول من غير ذكر «البرد» على هذا المثال: «الحمّيات في بعض الناس تقرح الشفتين وأخلق بها أن تكون ذوات فترات وغبّاً». ويزعمون أنّه يدلّ بهذا القول على هذا المعنى وهو أنّك إذا رأيت الشفتين تحدث فيهما في
الحمّى قروح فاستدلّ بذلك على أنّ تلك الحمّى حمّى لها فترات وسكون وإقلاع [و]في أوقات وخاصّة من الحمّيات التي تتولّد غبّاً. وأمّا من ألحق ذكر «البرد» فيزعمون أنّه أراد به أن يدلّ على الحمّيات الغبّ الخالصة. وذلك أنّ هذه الحمّيات يتقدّمها «برد» أعني «بالبرد» في هذا الموضع النافض.
وأمّا ما يتلو هذا من قول حين قال: «ومنها ما يحسّها اليد حتّى تلقى البدن شديدة الإحراق ثمّ إنّها تتحلّل» فيزعمون أنّ معناه فيه هذا المعنى وهو أنّ تشقّق الشفتين يدلّ على الحمّيات التي لها فترات وسكون في أوقات وخاصّة ما ينوب غبّاً ويدلّ أيضاً من الحمّيات الدائمة التي ليس لها فترات على ما كان منها شديدة الإحراق حارّاً عند أوّل ملمسة اليد للبدن ثمّ إنّها لا تلبث أن تنحلّ. ويعني بقوله «تنحلّ» أي تضعف وتخور وتخفى حتّى 〈لا〉 تظهر لها حرارة كما كان يظهر لها عند أوّل ملمسة.
وقد يحتاج من البحث عن أمر هذه «الحمّيات» هل هي أسهل الحمّيات كما قد يرى ذلك فيها جميع المفسّرين إلّا الشاذّ أو هي من أخبث الحمّيات كما رأى آل سابنس إلى أمر ليس باليسير. وقد قدّمنا في البحث عن ذلك في المقالة الأولى من كتابنا في تصنيف الحمّيات وأمّا في هذا الموضع فيكتفي أن أصف كيف كتب آل سابنس هذا القول وكيف قرؤوه وكيف جزّؤوه وكيف تأوّلوه على ما رأوا من الرأي: «الحمّيات في بعض الناس تقرح الشفتين وأخلق بها أن يكون ذلك منها إذا تركت». هذا القول كتبه سابنس مفرداً على حدته وعمل على أنّه قول بيّن — وذلك أنّه بالحقيقة قول بيّن واضح بحسب ما فيه من الألفاظ — ثمّ شرح القول الذي يتلوه مفرداً أيضاً على حدته. وأمّا قوم من تلاميذه فكتبوا هذا القول على هذه
النسخة: «الحمّيات التي تتقرّح فيها الشفتان في بعض الناس أخلق بها أن تكون حمّيات ذوات فترات» إلّا أنّهم لم يجدوا شيئاً مقنعاً في هذا القول.
وأمّا القول الثاني فكتبه سابنس على هذه النسخة: «البرد النائب غبّاً لا يسلم منه ويحسّ البدن منه حين تلقاه اليد شديد الإحراق ثمّ إنّ ذلك ينحلّ». هذه هي النسخة التي كتبها سابنس وأمّا قوم من تلاميذه فكتبوا هذه النسخة: «الحمّيات التي لا يسلم منها من حمّيات الغبّ هي الحمّيات التي يحسّها اليد متى تلقى البدن شديدة الإحراق ثمّ إنّها تنحلّ».
وقد قال سابنس إنّ هذا القول بعينه قد يكتب أيضاً على هذه النسخة: «الاقشعرار والنائب غبّاً لا يسلم منه» حتّى يفهم عنه من هذا القول الحمّيات التي تنوب غبّاً مع قشعريرة. قال سابنس: «ويزعمون أنّ هذه الحمّيات حمّيات خبيثة لأنّها من حمّيات الذبول والخمود التي يسمّيها اليونانيّون ‹مارسموس› وتدلّ على تحلّل الروح النفسانيّ وعلى أنّه كأنّه قد هرب خارجاً عن البدن وخلا باطن البدن من العناية بتدبيره». وقد بحثنا عن ذلك كما قلت قبل في كتاب غير هذا.
(٥٧) قال أبقراط: ينبغي أن تبحث إن كانت لا تتقيّح في المفاصل لمثل ما فيها.
قال جالينوس: أمّا سابنس فهكذا كتب وأمّا أكثرهم فكتب هذا القول بهذا اللفظ: «ينبغي أن تبحث هل إنّما صارت لا تتقيّح في المفاصل لمثل ما فيها». وقال أقربهم قولاً ممّا يقبل ويقنع به إنّ المعنى في هذا القول هذا المعنى وهو أنّه
ينبغي للطبيب أن ينظر في أمر الرطوبة التي تحويها المفاصل بالطبع: لعلّه إنّما صار كثير من الأورام التي تكون في المفاصل لا يتقيّح بسبب تلك الرطوبة. وذلك أنّها رطوبة مخاطيّة فإذا كثرت حتّى تبلّ اللحم الذي حول المفاصل أحدث أوراماً شبيهة بأورام أصحاب الاستسقاء المعروف «بالبلغم الأبيض» وهو الاستسقاء اللحميّ. وقد جرّب تلك الأورام قوم من الأطبّاء حين بطّوها وهم يظنّون أنّهم يجدون فيها مِدّة فلم يجدوا ما كانوا يرجون أن يجدوه لاكنّهم وجدوا اللحم كلّه الذي حول المفصل مبلولاً مخاطيّاً.
(٥٨) قال أبقراط: العادة من الأشياء التي بها تقوم صحّتنا من التدبير من الكنّ من التعب من النوم من الجماع من الفكر.
قال جالينوس: قد قلت شيئاً فيما تقدّم مراراً كثيرة وأنا مذكّر به أيضاً في هذا الموضع: أقول إنّ أكثر المفسّرين إن لم أقل كلّهم قد أجروا الكلام في جميع أشباه هذه من الأقاويل على اللغة العامّيّة من لغات اليونانيّين لا على لغة القوم منهم المعروفين «بإيونس» الذين منهم أبقراط وأمّا آل قابيطن وآل ديسقوريدوس فيكتبون جميع هذه الألفاظ على اللغة التي تخصّ إيونس. وأمّا أنا فقد استعفيتكم التمييز لأشباه هذا من الاختلاف فيما وصفته من التفاسير. وذلك أنّه يكتفيني أن أبحث
عن النسخ التي فيها اختلاف في المعنى وأمّا النسخ التي تؤدّي إلى معنى واحد فإنّما اختلافها في اللفظ فقط فإنّي قد رأيت إلغاء ذكرها.
وأنا في هذا القول أيضاً أقصد قصد المعنى فيه وأذكر ما ينتفع به منه في صناعة الطبّ وأدع السوفسطائيّين يثير الخصومة والإطالة في الألفاظ. فأقول إنّ أبقراط يشير على الأطبّاء أن يقصدوا بالنظر إلى «عادات» المرضى. ويكون قصدهم لذلك غير مقصّر عن قصدهم لغيره ممّا يقصدون إليه وذلك لأنّ كلّ واحد منّا إنّما فيه من الصحّة بحسب ما يخصّه من عادته فعادة كلّ واحد من الناس مؤلّفة من الأشياء التي لها يصحّ وهذه الأشياء التي بها يصحّ كلّ واحد منّا وهو أوّلها «التدبير» والثاني «الكنّ» والثالث «النوم» والرابع «التعب» والخامس «الباه» والسادس بعد هذه كلّها «الفكر».
«والتدبير» يقال في لساننا على معنيين أحدهما خاصّ والآخر عامّ. وأمّا المعنى الخاصّيّ الذي كان اسم «التدبير» أوقع عليه بالحقيقة ممّا يؤكل ويشرب وأمّا المعنى العامّيّ الذي يدلّ عليه اسم «التدبير» فقد يتّسع حتّى يشتمل على المهن والأعمال. وأعني بالأعمال ما نعمل بحركة وتعب عندما نكتب أو نقرأ أو نحسب أو نتغنّى أو نضرب بالعود أو نستجري أو نمشي إمّا قبل الطعام بقليل وإمّا بعد الطعام بقليل وإمّا بعده بكثير وإمّا بعد النوم على المكان وإمّا قبل النوم أو نركب ركوباً قصداً أو نفعل غير ذلك ممّا أشبهه. فإنّ جميع هذه الأشياء قد تدخل في المعنى الثاني الذي وصفته من المعنيين اللذين ينتظمهما اسم «التدبير» الذي يشتمل مع اشتماله مع الأطعمة والأشربة على الأعمال التي يعملها الناس.
وأمّا تذكرة «الكنّ» فقد احتوى على اللباس والخفاف والقلانس والعمائم والصدر التي تغطّي الساعدين والرانات وقد احتوى أيضاً لهذا الاسم من وجه آخر على البيوت والخيام والمغار والسفن المسقّفة. وأمّا «التعب» فمن البيّن أنّه يعني به الرياضة والرياضة هي الحركة القويّة الشديدة التي تكون منّا عندما نصارع أو ندافع أو نحفر أو نحصد أو نحذف أو نركض أو نستعمل السلاح أو نعالج غير ذلك ممّا أشبهه ممّا قد يخطئ ويصيب فيه الناس أعظم الخطأ وأعظم الصواب. «وللنوم» أيضاً مقدار يقوم به الصحّة 〈و〉وقت ينبغي أن يكون فيه وينبغي أن يكون الطبيب عارفاً بهما وكذلك الأمر في «الباه». وكما أنّ معرفة جميع هذه بالجملة ممّا قد ينتفع به الأطبّاء [و]كذلك ينتفعون بمعرفة كلّ واحد من المرضى في تلك الأجناس الستّة كلّها التي ذكرتها وذلك أنّهم ينالهم ممّا لم يعتادوه ضرر 〈و〉تنالهم ممّا قد اعتادوه منفعة.
