Galen: Quod animi mores corporis temperamenta sequantur (The Faculties of the Soul follow the Mixtures of the Body)

Work

Galen, Quod animi mores corporis temperamenta sequantur (Ὅτι ταῖς τοῦ σώματος κράσεσιν αἱ τῆς ψυχῆς δυνάμεις ἕπονται)
English: The Faculties of the Soul follow the Mixtures of the Body

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥubayš ibn al-Ḥasan
Translated from: Syriac (Close)
Date: between 850 and 890

Source

Hans Hinrich Biesterfeldt. Galens Traktat Daß die Kräfte der Seele den Mischungen des Körpers folgen in arabischer Übersetzung. Abhandlungen für die Kunde des Morgenlandes 40/4. Wiesbaden (Kommissionsverlag Franz Steiner) 1973, 9-44

Download

gal_quodanimimores-transl-ar1.xml [94.03 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كتاب جالينوس في أنّ قوى النفس تابعة لمزاج البدن

(١) (الباب الأوّل في موضوع المقالة وفي منفعتها العلاجيّة)

إنّي لمّا فحصت وفتّشت عن اتّباع قوى النفس لأمزاج البدن لا مرّة ولا مرّتين بل مراراً كثيرة، ولم أنفرد برأيي في النظر في ذلك بل فعلته أوّلاً مع المؤدّبين لي وفعلته بأخرة مع قوم من الفلاسفة علماء، وجدت القول بذلك حقّاً ثابتاً نافعاً لمن أحبّ جمال أمر نفسه. فإنّا متى عدّلنا البدن بالأطعمة والأشربة وبالأشياء التي نفعل كلّ يوم على ما أوضحت وبيّنت في كتاب أخلاق النفس كان ذلك ممّا يعين النفس على نيل الفضيلة كما يوصف من فعل أصحاب فيثاغورس وأصحاب أفلاطن وكثير من القدماء وغيرهم.

(٢) (الباب الثاني في اختلاف أفعال النفس وآلالمها عند الأطفال مثلاً، وفي نسبة أفعال النفس إلى قواها، وفي الأفعال الخاصّة بأجزاء النفس الثلاثة عند رأي أفلاطن)

ومبدأ جميع القول الذي نريد ذكره هو معرفة اختلاف أفعال النفس وآلامها الظاهرة في الصبيان الصغار التي منها يتبيّن قواها، وذلك أنّ منهم من نجده جباناً جدّاً ومنهم جريء جدّاً ومنهم شره ورغيب

جدّاً ومنهم على خلاف ذلك ومنهم ذو قحة ومنهم ذو حياء وأصناف كثيرة شبيهة بهذه نجدها فيهم قد ذكرتها في موضع آخر.

وأمّا هاهنا بعد فأكتفي بأن أبيّن بمثالات أذكرها أنّ قوى أنواع النفس الثلاثة وأجزائها الثلاثة قد تكون بالطبع في الصبيان مختلفة. فإنّه قد يمكننا أن نتتج من هذا أنّ طبيعة النفس ليست لكلّهم واحدة بعينها، واسم الطبيعة في هذا الموضع يدلّ على الشيء الذي يدلّ عليه اسم الجوهر، لأنّه لو لم يكن جوهر أنفسهم مختلفاً لكانت أفعالهم كلّهم واحدة بأعيانها وكانوا كلّهم يألمون آلاماً واحدة بأعيانها من أسباب واحدة بأعيانها. فقد وضح أنّ جوهر أنفس الصبيان مختلف بقدر اختلاف أفعالها والآمها. وإن كان ذلك كذلك فهي مختلفة في قواها أيضاً. وكثير من الفلاسفة قد ارتبكوا في هذا الموضع، وذلك لأنّهم لم يفهموا معنى القوّة بالحقيقة، لأنّهم فيما أحسب يتوهّمون القوى كأنّها أشياء حالّة من الجواهر، كما نحلّ نحن في المنازل، ولا يعلمون أنّ كلّ شيء ممّا يكون فله سبب ما فاعل يفهم على الجهه الإضافة إليه وأنّ هذا السبب إذا أنزلته شيئاً من الاشياء، إلّا أنّه سبب كان له اسم مفرد، وإذا عملت على أنّه سبب من جهه نسبته إلى الشيء الكائن منه فهو قوّة للشيء الكائن منه. ومن أجل ذلك قد نقول: إنّ عدد قوى الجوهر كعدد أفعاله.

ومثال ذلك أنّا نقول: إنّ للصبر قوّة مسهلة وقوّة مقويّة للمعدة وقوّة ملحّمة للجراحات الطريئة التي بدمها وقوّة خاتمة للقروح المساوية لسطح الجلد وقوّة مجفّفه لرطوبة الأجفان، وليس الفاعل لكلّ واحد من هذه الأفعال شيئاً سوى الصبر، لأنّه هو الفاعل لها، ولأنّه يستطيع أن يفعلها قد يقال: إنّ له من القوى بحسب

ما له من الأفعال. وذاك أنّا نقول: إنّ الصبر يمكنه أن يسهل وأن يقوّي المعده وأن يلحّم الجراحات وأن يختم القروح وأن يجفّف العينين الرطبتين، كأنّه لا فرق بين قولنا: إنّ الصبر يمكنه أن يسهل، وقولنا: إنّ له قوّة مسهلة. وكذلك أيضاً قولنا: إنّه يمكنه 〈أن〉 يجفّف العينين الرطبتين يدلّ على الشيء الذي يدلّ عليه قولنا: إنّ له قوّة مجفّفه للعينين الرطبتين.

وعلى هذا النحو أيضاً إذا قلنا: إنّ النفس الفكريّة الساكنة في الدماغ يمكنها أن تحسّ بالحواسّ ويمكنها أن تذكر المحسوسات بذاتها وأن تفهم وتعرف اتّفاق الأشياء واختلافها وتفهم الحلّ والتركيب، لم ندلّ بذلك على شيء سوى ما يدلّ عليه إذا نحن عبّرنا اللفظ فقلنا: إنّ النفس الفكريّة لها قوى كثيرة، وهي الحسّ والفكر والفهم وسائر القوى الباقية، ولأنّا ليس نقول: إنّه إنّما لها أن تحسّ فقط بقول مطلق بل قد نقول: إنّها ترى أنواع ما ترى وتسمع وتذوق وتشمّ وتلمس، قد نقول أيضاً قوّة مبصرة وسامعه وشامّة وذوّاقة ولامسة.

وكذلك كان يقول أفلاطن في القوّة الشهوانيّة التي للنفس، وكانت عادته أن يستعمل هذا الاسم أحياناً على جهة العموم لا على جهة الخصوص. وقد كان يقول: إنّ لهذه النفس شهوات كثيرة، وللنفس الغضبيّة شهوات كثيرة وأكثر من هاتين أنواع شهوات النفس الثالثة، وهي التي سمّاها بهذا السبب من جهة الغالب عليها شهوانيّة، وذلك لأنّ من عادة الناس أن يسمّوا أحياناً لبعض الأشياء الغالبة في جنسها باسم الجنس كلّه كما إذا قلنا: إنّ هذا القول من قول الشاعرة وهذا من قول الشاعر، فهمنا أنّ الشاعر الذي عني هو أوميرس وأنّ الشاعرة سافو. وكذلك يسمّون السبع الأسد وأشياء كثيرة شبية يسمّونها من جهة الغلبة.

فالمسمّى على جهة استعمال العموم في اسم الشهوة: أمّا للحقّ والعلم والتعلّم واللبّ والحفظ وفي جملة القول الأشياء الحسنة والجميلة، فهو جزء النفس الذي نسمّيه بالعادة الجزء الفكريّ، وأمّا للحرّيّة والغلبة والقهر والرياسة والمديح والكرامة، فالجزء الغضبيّ، وأمّا للنكاح والتلذّذ بكلّ ما يؤكل أو يشرب، فالجزء الذي سمّاه أفلاطن من جهة الغالب عليه الشهوانيّ. وليس يمكن أن تكون لهذه النفس شهوة الأشياء الجميلة الحسنة، ولا للنفس الفكريّة شهوة النكاح أو الشراب أو الأطعمة ولا شهوة الغلبه والرياسة والمديح والكرامة، وكذلك أيضاً ليس يمكن أن يكون للنفس الغضبيّة شيء من الشهوات النفس الفكريّة أو الشهوانيّة.

(٣) (الباب الثالث في فناء أجزاء النفس الثلاثة، وفي مناسبة البدن بالنفس حسب رأي أرسطوطاليس في الهيولى والصورة، وفي البرهان على أنّ جوهر النفس بكاملها هو مزاج الكيفيّات الأصليّة الاربعة، وفي تأثيرات الحرارة والبرودة على النفس)

وقد برهنت في موضع آخر أنّ أنواع النفس ثلاثة وأنّ هذا هو رأي أفلاطن، وبيّنت أيضاً أنّ واحدة في الكبد وأخرى في القلب والأخرى في الدماغ. وقد نجد أفلاطن قد قنع بأنّ الجزء الفكريّ وحده من هذه الثلاثة الأنواع أو الأجزاء التي للنفس غير ميّت. وأمّا أنا فليس عندي ما أقضى به أنّها غير ميّتة ولا أنّها ليست كذلك. وأنا مبتدئ بالفحص عن نوعي النفس اللذين في القلب والكبد، وهما اللذان نقرّ هو ونحن أنّهما يفسدان عند الموت. ولسنا

نحتاج في هذا الوقت، وإن كان لكلّ واحد من هذه الأعضاء جوهر خاصّيّ، أن نبحث عن ذلك الجوهر أيّما هو بالحقيقة، بل نقول: إنّا قد برهنّا على أنّ الجوهر هو العامّ لجميع الأجرام مركّب من شيئين أوّلين: الهيولى والصورة. أعني الهيولى المفردة من الكيفيّات بالتوهّم، و[من] المزاج الذي لها من الأربع الكيفيّات أعني الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، لأنّ من هذين كان النحاس والحديد والذهب واللحم والعصب والعظم والغضروف والشحم وفي جملة القول جميع الأجرام التي سمّاها أفلاطون السابقة في الكون وسمّاها أرسطاطاليس متشابهة الأجزاء. وينبغي إذا قال أرسطاطاليس: إنّ النفس هي صورة الجسم، أن يسأل أو يسال أصحابه: أيفهم من هذا القول أنّه أراد الصورة الموجودة في الآليّة أم آخر [من] الشيئين الأوّلين اللذين عنهما يكون الجسم الطبيعيّ الذي هو متشابه الأجزاء بسيط عند الحسّ، ليس له تركيب آليّ. فإنّهم سوف يجيبون بالضرورة أنّه أراد بالصورة آخر الشيئين الأوّليين لأجسام الطبيعة، لأنّ الأفعال إنّما هي أولى لهذه الأجسام. وقد برهنّا ذلك في مواضع أخر، وإن احتجنا إليه أيضاً في وقتنا هذا برهنّاه.

