بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه أستعين وعليه أتوكّل
الفنّ التاسع من الجملة الأولى من كتاب الشفاء لأبي عليّ حسين بن عبد اللّه ابن سينا البخاريّ
فصل في الشعر مطلقاً وأصناف الصيغ الشعريّة وأصناف الأشعار اليونانيّة
ونقول نحن أوّلاً إنّ الشعر هو كلام مخيّل مؤلّف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفّاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعيّّ. ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كلّ قول منها مؤلّفاً من أقوال إيقاعيّة فأنّ عدد زمانه مساوٍ لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفّاة هو أن يكون الحرف الذي يختم به كلّ قول منها واحداً. ولا نظر للمنطقيّ في شيء من ذلك إلّا في كونه كلاماً مخيّلاً. فإنّ الوزن ينظر فيه أمّا بالتحقيق والكلّيّة فصاحب علم الموسيقى وأمّا بالتجزية وبحسب المستعمل عند أمّة أمّة فصاحب علم العروض. والتقفية ينظر فيها صاحب علم القوافي وإنّما ينظر المنطقيّ في الشعر من حيث هو مخيّل. والمخيّل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير رؤية وفكر واختيار وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانيّاً غير فكريّ سواء كان المقول مصدّقاً به أو غير مصدّق. فإنّ كونه مصدّقاً به غير كونه مخيّلاً أو غير مخيّل فإنّه قد يصدّق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه فإن قيل مرّة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق. فكثيراً ما يؤثّر الانفعال ولا يحدث تصديقاً وربّما كان المتيقّن كذبه مخيّلاً. وإذا كانت
محاكاة الشيء بغيره تحرّك النفس وهو كاذب فلا عجب أن يكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرّك النفس وهو صادق بل ذلك أوجب لكنّ الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق لأنّ الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طرأة له والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرّف عن العادة وألحق به شيء يستأنس به النفس فربّما أفاد التصديق والتخيّل معاً وربّما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به. والتخيّل إذعان والتصديق إذعان لكنّ التخيّل إذعان للتعجّب والالتذاذ بنفس القول والتصديق إذعان لقبول أنّ الشيء على ما قيل فيه. فالتخييل يفعله القول لما هو عليه والتصديق يفعله القول بما المقول فيه عليه أي يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه. والشعر قد يقال للتعجيب وحده وقد يقال للأغراض المدنيّة وعلى ذلك كانت الأشعار اليونانيّة والأغراض المدنيّة هي في أحد أجناس الأمور الثلثة أعني المشوريّة والمشاجريّة والمنافريّة وتشترك الخطابة والشعر في ذلك لكنّ الخطابة تستعمل التصديق والشعر يستعمل التخييل. والتصديقات المظنونة محصورة متناهية يمكن أن توضع أنواعاً ومواضع وأمّا التخييلات والمحاكيات فلا تحصر ولا تحدّ وكيف والمحصور هو المشهور أو القريب والقريب والمشهور غير كلّ ذلك المستحسن في الشعر بل المستحسن فيه المخترع المبتدع. والأمور التي تجعل القول مخيّلاً منها أمور تتعلّق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن. ومنها أمور تتعلّق بالمسموع من القول. ومنها أمور تتعلّق بالمفهوم من القول. ومنها أمور تتردّد بين المسموع والمفهوم. وكلّ واحد من المعجب بالمسموع أو المفهوم على وجهين لأنّه إمّا أن يكون من غير حيلة بل يكون نفس اللفظ فصيحاً من غير صنعة فيه أو يكون نفس المعنى غريباً من غير صنعة إلّا غرابة المحاكاة والتخييل الذي فيه. وإمّا أن يكون التعجّب
منه صادراً عن حيلة في اللفظ أو المعنى. إمّا بحسب البساطة أو بحسب التركيب. والحيلة التركيبيّة في اللفظ مثل التسجيع ومشاكلة الوزن والترصيع والقلب وأشياء قيلت في الخطابة. وكلّ حيلة فإنّما تحدث بنسبة ما بين الأجزاء. إمّا بمشاكلة وإمّا بمخالفة. والمشاكلة إمّا تامّة وإمّا ناقصة. وكذلك المخالفة إمّا تامّة وإمّا ناقصة. وجميع ذلك إمّا بحسب اللفظ وإمّا بحسب المعنى. والذي بحسب اللفظ. فإمّا في الألفاظ الناقصة الدلالات أو العديمة الدلالات كالأدوات والحروف التي هي مقاطع القول. وإمّا في الألفاظ الدالّة البسيطة. وإمّا في الألفاظ المركّبة. والذي بحسب المعنى. فإمّا أن يكون بحسب بسائط المعاني. وإمّا أن يكون بحسب مركّبات المعاني. ولنبدأ من القسم الأوّل. فنقول إنّ من الصيغات التي بحسب القسم الأوّل. تشابه أواخر المقاطع وأوائلها والنظم المسمّى المرصّع كقوله
«فلا حسمت من بعد فقدانه الظبي \ ولا كلمت من بعد هجرانه السمر»
ومنها تداخل الأدوات ومخالفتها وتشاكلها كمن وإلى من باب المتخالفات ومن وعن من باب المتشاكلات. وأمّا الصيغات التي بحسب القسم الثاني فالتي بالمشاكلة التامّة فهي أن يتكرّر في البيت ألفاظ متّفقة التصريف متخالفة الجوهر. أو متّفقة الجوهر متخالفة التصريف. والتي بالمشاكلة الناقصة فأن تكون متقاربة الجوهر أو متقاربة الجوهر والتصريف. ومثال الأوّل العين والغين ومثال الثاني الشمل والشمال. مثال الثالث والرابع الفاره والهارف أو العظيم والعليم والصابح والسابح أو السهاد والسها. وهذا هو التشاكل الذي في اللفظ بحسب ما هو لفظ. وقد يكون ذلك في اللفظ بحسب المعنى وهو أن يكون لفظان اشتهرا مترادفين واحدهما مقولاً على مناسب الآخر أو مجانسه واستعمل على غير تلك الجهة كالكوكب والنجم ويراد به النبت أو السهم والقوس يراد به الأثر
العلويّ. وأمّا الذي بحسب المخالفة فإذ ليس لفظ من الألفاظ بمخالف للفظ بجهة لفظيّته فإذن إن خالف فمعناه ما يخالف وهو المعنى الذي يكون اشتهر له. فتكون الصيغة التي على هذا السبيل في ألفاظ أو لفظين يقع أحدهما على شيء والآخر على ضدّه أو ما يظنّ به أنّه ضدّه وينافيه أو ما يشاكل ضدّه أو يناسبه ويتّصل به وقد استعمل على غير تلك الجهة كالسواد التي هي القرى والبياض والرحمة وجهنم وما جرى مجراه. وأمّا الصيغات التي بحسب القسم الثالث فالذي منه بالمشاكلة فأن يكون لفظ مركّب من أجزاء ذوات التصريف في الانفراد وتجتمع منها جملة ذات ترتيب في التركيب ويقارنه مثله أو يكون التركيب من ألفاظ لها أحد الصيغات التي في البسيطة ويقارنه مثله. والذي بحسب المخالفة فالذي يكون فيه مخالفة ترتيب الأجزاء بين جملتي قولين مركّبين إمّا في أجزاء مشتركة فيهما أو أجزاء غير مشتركة فيهما. وأمّا الصيغات التي بحسب القسم الرابع. أمّا الذي بحسب المشاكلة التامّة فأن يتكرّر في البيت معنى واحد باستعمالات مختلفة. وأمّا الذي بحسب المشاكلة الناقصة فأن يكون هناك معانٍ مفردة متضادّة أو متناسبة كمعنى القوس والسهم ومعنى الأب والابن. وقد يكون التناسب بتشابه في النسبة. وقد يكون بجهة الاستعمال. وقد يكون باشتراك في الحمل. وقد يكون باشتراك في الاسم. مثال الأوّل الملك والعقل. مثال الثاني القوس والسهم. مثال الثالث الطول والعرض. مثال الرابع الشمس والمطر. وربّما صرّح بسبب المشاكلة وربّما لم يصرّح. وإذا صرّح. فربّما كان بحسب الأمر في نفسه. وربّما كان بحسب الوضع. والمخالفة. إمّا تامّة في الأضداد وما جرى مجراها. وإمّا ناقصة وهي بين شيء ونظير ضدّه أو مناسب ضدّه أو بين نظيري ضدّين أو مناسبيهما. وربّما كانت المخالفة بسبب يذكر. وربّما كانت في نفس الأمر. وأمّا الذي بحسب
القسم الخامس. فأمّا في المشاكلة فأن يكون معنى مركّب من معانٍ وآخر غيره يتشاكل ترتيبهما أو يشتركان في الأجزاء. وأمّا الذي بالمخالفة فأن يتخالفا في التركيب أو الترتيب بعد الشركة في الأجزاء أو بلا شركة في الأجزاء. ويدخل في هذه القسمة كقولهم إمّا كذى كذى وإمّا كذى كذى. والجمع والتفريق كقولهم أنت وفلان بحر لكن أنت للغمارة وذاك للزعاقة. وجمع الجملة لتفصيل البيان كقولها يرجا ويتّقي يرجا الحيا فيه وتخشى الصواعق. فهذه هي عدّة الصيغات الشعريّة على سبيل الاختصار. واليونانيّون كانت لهم أغراض محدودة يقولون فيها الشعر وكانوا يخصّون كلّ غرض بوزن على حدة. وكانوا يسمّون كلّ وزن باسم على حدة. فمن ذلك نوع من الشعر يسمّى طراغوذيا له وزن لذيذ ظريف يتضمّن ذكر الخير والأخيار والمناقب الإنسانيّة ثمّ يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه. وكانت الملوك فيهم يغنّى بين أيديهم بهذا الوزن. وربّما زادوا فيه نغمات عند موت الملوك للنياحة والمرثية. ومنه نوع يسمّى دثيرمبيّ وهو مثل طراغوذيا ما خلا أنّه لا يخصّ به مدحة إنسان واحد أو أمّة معيّنة بل الأخيار على الإطلاق. ومنه نوع يسمّى قوموذيا وهو نوع يذكر فيه الشرور والرذائل والأهاجي. وربّما زادوا فيه نغمات ليذكر القبائح التي تشترك فيها الناس وسائر الحيوانات. ومنه نوع يسمّى ايامبو وهو نوع يذكر فيه المشهورات والأمثال المتعارفة في كلّ فنّ. وكان مشتركاً للجدال وذكر الحروب والحثّ عليها والغضب والضجر. ومنه نوع يسمّى دراماطا وهو نوع مثل ايامبو إلّا أنّه يراد به إنسان مخصوص أو ناس معلومون. ومنه نوع يسمّى ديقرا وهو نوع كان يستعمله أصحاب النواميس في تهويل المعاد على النفوس الشرّيرة. ومنه نوع يسمّى اٮٮى وهو نوع مفرد يتضمّن الأقاويل المطربة لجودتها وغرابتها. ومنه نوع يسمّى افيقى ونطوريقى وهو نوع كان يستعمل في السياسة والنواميس وأخبار
الملوك. ومنه نوع يسمّى ساطوريّ وهو نوع أحدثه الموسيقاريّون خاصّة في إيقاعه والتلحين المقرون به. وزعم أنّه يحدث في الحيوان حركات خارجة عن العادة. ومنه نوع يسمّى فيوموتا وكان يذكر فيه الشعر الجيّد والرديء ويشبّه كلّ بما يجانسه. ومنه نوع يسمّى انفيجاناساووس وأحدثه انبدقلس وحكم فيه على العلم الطبيعيّ وغيره. ومنه نوع يسمّى اوقوستقى وهو نوع يلقّن به صناعة الموسيقى لا نفع له في غيره.