وأمّا الجنس السادس بعد هذه الأجناس كلّها فهو «الفكر» وقد كان أبقراط ألغى ذكره فيما تقدّم حين قال: «التعب والأطعمة والأشربة والنوم والباه كلّها يكون قصداً». وقد كان ألغى في هذا القول ذكر «الكنّ» لأنّه أمر معروف عند جميع الناس وليس فيه كبير معنى يخصّ صناعة الطبّ. وأمّا ذكر «الفكر» فقد ألحقه في هذا القول وألغاه في القول المتقدّم وألحق مكانه «كلّها يكون قصداً». وقد يمكن أن يكون المعنى فيما ألحقه في هذا القول وفيما ألحقه في ذلك القول معنى واحد وذلك أنّه قد ذكر الموادّ في ذلك القول وفي هذا القول التي تكون به صحّتنا
ومرضنا ثمّ إنّه أتبع ذكره في ذلك القول بهذه الأشياء التي ذكرت إذا استعملت استعمالاً قصداً كانت عنها الصحّة فأحسن في ذلك. وأتبع ذكرها في هذا القول بذكر «الفكر» الذي به توجد وتستخرج وتقدّر كمّيّة كلّ واحد من هذه الموادّ التي ذكرها وكيفيّتها والوقت الذي ينبغي أن تستعمل فيه. فساق هذا القول إلى المعنى بعينه الذي ساق إليه ذلك القول الأوّل الذي قال فيه: «يكون كلّها قصداً» وذكر بذكره «الفكر» الشيء الذي يوجد به ما يوجد ويقدّر به ما يقدّر وذكر بذكره «القصد» في جميعها نفس الشيء المقدور والموجود.
وقد يمكن أن يكون «الفكر» في بعض الأحوال واحداً من الأسباب التي هي أسباب للصحّة والمرض. وذلك من قبل أنّ الذين يغضبون من كلّ سبب ويختلطون ويغتمّون ويفزعون من أدنى سبب فإنّهم كثيراً ما يقعون في العلل بهذا السبب ويعسر خروجهم من تلك العلل ومنهم من يموت لا برداءة مرضه لاكن لرداءة ذهنه وفكره. ومن ذلك أنّي أعرف عدداً كثيراً من الناس غلب عليهم الخوف من الموت فأمرضهم ذلك الخوف أوّلاً ثمّ إنّه قتلهم من بعد. وبعضهم أوقعهم في ذلك الخوف منام رأوه وبعضهم أوقعهم في ذلك ضرب من التفأّل والزجر أو من آيات بديعة ظهرت لهم أو من سقوط صاعقة ومنهم من أوقعهم فيه دليل رأوه في أحشاء ذبيحة أو زجر من بعض الطيور مثل الذي أصاب مايندرس الزاجر. فإنّ ذلك الرجل قد نزل به من خوف الموت ما أدّاه إلى الموت فضلاً عن المرض وكانت قصّة مايندرس هذا:
إنّه كان رجلاً من أهل موسيا المنسوبة إلى ألسبنطس وهي جزء من آسيا بلدنا وكان أكثر مقامه ببلدنا برغامس وكان دائم الاستعمال فيها للزجر. وذلك أنّه كان هذا معاشه وحرفته وكان يجده جميع من جرّبه ويشهد له بالحذق في صناعته. وكان من عادة مايندرس هذا في كلّ سنة في وقت مولده أن يسأل ﷲ عزّ وجلّ أن يظهر له علامة بذلك كيف تكون حاله في سنته المستقبلة. فخرج على عادته للزجر في سنة من السنين فرأى عقاباً تطير بشكل يدلّ على الموت فصحّ في نفسه أنّ ذلك دليل لا يمكن معه أن يسلم. فانصرف إلى المدينة من موضع الزجر وقد انخرط وقضف واصفرّ لونه حتّى جعل من تلقّاه يسأله لعلّ به ألماً في شيء من بدنه فجعل يصدقهم الحقّ. ثمّ عرض له أن سهر لياليه كلّها وأرق وبالنهار لا يزال الغمّ يذوّبه. ثمّ إنّه بأخرة استولت عليه حمّيات يسيرة دقيقة فلمّا عرضت له الحمّيات اشتدّ سوء ظنّه حتّى يئس من نفسه أصلاً ولزم الفراش فمات بعد شهرين من وقت مولده بأن ذاب بدنه قليلاً قليلاً حتّى انحلّ.
وأعرف آخر اغتمّ بسبب مال ذهب عنه فحمّ فتمادى به الزمان ولزمته الحمّى وكان في نومه يتوبّخ على ما ذهب له ويتأسّف ويضطرب حتّى ينتبه وفي مدّة وقت الانتباه لا يزال يذوب من الغمّ. ثمّ إنّه اختلط فوقع في السرسام ثمّ إنّه بأخرة كان معه اختلاط عقله يبوح على ما قاله فلم يزل بهذه الحال حتّى مات.
ورأيت بروميّة منذ قريب رجلاً من النحويّين يقال له قلسطوس وقد احترقت له كتب في حريق عظيم كان وقع بروميّة احترق فيه المصلّى المعروف «بمصلّى السلم». فاغتمّ ذلك الرجل وسهر وأرق فابتدأت به أوّلاً حمّيات ثمّ إنّه بأخرة بعد مدّة ليست بالطويلة ذاب من الغمّ حتّى مات.
وقد رأيت من غير هؤلاء عدداً كثيراً من الناس ذابت أبدانهم حتّى ماتوا إمّا من غمّ وإمّا من ظنّ رديء وقع في الفكر. وأنا أقتصر على ذكر واحد أو اثنين منهم إذ كان عددهم عدداً كثيراً وأذكر أوّلاً قصّة أمّ أنوسطس معلّم الفرائض. وكانت قصّة هذه المرأة أنّه بلغها أنّ امرأة أخرى كانت تودّها وكان سنّ تلك المرأة سبعين سنة خرجت إلى الموضع الذي †ٮسٮى† فيه فمشت هنالك ثمّ انصرفت إلى منزلها بعد أن بعدت. ثمّ إنّها استلقت على سريرها وطلبت شيئاً تشربه فقال لها الغلام: «إنّي أجيئك به الساعة». فنامت من قبل أن يجيئها الغلام فتمادى بها الزمان حتّى أنكر ذلك من كان حوله. فصيّح بها فلم تجب فاضطرّ خدمها إلى أن حرّكوها ونخسوها فلم تنتبه. فجعلوا يتفقّدون أمرها ويلتمسون أعضاء البدن منها لينظروا ما حدث بها فوجدوا بدنها كلّه قد برد وعلموا بالصحّة أنّها قد ماتت فجعلوا يغطّونها †بالميته† التي ماتت بها. فلمّا بلغ ذلك أمّ نسوطس ويشبه أن تكون قد كانت تفزع من الموت امتنعت من النوم وجعلت لا تستلقي لطلب النوم على عادتها الأولى فذاب بدن هذه أيضاً بسبب السهر ثمّ ابتدأت بها الحمّى ثمّ لم تلبث إلّا أربعة أيّام منذ أوّل ما بلغها تلك القصّة حتّى هلكت.
وأعرف رجلاً من أهل قبادوقيا اعتقد قولاً شنيعاً فأدّاه ذلك الوسواس السوداويّ ثمّ مات. وكان الظنّ الذي وقع فكره من أشدّ الظنون استدعى لما يضحك منه
وذلك أنّ معارفه جعلوا يرونه عابساً فيسألونه عن سبب اغتمامه فجعل يجيبهم وهو يتنفّس الصعداء ويقول إنّه يخاف على العالم كلّه أن يتهاوى وإنّ غمّه إنّما هو بسبب ذلك من قبل أنّ الملك الذي يزعم الشعراء أنّه يحمله ويسمّونه «أطلس» إذ كانت قد طالت مدّة حمله له هذا الطول كلّه بأنّه قد خار وأعيى فليس يؤمن به على السماء أن تقع إلى الهاوية فتنكسر.
وقد سمعتم منّي مراراً كثيرة قصّة المرأة التي ظنّت أنّها قد ابتلعت حيّة وقصّة الرجل الذي ظنّ أنّ ميّتاً نادى به وهو يمرّ في طريق القبور وقصّة الرجل الذي أفلتت منه ريح بحضرة قوم فذاب من الغمّ حتّى مات. فقد ينبغي للطبيب أن ينظر عند حاجته إلى وجود الأشياء التي يداوى بها المرضى مع ما ينظر من سائر أجناس الموادّ في «الفكر» أيضاً. وذلك أنّ برء من كان سبب علّته الفكر إنّما يكون بتسكين الظنّ الكاذب الذي وقر فيه لا بالأطعمة والأشربة والكنّ والاستحمام والمشي وسائر ما أشبه ذلك.
وقد يمكنك أن تدخل في جنس «الفكر» الصبر والتجلّد والحزم والفشالة وطلق النفس والشره والمهانة والاسترخاء فتكون في ذلك مصيباً. وذلك أنّ كثيراً من الناس يقعون في الأمراض بسبب فشالتهم وقلّة ضبطهم لأنفسهم ومهانة أنفسهم وإذا وقعوا في تلك العلل ماتوا منها كما أنّ كثيراً من الناس قد يسلم بضبطه لنفسه وحزمه
وتجلّده وصبره ويبقى على صحّة أطول المدّة بهذه الأسباب بأعيانها. ولن يخطئ أيضاً من أدخل العشق في جنس «الفكر».
وكان الأجود أن يكون المفسّرون قد شرحوا هذه المعاني ولن يقصدوا للخصومة في الألفاظ أو للدعوى فإنّهم قد وقفوا على معاني الأقاويل المستغلقة التي تجري مجرى الرمز وقوفاً صحيحاً.
(٥٩) قال أبقراط: كيف الأمراض ومن أيّ الأشياء والأشكال والمواضع التي إليها وتولّد ما تولّد وابتداء ما ابتدأ وحضور ما حضر وسكون ما سكن.
