Ibn Rušd: Talḫīṣ kitāb al-ḥāss wa-l-maḥsūs (Middle Commentary on Aristotle's Sense and Sensibilia)

Work

Ibn Rušd, Talḫīṣ kitāb al-ḥāss wa-l-maḥsūs
English: Middle Commentary on Aristotle's Sense and Sensibilia

Related to

Text information

Type: Commentary (Arabic)
Date: 1170

Source

ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Arisṭūṭālīs fi l-nafs. "al-Ārāʾ al-ṭabīʿīyah" al-mansūb ilā Flūṭarḫas. "al-Ḥāss wa-l-maḥsūs" li-Ibn Rušd. "al-Nabāt" al-mansūb ilā Arisṭūṭālīs. Dirāsāt islāmīyah 16. Cairo (Maktabat al-nahḍah al-miṣrīyah) 1954, 191-293

Download

ibnrushd_arist_desensuetsensib-comm_talkhis-ar1.xml [148.49 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم ربّ يسّر برحمتك

المقالة الأولى من كتاب الحاسّ والمحسوس لأرسطو تلخيص القاضي أبي الوليد ابن رشد وهو ثلاث مقالات

قال: لمّا تكلّم في كتاب الحيوان في أعضاء الحيوان وما يعرض لها، وتكلّم بعد هذا في النفس وفي أجزائها الكلّيّة — شرع هاهنا في الكلام في القوى الجزئيّة منها، وتمييز العامّ منها لجميع الحيوان من الخاصّ. وبالجملة، فهو يفحص هنا عن القوى التي توجد للحيوان من جهة ما هو متنفّس. ولمّا كانت هذه القوى صنفين: صنفاً ينسب إلى جسد الحيوان من أجل وجود النفس له، مثل: الحسّ والحركة؛ وصنفاً للنفس من أجل الجسد — وهذه أجناس: منها النوم واليقظة، ومنها الشباب والهرم، ومنها الحياة والموت، ومنها دخول النفس وخروجه، ومنها الصحّة والمرض، ومنها طول العمر وقصره. وقد كان تكلّم في الصنف الأوّل منها في كتاب النفس كلاماً كلّيّاً؛ فابتدأ هاهنا يتكلّم فيها كلاماً جزئيّاً، أعني أنّه يذكر من أسباب تلك القوى مثل ذلك الكلام في كتاب النفس في القوّة المحرّكة للحيوان في المكان: ما هي؟ وكيف تحرّك؟ — وبقي عليه هاهنا أن يقول ما هي الأعضاء والآلات التي بها تتمّ هذه الحركة.

ثمّ إنّه بعد ذلك يذكر الصنف الثاني من هذا القول. وهذا الصنف هو ضروريّ في وجود الحيوان: وذلك أنّ كلّ قوّة منها تشتمل قوى كثيرة من قوى النفس، وهي كالجنس لها؛ ولذلك كانت أكثر ضروريّة من الصنف الأوّل، مثل النوم واليقظة: فإنّ النوم سكون جميع الحواسّ، واليقظة هي حركاتها؛ وكذلك الموت والحياة والهرم والشباب والصحّة والمرض. والذي يلقى لأرسطو في بلادنا هذه من القول في هذه الأشياء التي وعد في صدر هذا الكتاب بالتكلّم فيها — إنّما هي ثلاث مقالات فقط: (المقالة الأولى) يتكلّم فيها في القوى الجزئيّة التي في الحاسّ والمحسوسات؛ وبهذا الجزء لقّب هذا الكتاب. و(المقالة الثانية) يتكلّم فيها في الذكر والفكر، والنوم واليقظة، والرؤيا. و(المقالة الثالثة) في طول العمر وقصره.

فنتكلّم نحن أوّلاً في هذه المقالات الموجودة له على عادتنا. فإن أنسأ اللّه في العمر فسنتكلّم في الأمور الأخر.

ولنبدأ بالقول في الحاسّ والمحسوس. والكلام في ذلك منحصر في أربعة أقسام: منها معرفة ماهيّة هذه القوى، وماهيّة جزء جزء منها؛ ومعرفة الآلات التي بها يتمّ فعل هذه القوى؛ ومنها معرفة مدركات هذه القوى وهي المحسوسات؛ ومنها معرفة كيفيّة إدراك هذه القوى بهذه المحسوسات. — وهذه كلّها قد تكلّم فيها في «كتاب النفس» بكلام كلّيّ. وهو يروم هاهنا أن يستوفي الكلام في الأمور الجزئيّة الموجودة لها، والخواصّ التي تختصّ بها هذه القوى في أنفسها وفي حيوان حيوان، والخواصّ التي تتضمّن، ويعرف ما بقي من طبيعة المحسوسات، فإنّ هذا لم يتكلّم فيه إلّا بقول في غاية الكلّيّة. فنقول:

إنّ القوى الحسّيّة: منها ما هي ضروريّة في وجود الحيوان، ومنها ما هي موجودة لمكان الأفضل. وهذه كلّها تختلف أيضاً في الحيوان بالقوّة والضعف. فأمّا التي وجدت في الحيوان من أجل الضرورة فهي حاسّة اللمس وحاسّة الذوق.

وأمّا التي وجدت من جهة الأفضل فحاسّة السمع وحاسّة البصر وحاسّة الشمّ. وإنّما كانت حاسّة الذوق واللمس ضروريّة في بقاء الحيوان لأنّها بمنزلة الأشياء التي ترد بدنه من خارج إلى داخل؛ وذلك أنّ بحاسّة الذوق يميّز الطعم الملائم من غير الملائم، وبحاسّة اللمس يميّز الأشياء والأمور التي تفسد بدنه من خارج والتي تحفظه وتناسبه. وأمّا الحواسّ الأخر فليس فعلها تمييز ما شأنه أن يرد البدن من خارج إلى داخل، ولذلك لم تكن ضروريّة في وجود الحيوان. وهذه القوى يشملها كلّها أنّه لا يتمّ فعلها إلّا بآلة. ويخصّ قوّة اللمس والذوق أنّها لا تحتاج في فعلها إلى متوسّط. ويخصّ الثلاث الباقية أنّها تحتاج إلى المتوسّط. فأمّا آلة القوى المبصرة فهي العين. ويخصّ هذه الآلة أنّ الغالب على تركيبها إنّما هو الماء الذي هو الجسم الصقيل الشفّاف. وإنّما كانت آلتها بهذه الصفة لترتسم فيها صور محسوساتها، كما ترتسم الصورة في المرآة. ولذلك كان الجزء الجليديّ منها في غاية الصفاء والبياض. وضرورة هذه الآلة في إدراك هذه القوّة بيّن بنفسه. وإنّما تفعل هذه الآلة فعلها إذا كانت على مزاجها الطبيعيّ دون أن يرد عليها ما يكدّرها ويحرّكها. ولذلك من هاج غضبه واحمرّت عيناه وصعدت الحرارة لرأسه فسد نظره، وربّما رأى الشيء الواحد شيئين لمكان الحركة التي تعرض للروح الباصر في حال الغضب. وذلك أنّ الجزء القابل للصورة من العين المتحرّكة يوجب بأن يرى الصورة صورتين. وذلك أنّه إذا انتقل ذلك الجزء خلف جزء آخر ارتسمت الصورة في الجزء الثاني وأثّر لها فعل لم يمح بثانٍ بعيد من الجزء الأوّل فتظهر الصورة الواحدة هنالك صورتين. ولكون هذه الآلة — أعني العين — إنّما تفعل فعلها إذا كانت على اعتدال من مزاجها — عرض لها إذا بردت عن الأشياء التي من خارج برداً خارجاً عن المعتاد أن يضعف نظرها. ولذلك تظلم العين في المواضع التي فيها ثلج كثير أو ماء كثير. ولهذا السبب تظهر آفاق البحار كدرة قليلة الضوء. وكذلك مواضع

الثلج. وإنّما يحفظ طبيعة هذا الماء على ما هو — الهواء الذي من خارج لأنّ بينهما مناسبة طبيعيّة. فمتى هاجت حرارة العين أكثر ممّا ينبغي ضعف نظرها. وهذا الفعل من أفعال العين إنّما هو للجزء البدنيّ المائيّ. ومزاج هذا الجزء هو السبب في الرؤية التامّة. ولهذه العلّة جعلت الأجفان للأعين الجيّدة النظر، أعني لتحفظ مزاجها على تغيّر الأمور التي من خارج وتكدّرها، — بمنزلة الأغمدة للسيوف. ولهذا من كان جفناه أغلظ كان أقوى بصراً للأشياء على بعد، لأنّ غلظ الأجفان يمنع تثوير ذلك الماء من الحرّ الذي من خارج، وتجميده وتغليظه من البرد من خارج. ومن أجل هذا صار كثير من الحيوان ينظر إلى الأشياء على بعد أكثر من نظر الإنسان لغلظ أجفانها. — وأمّا آلة السمع الخاصّة به فهي الهواء المنبثّ في الأذن. وكلّما كان هذا الهواء ألطف وأتمّ سكوناً، كان فعله أتمّ. وكذلك الشمّ هو الهواء المنبثّ في الأنف. وأمّا آلة الذوق فهي اللسان؛ وأمّا آلة اللمس فهي اللحم. ويخصّ آلات الحواسّ كلّها أنّه ليس فيها شيء بالفعل ممّا تدركه الآلة، فإنّها مركّبة من الكيفيّات التي تدركها؛ ولذلك إنّما تدرك منها الأمر الخاصّ، وذلك لموضع اعتدالها. ومن أجل ذلك كلّما كان اللحم أعدل، كان أكثر إدراكاً للكيفيّات البسيطة، أعني الحارّ والبارد والرطب واليابس. ولهذا كان الإنسان أجود الحيوان إدراكاً في هذه الحاسّة، وبخاصّة لحم اليد منه، أعني لحم الكفّ وبخاصّة السبّابة من لحم الكفّ، وهو دليل الذكاء في الناس، أعني جودة حسّ اللمس. وأمّا اللسان فليس فيه طعم بالفعل؛ ولذلك إذا انتشر فيه بعض الأخلاط في الأمراض فسد ذوقه. وكذلك الأمر في آلات سائر الحواسّ. وقد أعطى السبب في ذلك في «كتاب النفس».

ويخصّ آلات الثلاث قوى، أعني السمع والبصر والشمّ، أنّها منسوبة إلى البسائط: فالعين إلى الماء، والسمع إلى الهواء، والشمّ إلى الحارّ الناريّ

الدخانيّ؛ ولذلك كانت المشمومات تشفي الدماغ، أعني لموضع برده وحرارة الحرّ الدخانيّ المشموم.

فقد قلنا في آلات هذه الحواسّ. فلنقل في المتوسّطات الثلاث التي تحتاج إليها الحواسّ الثلاث وفي خواصّها وفي لوازمها. والمتوسّط الذي تستعمله هذه الحواسّ إمّا هواء في الحيوان البرّيّ، أو ماء في الحيوان المائيّ. والدلالة على حاجة هذه الحواسّ الثلاث إلى المتوسّط أنّها إذا وضعت محسوساتها على الحاسّة لم تدركها؛ وكذلك إذا قامت بينها وبين المحسوسات أجسام غليظة ممّا ليس يصلح أن يكون متوسّطاً. وبالجملة، فتظهر حاجة هذه الحواسّ وفعلها إلى المتوسّط من قبل أنّه متى فسد المتوسّط فسد فعلها. ولهذا يخصّ المتوسّطات من جنس الآلات الخاصّة بها، أعني أن يكون قابلاً للمحسوسات بنوع ما، من نوع قبول الآلات. وسيظهر السبب في ذلك إذا تبيّنت طبيعة الحواسّ المختلطة بالمتوسّطات. ويخصّ قوّة البصر من هذه الآلات أنّها تحتاج مع المتوسّط إلى الضوء. والدليل على ذلك أنّها لا تبصر في الظلمة. وإذا حدث في الهواء دخان أو بخار يعوق نفوذ الضوء فيه ضعفت الرؤية. ولهذا إذا غضب المرء وهاجت الحرارة في عينيه أظلم بصره لمكان البخار. وربّما رأى الشيء الواحد — كما قلنا — شيئين. وليس الضوء شيئاً يؤخذ من طبيعتها، وإنّما يدخل عليها من خارج. ولو كان من نفس طبيعتها لأبصرت الأشياء في الظلمة. ولهذا يرى الذين يغمضون أعينهم: إذا فتحوها أن لا يروا الشيء على حقيقته إلّا بعدما يستنير بصرهم. وقد يعرض للبصر أنّه يرى الشيء رؤية روحانيّة قبل أن يراه من خارج على الحالة التي هو عليها. وسنبيّن علّة ذلك فيما بعد. وهذه الرؤية إنّما تعتري المبصر في الأكثر في الظلمة وعند السكون. ومن خاصّة هذا الإدراك أنّه لا يكون جيّداً إلّا في الضوء المعتدل، لا في الضوء الشديد ولا في القليل.

فقد بان من هذا أنّ الحواسّ الثلاث يخصّها أنّها تدرك محسوساتها بمتوسّط، وأنّ البصر يخصّه — مع وجود المتوسّط — حضور الجسم المضيء. وقد قيل في الضوء والمستضيء والإشفاف والمشفّ في «كتاب النفس». وواجب أن تكون

الشبكة الداخلة من شباك العين تستنير من الماء الذي في العين، كما يستنير الماء من الهواء. إلّا أنّ القوّة الحسّاسة هي في أفق هذه الشبكة ممّا يلي القحف، لا ممّا يلي الهواء. ولذلك كانت هذه الشباك، أعني طبقات العين، حافظة لقوّة النفس، لكونها متوسّطة بينها وبين الهواء. وقد يدلّ على ضرورة الإبصار ووصول الضوء إلى هذه الشباك أنّ الإنسان إذا أصابته ضربة على جفنه أظلمت عيناه دفعة وانطفأ ذلك الضوء الذي كان في عينيه دفعة، كما ينطفئ المصباح، ولم يبصر شيئاً. وستبيّن هذه الأشياء إذا تبيّنت كيفيّة إدراك هذه الحواسّ، فإنّ هناك تظهر الأسباب التي اضطرّت إلى هذه الأشياء التي من خارج في هذه الحواسّ الثلاث.