فإن كانت هذه الأجرام وما أشبهها إنّما قوامها من هيولى وصورة، وكان أرسطاطاليس أيضاً يرى أنّ الجسم الطبيعيّ إنّما يكون متى كانت هذه الأربع الكيفيّات في الهيولى، فقد اضطرّ أن يجعل الصورة مزاج هذه الكيفيّات، ويجب عند ذلك أن يكون جوهر النفس مزاجاً ما من هذه الأربع التي إن شاء أحد أن يقول: إنّها كيفيّات، أعني رطوبة ويبوسة وحرارة وبرودة، وإن شاء أن يقول: إنّها أجرام ذوات كيفيّة، أعني رطبة ويابسة وحارّة وباردة، قال أيّ ذلك شاء.

وقد أوضحنا أنّ قوى النفس تابعة لجوهرها، وذلك أنّ أفعالها تابعة لهذا. فإن كان نوع النفس الفكريّ ميّتاً، فهو أيضاً مزاج ما للدماغ. ويجمع من ذلك أنّ جميع الأنواع والأجزاء التي للنفس لها قوى تابعة للمزاج أعني تابعة لجوهر النفس. وإن كان هذا النوع غير ميّت كرأى أفلاطن والموت في رأيه إنّما يكون بمفارقة النفس البدن، فما بال استفراغ الدم الكثير وشرب قونيون والحمّى المحرقة تفرق بينها وبين البدن؟ فلو أنّ أفلاطن كان بيّن لِمَ تفارق النفس البدن إذا برد الدماغ برداً مفرطاً أو سخن سخونة مفرطة أو يبس أو رطب بإفراط، لكان قد أحسن كإحسانه في سائر ما قال في النفس. لو أنّه كان حيّاً، لكنت سأسأله لأن يعلّمني ذلك. ولكن لأنّ أفلاطن ليس بموجود ولم يعلّمني أحد من المعلّمين الأفلاطونيّة السبب الذي يضطرّ النفس إلى مفارقة البدن، فإنّي أقدم على أنّ أقول: إنّه ليس كلّ نوع من أنواع الأجسام يصلح لفبول النفس الفكريّة. فإنّي أجد هذا غير مخالف في النفس، من غير أن يكون عندي على ذلك شيء من البرهان، وذلك لأنّي ليس أعرف جوهر النفس كيف طبيعته، متى جعلتها من جنس الأشياء التي ليست بأجسام. فقد أجد الأمزاج مختلفة جدّاً في الأجسام كثيرة جدّاً. وأمّا جوهر ليس بجسم قد يمكن أن يكون على حدته وليس هو كيفيّة ولا صورة لجسم، فليس يمكن أن أفهم فيه شيئاً من الفصول، على أنّيّ قد فكرت في ذلك مراراً كثيرة وفحصت عنه بعناية. وكذلك أيضاً لم يمكنّي أن أفهم كيف إذ كانت ليس شيئاً من البدن يمكنها أن تبسط وتمتدّ فيه كلّه. فهذه أشياء ليس يمكنني أصلاً أن أتوهّمها على أنّي قد حرصت على ذلك دهراً طويلاً . ولكنّي لأنّي أعلم أنّ هذه

الخصلة بيّنة ظاهرة للحسّ، وهي أنّ إفراغ الدم وشرب قونيون بأكثر من المقدار يبردان البدن والحمّى الصعبة المفرطة تسخنه، أردّ أيضاً قولي بعينه فأقول : إنّي قد أكثرت الطلب والتفتيش عن السبب الذي من أجله إذا برد البدن أو سخن بإفراط تركته النفس البتّة، فلم أقدر عليه، كما أنّي لم أقف على السبب الذي من أجله متى كثرت المرّة الصفراء في الدماغ أخرجت الإنسان إلى الوسواس، وإذا كثرت فيه المرّة السوداء خرج إلى المالنخوليا، ومن قبل البلغم والأسباب الباردة جملة يعرض المرض الذي يسمّى ليثرغس وفساد الفكر وفساد العقل. ولا وقفت على السبب الذي من أجله [صارت] الحشيشة التي تسمّى موريون إذا شربت صيّرت النفس إلى حال كحال الرعونة، وهي الحشيشة التي اشتقّ اسمها من اسم المرض الذي يوجد البدن بمرضه منها أعني موريا وهو الرعونة.

والشراب إذا شرب أذهب جميع الغموم وخبث النفس إذهاباً بيّناً، كما نجرّب ذلك في كلّ يوم . وقد قال زينون فيما يزعمون: إنّه كما الترمس إذا أنقع بالماء حلا كذلك أيضاً يصيبني أنا من الشراب. وقد يقولون أيضاً: إن العقار المسمّى أونوفيا [و]هو يفعل ذلك أكثر، وإنّ هذا العقّار هو دواء كسانى القبطيّة الذي قال فيه الشاعر: [الا] إنّي أعطيت منه وهو المذهب للغمّ والغضب والمنسي لجميع الشرور. ولكنّا ندع القول في العقّار المسمّى أونوفيا، فإنّه ليس بنا إليه حاجة في هذا الموضع، إذ كنّا قد نجد الشراب في كلّ يوم يفعل جميع ما ذكرته الشعراء فيه. وممّا قالت الشعراء فيه: صرعتك الخمر اللذيذة المضرّة بمن أكثر منها ولم يشربها على ما ينبغي. وقال الشاعر أيضاً: إنّ الخمر غلبت على أوريطي القنطوريّ المحمود

حين شربها في منزل فيريثواس الكبير النفس، وفارقه بسببها عقله، فصار كالمجنون وفعل أفعالاً رديئة في منزل فيريثواس. وقال أيضاً في الخمر: إنّها تبعث الركين العاقل على أن يتغنّى ويتشبّه بأهل الضعف واللين، وأن يرقص ويرسل لسانه بالقول الذي تركه أجود. وقال فيها ثاغنس: إنّ الشراب إذا أكثر شربه كان رديئاً، وإذا شربه الإنسان بمعرفة لم يكن رديئاً بل جيّداً. وحقّ أنّ الشراب إذا شرب باعتدال كانت منفعته عظيمة في الهضم واتّصال الغذاء وتولّد الدم والاغتذاء وتسليس النفس وتشجيعها. وبيّن أنّ الشراب إنّما يفعل ذلك بتوسّط مزاج البدن، ويفعل المزاج أيضاً بتوسّط الكيموسات.

وليس من شأن مزاج البدن أن يغيّر أفعال النفس على ما وصفت فقط، بل قد يمكنه أن يفرق بينها وبين البدن أيضاً ويفصلها منه. وعسر أن يقول أحد من الناس غير هذا، إذ كان قد يرى أنّ الأدوية التي تبرد أو تسخن بإفراط تقتل شاربها من ساعته. وسموم الحيوان ذوات السمّ من هذا الجنس أيضاً، وذلك أنّا قد نرى أنّ الذي تلسعه الدابّة التي يقال لها أسفيس يموت من ساعته، كما يموت الذين يشربون قونيون، وذلك لأنّ سمّ هذه الحيّة أيضاً يبرده. فقد يجب إذاً على من يجعل للنفس جوهراً خاصّاً أن يقرّ بأنّها متغيّرة لأمزاج البدن، إذ كان للأمزاج عليها من السلطان ما يفصلها من البدن ويفرق بينها وبينه، ويضطرّها إلى أن لا تعقل وتعطّل ذكرها وفهمها، ويجعلها غالباً عليها الاغتمام والفزع والحرد، كما نجد ذلك يكون في المرض المسمّى مالنخوليا، ونجد خلافه يكون إذا شرب الإنسان من الشراب مقداراً معتدلاً.

(٤) (الباب الرابع في تأثيرات اليبوسة والرطوبة على فهم النفس وجهلها حسب ما ورد في كتاب طيماوس، وفي الردّ على رأي أندرونيقوس المشّاء ورأي الرواقيّين في النفس)

أفترى قوى النفس يمكن فيها التغيير من مزاج الحرارة والبرودة ولا يمكن فيها ذلك من الرطوبة واليبوسة، أم قد يوجد على ذلك دلائل كثيرة من الأدوية والتدابير التي يتدبّر بها في كلّ يوم؟ ولعلّي سأفصّلها لك فيما أستأنف، إذا أنا بدأت بذكر ما وضع أفلاطن بما بيّن من رأيه في أنّ النفس تؤول من رطوبة البدن إلى نسيان ما كانت تعرفه قبل أن ترتبط بالبدن. فإنّه قال في كتاب طيماوس: إنّ اللّه جلّ وعزّ حين خلق الإنسان ربط النفس التي ليست بميّتة بجسم سائل ذائب، يعني بذلك رطوبة جوهر الأطفال. وأتبع هذا الكلام بهذه الألفاظ بأعيانها فقال: وأمّا النفوس التي ربطت بالنهر العظيم، فإنّها لم تكن تغلب ولا تغلب وكانت تحارب وتحارب بالقسوة. ومن بعد هذا الكلام بقليل قال أيضاً: ولأنّ الموج الذي كان يغرق وينحسر كان عظيماً، وهو الذي كان يغدو، كانت الآلام الحادثة من الأشياء المصادفة في كلّ يوم تحدث تخليطاً عظيماً. فمن أجل هذه الآلام كلّها صارت النفس الآن في الابتداء تكون أوّل ما ترتبط بالبدن الميّت عديمة العقل. فإذا قلّ مجيء مجرى النماء والغذاء، رجعت الاستدارات إلى السكون فعادت إلى طريقها وكلّما امتدّ الزمان كان ترتيبها أكبر، وصار كلّ واحد من الأدوار إلى الشكل الطبيعيّ، وأصلحت الاستدارات للاختلاف والاتّفاق، كما ينبغي أن تسمّى بالاستقامة 〈و〉صيّرت الذي يكون لها عاقلاً. يؤيّد بقوله: فإذا قلّ مجيء مجرى النماء والغذاء، أن يدلّ على

الرطوبة التي ذكرها آنفاً وصيّرها علّة لجهل النفس، لأنّ اليبس في مائيّته يؤدّي النفس إلى العقل والرطوبة إلى الجهل.