قال جالينوس: إنّ أوّل ما ذكره في هذا القول لم يرتّبه الترتيب الذي ينبغي 〈و〉ذلك أنّه كان ينبغي أن يكتبه على هذا المثال: «الأمراض كيف» حتّى يفهم عنه مدغماً في هذا القول أنّه ينبغي أن ينظر كيف حدثت. وأمّا قوله «من أيّ الأشياء» فمساوٍ لقوله لو قال: «من أيّ أعضاء البدن ابتدأت».
ثمّ ذكر بعد هذا «الأشكال» وأومأ بذلك إلى أنّه ينبغي أن ينظر فيها. وقد يسهل ويقرب أن يفهم عنه من قوله «الأشكال» أشكال المضجع إلّا أنّ أشكال الأدوار من الحمّيات هل تكون في يوم أو غبّاً أو ربعاً فإنّ هذا هو اختلاف الحمّيات في أشكالها أو سائر الأمراض.
ثمّ كتب بعد هذا: «المواضع التي إليها» حتّى يفهم عنه من قوله «المواضع» أعضاء البدن التي غاضت إليها الأخلاط التي عنها كان حدوث الأمراض. وقد كتب قوم مكان «المواضع» «الضروب» لتقارب هذين الاسمين في لساننا وزعموا أنّه يعني «بالضروب» اختلاف الأمراض الذي به صارت إلى حدوثها ثمّ إلى التزيّد بعد ذلك ثمّ إلى الاستكمال.
وقد دلّ على هذه الأمور بالألفاظ التي أتى بها بعد وذلك أنّه قال: «وتولّد ما تولّد وابتداء ما ابتدأ وحضور ما حضر وسكون ما سكن». وأمّا قوله «تولّد ما تولّد» فذهب فيه إلى ذلك المعنى بعينه الذي يقال على الحبل إنّه قد تولّد الجنين في الرحم ومعنى «التولّد» ومعنى «الحبل» في لساننا معنى واحد. ويقال «التولّد» على الأمراض بالاستعارة على طريق التشبيه بتولّد الجنين في وقت الحبل كما قال أبقراط في كتاب الفصول: «إنّ انقلاب أوقات السنة ممّا يعمل توليد الأمراض خاصّة».
وأمّا قوله «ابتداء ما ابتدأ» فدلّ به على حدوث الأمراض الظاهرة. وذلك أنّ لحدوث الأمراض وقتين أوّلين أحدهما أقدم أوقاتها ويشبه الحبل وهو الوقت تجتمع فيه وتتزيّد في الأبدان الأسباب التي هي مزمعة بأن تولّد المرض. وذلك أنّ الامتلاء أو الفساد من الأخلاط ليس يحدث دفعة في يوم واحد في أبدان الحيوان. والوقت الثاني هو إذا ابتدأت الأبدان تمرض من هذه الأسباب التي اجتمعت وتزيّدت فيها ثمّ الوقت الثالث إذا انقضى حدوثها وبقي وجودها ثمّ الوقت الرابع إذا هي انحلّت وانقضت. وقد زعم قوم أنّ جميع هذه الأشياء إنّما قيلت في الحبل وتولّد الأجنّة وأنّ هذا القول جرى منه لا على الاستعارة على طريق التشبيه لاكن على حقائق ما فيه من الألفاظ وهو يأمر فيه أن ينظر إلى أشكال الأجنّة وسائر ما يعرض فيها في وقت حملها وفي وقت ولادها وفي وقت نشئها وفي وقت استكمالها. إلّا أنّ نسق جملة هذا الكلام ليس بالمحتمل لهذا التأويل احتمال مطابقه.
(٦٠) قال أبقراط: الأشياء التي يكون فيها غير ضابط لنفسه بحال هوى.
قال جالينوس: أمّا كلّ واحد ممّن فسّر هذا الكتاب فقد قسّم جميع هذه الأقاويل التي قيلت والأقاويل التي تقال فيها بعد تقسيماً مخالفاً لما قسّمه به غيره وأمّا أنا فإنّي أقتصر من القسمة والتأويل على ما هو أقرب إلى ما يقبل ويقنع به. فأقول إنّي أتوهّم أنّ أبقراط يشير في هذا القول علينا أن ننظر في أنّ المرضى ينبغي أن يحذر قلّة «ضبطهم لأنفسهم» حتّى نأذن لهم في بعض الأشياء أن يفعلوا بها ويهوون ولا نضايقهم من الشيء الذي يهوونه إذا كان مقدار نقصانه في الموافقة عن شيء آخر يسيراً حتّى يصيروا بسبب ذلك لنا أعداء فيعصونا في سائر الأشياء ولا يقبلون منّا ما نشير به عليهم.
فقد علمتم منّي أنّي أسهل هذا كثيراً فأصيّر به كثيراً من الناس ممّن في غاية قلّة الضبط لنفسه إلى الطاعة لي في كلّ شيء حتّى يعجب جميع من رآهم كيف تهيّأ هذا لي فيهم. وليس يكون هذا بشيء سوى هذا الطريق الذي وصفته في هذا القول حتّى ربّما أذنت لهم في الشيء الضارّ إلّا أنّ مضرّته لا تبلغ أن تقتلهم وأطلقت لهم فيه أن يركبوا هواهم فارتهنت بذلك منهم الطاعة في جميع الأشياء الأخر.
وكثير من الأطبّاء يستخفّون بطاعة المرضى ولا يظنّون أنّ فيها كبير درك. إلّا أنّ من كان من الأطبّاء له عقل فإنّه قد يحلّ عنده قدر استدعاء الطاعة من المريض الذي يعالجه ويلتمس شفاءه بكلّ وجه وخاصّة بأن يتقدّم فيخبره بالأشياء الحاضرة والأشياء المستأنفة وبمساعدته له في بعض الأوقات على ما يقلّ ضبطه لنفسه عنه إذا لم يخف منه الضرر العظيم.
فقد دعيت إلى مرضى كانت قد جرت عادتهم في وقت صحّتهم أن يدخلوا الحمّام في كلّ يوم مرّتين فأذنت لهم مراراً كثيرة عندما تشوّقوا إلى الحمّام من قبل الوقت الذي ينبغي فيه استعمال الحمّام. وعلى هذا الطريق أيضاً أذنت لبعض المرضى في شرب الماء البارد ممّن كان منهم يشرب الماء دائماً في وقت صحّته وأذنت لبعض المرضى ممّن كان لا يقدر أن يشرب الماء القراح بتغيّره بالشراب المتّخذ بالسفرجل أو بالتفّاح وكثيراً ما أطعمتهم الفواكه إذا ما لم أخف عليهم منها كبير مضرّة.
وقد قال أبقراط بالجملة في كتاب الفصول إنّ ما كان من الطعام والشراب أخسّ قليلاً إلّا أنّه ألذّ فينبغي أن تختاره على ما هو منهما أفضل إلّا أنّه أكره. وأتوهّم أنّه في هذا القول أيضاً إنّما قصد لهذا المعنى بعينه فأمرنا أن ننظر أيّ الأشياء ممّا يقلّ ضبط المريض لنفسه عنه ما نخاف عليه منها حتّى نقصد للحذر من تلك الأشياء فقط ونسامحه في سائر الأشياء.
وأضرب مثلاً في ذلك لتفهم به هذا القول. فأنزل أنّ إنساناً أصابته غبّ في وقت صائف وقد كانت جرت عادته في صحّته أن يدخل الحمّام في كلّ يوم مرّتين. أقول إنّا نأذن لصاحب هذه الحال إن اشتاق إلى الحمّام شوقاً شديداً أن أدخله الحمّام في الأيّام التي لا يحمّ فيها وأمّا من خفنا عليه الاستسقاء فإنّا نمنعه من الحمّام. وكذلك من أصابت في وقت صائف حمّى من مرار محرقة فأعطشته
إعطاشاً شديداً ثمّ كان قد اعتاد في وقت صحّته أن يشرب البارد فإنّا نأذن له في تلك الحال أيضاً أن يشرب البارد في أوقات منتهى نوائب الحمّى وأوقات انحطاطها ونمنعهم من شربه في أوقات 〈ابتداء〉 نوائب الحمّى وفي أوقات تزيّدها. وأمّا من كانت به علّة بلغميّة في الشتاء وخاصّة إن كان شيخاً فإنّا لا نأذن له في شرب البارد.
وأنت تقدر من هذه المثالات أن تجري هذا القياس على أمراض كثيرة وتجعل أغراضك في ذلك طبيعة المرض وعادة المريض ومزاجه الطبيعيّ وسنّه والوقت الحاضر من أوقات السنة والبلد الذي هو فيه. فهذا هو عندي أفضل التأويلات في هذا القول.
وقد تلطّف قوم من المفسّرين ممّن ليس هو فيهم بخسيس القدر لتأويل آخر في هذا القول ليس بالبعيد ممّا يقبل ويقنع به. وذلك أنّهم زعموا أنّ أبقراط يأمر في هذا القول أن ينظر في الأشياء التي يوجد فيها حنان وزعموا أنّه إنّما عنى بقوله «بحال هوى» أي «حنان» بروقه. وإنّما ينتفع بهذه المعرفة في من يسامح فيه المرضى أيّ الأشياء التي يوجد المريض قليل الضبط لنفسه وفي أيّ الأشياء يوجد قليلاً ممّا يقلّ فيه ضبطهم لأنفسهم وممّا يحبسون عنه. وقد وصفت الحال في قلّة الضبط للنفس قبيل كيف هي.
وأمّا الحال في «الجبن» فإنّي واصفه من ذي قبل. أقول إنّك تجد من المرضى من هو في غاية المؤاتاة لك إذا أردته على الفصد وتجد منهم من هو في غاية الجبن عنه وكذلك تجد بعضهم يجبن عن الإسهال والقيء أو عن الحقن وتجد بعضهم جسوراً عليها وعلى هذا القياس تجد في أمر سائر أصناف المداواة
والعلاج. فينبغي للطبيب أن ينظر في مقدار المضرّة التي ينال المريض إذا عولج بذلك العلاج أو لم يعالج به فعلى حسب ذلك ما يتبيّن لك من ذلك فيكون تباعده ما أمكنه من العلاج الذي يجبن عنه المريض وانصرافه إلى صنف آخر من العلاج ممّا هو في نفس المريض علاج سليم نافع له.