وإذ قد تبيّنت خواصّ هذه القوى في الآلات والمتوسّطات فلنقل في المحسوسات الخاصّة بهذه القوى. وقد قيل في «كتاب النفس» في هذه المحسوسات قول كلّيّ. والكلام فيها هاهنا أقرب إلى الجزئيّ كما يقول أرسطو. فنقول إنّه قد قيل هنالك إنّ المحسوسات الخاصّة بالإبصار: هي الألوان، وبالسمع: الأصوات، وبالشمّ: الروائح، وبالذوق: الطعوم، وباللمس: الملموسات. والذي يغنى عن القول فيها هو تقريب طبائعها. فنقول:

إنّه لمّا كانت الأسطقسّّات تختلف بكثرة التشفيف وقلّته كالهواء والماء، وكان المشفّ من شأنه أن يقبل الضوء ويستكمل به، فإذا قبل المشفّ الضوء واتّحد به تولّد عن ذلك ألوان مختلفة بحسب قوّة الضوء وضعفه وكثرة التشفيف وقلّته. وذلك ظاهر من الألوان المختلفة التي تحدث عند اتّحاد ضوء الشمس بالغيم والسحاب، فإنّه من البيّن أنّ تلك الألوان إنّما تحدث عن بياض الضوء وسواد السحاب من الألوان التي تحدث عن قوس قزح وغير ذلك. فواجب أن يكون اللون إنّما يحدث عند امتزاج الجسم المضيء مع الشفّاف، وكانت جميع المركّبات إنّما تتوّلد عن الأسطقسّّات الأربع، وكان المشفّ من الأسطقسّّات هو الماء والهواء، والمضيء منها هو النار. وذلك أيضاً إذا تشبّثت

بغيرها كان واجباً أن تكون الألوان مركّبة من هاتين الطبيعتين، أعني طبيعة المشفّ وطبيعة النيّر؛ وأن يكون الفاعل لاختلافهما إنّما هو اختلاف هاتين الطبيعتين في الكمّيّة والكيفيّة. فاللون الأبيض يتولّد عن امتزاج النار الصافية مع الأسطقسّ الذي في غاية التشفيف، وهو الهواء. واللون الأسود يتولّد عن النار الكدرة التي تمتزج مع أقلّ الأسطقسّّات شفيفاً، وهي الأرض. والألوان المتوسّطة بين الأبيض والأسود تتولّد عن اختلاف هذين الشيئين بالأقلّ والأكثر، أعني اختلاف الجسم المشفّ والغير مشفّ. ولذلك كان اللون الأبيض والأسود هما أسطقسّا الألوان. وإذا كان ظاهراً من اللون، وكان اللون إنّما يكون في سطح جسم محدود — وبهذا يفترق اللون من الضوء — فإنّ الضوء هو كمال المشفّ الغير محدود. وليس اللون شيئاً يحدث في المركّب عن بخار الأجزاء الصغار الشفّافة التي في الأسطقسّّات، كما يرى ذلك قوم: فإنّه ليس يحدث عن الأسطقسّّات شيء على جهة التجاور، على ما تبيّن في كتاب «الكون»؛ وإنّما يحدث ما يحدث عنها على جهة الامتزاج. ولكون الضوء إنّما يكون في جسد شفّاف، كان آل فيثاغورس يعتقدون أنّ تولّد الضوء ليس يوجد للأجسام المنيرة بذاتها إلّا عند اتّحاد الضوء بجسد آخر. والفرق بين النار والأجسام السماوية في ذلك بيّن. وممّا قيل في ماهيّة اللون يبين أنّ اللون يقبله الهواء أوّلاً ثمّ يوصله إلى البصر من جهة ما هو شفّاف مضيء. والدليل على أنّ الهواء يتأثّر عن اللون ويقبله ما يظهر من تلوّن الشيء الواحد بعينه بحسب ما يمرّ به من السحاب المضيء وربّما أضاءت الحيطان والشخوص من الألوان التي تمرّ بها من السحاب — مثال ذلك أنّه إذا مرّت السحاب بالنبات الأخضر، كثيراً ما تتلوّن الحيطان والأرض بلون ذلك النبات.

فقد بان من هذا أنّ الألوان إنّما تحدث عن امتزاج النار مع الأجسام المشفّة، وأنّ الضوء هو السبب في توصيل الألوان إلى البصر، بل وفي وجودها. وأقول أيضاً: كما أنّ اللون الأبيض المتولّد عن الامتزاج أخسّ من لون الضوء إذ كان متولّداً عنه — كذلك أيضاً سائر الألوان أخسّ من اللون الأبيض

والأسود، إذ كانت متولّدة عنهما. ولمّا كانت الألوان إنّما تتولّد عن الأبيض والأسود، كان اختلافهما بالأقلّ والأكثر اختلافاً متفنّناً غير متناهٍ من جهة المادّة، ووجب أن تكون الألوان غير متناهية في الطبيعة، فإنّه كلّما توهّم النطق الباطن فيها نوعاً من الامتزاج أبرزته وإن كان النطق الخارج ممّا لا يقدر أن يعبّر عن ذلك القدر؛ ولهذا كانت الصناعة في هذا المعنى كما يقول أرسطو مقصّرة عن الطبيعة، فإنّ الصناعة إنّما تبرز من مقادير الألوان التي في النطق الباطن ما قدر النطق الخارج أن يعبّر عنه. وأمّا الطبيعة فإنّها تبرز كلّ ما كان في النطق الباطن الروحانيّ، ولهذا كانت أشرف من الصناعة وكان شرف الصانع إنّما هو في جودة تشبيهه بالطبيعة بحسب الممكن. وأيضاً فإنّ الباطن الروحانيّ الذي عنه تفعل الطبيعة ما تفعله وتبرز ما تبرزه ليس له شيء فوق الطبيعة عن إدراك ما يلقى إليها من ذلك، كالحال في النطق الروحانيّ الباطن الذي عنه يفعل الصانع، فإنّ النفس البهيميّة الموجودة في الحيوان ليست تعرف أفعالاً بل تفرح وتلتذّ بما تبرزه الطبيعة من الألوان والأصوات لأنّها موجودة في النفس البهيميّة بالقوّة، فإذا أبرزتها الطبيعة سرّت بها النفس البهيميّة وفرحت بإدراكها. — وأمّا النطق الباطن الذي عنه تفعل الصناعة فإنّه لا تعرفه النفس البهيميّة، ولذلك لا يدرك الصانع ممّا يلقى إليه النطق الروحانيّ إلّا آثاراً وأعراضاً بعيدة من الأشياء التي تلقيها الطبيعة. ولذلك كانت الأمور المتقدّمة في المعرفة عند الصانع متأخّرة في الوجود بعكس ما عليه الأمر عند الطبيعة. وأيضاً فإنّ الصانع خارج الشيء، والطبيعة داخل الشيء. فهذه الأشياء التي بها افترقت الصناعة من الطبيعة. ولذلك كانت الألوان والأصباغ التي في النطق الباطن تكاد أن تكون غير متناهية. ولذلك قد تظهر الطبيعة من الألوان والأصباغ ما يعجز الصبّاغون عن كنهه. وذلك أنّ الصناعة لمّا كانت إنّما تتقبّل الطبيعة وتصير إلى التقدّم عندها من المتأخّر، لم تدرك من تلك المراتب التي عند الطبيعة إلّا مراتب جليلة، أعني شديدة التباعد بعضها من بعض، وبين تلك المراتب عند الطبيعة مراتب

كثيرة. — فقد بان من هذا لم كان وجود الألوان في الطبيعة غير وجودها في الصناعة.

فأمّا الأصوات فقد قيل في «كتاب النفس» فيها.

وأمّا المشمومات، وهي ذوات الروائح والطعوم، فينبغي أن نقول فيها قولاً مفصّلاً، فنقول: إنّه من البيّن أنّه ليس لواحد من الأسطقسّّات طعم ولا رائحة، وأنّ الطعم والرائحة إنّما يوجدان للممتزج من جهة ما هو ممتزج. ولمّا كان كلّ ممتزج إنّما صورته منسوبة إلى غلبة كيفيّتين من الكيفيّات الأربع عليه، فيجب أن ننظر إلى أيّ الكيفيّات ينبغي أن ينسب الطعم في الجسم ذي الطعم، فنقول: إنّه لمّا كان الذوق غذاء للحيوان، وكان الغذاء من شأنه أن يكون شبيهاً بالحيوان، وكان بدن الحيوان منسوباً إلى غلبة الحرارة الرطوبة عليه — وجب أن يكون الطعم منسوباً إلى الحرارة والرطوبة. وإنّما كان ذلك كذلك، لأنّ طبيعة الرطب، الذي هو الماء، أشدّ مناسبة للحيوان من طبيعة الأرض. وقد يدلّ على أنّ الرطوبة هي سبب الطعم الممتزج. إلّا أنّ الأشياء المطعومة: منها مطعومة بالقوّة، ومنها بالفعل. وأمّا التي بالفعل فهي المطعومة بالقوّة؛ وإنّما تكون مطعومة بالفعل إذا صارت رطبة بالفعل كالملح وما أشبهه، فإنّه لا يتطعّم إلّا أن ينحلّ بترطيب. وإذا كان ذلك كذلك، فالطعم إنّما يحدث ضرورة عن اختلاط الجزء اليابس بالجزء الرطب إذا نضج عن الحرارة نضجاً ما. — وأصناف الطعوم إنّما تختلف باختلاف هذين الشيئين في القلّة والكثرة: فالحلاوة منسوبة إلى الحرارة. 〈والمرارة〉 منسوبة بالإضافة إلى رطوبة الحلاوة. وما بين هذين من الطعوم متولّد من هذين الطعمين، كما تتولّد الألوان عن الأبيض والأسود.

وأمّا الروائح فيظهر من أمرها أنّ هيولاها هي الطعم المتولّد عن مخالطة اليبوسة للرطوبة. وذلك أنّه يظهر بالاستقراء أنّ كلّ ما له رائحة فله طعم. إلّا أنّ الروائح، لمّا كانت من جنس الأبخرة الدخانيّة، وبهذه الجهة كان الهواء حاملاً

لها — كانت منسوبة إلى الحرارة واليبوسة المتولّدة عن اليبوسة المختلطة بالرطوبة ذات الطعم من جهة ما هي ذات طعم.

وقد يشهد أنّ طبيعة المشمومات طبيعة الدخان أنّ كثيراً من الأشياء ليس لها رائحة، فإذا أدنيت من النار كان لها رائحة. وبهذه الجهة كان الإنسان له خاصّيّة في إدراك روائح الأشياء بالفرك باليد؛ وذلك أنّ هذه الآلة بحرارتها وبنيتها من شأنها أن تثير هذا الجوهر من الشيء ذي الرائحة. ولذلك يشبه أن يكون الإنسان أجود تفصيلاً في إدراك فصول محسوسات الشمّ من سائر الحيوان؛ وكثير من سائر الحيوان أقوى منه إدراكاً للروائح على البعد.

فقد قلنا في خواصّ آلات هذه الحواسّ واستوفينا القول في طبيعة محسوساتها. فينبغي أن نستوفي القول في كيفيّة إدراكها، فإنّ ذلك إنّما قيل في «كتاب النفس» قولاً كلّيّاً.

فنقول: إنّ الآراء التي كانت للقدماء في كيفيّة إدراك النفس محسوساتها أربعة: أحدها رأى من كان يعتقد أنّ صور المحسوسات في النفس بالفعل وأنّها ليست تستفيدها من خارج، وإنّما الصور التي من خارج منبّهة ومذكّرة بما عندها منها. وهذا هو رأي أفلاطون، أو قريب منه. — والثاني رأي من كان 〈يقول〉 إنّه ليس في النفس شيء من المحسوسات بالفعل، وإنّما تستفيدها من خارج، وهؤلاء انقسموا فرقتين: فرقة رأت أنّ استفادتها الصور التي من خارج واستكمالها بها استفادة جسمانيّة لا روحانيّة، ومعنى ذلك أنّه يكون وجودها بالنفس على الحالة التي هي عليها خارج النفس؛ وفرقة رأت

أنّه لو كانت هذه الصور موجودة لها بالفعل لمّا احتاجت إلى الصور التي من خارج في حصول العلم بها، ولكان يحصل لها العلم بمحسوساتها قبل أن تحسّ بالأمور التي من خارج، ولكانت إذا شاءت أن تحسّ محسوساً ألقت عنها شعاعها من ذاتها فأدركته. وأيضاً لو كان الأمر هكذا، لكانت هذه الآلات باطلاً وعبثاً، والطبيعة لا تصنع باطلاً.

وأمّا من رأى صور المحسوسات تنطبع في النفس انطباعاً جسمانيّاً، فقد يدلّ على بطلانه أنّ النفس تقبل صور المتضادّات معاً، والأجسام ليس يمكن فيها ذلك؛ وليس تلفى هذه للنفس فقط، بل وللمتوسّطات: فإنّه يظهر أنّ بجزء واحد من الهواء يقبل الناظر اللونين المتضادّين إذا نظر شخصين أحدهما أبيض والآخر أسود. وأيضاً فإنّ كون الأجسام العظام مدركة للبصر بالحدقة على صغرها حتّى إنّها تدرك نصف الكرة من العالم — دليل على أنّ الألوان وما يتبعها ليست تحلّ فيها حلولاً جسمانيّاً بل حلولاً روحانيّاً، ولذلك يقول: إنّ هذه الحواسّ إنّما تدرك معاني المحسوسات مجرّدة من الهيولى: فتدرك معاني اللون مجرّداً من الهيولى، وكذلك تدرك معنى المشموم والمطعوم وسائر المحسوسات.

وإذ قد تبيّن أنّ هذا الإدراك روحانيّ، فيقال لمن أنكر أن يكون إدراك المحسوس بمتوسّط: إنّ المعاني التي تدركها النفس إدراكاً روحانيّاً منها جزئيّ وهي المحسوسات، ومنها كلّيّ وهو المعقولات. ولا يخلو هذان الصنفان من المعاني أن يكون إدراك النفس لهما بجهة واحدة من الجهات الروحانيّة، أو بجهتين. ولو كانت بجهة واحدة لكانت المعاني الكلّيّة والجزئيّة واحدة — وذلك مستحيل. وإذا كان هذا هكذا، فهي تدرك المعاني الكلّيّة بجهة، والجزئيّة بجهة. أمّا المعاني الكلّيّة فتدركها إدراكاً غير مشارك لمادّة أصلاً، ولذلك لا يحتاج فيها إلى متوسّط. وأمّا المعاني الجزئيّة فتدركها بأمور مناسبة للأمور الجزئيّة، وهي المتوسّطات؛ ولولا ذلك لكانت المعاني التي تدرك كلّيّة لا جزئيّة

وكان وجود الصورة في المتوسّطات هو بضرب متوسّط بين الروحانيّة والجسمانيّة، وذلك أنّ وجود الصور خارج النفس جسمانيّ محض، ووجودها في النفس روحانيّ محض، ووجودها في المتوسّط متوسّط، وأعني بـ«ـالمتوسّط» هاهنا آلات الحواسّ والأمور التي من خارج في الحواسّ التي تحتاج إلى ذلك. فالآلات بالجملة إنّما احتاجت إليها الحواسّ لكون إدراكها شخصاً روحانيّاً، فإنّ الروحانيّ الكلّيّ لا يحتاج إلى هذه الآلات. — فقد ظهر من هذا القول أنّ كون هذه الصور التي في النفس روحانيّة جزئيّة هو السبب الذي اضطرّ أن يكون هذا الإدراك بمتوسّط. وبحقّ ما كان ذلك كذلك، فإنّ الطبيعة من شأنها أن تسير من الوجود المقابل إلى مقابله بمسيرها أوّلاً إلى المتوسّط. وليس يمكن أن يقال الروحانيّ من الجسمانيّ إلّا بمتوسّط. ولذلك كلّما كانت هذه المتوسّطات ألطف، كان الإدراك أتمّ وأفضل. وأمّا قول من قال إنّه لو أدركت النفس بمتوسّط، لكانت إنّما تقبل من ذلك بقدر المتوسّط، أعني إن كان صغيراً قبلته صغيراً، وإن كان كبيراً قبلته كبيراً، فإنّ هذا إنّما يلزم في الإدراك الجسمانيّ لا الروحانيّ.

وأرسطو يبطل قول من قال إنّ القوّة المبصرة تمتدّ من العين حتّى تصل إلى الشيء المنظور فيه — بحجج: منها: إن كان ما يجب بحسب هذا الرأي أن ينظر البصر إلى الأشياء في الظلمة كما ينظر إليها في الضوء؛ وإنّ من يقول بامتداد الأشعّة لا يحتاج البصر عنده إلى المتوسّط ولا إلى الضوء.

ومنها: أنّه لو كانت قوّة النفس، أعني الجنس المشترك، هو الذي يمتدّ إلى الأشياء حتّى يحسّها لم يحتج إلى الشباك التي في العين، أعني الطبقات، ولمّا كان يجب أن يدخل على هذه القوّة فساد إذا تعطّلت منها شبكة.