فإن كانت الرطوبة تفعل عدم العقل واليبوسة تفعل العقل، فاليبوسة في الغاية تفعل غاية العقل، واليبوسة المخلوطة بالرطوبة تقلّل من العقل الكامل بقدر مشاركة الرطوبة لها. فإنّ الحيوان الميّت موجود بدنه عديم الرطوبة مثل جرم الكواكب ليس، ولا واحد على هذه الصفة ولا قريب منها. فإذاً ليس من الأجسام الحيّة المائتة شيء يقرب من غاية العقل، لأنّ هذه بحسب ما فيها من الرطوبة يكون ما فيها من عدم العقل.

فإذا كان الجزء الفكريّ من أجزاء النفس وجوهره جوهر خاصّ قد يتغيّر بتغيّر مزاج البدن، فما الذي ينبغي أن تتوهّم في النوع الميّت! أقول إنّه بيّن أنّه يتعبّد لمزاج البدن غاية التعبّد.وأجود من هذا ألّا يقال: إنّه يتعبّد، بل يقال: الجزء الميّت من أجزاء النفس هو مزاج البدن. وذاك أنّا قد بيّنّا فيما سلف أنّ الفنس الميّتة هي مزاج البدن، فمزاج القلب هو النوع الغضبيّ من أنواع النفس، ومزاج الكبد هو النوع الذي يسمّيه أصحاب أفلاطن الشهوانيّ ويسمّونه أصحاب أرسطاطاليس المغذّي والنباتيّ.

وأمّا أندرونيقوس المشّاء فإنّي أمدحه مدحاً كثيراً على أنّه أقدم فقضى على جوهر النفس قضيّة كلّيّة بلا مراقبة من غير أن يعقد الكلام ويغمضه. وقد أجد هذا الرجل يفعل ما وصفته به في أشياء أخر كثيرة، وإرادته هذه حسنة عندي مقبولة. ولكن لأنّه قال: إنّها إمّا مزاج وإمّا قوّة تابعة للمزاج، قد أذمّه وألومه في

زيادة قوّة، وذلك لأنّ النفس جوهر ذات قوى كثيرة، وقد ذكر أرسطاطاليس وفصّل مع ذلك اشتراك الاسم تفصيلاً حسناً. وذاك أنّه لمّا كان الجوهر يقال على الهيولى والصورة والجسم المؤلّف منهما، قضى بأنّ النفس جوهر على جهة الصورة. وليس يمكن أن يقال: إنّ هذه الصورة شيء سوى المزاج، على ما أوضحنا آنفاً.

وهذا الجنس من أجناس الجوهر يخصّ النفس على رأي الرواقيّين أيضاً، وذلك لأنّهم يرون أنّ النفس روح كما يرون ذلك في الطبيعة أيضاً، إلّا أنّ روح الطبيعة عندهم أرطب وأبرد وروح النفس أيبس وأحرّ. فتحصّل أنّ هذا الروح هو هيولى خاصّيّة للنفس، وأمّا صورة هذا الهيولى فهو ضرب من ضروب المزاج يكون باعتدال الجوهر الهوائيّ والجوهر الناريّ، لأنّه ليس يمكن أن يقال إنّ النفس هواء فقط، ولا إنّها نار فقط، وذلك لأنّ بدن الحيوان لا يمكن أن يكون في غاية البرودة ولا في غاية الحرارة ولا يثبت على إفراط إحدى الجهتين على الإكثار. إذ كان متى أفرط عليه أحدهما وجاوز فيه الاعتدال إن كانت النار المجاوزة فيه الاعتدال حمّ. وإن كان الهواء برد برودة مفرطة وكمد لونه وعسر حسّه، وذلك لأنّ الهواء في نفسه عندهم بارد. فقد بان ووضح لك أنّ جوهر النفس على رأي الرواقيّين يكون بمزاج ما من الهواء والنار. وإنّ خروسبس 〈صار إلى الفهم من أجل اعتدال مزاجهما، و〉إنّما صاروا إلى الجهل والحمق بنو أبقراط الذين يشهدون بهم القومود وتخلّطهما فيهم على غير الاعتدال، ولكن لعلّ بعض الناس يقول : فليس ينبغي إذن أن يمدح خروسبس على فهمه ولا يذمّون أولئك على حمقهم وجهلهم، وكذلك أيضاً في أفعال النفس الغضبيّة ليس ينبغي أن يمدح ذوي النجدة ولا يذمّ

ذوي الجبن، وأيضاً في أفعال النفس الشهوانيّة لا ينبغي أن يمدح الأعفّاء ولا يذمّ أهل الشره والشبق.

(٥) (الباب الخامس في رأي جالينوس في النفس ونسبته إلى قول من قال إنّ جوهر العالم متّصل كلّه أو منقسم، وفي زيادة القول في العلاقة بين اليبوسة والفهم، وفي أمثلة أخرى على تأثيرات أمزجة البدن على النفس الفكريّة أيضاً)

وسف أفحص عن ذلك بعد قليل. وأمّا الساعة فإنّي زائد على ما بدأت به ما يحتاج إليه بعد أن أقول: إنّه ليس يمكن أن يوضح كلّ شيء في كلّ موضع. وإنّه لمّا كانت الأهواء في الفلسفة عند قسمتها الأولى هويين، وذاك أنّ بعض الناس رأوا أنّ الجوهر الذي في العالم متّصل كلّه، وبعضهم زعم أنّه منقسم متجزّئ بمشابكته للخلاء، رأينا أنّ الرأي الثاني ليس بحقّ بالدخل الذي لزم هذا الرأي ممّا وصفت في كتابي في الأسطقسّات على رأي بقراط. وأمّا في كلامي هذا فإنّي لمّا اتّخذت أصلاً أنّ جوهرنا يتغيّر وأنّ المزاج الذي يكون له يعمل جسماً واحداً طبيعيّاً، أوضحت أنّ قوام جوهر النفس بالمواج، متى لم يجعلها الإنسان ذاتا غير مجسّمة يمكن فيها أن تكون موجودة خلوّاً من الجسم كما وصفها أفلاطن. [وإنّ نحن وصفناها كذلك أيضاً،] فإنّا قد أوضحنا أيضاً أنّها إنّما تفعل بمزاج البدن، وسأزيد على ذلك براهين أخر أيضاً.

وأمّا الساعة فقد رأيت أنّه ينبغي أن أزيد هذا على ما تقدّم من القول في المزاج فأقول: إنّه يمكن الذين يرون أنّ النفس هي صورة الجسم أن يقولوا: إنّ اعتدال المزاج يجعلها لبيبة لا يبوسته، ويضادّوا بقولهم هذا من كان يرى أنّه كلّما كان المزاج أيبس كانت النفس ألبّ، وأن يسلّموا أيضاً أنّ اليبوسة هي سبب اللبّ، ولاكن لا يقرّون بأنّها اليبوسة المفرطة. وأمّا أصحاب إيراقليطوس،

وهو أيضاً زعم أنّ النفس الحكيمة جدّاً هي شعاع يابس، فإنّهم يبيّنون القول بأنّ اليبوسة التي هي سبب اللبّ المفرطة، لأنّ اسم الشعاع على هذا يدلّ. وينبغي أن يظنّ أنّ هذا الرأي أفضل من ذلك، إذا نحن أنزلنا الأمر على أنّ الشمس والكواكب لمّا كانت شاعيّة يابسة كانت في غاية العقل، وإن أنكر ذلك أحد من الناس وزعم أنّه ليس لها هذا، فإنّه يظنّ به أنّه لا يحسّ لجلالة أمر الحواريّ. فإن قيل: فما بال إذاً كثير ممّن بلغ غاية سنّ الشيخوخة اختلط، والشيخوخة قد وضح أنّها يابسة فنقول: إنّ ذلك يكون لا من قبل اليبوسة بل من قبل البرودة، فإنّ البرودة أيضاً قد تنقص أفعال النفس وتفسدها فساداً بيّناً.

وهذا القول وإن كان [ليس] خارجاً عمّا نحن فيه، فإنّه [ليس] يدلّ دلالة بيّنة من جمعة النحو الذي سلكناه في كتابنا هذا على أنّ أفعال النفس تابعة لمزاج البدن. فأقول: إنّه إن كانت النفس صورة الجسم المتشابه الأجزاء، فإنّ لنا على ذلك برهاناً صادقاً من جوهرها. فإن نحن وصفنا أنّها غير ميّتة وأنّ لها طبيعة خاصّيّة على ما قال أفلاطن، فقد يلزم الإقرار أيضاً على رأي أفلاطن بأنّها تتعبّد وتذعن للبدن في عدم العقل في الصبيان وفي المختلطين عند الشيخوخة وفي الموسوسين وفي الذين يصيرون إلى الجنون وإلى النسيان وإلى الاختلاط من قبل شرب الأدوية أو من قبل كيموسات رديئة تتولّد في البدن. وقد يمكن أن يقول بعض الناس: إنّ النفس إلى أن يصير من تصيبه هذه الآفات إلى النسيان أو إلى عدم العقل أو ذهاب الحركة أو ذهاب الحسّ، فإنّما تعاق عن استعمال قواها الطبيعيّة. فأمّا إذا هو وجدها تظنّ أنّها تبصر ما ليس يبصره وتسمع

ما لم يتفوّه به أحد وتتكلّم بأشياء سمجة أو بأشياء ليس ينبغي الكلام بها أو على ضرب آخر، فما لم يذهب عنها قواها الغريزيّة لها فقط بل قد دخلت عليها قوى ما ضادّة. وفي ذلك ما يدعو إلى الظنّ بكلّ جوهر النفس أنّه ليس غير الجسم. وإلّا فكيف تصير بمشاركتها الجسم إلى طبيعة هي ضدّها، إذ هي ليست بكيفيّة للجسم ولا صورة له ولا ألماً له [قوّة] ولا قوّة له؟ ولكنّا نضرب عن هذا لكيما لا يكون الشيء الخارج عن العمل أكثر وأعظم من العمل الذي أردنا. وقد نجد رداءة البدن تستولي على النفس استيلاء بيّناً ظاهراً في من يصيبه مالنخوليا وفي الوسواس وفي الجنون. وأمّا جهل الإنسان بنفسه وأقرابائه عند بعض الأمراض، كما ذكر ثوقيديدس أنّه عرض لقوم كثير مرضوا من الوبأ، وكما رأيناه نحن أيضاً عرض في هذا الوبأ الذي كان قريباً ودام سنين كثيرة، فإنّه يشبه ما يعرض في العين من القذى أو الماء المساتر البصر والمانع له من النظر من غير أن يكون في الروح المبصر شيء من الألم. وأمّا ما يعرض في البصر من رؤية الواحد ثلاثة، فإنّه دليل على ألم عظيم في القوّة المبصرة ويشبه ذلك ما يعرض من الاختلاط عند الوسواس.

