Hippocrates: De aere, aquis, locis (Airs, Waters, Places)
Work
Hippocrates, De aere, aquis, locis
(Περὶ ἀέρων, ὑδάτων, τόπων)
English: Airs, Waters, Places
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq or Ḥubayš ibn al-Ḥasan
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 850 and 890
Source
John N. Mattock, Malcolm C. Lyons. Kitāb Buqrāṭ fī l-amrāḍ al-bilādiyya. Hippocrates: On Endemic Diseases (Airs, Waters and Places). Arabic Technical and Scientific Texts 5. Cambridge (W. Heffer and Sons) 1969, 1-163
كتاب أبقراط في الأمراض البلاديّة
(١) قال أبقراط: ينبغي لمن أراد طلب علم الطبّ طلباً قاصداً أن يفحص أوّلاً عن أزمنة السنة وما يحدث فيها لأنّ بعضها 〈لا〉 يشبه بعضاً بل بعضها يخالف لبعض خلافاً بعيداً وقد تختلف أيضاً في انقلابها بذاتها.
إنّ السنين 〈التي〉 تحفظ أزمنتها على اعتدالها
أو مزاجاتها فالأمراض التي تعرض فيها تكون بهيئتها وعلى استوائها غير مخالفة ولا متبيّنة والأزمنة المخالفة الكثيرة الانتقال فإنّ الأمراض التي تعرض فيها غير مستوية ولا ملائمة أصلاً وانحلالها عسر شاقّ.
إنّ الرياح الحارّة والباردة العامّيّة منها
والبلاديّة تغيّر الأبدان.
إنّه ينبغي للطبيب أن يفكر في قوّة المياه أيضاً لأنّها مختلفة في المذاقة والوزن وكذلك تختلف في القوّة أيضاً اختلافاً شديداً.
إذا أقبل أحد إلى مدينة لم يدخلها ولم يكن له بها خبرة فيحقّ عليه أن يستقصي هيئة وضع المدينة كيف وضعت من سمت الرياح ومشارق الشمس لأنّها لا تكون كلّها سواء وذلك أنّه إذا كانت المدينة
سمت الشمال فإنّها لا تكون على هيئة المدينة التي سمتها الجنوب ولا تكون المدينة التي سمتها المشرق على وضع المدينة التي سمتها المغرب.
إنّه ينبغي أن يفكر أيضاً أعظم الفكر في وجوه المياه وكيف هي أبطائحيّة هي راكدة أو ليّنة أو متنة سائلة من نواحي مشرفة صخريّة أو مالحة بطيئة النضج: إنّه ينبغي للطبيب أيضاً أن يفكر في الأراضي إن كانت جرداء عديمة الماء أو شعراء كثيرة الماء أو كانت غائرة غميمة أو مشرفة باردة وينبغي أن
يفكر في غذاء الناس وفي أيّة لذّتهم أفي كثرة الشراب والأكل وحبّ الدعة أو حبّ العمل والكدّ والأكل وأن يفحص عن كلّ واحد من هذه الأشياء في كلّ بلد.
(٢) إنّ الطبيب إذا علم كلّ ما ذكرنا من الأمور أو جلّها ولم يجهلها فإنّه إذا دخل مدينة لم يدخلها قبل ذلك ولم تكن له بها خبرة لم يسقط عنه من أمرها شيء لا من الأمراض البلاديّة ولا من طبائع بطون الأبدان ولا كيف هي ولا على أيّة هيئة هي فعند
ذلك لا يخفى عليه علاج الأسقام ولا يعدو وجه صواب ما ينبغي أن يعالج به وإن هو لم يعلم أحد هذه المواضع التي ذكرنا لم يقدر أن يعالج أحداً ولا يستعمل فكره فيه.
إذا مضى شيء من الزمان والسنة فإنّ الطبيب سيخبر بكلّ مرض عامّ يعرض لأهل تلك المدينة في الشتاء وفي القيظ وكلّ مرض خاصّ يعرض لكلّ واحد من أهلها من قبل تغيّر أغذيتهم.
إذا لم تكن الأمراض من فساد الهواء فإنّه لا ينزل المرض بأهل المدينة عامّة ولكنّه يكون متفرّقاً فإذا فكر الطبيب في هذا النوع وفي هذه الأشياء فعلم علماً كافياً كيف تكون الأزمنة كان حريّاً أن يكون علمه صواباً في الأشياء كلّها ويقع على الصحّة لعلمه بالداء ويكون صوابه في الصنعة كثيراً وخطاؤه يسيراً.
فإن ظنّ أحد أنّ الأشياء التي ذكرنا هي من العلم العلويّ فأقرّ به وصدّقه فإنّه سيعلم أنّ علم النجوم ليس بجزء صغير من علم الطبّ وذلك أنّ بطون
الناس تتغيّر في بعض الأزمنة.
القول في المدينة الأولى
(٣) إنّ كلّ مدينة موضوعة بإزاء الرياح الحارّة التي هي وسط شرق الاستواء أو غربه فإنّها تهبّ إليها هبوباً دائماً وتكون من إزاء الفرقدين ومياه هذه المدينة كثيرة حارّة مالحة اضطراراً وهي تسخن في القيظ وتبرد في الشتاء.
إنّ رؤوس سكّان هذه المدينة رطبة بلغميّة وبطونهم كثيرة الاختلاف دائمة.
إنّ الأغلب على هذه الأبدان الضعف: إنّ عمّار هذه المدينة لا يقدرون أن يكثروا من الطعام والشراب لضعف رؤوسهم ولذلك السبب لا يستطيعون الشراب الكثير لأنّ كثرة الشراب تغمّ الدماغ وتضيق عليه.
إن نساء هؤلاء الناس مرضى ذوات أسقام أبداً يكثر طمثهم فلا يشتملن وليس ذلك من قبل طبيعتهنّ ولكن من قبل أمراضهنّ فإن حملن أسقطن أكثر ذلك.
إن أولاد هؤلاء النساء قد يصيبهم الكزاز والربو
والسقم الكاهنيّ.
إنّ سكّان هذه المدينة من الرجال من يعرض لهم البغر واختلاف الدم والسقم الذي يدعى إبيالوس وحمّى طويلة شتويّة وليليّة وبواسير في المقاعيد.
إنّه لا يعرض لهؤلاء الناس العلّة التي ذكرنا ذات الجنب ولا وجع الرئة ولا الحمّى الملتهبة التي تدعى بالروميّة قوسوس ولا شيء من الأمراض الحادّة لأنّ هذه الأمراض لا تعرض لمن كان بطنه لدناً ليّناً.
قد يعرض لعيون هؤلاء الناس الرمد غير الشديد ولا الطويل إلّا أن ينزل بهم سقم عامّ وتهبّ الجنوب فتغيّر الهواء وتملأ الرؤوس فضولاً.
