Nicolaus of Damascus: De plantis (On Plants)
Work
Nicolaus of Damascus, De plantis
(Περὶ φυτῶν)
English: On Plants
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Isḥāq ibn Ḥunayn
Translated from: Syriac
Date:
between 865 and 900
Source
ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Arisṭūṭālīs fi l-nafs. "al-Ārāʾ al-ṭabīʿīyah" al-mansūb ilā Flūṭarḫas. "al-Ḥāss wa-l-maḥsūs" li-Ibn Rušd. "al-Nabāt" al-mansūb ilā Arisṭūṭālīs. Dirāsāt islāmīyah 16. Cairo (Maktabat al-nahḍah al-miṣrīyah) 1954, 243-281
Download
nicdam.deplantis-transl-ar1.xml [86.61 KB]
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر
كتاب أرسطوطاليس فى النبات تفسير نيقولاوس ترجمة إسحق بن حنين، باصلاح ثابت بن قرة وهو مقالتان
المقالة الأولى من كتاب النبات لأرسطوطاليس
١
قال الفيلسوف أرسطوطاليس:
إن الحياة موجودة فى الحيوان والنبات؛ غير أن حياة الحيوان بينة ظاهرة، وحياة النبات خفية غامضة يحتاج فيها إلى بحث واستقصاء حتى يوصل إلى سبيل الحق فيها. ليت شعرى! للنبات نفس، وقواها كالقوة المشهية والقوة المميزة للغم واللذة، أو ليس له شىء من ذلك؟ أما أنكساغورس وهمفدوقلس فزعما أن للنبات شهوة وحساً وغماً ولذة. وزعم أنكساغورس أنه حيوان، وأنه يفرح ويحزن، وزعم أن دليله على ذلك انتثار ورقه فى حينه. وأما
همفدوقلس فزعم أن ذكوره وإناثه مختلطة. وأما أفلاطون فقال إن للنبات قوة الشهوة فقط، وذلك لاضطراره إلى الغذاء؛ وإن صح للنبات قوة الشهوة وجبت له اللذة والحزن والحس. فليت شعرى: نوم ويقظة للنبات، وذكور وإناث، أو شىء يجنمع من الذكر والأنثى على ما زعم همفدوقلس؟ أم ليس له نفس؟ — فان كثرة الاختلاف الواقع فى نفس النبات مما يخرجنا إلى البحث الطويل عن جميع حالاته، وأصلح الأشياء قطعه ونفى الشك عنا فيه لئلا نحتاج فى سائر الأشياء إلى بحث طويل. ومن الناس من قال إن للنبات نفساً، لما رأى من توالده، واغتذائه ونمائه، وشبابه وهرمه، إذ لم يجد فى شىء من [هذه] الأشياء التى لا نفس لها ما يشارك النبات فى هذه الأشياء. وإن وجبت هذه الأشياء للنبات، وجبت له الشهوة أيضاً.
والواجب علينا أن نتكلم فى الأشياء الظاهرة، ثم نتكلم فى الأشياء الخفية فنقول: إن الشىء المغتذى له شهوة، وهو يجد اللذة عند الشبع والأذى عند الجوع، وهذه الحالات إنما تكون مع الحس. فقد صح أن رأى الذى زعم أن للنبات حساً وشهوة رأى عجيب. فأما أنكساغورس وهمفدوقلس وديمقراطيس فزعموا أن للنبات عقلا وفهماً. إلا أنه ينبغى لنا أن نمسك عن هذه الأقاويل القبيحة ونبدأ بالقول الصحيح: ليس للنبات حس ولا شهوة، لأن الشهوة إنما تكون بالحس، ومنتهى إرادتها راجع إليه. ولسنا نجد للنبات
حساً ولا عضواً حاساً، ولا متألماً، ولا صورة محدودة، ولا إدراك شىء من الأشياء، ولا حركة ولا نهوض إلى المحسوس، ولا دليل يوجب له الحس كالدلائل التى أوجبت له الاغتذاء والنماء. وإنما يصح له بحق الاغتذاء والنماء، 〈والاغتذاء والنماء〉 جزء من أجزاء النفس. فان وجدنا للنبات دليلا أوجب له جزءاً من أجزاء النفس وبطل عنه الحس فما ينبغى لنا أن نقول إن له حساً لأن الحس هو سبب صفاء الجبلة، وأما الغذاء فهو نمو حياة الحى وعيشته، لأن الغذاء رئيس العيش، فأما الحس فهو رئيس صفاء الحياة.