الحجّة الثالثة منها: لو كانت النفس تمتدّ حتّى تلقى المحسوس، لكان إدراكها لجميع المبصرات واحداً: النائية والقريبة. وبالجملة، من يقول بالأشعّة الخارجة من العين فلا بدّ له من أحد أمرين: أحدهما إمّا أن يضع

هذه الأشعّة أجساماً، وإمّا أن يضعها أشعّة نوريّة غير أجسام. فإن وضعها أجساماً لزمه أن يكون إبصار الأشياء في زمان، وبخاصّة إذا بعد المبصر. فإنّه قد تبيّن أنّ كلّ متحرّك في زمان يتحرّك. وأيضاً فإنّ النفس المبصرة يجب أن تكون مرتبة في هذا الجسم، وليس في الحيوان جسميّ هو موضوع للنفس إلّا الحرارة الغريزيّة. ولو فارقت مقدار فتر لتبدّدت. وأمّا إن كان الخارج من العين ضوءاً لا جسماً، فلسنا نقدر أن نقول إنّ النفس مرتبة في ذلك الضوء، فإنّ موضوع النفس جوهر لا عرض. وإذا لم تكن النفس موضوعة في ذلك، وكانت إنّما هي موضوعة داخل العين، فعلى أيّ جهة تدرك المحسوسات وهي غير مماسّة لها؟ فإنّ كلّ فعل وانفعال إنّما يكون بمماسّة وتحريك الواسطة للمتحرّك الأخير بالمماسّة. ولا بدّ ضرورة من أن يعرض لآلة هذه القوّة محسوسها أن يكون أحدهما محرّكاً، والآخر متحرّكاً. فإن فرضنا أنّ الخارج من العين إنّما هو لا جسم لم نجد بدّاً من أن نقول بالمتوسّط، وإلّا لم نصل ضرورة بحركة المحسوس إلى الحسّ، ولم تكن ضرورة بين هذا القول وقولنا إنّ الرؤية إنّما تتمّ بمتوسّط وضوء. إلّا أنّ الضوء عندنا ليس من نفس العين، بل من خارج. وهذا شيء لا يقولونه؛ ولو قالوه للزمهم أن يبصروا في الظلام. وإنّما غلطهم أنّهم رأوا هذا الروح الذي به يكون الإبصار مناسباً للضوء، فاعتقدوا فيه أنّه ضوء، مع أنّهم كانوا يعتقدون في الضوء أنّه جسم.

أمّا جالينوس فقد بلغ من غلطه في هذا المعنى أن ظنّ أن الهواء حسّاس.

وإذ قد تبيّن كيف إدراك النفس بالقول الكلّيّ، فلننظر كيف يترتّب هذا الإدراك بمتوسّط في الحواسّ الثلاث التي تدرك بمتوسّط فنقول: إنّ الهواء، بتوسّط الضوء، يقبل صور الأجسام أوّلاً ثمّ يؤدّيها إلى الشبكة الخارجة، وتؤدّيها الشبكة الخارجة إلى سائر الشبّاك حتّى تتأدّى الحركة إلى الشبكة الأخيرة التي الحسّ المشترك موضوع خلفها، فتدرك صورة الشيء؛ وفي وسط هذه

الشبّاك الشبكة البرديّة وهي كالمرآة، وتؤدّيها إلى الماء، لأنّ طبيعتها مشتركة من هاتين الطبيعتين. والماء الذي يقول أرسطو إنّه خلف الرطوبة البرديّة هو الذي يسمّيه جالينوس الرطوبة الزجاجيّة فيما أحسب. وهذه الطبقة هي آخر طبقات العين، ومنها ينظر الحسّ المشترك إلى الصورة. وإذا قبلها الحسّ المشترك أدّاها إلى المصوّر، وهو القوّة المتخيّلة، فيقبلها المصوّر أكثر روحانيّة، فتكون هذه الصورة في الرتبة الثالثة من الروحانيّة. فتكون هاهنا للصور ثلاث مراتب: المرتبة الأولى جسمانيّة؛ ثمّ تليها المرتبة التي في الحسّ المشترك، وهي روحانيّة؛ ثمّ الثالثة وهي التي في القوّة المتخيّلة، وهي أتمّ روحانيّة. ولكونها أتمّ روحانيّة من التي في الحسّ المشترك لم تحتج القوّة المتخيّلة في إحضارها إلى حضور المحسوس خارجاً، بخلاف الأمر في قوّة الحسّ. والمصوّر إنّما ينظر إلى تلك الصورة وينزع مثالها ومعناها بعد سكون شديد.

ومثال مراتب هذه الصورة في هذه القوى وتنقلها من مرتبة إلى مرتبة ألطف منها، كما يقول أرسطو، مثال من أخذ مرآة ذات وجهين فنظر في أحد وجهيها وصير الوجه الثاني منها ممّا يلي الماء وكانت المرآة رقيقة شفّافة صافية، فإنّه لهذا الناظر أن تنطبع صورته أوّلاً في المرآة، ثمّ تنطبع من المرآة في الماء. وإن نظر أحد إلى الوجه الثاني من المرآة، أعني الوجه الذي يلي الماء رأى تلك الصورة بعينها قد انطبعت مرّة ثالثة في المرآة. فصورة الإنسان الناظر هي مثال المحسوس، والمرآة هي مثال الهواء المتوسّط، والماء هو مثال العين، ومثال انطباعها في الوجه الثاني من المرآة هي القوّة الحسّاسة، ومثال الإنسان المدرك مثال القوّة المتخيّلة. فإذا لم ينظر الناظر في هذه المرآة اضمحلّت الصورة منها واضمحلّت من الماء، ويبقى الناظر في الوجه الثاني من المرآة يتوهّم الصورة. وهذا هو شأن القوّة المتخيّلة مع الصورة التي في الحسّ المشترك فإنّه إذا غاب المحسوس غابت صورته عن الحسّ المشترك وبقيت الصورة المتخيّلة متوهّمة.

فقد بان من هذا أنّ رسم الصورة إنّما يراه الحسّ المشترك بتوسّط العين، والعين بتوسّط الهواء، ويراها في الرطوبة المائيّة التي في العين بتوسّط

البرديّة بين الماء الذي في العين والهواء الذي من خارج والرطوبة المائيّة التي يسمّيها جالينوس بالزجاجيّة.

فقد تبيّن من هذا كيف يكون الإبصار بالمتوسّطات.

وأمّا كيف يكون الشمّ بتوسّط الهواء والماء، فإنّ ذلك يكون بما في الهواء من الاستعداد لقبوله للجسم الدخانيّ المشموم وما في الماء أيضاً من ذلك. وذلك أنّ من شأن هذه الأسطقسّّات أن يؤدّي بعضها إلى بعض الأبخرة المتولّدة، للمجانسة التي بينها: فالأرض تؤدّي البخار اليابس إلى الماء، والماء يقبله لمشاكلته له في الرطوبة، والهواء يؤدّي إلى النار للمشاركة التي بينهما في الحرارة.

وأمّا كيف يؤدّي الهواء الصوت، فقد قيل في «كتاب النفس».

وأمّا خصوصيّة إدراك هذه الحواسّ الخمس في الحيوان، فإنّها ليست على جهة واحدة. وذلك أنّها في الإنسان تدرك فصول الأشياء ومعانيها الخاصّة، وهي التي تتنزّل من الشيء المحسوس منزلة اللبّ من الثمرة. وفي الحيوان، إنّما تدرك الأمور التي من خارج، وهي نسبتها إلى الأشياء نسبة القشر إلى اللبّ من الثمرة. والدلالة على ذلك أنّ البهائم لا تتحرّك عن هذه الحواسّ حركة الإنسان عنها، فإنّ الإنسان يطرب عند سماع الألحان ولا تطرب البهائم، إلّا إن قيل ذلك باشتراك الاسم. وكذلك يتحرّك الإنسان عن رؤية الأشكال والأصباغ حركة لا تتحرّكها البهائم. وكذلك الأمر في أصناف المطاعم والمشمومات، وإن كانت مشاركة البهائم في هذا أكثر لمكان جسمانيّتها. وكذلك الأمر أيضاً في قوّة اللمس فإنّ ليد الإنسان في ذلك خاصّيّة ليست لغيره: فالإنسان يستدلّ بالشمّ على الطعم الموافق والضارّ؛ ويتداوى بالمشمومات كما يتداوى بالمطعومات. وإنّما كانت المشمومات سبباً للبرء من أمراض الرأس، لأنّ الرأس بارد رطب، والمشموم في أكثر الأمر حارّ يابس.

والسمع في الإنسان هو الطريق إلى التعلّم، لأنّ التعلّم إنّما يكون بالكلام، والكلام إنّما يتأدّى إليه من طريق السمع. إلّا أنّ فهم دلالة الألفاظ ليس هو للسمع، وإنّما هو للعقل.

وكل حاسّة من هذه الحواسّ في الإنسان هي الطريق إلى المعقولات الأول الحاصلة له في ذلك الجنس، وبخاصّة السمع والبصر. ولهذا يقول أرسطو إنّ الذين لم يعدموا هاتين الحاسّتين هم أكثر عقلاً وأجود إدراكاً.

فهذه هي جمل الأشياء التي في هذه المقالة على أكثر ما أمكننا من الإيجاز. وأمّا ما يذكر في آخر هذه المقالة من إعطاء السبب في جودة قوّة الذكر وضعفها فالموضع اللائق به هو عند الكلام في المقالة الثانية في القوّة الذاكرة.

تمّت المقالة الأولى من «كتاب الحاسّ والمحسوس» والحمد للّه ربّ العالمين

بسم اللّه الرحمن الرحيم ربّ يسّر برحمتك

المقالة الثانية من كتاب «الحاسّ والمحسوس» لأرسطو تلخيص القاضي أبي الوليد بن رشد، رضي اللّه عنهم!

يبتدئ بالفحص في هذه المقالة عن الذكر والتذكّر. وهو أوّلاً يطلب الرسم الذي به يفترق هذا الإدراك من سائر إدراكات النفس؛ ثمّ يطلب لأيّ قوّة هو من قوى النفس، وبمشاركة أيّ قوّة يكون في الحيوان الذي يذكر؛ ثمّ يبيّن كيف يكون الذكر والتذكّر.

وأمّا مرتبة هذه القوّة من قوى النفس، ولِمَ كان بعض الناس جيّد الذكر رديء الحفظ، وبعضهم بالعكس — إلى سائر لوازم هذه القوى وما يعرض لها فنقول:

إنّ الأشياء المدركة لنا: إمّا أن تكون في الآن والزمان الواقف مثل مدركات الحسّ، وإمّا أن تكون متوقّعة في الزمان المستقبل، وهذه هي الأمور المظنونة؛ وإمّا أن تكون مدركة في الزمان الماضي. وبيّن أنّ الذكر إنّما يكون في هذه، فأنّا لسنا نسمّي ذكراً ما حصلت معرفته لنا الآن، ولا ممّا يتوقّع وجوده، وإنّما يذكر المرء ما قد حصلت له المعرفة به من قبل في الزمان الماضي. فالذكر هو استرجاع في الزمان الحاضر للمعنى الذي كان مدركاً في الزمان الماضي. والتذكّر هو طلب هذا المعنى بارادة إذا نسيه الإنسان وإحضاره بعد غيبته بالفكرة فيه. ولذلك يشبه ألّا يكون التذكّر إلّا خاصّاً بالإنسان. وأمّا الذكر فإنّه لعامّة الحيوان المتخيّل. فإنّه يظنّ أنّ أجناساً كثيرة من الحيوان لا تتخيّل كذوات الأصواف. والفرق بين الذكر والحفظ أنّ الحفظ لما لم يزل قائماً بالنفس من وقت

إدراكه في الزمان الماضي إلى الزمان الواقف. وأمّا الذكر فإنّه لما هو قد نسي. ولذلك كان الذكر حفظاً متقطّعاً، والحفظ ذكراً متّصلاً. فهذه القوى واحدة بالموضوع، اثنان بالجهة. فالذكر بالجملة هو معرفة ما قد عرف بعد أن انقطعت معرفته. — والتذكّر هو طلب هذه المعرفة إذا لم تكن حاصلة وتصرّف الفكرة في إحضارها. وبيّن أنّ هذا الفعل واجب أن يكون لقوّة ليست حسّاً ولا تخيّلاً، وهي التي تسمّى ذاكرة. فلننظر ما هي هذه القوّة، وأيّ مرتبة مرتبتها من قوى النفس، ولماذا تشارك منها. وظاهر من أمرها أنّها من القوى المذكّرة للأمور الجزئيّة الشخصيّة، فإنّ الذكر إنّما يكون لشيء بعد إحساسه وتخيّله، وذلك من جهة ما هو محسوس ومتخيّل، فإنّ طبيعة الكمّ — مثلاً — الكلّيّة التي يدركها العقل لا تدركها القوّة الذاكرة، وإنّما تدرك كمّيّة محدودة قد أحستها وتخيّلتها. فأمّا كيف تتذكّر الكلّيّ، فيستقال في ذلك.

وإذا كان ظاهراً من أمر هذه القوى أنّها جزئيّة وأنّها محتاجة في فعلها إلى أن تتقدّمها قوّتان: قوّة الحسّ وقوّة التخيّل، فلننظر بماذا تفترق هذه القوّة من قوّة التخيّل. فإنّه يظهر من أمرها إن لم تكن هي فهي لها مشاركة في فعلها. فنقول: إنّه من البيّن أنّه وإن كان كلّ ذكر وتذكّر فإنّما يكون مع تخيّل، فإنّ معنى الذكر غير معنى التخيّل، وأنّ فعل هاتين القوّتين متباين، وذلك أنّ فعل قوّة الذكر إنّما هو إحضار معنى الشيء بعد فقده والحكم عليه الآن: أنّه ذلك المعنى الذي أحسّ وتخيّل. فهاهنا إذن أربعة أشياء: خيال، ومعنى ذلك الخيال، وإحضار ذلك المعنى، والحكم على أنّه معنى ذلك الخيال الذي كان للمحسوس المتقدّم. وإحضار الخيال واجب أن يكون لقوّة غير القوّة التي تدرك المعنى. وهذه القوّة توجد بحالتين: إن كان إدراكها متّصلاً سمّيت حافظة، وإن كان منفصلاً سمّيت ذاكرة. وأمّا الحكم على أنّ هذا المعنى هو لهذا التخيّل فهو في الإنسان للعقل لأنّه الحاكم بالإيجاب والسلب، وهو في الحيوان الذاكر شيء شبيه بالعقل، لأنّ هذه القوّة تكون في الإنسان بفكر ورؤية،

ولذلك يتذكّر. وأمّا في سائر الحيوان فهي طبيعيّة، ولذلك يذكر الحيوان ولا يتذكّر. وليس لهذه القوّة في الحيوان اسم، وهي التي يسمّيها ابن سينا الوهميّة، وبهذه القوّة يفرّ الحيوان بالطبع من المؤذي وإن لم يحسّه بعد، كما يفرّ كثير من بغاث الطير من الجوارح وإن لم تبصرها قطّ.