فصل في أصناف الأغراض الكلّيّة والمحاكيات الكلّيّة التي للشعر.
والآن فإنّا نعبّر عن القدر الذي أمكننا فهمه من التعليم الأوّل إذ أكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصّة بهم ومتعارفة بينهم يغنيهم تعارفهم إيّاها عن شرحها وبسطها. وكانت لهم كما أخبرنا به أنواع معدودة للشعر في أغراض محدودة ويخصّ كلّ غرض وزن. وكانت لهم عادات في كلّ نوع خاصّة بهم كما للعرب من عادة ذكر الديار والغزل وذكر الفيافي وغير ذلك. فيجب أن يكون هذا معلوماً مفروضاً. فنقول. قال أمّا الكلام في الشعر وأنواع الشعر وخاصّة كلّ واحد منها ووجه إجادة قرض الأمثال والخرافات الشعريّة وهي الأقاويل المخيّلة وإبانة أجزاء كلّ نوع بكمّيّته وكيفيّته فسنقول فيه إنّ كلّ مثل وخرافة فإمّا أن يكون على سبيل تشبيه بآخر. وإمّا على سبيل أخذ الشيء نفسه لا على ما هو عليه بل على سبيل التبديل وهو الاستعارة أو المجاز. وإمّا على سبيل التركيب منهما. فإنّ المحاكاة كشيء طبيعيّ للإنسان والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو فذلك كما يحاكى الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعيّ ولذلك يتشبّه بعض الناس في أحواله ببعض ويحاكي بعضهم بعضاً ويحاكون غيرهم. فمن ذلك ما يصدر عن صناعة. ومن
ذلك ما يتبع العادة. وأيضاً من ذلك ما يكون بفعل. ومن ذلك ما يكون بقول. والشعر من جملة ما يخيّل ويحاكى بأشياء ثلثة. باللحن الذي يتنغّم به فإنّ اللحن يؤثّر في النفس تأثيراً لا يرتاب به ولكلّ غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسّطه وبذلك التأثير تصير النفس محاكية في نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك. وبالكلام نفسه إذا كان مخيّلاً محاكياً. وبالوزن فإنّ من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر. وربّما اجتمعت هذه كلها. وربّما انفرد الوزن والكلام المخيّل. فإنّ هذه الأشياء قد يفترق بعضها من بعض وذلك أنّ اللحن المركّب من نغم متّفقة ومن إيقاع قد يوجد في المعازف والمزاهر واللحن المفرد الذي لا إيقاع فيه قد يوجد في المزامير المرسلة التي لا توقع عليها الأصابع إذا سوّيت مناسبة. والإيقاع الذي لا لحن فيه قد يوجد في الرقص ولذلك فإنّ الرقص يتشكّل جيّداً بمقارنة اللحن إيّاه حتّى يؤثّر في النفس. وقد تكون أقاويل منثورة مخيّلة وقد تكون أوزان غير مخيّلة لأنّها ساذجة بلا قول. وإنّما يوجد الشعر بأن يجتمع فيه القول المخيّل والوزن. فإنّ الأقاويل الموزونة التي عملها عدّة من الفلاسفة ومنهم سقراط قد وزنت إمّا بوزن حيا الثالث المؤلّف من أربعة عشر رجلاً. وإمّا بوزن *** المؤلّف من ستّة عشر رجلاً وغير ذلك. وكذلك التي ليست بالحقيقة أشعاراً ولكن أقوالاً تشبه الأشعار. وكالكلام الذي وزنه انبدقليس وجعله في الطبيعيّات فإنّ ذلك ليس فيه من الشعر إلّا الوزن. ولا مشاركة بين انبدقليس وبين أوميرس إلّا في الوزن. وأمّا ما وقع عليه الوزن من كلام انبدقليس فأمور طبيعيّة. وما يقع عليه الوزن من كلام أوميرس فأقوال شعريّة. فلذلك ليس كلام انبدقليس شعراً. وكذلك أيضاً من نظم كلاماً ليس من وزن واحد بل كلّ جزء منه ذو وزن آخر فليس ذلك شعراً. ومن الناس من يقول ويغنّي به بلحن ذي
إيقاع. وعلى هذا كان شعرهم المسمّى ديثورمبى وأظنّه ضرباً من الشعر كان يمدح به لا إنسان بعينه أو طائفة بعينها بل الأخيار على الإطلاق وكان يؤلّف من أربعة وعشرين رجلاً وهي المقاطع. وكذلك كان شعرهم الذي يستعمله أصحاب السنن في تهويل المعاد على النفوس الشرّيرة وأظنّه الذي يسمّى ديقراقى. وكذلك كان يعمل بطراغوذيا وهو المديح الذي يقصد به إنسان حيّ أو ميّت وكانوا يغنّون به غناء فحلاً وكانوا يبتدئون فيذكرون فيه الفضائل والمحاسن ثمّ ينسبونها إلى واحد فإن كان ميّتاً زادوا في طول البيت أو في لحنه نغمات تدلّ على أنّها مرثية ونياحة. وأمّا قوموذيا وهو ضرب من الشعر يهجأ به هجاء مخلوطاً بطنز وسخريّة ويقصد به إنسان وهو يخالف طراغوذيا بسبب أنّ طراغوذيا يحسن أن يجمع أسباب المحاكاة كلّها فيه من اللحن والنظم وقوموذيا لا يحسن فيه التلحين لأنّ الطنز لا يلائم اللحن. وكلّ محاكاة فإمّا أن يقصد به التحسين وإمّا أن يقصد بها التقبيح. فإنّ الشيء إنّما يحاكى ليحسن أو يقبح. والشعر اليونانيّ إنّما كان يقصد فيه في أكثر الأمر محاكاة الأفعال والأحوال لا غير وأمّا الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلاً كاشتغال العرب. فإنّ العرب كانت تقول الشعر لوجهين. أحدهما ليؤثّر في النفس أمراً من الأمور تعدّ به نحو فعل أو انفعال. والثاني للعجب فقطّ فكانت تشبه كلّ شيء لتعجب بحسب التشبيه. وأمّا اليونانيّون فكانوا يقصدون أن يحثّوا بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة وتارة على سبيل الشعر. فلذلك كانت المحاكاة الشعريّة عندهم مقصورة على الأفاعيل والأحوال والذوات من حيث لها تلك الأفاعيل والأحوال. وكلّ فعل إمّا قبيح وإمّا جميل. ولمّا اعتادوا محاكاة الأفعال انتقل بعضهم إلى محاكاتها للتشبيه الصرف لا لتحسين وتقبيح. وكلّ تشبيه ومحاكاة كان معدّاً عندهم نحو التقبيح أو التحسين وبالجملة
المدح أو الذمّ. وكانوا يفعلون فعل المصوّرين فإنّ المصوّرين يصوّرون الملك بصورة حسنة ويصوّرون الشيطان بصورة قبيحة وكذلك من حاول من المصوّرين أن يصوّر الأحوال كما يصوّر أصحاب ماني حال الغضب والرحمة فإنّهم يصوّرون الغضب بصورة قبيحة والرحمة بصورة حسنة. وقد كان من الشعراء اليونانيّين من يقصد التشبيه للفعل وإن لم يخيّل منه قبحاً وحسناً بل المطابقة فقطّ. فظاهر أنّ فصول التشبيه هذه الثلثة التحسين والتقبيح والمطابقة وأنّ ذلك ليس في الألحان الساذجة والأوزان الساذجة ولا في الإيقاع الساذج بل في الكلام. والمطابقة فصل ثالث يمكن أن يمال بها إلى قبح وأن يمال بها إلى حسن فكأنّها محاكاة معدّة. مثل من شبه شوق النفس الغضبيّة بوثب الأسد فإنّ هذه مطابقة يمكن أن تمال إلى الجانبين فيقال توثّب الأسد الظالم أو توثّب الأسد المقدام فالأوّل يكون مهيّئاً نحو الذمّ والثاني يكون مهيّئاً نحو المدح. فالمطابقة تستحيل إلى تحسين وتقبيح بتضمّن شيء زائد وهذا نمط أوميرس. فأمّا إذا تركت على حالها ومثالها كانت مطابقة فقطّ. وكلّ هذه المحاكيات الثلاث إنّما هي على الوجوه الثلثة المذكورة سالفاً. فكان بعض الشعراء اليونانيّين يشبّهون فقطّ. وبعضهم كأوميرس يحاكي الفضائل في أكثر الأمر فقطّ. وبعضهم يحاكي كليهما أعني الفضائل والقبائح. ثمّ ذكر عادات كانت لهم في ذلك. فهذه هي فصول المحاكاة من جهة ما هي محاكاة ومن جهة ما يقصد بالمحاكاة. وأمّا المحاكيات فثلثة تشبيه واستعارة وتركيب وأمّا الأغراض فثلثة تحسين وتقبيح ومطابقة.
فصل في الإخبار عن كيفيّة ابتداء نشاء الشعر وأصنافه.