إذا أتى على هؤلاء الناس خمسون سنة عرض لهم نزلة من الدماغ فيهيّج فيهم الفالج الآخذ في جميع الجسد ولا سيّما إذا أصابت رؤوسهم بغتة حرارة زائدة أو برودة فائقة.
القول في المدينة الثانية
(٤) إنّ كلّ مدينة موضوعة بإزاء ناحية الرياح الباردة
ممّا يلي ناحية الغرب والشرق القيظيّين فإنّ هذه الرياح هي رياحها البلاديّة وتكون مستورة من الرياح الحارّة فهذه حال هذه المدينة.
إن مياه هذه المدينة يابسة بطيئة النضج حلوة أكثر ما يكون.
إنّ سكّان هذه المدينة من الناس أكثرهم أنس أقوياء سوقهم إلى الدقّة اضطراراً.
إنّ بطون هؤلاء الناس السفليّة جاسية جدّاً وأمّا
بطونهم العلويّة فسهلة لدنة سيّالة ممرورة لا بلغميّة.
إنّ رؤوس هؤلاء القوم صلبة يابسة شديدة صحيحة: إنّه يكون في هؤلاء القوم الفتق كثيراً.
إنّه ينزل بهؤلاء القوم هذه الأسقام التي هي ذات الجنب كثيراً والأسقام الحادّة اضطراراً وذلك لأنّ بطونهم جاسية يابسة.
إنّه قد يعتريهم أيضاً كثرة القيح في كلّ علّة وعلّة ذلك امتداد البدن ويبس البطن وجساوته.
إنّ هؤلاء القوم عروقهم تنقطع لحال برد الماء
لأنّ هؤلاء القوم يكثرون الأكل اضطراراً ولا يكثرون الشرب لأنّه لا يمكن أن يجمعوا كثرة الأكل والشرب.
إنّه لا يعرض لسكّان هذه المدينة الرمد سريعاً فإذا رمدوا تصدّعت أعينهم.
إنّ شباب هؤلاء القوم إذا كانوا بنى ثلاثين سنة أصابهم أيّام القيظ رعاف كثير شديد: إنّه لا يعرض لهؤلاء القوم الأسقام الكاهنيّة فإن عرضت كانت شديدة قويّة.
إنّ سكّان هذه المدينة قد تطول أعمارهم ما لا
تطول أعمار غيرهم.
إنّ القروح التي تكون في هؤلاء القوم لا تندى فلا تشدّ عليهم.
إنّ أخلاق هؤلاء القوم وحشيّة غير ساكنة ولا هادئة.
إنّ هذه الأسقام البلاديّة إنّما تعرض لسكّان هذه المدينة إن لم ينزل بهم سقم عامّ من قبل تغيّر الأزمان العامّيّة.
إنّ نساء هذه المدينة يكنّ عواقر لبرد الماء
ويبسه وإبطاء نضجه وذلك أنّ الطمث ربّما لم يكن على ما ينبغي وكان قليلاً فاسداً.
إنّه إذا نفس هؤلاء النساء أعني سواكن ما يلي الفرقدين فاشتدّ عليهنّ الولادة فلرداءة الماء يكون ذلك.
إنّ نساء هذه المدينة لا يسقطن أكثر ذلك فإنّهنّ إذا ولدن لا يقدرن على غذاء أولادهنّ لأنّه يطفأ الغذاء لجمود فيضان ألبانهنّ لبرد الماء وجسوته.
إنّه قد يعرض لهؤلاء النساء الكزاز ووجع الرئة
ويدعى بالروميّة فيسيس وهو السلّ وقد يعرض ذلك لهنّ من الولاد وإنّما يكون ذلك من تعذّر وضعهنّ وعسره فينقطع بعض العصب والعروق التي تكون في الرئة.
من الوصفاء قد يعرض لهم الماء الأصفر في الأنثيين إذا كانوا أطفالاً فإذا كبروا انفشّ ذلك وذهب عنهم: إنّ احتلام فتيان هذه المدينة يكون بطيئاً.
إنّ الرياح الحارّة والباردة والمدن الموضوعة على سمت ذينك الجزئين فهي على ما قلنا من الحالات.
القول في المدينة الثالثة
(٥) كلّ مدينة موضوعة سمت الرياح التي بين المطلع القيظيّ والشتويّ وكلّ مدينة موضوعة ضدّ هذه المدينة فإنّ القول فيها هذا، إنّ كلّ 〈مدينة〉 موضوعة ناحية شرق الشمس تكون أصحّ من المدينة الموضوعة ناحية الفرقدين ومن المدينة الموضوعة ناحية الرياح الحارّة.
إنّ الحرارة والبرودة في هذه المدينة أقلّ وأيسر: إنّ أمراض أهل هذه المدينة تكون أقلّ
وأضعف.
إنّ المياه الكائنة سمت طلوع الشمس هي مضيئة نيّرة صافية اضطراراً طيّبة الشمّ ليّنة لأنّ الهواء لا يكون فيها غليظاً والشمس تحول بينها وبين أن تغلظ وبيان ذلك أنّ الهواء الرطب يكون بالأسحار أغلظ وأجسى.
إنّ كلّ مدينة تكون على سمت الغرب تكون رطوبة هوائها باقية فيها كثيراً.
إنّ صور وجوه عمّار هذه المدينة حسنة الألوان
نيّرة وضيئة إن لم يحل دون ذلك مرض عارض فيضرّ بها.
إنّ أصوات رجالهم صافية حديدة: إنّ هؤلاء 〈لا〉 يغضبون سريعاً ولا يحتدّون.
إنّ النبات والأعشاب في هذه المدينة أقوى وأصحّ من غيرها.
إنّ هذه المدينة في هيئتها وذاتها لشبيهة بفصل الربيع في قلّة الحرّ والبرد.
إنّ أسقام سكّان هذه المدينة أقلّ وأضعف وكذلك
كلّ مدينة موضوعة في سمت الرياح اليسيرة الحرارة.
إنّ نساء هذه المدينة يعلقن كثيراً ويلدن بغير مشقّة.
القول في المدينة الرابعة
(٦) إنّ كلّ مدينة موضوعة سمت المغرب هي في كنّ من الرياح الشرقيّة وتهبّ إليها الرياح الحارّة والباردة من ناحية الفرقدين فتكون هذه المدينة رديئة وبيئة كثيرة الأمراض اضطراراً.
إنّ مياه هذه المدينة غير نقيّة ولا صافية وإنّ علّة ذلك الهواء الكائن عند الأسحار وذلك أنّ أسحار هذه المدينة تطول جدّاً فيختلط هذا الهواء الغليظ بالماء فيفسد صفاؤه ونقاؤه ولماعته ولأنّ الشمس لا تشرق في هذه المدينة أوّل ما تشرق وحتّى ترتفع وتعلو.
إنّه تهبّ في هذه المدينة أيّام القيظ عند الأسحار رياح باردة وينزل الطلّ فإذا كان في المساء أنضجت 〈الشمس〉 رجالها نضجاً فائقاً.
إنّه يكون هؤلاء الرجال من سكّان هذه المدينة مصفارين مرضى.