(٦) (الباب السادس في تأثيرات الكيموسات الرديئة وأضرارها على النفس حسب ما جاء في كتاب طيماوس)

وقد يدلّ على أنّ أفلاطن قد كان يعلم أنّ النفس تألم من نداوة الكيموس [تكون] في البدن قوله: إنّه متى كان في البدن أنواع من البلغم الحامض والمالح وكيموسات مرّة مرّيّة وكانت منجرّة في البدن، ولم يكن لها نفوذ إلى خارج وكانت تجول في داخل البدن وخالطت النفس ببخارها فتشوّشت حركتها، أحدثت أمراضاً مختلفة

من أمراض النفس صعبة ويسيرة على قدر الكثرة والقلّة. وإذا صارت إلى ثلاثة مواضع النفس فعلت بحسب الموضع الذي إليه تصير أنواعاً مختلفة من صعوبة الخلق ومن خبث النفس، وربّما فعلت أنواعاً من التهوّر والجبن وأنواعاً من النسيان. فقد أقرّ أفلاطن في كلامه هذا إقراراً ظاهراً أنّ النفس تؤول إلى الشرّ والرداءة من قبل الكيموس الكائن في البدن، كما أقرّ بأنّها تصير إلى المرض من قبل البدن في قوله هذا الذي نذكره. قال : إنّ المنى قد يكثر في الدماغ حتّى يفيض كما تكون الشجرة كثيرة الثمار. ومن كان كذلك عرض له دائماً شبيه بما يعرض للتي ضربها المخاض، وكانت لذّته مفرطة بالشهوات واستعمال الباه والتوليد. وكان مفتوناً في أكثر عمره بذلك، وكانت نفسه مريضة بأهلة لإفراط اللذّة والأسى بسبب حال البدن. والذي عليه الرأي في من كانت هذه حاله أنّه إنسان سوء لا من قبل أنّه مريض النفس بل من قبل إرادته. والحقّ في ذلك هو أنّ الافتتان بالباه مرض التنفّس بإفراط يعرض من أجل الحال الخارجة من الطبيعة الرطبة السائلة المائيّة من تخلخل ما في البدن. فقد أبلغ أفلاطن القول في أنّ النفس تمرض من أجل كيموسات البدن الرديئة.

وليس بيان ذلك فيما يأتي به فيما يستأنف من قول الفيلسوف بدون بيانه فيما تقدّم، والذي قال: إنّ كلّ ما يقال من الانهماك في جهة الشهوات والتعبير بها من جهة أنّها بإرادة من الأشرار، هو في أكثر ذلك ليس بصواب، وذلك أنّه ليس أحد شريراً بإرادته ولكن من أجل حال رديئة يكون عليها البدن وتدبير بلا تأدّب. وهذه الأشياء عند كلّ أحد قبيحة، وإنّما تكون بلا إرادة. فقد بان وعلم أنّ أفلاطن كان موافقاً لما تقدّم البرهان منّي عليه من أقواله

هذه ومن أقوال له أخر كثيرة بعضها تكلّم بها في كتاب طيماوس مثل الكلام الذي ذكرناه الساعة وبعضها ذكرها في كتب له أخر.

(٧) (الباب السابع في تأثير مزاج الدم على قوى النفس، وفي الدلالات الفراسيّة على أخلاق الإنسان، حسب ما قال أرسطوطاليس في كتابه في أعضاء الحيوان وكتابه في الأخبار عن الحيوان)

وقد يستبين أنّ أرسطاطاليس إنّما يرى أنّ النفس تابعة لمزاج الدم الذي من الأمّ وهو الذي قال: إنّ البدن يكون منه، من قوله هذا الذي قاله في المقالة الثانية من كتابه في أعضاء الحيوان، فإنّه قال: إنّ الدم الكثير الغليظ الكثير الحرارة يفعل القوّة والجلد أكثر، والدم الأكثر لطافة الأكثر برودة يفعل الحسّ والفهم أكثر. والحال فيما يقوم لسائر الحيوان مقام الدم كالحال في الدم. ومن أجل ذلك صارت الزنابير وما أشبهها من الحيوان أكثر فهماً بالطبع من كثير من الحيوان ذوات الدم، ومن الحيوان ذات الدم أيضاً ما كان منها ذا دم بارد لطيف هو أفهم ممّن هو منها على خلاف ذلك، وأفضلها كلّها ما كان منها حارّ الدم ولطيفه وصافيه، لأنّ هذه أجود في النجدة وفي الفهم. ومن أجل ذلك صارت هذه الفضيلة تتبيّن في الأعضاء الفوقانيّة دون السفلانيّة واليمانيّة دون الشماليّة والذكور دون الإناث. فقد بان من هذا القول أنّ أرسطاطاليس يرى أنّ قوى النفس تابعة لطبيعة الدم، وقد بيّن هذا الرأي أيضاً فيما بعد هذا الكلام من هذه المقالة بياناً ليس بدون ما تقدّم، فقال: وأمّا الشظايا فمن الدم ما هي موجودة فيه ومنه ما ليست موجودة فيه مثل دم الأيايل والظباء. ولذلك ليس يجمد مثل هذا الدم، لأنّ الدم المائيّ أكثر برودة، ومن أجل ذلك لا ينعقد. وأمّا الدم الأرضيّ فينعقد إذا لهبت رطوبته وتبخّرت، والشظايا التي تكون في الدم هي أرضيّة.

وقد يعرض أن يكون كثير ممّا أشبه هذا الحيوان أبعد وأعمق آراء، وليس ذلك لبرودة الدم بل للطافته وصفائه، فإنّ الدم الأرضيّ ليس فيه واحدة من هاتين الخصلتين. والحيوان الذي رطوبته ألطف وأصفى هو أسرع حسّاً. ومن ذلك قد نجد بعض الحيوان العديم الدم له نفس أكثر فهماً من بعض الحيوان ذوات الدم كما قلنا آنفاً مثل الزنابير والنمل وما أشبه ذلك. وأمّا الكثير المائيّة فهو أجبن، وذلك لأنّ الأفزاع برد، ومن أجل ذلك قد يجب أنّ ما كان من الحيوان مزاج قلبه على هذه الصفة فهو معدّ مهيّأ لهذا الألم، لأنّ الماء في طبيعته معدّ لأن يجمد بالبرودة. ولذلك صار الحيوان العديم الدم في جملة القول أكثر فزعاً من الحيوان ذوات الدم، إذا فزعت فبعضها يبطل حركته وربّما انبعث من بعضها فضول وربّما تغيّرت ألوانها. وأمّا ما كان دمه من الحيوان كثير الشظايا غليظاً، فهي في طبائعها أكثر أرضيّة وفي أخلاقها ذوات غضب مخرج لها إلى الطيش والعجز فيه، وذلك لأنّ الغضب يحدث حرارة. والأشياء التي هي أكثر صلابة إذا سخنت أسخنت أكثر من الأشياء الرطبة، والشظايا صلبة أرضيّة، فتقوم من أجل ذلك في البدن مقام التكميد وتحدث في وقت الغضب غليان. ولذلك صارت الثيران والخنازير البرّيّة ذوات غضب وطيش، لأنّ دم هذه فيه من الشظايا أكثر، ودم الثيران أكثر من جميع الدماء سرعة في الجمود. فإن أخذت الشظايا من الدم لم يجمد، وكما أنّه لو أخذ إنسان من الطين ما فيه من الأرضيّة لم يجمد الماء كذلك الدم أيضاً منّا، لأنّ الشظايا من الأرض. فإن لم تؤخذ منه الشظايا جمد كما تجمد الارض الرطبة من البرد، وذلك لأنّه إذا انعصر الحارّ بالبرد تهبّل معه الرطب كما قلنا آنفاً وجمد، لا لأنّه يجفّ بالحرارة بل لأنّه يجفّ بالبرودة، وهو في البدن رطب

لمكان الحرارة التي في الحيوان. فلمّا قدّم أرسطاطاليس هذا الكلام أتبعه بأن قال: إنّ طبيعة الدم التي هي في الحيوان سبب أشياء كثيرة في الأخلاق وفي الحسّ، وبحقّ كان ذلك، لأنّه هو مادّة البدن كلّه، وذلك لأنّ الغذاء هو مادّة والدم هو الغذاء الأخير، ومن أجل ذلك قد يفعل أصنافاً كثيرة إذا كان حارّاً أو بارداً أو لطيفاً أو غليظاً أو صافياً أو كدراً.