إنّ السبب المولّد للشعر في قوّة الإنسان شيئان. أحدهما الالتذاذ بالمحاكاة واستعمالها منذ الصبا وبها يفارقون الحيوانات العجم
من جهة أنّ الإنسان أقوى على المحاكاة من سائر الحيوانات فإنّ بعضها لا محاكاة فيه أصلاً وبعضها فيه محاكاة يسيرة إمّا بالنغم كالببغاء وإمّا بالشمائل كالقرد. وللمحاكاة التي في الإنسان فائدة وذلك في الإشارة التي تحاكى بها المعاني فتقوم مقام التعليم فتقع موقع سائر الأمور المتقدّمة على التعليم وحتّى أنّ الإشارة إذا اقترنت بالعبارة أوقعت المعنى في النفس إيقاعاً جليّاً وذلك لأنّ النفس تنبسط وتلتذّ بالمحاكاة فيكون ذلك سبباً لأن يقع عندها الأمر فضل موقع. والدليل على فرحهم بالمحاكاة أنّهم يسرّون بتأمّل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة والمتقذّر منها ولو شاهدوها أنفسها لتنكّبوا عنها فيكون المفرّح ليس نفس تلك الصورة ولا المنقوش بل كونه محاكاة لغيرها إذا كانت أتقنت. ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذاً لا إلى الفلاسفة فقطّ بل إلى الجمهور لما في التعليم من المحاكاة لأنّ التعليم تصوير ما للأمر في رقعة النفس ولهذا ما يكثر سرور الناس بالصور المنقوشة بعد أن يكونوا قد أحسّوا الخلق التي هي أمثالها فإن لم يحسّوها قبل لم تتمّ لذّتهم بل إنّما يلتذّون حينئذٍ قريباً ممّا يلتذّون من نفس [كيفيّة] النقش في كيفيّته ووضعه وما يجري مجراه. والسبب الثاني حبّ الناس للتأليف المتّفق والألحان طبعاً ثمّ قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان فمالت إليها الأنفس وأوجدتها. فمن هاتين العلّتين تولّدت الشعريّة وجعلت تنمو يسيراً يسيراً تابعة للطباع وأكثر تولّدها عن المطبوعين الذين يرتجلون الشعر طبعاً. وانبعثت الشعريّة منهم بحسب غريزة كلّ واحد منهم وقريحته في خاصّته وبحسب خلقه وعادته فمن كان منهم أعفّ مال إلى المحاكاة بالأفعال الجميلة وبما شاكلها ومن كان منهم أخسّ نفساً مال إلى الهجاء. وذلك حين هجوا الأشرار ثمّ كانوا إذا هجوا الأشرار بانفرادهم يصيرون إلى ذكر المحاسن والممادح لتصير الرذائل بإزائها أقبح. فإنّ من قال إنّ الفجور رذالة ووقف عليه لم يكن تأثير ذلك في النفس تأثيره لو
قال كما أنّ العفّة جلالة وحسن حال. قال إلّا أنّه ليس لنا أن نسلّم ذكر الفضائل في الشعر لأحد قبل أوميرس وقبل أن بسط هو الكلام في ذكر الفضائل ولا ننكر أن يكون آخرون قرضوا الشعر بالفضائل ولكنّ أوميرس هو الأوّل والمبدأ. ومثال أشعار المتقدّمين من الهجاء قول بعضهم ما ترجمته أنّ لهذاك شبقاً وفسقاً وانتشار حال وما يجري مجرى ذلك ممّا يقال في الأشعار المعروفة بيامبو وهي وزن يخصّ بالمجادلات والمطانزات والإضجارات من غير أن يقصد به إنسان بعينه وهو وزن ذو أثني عشر رجلاً وكان يستعمله شعراء بلاد وايقا ودويامنو. ثمّ إنّ أوميرس وإن كان أوّل من قال طراغوذيا قولاً يعتدّ به وبسط الكلام في الفضائل فقد نهج أيضاً سبيل قول درامطريانات وهي في معنى ايامبو إلّا أنّه مقصود به إنسان بعينه أو عدّة من الناس بأعيانهم. ونسبة هذا النوع إلى قوموذيا نسبة أودوسيا إلى طراغوذيا. يعني أنّ كلّ واحد منهما أعمّ من نظيره وأقدم والثانيان أشدّ تفصيلاً وأبطأ زماناً وإنّما تولّدا بعد ذلك. ويذكر بعد هذا ما يدلّ عليه من كيفيّة الانتقال بحسب تأريخاتهم التي كانت لها من نوع إلى نوع إلى أن تفصّل طراغوذيا وقوموذيا واستفاداً الرونق التامّ. فإنّ طراغوذيا نشأ من ايثورمبو القديمة وأمّا قوموذيا فنشأ من الأشعار الهجائيّة السخيفة المنشيّة عند الأماثل الباقية قال إلى الآن في الرساتيق الخسيسة. ثمّ لمّا نشأ الطرغوذية لم تترك حتّى أكملت بتغيّرات وزيادات كانت تليق بطباعها ثمّ أضيف إليها الأخذ بالوجوه واستعملها الشعراء الذين يخلطون الكلام بالأخذ بالوجوه حتّى صار الشيء الواحد يفهم من وجهين أحدهما من حيث اللفظ والآخر من حيث هيئة المنشد. ثمّ جاء أسخيلوس القديم فخلط ذلك بالألحان فوقّع للطرغوديات ألحاناً بقيت عند المغنّين والرقّاصين. وهو الذي رسم المجاهدة بالشعر يعني المجاوبة والمناقضة كما قيل في الخطابة. وسوفوقليس وضع الألحان التي يلعب بها في المحافل على سبيل الهزل والتطانز
وكان ذلك قليلاً يسيراً في ما سلف. ثمّ إنّه نشأ من عمل ساطورى من بعد وساطورى من رباعيّات ايامبو ثمّ استعمل ساطورى في غير الهزل ونقل إلى الجدّ وذكر العفّة. وأظنّ أنا أنّ الرباعيّات هي الأوزان القصيرة التي يكون كلّ بيت فيها من أربع قواعد وكلّ مصراع من قاعدتين وليس يجب أن يصغى إلى الترجمة التي دلّت على أنّ الرباعيّات هي التي تضاعف الوزن فيها أربع مرار بل الترجمة الصحيحة ما يخالف ذلك فإنّ ذلك النقل يدلّ على أنّ هذه الرباعيّة قديمة وتشبه الرقص المسمّى ساطوريقا والأقدم من الأشعار هو الأقصر والأنقص والمستعمل للرقص هو الأخفّ. قال وإنّما سمّي هذا النوع ساطورى لأنّ الطباع صادفته ملائماً للرقص المسمّى ساطوريقا. وكان الطباع يسوق إلى هذا النوع من القول ذلك النوع من الوزن وخصوصاً حين ما كانت الأجزاء تشغل بوزن وهذا هو أن تلحّن فيكون في كلّ جزء من أجزاء البيت الموزون وزن تلحينيّ. قال والدليل على أنّ ذلك طبيعيّ أنّ الناس عند المجادلات والمنازعات ربّما ارتجلوا شيئاً منها طبعاً ارتجالاً لمبلغ مصراع منه وهي ستّة أرجل فأمّا تمام الوزن فعلى ما ينبعث إليه القريحة بتمامها. وإنّما يقع المتنازعون في ذلك إذا انحرفوا في المنازعات عن الطريق الملائم للمفاوضة أو مالوا عنها إليه محبّة للتفخيم والزينة فإنّ العدول عن المبتذل إلى الكلام العالي الطبقة والتي تقع فيها أجزاء هي نكت نادرة هو في الأكثر بسبب التزيين لا بسبب التبيين. ولا يشكّ في أنّ الناس تعبوا تعباً شديداً حتّى بلغوا غايات التزيين في واحد واحد من أنواع الكلام. والقوموذيا يراد بها المحاكاة التي هي شديدة الترذيل وليس بكلّ ما هو شرّ ولكن بالجنس من الشرّ الذي يستفحش. ويكون المقصود به الاستهزاء والاستخفاف وكان قوموذيا نوعاً من الاستهزاء والهزل هو حكاية صغار واستعداد سماجة من غير غضب يقترن به ومن غير ألم بدنيّ يحلّ بالمحكيّ. وأنت ترى ذلك في هيئة وجه المسخرة عند ما يغيّر سحنته
ليطنز به من اجتماع ثلثة أوصاف فيها. القبح لأنّه يحتاج إلى تغيّر عن الهيئة الطبيعيّة إلى سماجة. والنكد لأنّه يقصد فيه قصد المجاهرة بما يغمّ عن اعتقاد قلّة مبالاة به وعن إظهار إصرار عليه ولذلك في وجه النكد هيئة يحتاج إليها المستهزئ. والثالث الخلو عن الدلالة على غمّ لا كما في الغضب فإنّ الغضب سحنته مركّبة من سحنة موقع متأذٍّ ومغموم جميعاً وأمّا المستهزئ فسحنته سحنة المنبسط والفرح دون المنقبض والمغتمّ أو المتأذّي. قال فأمّا مبدأ الأمر في حدوث طراغوذيا وآخره فأمر مشهور لا يحوج إلى شرح. وأمّا قوموذيا فلمّا لم يكن من الأمور التي يجب أن يعتني بها أهل العناية وأهل الفضل والرواية فقد وقع الجهل بنشيه ونسي مبدأه وكيفيّة تولّده. وذلك أنّ المغنّين لمّا أذن لهم ملك أسوس أن يستعملوا القوموذيا بعد تحريمه إيّاه عليهم كانوا يستعملون شيئاً يخترعونه بإرادتهم ممّا ليس له قانون شعريّ صحيح ولم يكن بجنبتهم والقرب منهم من يستمدّ منه أشكال الأقوال الشعريّة حتّى كانوا يصادفون شعراً ويكسبونه غناءً وإيقاعاً فكانوا يقتصرون على بعض الوجوه الموزونة من الأقاويل القديمة أو من جهة الاستعانة بصناعة الأخذ بالوجوه. فكان أمثال هؤلاء لا يتحقّقون المعرفة بالقوموذيا في وقتهم فكيف يكون حالهم في تحقيق نسبة قوموذيا إلى من سبقهم.
فصل في مناسبة مقادير الأبيات مع الأغراض وخصوصاً في اطراغوذيا وبيان أجزاء اطراغوذيا.