(٦١آ) قال أبقراط: التدبير المضادّ للمرض الاستقلال والاستثقال.
قال جالينوس: إنّ بعضهم يقرأ هذا الكلام على أنّه قول واحد وبعضهم يقسمه فيصيّره قولين. وأمّا [فـ]ـمن وصل كلّ واحد من جزئي هذا القول بما تقدّمه أو بما يتلوه فإنّي مبلغ ذكره وأنا ذاكر أوّلاً قسمة هذا الكلام الذي صار بها قولين ثمّ أذكر بعد اتّصاله الذي صار به قولاً واحداً.
إنّه ينبغي أن يتوهّم أنّ تدبير المرضى هو ما كان منه مضادّاً للمرض أعني أنّه ينبغي أن يستعمل من التدبير في المرضى ما كان منه مضادّاً للمرض. فقد قلنا في ذلك وأتينا عليه بالبرهان مراراً كثيرة أعني أنّ «شفاء الضدّ إنّما يكون بضدّه» وأمّا المثل فهو للمثل تدبير حافظ للصحّة. فيكون معنى هذا القول مفرداً على حدته هذا المعنى.
ويكون ما بعده قولاً ثانياً يأمرنا فيه أن ننظر في «الاستقلال» وفي «الاستثقال» في كلّ واحد من الأشياء التي يفعلها الأطبّاء يطلبون بها الشفاء. فقد وصفنا هذا لكم أيضاً مراراً كثيرة وقلنا إنّ الشفاء إذا كان من تلقاء نفسه أو من الطبيب فاستقلّ به المريض واحتمله بسهولة وخفّ به فإنّه ممّا ينبغي أن يوثق به ويسكن إليه ومتى كان الأمر على ضدّ ذلك حتّى يستثقله المريض ولا يحتمله بسهولة ولا يخفّ به بل يثقل فينبغي أن نفهمه ونزيله.
ويمكن أن يوصل هذان القولان فيجعلا قولاً واحداً على هذا المثال: إنّ تدبير المريض إنّما يمتحن ويسير ويصحّ أنّه مضادّ لمرضه «بالاستقلال والاستثقال» من المرضى به. وذلك أنّه إن كان مستقلّاً به محتملاً له بسهولة فهو «تدبير مضادّ للمرض» وإن كان مستثقلاً له غير محتمل له فليس هو «تدبيراً مضادّاً لمرضه».
(٦١ب) قال أبقراط: الاستقلال والاستثقال في التدبير.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد قسموا هذا الكلام هذه القسمة حتّى أفردوا هذا القول فجعلوه قولاً واحداً على حدته. والمعنى فيه هذا المعنى: إنّه ينبغي أن تكون الأغراض «في التدبير الاستقلال والاستثقال» حتّى يقصد لما يستقلّ به المريض ويخفّ به فيبحث ويلزم ما يستقلّ به ولا يحتمله ويجدر.
(٦٢آ) قال أبقراط: التدبير بمقدار مبلغ الفكر وليس يستقصى علمه وذلك لأنّ البلايا كثيرة والتشابه قد يوقع الطبيب الحاذق في الخدعة والحيرة من الغيرين والضدّين.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد يكتبون هذا الكلام على أنّه قول واحد وتأوّلونه على هذا المعنى الذي كتبه روفس من أهل أفاسس بهذا اللفظ: قال روفس: «إنّ أبقراط في هذا القول يبيّن لنا أنّه ليس يمكن أن ‹نعرف› أمر ‹التدبير على الاستقصاء› لاكنّه قد يكتفي بأن نعلم منه ‹مبلغ› ما يمكننا أن نعلم». ثمّ إنّه أخبر بالسبب الذي له صرنا لا نصل إلى تعرّف أمر «التدبير» على الحقيقة فقال: «وذلك لأنّ البلايا كثيرة» ويعني «بالبلايا» الأسباب التي منها يبتلي الناس بكلّ واحد من الأمراض. فلمّا كان كلّ تدبير إنّما يقدّر بحسب سبب المرض وكانت أسباب كلّ واحد من الأمراض كثيرة فإنّه يجب ضرورة ألّا نصل إلى تقدير التدبير على الحقيقة والاستقصاء على حسب ما يحتاج إليه في كلّ واحد من الأمراض. ويجب ضرورة أن «يقع حذّاق الأطبّاء» بسبب «التشابه في الخدعة والحيرة» إلّا أنّ من كان من الأطبّاء أقلّ فهماً فإنّه يتوهّم على الأشياء التي هي متشابهة وليست شيئاً واحداً بعينه أنّها هي واحد بعينه وأمّا من كان من الأطبّاء أفضل وأجود فهماً فإنّه قد يدرك الاختلاف في جميع الأشياء التي يظنّ أنّها متشابهة جدّاً.
(٦٢ب) قال أبقراط: التدبير في مقدار ما يعرف منه ليس تستقصى معرفته وذلك لأنّ البلايا كثيرة.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد جعلوا تأويل هذا الكلام على هذه النسخة وعلى هذه القسمة هذا التأويل: إنّه ينبغي أن يكون مع ما ذكر من أمر «التدبير» كمّيّته «ومقداره» في كلّ واحد من أصنافه مقدار محمود كأنّه قال إنّه ينبغي أن يعلم كم مقدار ما ينبغي أن يدبّر به المريض من كلّ واحد من أصنافه فإنّه إن لم تستقص
معرفة ذلك حدثت من ذلك بلايا كثيرة للمريض. ومن تأوّل هذا الكلام هذا التأويل لم يكرث بشناعة العبارة وذلك أنّه قد توجد أقاويل كثيرة في هذا الكتاب قد عبّرت بمثل هذه الألفاظ. وأمّا العبارة الصحيحة المنسوبة لهذا المعنى فكانت تكون بهذا اللفظ: إنّه إن لم تستقصى معرفة مقدار التدبير حدث على المريض من ذلك بلايا كثيرة.
وقد حرّف قوم اللفظة التي كان معناها «تستقصى معرفة» بعض التحريف فصار به معناها «يفشى» ووصلوا ذكر «التدبير» بما قلته وحرّفوا ما يتلوه حتّى صار على هذا المثال:
(٦٢جـ) قال أبقراط: ما ينبغي أن يعلم ولا يفشى وذلك أنّ البلايا كثيرة.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قد يوجد مكتوباً على هذه النسخة أيضاً في بعض الكتب. ومن وطّن نفسه من هذا القول على أنّه قول قيل بعبارة مبتورة على طريق الإيماء فهم عنه هذا المعنى: إنّه قد ينبغي للطبيب أن ينظر في الأشياء التي ينبغي له أن يعلمها ثمّ «لا يفشيها» ولا يفضي بها إلى غيره وذلك أنّ «البلايا» التي تلحق من لم يقدر على السكوت والكتمان «كثيرة».
وهذا القول قول صحيح حقيقيّ إلّا أنّه ليس بجزء من الطبّ لاكنّه إنّما هو وصيّة لمن يعالج الطبّ وقد يوصي كثير من الأطبّاء مراراً كثيرة أشباه هذه من
الوصايا كالذي فعل أبقراط عندما أشار علينا في كتاب الكسر والخلع بأن نهرب من علل من العلل ونتضمّن علاج علل من العلل. أمّا العلل التي نهرب منها فالعلل التي رداءتها في بعض أمرها أعظم ممّا يظهر منها لجمهور الناس وأمّا العلل التي نتضمّن علاجها فالعلل التي هي على ضدّ ذلك حتّى يكون ما يتحلّل من ظاهر أمرها أعظم وتلبّثها في باطن أمرها أنقص. وكما أشار أبقراط بهذه الأشياء على الأطبّاء كذلك يزعمون أنّه أشار في هذا القول عليهم أن يستقصوا البحث والتفتيش عن جميع أمور المرضى ويستروا بعضها بالكتمان والسكوت وذلك أنّه تلحق من يفشي أسرارهم بلايا عظيمة.
وممّا لا يمكن لنا أن نتبيّن حقيقته ما يكتب عليه هذا الكلام هل هي على هذه النسخة أم لا وهل يدلّ على أنفسهم أن تنالهم بليّة من السلطان وأقوام آخرون كانوا يخافون على أنفسهم داهية من السمّ وأقوام آخرون كانت بهم علّة فيما يلي المقعدة أو في ناحية الفرج وكانوا يكتمون أحوالهم فرأوا هم أولائك الأطبّاء في عللهم حتّى برئوا منها فلمّا أفشوا أسرارهم إلى قوم آخرين وقعوا من ذلك في بلايا عظيمة. وقد وجدنا ذلك فلزمنا الصمت والسكوت عن أشباه هذه من الأشياء.
فإنّي قد أعرف من قد ابتلى بالعشق من الرجال ومن النساء فعرض لهم بسبب ذلك خبث النفس والسهر ثمّ إنّهم حمّوا حمّى يوم من سبب غير العشق. فجعل
الأطبّاء الذين كانوا يتولّون علاجهم أمرهم فداووا أبدانهم بالمنع من الاستحمام وبالسكون وبالتدبير اللطيف. فلمّا وقعنا نحن على أمرهم وعلمنا أنّ الذي يفنيهم إنّما هو عشق عمدنا إليهم من غير أن نخبرهم بما وقعنا عليه من أمرهم فضلاً عن غيرهم فجعلناهم إلى الاستحمام وإلى شرب الخمر والركوب وإلى ما يرى أو يسمع ممّا يلهّي وصرفنا أفكارهم إلى هذه الأشياء. ومنهم من ألقينا في قلبه خوفاً من ذهاب ماله أو من مكيدة من سلطان أو من شرب سمّ أو من غير ذلك ممّا أشبهه كيما يصرف أفكارهم إلى تلك الأشياء وذلك أنّ من اشتغل فكره دائماً بالعشق فإنّ مرضه مرض يعسر برؤه منه.