فهاهنا ثلاثة أفعال لثلاث قوى: الاثنتان منها تأتي بالشيئين البسيطين اللذين تتركّب الصور المركّبة منهما اللذين أحدهما خيال الشيء، والثاني معنى خيال الشيء. والقوّة الثالثة تركّب ذين المعنيين أحدهما إلى الآخر، وذلك أنّ في الصورة المتخيّلة شيئاً يتنزّل منزلة الموضوع، وهو التخطيط والشكل، وشيئاً يتنزّل منزلة الصورة وهو معنى ذلك الشكل. وذلك أنّ الشخص خارج النفس لمّا كان مركّباً عرض له أن يكون في النفس على نحو ذلك، وأن يكون قبول الجزئين اللذين منهما تركّب — لقوّتين مختلفتين، وأن يكون تركيبها لقوّة ثالثة.

فقد تبيّن من هاهنا ثلاث قوى: قوّة محضرة لمعنى ذلك الخيال وقوّة مركّبة من ذلك المعنى إلى خياله. ولذلك إنّما يتمّ التذكّر بتعاون هذه القوى الثلاث وإحضار كلّ واحدة منها ما يخصّها. وأرسطو يعتمد في بيان أنّ هذه القوّة، أعني الذاكرة، غير القوّة المصوّرة، وأنّهما اثنتان بالماهيّة والموضوع — أنّا قد ندرك أحياناً معنى الصورة المتخيّلة، وأحياناً ندرك الصورة المتخيّلة، وأحياناً ندرك الصورة دون أن نجرّد منها معنى الصورة. ولذلك يمكننا أن نحفظ أشياء كثيرة معاً، ولا يمكننا أن نتخيّلها. وقد قلنا إنّ قوّة الحفظ والذكر واحدة بالموضوع، اثنتان بالجهة. والتي تدرك القوّة المتخيّلة من شخص زيد المشار إليه إنّما هو رسمه الراسم من ذلك في الحافظ. والذي يدرك القوّة الذاكرة إنّما هو معنى ذلك الرسم، ولذلك كان معنى الشيء في القوّة الذاكرة أكثر روحانيّة منه في القوّة المتخيّلة. ولمّا كان فعل هذه القوى في الصورة المحسوسة أحد فعلين: إمّا تركيب، وإمّا تحليل — وذلك أنّها إذا استرجعت التي قد أحسّت ففعلها إنّما هو تركيب، وذلك يكون كما قلنا بأن تحضر كلّ واحدة من القوّة المعنى البسيط

الذي يخصّها إحضاره والقوّة الثالثة. وأمّا التحليل والتفصيل فإنّما يكون في حدّ الشيء المحسوس ما دام محسوساً، وذلك يكون بأن يحسّ الحاسّ الشيء خارج النفس ثمّ يصوّره المصوّر، ثمّ يميّز المميّز معنى تلك الصورة من رسمها، ثمّ يقبل الحافظ ما ميّز المميّز؛ فإن ذهبت، كانت استعادتها على جهة التركيب.

ولمّا كانت هذه القوى مختلفة الأفعال، كانت مختلفة المواضع من الرأس. ولمّا كان الحاسّ إنّما يحسّ أوّلاً، ثمّ يصوّر المصوّر، ثمّ يميّز المميّز، ثمّ يقبل الحافظ ما ميّز المميّز — وجب ضرورة أن يكون المصوّر في أفق الحاسّ من الدماغ، ثمّ يليه المفكّر، وذلك في الموضع الأوسط. ثمّ يلي المفكّر الذاكر والحافظ، وذلك في المؤخّر من الدماغ، وذلك بحسب المشاهدة من هذه القوى في هذه المواضع بالاعتدال اللاحق لقوّة قوّة من هذه القوى باختلال موضع موضع من تلك المواضع. وذلك أنّه متى اعتلّ مزاج مقدّم الدماغ فقط، اختلّ خيال ذلك الرجل، ولم يختلّ فكره ولا ذكره. فإذا اعتلّ وسطه، اختلّ فكره. وإذا اعتلّ مؤخّره، اختلّ ذكره وحفظه. وهذا معروف عند الأطبّاء. ولذلك كانت هاهنا مراتب خمس: أوّلها جسمانيّ كثير القشر وهو الصورة المحسوسة خارج النفس؛ والمرتبة الثانية وجود هذه الصورة في الحسّ المشترك وهي أوّل مراتب الروحانيّة؛ والمرتبة الثالثة وجودها في القوّة المتخيّلة، وهي 〈أكثر〉 روحانيّة من الأولى؛ والمرتبة الرابعة وجودها في القوّة المميّزة؛ والخامسة وجودها في القوّة الذاكرة، وهي أكثر روحانيّة فإنّها تقبل لباب ما ميّزته الثلاث وصفّته من القشر.

فقد تبيّن من هذا القول أيّ وجود هو وجود هذه القوى، وما جوهرها؛ وأنّها غير المصوّرة وغير المميّزة، وأنّها إنّما يتمّ فعلها بمشاركة المميّزة والمصوّرة، وذلك إمّا في هذا التركيب، أو في حدّ التفصيل. وبيّن أنّ الحفظ إنّما هو استصحاب وجود المعنى المحسوس في هذه القوّة من غير أن ينقطع، وأنّ النسيان هو ذهابه، وأنّ الذكر هو رجوعه بعد النسيان، وأنّ التذكّر هو استرجاعه وأنّه خاصّ بالإنسان. ولذلك قد يجب أن ننظر كيف يتذكّر المتذكّر ما قد أحسّه ونسيه فنقول: إنّ تذكّر المرء شيئاً قد نسيه إنّما يكون ضرورة بإحضار معنى

ذلك الشيء. فإذا أحضرته القوّة الذاكرة أحضر المصوّر صورة ذلك الشيء وركّب المميّز المعنى الذي ميّزه وفصّله بأنّه إلى المعاني التي تفصّلت إليها فمنها يتركّب، والمركّب هو المفصّل. فمعنى الصورة تحضره الذاكرة، ورسمها تحضره المتخيّلة، وتركيب المعاني إلى الرسم تعطيه المميّزة. فسبحان اللّه الحكيم العليم!

وباجتماع هذه الثلاث قوى يحضر الشيء المنسيّ عند التذكّر. فإن اعتاص إحضار الشيء على المرء فإنّما ذلك لموضع ضعف واختلال لحق إحدى هذه القوى، فاعتلّ سائرها لاختلال تلك القوّة الواحدة. وهذا الاختلال يعرض لبعض هذه القوى من بعض، إنّما يعرض أكثر للأعلى من الأسفل — مثال ذلك أنّ المصوّر يألم ويختلّ باختلال الحسّ ويتدنّس بتدنّسه، ولا يألم الحسّ بألم المصوّر. وكذلك القوّة المميّزة تألم بألم المصوّر، ولا يألم المصوّر بألمها. وإنّما كان ذلك كذلك، لأنّ الروحانيّ يألم بألم الجسمانيّ، ولا يألم الجسمانيّ بألم الروحانيّ. وكذلك الأكثر روحانيّة منها تألم بألم الأقلّ روحانيّة، ولا تألم الأقلّ روحانيّة بألم الأكثر روحانيّة. وليس يعرض عن اجتماع هذه القوى وتعاونها إحضار الشيء الذي قد أحسّ ونسي، بل وقد يحضر في بعض الناس عند اجتماعهما صور الأشياء المحسوسة من غير أن يحسّها، وإلّا نقلت إليه صفاتها، كما حكى أرسطو عن بعض القدماء أنّه كان يصوّر أشياء نقلت إليه بالسماع من غير أن يكون شاهدها. فإذا امتحنت تلك الصور وجدت على ما شاهدت عليه وبهذه الجهة يمكن أن يتصوّر الفيل من لم يره قطّ. وهذا إنّما يعرض للمرء عند اتّحاد هذه القوى الثلاث. واتّحادها إنّما هو من قبل النفس الناطقة، أعني من قبل طاعتها لها؛ كما أنّ افتراقها إنّما يكون من النفس البهيميّة. واتّحادها عسر صعب على المرء لكونه من قبل النطق. وراحة النفس البهيميّة إنّما هي في افتراقها. ولذلك إنّما يعرض الاتّحاد للذين يجهدون أفكارهم في الخلوات ويقطعون عن أنفسهم الشواغل التي تشغل الحواسّ، فيعود الحسّ المشترك فيهم إلى معونة هذه القوى. ولذلك قد تتّحد هذه القوّة في النوم فتطلع على عجائب العالم في الأحوال الشبيهة بالنوم، مثل الإغماء الذي يعرض للذين يقال إنّهم عرج بأرواحهم.

وقد تبيّن، كما يقول أرسطو، أن لا تحتاج هذه القوى بعضها إلى معونة بعض في إحضار ما لها أن تحضر، بل قد تحضر كلّ ما لها أن تحضره دون معونة صاحبتها. وقد لا يتّفق لها أن تحضر الشيء إلّا بمعونة بعضها بعضاً. والفرق بين حركة النفس على أجزاء الشيء وإحضاره على جهة التذكّر، وبين حركة النفس على أجزاء الشيء وإحضاره على جهة الحفظ أنّ حركتها على أجزاء الشيء المتذكّر حركة متقطّعة، بل على جهة الانتقال من أمور غريبة إلى أجزاء الأشياء المتذكّرة، وذلك أنّها إنّما تتذكّر بشبيهه ومثاله. والحفظ ليس يحتاج فيه إلى ذلك. فالحركة المستوية على أجزاء الشيء المحض هي حفظ. وحركة التذكّر على أجزاء الشيء المذكور ليست بمستوية، لأنّها إنّما تنتقل من مناسب الشيء إلى الشيء. ولذلك كان فعل الحفظ أشرف من فعل الذكر، لأنّ الحركة المستوية أشرف من المنقطعة المختلفة. فالقوّة الحافظة بالجملة إنّما تخصّ معاني أجزاء الشيء المحفوظ على التوالي والاتّصال. فإذا أحضرتها ركّب بعضها إلى بعض المميّز ورسمها المصوّر. والقوّة الذاكرة إنّما تحضر أجزاء الشيء بحركة منقطعة غير متّصلة. وإذا كان وجود أجزاء الشيء ظاهراً في هذه المدارك الثلاثة وكان قليلاً من جهة المميّز والمصوّر، كان تذكّره أسهل؛ وإن كان كثير القشر من هاتين الجهتين كان تذكّره عسراً. والمعاني الكلّيّة إنّما تتذكّر من جهة المتخيّلات التي تستند إليها، ولذلك كان النسيان يلحقها كما يلحق المعاني الجزئيّة. — الذكر إنّما يكون للصور السهلة الاسترجاع، والصور السهلة الاسترجاع هي التي تكون عند القوّة المتخيّلة والحسّ المشترك، وهي كثيرة الجسمانيّة قليلة الروحانيّة. والصور العسرة الاسترجاع هي الصور الروحانيّة القليلة الجسمانيّة. وإنّما كان ذلك كذلك، لأنّ الصورة الكثيرة الجسمانيّة يطول فعل الحسّ المشترك في تمييز روحانيّتها من جسمانيّتها، فيعرض له أن تثبت فيه تلك الصورة، وبخاصّة إذا قبلها قليل القشر.

فقد تبيّن من هذا كيف يكون التذكّر، وما الفرق بينه وبين الحفظ. وقد بقي من لواحق هذه القوى التي يذكرها أرسطو مطلبان: أحدهما: لم كان المتذكّر يألم ويلتذّ من غير أن يكون الملتذّ به موجوداً بالفعل؟ — فنقول: إنّ المتذكّر يلتذّ بذكر الأشياء التي ليست موجودة بالفعل من جهة أنّ الأشياء التي تبعثه على التذكّر هي أشياء موجودة، وهي ضرورة مناسبة كالأشياء المتذكّرة. فلكون شبيه الشيء له بالفعل يلحق المتذكّر من اللذّة أو الأذى عند ذلك ما كان يلحقه لو كان ذلك الشيء موجوداً بالفعل؛ فكأنّه يتوقّع خروج ذلك الشيء إلى الفعل، وكأنّه عند النفس في حدّ الممكن. وذلك أنّه إذا وجد شبه ذلك الشيء، كان الشيء ممكناً أن يوجد، فالنفس إذا تذكّرت شيئاً من أجل محسوس مناسب لذلك الشيء لأمر بها، أشعرها العقل أنّ ذلك المحسوس من جنس ما كان عندها مخرجاً وموجوداً بالقوّة، وأنّه يمكن أن يخرج إلى الفعل كما خرج إلى الفعل هذا الشبيه الذي نبهنا. فيعرض عند ذلك من الألم بالشيء المتذكّر واللذّة مثل ما يعرض لو كان موجوداً بالفعل.

وأمّا الجيّد الذكر من الناس فهو البطيء الحركة الذي يثبت في نفسه ما يمرّ به من المحسوسات، وذلك هو مزاج مؤخّر دماغه متمسّك بالصورة الحاصلة؛ وهذا هو الذي تغلب على مزاج ذلك الموضع منه اليبوسة أكثر من غلبة الرطوبة، فإنّ اليبوسة من شأنها أن يعسر قبولها؛ فإذا قبلت الصورة فمن شأنها أن تثبت فيها وتتمسّك بها زماناً طويلاً، بخلاف الأمر في الرطوبة. ولذلك كان الذين مزاج أدمغتهم هذه الأمزجة — جيّدي التذكّر، لأنّ جودة التذكّر إنّما تكون عن بقايا رسم الصورة المنطبعة في القوّة المتخيّلة. — أمّا الذين تغلب على هذا الموضع منهم الرطوبة فإنّهم لا يتذكّرون الأشياء لقلّة ثبوت الصور في الرطوبة؛ ولكنّهم يحفظون سريعاً لسهولة الرطوبة. ولهذا كان الكثير اليبس قليل الحفظ كثير التذكّر؛ وكان الكثير الرطوبة سريع الحفظ كثير النسيان عسر الذكر. والمتوسّط في هذا المزاج تجتمع له جودة الحفظ وجودة الذكر؛ ولهذا كانت جودة الذكر منسوبة إلى سنّ الشباب بالطبع، وكان النسيان يعرض للصبيان والشيوخ: أمّا للصبيان فلموضع الرطوبة الطبيعيّة، والمشايخ 〈لموضع

الرطوبة〉 العرضيّة؛ وإنّما يوجد بعض المشايخ جيّد الذكر إذا لم يغلب على مزاجه الطبيعيّ هذا المزاج العرضيّ. وذلك أنّ المزاج الطبيعيّ للشيخ إنّما هو مزاج اليبس؛ ولذلك قد يوجد الشيخ ذاكراً، ولا يوجد حافظاً؛ وأمّا الصبيان فيوجدون حفاظاً أكثر ممّا يوجدون ذاكرين. وأمّا الشباب فهم الذين يوجد لهم الأمران معاً: الحفظ والذكر. وإنّما يذكر المرء كثيراً ممّا أحسّه في صباه لأنّه شديد العشق للصور التي تمرّ به، شديد الاستغراب لها فيطول تبيّنه لها ويجود تحصيله فيعسر ذهابها.