إنّ إجادة الخرافات هي تقفيتها بالبسط دون الإيجاز. فذلك يتمّ أكثره في الأعاريض الطويلة فإنّ قوماً من الآخرين لمّا تسلّطوا على بلد من بلادهم وأرادوا أن يتداركوا الأشعار القصار القديمة ردّوها إلى الطول وتبسّطوا في إيراد الأمثال والخرافات ولذلك رفضوا
ايامبوا لقصره. وأمّا وزن أفي وهو أيضاً إلى القصر فإنّه من ستّة عشر رجلاً فشبّهوه بطراغوذيا وزادوه طولاً وهو نوع من الشعر يذكر فيه الأقاويل المطربة المفرّحة لجودتها وغرابتها وندرتها وربّما استعملت المشوريّات والعظات. وينبغي أن يكون الوزن بسيطاً أي من إيقاع بسيط فإنّ ذلك أوقع من الذي يكون من إيقاع مركّب. وليكن الأوزان البسيطة موقّتة توقيتات مختلفة لكلّ شيء بحسبه. وأمّا ما سوى هذين الوزنين فيكاد بعض الناس يجوّز مدّ الوزن في الطوال ما تسعه مدّة يوم واحد لكنّ أفي مع ذلك لم يحدّد قدره في تكثيره إلى قدر لا يجاوز ولذلك اختلف عندهم. قال ولكنّه وإن كان قد زيد الشعر هذه الزيادة في آخر الزمان فقد كانت الطراغوذيات في القديم على المثال المذكور وكذلك القول في أفي. وأمّا أجزاء أفي وطراغوذيا فقد كان بعضها المشتركة بينها. وبعضها ما يخصّ الطراغوذيات. حتّى تكون أجزاؤها إمّا هذه المشتركة وإمّا الخاصّة بالطراغوذيات. فإنّه ليس كلّ ما يصلح لطراغوذيا يصلح لأفي. وأمّا السداسيّات والقوموذيات فيؤخّر القول فيها. فإنّ المديح وما يحاكى به الفضائل أولى بالتقديم من الهجاء والاستهزاء. ولنحدّ الطراغوذيّة. فنقول إنّ الطراغوذيّة هي محاكاة فعل كامل الفضيلة عالي المرتبة بقول ملائم جدّاً لا يختصّ بفضيلة فضيلة جزئيّة تؤثّر في الجزئيّات لا من جهة الملكة بل من جهة الفعل محاكاة تنفعل لها الأنفس برحمة وتقوى. وهذا الحدّ قد بيّن فيه أمر طراغوذيا بياناً يدلّ على أنّه يذكر فيه الفضائل الرفيعة كلّها بكلام موزون لذيذ على جهة تميّل الانفس ألى الرقّة والتقيّة. وتكون محاكاتها للأفعال لأنّ الفضائل والملكات بعيدة عن التخيّل وإنّما المشهور من أمرها أفعالها. فيكون طراغوذيا يقصد فيه لأجل هذه الأفعال أن يكمل أيضاً بإيقاع آخر واتّفاق نغم ليتمّ به اللحن. ويجعل له من هذه الجهة إيقاع زائد على أنواع أوزانه في نفسه. وقد يعملون عند إنشاد
طراغوذيا باللحن أموراً أخرى من الإشارات والأخذ بالوجوه تتمّ بها المحاكاة. فأوّل أجزاء طراغوذيا هو المقصود من المعاني المتخيّلة والوجيهة ذات الرونق. ثمّ يبنى عليها اللحن والقول. فإنّهم إنّما يحاكون باجتماع هذه. ومعنى القول اللفظ الموزون. وأمّا معنى اللحن فالقوّة التي تظهر بها كيفيّة ما للشعر كلّه من المعنى. ومعنى القوّة هو أنّ التلحين والغناء الملائم لكلّ غرض هو مبدأ تحريك للنفس إلى جهة المعنى فيحسن له معه التفطّن. وتكون فيه هيئة دالّة على القدرة لأنّ التلحين فعل ما ويتشبّه به بالأفعال التي لها معانٍ إذ قلنا إنّ الحدّة من النغم تلائم بعضاً من الأحوال المستدرج إليها والثقيل يلائم أخرى. وكذلك أجزاء الألحان تلائم أحوالاً أحوالاً ويكون من الألحان في أمور متحدّث بها عند أناس ينشدون ويغنّون على الهيئة التي يضطرّ أن يكون عليها صاحب ذلك الخلق وذلك الاعتقاد الذي يصدر عنه ذلك الفعل. فلذلك يقال إنّه أنشد كأنّه واحد ممّن له ذلك المعنى في نفسه أو واحد شأنه أن يصير بتلك الحال. ونحو هيئات المحدث نحوان. نحو يدلّ على خلق كمن يتكلّم كلام غضوب بالطبع أو كلام حليم. ونحو يدلّ على الاعتقاد كمن يتكلّم كلام متحقّق أو من يتكلّم كلام مرتاب. وليس لهيئات الأداء قسم غير هذين. ويكون الكلام الخرافيّ الذي يعبّر عنه المنشد محاكاة على هذه الوجوه. والخرافة هو تركيب الأمور والأخلاق بحسب المعتاد للشعراء والموجود فيهم. ويكون كلّ منشد هو كواحد من المظهرين عن اعتقادهم الجدّ فإنّه وإن هزل حقّاً فينبغي أن يظهر جدّاً ويظهر مع ذلك هيئة دقّة فهم فإنّه ليس هيئة من يعبّر عن معنى معقول عبارة كالخبر المسرود هو هيئة من يعبّر عنه ويظهر أنّه شديد الفهم في وقوفه عليه والتحقيق لما يؤدّيه منه. وكما أنّ للخطابة على الإطلاق أجزاء مثل الصدر والاقتصاص والتصديق والخاتمة كذلك كان للقول الشعريّ عندهم أجزاء وأجزاء الطراغوذيا
بالتامّة عندهم ستّة الأقوال الشعريّة والخرافيّة والمعاني التي جرت العادة بالحثّ عليها والوزن والحكم والرأي بالدعاء إليه والبحث والنظر ثمّ اللحن. فأمّا الوزن والخرافة واللحن فهي ثلثة بها تقع المحاكاة. وأمّا العبارة والاعتقاد والنظر فهو الذي يقصد محاكاته. فيكون الجزآن الأوّلان له أحدهما ما يحاكي والثاني ما يحاكى (به). ثمّ كلّ واحد منهما ثلثة أقسام ويكون المحاكي أحد هذه الثلثة والمحاكى به أحد تلك الثلثة. والمحاكيات أمّا العادة الجميلة والرأي الصواب فأمر لا بدّ منه. وأمّا النظر فهو كالاحتجاج والإبانة لصواب كلّ واحد من العادة والخرافة ويؤدّي بالوزن واللحن وكذلك الإبانة لصواب الاعتقاد يؤدّي بالوزن واللحن. وأعظم الأمور التي بها تتقوّم طراغوذيا هذه فإنّ طراغوذيا ليس هو محاكاة للناس أنفسهم بل لعاداتهم وأفعالهم وجهة حياتهم وسعادتهم. والكلام فيه في الأفعال أكثر من الكلام فيه في الأخلاق وإذا ذكروا الأخلاق ذكروها للأفعال فلذلك لم يذكروا الأخلاق في الأقسام بل ذكروا العادات التي تشتمل على الأفعال والأخلاق اشتمالاً على ظاهر النظر فإنّه لو قيل الأخلاق لكان ذلك لا يتناول الأفعال وذكر الأفعال ضروريّ في طراغوذياتهم وذكر الأخلاق غير ضروريّ فيه. فكثير من طراغوذيات كانت لهم يتداولها الصبيان فيما بينهم يذكر فيها الأفعال ولا يفطن معها لأمر الأخلاق. وليس كلّ إنسان يشعر بأنّ الفضيلة هي الخلق بل يظنّ أنّ الفضيلة هي الأفعال وكثير من المصنّفين في الفضائل والشاعرين فيها لم يتعرّضوا للأخلاق بل إنّما يتعرّضون لما قلنا وإن كان التعرّض للخرافات والعادات والمعاملات وغيرها وجمعها في الطراغوذيات ممّا قد سبق إليه أوّلوهم وقصر عنه من تخلّف ووقع في زمان المعلّم الأوّل فكأنّ المتأخّرين لم يكونوا يعملون بالحقيقة طراغوذيا بل تركيباً ما من هذه الأشياء لا يؤدّي إلى الهيئة الكاملة لطراغوذيا فإنّ المعمول قديماً كانت فيها خرافات واقعة وكان سائر ما تقوم به الطراغوذيا موجوداً
فيه وكان يؤثّر أثراً قويّاً في النفس حتّى كان يعزّي المصابين ويسلّي المغمومين. وأجزاء الخرافة جزآن الاشتمال وهو الانتقال من ضدّ إلى ضدّ وهو قريب من الذي يسمّى في زماننا مطابقة ولكنّه كان يستعمل في طراغوذياتهم في أن ينتقلوا من حالة غير جميلة إلى حالة جميلة بالتدريج بأن تقبّح الحالة الغير الجميلة وتحسّن بعدها الجميلة وهذا مثل الخلف والتوبيخ والتقرير. والجزء الثاني الدلالة وهو أن يقصد الحالة الجميلة بالتحسين لا من جهة تقبيح مقابلها. وكان القدماء من شعرائهم على هذا أقدر منهم على الوزن واللحن وكان المتأخّرون على إجادة الوزن واللحن أقدر منهم على حسن التخييل بنوعي الخرافة. فالأصل والمبدأ هو الخرافة ثمّ بعدها استعمالها في العادات على أن يقع مقارباً من الأمر حتّى تحسن به المحاكاة. فإنّ المحاكاة هي المفرّحة والدليل على ذلك أنّك لا تفرح بإنسان ولا عابد صنم يفرح بالصنم المعتاد وإن بلغ الغاية في تصنيعه وتزيينه ما تفرح بصورة منقوشة محاكية. ولأجل ذلك أنشيت الأمثال والقصص. والثالث من الأجزاء هو الرأي فإنّ الرأي أبعد من العادات في التخييل لأنّ التخييل معدّ نحو قبض النفس وبسطها وذلك نحو ما يشتاق أن يفعل في أكثر الأمر وكأنّ الكلام الرأييّ المحمود عندهم هو ما اقتدر فيه على محاكاة الرأي وهو القول المطابق للموجود على أحسن ما يكون. وبالجملة فإنّ الأوّلين إنّما كانوا يقرّرون الاعتقادات في النفوس بالتخييل الشعريّ ثمّ نبغت الخطابة بعد ذلك فزاولوا تقرير الاعتقادات في النفوس بالإقناع. وكلاهما متعلّق بالقول ويفارق القول في الرأي القول في العادة والخلق أنّ أحدهما يحثّ على إرادة والآخر يحثّ على رأي في أنّ شيئاً موجود أو غير موجود ولا يتعرّض فيه للدعوة إلى إرادته أو الهرب منه. ثمّ لا تكون العادة والخلق متعلّقين بأنّ شيئاً موجود أو غير موجود [ولا يتعرّض فيه الدعوة إلى إرادته أو إلى الهرب منه] بل إذا ذكر الاعتقاد في
الأمر العاديّ ذكر ليطلب أو ليهرب منه وأمّا الرأي فإنّما يبيّن الوجود أو اللاوجود فقطّ أو على نحو. والرابع المقابلة وهو أن يجعل للغرض المفسّر وزناً يقول به ويكون ذلك الوزن مناسباً إيّاه. وأن يكون التغييرات الجزئيّة بذلك الوزن تليق به فربّ شيء واحد يليق به الطيّ في غرض وفي غرض آخر يليق به التلصيق وهما فعلان يتعلّقان بالإيقاع يستعملهما. وبعد الرابعة التلحين وهو أعظم كلّ شيء وأشدّه تأثيراً في النفس وأمّا النظر والاحتجاج فهو الذي يقرّر في النفس حال المقول ووجوب قبوله حتّى يتسلّى عن الغمّ وينفعل الانفعال المقصود بطراغوذيا. ولا يكون فيها صناعة أيّ التصديق المذكور في كتاب الخطابة فإنّ ذلك غير مناسب للشعر وليس طراغوذيا مبنيّاً على المجاورة والمناظرة ولا على الأخذ بالوجوه. والصناعة أعلى درجة من درجة الشعر فإنّ الصناعة هي تفيد الآلات التي بها يقع التحسين والنافعات معها والشعر يتصرّف على تلك تصرّفاً ثانياً والصانع الأقدم أرأس من الصانع الذي يخدمه ويتبعه. واعلم أنّ أصول التخييلات مأخوذة من الخطابة على أنّها خدم للتصديقات وتوابع ثمّ التصرّف فيها يحسب أنّه أصل هو للشعر وخصوصاً للطراغوذيات.