وقد ينبغي في بعضهم أن يهيّج منهم أنفاً من الضيم ومحبّة للمباراة وإيثاراً للغلبة فيما بينهم وبين غيرهم بقدر غرض كلّ واحد منهم في السيرة التي اختارها لنفسه. وذلك أنّ بعض الناس يكون مغرى بمحبّة المبارزة والمبارزين وبعضهم يكون مغرى بمحبّة الرقص والرقّاصين وبعضهم يكون مغرى بمحبّة الصراع والصرّاعين أو الغناء والمغنّين أو الزمر والزامرين وبعضهم مغرى بالقتال بالسمّان أو بالديوك أو بالحجل وبعضهم بالصيد بالكلاب. وقد ينبغي أن يهيّج من كلّ واحد من هؤلاء الأنفة ويلقي في نفسه محبّة المبارزة والمغالبة لمن يتعاطى ما يتعاطى بأن يقال لهم بأنّهم يتنيّلونهم وينتقضونهم ويستخفّون بهذيانهم فيوهّمون أنّ لهم من الكلاب أو من
القنّاصين أو من الخيل أو من الغلمان المصارعين أو من السمّان أو من الديوك أو من غير ذلك ممّا يعني به كلّ واحد منهم ويطلبه ويتعاطاه أجود ممّا لهم.
ولمّا كنت قد تعرّفت أحوال كثير من أصحاب علل النفس وداويتهم من عللهم تلك حتّى خرجوا عنها وبرئوا منها حتّى سألني أصحابي أن أكتب لهم كتاباً فيه تقدمة المعرفة التي استعملتها في أولائك الأعلّاء فإنّي قد كنت كتبت كتاباً مفرداً في تقدمة المعرفة وجعلت عنوانه هذا العنوان. إلّا أنّ ذلك الكتاب بعد أن وضعته بقليل احترق في الحريق العظيم الذي احترق فيه المصلّى بروميّة المعروف «بمصلّى السلم» مع كتب أخر كثيرة احترقت لي هنالك ولا أرى أنّه أحد نسخه الكتاب بعد الكتّاب من تلك الكتب غير بعض من انتسخها منّي. وأنا أرجو أن أجد أيضاً ذلك الكتاب فلذلك أخّرت عادة وضعه إلى هذه الغاية فإن أنا وجدته 〈…〉 وإلّا فإنّي سأعدّ وضعه مع وضع غيره ممّا احترق في ذلك الحريق. فلنرجع الآن إلى شرح ما يتلو ما قد تقدّمنا بشرحه.
(٦٢د) قال أبقراط: والتشابه قد يوقع الطبيب الحاذق في الخدعة والحيرة.
قال جالينوس: أمّا المعنى في هذا القول فليس بالخفيّ وذلك أنّه إنّما يعني به أنّ «التشابه» في الأمراض «قد يوقع أفضل الأطبّاء» فضلاً عن أخسّائهم «في الخدعة والحيرة» لاكنّه قد ينبغي أن ننظر كيف يوافق هذا القول ما قيل قبله. والأمر عندي أنّ النسخة التي يكتب فيها أوّل هذا القول على ما أنا كاتبه من بعد والتأويل فيها هما موافقان لهذا القول وتلك النسخة هي على هذا المثال: «التدبير بمقدار ما يبلغ من علمه وليس يستقصى علمه وذلك أنّ البلايا كثيرة».
وأمّا تأويل هذا القول فكان على هذا المثال: إنّ علم أمور التدبير كلّها وخاصّة الحدس في كمّيّته إنّما يبلغ منه الأطبّاء المبلغ الذي يعرفون به ما ينبغي لهم أن يستعملوه. وليس يقدرون أن يقفوا بغاية الاستقصاء على مقداره بالحقيقة لاكنّ أفضل الأطبّاء هو أقربهم حدساً من المقدار الذي ينبغي أن يقدّر به الغذاء. وذلك أنّه ليس يمكن أن تستقصى معرفة مقدار كلّ واحد من الأشياء التي يدبّر بها المريض ولا يستكمل العلم من قبل أنّ «البلايا كثيرة» يعني بذلك أنّ لأسباب كثيرة تحدث علّة واحدة بعينها. فإذا صار «التشابه» قد يوجد في أصحاب العلّة الواحدة بعينها صار لا يسهل وجود المقدار الذي يخصّ كلّ واحد من أولائك الأعلّاء ولا على أفضل الأطبّاء فضلاً عمّن سواهم.
(٦٢هـ) قال أبقراط: الغير والضدّين.
قال جالينوس: إنّ قوماً قد يصلون هذا بما تقدّم قبله وبعضهم يجعلونه ابتداء القول الذي يتلو هذا. وذلك أنّه لمّا كان هذا الكلام كلاماً غامضاً غير بيّن فإنّ المفسّرين استعملوا فيه الحدس والظنّ فتأوّل فيه كلّ واحد منهم خلاف ما تأوّله الآخر. وليس لأحد أن يلزمهم ويذمّهم على ما استعملوه من الحدس والذكاء وذلك أنّ كلّ واحد منهم إنّما أبدى لنا مبلغ فطنته وفهمه. لاكنّا إنّما نذمّ منهم أنّ كلّ واحد منهم يظنّ أنّ معنى أبقراط ليس هو شيئاً غير ما توهّمه هؤلاء 〈ولا〉 يعلمون أنّ بين الممكن وبين الاضطراريّ فرقاً عظيماً ولا أنّ غيرهم قد يمكنه أن يأتي بتأويل آخر هو في الإمكان مثل تأويل كلّ واحد منهم. والأجود فيما أشبه هذه
من الأقاويل أن يؤتى في كلّ واحد منها بتأويلين أو بثلاثة أو بأكثر من ذلك إذا كانت جميع التأويلات في الإمكان بحال واحدة وهذا ما ينبغي أن يكون له ذاكراً دائماً.
وأنا راجع إلى ما كنت قصدت له فأقول إنّ بعضهم كما قلت قد وصلوا هذا الكلام الذي تقدّم فكتبوا جملة هذا القول على هذا المثال: «والتشابه قد يوقع الطبيب الحاذق في الخدعة والحيرة من الغيرين والضدّين». ويزعمون أنّ المعنى في جملة هذا القول أنّ أفضل الأطبّاء فضلاً عن غيره قد يوقعه التشابه في الأمراض في الخدعة والحيرة حتّى ربّما ظنّ أنّ هذه العلّة التي يراها 〈العلّة التي رآها〉 قبل بعينها وليس ما يرى بالحقيقة إلّا من ذلك العلّة ما رآه قبل لاكنّه غيره ويظنّ أيضاً في بعض الأحوال عللاً أخر 〈…〉 يتوهّم أنّها متضادّة وحال البدن فيها حال واحدة مثل احتباس البول وانطلاقه. فإنّ البراز قد يحتقن فيحتبس وينطلق فيخرج بسرعة مثل الذي يكون في أصحاب العلّة التي تعرف «بزلق الأمعاء والمعدة» حتّى تضعف الأفعال التي تفعلها. فيكون هذا أمراً عامّاً مشتركاً لاعتقال البطن وذربه أعني سوء المزاج الغالب على المعدة والأمعاء وضعف القوى التي فيهما الحادث بسبب ذلك المزاج الرديء. إلّا أنّه متى كان ذلك الضعف في القوّة الدافعة اعتقل البطن وطال احتباس البراز ومتى كان الضعف في القوّة الممسكة استطلق البطن وخرج البراز منه بسرعة. وكذلك الحال في البول إذا خرج عن غير إرادة واحتقن وصاحبه يريد إخراجه فإنّ ضعف القوّة في هذا الموضع أيضاً هو الفاعل للاحتقان والانطلاق إلّا أنّ احتقان ما يحتقن إنّما يكون عن ضعف القوّة 〈الدافعة وانطلاقه عن ضعف القوّة〉 الممسكة.
(٦٢و) قال أبقراط: غير أنّ الضدّين في السبب.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً ضرب من القسمة قد رضيه قوم واستحسنوه. وذلك أنّ أبقراط لمّا كان قد قال فيما تقدّم إنّه تقع للأطبّاء بسبب التشابه من الأعراض الحيرة والخدعة فأتبع ذلك بأن قال: «إلّا أنّ الضدّين» يعني البصيرة والحقيقة يوجدان «في السبب» يعني بذلك أنّ سبب المرض إذا وجد ووقف عليه وعرف فهم ما يحتاج إليه من أمر التدبير. من ذلك أنّ احتقان البول قد يعرض لكثير من الناس على أنحاء مختلفة والتشابه من العلّة في جميعهم يوهّم أنّ عللهم علّة واحدة والأسباب التي تفعل تلك العلّة فيهم أسباب شتّى. فإنّ البول قد يحتقن بسبب ورم يحدث في رقبة المثانة وفي العضلة التي تحيط به ولسدّة تحدث في مجراه وربّما كانت تلك السدّة من مِدّة وربّما كانت من خلط غليظ لزج بلغميّ أو من دم قد جمد فيه أو من حصاة قد لحجت فيه أو في المجريين اللذين بين الكلى والمثانة. وكذلك علّة القولنج قد تكون من ورم وتكون من ريح غليظة نافخة باردة وتكون من خلط بارد أو من خلط حادّ لذّاع أكّال وبالجملة من سوء مزاج يغلب على الأمعاء. وتشابه الأعراض في جميع هذه العلل يوهّم أنّها علّة واحدة وليست العلّة واحدة.
فقد بان أنّ السبب في علّة كلّ واحد من الناس إذا عرف استفاد به الأطبّاء الشيئين المضادّين اللذين تقدّم ذكرهما «الخدعة والحيرة» وذلك أنّه قال إنّ التشابه
قد يوقع الطبيب على 〈الخدعة والحيرة والسبب يوقعه على〉 الحقيقة والاستبصار.