فقد قلنا في هذه القوّة وفي لواحقها فلنقل في النوم واليقظة، والنظر فيهما أوّلاً: هل هما خاصّان بالنفس، أو بالجسد؟ أو هما ممّا تشترك فيه النفس والجسد؟ وإن كانا ممّا تشترك فيه النفس والجسد فلأيّ جزء من أجزاء النفس تنسب هاتان القوّتان؟ ولأيّ عضو من أعضاء البدن؟ وهل ما يوجد له من الحيوان إحدى هاتين القوّتين توجد له الأخرى؟

فنقول: إنّ النوم والسهر يرسمان برسوم: أحدها أنّ النوم حسّ لا بالقوّة، أي لأشياء موجودة بالقوّة؛ فإنّه ظاهر أنّ النائم يرى أنّه يأكل ويشرب ويحسّ بجميع حواسّه الخمس. وأمّا اليقظة فإنّه حسّ لا بالفعل. — ومن هذين الرسمين يظهر أنّ النوم عدم اليقظة، لأنّ ما بالقوّة عدم ما بالفعل. والحسّ الذي بالقوّة في النوم قد يتّفق أن يخرج إلى الفعل، وذلك في المنامات الصادقة والإنذارات العجيبة. وحينئذٍ يكون الحسّ الذي بالقوّة أشرف من الحسّ الذي بالفعل. وأمّا الكاذب من الحسّ الذي بالقوّة فخسيس، والذي بالفعل أشرف منه. ويشبه أن يكون الأمر كما يقول أرسطو: إنّ الحسّ الذي بالفعل جسمانيّ، والذي بالقوّة روحانيّ، والجسمانيّ أشرف عند الحاسّ الجسمانيّ، والروحانيّ أشرف عند المدرك الروحانيّ، وليس الروحانيّ أشرف عند الجسمانيّ، ولا الجسمانيّ أشرف من الروحانيّ عند الروحانيّ. وأمّا الروحانيّ على الإطلاق فهو أشرف من الجسمانيّ، والحسّ الروحانيّ إنّما يوجد في النوم فقط، بل يوجد في اليفظة عند اجتماع القوى الثلاث واتّحادها كما سلف من قولنا، ومن هذين الرسمين أنّ

هاتين القوّتين واحدة بالوضع، وواحدة بالماهيّة والحدّ؛ وأنّ موضوعهما هي القوّة الحسّاسة المدركة، وأنّهما مشتركتان للنفس والبدن. فإنّ أفعال النفس الحسّاسة من الأمور المشتركة للنفس والبدن لأنّهما لا بالذات. وقد يظهر أنّ هاتين القوّتين منسوبتان إلى الحسّ المشترك ممّا أقوله، وذلك أنّه ليس يمكن أن ينسب إلى القوّة الغاذية، فإنّ النبات لا نوم له، إذ لا إدراك له. وإذا لم ينسب إلى النفس غير المدركة فهي ضرورة منسوبة إلى النفس المدركة، ومن المدركة إلى غير الناطقة، فإنّ الحيوان الغير ناطق ينام. ولمّا كان الحيوان النائم لم يعدم شيئاً في حال نومه من آلات الحسّ ولا من آلات الحركة، وهو مع هذا لا يحسّ ولا يتحرّك، وتمرّ به المحسوسات ولا يشعر بها — علمنا أنّ السبب في ذلك، أعني النوم، هو أنّ المدرك للمحسوسات قد انصرف عن تلك الآلة إلى باطن البدن. ولمّا كان قد تبيّن في «كتاب النفس» أنّ هاهنا قوّة حسّيّة مشتركة لجميع الحواسّ الخمس، وهي التي تقضي تباينها وتقابلها وكثرتها — علمنا أنّ المنصرف عن هذه الآلات إنّما هو الحسّ المشترك، وأنّ ماهيّة النوم إنّما هو غؤور هذه القوّة الحسّاسة المشتركة إلى داخل الجسم، وأنّ اليقظة هي حركة هذه القوّة الحسّاسة إلى آلاتها من خارج. ولهذا قد يرسم بأنّ النوم سكون الحركة، واليقظة اتّصال الحركة. وهذا القول هو أدلّ على ماهيّة النوم من القول المتقدّم. والدليل على أنّ النوم غؤور الحسّ المشترك إلى باطن البدن أنّ اليقظان يعرض له مثل هذا، أعني تمرّ به المحسوسات فلا يدركها، وذلك إذا أقبل بالفكرة على أمرها، لأنّه في ذلك الوقت يعطّل آلات الحسّاسة ويقبل بالحاسّة المشتركة إلى داخل الجسم لمعونة القوّة المفكّرة، لأنّ القوّة المفكّرة تقوى عند سكون سائر الحواسّ، ولذلك كان الإنسان يدرك في النوم الأمور المستقبلة ولا يدركها في اليقظة. وأمّا معونة هذه القوّة المفكّرة فبأن تحصر ما عندها من رسم ذلك الشيء فيصفّيه الخيال وتحضره القوّة المفكّرة، وذلك أنّ المعنى الذي يدرك بالفكرة روحانيّ، فهو يحتاج إلى معونة هذه القوى

في إدراكه الذي يخصّه. وهذا ليس يعرض لشيء من الحيوان سوى الإنسان، لأنّه لا قوّة عقليّة 〈له〉، وإنّما يدرك من المحسوسات رسوم الأشياء وقشورها. والدليل على ذلك أنّها تمرّ على الضارّ لها فلا تتجنّبه، وعلى النافع فلا تتحرّك إليه. — وقد يرسم أيضاً النوم بأنّه ربط القوى ووثاقها، واليقظة بأنّها انحلال القوى وضعفها وذلك أنّ اليقظة لمّا كانت استعمال الحواسّ آلاتها، عرض لها الانحلال عن آلاتها لمكان الضعف والتعب؛ والنوم لمّا كان جماماً لهذه القوى عرض له أن يكون رباط هذه القوى لأنّها ستجد به قوّة ونشاطاً. ولمّا كان هذا الكلال إنّما يعرض للآلات عن آلام داخلة عليها مثل التعب والكدّ وغير ذلك من الأمور، كانت هذه الأشياء أيضاً لها مدخل في رسم النوم. وإذا كان هذا ظاهراً من أمر النوم فواجب في كلّ ما له يقظة من الحيوان أن يكون له نوم، لأنّ الضعف يدخل على الحيوان ضرورة، إلّا أنّه ليس لازماً ذلك الحيوان على نحو واحد ووتيرة واحدة، وذلك أنّ من الحيوان ما له خمس حواسّ، وهذا يوجد له النوم واليقظة على التمام، ويوجد له الفرح والحزن والشهوة على التمام أيضاً؛ وقد توجد له الحاسّة التامّة المشتركة. ومنها ما توجد له أربع حواسّ فقط وثلاث حواسّ، وهذا يوجد له النوم لكن ليس في جميع القوى الخمس إذ كان لا يوجد له السهر بها وليس يلحق شيئاً في أنّ النوم التامّ والفرح التامّ والسرور إنّما يوجد للحسّ المشترك التامّ، وهو الحيوان الذي توجد له خمس حواسّ، من قبل أنّا نجد كثيراً ممّن فقد بعض هذه الحواسّ ينام — مثل الأعمى والأصمّ والأبكم، فإن هذا الفقد هو عرضيّ لا طبيعيّ. وأيضاً فهؤلاء لم يفقدوا الحسّ المشترك، وإنّما فقدوا الآلات التي بها يشرق الحسّ المشترك المحسوسات.

ورسم قوم النوم بأنّه الذي يحدث عن ضعف القوى الحسّيّة. وليس كلّ نوم يحدث عن ضعف القوى الحسّيّة، فإنّه قد يحدث عن إعمال الفكر في شيء ما، فيعرض للحسّ المشترك لمعونة الفكر، لا لأنّه لحقه ضعف، بل فعله مع سائر القوى في ذلك الوقت أقوى منه في حين اليقظة.

والدليل على أنّ القوى الحسّيّة تنقبض عند النوم أنّ المرء إذا عسر عليه المعنى وفكر فيه عرض له النوم. وقد يبلغ هذا المعنى ببعض الناس أن يعرض لهم شبيهاً بالموت، أعني لضعف قواهم الخارجة لمكان تصرّف القوى الداخلة الروحانيّة وإدراكها للأمور الجزئيّة وإطلاعها على الأمور الروحانيّة الموجودة في العالم كالملائكة والسموات وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين يقال إنّه عرج بأرواحهم.

ولمّا كان الحسّ المشترك من جهة واحداً، ومن جهته كثيراً: أمّا الجهة التي هو بها واحد فمن جهة أنّه يدرك جميع المحسوسات الخمس؛ وأمّا كثير فمن جهة الآلات، أعني من جهة أنّ له عيناً وأذناً وأنفاً، وكان هذا الحاسّ النوم واليقظة، وهو عامّ لقوى كثيرة من قوى الحسّ. فتبيّن أنّ النوم واليقظة يشتمل قوى كثيرة من قوى الحيوان. ولذلك ما يقول أرسطو: إنّه واجب أن يعدل المرء بين هاتين القوّتين، ولا يميل لإحداهما دون الأخرى، وذلك أنّه متى ملنا إلى النوم أكثر ممّا ينبغي تبلّدت النفس والآلات الطبيعيّة التي بها تفعل. ومتى ملنا إلى اليقظة فسدت القوى والآلات الطبيعيّة التي تخصّها.

فقد ظهر من هذا الأمر: لأيّ قوّة من قوى النفس يوجد النوم والسهر.

ولمّا كانت هذه القوى لا بدّ لها من موضوع خاصّ، وذلك هو العضو الذي فيه هذه القوّة، فينبغي أن نفحص عن هذا العضو: أيّ عضو هو، وإن كان يوجد لأكثر من عضو واحد، ولأيّما يوجد أوّلاً، ولأيّها يوجد ثانياً، وعن أيّ سبب يوجد، وكيف يوجد.

فنقول إنّه قد تبيّن فيما سلف مبدأ الحسّ المشترك إنّما هو في القلب، وأنّ الدماغ هو أحد الآلات الممتّة لهذا الفعل من جهة التعديل الموجود فيه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان النوم هو غرض الحسّ المشترك إلى داخل البدن، فبيّن أنّ مبدأ هذه الحركة في السهر هو من القلب ومنتهاها إلى الدماغ. وأمّا في النوم فمبدؤها من الدماغ، ومنتهاها إلى القلب. وعلى الحقيقة فمبدؤها في الأمرين إنّما هو من القلب، لكن الدماغ هو سبب في النوم بجهة ما أكثر منه في السهر. وبالجملة فكلّ واحد منهما سبب في ذلك، لأنّ القلب هو

السبب الأوّل، والدماغ سبب ثانٍ. وإذا كان هذا هكذا، فهذان العضوان هما المشاركان لهاتين القوّتين. — وأمّا عن أيّ سبب يعرض لهذين العضوين فظهر ممّا أقوله، وذلك أنّه إذا وضع أنّ كلّ عرض يعرض للحيوان فإنّما سببه الحارّ والبارد والرطب واليابس أو ما تركّب منهما، ووضعنا أنّ النوم هو غؤور الحسّ المشترك إلى العضو الذي هو مبدؤه، وكان موضوع الحسّ المشترك إنّما هو الحارّ الغريزيّ — فبيّن أنّ النوم إنّما يكون بانصراف الحارّ الغريزيّ وانقباضه إلى مبدئه الذي هو القلب، فإنّ الحركة إنّما تكون للجسم بما هي حركة. ولذلك لا تتحرّك القوى إلّا من جهة موضوعها. وإذ تبيّن هذا وكان الانقباض للحارّ الغريزيّ إلى باطن البدن إنّما يعرض له من قبل ضدّه الذي هو البرد والرطوبة، كما أنّ الانتشار له والحركة إلى خارج إنّما يعرض من قبل الحرارة واليبس، فواجب أن يكون إنّما يعرض له في وقت النوم هذا العرض من قبل البرودة والرطوبة التي هي أغلب على الدماغ، وأن يكون السهر إنّما يعرض من قبل الحرارة واليبس الغالب على مزاج القلب. — فأمّا كيف يعرض هذا الانقباض عن البرودة والرطوبة فممّا نقوله: أمّا الرطوبة فمن شأنها أن تسدّ المجاري التي للحارّ الغريزيّ في العروق والأعصاب، فتمنع الروح وتحجبه عن الوصول إلى الآلة الخاصّة به، كما يحجب الحجاب الشمس فلا يصل هذا الروح إذا كثرت الرطوبة فيه إلى خارج. — وأمّا البرودة فإنّ من شأنها أن تحرّك الحرارة الغريزيّة إلى منبعها من جهة ما هي ضدّ له، وإلّا فسدت الحرارة الغريزيّة، مع أنّ البرودة أيضاً من شأنها أن يتكثّف بها الجرم ويعود إلى كمّيّة أصغر؛ ولذلك كان الأسطقسّ البارد أصغر كمّيّة من الأسطقسّ الحارّ. وقد يشهد لكون البرودة والرطوبة فاعلة للنوم ما يعرض من كثرة النوم عند تناول الأشياء الباردة الرطبة. وهذا العارض يعرض للروح، وعلى المجرى الطبيعيّ من شيئين: أحدهما طبخ الغذاء ونضجه في الدماغ والقلب، والثاني الكلال الذي يلحق آلات الحواسّ والحارّ الغريزيّ. وأمّا كيف يعرض ذلك للحارّ الغريزيّ عن هذين الشيئين فعلى ما أقوله: وذلك أنّ الغذاء إذا استحال دماً وصار صفوه إلى القلب ثمّ إلى عضو عضو من

الأخيرة ليتوفّر جوهره ويخلف فيه بدل ما تحلّل بالحركة. — والسبب الثاني أنّ الحركة إذا بدّدت الحارّ الغريزيّ برد وقلّ وثقل، لموضع البرد، فألم وانقبض إلى مبدئه ليدفع عن نفسه المزاج العارض له.

فالنوم، بالجملة، يعرض لمكان تغيّر الحارّ الغريزيّ في كمّيّته وكيفيّته. أمّا النوم الذي يحدث عن الغذاء فلمكان رطوبته وبرده. وأمّا الذي عن التعب فلمكان نقصانه وبرده. فأمّا لم كان الحيوان يعرض له هذا العارض فلموضع الضرورة، لأنّه لمّا كان من ضرورة هذا للأجسام أن يلحقها الكلال والتعب عند الحركة وكانت مغتذية — احتاجت إلى النوم لمكان الراحة وضرورة الاغتذاء، وذلك بخلاف ما عليه الأمر في الأجرام السماويّة، فإنّ تلك لمّا لم يلحقها الكلال ولم تكن مغتذية، لم تكن محتاجة إلى النوم.

فقد تبيّن من هذا القول ما هو النوم، ولأيّ جزء من أجزاء النفس ينسب، ولأيّ عضو من أعضاء البدن، وكيف يعرض، ولمن يعرض.

وحسن بنا — بعد معرفة النوم — أن نعرف طبيعة الرؤيا وما كان من جنسها من الإدراكات الإلهيّة التي ليست منسوبة إلى اكتساب الإنسان ولا ينبغيه — فنقول:

إنّ هذه الإدراكات منها ما يسمّى «رؤيا» ومنها ما يسمّى «كهانة»، ومنها ما يسمّى «وحياً» — وقوم من الناس حجدوا وجود هذه ونسبوا وجود ما يشاهد من ذلك إلى الاتّفاق، وقوم أثبتوها، ومنهم من أثبت بعضها ونفى بعضاً ومدافعة وجودها، وبخاصّة وجود الرؤيا الصادقة، فإنّه ما من إنسان إلّا وقد رأى رؤيا أنذرته بما يحدث في المستقبل. وإذا اعتبر المرء الذي في نفسه أفاده ذلك الاعتبار أنّ العلم الحاصل عنها إنّما هو بالذات وعن طبيعة فاعلة لذلك، لا عن اتّفاق، والمدرك الآخر وإن لم يشاهدها فهي مشهورة جدّاً؛ والمشهور عند الجميع إمّا أن يكون معدوداً في الواجب بالكلّ، أو بالجزء: فإنّه

لا يمكن أن يكون المشهور كاذباً بالكلّ. والقول فيها هو من جنس واحد. والكلام عن الرؤيا يغنى عن الكلام 〈في سائرها〉 لأنّها إنّما تختلف بالأقلّ والأكثر، أعني أسبابها. وإنّما اختلفت أسماؤها لمّا يعتقده الجمهور في أسبابها — وذلك أمر معروف: فإنّهم يعتقدون في الرؤيا أنّها من الملائكة، وفي الكهانة أنّها من الجنّ، وفي الوحي أنّه من اللّه تعالى: إمّا بلا واسطة، وإمّا بواسطة مخصوصة. وأيضاً فإنّ الوحي منفصل عندهم بأنّه إنّما يأتي للتعريف بأمور علميّة مثل تعريف ماهيّة السعادة، وتعريف الأشياء التي تحصل بها السعادة؛ وتلك إنّما يحصل التعريف فيها بأمور كائنة.