وقد رأيت أنّه وإن كان لأرسطاطاليس كلام كثير غير هذا في هذا المعنى في كتابه على الحيوان وفي كتابه في المسائل، فإنّ اقتصاصي لجميع كلامه من الفضل، لأنّه قد يكتفى بواحدة من هذه الشهادات في الدلالة على رأي أرسطاطاليس في أمزجة البدن وقوى النفس، إلّا أنّي زائد كلامه في المقالة الأولى من كتابه في الأخبار عن الحيوان الذي في الدلائل الفراسيّة. فإنّ بعض ما [ما] ذكر هناك مرتفع إلى المزاج بلا واسط وبعضه بتوسّط الدلائل الفراسيّة، ولا سيّما على رأي أرسطاطاليس، وذلك لأنّ أرسطاطاليس يرى أنّ خلقة جميع البدن في كلّ واحد من أجناس الحيوان تهيّأ وتعدّ ملائمة لأخلاق النفس وقواها. ومثال ذلك أنّ [كان] كون الحيوان ذوات الدم من الدم الذي من الأمّ، وأخلاق النفس تابعة لمزاج هذا الدم كما نبّه في كلامه الذي قدّمت وصفه. وخلقة الأعضاء الآليّه تعدّ وتهيّأ ملائمة لأخلاق النفس على رأي أرسطاطاليس. ومن أجل ذلك قد يدلّ دلالات كثيرة على أخلاق النفس ومزاج البدن. وبعض الدلائل الفراسيّة تدلّ على الأمزاج بلا شيء واسط، وهي الدلائل الكائنة من اللون ومن الشعر ومن الصوت ومن أفعال الأعضاء.

فننصت الآن لقول أرسطاطاليس في المقالة الأولى من الأخبار عن الحيوان، قال: وأمّا من الوجه فالجزء الذي أسفل من مقدّم الرأس فيما بينه وبين العين يسمّى الجبهة. ومن كان هذا الجزء منه كبيراً كان أبطأ حركة، ومن صغر هذا منه كان أسرع حركة، ومن كان فيه عريضاً كان طيّاشاً، ومن كان فيه مستديراً كان غضوباً. فهذا واحد من أقاويله، وله قول آخر قاله بعد هذا بقليل على هذا النحو قال: أسفل من الجبهة الحاجبان. فإن كانا مستويين فإنّهما يدلّان على سخنة رخوة، وإن كانا مائلين إلى ناحية الأنف فإنّهما يدلّان على خلق كيّس، وإن كانا مائلين إلى ناحية الأصداغ فإنّهما يدلّان على خلق أحمق هزليّ. ومن بعد هذا الكلام بقليل قال: وأمّا الجزء الذي يتّصل عنده الجفن الأعلى والجفن الأسفل فهو مأق العين، ومن المآقي اثنان عند الأنف واثنان ممّا يلي الأصداغ. وإذا كانت المآقي مستطيلة فإنّهما يدلّان على خلق رديء، وإن كانا اللذان يليان الأنف لحماً كالذي للإقطانس فإنّهما يدلّان على الشرارة. ومن بعد ذلك أيضاً قال: وأمّا العينان فإنّ بياضهما أكثر ذلك متشابهة في الناس، وأمّا المسمّى سواداً فيختلف، وذلك أنّه في بعض الناس أسود خالص وفي بعضهم شديد الزرقة وفي بعضهم أشهل، وهذا خاصّة يدلّ على خلق فاضل جدّاً. ومن بعد ذلك يضع هذا القول: والعينان منها كبار ومنها صغار وأفضلها كلّها المتوسّطة. ومنها ناتئة إلى خارج جاحظة جدّاً ومنها غائرة إلى داخل ومنها واسطة بين ذلك، والغائرة منها تدلّ على حدّة بصر في جميع الحيوان، وأمّا المتوسّطة فتدلّ على خلق فاضل، و〈منها〉 المحدّقة [القليلة] النظر ومنها القليلة التحديق ومنها المتوسّطة وهي تدلّ على

خلق فاضل جدّاً، وأمّا من القسمين الباقيين فالحدّقة تدلّ على قحة والقليلة التحديق على 〈عدم〉 ثبات. ومن بعد هذا بقليل لمّا أخذ في ذكر الأذنين تكلّم في عظمهما بهذا الكلام، قال: بعضها كبار وبعضها صغار وبعضها متوسّطة، وبعضها كبيرة النتوء وبعضها ليس لها نتوء بتّة وبعضها متوسّطة في ذلك، فالمتوسّطة منها في الوجهين تدلّ على خلق فاضل، وما كان منها كبيراً وناتئاً فإنّه يدلّ على عيّ في المنطق وهذيان. فهذا ما وضع أرسطاطاليس في كتابه في القصص عن الحيوان. وقد ذكر في كتبه الأخر مراراً كثيرة آراء فراسيّة، لو لا أنّني أفني الزمان باطلاً وأن يظنّ بي أنّي مطيل الكلام لأبنت الشهادات من ذلك الكلام. وأنا قادر أن أستشهد من كان متقدّماً لجميع الأطباء والفلاسفة في استنباط علم ذلك، أعني بقراط.

(٨) (الباب الثامن في التأثيرات الإقليميّة على أخلاق الإنسان وعقله حسب ما قال أبقراط في كتاب أصناف الهواء والمياه والمواضع)

فإنّه قد وضع في كتابه في أصناف الهواء والمياه والمواضع أوّلاً لمّا ذكر المدن المائلة إلى الشمال هذا القول [قولا]، قال: وأخلاقهم أكثر قسوة وجفاء. ومن بعد ذلك قال في المدن المائلة إلى الشرق هذا القول، قال: أجهر أصواتاً وأصلح أخلاقاً ممّن يسكن المدن المائلة إلى الشمال، وهم في الفهم والغضب أيضاً أفهم منهم. ومن بعد ذلك لمّا انبسط في الكلام أطنب في الشرح وقال: أقول إنّ بلاد آسيا أفضل من بلاد أوروفى كثيراً في طبيعة كلّ شيء من النبات ومن الناس، لأنّ جميع ذلك في آسيا أحسن وأعظم، وهذه البلاد خير من تلك، وأخلاق

من فيها من الناس أسكن وأفعالهم أحسن، والسبب في ذلك مزاج أزمنة السنة. يريد بذلك أنّ مزاج أزمان السنة ليس هو سبباً لما ذكرت من الأشياء التي هي سوى الخلق بل هو سبب للأخلاق أيضاً. وقد أوضحت أيضاً أنّه إنّما يقول: إنّ أزمان السنة تخالف بعضها بعضاً بالحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة بقياسات كثيرة وضعتها في الكتاب الذي برهنت فيه أنّه حافظ لرأيه في العناصر فيما وضعه في كتابه على طبيعة الإنسان وفي سائر كتبه كلّها. وكذلك أيضاً فيما يتلو هذا الكلام المتقدّم أخبر بهذا الرأي بعينه لمّا أخذ في ذكر البلاد المعتدل الذي قال: إنّه يجعل أخلاق الناس أيضاً معتدلة. وقال: إنّها ليست بمحترقة جدّاً من الحرارة ولا بكثيرة اليبس والجفوف [و]من قلّة المطر وعدم الماء ولا متقبّضة مضغوطة بالبرودة. ومن أجل ذلك قال فيما بعد: أمّا النجدة والقوّة واحتمال التعب وشدّة الغضب، فإنّه غير ممكن في مثل هذه الطبيعة لا للبلديّ ولا للطارئ، ولكن اللذّة لا محالة يجب أن تغلب عليه. وإذا أمعن في كتابه هذا أيضاً قال: أمّا القول في عدمان غضب الناس ونجدتهم، فعلى هذا: ألا إنّ أهل آسيا أقلّ محاربة من أهل أوروفى وأسكن أخلاقاً، والسبب في ذلك أزمان السنة خاصّة، وذلك لأنّها ليس تتغيّر تغيّراً كثيراً لا إلى الحرّ ولا إلى البرد بل تغيّراً قريباً. ومن بعد هذا بقليل يقول أيضاً: وقد تجد أهل آسيا أيضاً مختلفين، فبعضهم أكثر فضيلة وبعضهم أقلّ فضيلة، والسبب في ذلك تغيّر الأزمنة التي ذكرتها آنفاً. وإذا أمعن في المقالة أيضاً وصار إلى الكلام في سكّان أوروفى وضع هذا الكلام: وأمّا الخلق القاسي العديم الخاصّة الغضوب، فإنّه يكون في مثل هذه الطبيعة. ومن بعد هذا أيضاً في
موضع آخر من الكلام يقول: أمّا الذين يسكنون الموضع الجبليّ الخشن الوعر المرتفع الجيّد الماء الذي يكون فيه أزمان السنة العظيمة التغيير والاختلاف، فبالحقّ عظام يصلحون للتعب وللحروب والنجدة، ومن كانت طبيعته كذلك فإنّ أخلا قه قاسية سبعيّة. وأمّا الذين يسكنون في المواضع الغائرة النزهة المرحبة المخسفة التي تهبّ فيها الرياح الحارّة أكثر من الرياح الباردة ويستعملون المياه الحارّة، فإنّهم لا يكونون عظاماً ولا على القانون، وأمّا في العرض فإنّهم يزدادون، وهو ذوو لحم وشعرهم أسود وألوانهم إلى السواد أقرب منها إلى البياض والبلغم فيهم أقلّ من المرّة. وأمّا أخلاق النجدة والحروب والتعب فإنّها بالبطع ليست بموجودة ولكن إن تردف السنّة فعلت بهم ذلك. يريد بالسنّة التدبير السنّيّ في كلّ واحد من البلدان، وهو الذي نسمّيه التربية البلديّة والتأديب البلديّ والعادة البلديّة 〈وهو〉 الذي ينبغي أن يخطر ببالي [ببالك] فيما أريد ذكره بعد قليل. فإنّي الساعة أحبّ أن أزيد من قوله هذه الشهادات، قال: وأمّا الذين يسكنون بلداً مرتفعاً أملس كثير الرياح جيّد الماء، فإنّهم يكونون عظاماً متشابهين وأخلاقهم قليلة النجدة كثيرة السلامة. وأتبع ذلك بذكر البلدان، فقال: وأمّا الذين في البلدان الرقيقة العديمة الماء والشجر التي فصول أزمان السنة فيها غير معتدلة، فإنّهم بالحقّ ذوو صلابة أقوياء مائلون إلى البياض والحمرة أكثر من ميلهم إلى السواد، وهم في أخلاقهم وغضبهم متجبّرون وينفردون بآرائهم. وممّا استغنى به عن ذكر شهادات كثيرة من كلامه قوله: وقد تجد أكثر ذلك صور الناس وحالاتهم تابعة لطبيعة البلد. وقد ذكر في مواضع كثيرة من هذا الكتاب أنّ البلاد إنّما تخالف البلاد بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومن أجل ذلك قد يقول فيما بعد هذا:

حيث تكون الأرض سمينة جيّدة الماء ويكون الماء الذي فيها يعلوها حتّى يكون في الصيف حارّاً وفي الشتاء بارداً وتكون أزمان السنة جيّدة، فإنّ الناس يكونون ذوي لحم ضعفاء المفاصل ذوي رطوبة لا يستطيعون التعب ذوي رداءة في أنفسهم، ومن أجل ذلك قد يعتريهم على الأكثر الكسل والنعاس ويكونون غلاظاً في الصناعات، ليس لهم الطاقة ولا دقّة. وقد أخبر في هذا الكلام وبيّن أنّه ليس الأخلاق فقط تتبع أمزاج الزمان بل كلال الفكر والفهم تابعان لها. وقد ذكر أيضاً في الكلام الذي بعد هذا شيئاً شبيهاً بهذا، وقال: فأمّا حيث يكون البلاد مرتفعاً منتضباً وعراً ويكون البرد يقبضه ويضغطه والشمس تحرقه، فإنّه يجب أن يكون الناس هناك ذوي صلابة وقوّة ذات بقاء أقوياء المفاصل ذوي الشعر، والحركة للأعمال في مثل هذه الطبائع حادّة سريعة والسهر غالب عليها، وهؤلاء في أخلاقهم متجبّرون معجبون منفردون بالرأي، وفيهم من القسوة وعدم الخلطة أكثر ممّا فيهم من السلامة والسكينة، وهم في الصناعات أدقّ وأنفذ وفهمهم أكثر ويصلحون للحروب أكثر. وفي هذا الكلام أيضاً قد قال قولاً يبيّن أنّه ليس الأخلاق فقد يتبع أمزاج البلد بل بعض الناس يكونون أكثر دقّة ونفاذاً في الصناعات وأفهم وبعضهم أقلّ فهماً وأغلظ.

فليس بي إلى ذكر جميع العلامات الفراسيّة التي ذكرها في المقالة الثانية والسادسة من كتاب إبيذيميا حاجة، ولكنّي أقتصر على هذا القول وحده ليكون شهادة، قال: من كان العرق الذي في ساعده ينبض بسرعة، فهو جنونيّ حادّ الغضب، ومن كان هذا العرق منه ينبض بسكون، فإنّه يكون كليلاً، الذي يريد بقوله هذا هو أنّ

الناس الذين يكون الشريان الذي في ساعدهم يضرب مجسّه الذي يجسّه ضرباً قويّاً هو جنونيّون ذوو حدّة عند الغضب. وقد بيّنت مراراً كثيرة أنّ القدماء كانوا يسمّون الشريانات عروقاً، إلّا أنّهم لم يكونوا يسمّون جميع حركات الشريانات نبضاً، خلا الحركة التي يحسّها الإنسان وهي لا محالة القويّة. وأمّا أبقراط فإنّا نجده أوّل مرتبكاً بهذه العادة التي غلبت من بعد، وذاك أنّه قد ذكر في بعض المواضع النبض وأراد به جميع حركات الشريانات أيّتها كانت، وأمّا في هذا الكلام فإنّه استعمل العادة القديمة واستدلّ بحركة الشريان القويّة على الإنسان أنّه جنونيّ حادّ الغضب، وذلك لأنّ الشريانات تنبض هذا النبض من قبل كثرة الحرارة في القلب، وكثرة الحرارة تجعل الناس جنونيّين ذوي حدّة في الغضب وبرودة المزاج تجعلهم كسالى ذوي توانٍ وإبطاء وعسر الحركة.

(٩) (الباب التاسع في الردّ على زعم بعض الأفلاطونيّين المدّعين القائلين في أنّ تأثير البدن على النفس لا يكون إلّا في حالة المرض، وذلك تبعاً لما ورد في كتاب طيماوس وكتاب النواميس، وفي قول في وظيفة المزاج)

فإذا كان أبقراط قد أوضح في جميع كتابه على المياه والأزمان والمواضع أنّ أمزاج البدن تابعة لأمزاج الأزمان وكذلك فوى النفس أيضاً، وليس التي للنوع الغضبيّ أو التي للنوع الشهوانيّ فقط بل التي للنوع الفكريّ أيضاً، فإنّه شاهد ينبغي أن يصدّق ويقبل قوله أكثر من جميع الناس، إن كان الإنسان يبرهن على حقائق الآراء وصدقها بالشهود كما نجد ذلك عادة لبعض الناس، إلّا أنّي أنا ليس أصدّق هذا الرجل وأقبل قوله من أجل شهادته على قولي كما يفعل ذلك قوم

كثير بل لأنّي أجد براهينه على الأشياء حقّاً، ومن أجل ذلك أمدح أبقراط. فمن تراه لا يبصر أنّ الناس الذين يسكنون الجربياء هم ضدّ الناس الذين يسكنون قريباً من موضع الاحتراق في أبدانهم وأنفسهم؟ أو من تراه لا يعلم أنّ الذين يسكنون في الوسط في بلاد معتدلة هم أفضل في أبدانهم وأخلاق أنفسهم وفهمهم وعقلهم من سائر الباقين الذين ذكرتهم؟ ولكن لموضع قوم يسمّون أنفسهم أفلاطونيّة ويظنّون أنّ النفس إنّما يعوقها البدن بأمراضه، وأنّه إذا كان صحيحاً فعلت أفعالها الخاصّيّة لها، وليس تقبل منه منفعة ولا مضرّة، هوذا آتي بشهادات من كلام أفلاطن بيّنت فيها أنّ ما ينفع ويضرّ في الفهم من قبل أمزاج البلدان من غير أن يمرض البدن. منها قوله الذي وصفه في أوّل كتاب طيماوس، فإنّه قال: فلمّا رتّبنا اللّه تعالى بهذه الرتبة والترتيب أوّلاً اختار لنا موضعاً يمكن فيه اعتدال الأزمنة فأسكنناه، لأنّه علم أنّ مثل هذا الموضع سبب لكون ذوي العقول الراجحة من الناس. فقد ثبّت أفلاطون وبيّن بلا شكّ أنّ اعتدال الأزمان يولّد أناساً ذوي فهم فاضل. ومن بعد ذلك أتبع ما قدّم، فقال: لأنّ اللّه ليس بمحبّ للقتال حكيم اختار أوّلاً موضعاً من شأنه أن يتولّد فيه ناس يقتدون به فأسكنهم فيه. فقد بان وعلم ممّا سلف ومن هذا أيضاً أنّ أفلاطن يجعل للمواضع حظّاً عظيماً في أخلاق النفس والفهم والعقل، أعني بالمواضع مساكن الأرض. وكذلك أيضاً في المقالة الخامسة من كتاب السنن يقول: وإنّها يا ما جلّ وقلينيا، فليس ينبغي أن يذهب هذا علينا من أمر المواضع فيظنّ أنّه ليس يخالف بعض المواضع في توليد بعضها قوماً ذوي فضلية وبعضها قوماً ذوي دناءة. وهاهنا أيضاً قد بيّن في قوله أنّ

المواضع تولّد أناساً أكثر فضيلة وأقلّ فضيلة. ومن بعد ذلك أيضاً يقول: إنّ بعض الناس من قبل الرياح المختلفة ومن حرارة الشمس يكونون أوحاداً في حالاتهم غرباء، وبعض الناس يكون كذلك من قبل الماء، وبعض يكونون أجود وأردأ من الغذاء الواصل إلى أبدانهم من الأرض التي يمكن أن تفعل ما أشبه ذلك في النفس ليس بدون فعله في البدن. وقد أوضح في هذا الكلام وبيّن أنّ الرياح وحرارات الشمس تغيّر أخلاق النفس جدّاً من غير أن يمرض البدن. وزاد في قوله أيضاً: والغذاء من الأرض وطبائع المياة البلديّة.

وهذه فيما أحسب أبلغ في من ينفر من قولنا: إنّ قوى النفس تابعة لأمزاج البدن، إلّا أن يكونوا يرون أنّه يمكن أن يكونوا الناس في أنفسهم أكثر فضيلة وأقلّ فضيلة من قبل الرياح وحرارة الهواء المحيط بنا وبرودته وطبيبعة المياة والأغذية إلّا أنّ هذه ليس تفعل الجودة والرداءة في النفس بتوسّط المزاج، وهذا لعمري تابع لفهم هؤلاء القوم وآدابهم. وأمّا نحن فنعلم علماً يقيناً أنّ جميع الطعام إذا ابتلع نزل أوّلاً إلى البطن، فإذا استحال وتغيّر في البطن ثمّ تأدّى إلى العروق التي تجيء إلى البطن من الكبد كانت الكيموسات التي في البدن، وهي التي يتغذي بها جميع الأعضاء التي منها الدماغ والقلب والكبد، وإذا اغتذت سخنت أكثر ممّا كانت عليه أو بردت أو يبست أو رطبت، وذاك أنّها تتشبّه بقوّة الكيموس الغالب.

فليرجعوا الآن إلى عقولهم أولئك الذين يصعب عليهم ينفرون من أن يكون الغذاء يمكنه أن يجعل بعض الناس أعفّ وبعضهم أشره وأشدّ انهماكاً وبعضهم أضبط لنفسه وبعضهم أشدّ إهمالاً لها وبعضهم أشجع وبعضهم أجبن وبعضهم أسكن وأسلم وبعضهم ألجّ وأشهى

للغلبة، ويجيئون إليّ ويتعلّمون ما الذي ينبغي أن يأكلوا وما الذي يشربون. فإنّهم سوف ينتفعون بذلك في الفلسفة الأخلاقيّة منفعة عظيمة، ومع هذا أيضاً يجدون السبيل إلى الزيادة في فضائل النفس الفكريّة فيزدادون فهماً وذكراً وسرعة تعلّم وعقل، وذاك أنّي أكلّمهم مع الشراب والطعام ما الذي ينبغي أن يختاروه من الرياح وأمزاج الهواء والبلدان ومن أيّها ينبغي أن يهربوا.