إنّ هؤلاء القوم تمرّ بهم الأمراض كلّها فلا يفلتون من شيء منها.
إنّ أصوات عمّار هذه المدينة ثقيلة بحّة لحال الهواء وكثرة ندوتها وكدورته.
إنّ ثمار هذه المدينة رديئة في زمان الخريف لكثرة تغيّره وإنّ ما بين صباح هذه المدينة ونصف النهار اختلافاً كثيراً لحال رطوبة الهواء الغليظ الكائن في الأسحار.
الجزء الثاني من كتاب أبقراط في الأمراض البلاديّة
(٧) قال أبقراط: إنّي قائل في المياه أيضاً أيّها أصحّ وأيّها أدوأ وكلّ ما يتبع المياه من المنفعة والمضرّة فإنّ علم ذلك علم فائق كثير في قوّة الجسد وصحّته.
المياه الظاهرة المستوية على وجه الأرض التي 〈...〉 لا تجري والأمطار تمطر عليها وتقوم معها فلا تبرح والشمس دائمة الإشراق عليها والإحراق لها فتكون
اضطراراً رديئة لا لون لها تولد المرّة.
إنّ هذه المياه تكون في الشتاء باردة جامدة كدرة من قبل الثلوج وإنّها تصير لذلك بلغميّة تورث البحوحة.
إنّ الذين يشربون من هذه المياه تعظم أطحالهم وتكبر وتستحصف.
إنّ الذين يشربون من هذه المياه تكون بطونهم جاسية نحيفة حارّة.
إنّ مناكب هؤلاء الناس وتراقيهم ووجوههم تهزل
وتنحل وذلك أنّ جلّ اللحم ينحلّ في الطحال وإنّه يكون ذلك من فساد الدم.
إنّ شاربي هذه المياه من الناس يكثرون الطعام ويدوم ظمأهم وعطشهم.
إنّ بطون هؤلاء أيضاً العليا والسفلى تكون جاسية جدّاً فيحتاجون إلى الادوية القويّة المسهلة.
إنّ هذا المرض لازم لهم في الشتاء وفي الصيف.
إنّه قد يعرض لهم الماء الأصفر كثيراً وإنّه
قاتلهم ويعرض لهم في القيظ اختلاف الأغراس والبطن وحمّى ربع طويلة مزمنة وهذه الأمراض إذا طالت حوّلت الطبائع ونقلتها وصار منها الماء الأصفر فقتلهم.
إنّ 〈شباب〉 هؤلاء القوم قد يعرض لهم أوجاع الرئة وأسقام تحيّر عقولهم.
وأمّا الشيوخ بها فإنّه يعرض لهم حمّى لهبة تدعى محرقة لحال يبس بطونهم.
أمّا نساؤهم فقد يعرض لهنّ أنواع الورم من
قبل بلغم أبيض فلا يحبلن إلّا بعد عسر ولا يلدن إلّا بمشقّة وتكون أجنّتهنّ عظاماً غلاظاً وكلّما غذوا هزلوا ورقّوا ولا يكون طمثهنّ على ما ينبغي.
قد يعرض للصبيان أيضاً أدرة وللرجال أسقام تدعى قرسوس وقروح في أسوقهم.
إنّ بهذه الطبائع لا يمكن أن تكون الأعمار طويلة ولكنّها يدخل الكبر عليها سريعاً في ممرّ الزمان ومضيه.
إنّ النساء يظهر أنّهنّ حبالى فإذا بلغ وقت الولاد ضمرت بطونهنّ ولم يكن من حبلهنّ شيء وهذا يكون علّة كلّ رحم فيه الماء الأصفر.
القول الثاني من الجزء الثاني في مياه العيون النابعة
إنّ المياه الرديئة في الشرج الثاني هي مياه العيون النابعة من بعض الصخور لأنّها جاسية اضطراراً والعيون النابعة من أرض حارّة ومن أرض معادن الحديد أو النحاس أو الفضّة أو الذهب أو الكبريت أو الشبّ أو الزفت أو النطرون فإنّ هذه كلّها إنّما تكون من
شدّة الحرارة فلا تكون من هذه الأرضين مياه نافعة مصلحة بل تكون عامّتها جاسية يعرض منها لمن يشربها عسر البول وشدّة الاختلاف.
إنّ المياه التي تنصبّ من مواضع مشرفة ومن تلاع ترابيّة أفضل المياه وأصحّها وهي عذبة حلوة لا يحتاج إلى كثرة مزج الشراب وتكون في الشتاء حارّة وفي الصيف باردة فهذه حال المياه النابعة من العيون الغائرة.
إنّ خير هذه المياه الفاضلة هي السائلة من
أفق شرق الشمس ولا سيّما الشرق الصيفيّ لأنّها بيض برّاقة طيّبة الريح اضطراراً.
إنّ كلّ ما كان من المياه مالحاً بطيء النضج جاسياً فإنّ الذين يشربون منه بلا حاجة إليه ليس بنافع لهم فإنّ بعض الطبائع والأسقام ربّما انتفعت به وسنذكرها أيضاً.
فأمّا ما كان من طعم الماء إلى الملوحة فكلّها رديئة مفسدة.
كلّ عين تكون سمت مشرق الشمس فماؤها خير المياه
كلّها ثمّ الثانية بعدها العيون التي بين أفق الشرق القيظيّ والغرب القيظيّ وأفضلها المائلة إلى الشرق ثمّ الثالثة بعد هذه العيون التي بين مغرب الشمس الشتويّ ثمّ القيظيّ وأردأ هذه المياه العيون التي في ناحية 〈الجنوب〉.
فأمّا العيون التي بين المشرق الشتويّ والمغرب الشتويّ فما كان منها ناحية الجنوب فهي ردئة جدّاً وما كان منها ناحية الشمال فهي خير من تلك وأفضل.
قد ينبغي أن تستعمل هذه المياه على ما أذكر من كان صحيحاً قويّاً فليشرب من الجاري منها بغير مخافة.
من أراد من الناس أن يشرب من هذه المياه لسقم عرض له فليختر ما يوافق سقمه فإنّه إذا فعل ذلك لم تخطئه الصحّة.
من كان جاسي البطن من الناس محترق فإنّ المياه العذبة الخفيفة الصافية له نافعة ومن كان من الناس بطنه ليّناً لدناً بلغميّاً فإنّ المياه الجاسية
البطيئة النضج المالحة له نافعة.
وكلّ ما كان من المياه سريع النضج 〈...〉 جاسي فإنّه ييبّس البطن ويحبسه.
إنّ الناس أساؤوا النظر وأخطأوا خطاء بيّناً حين ظنّوا أنّ المياه المالحة تسهل البطن لقلّة معرفتهم فهي ضدّ الإسهال لأنّها جاسية بطيئة النضج ويستحصف منها البطن فلا يلين.