فصل في حسن ترتيب الشعر وخصوصاً اطراغوذيا وفي أجزاء الكلام المخيّل الخرافيّ في اطراغوذيا.
وأمّا حسن قوام الأمور التي يجب أن توجد في الأشعار فينبغي أن نتكلّم فيه فإنّ ذلك مقدّمة طراغوذيا وأعمّ منه وأعلى مرتبة. فإنّ طراغوذيا أيضاً يجب أن تكون كاملة فيما تعمل من المحاكاة وأن تعظم الأمر الذي تقصده. فإنّ تلك المعاني قد تقال قولاً مرسلاً من غير الرونق والفخامة والحشمة. واستعمال طراغوذيا إذاً بسبب التعظيم والتكميل للتخييل. وكلّ تمام وكلّ فله مبدأ
ووسط وآخر. والوسط مع وقبل. والمبدأ قبل وليس يجب أن يكون مع. والآخر مع وليس يجب أن يكون قبل شيء. والجزء الفاضل هو الوسط وإن كان من جهة المرتبة قد يكون بعد. وكذلك فإنّ الشجعان المقدّمين إنّما يفضلون إذا لم يجبنوا فيكونوا في آخريات الناس ولم يتهوّرا فيكونوا في أوّل الرعيل. وكذلك الجيّد في الحيوان إنّما هو المتوسّط. وكلّما هو أمر جيّد ممّا فيه تركيب فهو الذي لا يتركّب منه شيء بل يتركّب هو من الأطراف فيعتدل. وليس يكفي أن يكون المتوسّط فاضلاً لأنّه وسط في المرتبة فقطّ بل يجب أن يكون وسطاً في العظم فإنّ المقدار الفاضل هو الوسط في العظم. فيجب أن يكون أجزاء طراغوذيا هي المتوسّطة في العظم. ولذلك فإنّ الحيوان الصغير ليس ببهيّ والتعليم القصير المدّة الذي يخلط الكلّ بعضه ببعض ويردّه إلى واحد لقصره ليس بجيّد ويكون كمن يرى حيواناً من بعد شديد فإنّه لا يمكن أن يراه ولا أيضاً يمكن أن يراه وهو شديد القرب بل المتوسّط هو السهل الإدراك السهل الرؤية كذلك يجب أن يكون الطول في الخرافات محصّلاً وممّا يمكن أن يحفظ في الذكر. وأمّا طول الأقاويل التي يتنازع فيها والتصديقات التي للصناعة الخطابيّة فإنّ ذلك غير محصّل ولا محدود بل بحسب مبدأ المجاراة فيه. وأمّا طراغوذيا فإنّه شيء محصّل الطول والوزن. ولو كان ممّا يكون بالمجاهدة والمفاوضة لكانت تلك المفاوضة لا تحدّد بنفسها إلّا أن يقتصر بها على وقت محدود يحدّد بفنجان الساعات. وكذلك لا يجب أن يوكّل أمر تقدير طول القصائد إلى مدّة المفاوضات بل يجب أن يكون لها طول وتقدير معتدل كالطبيعيّ وأن يكون الاشتمالات التي فيه التي ذكرنا أنّها توجب الانتقالات محدودة الأزمنة لا كما ظنّ ناس أنّه إنّما كان القصد في الطراغوذيّة الكلام في معنى بسيط. ولا يلتفت إلى جميع ما يعرض للشيء فيطول فيه فإنّ الواحد يعرض له أمور كثيرة ولذلك
لا يوجد أمر واحد له عرض واحد. وكذلك للواحد الجزئيّ أفعال جزئيّة بغير نهاية ولهذا ما يكون الشيء واحد الفعل بالنوع غير واحده بانقسامه بأعراضه وأحوال تقترن به بشخصه. ومن هنا وقع الشكّ لكثير في كون الواحد كثيراً. بل يجب أن يراعى نمطاً واحداً من الفعل ويتكلّم فيه ولا يخلط أفعالاً بأفعال وأحوالاً بأحوال. فإنّه كما يجب أن يكون الكلام محدوداً من جهة اللفظ كذلك يجب أن يكون محدوداً من جهة المعنى ويكون فيه من المعاني قدر يوافق الغرض ولا يتعدّاه إلى أحوال وأعراض للمقول فيه خارجة عنه كما كان يفعله بعض من ذكر. وأمّا أوميروس فإنّه كان يخالفهم ويلزم غرضاً واحداً ونعم ما فعل ذلك سواء كان اعتبر فيه الواجب بحسب الصناعة. فإنّ كلّ صناعة يقصد غاية واحدة أو غايات محدودة. أو الواجب بحسب الطبيعة فإنّ الطبيعة تقصد غاية واحدة أو غايات محدودة. وأورد لهذا أمثلة في شعر أوميروس أنّه لمّا ذكر إنساناً أو حرباً لم يذكر من أحوال ذلك الإنسان أو الحرب وما عرض له من الخصومات ولحقه من النكبات إلّا المتعلّق بالغرض الخاصّ الذي نحاه. فيجب أن يكون تقويم الشعر على هذه الصفة. أن يكون مرتّباً فيه أوّل ووسط وآخر. وأن يكون الجزء لأفضل في الأوسط. وأن تكون المقادير معتدلة. وأن يكون المقصود محدوداً لا يتعدّى ولا يخلط بغيره ممّا لا يليق بذلك الوزن. ويكون بحيث لو نزع منه جزء واحد فسد وانتقض. فإنّ الشيء الذي حقيقته الترتيب إذا زال عنه الترتيب لم يفعل فعله. وذلك لأنّه إنّما يفعل لأنّه كلّ ويكون الكلّ شيئاً محفوظاً بالأجزاء ولا يكون كلّا عند ما لا يكون الجزء الذي للكلّ. واعلم أنّ المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص ليس هو من الشعر بشيء بل الشعر إنّما يتعرّض لما يكون ممكناً في الأمور وجوده أو لما وجد ودخل في الضرورة. وإنّما كان يكون ذلك لو كان الفرق بين الخرافات
والمحاكيات الوزن فقطّ. وليس كذلك بل يحتاج إلى أن يكون الكلام مسدّداً نحو أمر وجد أو لم يوجد. وليس الفرق بين كتابين موزونين لهم أحدهما فيه شعر والآخر فيه مثل ما في كليلة ودمنة وليس بشعر [الا] بسبب الوزن فقطّ حتّى لو لم يكن لما يشاكل كليلة ودمنة وزن صار ناقصاً لا يفعل فعله بل هو يفعل فعله من إفادة الآراء التي هي نتائج وتجارب أحوال تنسب إلى أمور ليس لها وجود وإن لم يوزن. وذلك لأنّ الشعر إنّما المراد فيه التخييل لا إفادة الآراء فإن فات الوزن نقص التخييل. وأمّا الآخر فالغرض فيه إفادة نتيجة التجربة وذلك قليل الحاجة إلى الوزن. فأحد هذين يتكلّم فيما وجد ويوجد والآخر يتكلّم فيما وجوده في القول فقطّ. ولهذا صار الشعر أكثر مشابهة للفلسفة من الكلام الآخر لأنّه أشدّ تناولاً للموجود وأحكم بالحكم الكلّيّ. وأمّا ذلك النوع من الكلام فإنّما يقول في واحد على أنّه عارض له وحده. ويكون ذلك الواحد قد اخترع له اسم واحد فقطّ ولا وجود له. ونوع منه يقول في اقتصاص أحوال جزئيّة قد وجدت لكنّها غير مقولة على نحو التخييل. وأمّا الجزئيّات التي يتكلّم فيها الشعراء كلاماً يخلطونه بالكلّيّ فإنّها موجودة كجزئيّات الأمور التي يحدث عنها في قوموذيا ممّا وجدت وليست كجزئيّات الأمور التي في ايامبو العامّة. فإنّ تلك الجزئيّات تقرض قرضاً أيضاً ولكن بدل معنى كلّيّ على النحو الذي يسمّى تبديل الاقتضاب. وأمّا في طراغوذيا فإنّ النسبة إنّما هي إلى أسماء موجودة والموجود والممكن أشدّ إقناعاً للنفس فإنّ التجربة أيضاً إذا أسندت إلى موجود أقنعت أكثر ممّا تقنع إذا أسندت إلى مخترع وبعد ذلك إذا أسندت إلى موجود ما يقدّر كونه. وقد كان يستعمل في طراغوذيا أيضاً جزئيّات في بعض المواضع مخترعة تسمّى على قياس المسمّيات الموجودة ولكنّ ذلك من النادر القليل. وفي النوادر قد كان يخترع اسم شيء لا نظير له في الوجود ويوضع بدل معنى كلّيّ مثل