وأرسطو إنّما تكلّم من هذه في الرؤيا فلنقل فيها فنقول:

إنّ الرؤيا صنفان: كاذبة، وصادقة؛ فينبغي أن ننظر فيها أوّلاً إلى أيّ جزء من أجزاء النفس ينسب كلّ واحد من هذين الصنفين؛ وما السبب الفاعل لكلّ واحد من صنفي الرؤيا، أعني الصادقة والكاذبة؛ ولماذا تكون الرؤيا الصادقة، وكيف يمكن أن تكون؛ وكم أصنافها؛ وفي أيّ الأجناس والمعلومات تكون؛ ولم كانت تختصّ بوقت النوم؛ ولما كان بعض الناس متفاضلاً فيها: فبعضهم يرى رؤيا صادقة، وذلك في الأكثر، وبعضهم كاذبة في الأكثر، ولم كان بعض الناس يحسن تعبير الرؤيا بعضهم لا يحسن. فإنّ هذه هي أصول المطلوبات المتشوّقة في الحسّ. فنقول:

إنه لمّا كان النائم يحسّ كأنّه يبصر ويشمّ ويذوق ويلمس، ولم يكن هنالك محسوسات من خارج، فواجب أن يكون مبدأ هذه الحركة في النوم هو من منتهاها في اليقظة يبتدئ من المحسوسات التي من خارج إلى أن ينتهي إلى قوّة الذكر، وهي المرتبة الخامسة، فقد كان يجب أن يكون مبدؤها من هذه القوّة. إلّا أنّ قوّة الفكر والذكر غير فاعلة في النوم، إنّما الفاعلة في النوم المتخيّلة، لأنّ هذه الحركة هي حركة دائمة وفعل متّصل، وإنّ التصوير والتمثيل والانتقال من خيال إلى خيال، وتارة ذلك من المعاني التي في الذكر، وتارة تفعل ذلك من الآثار التي في الحسّ المشترك، وتارة تتلقّى هي معنى ذلك الشيء الذي تصويره من مبدأ من خارج — على ما سنبيّن — وذلك على أحد

وجهين: الوجه الواحد إمّا أن يتلقّى ذلك المعنى نفسه، أو يتلقّى ما يحاكيه بدله. كان بيّناً من جميع هذا أنّ الرؤيا إذن تنسب من قوى النفس إلى القوّة المتخيّلة أوّلاً، سواء كانت كاذبة أو صادقة. وأمّا كيف يعرض في النوم عن هذه القوّة أن يكون المرء يرى كأنّه يحسّ بحواسّه الخمس من غير أن تكون هنالك محسوسات خارج النفس، فإنّ ذلك يكون منها بعكس الحركة التي كانت بينها وبين المحسوسات في اليقظة، وذلك أنّ في اليقظة المحسوسات من خارج هي التي حرّكت الحواسّ، وحرّك الحسّ المشترك قوّة الجزئيّة؛ فيعرض للمرء أن يدرك المحسوسات وإن لم تكن موجودة خارجاً لأنّ معانيها قد صارت في آلات الحواسّ. ولا فرق بين أن تصير هذه المعاني من خارج، أو تصير من داخل. وقد يعرض مثل ذلك في اليقظة للخائف والمريض وذلك لإفراط فعل القوّة المتخيّلة في هذه الأحوال: فإنّها إذا قوي فعلها عادت بحركة ما كانت عنه متحرّكة وهو الحسّ المشترك. وإنّما أفرطت حركة القوّة المتخيّلة في النوم لأنّها انحلّت عن رباط القوّة الفكريّة وخرجت عن سلطانها. ولضعف هذه القوّة، أعني المفكّرة، في الخائف والمريض عرض لهم مثل هذا العارض.

فقد تبيّن من هذا القول أنّ الرؤيا — سواء كانت صادقة أو كاذبة — منسوبة إلى قوّة التخيّل. فلننظر في الأسباب الفاعلة لهذين الصنفين من الرؤيا فنقول: أمّا الرؤيا الصادفة فلمّا كانت تدلّ على معرفة وجود شيء مجهول الوجود عندنا بالطبع قبل هذه المعرفة، وهو في وقت المعرفة في الأكثر معدوم وكان هذا التصديق الحاصل لنا بعد الجهل ليس يحصل عن معرفة متقدّمة عندنا فاعلة له، ولا بعد فكر ورويّة بمنزلة ما تحصل المعرفة التصديقيّة الحاصلة لنا عن المقدّمات — فإنّه قد تبيّن في «كتاب البرهان» أنّ المعرفة التصديقيّة والتصويريّة يتقدّمها بالطبع صنفان من المعرفة: فاعل ومعطى. وأمّا هذه المعرفة التي تحصل في النوم فظاهر أنّه ليس يتقدّمها الصنف الفاعل؛ فأمّا هل يتقدّمها الصنف المعطى ففي ذلك نظر. وإذا كانت هذه المعرفة حاصلة لنا بعد الجهل وموجودة بالفعل بعد أن كانت موجودة بالقوّة، ولم يكن فينا معرفة لهذه المعرفة، فبيّن أنّ الحال في حصول هذه المعرفة لنا كالحال في حصول المقدّمات الأول. وإذا كان

ذلك كذلك، فواجب أن يكون الفاعل لها واحداً ومن جنس واحد. ولمّا كان قد تبيّن في الأقاويل الكلّيّة أنّ كلّ شيء يخرج من القوّة إلى الفعل، فواجب أن يكون الفاعل لهذه المعرفة هو عقل بالفعل؛ وهو بعينه يعطي المبادئ الكلّيّة في الأمور النظريّة الذي بيّن وجوده في كتاب «النفس»، فإنّ الإعطاء بيّن من جنس واحد. إنّما الفرق بينهما أنّ المعرفة النظريّة تعطي المبادئ الكلّيّة الفاعلة للمعرفة المجهولة، وهنا تعطى المجهولة بلا واسطة. ولهذا ينشأ في هذا النوع من الإعطاء موضع تعجّب وفحص شديد. وذلك أنّ هذا الإعطاء إن كان ممكناً للإنسان، فعل ذلك ممكن له في جميع المعارف المجهولة، وذلك في جميع الأجناس الموجودة، أم إنّما ذلك ممكن له في بعض الأجناس وغير ممكن في بعضها؟ — فإنّ الرؤيا بيّن من أمرها أنّها ليست تكون في شيء من الأمور النظريّة وإنّما هي في أمور مستقبلة. وبالجملة، فكيف كان الأمر، فهذا النوع من الإعطاء شريف جدّاً ومنسوب إلى مبدأ أرفع من هذا الاختيار وأشرف منه، بل ذلك من أمر إلاهيّ وعناية تامّة بالإنسان الذي يحصل له هذا النوع من المعرفة في كثير من الأشياء. ولمّا كانت ماهيّة النبوّة إنّما هي داخلة في هذا النوع من الإعطاء نسب إلى الإلاه و〈إلى〉 الأشياء الإلاهيّة، وهي الملائكة. ولذلك يقول سقراط محتجّاً في أثينيا: «يا قوم! إنّي لست أقول إنّ حكمتكم هذه الإلاهيّة أمر باطل؛ ولكن أقول إنّي حكيم بحكمة إنسانيّة». وسنظهر هذا فيما بعد بحسب قوّتنا واستطاعتنا؛ فلنرجع إلى حيث كنّا فنقول: إذا لاح أنّ معطي هذه المعرفة هو عقل بريء عن المادّة، وكان قد تبيّن في العلوم الإلاهيّة أنّ هذه العقول المفارقة إنّما تعقل الطبائع الكلّيّة، وكانت إنّما تعطي شبيه ما في جوهرها — لم يمكن أن تعطي معنى شخصيّاً أصلاً، إذ ليس في طباعها إدراك ذلك المعنى الجزئيّ، وإنّما تشخص تلك الصورة الكلّيّة في الهيولى. ولو كان للعقول المفارقة إدراك شخصيّ، لكانت ضرورة هيولانيّة، فكانت لا تعقل إلّا بمماسّة فعل وانفعال. وإذا لم تعقل تلك العقول المعارف الشخصيّة،

فكيف، ليت شعري. ، يعطي العقل الفعّال هذه الصورة الشخصيّة المخصوصة بالزمان والمكان، وبالصنف الواحد من الناس وبالشخص الواحد من الصنف الواحد. وذلك أنّا نرى المرء إنّما يدرك من هذه الأشياء ويتقدّم له في النوم الإنذار بحدوث ما كان خاصّاً لجسمه أو نفسه أو قرائبه أو أهل مدينته، وبالجملة ما كان عرفه.

والشكّ هاهنا في موضعين: أحدهما: كيف تحصل له الأمور الجزئيّة؟ والثاني: لم اختصّ هذا الإعطاء من الجزئيّات الخاصّة بالإنسان الذي ألقي إليه هذا العلم بذلك؟ فإنّ القول بهذه الأشياء — وإن كان معتاصاً بحسب إدراك الإنسان، فواجب أن يبلغ من ذلك أقصى ما في طباعه أن يبلغه إذا كان جوهر السعادة ليس شيئاً أكثر من هذا. فنقول: إنّ الأمور التي تحدث: منها أشخاص جواهر، ومنها أشخاص أعراض. وأشخاص الجواهر منها ما هي أشخاص جواهر بسيطة وهي أحد الأسطقسّّات، ومنها ما هي أشخاص جواهر مركّبة وهذه صنفان: إمّا ذوات نفوس كالحيوان والنبات، وإمّا غير ذوات نفوس كالمعادن وما كان من جنسها.

وأمّا أشخاص الأعراض نفسها: فمنها أعراض موجودة في أشخاص الجواهر البسيطة، ومنها أعراض حادثة في ذوات النفوس، وإمّا أعراض موجودة غير ذوات النفوس.

وكلّ واحد من هذين الصنفين موجود إمّا عن الطبيعة، وإمّا عن المادّة. فأمّا أشخاص الجواهر فجميعها محدودة لأسباب الفاعلة لها على ما تبيّن في العلم الطبيعيّ، إذ كان ليس يوجد شخص جوهر بالاتّفاق. فإنّه قد تبيّن في كتاب «الكون والفساد» أنّ حدوث أجزاء الأسطقسّّات وتغيّر بعضها إلى بعض مرتّب محفوظ منظوم من قبل حركة الأجرام السماويّة وبذلك أمكن أن يكون الكون والفساد في أجزائها على التعادل، وأن تبقى أبداً محفوظة بكلّيّاتها. وكذلك تبيّن أيضاً في ذلك الكتاب بعينه أنّ الأجسام المتشابهة الأجزاء الحادثة أوّلاً عن

الأسطقسّّات محدودة الوجود محصّلة الأسباب من قبل حركات الأجرام السماويّة أيضاً ومن قبل حركات الأسطقسّّات الجارية على نظام، والأجرام السماويّة أسباب مفيدة للأجسام المتشابهة الأجزاء، وصور الأسطقسّّات أسباب قريبة. — وتبيّن أيضاً في كتاب «الحيوان» و«النبات» أنّ أشخاص الحيوان والنبات محصّلة الوجود محدودة الأسباب: أمّا في المتناسل منها فمن قبل البزر والعقل الفعّال؛ وأمّا في غير المتناسل فمن قبل الأسطقسّّات والأجرام السماويّة والعقل الفعّال. وإذا كانت هذه الأشخاص محصّلة الوجود فطبيعتها معقولة ضرورة عند الصور المفارقة، وهي التي نسبتها منها نسبة صورة الصناعة من المصنوع.

وأمّا أشخاص الأعراض فمنها ما يوجد عن الأسباب الطبيعيّة، ومنها ما يوجد عن الأسباب الإراديّة، ومنها ما يوجد عن الاتّفاق — وذلك في الجنسين جميعاً، أعني في الأشياء الإراديّة والأشياء الطبيعيّة. فما كان موجوداً عن الاتّفاق فليس له طبيعة معقولة، إذ ليس له أسباب محدودة، ولذلك ليس يمكن أن تقع للإنسان معرفة بما يحدث من هذه إلّا بضرب من العرض. — وأمّا الصنف الثاني من الأعراض المحدودة الأسباب فلها ضرورة طبيعيّة كلّيّة معقولة هي السبب الأوّل في وجدها، فإنّه واجب ضرورة أن يكون ما تحصل معرفته بالذات أن تكون له أسباب موجودة بالذات. وإذا كانت هنالك أسباب موجودة بالذات فهي ضرورة معقولة عند الطبيعة، سواء عقلناها نحن أو لم نعقلها. وإنّما كانت هذه الشخوص الحادثة لا تحصل لنا معرفة حدوثها بقياس، وذلك فيما تباعد منها زمانه، لأنّ تلك الأسباب غير محصّلة الوجود؛ فإنّا إنّما ندرك الجليل من هذه الأسباب والكلّيّات العامّة، وبين المراتب والأطوار التي ندركها نحن من ذلك والتي هي محدودة عند الطبيعة المعقولة التي تتقبّل ما عندها، من ذلك الطبيعة المحسوسة وتحرّك عنها كما تتحرّك الآلات عن صورة الصناعة — مراتب دقيقة يمكن أن تكون غير متناهية. ولذلك ما نرى أنّه ليس يحدث شخص من الأشخاص بالذات عن الطبيعة إلّا بعلم متقدّم، فإنّ آلة صاحب المهنة إنّما تتحرّك بقدر علم صاحب المهنة.

وأمّا في هذا الإدراك الروحانيّ الذي يكون في النوم أو فيما يشبه فهو يعطي القوّة المتخيّلة الكمال الأخير، وكما أنّ الطبيب الماهر ممّا ينذر بما يحدث لجسم زيد وفي وقت محدود بمقدّمتين: إحداهما كلّيّة معقولة، والأخرى جزئيّة محسوسة — كذلك هو الإنذار والعلم يلتئم من الكلّيّ الذي يعطيه العقل ومن معنى الجزئيّ الذي تأتّي به القوّة المتخيّلة المناسب لذلك الكلّيّ. فأمّا لم كان الإنسان إنّما يدرك من هذه الأمور الجزئيّة ما كان خاصّاً بزمانه ومكانه وبلده وقومه دون سائر الأمور الجزئيّة المشاركة لها في الطبيعة الكلّيّة، فالسبب في ذلك أنّه لا بدّ أن يكون عند الإنسان في هذا الإدراك أحد جنسي المعرفة المتقدّمة للتصديق، وهي المعرفة المعطية للتصديق؛ أعني معرفة التصوّر المتقدّمة على التصديق. فالإنسان إنّما تحصل له هذه المعرفة وهذا العلم في الأشخاص الذين قد تقدّم معرفتهم، وبخاصّة في الذين سبق لهم بهم عناية. وأمّا فيما كان منها مجهولاً عنده فليس يمكن أن يحصل عنده علم بما يحدث لذلك الشخص، فإنّ هذا التصديق — وإن لم يكن من شرطه أن تتقدّمه معرفة عند الإنسان فاعلة — فلا بدّ أن يكون من شرطه أن تتقدّمه معرفة معطية.