القول الثالث من الجزء الثاني يذكر فيه الماء المطريّ
(٨) إنّ مياه الأمطار خفيفة عذبة نيّرة جدّاً: إنّ الشمس تختطف أوّلاً من الماء رقيقه وخفيفه والدليل على ذلك الماء المالح فإنّه يبقى على حاله لثقله وملوحته وغلظه فأمّا الرقيق الخفيف فإنّ الشمس تختطفه لرقّته.
إنّ الشمس تصعد هذا الماء ليس من الأنهار وحدها لكن من البحور أيضاً وكلّ المواضع الرطبة والرطوبة
توجد في الأشياء كلّها.
إنّ الشمس تنشف من الناس أخفّ وألطف ما فيهم من الرطوبة وعلامة ذلك إذا كان الإنسان ماشياً أو جالساً في الشمس وعليه لباسه وثيابه 〈...〉
إنّ الإنس إذا كان في الظلّ كان عرق بدنه عرقاً مستوياً لبعد الشمس عنه ولذلك صارت مياه تعفن فتريح رائحة رديئة لأنّها اجتمعت من مياه شتّى فصارت أسرع عفناً وتغيّراً من غيرها.
إنّ هذه المياه إذا اختطفت وعلّقت في الجوّ فإنّها تبرد وتختلط بالهواء فأمّا المياه الكدرة منها الشبيهة في سوادها بالليل فإنّها تفترق وتعتزل ناحية فيحدث منها هواء غليظ وضبابة وأمّا خفيفها فيبقى ويعذب من قبل طبخ الشمس وكذلك سائر الأشياء إذا ما طبخت صارت حلوة عذبة.
إنّ الرطوبة التي تنشفها الشمس مفترقة لا تزال معلّقة في الهواء فإذا اجتمعت كلّها فالتفّت بالرياح المتضادّة الملاقية بعضها بعضاً انصبّت الرطوبة ولا سيّما
إن كانت المنافس كما ينبغي وأكثر ما يكون هذا إذا استحكم اجتماع السحاب بالرياح واستقبلته ريح أخرى فمزقته وإذا تراكمت سحابة أخرى على السحابة الأولى وضغطتها انحدرت حينئذ الرطوبة وذلك أنّ السحابة عند ذلك تغلظ وتسودّ وتستحصف فتنحدر الرطوبة من ثقلها وتمزقها الرياح فتكون الأمطار المتتابعة لذلك.
إنّ هذه المياه أفضل المياه كلّها لأنّها ينبغي أن لا تكون لها رائحة رديئة فإنّه إن حدث لها ذلك
عرض لمن شرب منها البحّة والسعال وثقل الصوت وإنّ هذه المياه إذا طبخت لم يغيّر عنها الطبخ شيئاً.
القول الرابع من الجزء الثاني يذكر فيه المياه الكائنة من الثلوج
أمّا المياه التي تكون من الثلوج 〈و〉من الجليد فكلّها رديئة لأنّها إذا أجمدت مرّة لم ترجع إلى طبيعتها الأولى لأنّ ما كان من الماء خفيفاً عذباً صافياً نقيّاً أفلت من الجمود وطار وما كان من المياه كدراً بقي على حاله وتعرف ذلك بالوجوه التي أقول، إنّك إذا
أردت ذلك فصببت في أيّام الشتاء ماء في إناء بكيل معلوم فوضعته تحت السماء حتّى يجمد فإن رفعته عن موضعه ووضعته في الشمس أو في موضع دفيء حتّى ينحلّ فيه الجليد فإذا انحلّ وكلت الماء وجدته قد نقص نقصاناً كثيراً بيّناً فهذه علامة دالّة على أنّ لطيف الماء ينفشّ ولا يقع عليه الجمود والغليظ لا ينفشّ ولا يتروّح ولا يقدر على البراح من غلظه وموضعه.
إنّ هذه المياه التي تكون من الثلوج والجليد
وكلّ ما تبع ذلك هي أردأ المياه كلّها.
(٩) إنّ الناس إذا شربوا مياهاً شتّى مختلفة عرض لهم الأسر والحصاة في المثانة ووجع الخاصرة ووجع الوركين وفي الأنثيين أدرة ولا سيّما إذا شربوا من أنهار كبار ينصبّ إليها من أنهار واسعة أو بحيرة تنصبّ فيها سيول شتّى مختلفة وإذا شربوا من ماء يجري من موضع شامخ عرض ذلك لهم أيضاً لأنّ المياه
لا يشبه بعضها بعضاً وذلك لأنّ منها العذب الحلو ومنها المالح الشبّويّ ومنها ما يسيل من مواضع حارّة فإذا اختلط بعض هذه المياه ببعض فيغلب الأقوى منها حيناً ثمّ يغلب غيره ممّا دونه على قدر الرياح لأنّ منها ما يقوى بريح الجنوب ومنها ما يقوى بريح الشمال وعلى هذا الشرح.
فإذا كانت هذه المياه في إناء كان لها ثفل
ورمل فإذا شربت عرضت الأسقام التي ذكرنا أيضاً.
إنّ من كان بطنه سهلاً صحيحاً ومثانته غير شديدة الحرارة وعنق المثانة غير منضمّ فهؤلاء يبولون بغير عسر ويكون بولهم سهلاً لا يتردّد في المثانة منه شيء كدر وإنّ من كان بطن مثانته حارّاً جدّاً فإنّ عنق المثانة يكون حارّاً اضطراراً.
فإذا كانت المثانة حارّة مجاوزة لطبيعتها ورم عنقها وإذا ورم لم يسل منها البول وتحبسه في
كينونة الحجر البول الذي يبول الأحداث وفيهم الحصاة فإنّهم يبولون بولاً صافياً لطيفاً ويبقى غليظه وكدره فيتحجّر.
إنّ اللبن الرديء يولد حجارة في مثانة المرضعين ولا سيّما إذا كان حارّاً جدّاً مائلاً إلى المرّة الصفراء لأنّه يسخن البطن والمثانة فيحترق البول فيولد حجارة فأقول إنّ شرب الشراب رقيقاً ينفع الأطفال لأنّه لا يحرق العروق ولا ينحفها.
إنّ النساء لم يكن فيهنّ حجر لأنّ مباولهنّ صغار
عراض واسعة ولا يعنفن عليها ولا يعبثن ولا يحككنها بأيديهنّ كما يفعل الرجال وهنّ يقدرن أن يلمسن مباولهنّ لأنّ أفواهها في فروجهنّ.
ومباول الرجال ليس ثقبها مع أطراف ذكورهم وأفواه مثانات الرجال أضيق من أفواه مثانات النساء.
الجزء الثالث من كتاب أبقراط في الأمراض البلاديّة
(١٠) إنّ الأزمنة ينبغي أن تستعمل الفكر فيها حتّى تعرف كيف تكون السنة إن كانت سليمة أو سقيمة.