جعلهم الخير كشخص واحد وإطنابهم في مدحه. وذلك لأنّ أحوال الأمور قد كانت مطابقة لأحوال ما كانوا يخترعون لها الاسم وليس نفع ذلك في التخييل بنفع قليل. ولكن لا يجب أن يوقف عمل الطراغوذيا واختراع الخرافات فيها على هذا النحو فإنّ هذا ليس ممّا يوافق جميع الطبائع. فإنّ الشاعر إنّما يجود شعره لا بمثل هذه الاختراعات بل إنّما يجود قرضه وخرافته إذا كان حسن المحاكاة بالمخيّلات وخصوصاً للأفعال. وليس شرط كونه شاعراً أن يخيّل لما كان فقطّ بل ولما يكون ولما يقدر كونه وإن لم يكن بالحقيقة. ولا يجب أن يحتاج في التخييل الشعريّ إلى هذه الخرافات البسيطة التي هي قصص مخترعة ولا أن يتمّم بأفعال دخيلة مثل أخذ الوجوه وهي أفعال يؤثّر بعض الشعراء أو الرواة إيرادها مع الرواية حتّى يخيّل بها القول فإنّ ذلك يدلّ على نقصه وعلى أنّ قوله ليس يخيّل الانفعال وإنّما يضطرّ إلى ذلك من الشعراء أمّا الرذال منهم فلضعفهم وأمّا المفلّقون فلمقابلة الأخذة بالوجوه بأخذ الوجوه. وأمّا إذا قابلهم الشعراء المفلّقون دون هؤلاء لم يبسطوا الخرافات خالطين إيّاها بأمثال هذه وإنّما أوردوها موجزين منقحين. وربّما اضطرّوا في الطراغوديات أيضاً إلى أن يتركوا محاكاة الأفعال الكاملة ومالوا إلى المحرّفات وذلك أكثره في الجزء الرائيّ. وقد يخلط بعض ذلك أيضاً ببعض الوجوه الأخر كأنّها قد دخلت بالاتّفاق لتعجّب. فإنّ الذي يدخل بالاتّفاق ويقع بالبخت يتعجّب منه. وكثير من الخرافات يكون خالياً عن النفع في التخييل وربّما كان بعضها مشتبكاً متداخلاً به ينجح كما أنّ الأفعال من الناس أنفسها بعضها ينال به الغرض ببساطته وبكونه واحداً متّصلاً وبعضها إنّما ينال به الغرض بتركيب وتخليط. والمشتبك المشتجر من الخرافات ما كان متفنّناً في وجوه الاستدلال والاشتمال وبذلك ينقل النفس من حال إلى حال وإنّ كلّ اشتمال واستدلال يراد به نقل النفس إلى انفعال عن انفعال بأن
تخيّل سعادة فتنبسط أو شقاوة فتنقبض. فإنّ الغايات الدنيويّة هاتان وأحسن الاستدلال ما يتركّب بالاشتمال. وقد يستعمل الاستدلال في كلّ شيء ويكون منه خرافة لكنّ الأليق بهذا الموضع أن يكون الاستدلال على فعل فإنّ مثل هذا الاستدلال أو ما يجري مجراه من الاشتمال هو الذي يؤثّر في النفس رقّة أو مخافة كما يحتاج إليه في طراغوذيا ولأنّ التحسين وإظهار السعادة والتقبيح وإظهار الشقاوة إنّما يتعلّق في ظاهر المشهور بالأفعال وإنّها يكون لناس كانوا يستدلّ منهم ويحاكي بهم آخرون يجرون مجراهم في الفعل. فأجزاء الخرافة بالقسمة الأولى جزآن الاستدلال والاشتمال وهاهنا جزء آخر يتبعهما في طراغوذيا وهو التهويل وتعظيم الأمر وتشديد الانفعال مثل ما يعرض عند محاكاة الآفات الشاملة كالموتان والطوفان وغير ذلك. فهذه أنواع طراغوذيا.
فصل في أجزاء طراغوذيا بحسب الترتيب والإنشاد لا بحسب المعاني ووجوه من القسمة أخرى وما يحسن من التدبير في كلّ جزء وخصوصاً ما يتعلّق بالمعنى.
قد كان عندهم لكلّ قصيدة من طراغوذيا أجزاء تترتّب عليه في ابتدائها ووسطها وانتهائها. وكان ينشد بالغناء الرقصيّ ويتولّاه عدّة. فكان جزؤه الذي يقوم مقام التشبيب في شعر العرب يسمّى مدخلاً. ثمّ يليه جزء هناك يبتدئ به معه الرقّاص يسمّى مخرج الرقّاض. ثمّ جزء آخر يسمّى مجاز هؤلاء. وهذا كلّه كالصدر في الخطبة. ثمّ يشرعون فيما يجري مجرى الاقتصاص والتصديف في الخطابة يسمّى التقويم. ثمّ كان يختلف أحوال ذلك في مساكنهم وبلادهم وإن كان لا يخلو من المدخل ومجاز المغنّين. فالمدخل هو جزء كلّيّ يشتمل على أجزاء وفي وسطه يبتدئ
الملحّنون بجماعتهم. والمخرج هو الجزء الذي لا يلحّن بعده الجماعة منهم. وأمّا المجاز فهو الذي يؤدّونه المغنّون بلا لحن بل بإيقاع. وأمّا التقويم فهو جزء كان لا يؤدّي بنوع من الإيقاع يستعمل في ما سواه بل يؤدّي بنشيد نوحيّ لا عمل معه إيقعايّ إلّا وزن الشعر. وكلّ ذلك ينشده جماعة الملحّنين فهذا نوع قسمة الطراغوذيا. ونحو آخر أنّ بعض أجزاء طراغوذيا يعطي ظنّاً مخيّلاً لشيء ويميل الطبع إليه وبعضها يعطي النفس ما يحذره ويحفظه على سكونه ويقبضه عن شيء. ويجب في تركيب الطراغوذيا أن يكون غير تركيب بسيط بل يجب أن يكون فيه اشتباك وقد عرفته. ويكون ذلك ممّا يخيّل خوفاً مخلوطاً بحزن بمحاكاته. فإنّ هذه الجهة من المحاكاة هي التي تخصّ كلّ طراغوذيا وبها تقدّر النفس لقبول الفضائل وليس يجب أن تكون النقلة فيها كلّها من سعادة إلى سعادة. فالشجعان لا يقنعون بمزاولة السعادة والبراءة من الخوف والغمّ ومزاولة الأفعال التي لا صعوبة فيها كما لا يقنع الكدود بدوام الشقاوة ومثل هذا لا يخيّل في النفس انفعالاً يعتدّ به من رقّة أو حزن أو تقيّة. ولا يكون فيه محاكاة شقاوة الأشرار وإنّما تحدث الرقّة من أمثال ذلك وكذلك الحزن والخوف وإنّما يحدث التفجّع من محاكاة الشقاوة لمن لا يستحقّ والخوف يحدث عند تخييل المضرّ. وإنّما يراد محاكاة الشقاوة لهذه الأمور ولإظهار زلّة من حاد عن الفضائل. فينبغي في الطراغوذيا أن يبدأ بمحاكاة السعادة ثمّ ينتقل إلى الشقاوة وتحاكى ليرتدّ عن طريقها ويميل النفس الى ضدّها ولا يذكر الشقاوة التي تتعلّق بجور من الجائر على الشقيّ أو التي تتعلّق ببغية بل التي تتعلّق بغلطة وضلالة عن سبيل الواجب وذهابة عن الذي فضله أكثر. ويكون الاستدلال مطابقاً لذلك. وذكر أنّ الأوّلين القدماء كانوا يستهينون في الخرافات حتّى يتوصّلوا إلى الغرض وأمّا المحدثون بعدهم فقد مهروا حتّى أنّهم يبلغون الغرض في طراغوذيا بقول معتدل
وذكر له أمثالاً وذكر قوماً أحسنوا النقلة المذكورة. وأمّا الطراغوذيات الجهاديّة فقد ذكر أنّها قد يدخلها المغضبات في تقويماتها وذكر له مثال. وقد كان نوع من الطراغوذيات الجهاديّة القديمة قد يتعدّى فيها إلى ذكر النقائص وكان السبب فيه ضعف نحيزة الشعراء الذين كانوا يقولون أشعار التعبّد فكانوا يقعون في مخالفتهم فلم يكن ذلك طراغوذيا صرفة بل مخلوطة بقوموذيا وكان شعر هؤلاء شعر المعادين مثل رجلين سمّاهما فإنّهما لمّا صارا في آخر أمرهما من النسّاك المتّقين أنشدا في المراثي أشياء لا تتناسب فكانا لا يخيّلان أيضاً بالمفزعات والمحزنات ويوردان في تقويم الأمر ما يورده الشعراء المفلّقون. ويجب أن لا تكون الخرافة موردة مورد الشكّ حتّى تكون كأنّها تفسّر على التخيّل فإنّ هذا أولى بأن يخيّل جدّاً كما كان يفعله فلان وإن كان فعله غير مخلوط بصناعة تصديقيّة وشيء يحتاج إلى مقدّمات وقد كان بعضهم يقدّمون مقدّمات شعريّة للتعجيب بالتشبيه والمحاكاة فقطّ دون القول الموجّه نحو الانفعال. فيجب في الشعر أن يحاكي الأفعال المنسونة إلى الأفاضل وإلى الممدوحين من الأصدقاء بما يليق بهم وبمقابلتها للأعداء وأحدهما مدح والآخر ذمّ. وأمّا القسم الثالث فتشبيه صرف وأمّا عدوّ العدوّ وصديق الصديق وصديق العدوّ وعدوّ الصديق فليس يكون ممدوحاً أو مذموماً لذلك بل لأن يكون مع ذلك صديقاً أو عدوّاً ويكون المدح بذكر أفعال تصدر عن علم وأمّا علم بلا فعل وفعل بلا علم فلا يحسن به مدح أو ذمّ وإذا مدح لذلك أو ذمّ استقذر القول ونسب إلى السفسافيّة وكذلك الاقتصار على صرف المحاكاة في هذه الأبواب قول هذر ولذلك يقلّ في أشعارهم وقد حكى لذلك من الاستدلال أمثلة لهم فهذا ما يقال في التقويم. وأمّا الأخلاق فأن تحاكى من الممدوح خيريّته والخير موجود في كلّ صنف ونوع على تفاوته ويذكر أنّ خيريّته نافعة موافقة وأنّها على أشبه ما ينبغي أن يكون به وأنّها معتدلة متناسبة الأحوال وكذلك