فأمّا لم كانت القوّة المتخيّلة ليس تأتي في الأكثر بالمعنى الشخصيّ الحقيقيّ الداخل تحت ذلك الكلّيّ، 〈بل〉 يعطيه العقل؛ وإنّما تأتي بالمعنى المحاكي — فذلك لأنّ للشيء صورتين: روحانيّة، وهي الصور المحاكية، وجسمانيّة وهي صورة الشيء المحسوس نفسه لا الصورة المحاكية له؛ والصورة المحاكية إنّما كانت أكثر روحانيّة لأنّها أقرب إلى طبيعة الكلّيّ من صورة الشيء الحقيقيّة ولذلك كانت القوّة المتخيّلة تقبل المعنى المعقول يلتئم ما يمكن في جوهرها أن تقبله الروحانيّة، وقد تقبله أحياناً جسمانيّاً، فيرى الرائي في النوم الصورة نفسها لا ما يحاكيها. وأمّا لم اختصّ هذا الإدراك بالنوم فاعلة في ذلك أنّ النفس لمّا كانت واحدة بالموضوع كثيرة بالقوى. فهي إذا استعملت بعض القوى الباطنة ضعفت عن البعض مثل ضعف قوّة الخيال عند إعمال قوّة الفكر، وقوّة فعل

الخيال عند ضعف الفكر. وإذا عطلت النفس جنساً من هذه القوى ونوعاً منها قوي النوع الباقي، وربّما لم يقتصر في هذا الفعل على تعطيل بعض القوى، بل وتعطل مع ذلك الآلة التي كانت تفعل فيها تلك القوّة المعطّلة وتصرفها إلى القوّة التي 〈تقدر〉 على استعمالها، وهذا من فعل النفس تشبه جميعها القوى الثلاث الباطنة من قوى النفس في إحضار الذي لم يمرّ بالحسّ.

وإذا كان هذا كلّه كما وصفنا، فواجب أن يكون فعل القوّة الخياليّة أكمل وأكثر روحانيّة، لأنّ النفس في حال النوم قد عطلت الحواسّ الظاهرة وآلاتها، ومالت بذلك نحو الحسّ الباطن. والدليل على أنّ القوى الباطنة أتمّ فعلاً عند سكون القوى الخارجة أنّ الذين يستعملون الفكر كثيراً تميل قواهم الحسّيّة إلى داخل البدن حتّى إنّه يغشاهم النوم بتسكين الحواسّ الخارجة لتجرّد لهم الفكر ولهذا السبب كان الذين يولدون عدماء حاسّة البصر وحاسّة السمع أتمّ أفعالاً في القوى الباطنة. ولهذا بعينه كان الوحي إنّما يأتي في حالة شبيهة بالإغماء، وذلك أنّ هذه القوى الباطنة إذا تحرّكت حركة قويّة انقبضت الخارجة حتّى إنّه ربّما عرض عن ذلك شبيه بالغشي، مثل ما يعتري الذين يقال إنّهم عرج بأرواحهم.

فقد تبيّن من هذا لم كان هذا الإدراك في النوم، ولم يكن في اليقظة. وليس يبعد أن يوجد شخص يدرك من ذلك في اليقظة مثل ما يدرك النائم، بل ربّما رأى صورة الشيء الخاصّة بعينها في مكانها، كما حكى عن الأنبياء عليهم السلام.

وأمّا لم كانت الرؤيا فلموضع العناية التامّة بالإنسان. وذلك أنّ الإنسان خاصّ المعرفة والإدراك في القوّة العقليّة الفكريّة التي بها يدرك حدوث الأمور النافعة والضارّة في المستقبل ليستعدّ للشيء ويتأهّب له ويبشّر أيضاً وفود الخير ويعلم وقوعه إذ مدّت هذه القوّة بهذه الآلة الشرعيّة والإدراك الروحانيّ. ولذلك قيل إنّه جرى كذا وكذا من النبوّة؛ وذلك بيّن في الرؤيا التي رآها الملك

وسأل عنها يوسف عليه السلام فإنّه عندما عبّرها يوسف لهم، أشار عليهم أنّ يستعدّوا لما دلّت عليه الرؤيا من الحذر بأن يذرّوا في السنين الخصبة الحبّ في سنبله لئلّا يفسد، ويبقى إلى وقت السنين الجدبة.

وأمّا المعبّر فهو الرجل المهيّأ النفس بالطبع لفهم المحاكاة التي تكون في الرؤيا. وهو الذي يفيض عليه العقل المعاني الجسمانيّة التي حوكيت في النوم بالمعاني الروحانيّة. فمن شرطه أن يكون عالماً بالمحاكاة التي تعمّ جميع الأمم، والمحاكاة التي تخصّ أمّة أمّة وصنفاً صنفاً من الناس؛ فإنّ الأمم يختلفون في ذلك من جهتين: إحداهما بحسب الطبع وذلك بحسب قوّة أنفسهم وبحسب الخاصّة بهم في مدنهم وبلادهم؛ الثانية بحسب المحاكاة والآراء التي نشأوها على قبولها وعودوا التصديق بها منذ الولادة، وذلك في المبدأ الأوّل وفي الملكيّة وفي جوهر السعادة الإنسانيّة.

وينبغي — كما يقول أرسطو — للمعبّر أن يكون متعاهداً لنفسه بالفكرة والنظر والنظافة، وأن يكون عفيفاً غير مائل بأن يغلق النفس البهيميّة روحانيّاً. وربّما عرض للمرء أن يدرك عبارة الرؤيا في رؤى أخرى يراها، كما عرض لهرقل الملك في الرؤيا التي حكاها عنه أرسطو، فإنّه رأى رؤيا غريبة أخطأ المعبّر عبارتها. فلمّا نام عبّرت له تلك الأشياء التي رآها، وبقي مشغول النفس بتلك الأمور التي أنذر بحدوثها حتّى حدثت.

وربّما عرض للمرء أن يرى الرؤيا وينساها، وربّما يذكرها، وربّما لم يذكرها أوّل 〈ما〉 استيقظ، وإذا تذكّرها فإنّما يتذكّرها على النحو الذي يتذكّر الأشياء التي أحسّها في الزمان الماضي. — وقد قيل كيف ذلك.

وإنّما كان بعض الناس أصدق رؤيا من بعض، وأكثر رؤيا في النوم من بعض، لموضع تفاضلهم في هذه القوّة، أعني قوّة التخيّل. وهؤلاء هم ذوو الأمزجة السوداويّة الباردة اليابسة. وذلك أنّ الرطوبة من شأنها أن تغمر

القوى وتبطل فعلها وتسدّ مجاري الروح، ويكون نوم صاحبها شديد الاستغراق؛ حتّى إنّ هؤلاء لا يكاد يخيّل لهم شيء في نومهم، بل نومهم 〈يكون〉 شبيهاً بالموت. والخلط السواديّ يجتمع فيه أنّه موافق للنوم، موافق لفعل هذه القوّة. أمّا موافقته للنوم فمن جهة أنّ هذا الخلط كثير البخار ويصعد إلى الرأس فيحدث النوم. وأمّا موافقته لهذه القوّة فمن جهة أنّ هذه القوّة لمّا كانت شديدة الحركة، دائمة الاضطراب في النوم واليقظة، متنقلة من حال إلى حال، كان رداءة فعلها إنّما هو في سرعة الحركة والانتقال من حال إلى حال وقلّة الاستثبات والإتقان لخيال الشيء الذي تصوّره. وكأنّ جودة فعلها إنّما هو في الاستثبات وجودة التصوّر والإتقان للشيء الذي تصوّره.

والذي يلائم هذا الفعل إنّما هو المزاج البارد اليابس. وذلك أنّ البرد يوجب بطء الحركة، واليبس يوجب ثبوت الصورة. ولذلك يوجد سلطان هذه القوّة في أصحاب المرّة السوداء، حتّى إنّهم يدركون في اليقظة ما يدركون في النوم.

وأمّا هل يكون هذا الإدراك في الأمور الثلاثة، أعني الماضية والحاضرة والمستقبلة — وذلك أنّ المقصود منها بالإنذار إنّما هو ما يحدث في المستقبل، إلّا أنّه ليس يبعد أن يقع في الماضي والحاضر إذا كان مجهولاً عندنا.

وأمّا في أيّ جنس من أجناس المعلومات يكون هذا الإدراك، فإنّ المعلومات — كما قيل — إمّا علوم نظريّة، وإمّا صنائع عمليّة، وإمّا قوى فكريّة جزئيّة. وهو ظاهر من أمر هذا الإدراك أنّ ما يكون أكثر ذلك في الأمور المستقبلة التي يختصّ إدراكها بالقوى الفكريّة الجزئيّة التي تستعمل في إدراك النافع والضارّ في الأمور المستقبلة. وأمّا الصنائع العمليّة فقد يظنّ أنّه قد تحصل أشياء منها في النوم، مثل كثير من الأشياء التي كان أصل العلم بها في الطبّ إنذاراً مناميّاً. وأمّا العلوم النظريّة فيبعد أن يكون ذلك فيها؛ ولو كان فإمّا أن يكون باطلاً وعبثاً — وذلك أنّ في طباع الإنسان أن يدرك العلوم النظريّة بما فطر عليه أوّلاً من المقدّمات الأول. فلو كان يدركها دون مقدّمات، لكانت المقدّمات الأول فيه عبثاً، كما أنّه لو أمكنه السعي دون القدمين لكانت القدمان فيه عبثاً

وباطلاً والطبيعة تأبى ذلك؛ وبالجملة إن جعل معقولات النظريّة بهذا النوع فبالعرض، ولذلك لا يمكن أن تلتئم منه صناعة نظريّة، اللّهمّ إلّا أن يضع إنسان أنّ هاهنا صنفاً من الناس يدركون العلوم النظريّة بغير تعلّم. وهذا الصنف، وإن كان موجوداً، فهم ناس باشتراك الاسم، بل هم أن يكونوا ملائكة أقرب منهم أن يكونوا ناساً. فقد يظهر أنّ هذا ممتنع ممّا أقوله، وذلك أنّ المعرفة النظريّة في نفسها واحدة غير متغيّرة، وسواء تعلّمت بتعلّم أو بغير تعلّم؛ فلو علمت بالأمرين جميعاً لمّا كان المتعلّم مأخوذاً في حدّها ولا ضروريّاً في حصول جوهرها. فنحن بين أمرين: إمّا أن نسلّم أنّ هذه المعرفة مقولة مع المعرفة الإنسانيّة باشتراك الاسم، وإمّا أن نسلّم أنّ الشيء الواحد بعينه يوجد عن أسباب مختلفة، فتكون على هذا نسبة الشيء إلى أسبابه التي بها قوامه غير ضروريّة، وذلك كلّه مستحيل. وأمّا إن قال قائل: قد يمكن أن تحصل خيالات الأمور النظريّة لصنف من الناس بهذا النحو من الإدراك فهو ممتنع، من قبل أنّ حصولها بهذه الجهة هو فعل، لأنّها قد حصلت للإنسان من جهة الاسم؛ إلّا أن يقول قائل: عسى أن يكون هذا النوع من الإدراك موجوداً لمن ليس يمكن فيهم تعلّم العلوم النظريّة إمّا بالطبع وإمّا بغير ذلك. وهؤلاء إن كانوا موجودين فهم ناس باشتراك الاسم.

فقد قيل في ماهيّة الرؤيا الصادقة، وبماذا تحدث، وعن ماذا تحدث، وكيف تحدث. فلنقل في أسباب الرؤيا الكاذبة. وهذه الرؤيا بالجملة إنّما تكون عن سببين: أحدهما عن فعل القوّة الخياليّة عند النوم في الآثار الباقية في الحسّ المشترك من المحسوسات التي من خارج، وعن فعل هذه القوّة في المعاني المودعة في القوّة الذاكرة والمفكّرة من تلك الأمور المحسوسة، فإن تصرّف هذه القوّة دائم، أعني قوّة التخيّل إنّما هو في خزانة هاتين القوّتين: أعني خزانة الفكر والذكر، وخزانة الحسّ المشترك. والسبب الثاني هو حدوثها عن المتشوّقات الطبيعيّة التي للنفس، فإنّ شأن النفس البهيميّة إذا اشتاقت شيئاً، أعني وجوده

أو عدمه، أن تحاكي لها النفس المتخيّلة صورة ذلك الشيء المتشوّق على الحالة التي تشوّقته، وتحضر لها صورة ذلك الشيء، ولذلك يرى المتشوّق للنساء أنّه يجامع، والعطشان أنّه يشرب ماء. ومن هذا الجنس [هو] الرؤيا الدالّة عند الأطبّاء على غلبة الأخلاط على البدن، مثل أنّ رؤية النار تدلّ عندهم على غلبة الصفراء، ورؤية الماء تدلّ عندهم على غلبة البلغم. والفرق بين هذه الصور الكاذبة في النوم والصور الصادقة أنّ الصادقة تشعر بها النفس وتعجب بها، وربّما استيقظت كالمذعورة من رؤيتها والمتعجّبة من الطبيعة الروحانيّة التي شاهدت فيها.

فقد قلنا في ماهيّة الرؤيا الصادقة والكاذبة وإعطاء أسبابها الأربعة وأسباب ما يعرض فيها ويلحقها.

وهنا انقضت المعاني الملتقطة من هذه المقالة.

تمّت المقالة الثانية والحمد للّه ربّ العالمين

بسم اللّه الرحمن الرحيم ربّ يسّر برحمتك

المقالة الثالثة 〈في أسباب طول العمر وقصره〉

وهو غرضه في هذه المقالة الفحص عن أسباب طول العمر وقصره، فنقول:

إنّه من المسلّم أنّ هاهنا أسباباً طبيعيّة هي السبب في هذين العرضين، وأنّ جميع ما ينسب إلى الحيوان من الكون والفساد، والنشوء والاضمحلال، والنوم واليقظة، وبالجملة ما يلحقه من التغيّر إنّما ينسب إلى الكيفيّات الأربع، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، لا إلى الكمّ ولا إلى غير ذلك من الكيفيّات مثل الثقل والخفّة والسواد والبياض والخشونة والملاسة، إلّا أن ينسب ذلك بالعرض وذلك شيء قد تبيّن في كتاب «الكون والفساد».

فإذا تقرّر هذا فطول العمر وقصره ليس منسوباً إلى شيء إلّا إلى هذه الكيفيّات الأربع، وهي الفاعلة لهذين العرضين في الحيوان والنبات. فينبغي أن ننظر على كم جهة تقال هذه المقايسة وتوجد هذه النسبة في الحيوان والنبات. ثمّ من بعد ذلك نفحص عن الكيفيّات التي تختصّ بهذين العرضين فنقول:

إنّ طول العمر وقصره يقالان على وجوه: أحدها بالمقايسة إلى الجنس، أعني مقايسة جنس إلى جنس، مثلما نقول إنّ النبات بالجملة أطول عمراً من الحيوان؛ والثاني عند مقايسة نوع إلى نوع مثلما نقول إنّ الإنسان أطول عمراً من الفرس، وإنّ النخلة أطول عمراً من شجرة التين؛ والثالث عند مقايسة صنف إلى صنف، مثلما نقول إنّ أهل البلاد الحارّة الرطبة أطول عمراً من أهل البلاد الباردة اليابسة؛ والرابع عند مقايسة شخص إلى شخص، مثلما نقول إنّ زيداً أطول عمراً من خالد، وإنّ هذه النخلة أطول عمراً من هذه النخلة. فهذه هي جميع الوجوه التي يقال عليها طول العمر وقصره.