إن كان طلوع الكواكب وغيوبها على ما ينبغي وكانت مياه كثيرة في الخريف وفي الشتاء يسيرة ولا يكون الصحو كثيراً ولا البرد فوق القدر وكانت مياه معتدلة في الربيع وفي القيظ أيضاً كانت السنة صحيحة جدّاً اضطراراً.
إذا كانت علامات الكواكب على ما ينبغي في طلوعها وغروبها كانت السنة سليمة وصحّ الهواء.
إذا كان الشتاء يابساً شماليّاً والربيع كثير الأمطار جنوبيّاً عرض للناس في الصيف الحمّى والرمد واختلاف الأغراس اضطراراً لأنّه إذا يدخل الحرّ بغتة
والأرض نديّة من كثرة أمطار الربيع والجنوب يكون الحرّ مضاعفاً اضطراراً وذلك أنّ الأرض نديّة حارّة ومن احتراق الشمس تكون بطون الناس سهلة رطبة رخوة فيكثر اختلافهم وتلدن أدمغتهم.
فإذا كان الهواء على هذه الحال لم يمكن البدن واللحم أن لا يعفنا فينزل بهؤلاء حمّايات حارّة لهبة ولا سيّما من كان منهم بلغمانيّاً فأمّا اختلاف الأغراس
فيعرض للنساء ولكلّ ذي طبيعة رطبة.
إن كان في طلوع الكوكب الذي يدعى الكلب وهو الشعرى مطر كثير وشتاء وهبّت الرياح على أنوائها كفّت الأسقام ورجي أن يكون الخريف صحيحاً.
فإن لم يكن ما قلت على ما ذكرت كان الموت في الصبيان والنساء فأمّا في المشيخة فقلّ ما يحلّ بهم منه.
إنّ من نجا منهم عرضت له الحمّى الربع ومن
الربع يؤول إلى جمع الماء الأصفر.
إذا كان الشتاء جنوبيّاً كثير الأمطار والربيع يابساً شماليّاً شتويّاً فإنّ النساء الحوامل يسقطن في فصل الربيع إذا كان إبّان ولادهنّ فيه فإن ولدن ولدن أولادهنّ فيه مسقومين ليست لهم قوّة فلذلك إمّا يموتون من ساعتهم وإمّا يعيشون مهازيل مسقومين.
أمّا سائر الناس فمنهم من يعرض له اختلاف الأغراس ورمد يابس ومنهم من يعرض له نوازل من رأسه إلى رئته فأمّا البلغميّون والنساء فيعرض لهم اختلاف الأغراس
ما فيه من الفضول بالزكام والسعال فصار في ذلك أنّه جمد وانعقد وإذا دخل الصيف بحرّه وصار التغيير كثيراً عرضت هذه الأسقام التي ذكرنا لهم.
ما كان من الأمصار مقابل شرق الشمس ورياحه سليمة ومياهه عذبة فإنّ هذه المدينة قلّ ما يضرّها تغيّر الهواء من بين المدن التي ذكرنا.
إنّ كلّ مدينة يشرب أهلها ماء سباخيّاً بطاحيّاً وليست موضوعة سمت المشرق فليست رياحها سليمة فإنّها
تضرّ أهلها ضرّاً كثيراً لتغيّر الهواء بها.
إن يكن الصيف يابساً شديد الحرّ ذهبت الأمراض سريعاً وإن تكن أمطار كثيرة طالت الأمراض فإن عرضت ببعض العلل لأحد من الناس قرحة آلت إلى الآكلة اضطراراً.
قال أبقراط: قد يتبع أيضاً هذه الأسقام استرخاء البطن فيسمّى لينطريا والماء الأصفر وذلك أنّ البطون لا تجفّ جفوفاً هيّناً سريعاً وحيّاً.
إنّه إذا كان الصيف كثير الأمطار وكان جنوبيّاً
والخريف كمثل كان الشتاء اضطراراً سقيماً ويعرض للبلغميّين والشيوخ أبناء أربعين سنة حمّى لهبة تسمّى قوسوس فأمّا أصحاب المرّة الصفراء فيعرض لهم ذات الجنب ووجع الرئة.
إنّه إذ كان الصيف كثير الأمطار وكان جنوبيّاً وكان الخريف كثير الأمطار شماليّاً عرض للناس في الشتاء وجع الرأس وداء في الدماغ يقال له سفقلوس وسعال وبحوحة وزكام ويعرض السل أيضاً لبعضهم.
إذا كان شماليّاً يابساً ولم يمطر عند طلوع
الشعرى ولا عند طلوع أرقطورس وهو حافظ الدبّ صحّ أهل البلغم وقووا به وانتفعوا وأصحاب الطبائع الرطبة والنساء فأمّا أصحاب المرّة الصفراء فضارّ لهم جدّاً لأنّه تكثر يبوستهم ويعرض لهم رمد يابس وحمّيات حادّة مزمنة ومنهم من يعرض له المرّة السوداء وذلك أنّ ما كان من المرّة الصفراء رقيقاً مائيّاً يحترق ويبقى الغليظ من ذلك الحرّيف ويصير الدم أيضاً مثل ذلك فمن أجل ذلك يعرض لهم هذه الأسقام.
وأمّا أصحاب البلغم فإنّ هذه العلل التي ذكرنا
تنفعهم فإنّهم [لا] ييبسون وينتهون إلى الشتاء وليست أبدانهم رخوة لكنّها يابسة كثيفة.
(١١) إنّه إذا فكر أحد ونظر فيما ذكرت فإنّه يسبق فيعلم جلّ الأسقام الكائنة من قبل تغيّر الأزمان 〈...〉 الأغلب الأعظم أكثر ذلك.
ويحقّ على الطبيب أن لا يسقى الدواء فيها بإرادته ولا يكوي الأعضاء الغائرة ولا يفصد العرق
قبل أن تمضي عشرة أيّام أو أكثر.
إنّ التغيّر الكثير الموجع في كلّ تصرّف الشمس وإنّ التصرّف الصيفيّ هو أكثر تغيّراً من الربيعيّ فيحقّ أن تحتفظ أكثر ذلك من طلوع الكواكب وبخاصّة من طلوع الشعرى ثمّ من طلوع حافظ الدبّ ثمّ من غروب الثريّا لأنّ انحلال الأمراض في هذه الأيّام يطول إلّا أنّ
منها ما يزيد طوله ومنها ما يقلّ ومنها 〈ما〉 يستحيل إلى صورة أخرى وإلى حال أخرى.
الجزء الرابع من هذا الكتاب
(١٢) إنّي أريد أن أذكر جند آسية وجند أوروبى وكم اختلاف ما بينهما في كلّ شيء واختلاف صورهم لأنّهم يختلفون حتّى لا يشبه بعضهم بعضاً إلّا أنّ القول في الأجناد كلّها يكثر جدّاً غير أنّي أقتصر على أكثر الأجناد وأعظمها.
إنّ آسية مخالفة لأوروبى خلافاً كثيراً في طبائع النبات والناس وإنّها في أرض آسية خير وأفضل من أوروبى وإنّ حالات الناس في آسية أسكن وأهدأ ممّا في غيرها.