وقد حان لنا أن ننتقل إلى قولة أخرى يقرؤها قوم على ضرب آخر من القسمة. وندع نسخة قابيطن إذ كنّا ليس نجدها في شيء من النسخ ولا يعرفها أحد من المفسّرين.
(٦٣آ) قال أبقراط: السبب أيّ الأسباب هو قد يعسر إدراكه بالفكر بمعرفة طرق مثل أن يكون الإنسان مسفّط الرأس أو أفطس أو أحمش أو يغلب عليه المرار أو يعسر عليه القيء أو يغلب عليه المرار الأسود أو يكون شابّاً أو يكون سيرته البطالة هذه الأشياء معاً أن يكون يوجد موافقاً بعضها لبعض وعلى الأكثر والأقلّ.
قال جالينوس: هذه النسخة هي النسخة التي يعرفها روفس الذي من أهل أفاسس وكتب فيها تأويلاً مقنعاً بهذه الألفاظ:
قال روفس: «إنّ المعنى في هذا الكلام هو المعنى في الكلام المتقدّم وذلك أنّه يقول إنّه يعسر إدراك أمر التدبير على الاستقصاء والحقيقة من قبل أنّه ‹يعسر أن يدرك سبب› المرض. وقد أحسن جدّاً ودقّق المعنى في استثنائه لقوله ‹بمعرفة طرق› وذلك أنّه يريد منّا ألّا نقتصر على طلب ‹السبب› طلباً مطلقاً لاكن بعد أن نعلم أيّ ‹الطرق› ينبغي أن نسلك حتّى نجد كلّ واحد من الأسباب. ثمّ وضع تمثيلات يكون بسببها اختلاف في البدن وفي السبب المحدث للمرض. وذلك أنّ ‹المسفّط الرأس› يعني الذي رأسه حادّاً 〈‹والأفطس والأحمش›〉 يعني الذي
رجلاه دقيقتان كلّ واحد منهم لا محالة إنّما صار بالحال التي هو عليها بسبب في طبيعته. فذكر هذه المثالات حتّى نضيف إلى ما نتفكّر فيه من أمر التدبير الفكر في أمر هذه الأشياء عند طلبنا للأسباب. وأمّا قوله ‹أو يغلب عليه المرار أو يعسر عليه القيء› — والذي ‹يغلب عليه المرار› إمّا أن يكون الغالب عليه المرار الأصفر وإمّا أن يكون الغالب عليه المرار الأسود — وقوله ‹أو يكون شابّاً أو يكون سيرته البطالة› فإنّ هذه الأقاويل أبين وأوضح للعقل. وذلك أنّه ليس من أحد إلّا وهو مقرّ بهذه أنّه ينبغي أن يبحث عنه في طلب سبب المرض. فقال إنّه يعسر أن ‹توجد هذه الأشياء موافقاً بعضها لبعض› وأن يدرك ‹الأقلّ والأكثر› فيها لأنّه قد يوجد في الكمّيّة اختلاف فإن كان في الحسّ في طبيعته مشابهاً».
قال جالينوس: على هذا المعنى قد فسّر روفس النسخة التي اختارها. وأنا مقبل على قوم آخرين ممّن لم يجعل لنفسه نسخة خاصّة بالجملة لا توجد في النسخ ولا يعرفها أحد من المفسّرين.
(٦٣ب) قال أبقراط: إنّي لأعلم أنّه يعسر الإدراك بالفكر بمعرفة طرق.
قال جالينوس: قد نجد هذا القول في كثير من الكتب على هذه النسخة ونجده في كثير منها ساقطاً منه لفظة وهي قوله «بمعرفة». وأكثر القدماء أيضاً من المفسّرين ليس يعرفون هذه اللفظة ملحقة في هذا القول. وابتداء هذا القول أيضاً ليس يكتبه جميعهم على مثال واحد وذلك أنّ بعضهم يكتبه على هذا المثال: «إنّ ممّا يعسر إدراك الطرق». وأنا أرى أيضاً أنّ الابتداء الذي ابتدأ به هذا القول على النسخة التي وصفتها قبيل إنّما ألحق إلحاقاً وهو قوله «إنّي لأعلم» إن كان أبقراط بالحقيقة هو الذي كتب هذا القول في أرسامه وذكوره. وذلك أنّ هذا الافتتاح إنّما هو افتتاح يليق بكتاب وضع للناس ليقرؤوه ويتعلّموه لا أرسام وتذكرات
أثبتها الإنسان لنفسه. وأمّا افتتاح النسخة الثانية من هاتين النسختين اللتين وصفتهما قبيل «إنّ ممّا يعسر» هو افتتاح يليق بكلام يرسمه الإنسان لنفسه. وذلك أنّ من عادتنا أن نرسم لأنفسنا أشباه هذه من الأرسام فنجعل افتتاحها هذا الافتتاح.
فأشبه هاتين النسختين بأن تكون صحيحة النسخة التي فيها هذا القول على هذا المثال: «إنّ ممّا يعسر الإدراك بالفكر بعد معرفة الطرق» إلّا أنّ المعنى في النسختين جميعاً معنى واحد. وذلك أنّ أبقراط يقول: «إنّ ممّا يعسر» ويصعب «الإدراك بالفكر للطرق» التي من شكلها لم تخطئ في تلك الأشياء التي تقدّم ذكرها لاكنّه يصيب في جميع الأحوال بأكثر ما يمكن. وقد علمنا أنّ الذي تقدّم من قوله «إنّ التشابه قد يوقع الطبيب الحاذق في الخدعة والحيرة» وما قيل بعد هذا فإن ألحقت في هذا القول اللفظة التي توجد ملحقة فيه في كثير من النسخ وهي قوله «بعد المعرفة» حتّى يكون قوله على هذا المثال: «إنّ ممّا يعسر الإدراك بالفكر بعد معرفة الطرق» وصار المعنى في هذا القول هذا المعنى: يقول إنّه فإن عرف الإنسان الطرق التي تحدثها هذه الأشياء التي تقدّم ذكرها فإنّه قد يعسر على هذا أيضاً أن يبلغ من الأمر حقيقته على الاستقصاء فإنّه وإن لم يذهب عليه شيء غير الكمّيّة فإنّه قد يعسر عليه أن يعلمها حتّى يقف على «الأكثر والأقلّ» في جميع الأشياء. ثمّ إنّه كتب بعد مثالات في تلك «الطرق» التي إذا سلكناها صرنا بها إلى معرفة ما نقصد لطلبه.
(٦٣جـ) قال أبقراط: مثل أن يكون الإنسان سفط الرأس أو أفطس أو أحمش.
قال جالينوس: إنّ هذه الأشياء التي ذكرها وما يتلوها إنّما هي تعديد مثالات «الطرق» التي نسلكها حتّى نجد ما يحتاج إليه من أصناف التدبير للمرضى.
قال حنين: 〈…〉
〈…〉 وجدنا في نسخة أخرى مكان «أصناف التدبير» «أصنافاً لمداواة المرضى». مثال ذلك أنّ المسفّط الرأس قد يكون قويّ الرقبة ويكون ضعيف الرقبة وسائر ما وصفه أبقراط في ابتداء هذه المقالة حين قال: «أصحاب الرؤوس المنحرفة بعضهم أشدّاء الأرقاب أقوياء في عظامهم وسائر أعضائهم وبعضهم أصحاب صداع وسيلان من الأذنين والحنك من هؤلاء غائر والأسنان مختلفة». وقد ذكر أيضاً «الأفطس» في المقالة الثانية في كتاب إفيذيميا وقد تقدّمنا في تفسيره. وأمّا قوله «الأحمش» فقد فهم منه قوم الدقيق الرجلين وفهم منه آخرون الذي له جناحان أو لوحان قائمان من وراء صدره. وقد كتب هذه اللفظة التي تدلّ على «الأحمش» قوم كتابة دلّت على أنّه يعني بها من كانت الرجلان منه يابستين قضيفتين.
(٦٣د) قال أبقراط: أو يغلب عليه المرار.
قال جالينوس: إنّ العادة قد جرت لا من أبقراط فقط لاكن من سائر الأطبّاء إذا قالوا «المرار» قولاً مطلقاً أن يعنوا به المرار الأصفر وإذا قالوا في إنسان «إنّه يغلب عليه المرار» أنّهم يعنون أنّه يتولّد فيه مرار أصفر كثير. وأمّا بالبس فحرّف اللفظة التي تدلّ على «المرار» تحريفاً صار به معناها الصفراء وذكر أنّه يعني في هذا
الموضع «بالصفرة» لون العسل وأنّ كلّ من لونه هذا اللون قد تشبه صفرته بصفرة العسل. على أنّ الأقرب كان ممّا يقبل ويقنع به إن كان قد حرّف هذه اللفظة إلى أن صار معناها اللون الذي قد ينتظم الأصفر والأخضر والناضر في لسان اليونانيّين ألّا ينسب هذا اللون إلى لون العسل لاكنّه ينسبه إلى لون الخضر أعني البقول.
وقد قال بعضهم إنّه عنى بهذا الاسم «الناضر» أعني الحسن اللون وقد كتب قوم مكان ذلك «والناضر والحسن اللون» وقد كتب قوم مكانه «الذي يسهل عليه القيء». وأمّا قابيطن فلم يكتب شيئاً من ذلك كلّه لاكنّه كتب مكان ذلك «الذي يعسر عليه القيء». وقد كتبه قوم كليهما أعني «الذي يسهل عليه القيء والذي يعسر عليه القيء» أحدهما في إثر الآخر. وأمّا ديسقوريدوس فحرّف اللفظة التي تدلّ على «الذي يعسر عليه القيء» بعض التحريف حتّى صار معناها «الرعد» وقد فسّر هذا الاسم فيما وصفه من تفسير ألفاظ أبقراط فوضع قول قونطس فيه وهو هذا القول: قال: «إنّ الرعد هو الذي يتأذّى بالشيء اليسير الصغير ويتأذّى بالشيء العظيم أكثر ممّا يتأذّى سائر الناس ويدوم الأذى به مدّة أطول».