(١٠) (الباب العاشر في تأثير الخمر على النفس حسب أقوال أخرى عن كتاب النواميس وكتاب طيماوس)

وأذكرهم أيضاً وإن كانوا لا يحبّون ذلك أنّ أفلاطون الذي به يسمّون أنفسهم لا مرّة ولا مرّتين بل مراراً كثيرة قد ذكر ذلك في كتبه على هذا المثال بعينه. وأمّا أنا فإنّي أكتفي بأن أزيد في قولي من كلامه ثلاث شهادات اثنين منها في شرب الشراب من المقالة الثانية في النواميس والثاثة في الطعام من كتاب طيماوس. والشهادة التي في المقالة الثانية في النواميس هو هذا: فنضع في بادئ القدم سنّة ألّا يذوق الصبيان الشراب إلى ثماني عشرة سنة، نعلّم بذلك أنّه لا ينبغي أن تزاد نار على نار في البدن والنفس قبل أن يعتدّوا في الأخذ في التعب في الوقت الذي يصبرون فيه إلى البعد من أجل الصبيان الجنونيّة. وأمّا بعد ذلك فليشربوا الرشاب باعتدال حتّى يصيروا إلى الثلاثين السنة، وأمّا السكر وكثرة الشراب فليمتنع منه الشباب البتّة إلى الأربعين السنة. فإذا هم بلغوا الأربعين السنة يودعون الشراب فليحمدوا اللّه الذي جعل للناس دواء نافعاً معيناً على كزازة الشيخوخة، حتّى أنّه يصيّر الإنسان إلى السلوّ عن الغموم وخبث النفس ويلين قسادوة الأخلاق، كما تلين النار الحديد وتصيّره يقبل الصنعة

والطبع بسهولة. فأنا أسأل الأفلاطونيّين ذوي النجدة إلّا يتذكّروا من هذا لقول ما قيل فيه على شرب الشراب فقط لكن ما قيل فيه على اختلاف الأسنان أيضاً، وذاك أنّه قال: إنّ سنّ الصبيان جنونيّة وسنّ الشيوخ كزّة قاسية كئيبة. وليس ذلك من قبل عدد السنين بل من قبل مزاج البدن الذي ليس هو واحد بعينه في جميع الأسنان، وذلك لأنّ سنّ الصبيان حارّة كثيرة الدم وسنّ الشيوخ قليلة الدم باردة. ومن أجل ذلك ينفع الشيوخ بشرب الشراب لأنّه يردّ برودة البدن إلى اعتدال الحرارة. فأمّا الذين هم في سنّ النماء فإنّه مضادّ لهم، لأنّ طبيعة هولاء تغلي وتحرّك حركات صعبة، فالشراب يلهبها ويخرجها إلى الحركات المفرطة الجنونيّة. وقد تكلّم أفلاطن في شرب الشراب في المقالة الثانية من كتاب النواميس مع هذا الذي ذكرناه بأشياء أخر كثيرة نافعة لمن أحبّ النظر فيها. وأمّا أنا فإنّي أذكر شهادة أخرى من كلامه الذي تكلّم به في آخر القول في شرب الشراب في الموضع الذي فضّل فيه سنّة القرخيدونيّين، وهي هذه قال: وأكثر ذلك أيضاً من سنّة أهل قريطى ولاقدمونيّة ما أنا زائد من سنّة القرخيدونيّين، وهي ألّا يذوق أحد من الناس في شيء من الأوقات الشراب في عساكر الجند بل يدمن في هذا الزمان كلّه شرب الماء، وفي المدينة لا يذوقه في شيء من الأوقات لا أمة ولا عبد ولا الوالي في السنة التي يلي فيها التدبير ولا النواتي ولا القضاة، ولا يذوقون الشراب البتّة ما داموا في العمل ولا أحد ممّن ينتاب مواضع المشورة ليتشاور مشورات ينتفع بها، ولا يشربها أحد بالنهار لكيلا يمرض البدن ولا بالليل أيضاً إذا فكر في طلب الولد رجلاً كان أو امرأة. وأشياء كثيرة أيضاً يمكن الإنسان أن يأتي بها لا ينبغي لمن أراد أن يكون صحيح العقل مستقيم السنّة أن يشرب الشراب معها. وإذا كان

أفلاطون قد قال هذا القول ليس في الأبدان المريضة بل في الأبدان الصحيحة صحّة غير مذمومة، إن كنتم ترون [أنّ] الأفلاطونيّون الأنجاد أنّ جنود العساكر والسلاطين والقضاة ومدبّري السفن إنّما يكونون الأصحّاء، فأجيبوني عن مسألتي هذه التي أسألكم: أترى الشراب يأمر النفس إذا شرب أمراً قسراً ألّا تفهم ولا تعقل حسب ما كانت تفهمه وتعقله قبيل ذلك، وألّا تفعل على الاستقامة والصحّة ما كانت تفعله قبل ذلك؟ ومن أجل ذلك يأمر أفلاطن أن تحذوره وتجتنبوه كما يجتنب العدوّ؟ لأنّه ساعة يدخل البدن يمنع مدبّري السفن من استعمال تحريك السكّان على ما ينبغي، ويمنع الجند من الحزم في التعبئة، ويجعل القضاة يخطئون ويزيغون عن العدل وجميع السلاطين يسيئون التدبير. أوليس ينبغي أن يتوهّم أنّ الشراب يأمرنا بشيء؟ إلّا أنّه إذا ملأ البدن كلّه بخارات حارّة وخاصّة الرأس، صار للجزء الشهوانيّ وللجزء الغضبيّ من أجزاء النفس سبباً إلى الحركات المفرطة، وللجزء الفكريّ سبباً إلى سرعة الصريمة. وإن كان ذلك كذلك فإنّ أفعال النفس قد يصل إليها الضرر يتوسّط المزاج إذا شربنا الشراب كما أنّا قد نرى أفعالاً أخر تنتفع به. فإن أحببتم معرفة ذلك علّمتكم أيضاً في وقت آخر ما الذي يمكن أن يفعله الشراب من المنفعة والمضرّة لنا بإسخانه إيّانا.

وأمّا الساعة فإنّي ذاكر الشهادة من طيماوس، وذلك أنّه لمّا قدّم أفلاطون فقال: إنّ الشريرين كلّهم إنّما يكونون كذلك لعلّتين خارجتين من الاختيار، وينبغي أن نجعل أبداً إحداهما التي هي الغارس أقوى سبباً من المغروس والمغذّي أقوى سبباً من المغتذي. أتبع ذلك بأن قال: وينبغي أن يروم الإنسان بقدر طاقته الهرب من

الشرارة واختيار ضدّها بالتدبير بالأغذية وبما يزاول من الأعمال وبالتعاليم. فكما أنّ من الأعمال والتعاليم ما ينفي الشرارة ويولّد الفضيلة فكذلك الأغذية. والأمر عند أفلاطن في الغذاء أنّه ربّما لم يستعمل على الطعام فقط لكن على جميع تدبّر الصبيان. ولكن ليس يمكن أن نقول: إنّه قصد هاهنا باسم الغذاء إلى المعنى الثاني، وذلك أنّه لم يقصد إلى الأمر للصبيان بل إنّما أراد به الكاملين. فقال: إنّه ينبغي للإنسان أن يروم بقدر طاقته أن يهرب من الشرارة ويختار ضدّها بالأغذية وبالأعمال وبالتعاليم. وأراد بقوله الأعمال أعمال الرياضة والموسيقى، وأراد بالتعاليم الحساب والمساحة، وأمّا الغذاء فليس يمكن أن يفهم عنه شيء سوى الغذاء الكائن بالأطعمة والأحساء والأشربة التي أحدها الشراب الذي قد أخبر عنه أفلاطن كثيراً في المقالة الثانية من كتاب النواميس. فمن أحبّ أن يعرف جميع قوى الأغذية دوني، فقد يمكنه أن ينظر في الثلاث المقالات التي وضعتها في الأطعمه وفي المقالة الرابعة التي وضعت فيها جودة الكيموس ورداءته. والحاجة إلى هذه المقالة خاصّة في هذا الفنّ أكثر، وذلك أنّ رداءة الكيموس تفسد أفعال النفس وتضرّها في جهات كثيرة، وأمّا جودة الكيموس فإنّها تحفظها بلا مضرّة.

(١١) (الباب الحادي عشر في تضمّنات موضوع المقالة بالنسبة إلى الأخلاق)

فهذا القول إذاً ليس يدفع ولا يعطّل الفوائد الفاضلة التي تستفاد بالفلسفة بل يشرحها ويعلّم ما هو مجهول منها عند كثير من الفلاسفة، وذلك لأنّ الذين ظنّوا أنّ جميع الناس قابلون للفضيلة، وقولهم مساوٍ

لقول من قال: إنّه ليس يولد الإنسان شريراً في طبيعته، والذين ظنّوا أنّه ليس أحد يختار العدل لنفس العدل، إنّما يظنّ كلّ واحد منهم في الطبيعة الإنسيّة على النصف، وذلك لأنّه ليس جميع الناس بمبغضين للعدل بطبيعتهم ولا كلّهم محبّين، لأنّ الفريقين إنّما هما كذلك من قبل أمزاج الأبدان، إلّا أنّهم يقولون: فكيف إذاً نحمد أو نذمّ أو نحبّ أو نبغض الإنسان بالعدل، وهو لا يكون خيراً ولا شريراً من قبل نفسه بل من قبل المزاج الذي إنّما اكتسبه من أسباب أخر؟ فنقول: إنّ لنا أجمعين في الطبيعة أن نألف الخير ونقبله ونحبّه ونهرب من الشرّ وندفعه ونبغضه، من غير أن نتقدّم فنقيس هل ذلك بالطبع أم بغير الطبع أم فعله فيه غيره، وذلك أنّا قد نبغض العقارب والرتيلاء والافاعي ونقتلها، وإن كانت من طبيعتها صنعت كذلك وليس هي صيّرت أنفسها. والإلاه الأوّل العظيم يقول أفلاطن: إنّه غير مصنوع ولا مكوّن، ويسمّيه خيراً جواداً، ونحن جميعاً نحّبه حبّاً طبيعيّاً، وإن كان كذلك منذ الدهر وليس هو جعل نفسه كذلك، لأنّه ليس بمكوّن ولا مصنوع بل لم يزل كذلك. فبالحقّ إذاً نبغض الناس الأشرار من غير أن نتفكّر في السبب الذي أصارهم إلى ذلك ويحلّ الأحرار منّا بخلاف ذلك المحلّ، فنقبلهم ونحبّهم، وإن كانوا صاروا كذلك من الطبع وإن كانوا من التأديب والتعليم وإن كانوا صاروا بالإرادة. وبالحقّ نقتل الذين حالهم في الشرّ غير قابلة للعلاج لثلاث علل: واحدة منها لكيما لا يؤذونا إن بقوا أحياء، والثانية ليكما يدخل بهم الفزع على أشباههم بأنّهم يعاقبون إن هم جنوا مثل جنايتهم، والثالثة أنّهم إذ كانوا من الفساد في حال شرّ غير قابل للعلاج، فإنّ الموت أصلح

لهم من البقاء على دوام شرارتهم، فإنّ من طبائع الانفس ما تبلغ بها الشرارة إلى حدّ لو أنّ الموسى أدّبتها دع أن أقول سقراطيس أو فيثاغورس لم يمكن فيها الميل إلى الفضيلة.