إنّ علّة ما ذكرنا موجودة من مزاج الأزمان
وذلك أنّ موضع هذا الجند في توسّط مشارق الشمس فلا تزيد على أهلها الحرارة ولا البرودة فأمّا الأشياء وعظمها فإنّها أكبر منها في سائر الأجناد فعلّتها الاعتدال لأنّه ليس الغالب عليها شيء من الطبائع غلبة قويّة ولكنّها سواء سواء ممتزجة.
إنّ أرض آسية أيضاً ليست بمستوية المزاج كلّها لكنّها مخالفة وذلك أنّ كلّ مدينة منها موضوعة في وسط ما بين الحارّ والبارد فمزاجها معتدل وأشجارها عظيمة ذاهبة في السماء وينابيعها عذبة مريئة أقول المياه النازلة من السماء والتي تنبع من الأرض وذلك أنّها لم تحترق من زيادة حرارة ولم تيبس من زيادة يبس وقلّة المياه ولم تضرّ من زيادة البرودة الشديدة وأنّها جنوبيّة كثيرة الأمطار كثيرة الثلوج والفاكهة فيها كثيرة ما يكون من
البزور والغروس 〈وما〉 تنبتها الأرض من ذاتها وإنّ الناس يأكلون ثمار أشجارالبرّ لأنّهم ينقلونها من موضعها وينصّونها في مواضع موافقة فتكون جيدة وأنّ ما فيها من الماشية مخصبة يكثر نتاجها وتربيتها حسنة.
وإنّ الناس فيها أهل خير كثير وأخلاق كريمة ولحوم أبدانهم كثيرة ولهم أجسام وأبدان عظيمة وصور حسنة جميلة وقلّ ما يخالف بعضهم بعضاً في العظم والصورة والجمال والبسطة.
إنّ طبيعة بلاد هذا الجند واعتدال أزمانها مقارب لمزاج الربيع وتشبهه.
إنّ هذه الطبيعة لا يمكن أن تكون شجاعة عمّالة
مدمنة النصب والشهوة لا من قبل ما فيها من جنودها نفسها ولا من قبل الغرباء غير أنّ الشهوة غالبة عليهم.
إنّ من الاعتدال يكثر الحيوان ويكثر اختلاف صورها.
إنّ أهل مصر وأهل لوبية قد استوعبوا قولي هذا ورأيي.
(١٣) إنّ ممّا يلي ميمنة شرق الشمس الشتويّ إلى البحيرة التي تدعى ميوطيدس وهذا حدّ آسية وأوروبى هو على ما أصف وأقول.
إنّ هذه الأمم مخالفة الصور بعضها من بعض أكثر مخالفة من الأمم التي ذكرنا آنفاً لحال تغيير الزمان وطبيعة البلاد حيث تكون الأزمنة
وتغيّرها كثيراً فإنّ البلاد تكون وحشيّة لا مستوية وتجد فيها جبالاً طوالاً أشبه شامخة ومروجاً ثمرها كثير فإنّه حيث يكون تغيّر الزمان يسيراً فإنّ تلك البلاد تكون مستوية.
إن أراد أحد أن يفحص عن حالات الناس وغرائزهم وجدها على هذا.
إنّ من الناس من يشبه جبالاً أشبة مياهها كثيرة ومنهم من يشبه جبالاً دقيقة مياهها قليلة ومنهم من يشبه أرضاً بطائحيّة زهرها كثير ومنهم من يشبه أرضاً يابسة جرداء.
إنّه إذا اختلفت الأزمنة في أشكالها بعضها من بعض اختلفت صورهم أيضاً.
(١٤) إنّي لا أذكر من الأمم التي اختلافها يسير في
ذات بينها فأمّا ما كان من اختلافها كثيراً في الطبيعة والسنّة فأذكرها على ما هي عليه.
أبتدئ أوّلاً في الناس الذين رؤوسهم إلى الطول لأنّه لا يشبه هذا الجنس جنس آخر من الأمم كلّهم وعلّة طول رؤوسهم في أوّل البدء هي من السنّة أعني العادة مع أنّ الطبيعة الآن قد تبعت السنّة وذلك أنّهم فعلوا ذلك ليعلموا الناس أنّهم ذوو شجاعة وبأس فأمّا السنّة فهذه أنّهم إذا ولد المولود منهم يأخذونه سريعاً ما دام ليّناً رطباً فيجبلون رأسه بأيديهم إلى الطول ثمّ يشدّونه به رباطاً ويحتالون بحيل تفسد تدوير الرأس فينشؤون
على ذلك فهذه السنّة التي جعلت رؤوسهم طوالاً أوّلاً فاضطرّوا بها الطبيعة فلمّا تقادم الزمان وتمادى صارت هذه السنّة معروفة في الطبيعة ثابتة فصارت الآن السنّة ليست علّة لطول رؤوسهم فقط لكنّها مع الطبيعة معاً.
إنّ المنى ينزل من أعضاء البدن كلّها ويجري من الصحيحة صحيحاً ومن السقيمة سقيماً.
إنّ الأفاعيل تكون هكذا أنّ الصلع يلدون صلعاً والشهل شهلاً والحول حولاً فما يمنع الآن أن يلد طوال الرؤوس شبههم طوال الرؤوس.
إنّ أولائك الآن ليسوا بطوال الرؤوس على ما كانوا فيما مضى من القدم لزوال تلك السنّة وتبدّدها لاختلاطهم بالناس.
(١٥) إنّ الناس الذين يسكنون أرض فأسيس فإنّ بلادهم
بطائحيّة حارّة نديّة أشبة ويكون فيها أولاد كثير أقوياء.
إنّ أغذية هؤلاء الناس هي من تلك البطائح ومنازلهم من قصب وخشب احتالوا لبنائها في داخل البطائح فلذلك يقلّ مشيهم في الأسفار وغيرها من الأمصار لسباحتهم بالخشب فوق وأسفل من قبل ما فيها من المواضع المنحدرة والمتصمّدة.
إنّ أولائك يشربون مياهاً حارّة قائمة قد عفنت من قبل الشمس وكثرت من قبل الأمطار.
إنّ هذا النهر الذي يدعى فاسيس هو ماء قائم لا يبرح ما لا يقوم غيره من الأنهار فإن سال سال قليلاً رقيقاً رويداً.
إنّ ثمار هذه البلاد ليس لها طعم وهي رخوة غير تامّة لكثرة المياه ولذلك لا تنضج أيضاً.
إنّ هواء كثيراً ينحطّ وينصبّ في تلك البلاد
من قبل الأمطار.
لهذه العلّة اختلفت صور أهل فاسيس من بين صور سائر الناس لأنّهم في السمان سمان وفي الجسام جسام فتكون أوصالهم وعروقهم غائرة في اللحم لا ترى.
إنّ ألوانهم تضرب إلى الصفرة شبه من به الماء الأصفر.