ثمّ من بعد هذا الكلام قد يكتب بعضهم هذا الكلام: «أو يغلب عليه المرار الأسود» وبيّن 〈أنّ〉 الذي يغلب عليه المرار المطلق الذي تقدّم ذكره بأنّ ذلك إنّما عنى به الذي يغلب عليه المرار الأسود. وقد أسقط قوم قوله «أو يغلب عليه المرار» ويكتبوا «أو يكون أسود». وأمّا ديسقوريدوس فألّف الاسم الذي يدلّ 〈على〉 «الأسود» والاسم الذي يدلّ على «النبات» فصار من تأليفهما اسم آخر يدلّ على «الأدم» وقال إنّه يراد بهذه اللفظة الذي يميل لونه إلى السواد.
وليس ينبغي أن يبحث ويطلب من منهم أصاب فيما كتب أو لم يصب إذ كانت هذه الأشياء إنّما ذكرت في موضع مثالات فأمّا جملة هذا القول فالمعنى
فيه هذا المعنى. يقول: انظروا في طبائع الذين تدبّرهم وتداويهم وأثبت عقلك في الدلائل التي تظهر في البدن من خلق الأعضاء ومن ألوانها ومن جميع ما يلحقها بوجه من الوجوه. فإنّك إذا فعلت 〈…〉 هذا القول على هذا الطريق كان ذكره «للشابّ» مثالاً للسنّ وكان ذكره لمن «سيرته البطالة» مثالاً للمهنة والسيرة فإنّ البطالة قد يعدّوها في عداد المهن والسير كما يعدّون في عدادها ضدّ البطالة وهو انبعاث التعب. وقد أعلمتكم من أمر كلّ واحد من هذه المثالات دليل أيّ مزاج هو في كتابي في المزاج.
(٦٣هـ) قال أبقراط: هذه الأشياء ممّا ينبغي أن تكون موافقة بعضها لبعض وعلى الأكثر والأقلّ يعسر.
قال جالينوس: إنّه قد قيل منذ أوّل هذا القول إنّه قد «يعسر» خلط هذه الأشياء كلّها «بعضها ببعض» مع المقدار «الأكثر والأقلّ» في كلّ واحد منها. لاكنّه ليس أحد يعرف هذا اللحق أعني قوله «يعسر» ملحق في آخر هذا القول ولا كتب أحد هذه اللفظة في آخر هذا القول إلّا قابيطن وحده ليصحّ بها هذا القول. وأنا أيضاً إنّما قدّمته نسخته لهذا بعينه وأمّا في نصّ كتاب أبقراط فليس آمن أن يلحق هذه اللفظة إذ كان لا يعرفها أحد من المفسّرين ولا توجد في شيء من النسخ.
(٦٤) قال أبقراط: الرجل الذي انتقض عليه الناصور الذي كان به السعال منعه من أن يبقى على حاله.
قال جالينوس: إنّ أبقراط إنّما أثبت هذا لنفسه للتذكرة إذ كان ممّا ينتفع به في النظر بأيّ سبب «تنتقض النواصير». فإنّ قوماً قد ظنّوا أنّها إنّما تنتقض بسبب كثرة الأخلاط فقط وقوم آخرون قد ظنّوا أنّ السبب الذي به تنتقض النواصير إنّما هي كيفيّات الأخلاط فقط وقوم قد ظنّوا أنّها إنّما تنتقض بهذين الشيئين فقط. وقول هؤلاء أجود من قول من قال إنّ السبب واحد منهما فقط إلّا أنّ قولهم أيضاً ناقص غير تامّ. وممّا يدلّك على ذلك أنّ هذا الرجل الذي ذكره أبقراط إنّما «انتقض» في هذا القول «عليه ناصور» بسبب «السعال» ويجب ضرورة أن يكون الناصور كان به في عضو من الأعضاء التي تتحرّك وتهتزّ بحركة السعال. فكذلك يمكن بسبب حركة أخرى أن «ينتقض ناصور» في عضو آخر من الأعضاء من غير أن تكون في البدن لا أخلاط كثيرة ولا أخلاط رديئة.
(٦٥) قال أبقراط: الرجل الذي انطوت منه زائدة الكبد نفّضته فسكن ألمه دفعة.
قال جالينوس: لو كان أبقراط كتب بأيّ الدلائل استدلّ على أنّ «زائدة الكبد انطوت» في ذلك الرجل لقد كان قوله هذا قولاً ينتفع به وأمّا إذا لم يكتب ذلك فإنّما قوّة هذا الكلام قوّة مسألة كما لو أنّ إنساناً سألنا كيف يقدر الإنسان أن يعلم من أمر زائدة الكبد أنّها قد انطوت. ومن البيّن أنّه يعني بقوله «زائدة الكبد» أعظم زوائدها وذلك أنّه يجب أن تخصّ هذه الزائدة بالاسم العامّ على الإطلاق كما يخصّ أوميرس اسم «الشاعر» على الإطلاق ويخصّ الأسد باسم «السبع» على الإطلاق.
وأمّا ما أراه أنا فلست أتكاسل عن وصفه. أقول إنّي رأيت في موضع الصراع رجلاً قد كان هزّه وزعزعه الذي كان يصارعه فوثب حاملاً له ثمّ سقط مغلوباً فوجد ألماً فيما دون الشراسيف من الجانب الأيمن في الموضع الذي يعلم أنّ تلك الزائدة العظمى من زوائد الكبد فيه موضوعة. فرأيت أنّه ينبغي أن أنفّض ذلك الرجل وأهزّه وأعضاء الصدر منه منتصبة ففعلت فسكن عنه الألم الذي كان وجده لاكنّه ليس يمكن أن أحكم أنّ تلك «الزائدة» كانت «انطوت». وذلك أنّ في ذلك الموضع بعينه أجساماً أخر إن زالت عن موضعها أمكن أن يكون يصيبها ألم. ولعلّ قائلاً سيقول في زائدة الكبد إنّه لا يمكن أن تنطوي على نفسها لأنّ زوائد الكبد في الإنسان صغار وقد يمكن أن تكون هذه خصوصيّة من الطبع في بعض الناس أن تكون زائدة الكبد منهم عظيمة. فإنّا قد نجد في الندرة في التشريح أشباه هذه من الأشياء.
وهذه النسخة نسخة قديمة وأمّا زوكسس وكان رجلاً من قدماء المفسّرين فذكر أنّه وجد مع هذه النسخة نسخة أخرى على هذا المثال: «الرجل الذي انتقصت منه زائدة الكبد» وزعم أنّه لم يمكن أن يفهم عنه من هذا أنّ تلك الزائدة انتقصت من علّة كانت بها. وذلك أنّه قد يجوز ويقرب من الإقناع أن يكون عند الهزّ والنفض انتقص وخرج السبب الذي كان أحدث العلّة في زائدة الكبد.
وأمّا الحدث من المفسّرين فإنّ روفس وهو بعضهم يعرف هذا القول يكتب على هذه النسخة: «الرجل الذي تفتّحت منه زائدة الكبد انحدر منه وسكن دفعة» وكتب تفسير هذا القول بهذه الألفاظ:
قال روفس: «إنّ الدبيلات التي تكون في الكبد تنفجر بسهولة وسرعة وتنحدر من الأمعاء إلى أسفل وذلك بيّن بالمشاهدة وبالقياس. وذلك أنّ ممّا يقبل ويقنع به أن تكون المِدّة تنصبّ إلى الأمعاء من العروق التي ينفذ فيها الغذاء من الأمعاء إلى الكبد وقد رأينا أنّ هذه العروق من أكثر العروق عدداً وأعظمها قدراً. فلأنّ المِدّة جاءت إلى أسفل سكن ألمه دفعة. وقد يكتب هذا القول على هذه النسخة: ‹التي تنطوي منها زائدة الكبد فإن انطوت تلك الزائدة من غير أن تدقّ أصلاً فذلك رديء› وبعضهم يكتب ‹فذلك عسر›».
قال جالينوس: فهذا قول روفس. وأمّا آل سابينس فليس يعرفون نسخة ثانية سوى النسخة التي فيها «الرجل الذي انطوت منه زائدة الكبد» وأتبعهم أيضاً روفس الذي من أهل سمريا.
(٦٦) قال أبقراط: ساترس رجل كان بثاسس وكان يلقّب بلقب مشتقّ من اسمه وبلقب مؤلّف من اسم الثعلب ومن اسم الأقنى لمّا صار من السنّ نحو العشرين سنة كانت الجنابة تصيبه كثيراً وكان أيضاً يجيء منه المنى كثيراً بالنهار فلمّا بلغ من السنّ نحو الثلاثين وقع في السلّ ومات.
قال جالينوس: قد يمكنك أن تستدلّ من لقب هذا الرجل أنّ صورة ساترس كانت هذه الصورة وهي أنّ أنفه كان أقنى إذ كانت رقبته زائدة الطول على المقدار المعتدل وكان صدره أضيق من المقدار المعتدل حتّى تكون صورته صورة صاحب السلّ لأنّ صدره ذلك كان منذ أوّل أمره ضعيفاً وكان مع ضيقه صغيراً. ويشبه أن يكون في أعضاء التوليد دم كثير الفضول بالعروق المشتركة فيما بين الصدر وبين أعضاء التوليد 〈و〉كان ذلك الدم يخرج ولم يستحكم النضج.
وما كان بعجب أن «يموت» هذا الفتى «بالسلّ» بسبب ضعف أعضاء الصدر وأن يكون عرض له الإمناء الدائم على طريق عرض من الأعراض إلّا أنّه كان سبب موته. وأمّا ديسقوريدوس فكأنّه مال إلى أن يكون ما حدث له من الإمناء الدائم كان سبب موته. وذلك أنّه كتب هذا القول على هذه النسخة: «فلمّا انخرط نحو الثلاثين وقع في السلّ ومات». ويريد أن يدلّ بقوله «انخرط» أي استفرغ لأنّ اسم «الانخراط» يدلّ على الاستفراغ ومعنى «انخرط» تفرّغ ومعنى «خرط» فرغ.