يجب أن يكون القول الدالّ عليه وأورد لذلك أمثلة. والأخلاق المحمودة إمّا حقيقيّة فلسفيّة وإمّا التي يضطرّ إلى مدحها بين يدي الجمهور وإن لم تكن حقيقيّة وإمّا التي تشبه أحد هاتين وليس به وجميعها يدخل في المديح الشعريّ ويجب أن تكون خاتمة الشعر تدلّ على مقتضاه فتدلّ على ما فرغ منه كما في الخطابة لا كمثال أورده وأن يخالطه من الحيل الخرجة بقدر ما ينبغي أن يخاطب به المخاطبون ويحتملونه وأن يكون بقدر لا يكون الإنسان معه غالباً وبقدر مطابق للقول لو صرّح به وذكر أمثلة. ويجب أن يكون كالمصوّر فإنّه يصوّر كلّ شيء بحسنه وحتّى الكسلان والغضبان كذلك يجب أن تقع المحاكاة للأخلاق كما كان يقول أوميرس في بيان خيريّة أخيلوس وينبغي أن يكون ذلك مع حفظ للطبيعة الشعريّة وللمحسوس المعروف من حال الشعر فقد يذهب المحاكي أيضاً عن طريق الواجب وعن النمط المستملح المستحسن. وأنواع الاستدلال فيها الذي هو بصناعة ان يخيّل لست أقول بأن يصدّق فأمّا أمور ممكنة أن توجد لكنّها لم توجد فيكذب من حيث لم توجد ويخيّل من حيث يقع كذبه موقع القبول وأمّا مقتناة من الأجسام حاصلة لها بالحقيقة فيشبّه به حاصل في الظاهر من المعاني كالطوق في العنق تشبّه به المنّة والصمصام في اليد يشبّه به البيان وما كان بعيداً عن الوجود أصلاً فينبغي أن لا يستعمل وكذلك محاكاة الخسائس وذكر أمثلة. فهذا ضرب يستعمله الصنّاع من الشعراء الذين يستعملون التصديق وبعض الشعراء يميل إلى أقاويل تصديقيّة وبعضهم إلى استماليّة إذا كان مرائياً بالعفّة بارزاً في معرض اللوم والعذل. وأمّا الوجه الثاني فاستدلالات ساذجة لا صيغة شعريّة فيها وهي شبيهة بالخطابة أو القصص ويخلوا ذلك عن الخرافة. والثالث التذكير وهو أن يورد شيئاً يتخيّل معه شيء آخر كمن يرى خطّ صديق له مات فيتذكّره فيأسف. والرابع إخطار الشبيه بالبال بإيراد الشبيه بالنوع والصنف لا غير مثل من يراه الإنسان متشبّهاً بصديقه الغائب
فتحسّر لذلك وأورد أمثلة. والخامس من المبالغات الكاذبة كقولهم قد نزع فلان قوساً لا يقدر البشر على نزعه. والاستدلال الفاضل هو الذي يحاكي الفعل وذكر أمثلة. وساق الكلام إلى الواجب وحدّه أن يبلغ التخييل مبلغاً يكون كأنّ الشيء يحسّ نفسه وأن يطابق بذلك المضادّات فعل المفلّقين وذكر أمثلة. وذكر أنّ تفصيل الأنواع ممّا يطول والسبب فيه أنّ مأخذ المشتبهات ليست حقيقيّة ولا مظنونة فقدّم على ما قدّمنا لذلك قولاً. وقد يقع في الطراغوذيّة حلّ وربط والربط قد يقع بفعل من خارج وقد يقع بقول قاله والربط هو إشارة يبتدئ بها تدلّ على الغاية وإلى النقلة المذكورة والحلّ هو تحليل الجملة المشبّب بها من ابتداء النقلة إلى آخرها. فمن الطراغوذيا استدلاليّة واشتماليّة ومشتبكة مركّبة من استدلال واشتمال وقول انفعاليّ قد أضيف إليهما وقول إفراطيّ ليس يستند إلى ما يجري مجرى الاحتجاج ومن الناس من يحيّد عند الحلّ بالاشتباك ولا يحيّد مع الإيجاز وضبط اللسان عن الإسهاب. ثمّ ذكر عادات في الأوزان وفي التطويل المناسب لطول المعنى وغير المناسب وما يكون غناؤه مناسباً لوزنه وتخييله غير مناسب وما يخلط بالشعر من أفعال دخيلة ذكرناها وأنّ الفعل الدخيل والقول الغير الموزون أو الموزون بوزن آخر واحد. فأمّا القول الرائيّ فينبغي أن يبتغي أصوله من المذكور في الخطابة وأن يعدّ القول الرائيّ مطابقاً للانفعال المرتاد بالتخييل الذي يقوم به ذلك الشعر وأنت تجد أنواع ذلك وما يطابق انفعالاً انفعالاً فيما قيل في الخطابة وكذلك ما يطابق التهويلات والتعظيمات وما كان أنواعاً من القول الرائيّ صادقاً وكان بيّن الصدق وموافقاً للغرض أخذ بحاله وما كان غير بيّن بيّن بطريق شعريّ لا خطابيّ يكون بحيث يقال يلوح صدقه بل بأمور خارجة وأقوال تحاكي أمراً ذلك الأمر يوجب المعنى إيجاباً خارجيّاً ويشكل القول أيضاً بفعل يخيّل ذلك وإن لم يكن شيء غيره وإنّما يحتاج إليه بإزاء الأخذ
بالوجوه مثل شكل الأمر وشكل التضرّع وشكل الإخبار وشكل التهدّد وشكل الاستفهام وشكل الإعلام وكأنّ الشاعر لا يحتاج إلى شيء خارج عن القول وشكله وذكر قصّته.
فصل في قسمة الألفاظ وموافقتها لأنواع الشعر وفصل الكلام في اطراغوذيا وتشبيه أشعار أخرى به.
وأمّا اللفظ والمقالة فإنّ أجزاءه سبعة. المقطع الممدود والمقصور كما علمت ويؤلّف من الحروف الصامتة وهي التي لا تقبل المدّ البتّة مثل الطا والتا والتي لها نصف صوت وهي التي تقبل المدّ مثل الشين والراء والمصوّتات الممدودة التي تسمّيها مدّات والمقصورة وهي الحركات وحروف العلّة. والرباط الذي يسمّى واصلة وهو لفظة لا تدلّ بانفرادها على معنى وإنّما يفهم فيها ارتباط قول بقول تارة يكون بأن تذكر الواصلة أوّلاً بقول قيل فينتظر بعده قول آخر مثل أمّا المفتوحة وتارة على أنّه يأتي ثانياً ولا يبتدئ به مثل الفاء والواو وما هو الألف في لغة اليونانيّين. والفاصلة هي أداة أي لفظة لا تدلّ بانفرادها لكنّها تدلّ على أنّ القولين متميّزان واحدهما مقدّم والآخر تالٍ وتدلّ على الحدود والمفارقات مثل قولنا إمّا مكسورة الألف. والاسم. والكلمة. وتصريفهما. والقول. وكلّ لفظ دالّ فإمّا حقيقيّ ومستولٍ وإمّا لغة وإمّا زينة وإمّا موضوع وإمّا منفصل وإمّا متغيّر. والحقيقيّ هو اللفظ المستعمل عند الجمهور المطابق بالتواطؤ للمعنى. وأمّا اللغة فهو اللفظ الذي يستعمله قبيلة وأمّة أخرى وليس من لسان المتكلّم وإنّما أخذه من هناك ككثير من الفارسيّة المعرّبة بعد أن لا يكون مشهوراً متداولاً قد صار كلغة القوم. وأمّا النقل فأن يكون أوّل الوضع والتواطؤ على معنى وقد نقل عنه إلى معنى آخر من غير أن صار كأنّه اسمه
ضرورة لا يميّز معها بين الأوّل والثاني فتارة ينقل من الجنس إلى النوع وتارة من النوع إلى الجنس وتارة من نوع إلى نوع وتارة إلى منسوب إلى شيء من مشابهه في النسبة إلى رابع مثل قولهم للشيخوخة أنّها مساء العمر أو خريف الحيوة. وأمّا الاسم الموضوع المعمول فهو الذي يخترعه الشاعر ويكون هو أوّل من استعمله وكما أنّ المعلّم الأوّل اخترع أيضاً أشياء ووضع للمعنى الذي يقوم في النفس مقام الجنس اسماً هو انطلاخيا. وأمّا الاسم المنفصل والمختلط فهو الذي احتيج إلى أن حرّف عن أصله بمدّ قصر أو قصر مدّ أو ترخيم أو قلب وقيل إنّه الذي يعسر التفوّه به لطوله أو لتنافر حروفه واستعصائها على اللسان أو بحال اجتماعها والأوّل هو الصحيح. وأمّا المتغيّر وهو المستعار والمشبّه على نحو ما قيل في الخطابة والزينة هي اللفظة التي لا تدلّ بتركيب حروفها وحده بل بما يقترن به من هيئة نغمة ونبرة وليست للعرب. وكان كلّ اسم لليونانيّة إمّا أن يكون مذكّراً وإمّا أن يكون مؤنّثاً أو وسطاً وكان حروف التذكير ورو وحروف التأنيث كشي وبشي. وأوضح القول وأفضله ما يكون بالتصريح والتصريح هو ما يكون بالألفاظ الحقيقيّة المستولية وسائر ذلك يدخل لا للتفهيم بل للتعجيب مثل المستعارة فيجعل القول لطيفاً كريماً. واللغة تستعمل للإغراب والتحيير والرمز والنقل أيضاً كالاستعارة وهو ممكن وكذلك الاسم المضعّف. وكلّما اجتمعت هذه كانت الكلمة ألذّ وأغرب وبها تفخيم الكلام وخصوصاً الألفاظ المنقولة فلذلك يتضاحكون بالشعراء إذا أتوا بلفظ مفصّل أو أتوا بنقل أو استعارة يريدون الإيضاح ولا يستعمل شيء منها للإيضاح وأورد لذلك أمثالاً. وذكر فيها ما يكون الصنعة فيه بالتركيب وبالقلب مثل قولك «ليس الإنسان بسبب السنّة بل السنّة بسبب الإنسان» والعطف والمطابقة وسائر ما قيل في الخطابة وأشرنا إليه في فاتحة هذا الفنّ. وقال إنّ الألفاظ المضعّفة أخصّ بنوع ديثرمبى وقد علمته وهو الذي يثنى فيه على الأخيار من غير تعيّن. واللغات أليق بديقرافى وهو وزن