وإذ قد تقرّر ذلك، فينبغي أن نفحص عن أسباب ذلك فنقول: إنّه قد تبيّن في الرابعة من «الآثار العلويّة» أنّ الكون إنّما يتمّ إذا غلبت القوى الفاعلة في المتكوّن القوى المنفعلة، أعني إذا غلبت الحرارة والبرودة الرطوبة واليبوسة؛ وأنّ الفساد إنّما يعرض من قبل ضدّها، أعني أنّه إذا غلبت الكيفيّتان المنفعلتان الفاعلتين وقهرتهما. وإنّما كان ذلك كذلك لأنّ الحرارة المقدّرة بالبرودة هي التي تفيد المتكوّن الصورة الطبيعيّة التي له، بل هي الصورة بعينها، والرطوبة المقدّرة باليبوسة هي التي تقبل الصورة والشكل. فما دام الموجود الطبيعيّ والقوّتان الفاعلتان فيه قاهرة للقوى المنفعلة وتستولي عليهما انحفظ وجوده، وإذا ضعفتا عن ذلك استولت على تلك القوى قوى أخرى فاعلة خاصّة بموجود آخر ففسد ذلك الموجود — مثال ذلك أنّ الحرارة الطبيعيّة، وهي المقدّرة بالبرودة الطبيعيّة، ما دامت مستولية على الأخلاط لم تحدث هنالك عفونة؛ فإن ضعفت عن نضج الأخلاط وطبخها أو أفرطت في ذلك، حدثت هنالك حرارة غريبة مفسدة. وإنّما يعرض الفساد بالجملة إذا بطلت النسبة الطبيعيّة التي بين القوى الفاعلة والمنفعلة في موجود موجود. وكلّما كانت هذه النسبة أعظم، كان ذلك الموجود أقلّ بواراً وأبعد من الفساد. وكلّما كانت فيه أصغر، كان أسرع للبوار وأشدّ قبولاً للفساد. ولذلك ما كان من الموجودات خلط الماء والنار فيه غالب على خلط الأرض والهواء كان أطول بقاء، لأنّ الماء والنار فيهما الكيفيّتان الفاعلتان أقوى منهما في الأرض والهواء. وإنّما كان الموجود بهذه الصفة أكثر بقاء لأنّه ليس تبطل هذه النسبة فيه من التغيّر اليسير الذي يدخل على القوى الفاعلة من خارج. وذلك أنّ النسبة الطبيعيّة التي بين القوى الفاعلة والمنفعلة إذا كانت كبيرة لم يعرض لها أن تبطل إلّا من تغيّر كبير وفي زمان طويل؛ وذلك أنّ الفساد ليس شيئاً أكثر من العفونة الحادثة عن ضعف القوى الفاعلة وعسر المنفعلة. ولذلك من كان مزاجه هذا المزاج، قلّ فيه تولّد الأخلاط الرديئة الكيفيّة. وذلك أنّ المزاج الطبيعيّ إنّما هو في النسبة الطبيعيّة التي بين القوى الفاعلة والمنفعلة. فمتى كانت القوى الباردة الفاعلة أقلّ ممّا ينبغي، كان ذلك 〈مؤدّياً إلى〉 عدم

النضج وتهيّؤه. فهذا هو أحد الأسباب التي بها يكون بعض الأنواع أكثر بقاء من بعض وأقلّ قبولاً للأمراض والفضول والآفات.

والسبب الثاني أن يكون أنّ النسبة الطبيعيّة التي بين القوّتين الفاعلتين إحداهما إلى الأخرى، والنسبة التي بين المنفعلتين في جنس ما، أو نوع ما، أو صنف ما، أو شخص ما آخر. والنسبة الطبيعيّة التي للحيوان والنبات في هذا المعنى أن تكون الحرارة فيه أغلب من البرودة، والرطوبة أغلب من اليبوسة للأسباب التي قيلت في غير هذا الموضع. فكلّ ما كان من الحيوان والنبات الحرارة والرطوبة أغلب عليه، وكانت القوى الفاعلة فيه غالبة للمنفعلة، كان طويل العمر. والفساد إنّما يدخل على الحيوان والنبات متى عدم إحدى هاتين النسبتين أو كلتيهما: وذلك أنّه متى ضعفت القوى الفاعلة عرض للمادّة أن تنجلي عن الصورة لمكان فساد النضج ورداءة كيفيّة المادّة. ومتى لم تكن الرطوبة فيه وافرة جدّاً عرض للحيوان والنبات أن يجفا سريعاً، فإنّ الحرارة من شأنها أن تفشّ الرطوبة وتتشبّث بها وتحيلها إلى جوهرها إذ كانت كالمادّة لها اقتنتها فشدّت الحرارة وغلب اليبس والبرد. وكلّما انفشّت الرطوبة غلبت اليبوسة والبرودة، فإنّ اليبوسة تشبه أن تكون هي المادّة الملائمة للبرودة، كما أنّ الرطوبة هي المادّة الملائمة للحرارة. وأنواع الحيوان إنّما تتفاضل في طول البقاء وقصره بتفاضلها في الحرارة والرطوبة وتفاضلها في استيلاء القوى الفاعلة على المنفعلة. وبهذين الشيئين يتفاضل أصناف الناس وأشخاصهم في أعمارهم. والفساد إنّما يلحق الأشخاص على أحد وجهين: أمّا بالطبع فعندما تفنى الحرارة الطبيعيّة التي في ذلك الشخص فيغلب عليه البرد واليبس فيفسد؛ وأمّا بالعرض فعندما يتولّد فيهم من فضلات الهضم ما لا تفي الطبيعيّة بتمييزه فتعرض لهم أمراض قاتلة. وهؤلاء الشخوص هم الذين لا يتّفق لهم أن تكون قواهم الفاعلة غالبة للمنفعلة: فإنّ القوى الفاعلة متى كانت بالطبع غالبة في شخص كما للقوى المنفعلة ولم يعرض سبب من خارج مضادّ له من الأشياء التي من شأنها أن تغيّر المزاج من داخل، فبالواجب أن يكون فساد هذا الشخص الفساد الطبيعيّ. ثمّ إنّ هذه

الأعمار الطبيعيّة التي تتفاضل في الطول والبقاء بتفاضل الأمزجة في الحرارة والرطوبة وأعمار الناس بالجملة إنّما توجد تابعة للنسبة المزاجيّة الطبيعيّة التي بين القوى الفاعلة والمنفعلة وبين القوى الفاعلة أنفسها والقوى المنفعلة أنفسها ولذلك يرى بعض الناس أعضاؤهم في الظاهر حسنة قويّة وقواهم عظيمة، تصيبهم الأمراض القاتلة فيهلكون دون بلوغ اليبس الذي للشيوخ بالطبع. ونجد من هو دونهم في القوّة وجودة الأعضاء يبلغون من الشيخوخة، مع أنّ ما بين الصنفين متشابه.

ومن الدليل على أنّ سبب طول العمر إنّما هو كثرة الحرارة والرطوبة وغلبتهما على المزاج مع استيلاء الحرارة على الرطوبة، وبالجملة القوى الفاعلة على القوى المنفعلة أنّ ضدّ الحياة الموت، والموت في الظاهر برد ويبس. فإذا كان علّة الموت برداً ويبساً فعلّة الحياة الحرارة والرطوبة. ولذلك كان مزاج الشباب حاراً رطباً، ومزاج الشيوخ بارداً يابساً. ومن الدليل على ذلك أنّ الذين يكثرون الجماع أقصر أعماراً من الذين يقلّونه، وأنّ الخصيان أطول أعماراً من غير الخصيان، والشيوخ الذين هم أكثر لحماً من الذين لحمهم قليل، لأنّ علّة كثرة اللحم الحرارة والرطوبة؛ ولعلّة قلّة الجماع كان البغل أطول عمراً من الفرس والحمار، مع أنّه متولّد عنهما، والإناث أطول أعماراً من الذكور؛ والذين يسكنون البلاد الحارّة الرطبة أطول أعماراً من الذين يسكنون البالد الباردة اليابسة. وإنّما تطول أعمار أهل هذه البلاد لسبب عرضيّ وهو قلّة العفن. والحيّات والهوامّ التي تكون في جزائر البحر الكثيرة الرطوبة والحرارة أطول أعماراً من الحيّات والهوامّ التي تكون في المواضع الحارّة اليابسة أو الباردة اليابسة أو الباردة الرطبة؛ ولذلك الناس، أعني أهل الجزائر البحريّة، أطول أعماراً من البراريّ. والحيوان البحريّ أطول عمراً من البرّيّ، لأنّ ماء البحر حارّ رطب، ولذلك كان الحيوان البحريّ أسخن من البرّيّ. وبالجملة فكلّ ما كان أحرّ وأرطب كان أقلّ إسراعاً إلى اليبس، وكلّما كان أكثر أرضيّة كان أشدّ إسراعاً إلى اليبس.

فالسبب الحافظ لبقاء الحيوان من ذاته إنّما هو وفور الحرارة والرطوبة في

مزاجه وكون القوى الفاعلة فيه قاهرة للمنفعلة. فهذه هي الأسباب الحافظة للحيوان في ذاته. فأمّا السبب الحافظ له من خارج فهي الستّة أصناف التي عدّدتها الأطبّاء، أعني: المطعم، والمشرب، والهواء المحيط، والنوم واليقظة، والحركة والسكون، والأحداث النفسانيّة. وهذه إذا استعملها الإنسان الذي يوجد في مزاجه هذان الشرطان، أعني وفور الحرارة والرطوبة، وأن تكون القوى الفاعلة فيه غالبة للمنفعلة على ما رسم في الصناعة الحافظة للصحّة — طال عمره ضرورة ولم يعرض له إلّا الموت الطبيعيّ، وهو الذي يكون سببه البرد واليبس. ومن لم يستعملها على ما ينبغي أمكن أن يكون موته من غلبة القوى المنفعلة للقوى الفاعلة، وهي السبب في تولّد الأمراض الحادثة، وأمكن أيضاً أن يموت الموت الطبيعيّ متى كان تولّد الخلط الغريب في بدنه ليس بمفرط الرداءة بل تكون رداءته رداءة يحملها مزاجه. وكثير من الناس يتّفق لهم أن تكون شهواتهم بالطبع موافقة لأمزجتهم فتطول أعمارهم. وأمّا الذين لا تغلب فيهم القوى المنفعلة فإنّما يهلكون أكثر ذلك هلاكاً غير طبيعيّ، وقلّما يبلغون إلى أقصى ما في طباع الرطوبة التي في أبدانهم أن تبلغها، بل يهلكون من جهة العفن قبل بلوغ الهرم، وبخاصّة إذا اقترن إلى ضعف القوى الفاعلة تدبير غير موافق. وبالجملة، من عدم هذين الشرطين المشترطين في مزاج الطويل العمر فعمره ضرورة قصير والبوار يعرض لهم سريعاً من جهتين: إحداهما فناء الرطوبة الطبيعيّة في أبدانهم وغلبة البرد واليبس عليهم، وذلك إذا استعملوا الأمور التي من خارج استعمالاً موافقاً. وقد يعرض لهذا الصنف كثيراً — مع استعمال التدبير — أن يهلكوا 〈هلاكاً〉 غير طبيعيّ، وذلك من قبل الفضول المتولّدة فيهم لضعف قواهم الفاعلة؛ ولذلك يوجد هذا الصنف، مع الحمية، كثير الأمراض إلّا الأسباب التي من خارج.

ويشبه أن يكون المزاج — الذي وصفناه أنّه مختصّ بطول العمر هو الذي يوجد في فصل تركيبه ذان الشرطان — إمّا مجهولاً في صناعة الطبّ، وإمّا أن يكون

الوقوف عليه عسراً. ولو كان معلوماً علماً قطيعاً لقطع الطبيب على طول العمر وقصره. والمزاج المعتدل الذي يضعه جالينوس يشبه أن يكون هذا المزاج، إلّا أنّ تعرّف هذا المزاج بالحسّ والوقوف عليه عسر؛ وهو أن يكون موجوداً بالقول أحرى منه أن يكون موجوداً بالحسّ. ولكون هذه النسبة مجهولة بالطبع يرى كثير من الزمناء يبلغون العمر، ويرى كثير من ذوي الهيئات الجيّدة يعطبون فسبحان اللّه تعالى، واهب الأعمار ومقدارها، العليم بها.

وتفاضل الناس في أعمارهم هو بحسب تفاضلهم في هذه النسبة المزاجيّة التي تختصّ بالطويل العمر. فطول العمر وقصره بالجملة يكون عن جنسين من الأسباب: أحدهما الأشياء التي من خارج، والجنس الثاني الأسباب التي في ذات الشيء، وهي — كما وضعنا: وفور الحرارة والرطوبة، واستيلاء القوى الفاعلة على المنفعلة؛ وفي النبات سبب ثالث مؤثّر في طول بقائه وهو أنّه يفسد وينشأ في أجزائه، أعني أنّه إذا جفّ منه غصن أمكن أن يتولّد فيه غصن آخر. وهو مع هذا يستفيد الحرارة الغريزيّة التي فيه من الشمس، أكثر ممّا يستفيدها الحيوان. وهو مع هذا كثير المائيّة، قريب من صور البسائط: فإنّه كلّما تغذّت صورة المركّب من صور البسائط التي تركّب منها كانت صورته أشدّ مضادّة لصور البسائط، فكان فعل البسائط فيه أكثر ومضادّتها أعظم.

فقد قلنا في أسباب طول العمر وقصره بحسب رأي أرسطو، وبحسب ما تقتضيه الأصول الطبيعيّة. وأمّا القدماء فإنّهم كانوا ينسبون طول العمر وقصره إلى أسباب عرضيّة: فمنهم من كان يرى أنّ العلّة في طول العمر وقصره المواضع الحارّة اليابسة؛ ومنهم من كان يرى أنّ السبب في ذلك كثرة الدم. وأمّا الموضع الحارّ اليابس فمحرق ومعفّن للرطوبة الطبيعيّة فلذلك لا يمكن أن يتصوّر أنّه سبب بالذات لطول العمر، وإنّما يكون سبباً بالعرض لأنّ العفونة التي تعرض من قبل الرطوبة تقلّ في هذه المواضع، وهذه مثلما يكون البلد البارد اليابس سبباً لطول العمر، وهو أحقّ بذلك من البلد الحارّ اليابس لأنّه

يعدم العفونة التي تكون من الرطوبة والعفونة التي تكون من الحرارة؛ ولذلك يخصّ هذه البلاد أنّه يقلّ فيها الموت الذي يعرض عن العفونة. وكذلك عظم الأبدان إنّما يكون سبباً إذا كان العظم عن وفور حرارة ورطوبة، لا عن وفور الجزء الأرضيّ فيها. ولذلك كان الإنسان، مع أنّه صغير الجثّة، أطول عمراً من كثير من الحيوان الذي هو أعظم جثّة منه. وكذلك كثرة الدم هي أيضاً سبب بالعرض، فإنّ كثرة الدم تعرض في الحيوان عن وفور الحرارة والرطوبة.

فقد قلنا في أسباب طول العمر وقصره بحسب ما انتهى إليه قوّتنا وفهمنا، وبحسب ضيق الوقت وشغل الزمان.

وبانقضاء هذه المقالة انقضى ما وجد في هذا العلم، بعون اللّه تعالى.

تمّت المقالة الثالثة، وبتمامها تمّ الكتاب والحمد للّه ربّ العالمين. آمين!