إنّ رياح هذه البلاد جنوبيّة ولها ريح واحدة بلاديّة فربّما هبّت هبوباً شديداً مفسداً حارّاً ويسمّيها أهل البلاد قنخرون وأمّا الشمال فليست تهبّ فيها لأنّها لا تبلغ إليها بلوغاً كاملاً فإن هبّت هبّت هبوباً ضعيفاً لا يستبين.
هذا رأيي وقولي في طبيعة الناس واختلاف صورهم الذين ينزلون آسية.
(١٦) فأمّا قلّة غضبهم وشجاعتهم فإنّي ذاكر ذلك الآن وقائل إنّهم أقلّ فروسيّة من الذين يسكنون أوروبى وإنّهم أهدأ وأسكن هيئة من أولائك وعلّة ذلك الأزمنة لأنّه لا يكون تغيّرها وانتقالها
انتقالاً كثيراً لا في الحرارة ولا في البرودة ولكنّها شبيهة بعضها ببعض متقاربة ولا تتحيّر عقول أهلها ولا تنتقل أبدانهم انتقالاً بيّناً ظاهراً من مزاج إلى مزاج فلذلك لا يغضبون سريعاً وليسوا جفاة فإنّ تغيّر الهواء هو علّة تحرّك الإنسان إلى الغضب ولا يدعه أن يسكن.
إنّ لهذه العلل صار أهل آسية ضعفاء مهينة ولعلّة أخرى أيضاً وهي السنّة صاروا على ما ذكرنا وذلك أنّ عامّة أرض آسية هي مملوكة يملكها غير أهلها.
إنّ علامة ذلك أنّ ما كان من أرض آسية ممّن لا طاعة له على أهلها لا يملكهم آخرون شبيه اليونانيّين والترك فإنّهم أحرار يملكون أنفسهم ولا
يملّكون عليهم غيرهم فيعملون ويكدحون لأنفسهم لا لغيرهم وهؤلاء أشدّ جناناً وصولة وقتالاً من سائر الناس كلّهم وأصبرهم على محاربة من حاربهم يأخذون الغنائم لأنفسهم بالسواء ويحملون وهن الهزيمة ومعرّتها.
إنّا نجد أيضاً أهل آسية مخالفين بعضهم بعضاً لأنّ بعضهم خيار وبعضهم شرار وعلّة ذلك اختلاف الأزمنة كما ذكرت آنفاً.
(١٧) إنّ الذين يسكنون لوبية وهم اللوبانيّون يأكلون كثيراً وفيهم رخاوة فيعجزون عن القتال لحال اعتدال الأزمنة: أمّا في أرض أوروبى فإنّ هناك أمّة من أمم الترك.
(١٨) أمّا سائر الترك كلّهم فيشبه بعضهم بعضاً ما لا
يشبهون غيرهم من الأمم وكذلك أهل مصر أيضاً غير أنّ أهل مصر نشؤوا في الحرارة والترك في البرودة.
أمّا تربة أرض الترك فصحراء ذات مروج وتدعى مرجيّة.
(١٩) إنّ أغذية هؤلاء القوم وسنّتهم هي على ما ذكرت أنّ أزمان أمم الترك وصورهم مخالفة لغيرهم من سائر الناس يشبه بعضها بعضاً وكذلك أهل مصر يشبه بعضهم بعضاً لا تنتج بلادهم صغاراً ولا كباراً فهذا هو آخر القول.
إنّ بلاد موسومة تحت الفرقدين وهي جبال من حيث تهبّ الشمال.
إنّ الشمس إذا غابت قريبة منهم في الفصول الصيفيّة فتسخنهم زمناً يسيراً سخونة غير شديدة.
إنّ الرياح التي تهبّ من المواضع الحارّة لا يبلغ إليهم منها إّا أقلّها وأيسرها وتهبّ إليهم من ناحية الفرقدين رياح باردة من قبل الثلوج والجليد وكثرة المياه وجبالهم لا تعدم هذه العلل التي ذكرنا فصارت لذلك لا تسكن.
إنّ هواء هذه البلاد يكون في اليوم الواحد ضبابيّاً مراراً كثيرة، لهذه الحال صارت صور أولائك الناس غليظة لحمة لا يرى لهم مفصل وأبدانهم ليّنة رطبة لا قوّة لها لأنّ بطونهم تكون رطبة جدّاً وتنفرغ انفراغاً كثيراً وذلك أنّ بطونهم لا يمكن أن تجفّ وتيبس في مثل هذه البلاد ومثل هذه الطبيعة والزمان وهيئة الهواء.
إنّ هذه الأبدان التي مزاجاتها باردة لا ينفشّ منها شيء كثير ولا سيّما إذا كانت في بلاد
رطبة أيضاً ولا يجري الغذاء من البطن إلى الأعضاء كلّها على ما ينبغي.
إنّ المزاج البارد هو ضعيف في هذه الأفاعيل وتكون أبدانهم دسمة جدّاً جرداء اضطراراً.
إنّ صور أهل هذه البلاد يشبه بعضها بعضاً الذكور بالذكور والإناث بالإناث وعلّة ذلك أنّه إذا كانت الأزمان قريبة بعضها من بعض لا يفسد المنى ولا يدخل عليه ضرر عند انجباله إن لم يعرض له آفة كبيرة أو مرض.
(٢٠) إنّي دافع إليكم أمارة عظيمة وعلامة كبيرة في معرفة علّة رطوبتهم.
إنّ هؤلاء القوم يكونون صكّاً عراضاً لأنّهم لا يلفّفون أولادهم بالرقاع شبه ما يفعل أهل مصر وإنّما يفعلون ذلك ليكونوا ثبتاً على متون الخيل وتكون مقاعدهم عريضة لأنّ الذكور منهم يديمون الجلوس في العجل
حتّى يبلغ وقت ركوبهم ومشيهم قليل لانتقالهم من موضع إلى موضع وكثرة ركوبهم وإنّ إناثهم يكونون صكّاً أيضاً
إنّ لون جنس الترك هو أحمر لحال برد بلادهم ولأنّ الشمس لا تطلع عليهم بحرارتها وإنّ البياض إذا أحرقته البرودة صار إلى لون الحمرة.
(٢١) إنّ البياض أيضاً إذا احترق من البرودة الزائدة الشديدة صار أحمر مع أنّا قد نرى نحن أيضاً في كثير من نسائنا وفتياننا احمرار أطراف أرجلهم في الشتاء الشديد البرد وأطراف أيديهم فلو أقام ذلك البرد عليهم زماناً طويلاً لصارت هذه الحمرة في تلك الأجزاء دائمة ولاحمرّ الجلد أيضاً ولنبت الشعر لذلك أيضاً أحمرّ.
إنّ هذه الطبيعة لا تكون كثيرة الولدان لأنّها لا تهيّج شهوة الرجال إلى المباضعة لحال رطوبة مزاجها وللين البطن وبرده فلهذا السبب تحول بينهم
وبين الجماع ولأنّهم يدمنون ركوب الخيل ضعفت الشهوة.