كان في شرائعهم يهوّل به حال المعاد على الأشرار. وأمّا المنقولات فهي أولى بوزن ايمبق وهو وزن مخصوص بالأمثال والحكم المشهورة وكذلك المنقولات شديدة الملائمة لابغرافى فهذا مثل ما قيل في طراغوذيا. وأمّا الأشعار القصصيّة التي كانت لهم والأوزان التي كانت تلائم القصص فسبيلها سبيل الطراغوذيا في تقسيم أجزائه إلى المبدأ والوسط والخاتمة ولا يقع الاستدلالات فيها على نفس الأفعال بل على محاكاة الأزمنة لأنّ الغرض ليس الأفعال بل تخييل الأزمنة وماذا يعرض فيها وما يكون حال السالف منها بالقياس إلى الغابر وكيف ينتقل فيها الدول ويدرس أمور ويحيى أمور وذكر في ذلك أمثلة. وبيّن أنّ أوميروس أحسنهم تأتّياً في هذا المعنى وكذلك الأشعار الجزئيّة فإنّه كان هو أهدى إلى قرضها سبيلاً وأحسن لها إلى الأجزاء الثلثة تقسيماً وإن كان ذلك في الأمور الجزئيّة صعباً في كيفيّتها وذكر أمثلة. فهذه الأبواب متعارفة بينهم. قال ونوع أفي أيضاً مناسب لطراغوذيا وذلك أنّها إمّا بسيطة وإمّا مشتبكة وربّما كان بعض أجزائها انفعاليّاً كما قلنا في طراغوذيا وأحكامها في التلحين والغناء أحكام طراغوذيا. وذكر أمثالاً وقصائد لقوم بعضها بسيطة وبعضها مشتبكة وأنّها كانت مختلفة الأوزان في الطول والقصر وكان بعضها شديد الطول وهو اطيّ. وكان فيها خلقيّات واعتقاديّات كما في طراغوذيا لكن طراغوذيا لا يتفنّن في المحاكيات إلّا في الجزء الذي في المسكن ويذكر فيه الثناء على الناحية والذي بإزاء المنافقين الآخذين بالوجوه. فأمّا أفي فعند اتّجاهه إلى الخاتمة قد يقع فيه حديث كثير وتفنّن في المحاكيات مختلفاً وبذلك يزداد بهاؤه وربّما أدخلوا فيها الدخيلات التي علّمتها وإن لم تكن مناسبة وذلك لأنّ المناسب يقضي بسرعة التمام وإنّما يطول الكلام بالدخيل. قال وأمّا وزن ايرايقو فوقع من التجربة فإنّ إنساناً قاله طبعاً في الجنس من الأمور الخصوصة به فوافق ذلك قبول الطباع وهو وزن رزين واسع العرصة يحتمل معاني كثيرة ويسعه
محاكيات كثيرة فلذلك يحتمل ذكر الفضائل الكثيرة معما فيه. وأمّا ايامبو فلها أربعة أوزان ويحرّك إلى هيئة رقصيّة مع التحريك الانفعاليّ ولا يجب أن يخفى هذا كما خفي على فلان وليس عرصته بواسعة سعة اريقى. وبالجملة فإنّ الملائمة الطبيعيّة هي التي حرّكت إلى الاختيار. قال وإنّ أوميروس وحده هو الذي يستحقّ المدح المطلق فقد كان يعلم ما يعمل وينبغي للشاعر أن يقلّ من الكلام الذي لا محاكاة فيه وكان غير أوميروس يجتهد ويطيل وإنّما يأتي بالمحاكاة يسيراً وأمّا أوميروس فكان كما يشبب يسيراً يتخلّص إلى المحاكاة بمرأة أو رجل أو بمثل أو عادة أخرى فإنّ غير المعتاد معيف. ويجب أن يحشى الطراغوذيا بالأمور العجيبة وأمّا أفي فيدخل فيها من المعاني العجيبة ما لا يتعلّق بكيفيّة الأفعال ثمّ لا يتخلّص منها إلى المضاحك بحسب المساكن وضرب أمثالاً. وقد بيّن فضل أوميروس بتقصير غيره ودلّ على ذلك بأحوال أشعار لقوم بعضهم حكوا غير الحقّ وبعضهم ابتدأوا بغير الواجب. قال وما كان من أجزاء الشعر بطّالاً ليس فيه صنعة ومحاكاة بل هو شيء ساذج فحقّه أن يغنى فيه بفصاحة اللفظ وقوّته ليتدارك به تقصير المعنى ويتجنّب فيه البذالة اللّهمّ إلّا أن يكون شديد الاشتهار كمثل مضروب.
فصل في وجوه تقصير الشاعر وفي تفضيل طراغوذيا على ما يشبهه.
إنّ الشاعر يجري مجرى المصوّر فكلّ واحد منهما محاك والمصوّر ينبغي أن يحاكي الشيء الواحد بأحد أمور ثلثة إمّا بأمور موجودة في الحقيقة وإمّا بأمور يقال إنّها موجودة وكانت وإمّا بأمور يظنّ أنّها ستوجد وتظهر فلذلك ينبغي أن يكون المحاكاة من الشاعر بمقالة تشتمل على اللغات والمنقولات من غير التفات إلى مطابقة من الشعر
للأقاويل السياسيّة التعقّليّة فإنّ ذلك من شأن صناعة أخرى. والشاعر يغلط من وجهين فتارة بالذات وبالحقيقة إذا حاكى بما ليس له وجود ولا إمكانه وتارة بالعرض إذا كان الذي يحاكي به موجوداً لكنّه قد حرّف عن هيئة وجوده كالمصوّر إذا صوّر فرساً فجعل الرجلين وحقّهما أن يكونا مؤخّرين إمّا يمينين وإمّا مقدّمين. وقد علمت أنّ كلّ غلط إمّا في الصناعة ومناسب لها وإمّا خارج عنها وغير مناسب لها وكذلك في الشعر. وكلّ صناعة يخصّها نوع من الغلط ويقابه نوع من الحلّ يلزم صاحب تلك الصناعة وأمّا الغلط الغير المناسب فليس حلّه على صاحب الصناعة. فمن غلط الشاعر محاكاته بما ليس بممكن ومحاكاته على التحريف وكذبه في المحاكاة كمن يحاكي بأيّل أنثى ويجعل لها قرناً عظيماً. أو بأنّه يقصر بمحاكاته للفاضل والرذل في فاعله أو فعله وفي زمانه بإضافته وفي غايته. ومن جهة اللفظ إن يكون أورد لفظاً متّفقاً لا يفهم ما عنى به من أمرين متقاربين يحتمل العبارة كلّ واحد منهما. ومن ذلك أن لا يحسن محاكاة الناطق بأشياء لا نطق لها فيبكّت ذلك الشاعر بأنّ فعلك ضدّ الواجب. وكذلك إذا حاكى بما ضدّه أحسن أن يحاكي به وكذلك إذا ترك المحاكاة وحاول البيان التصديقيّ الصناعيّ على أنّ ذلك جائز إذا وقع موقعاً حسناً فبلغت به الغاية فإن قصّر قليلاً سمج. ولا تصحّ المحاكاة بما لا يمكن وإن كان غير ظاهر الإحالة ولا مشهورها. وأحسن المواضع لذلك الخلقيّات والرأييّات. والأغاليط والتوبيخات التي بإزائها هي هذه الاثنى عشر ويدخل في خمسة غير الإمكان أو المحاكاة بالضادّ أو بما يجب ضدّه أو التحريف أو الصناعيّة التصديقيّة أو كونه غير نطقيّ. وقد شحن هذا الفصل من التعليم الأوّل بأمثلة. ثمّ يقايس بين طراغوذيا وأفي وخاصّة فوروطيقى منه وهو ضرب يخلط القول فيه بالحركات الشماليّة والأشكال الاستدراجيّة في أخذ الوجوه وبأغاني. وكان القدماء يذمّون ذلك ويشبّهون
الشاعر المفتقر إلى ذلك العامل به بأبي زينة بل يجعلونه أسوء حالاً منه. وأمّا أفي فهو بنفسه مخيّل ولا يحتاج إلى شيء من ذلك فيكون فورطيقى على هذا القياس أحسن. وبالجملة فإنّ الثلث منه أخذ بالوجوه وليس بشعر وباقيه أيضاً غناء وعلى نحو عادة رجل كان فيما ينشد يزعق ويرمز على أنّه ليس كلّ حركة وشكل استدراجيّ مذموماً بل الذي يتخاش به ويتساقط. والطراغوذيا قد يمكن أن يطول البيت منه حتّى يكون مكان الجرايقا في الكلام ويكون لقائل أن يقول إنّ طراغوذيا جامع لكلّ شيء وأمّا أفي فوزن فقط. وأيضاً فإنّ الشيء إذا دخل بعض أجزائه والقلائل منها غناء وأخذ بالوجوه وكان لها أشكال كان ألذّ وخصوصاً ولها أن تدلّ بالقول والعمل جميعاً. ولأنّ هذا إنّما يعرض عند انقضائه وتكون مدّة يسيرة ولو كان اختلاط ذلك بطراغوذيا في مدّة طويلة انسمج. ومثل لذلك. وأيضاً من فضائل طراغوذيا أنّه مقصور على محاكاة نمط واحد وأمّا أفي فهو مختلف وكأنّه اطراغوذيات كثيرة مجموعة في خرافة واحدة ويكون ذلك منتشراً وإن ظهر المعنى فيه بسرعة فإنّه مستتر خفيّ غير مستقيم لأنّ الوزن الواحد إنّما يلائم من تلك الجملة غرضاً واحداً فإذا تعدّاه وإن كانت المحاكاة والصيغة لذيذة فلا تكون مناسبة إلّا لغرض واحد.
هذا هو تلخيص القدر الذي وجد في هذه البلاد من كتاب الشعر للمعلّم الأوّل وقد بقي منه شطر صالح ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل. وأمّا هاهنا فلنقتصر على هذا المبلغ فإنّ وكد غرضنا الاستقصاء فيما ينتفع به من العلوم وللّه الحمد والمنّة.
تمّ كتاب الشعر.