(٦٧) قال أبقراط: بأبدرا الحافظ لموضع الصراع وكان اسمه قليسثانس صارع فأكثر وكان المصارع له أقوى منه فسقط على رأسه فانصرف فشرب ماء بارداً كثيراً ثمّ إنّه من بعد أصابه في تلك الليلة سهر وقلق وبردت أطرافه. فلمّا كان في اليوم الثاني ذهب إلى بيت عامر من بيوت الحمّامات واحتمل من أسفل فلم ينحدر شيء وبال
بولاً يسيراً وكان قبل ذلك لا يبول شيئاً. فلمّا جاءه الليل صبّ عليه ماء فلم ينتقص أرقه ولا قلقه واختلط ذهنه. فلمّا كان في اليوم الثالث أصابه برد شديد في أطرافه ثمّ سخن فعرق بعد أن شرب ماء العسل ومات في اليوم الثالث.
قال جالينوس: إنّ اقتصاص ما كان من أمر هذا المريض ممّا ينتفع به في الأمر الذي قد سمعتموني مراراً كثيرة أقوله وهو أنّ الأسباب البادئة منه متى صادفت البدن وهو نقيّ سليم من الفضول صحيح على الاستقصاء كان ما ينال البدن من ضررها سهل التلاقي سريع البرء ومتى صادفت البدن وفيه كثيرة من الأخلاط أو أخلاط رديئة فإنّ فعلها يكون شبيهاً بفعل الشرارة من النار إذا سقطت في عيدان من عيدان الصنوبر الدسمة أو في فتيلة قد نثر عليها كبريت. وقد علمتم أنّ هذا أمر قد أصاب غير هذا المريض ممّن ذكر في هذا الكتاب أعني كتاب إفيذيميا.
وأمّا ما غيّره قوم من الألفاظ في هذا القول حتّى †يطره† به إلى أن صار أردأ ممّا كان عليه أو أجود ممّا كان عليه فليس يضطرّني شيء إلى ذكر كلّه لاكن اكتفى أن أذكر نسخة قافيطن وحده. وذلك أنّ القدماء من المفسّرين يكتبون في هذا القول «فلمّا كان في اليوم الثاني ذهب إلى بيت» وبعضهم أسقط ذكر «البيت» وكتب مكان «ذهب» «دخل» حتّى صار الكلام على هذا المثال: «فلمّا كان في اليوم الثاني دخل».
فأمّا قابيطن فإنّه زاد بعد «اللام» «تاء» فكتب «دخلت» وأراد بذلك أن يكون أبقراط كتب ذلك في نفسه أنّ في اليوم الثاني دخلت إلى ذلك المريض أعني قليسثانس ثمّ اقتصّ فيما يتلو ذلك ممّا كتب بعضه ممّا فعل هو وبعضه ممّا رآه. وذلك أنّ بطنه استعصى «فاحتمل» شيافة فلم ينطلق لاكنّه «بال بولاً يسيراً» «وصبّ عليه ماء» في الليل فبات «بقلق وأرق واختلاط ذهن» وسائر ما يتلو ذلك ممّا كتبه من قصّته إلى أن «أتاه الموت».
(٦٨) قال أبقراط: أصحاب الوسواس السوداويّ من عادتهم أن يصيروا إلى علّة الصرع في أكثر الحالات وأصحاب الصرع أيضاً قد يصيرون إلى الوسواس السوداويّ وكلّ واحد من هاتين العلّتين إنّما يكون خاصّة بحسب ما تميل إليه العلّة من البدن والنفس فإنّ العلّة إن مالت إلى البدن صار صاحبها إلى الصرع وإن مالت إلى الفكر صار صاحبها إلى الوسواس السوداويّ.
قال جالينوس: قد بيّنّا من أمر «الصرع» أنّه إنّما يكون من خلط من الأخلاط يستغرق ويبلّ الأصل الذي منه ينبت العصب الذي حرّك الأعضاء التي هي أسفل من الرأس. فإن كان ذلك الخلط خلطاً حارّاً وكان مع ذلك من جنس المرار كانت هذه العلّة مع حمّى وإن كان ذلك الخلط خلطاً بارداً كانت هذه العلّة من غير
حمّى. والذي في البدن من كلّ حيوان ذي دم من الأخلاط الباردة خلطان أحدهما المرّة السوداء والآخر البلغم. وذلك أنّ جميع الأخلاط الباردة الرطبة قد يشتمل عليها عند أبقراط اسم واحد عامّ جنسيّ وهو اسم «البلغم» وهذا الاسم عنده يحتوي على ذلك الخلط أيضاً الذي يخصّ باسم «الخام». والفرق بين «الخام» وبين البلغم الذي ينقّيه بالبزاق كثير الأصحّاء مراراً كثيرة مع النخع غلظه فإنّ «الخام» في غلظه أشبه شيء بالمِدّة.
وقد يكون «الصرع» من هذا الخلط أعني من البلغم ويكون أيضاً من الخلط السوداويّ. وإذا كان من الخلط السوداويّ فعند ذلك تكون النقلة من كلّ واحدة من العلّتين اللتين ذكرهما إلى الأخرى. وذلك أنّ النقلة ربّما كانت من وسواس سوداويّ قد تقدّم إلى الصرع وربّما كانت بالعكس أعني من الصرع إلى الوسواس السوداويّ. وذلك أنّه يزعم أنّ الخلط السوداويّ إذا غاض إلى البدن أحدث الصرع وإذا غاض إلى النفس أحدث الوسواس السوداويّ. وذلك أنّ جوهر النفس يشبه أن يكون إمّا الروح الذي في بطون الدماغ أو نفس مزاج الدماغ. فقد بيّنّا ذلك في المقالة السابعة من كتابنا في آراء أبقراط وفلاطن وفي المقالة الثالثة من كتاب تعرّف العلل الباطنة حيث وصفت أمر علل الصرع والسكتة والفالج والسرسام البارد المعروف «بالسهر» والسرسام الحارّ والوسواس السوداويّ والحزن وسائر العلل التي تكون قد نالت الأفعال النفسانيّة فيها آفة أو بطّلت أصلاً.
فقد أحسن في استثنائه في قوله هذا ما استثنى حين قال: «إنّ أصحاب الوسواس السوداويّ من عادتهم أن يصيروا إلى علّة الصرع في أكثر الحالات». وذلك أنّه لمّا زاد في قوله «في أكثر الحالات» فدلّك أنّه ليس تنتقل هاتان العلّتان في جميع الأحوال كلّ واحدة منها إلى الأخرى. فقد أخبرت بالسبب فيما تقدّم وذلك أنّه لمّا كان الخلط البلغميّ ربّما أحدث الصرع فإنّه لن يكون لهذا الضرب من الصرع انتقال إلى الوسواس السوداويّ.
(٦٩) قال أبقراط: امرأة أبوثواس كانت فيما تقدّم من الزمان ولوداً ثمّ ذهب عنها زوجها فاحتبس طمثها مدّة من الزمان طويلة. فلمّا عرض لها ذلك صار بدنها إلى حال بدن الرجل وقوي الشعر في بدنها كلّه ونبتت لها لحية وصار صوتها صلباً خشناً. فاحتلنا بكلّ حيلة يحتال بها لإحرار الطمث فلم ينحدر لاكنّها عاشت مدّة ما ثمّ ماتت من بعد مدّة ليست بالطويلة.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يعني «بالولود» المرأة التي يكون حملها وولادها متواتراً وهي التي تسمّى «الناتق» «والمنتق». فهذه المرأة لمّا فقدت زوجها «احتبس طمثها» فحدث لها أوّلاً أنّ حالها انقلبت «إلى حال الرجل» بذاتها ثمّ إنّها لم تلبث إلّا مدّة يسيرة حتّى «ماتت». وهذه القصّة قصّة ينتفع بها في أن تعلم أنّ النساء إذا فقدن أزواجهنّ نالهنّ من ذلك مضرّة عظيمة وخاصّة إذا كانت عادتهنّ
قد جرت بالحبل. وقد رأينا نحن أيضاً عدداً كثيراً من النساء نالهنّ الضرر العظيم من هذا السبب ومنهنّ من مات.
(٧٠) قال أبقراط: قد عرض ذلك بعينه لمانو امرأة غرجبس بثاسس فرأى جميع من عرفته من الأطبّاء أنّه ليس برجاء لها أن تعود إلى حدّ النساء إلّا بشيء واحد وهو أن يجيء منها ما يجيء من النساء بالطبع لاكن قد احتلنا في هذه أيضاً بكلّ حيلة فلم يمكن أن يكون ذلك لاكنّها لم يطل لبثها حتّى ماتت.
قال جالينوس: إنّ البحث عن اسم هذه المرأة هل كان اسمها «مانو» على ما يوجد في بعض النسخ أو «نانو» على ما يوجد في بعضها أو «غنو» على ما يوجد في نسخ أخر من الفضل. وأمّا الذي ينتفع به من هذه القصّة التي قبلها وذلك أن تعلم أنّ المرأة إذا انقلب طبعها إلى طبع الرجل فليس شيء من العلاج يقوى على تحريك طمثها. ومع ذلك أيضاً فقد ينبغي أن تعلم أمراً قد شاهدناه نحن وهو أنّ هذا العارض ليس يعرض لجميع النساء ولا لصنف منهنّ أيّ صنف كان لاكنّه إنّما يعرض للنساء التي هنّ أجفّ أبداناً وأصلب وأشبه بالرجال وألوانهنّ إلى الأدمة أميل. فكما أنّه قد يوجد في الرجل من لحمه لحم ناعم ليّن وبدنه شبيه ببدن المرأة كذلك قد يوجد من النساء من بدنها في طبيعته شبيهاً بطبيعة الرجل.
تمّت المقالة الثامنة من تفسير جالينوس للمقالة السادسة من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.