إنّ علّة قلّة الولدان من الرجال فهي من الأشياء التي ذكرنا وأمّا العلّة من النساء وقلّة أولادهنّ فلين أبدانهنّ ورطوبتها هي العلّة لقلّة أولادهنّ لأنّ الأرحام لا تستطيع أن تختطف إليها المنى وتجتذبه.
إنّه ممّا يلزمنا ويجب علينا أن نلطّف فهمنا فيما ذكرنا منهنّ فإنّ طهور النساء الكائن لهنّ في كلّ شهر لا يكون في تلك النسوة اللاتي ذكرنا على ما ينبغي وذلك أنّ طهورهنّ لا يكون إلّا قليلاً بعد زمان طويل وأنّ أفواه الأرحام منهنّ قد انسدّت من كثرة الشحم لأنّهنّ ذوات خفض ودعة وراحة لا يتحرّكن ولا يمشين وبطونهنّ باردة ليّنة.
إنّ من أكثر أمارات ما ذكرنا سرعة اشتمال
الولائد والإماء لأنّهنّ لا يدركن أن يجامعهنّ الرجال حتّى يحبلن فإنّما يكون ذلك لكثرة حركتهنّ وهزال أبدانهنّ.
(٢٢) إنّ كثيراً من الترك مع ما ذكرنا فيهم يكونون شبه الخصيان لا يقدرون على النساء ويعملون أعمال النساء ويتكلّمون بالخنث مثل النساء.
إنّ الناس الذين يكثر ركوبهم ويدوم قد يعرض لهم وجع الوركين وقدمطا ونقرس.
إنّ خلف الآذان عروقاً إذا فصدها أحد لم يولد له أبداً.
(٢٣) إنّ الجنس الآخر من الناس الذين في بلاد أوروبى يخالف بعضهم بعضاً في العظم والقامة والصور لحال اختلاف الأزمنة فإنّ اختلافها يكون عظيماً كبيراً
جفاة وحشيّون لا يختلطون بالناس وإنّما صارت طبيعتهم على هذه الحال لشدّة التحيّر فيفسد فيهم السكون والهواء ولهذا الوجه صار أهل أوروبى أشدّ أنفساً من أهل آسية فإنّ الكسل والعجز إنّما يحدث من قبل الأهوية واستوائها فأمّا في اختلافها فإنّ النفس والبدن يكونان صابرين في الأتعاب والأنصاب والأعمال ويعرض من قبل السكون والهدوء والعجز [و]الفرق والخوف والذلّ ويعرض من قبل النصب الشجاعة فلذلك صار أهل أوروبى فرساناً مقاتلة لا يخضعون لأحد ولا يذلّون.
(٢٤) إنّ هذا أوّل اختلاف بلاد أوروبيّة فأمّا اختلافها الثاني فهو أنّ بعضها مشرف بادٍ واختلاف أزمنتها كبار وبعضها غائرة متطأمنة واختلاف أزمنتها صغار.
إنّ هذا القول أيضاً هو في الأطفال.
إنّي أقول أيضاً قولاً بيّناً إنّ كلّ من يسكن بلاداً جبليّة جدبة شامخة شاهقة كثيرة المياه مختلفة الأزمان اختلافاً كثيراً فيحقّ أنّ صور أهلها تكون مختلفة يصبرون على النوازل والأحداث الشديدة وتكون شكائم أنفسهم ضارية وحشيّة.
إنّ الذين يسكنون الأغوار ذات المروج المغمومة وتهبّ عليهم رياح حارّة ما لا تهبّ الرياح الباردة ويشربون مياهاً فاترة لا تكون أجسامهم أجساماً كباراً مستوية لكنّها تكون عريضة كثيرة اللحم وتكون شعورهم سوداء وألوانهم سوداء لا بيضاء ذوو بلغم لا مرّة صفراء.
فأمّا أنفسهم فليست في طبيعتها جاسية نصبة صابرة على المصائب غير أنّها قابلة لذلك لنزول
السنّة عليها لأنّ هذا الشيء ليس بغريزيّ فيها فإن كان فيها أنهار جارية تخرج الماء النقيع عنهم من ماء الأمطار وغيرها فإنّ هؤلاء الناس هم أصحّ وأحسن من أولائك.
فإن لم تكن فيها أنهار وكانت مياههم من العيون والنقائع والسباخ كانت صور هؤلاء الناس مختلفة وبطونهم تكون كباراً وأطحلتهم مثل ذلك.
إنّ سكّان البلاد الشامخة المستوية الريحيّة الكثيرة المياه تكون صورهم وأجسامهم جسيمة عظيمة تشبه بعضها بعضاً وتكون سنّتهم وغرائزهم إلى اللين والبرودة وليسوا بأقوياء ذوي بأس وشجاعة.
إنّ من سكن في أرض نحيفة هزلة رقيقة قليلة المياه جرداء وكان مزاج هوائها غير معتدل كانت صورهم جاسية ممتدّة وألوانهم تضرب إلى الصفرة أو إلى السواد وأخلاقهم وغضبهم شديد لا يستشيرون أحداً وذلك أنّه حيث يكون تغيّر الأزمان تغيّراً متتابعاً مختلفاً كثيراً تكون صور أهل تلك البلاد وأخلاقهم وطبائعهم مخالفة بعضها بعضاً خلافاً كثيراً.
إنّ باختلاف الأزمان يكون اختلاف الطبائع ثمّ بعد الأزمان بالبلاد لأنّ غذاء الإنسان منها ثمّ بعد البلاد بالمياه.
قد توجد صور الناس وأخلاقهم أكثر ذلك على قدر طبيعة البلاد لأنّه حيث تكون أرض سمينة ليّنة كثيرة المياه مرتفعتها تكون في الصيف حارّة وفي الشتاء باردة وتكون الأزمان فيها موافقة صالحة
يكون أهلها سماناً ضعافاً رطاباً لا صبر لهم على التعب والنصب والأعمال والمكاسب وتكون أنفسهم وهنة عاجزة وسنة في الصناعات غليظة لا لطيفة حديدة ذكيّة.
إنّه إذا كانت البلاد جرداء متسافلة وتغرق أيّام الشتاء وتحترق بالشمس أيّام الصيف كانت أبدان أهلها جاسية دقاقاً قويّة صلباً رقيقة في الأعمال سريعة وغضبهم شديد لا يرون إلّا رأيهم وهم إلى الوحشة أقرب منهم إلى اللين والسكون وأيديهم في الأعمال والصناعات لطيفة وهم في الحرب والقتال ذوو بأس ونجدة والنبات الذي ينبت في هذه البلاد يقارب طبيعتها.
إنّ الطبائع والصور هي متضادّة جدّاً مخالفة بعضها بعضاً وهي هذه التي ذكرنا فإن أردت القول في بقيّة الطبائع فتوسّم بهذه فإنّك لا تسيء القياس والتوسّم.