وأنا أعجب من الرواقيّين كيف ظنّوا أنّ جميع الناس في طبيعتهم متهيّئون لقبول الفضيلة، إلّا أنّ آراءهم تميل عنها من قبل الذين يعاشرونهم ويحاورونهم. وأدع جميع الأشياء الأخر التي تنقص كلامهم هذا وتبطله، وأسألهم عن هذه الواحدة في الناس الأشرار الأوّلين الذين لم يتقدّمهم إنسان آخر شرير، من أين وممّن اكتسبوا الميل إلى الشرّ؟ فإنّه ليس لهم في ذلك جواب، كما أنّهم إذا رأوا أيضاً صبيان صغار أشرار جدّاً لم يمكنهم أن يقولوا من الذي علّمهم الشرّ، ولا سيّما إذا نشأ صبيان كثير منشأ واحداً بعينه مع آباء بأعيانهم أو معلّمين أو مؤدّين بأعيانهم وكانوا متضادّي الطبائع. فإنّي لا أحسب أنّه يكون شيء أكثر مضادّة من صبيّين، أحدهما ودود سمح والآخر حسود، أو أحدهما رحيم والآخر مسرور بالشرّ الذي ينال الناس، أو أحدهما جبان عن كلّ شيء والآخر جريء على كلّ شيء، أو أحدهما جاهل جدّاً والآخر عاقل جدّاً، أو أحدهما محبّ للصدق والآخر محبّ للكذب. وقد نجد الصبيان وإن كانوا نشؤوا مع آباء بأعيانهم أو معلّمين أو مؤدّبين قد يخالف بعضهم بعضاً بهذه الأضداد التي ذكرناها. وليس أحد من الفلاسفة اليوم يتفطّن في مثل هذه الأمور، وينبغي فيما أحسب ألّا نقول فلاسفة بل نقول مدّعين للفلسفة، وذلك لأنّهم لو كانوا يتفلسفون على الحقيقة لكان الذي يحفظونه ويجعلون فطنتهم فيه هذا أن يجعلوا أوائل

براهينهم من الأشياء الظاهرة للحسّ. وإنّ الفلاسفة القدماء خاصّة من بين الناس كانوا يستعملون ذلك، وسمّاهم الناس في ذلك الزمان حكماء من غير أن يضعوا كتباً ولا علماً منطقيّاً ولا علماً طبيعيّاً ولكنّهم ابتدءوا بعلم الفضائل الخلقيّة من الأشياء الظاهرة للحسّ، وكانوا يظهرون ذلك بالفعل لا بالكلام. وهؤلاء الفلاسفة لمّا رأوا الصبيان قد يسوءون في الابتداء، وإن أدبوا أدباً فاضلاً من غير أن يروا شيئاً يكون لهم في ذلك مثالاً وقدوة في الشرارة، قال بعضهم: إنّ الناس كلّهم أشرار بالطبع، وبعضهم قال: إنّ كلّهم إلّا القليل أشرار. وذلك لأنّه بالحقّ إنّما يوجد صبى غير مذموم في الندرة، ومن أجل ذلك أولئك 〈الذين〉 لم يروا مثل هذا بنوا على جنيع الناس أنّهم أشرار بالطبع. وأولئك الذين رأوا واحداً واثنين في الندرة لم يقولوا: إنّ الناس كلّهم أشرار، ولكن أكثرهم. فإن ترك الإنسان عنه الأهواء التي تدعو إليها للجاجة وحبّ الغلبة وأحبّ أن ينظر في الأمور برأي لا تغلب عليه الأهواء الرديئة مثل الفلاسفة القدماء، فإنّه يجد الصبيان المتهيّئين للفضائل قليلين جدّاً، فيذهب عنه بذلك الظنّ بأنّا كلّنا ممكن فينا قبول الفضائل، وأنّ آراءنا إنّما تميل إلى الشرّ من الآباء أو من المعلّمين أو المؤدّبين، لأنّ الصبيان لا يلقون قوماً آخر غير هؤلاء.

والذين يقولون: إنّ آراءنا تزيغ من قبل اللذّة والأذى، لأنّ اللذّة لها استدعاء واجتلاب إليها والأذى مكروه مهروب منه جهّال جدّاً، لأنّا إن كنّا كلّنا مميّلين إلى اللذّة واللذّة ليست بخير بل هي كما قال أفلاطن مصيدة عظيمة للشرّ، فنحن بأجمعنا أشرار بالطبع، وإن لم نكن كلّنا كذلك ولكن بعضنا، فأولئك هم الأشرار

بالطبع. وأيضاً إن لم تكن فينا قوّة قويّة مميّلة إلى الفضيلة أكثر من ميلها إلى اللذّة أو قوّة أقوى من القوّة التي نجدها بنا إلى اللذّة، فنحن بأجمعنا أشرار بالطبع لأنّ القوّة الفاضلة فينا أضعف والقوّة الرديئة أقوى. وإن كانت الفاضلة أقوى، فما الذي صيّر الناس الأشرار الأوّلين إلى أن غلبت عليهم القوّة الضعيفة؟

فبهذه الأشياء وبّخ الراوقيّين أعلمهم كلّهم فوسيذونيوس الذي يذمّونه ويعذلونه سائر الرواقيّين بسبب الأشياء التي بها وحدها يتسأهل المدحة الكثيرة، لأنّ أولئك رضوا واختاروا إيثار آرائهم وهواهم هذا. وأمّا فوسيذونيوس فإنّه اختار ترك هذا الهوى الرواقيّ على ترك الحقّ. ومن أجل ذلك في كتابه على الآلام يرى آراء نضادّة لآراء خروسيفوس جدّاً، وكذلك أيضاً في كلامه في أصناف الفضائل، ويذمّ خروسيفوس ويعذله في أشياء كثيرة ممّا تكلّم به في أقواله المنطقيّة، وأكثر من ذلك أيضاً عذله إيّاه على أشياء كثيرة ممّا تكلّم فيها في أقواله في أصناف الفضيلة. فقد بان إذاً أنّ فوسيذونيوس أيضاً لم يكن يرى أنّ الشرّ يدخل على الناس من خارج من غير أن يكون له في أنفسنا شيء من الأصول الخاصّيّة التي منها مبدأه ونباته ثمّ يتفرّغ بعد ويمني، بل الأمر على خلاف ذلك. وذلك أنّ فينا ترد الفضائل والشرور، وليس حاجتنا إلى الهرب من الأشرار كحاجتنا إلى اتّباع من يصلح ويمنع من نماء الشرارة، وذلك لأنّ الأمر ليس على ما يقولون إنّ الشرّ كلّه يدخل أنفسنا من خارج بل أكثر الشرّ هو للأشرار من أنفسهم، والذي يداخل منه من خارج هو أقلّ من هذا كثيراً. ومن هؤلاء الأشرار يكتسب الجزء العديم النطق من أجزاء النفس أخلاقاً وعادات ردئية والجزء الفكريّ آراء وظنوناً كاذبة، كما أنّا إذا تأدّبنا بتأديب قوم أخيار ذوي فضائل اكتسبت النفس الناطقة آراء وظنوناً صادقة والنفس العديمة النطق أخلاقاً وعادات حسنة جياداً.

والذي يتبع المزاج في الجزء الفكريّ من أجزاء النفس سرعة الفهم والجهل والكثرة والقلّة في ذلك، وفي الجزء العديم النطق الحركات المعتدلة والمفرطة وفي هذا أيضاً كثرة وقلّة. وأمّا الأمزاج فإنّها تابعة للكون الأوّل والتدابير الجيّدة الكيموس والرديئة الكيموس، وبعض هذه يمني بعضاً، وذلك أنّه يحدث من قبل المزاج الحارّ حدّة الغضب وحدّة الغضب أيضاً يشتعل ويلهب الحرارة الغريزيّة، وبخلاف ذلك من كان مزاجه معتدلاً، وكان لذلك حركات نفسه معتدلة، قد ينتفع بها في جودة الكيموس.

فقولنا نحن أيضاً موافق للأشياء الظاهرة بالحسّ، ويشرح ويفسّر أسباب ما يصيبنا من الآلام ومن الشراب ومن الأدوية، وأسباب ما نكتسب من التدابير الجيّدة والرديئة وأسباب ما ننتفع به من الأعمال والتعاليم، ويبيّن أيضاً ليس بدون لك علّة الاختلاف الطبيعيّ من الصبيان. وأمّا الذين يظنّون أنّ النفس لا تنتفع بمزاج البدن ولا تضرّ، فإنّه ليس يمكنهم أن يقولوا في اختلاف الصبيان شيئاً ولا أن يخبروا بسبب شيء من المنافع والمضارّ التي تكون لنا من التدابير ومن الأدوية، كما أنّه لا يمكنهم أن يخبروا بالعلّة في اختلاف الشعوب الذي من أجله كان بعضهم ذا غضب وبعضهم عديم الغضب وبعضهم ذو فهم وبعضهم عديم الفهم. فإنّ في الصقالبة رجلاً واحداً كان فيلسوفاً وهو أناخرسيس، وأمّا في أثينية فقد كان كثير من الفلاسفة، وكذلك أيضاً في أبديرى ممّن هو عديم الفهم كثير، وأمّا أثينية فهم قليل.

تمّ كتاب جالينوس في أنّ قوى النفس تابعة لمزاج البدن. والحمد للّه وحده وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وسلّم تسليماً.

عورض بالأصل فصحّ.

والحمد للّه وحده وصلواته على رسوله محمّد وآله وسلّم.