وما وقعت هذه الاختلافات إلا فى مواضعها؛ لأن معرفة الشىء المتوسط بين الحياة وعدمها صعب جداً. ولعل قائلا يقول: إن كان النبات ذا حياة فهو حيوان. وقد يصعب علينا أن نوجد للنبات رئيساً سوى رئيس حياة الحيوان. فأما الذى يدفع أن يكون حياً 〈لأنه〉 لا حس له، فقد نجد فى الحيوان 〈ما〉 لا معرفة له ولا عقل. على أن الطبيعة مهلكة لحياة الحيوان بالموت، ومثبتة لأجناسه بالتولد والتناسل. ومع هذا فانه بشع أن نضع بين ما لا نفس له وبين ما له نفس شيئاً يتوسطهما. نحن نعلم أن خراطيم الماء والأصداف حيوان لا معرفة له ولا عقل، وأنه نبات وحيوان. فما الذى
حمل الناس على أن سموه حيواناً إلا لسبب الحس فقط؟ وذلك أن للأجناس أن تعطى أسماءها وحدودها، فأما الأنواع فلا تعطى أنواعها إلا أسماءها فقط، وينبغى أن يكون الجنس من أجل سبب واحد، وألا يكون من أجل أسباب كثيرة. ووجود السبب الذى من أجله صح الجنس صعب جداً. ومن الحيوان حيوان ليس له أنثى، ومنه ما ليس له نتاج، ومنه ما لا حركة له، ومنه ما هو متلون مختلط، ومنه ما يلد ما لا يشبهه، ومنه مما ينمو.
فأما الذى هو ابتداء حياة هذا الحيوان، وما يخلص جنس الحيوان الكريم من الشك العظيم، كالذى نجد ذلك فيما تحويه السماء من الكواكب، وغير ذلك لأنه ليس خارج السماء شىء محسوس ينقاس شىء عليه، وكذلك فى الشمس وفى جميع الكواكب وذلك لأنها غير واقعة تحت الألم، والحس هو الألم وانفعال فى الحس. وليس للنبات حركة فى ذاته لأنه مربوط بالأرض، والأرض غير متحركة. بماذا نقيس الحياة؟ وبماذا نشبهها؟ ما نجد لها شيئاً عاماً. ولكن ينبغى لنا أن نقول إن العام للحياة هو الحس، لأن الحس هو المميز للحياة من الموت؛ وأما السماء، فلأن لها رئيساً أكرم وأجل من رئيسنا، فهى متباعدة عن هذه الأشياء. وينبغى أن يكون للحيوان الكامل
والناقص أمر يعمهما، أعنى وجود الحياة وعدمها. وليس ينبغى لأحد أن يزوغ عن هذه الأشياء، لأنه ليس له متوسط بين المتنفس وغير المتنفس، ولا بين الحياة وعدمها؛ ولكن بين الحياة والمتنفس واسطة، لأن الغير متنفس هو ما لا نفس له ولا جزء من أجزائها. فأما النبات فليس هو بغير ذى نفس وذلك لأن فيه جزءاً من أحزائها؛ ولا هو حيوان أيضاً، لأنه ليس له حس، وهو منتقل من الحياة إلى عدمها قليلا قليلا، كالذى فى سائر الأشياء. ولنا أن نقول إن النبات متنفس على جهة أخرى. أو: لا نقول إنه غير متنفس إن كان ذا نفس؛ والحيوان هو ذو نفس كاملة، وأما النبات فهو شىء غير كامل؛ والحيوان محدود الأعضاء، وأما النبات فغير محدود الطبيعة، وللنبات طبيعة خاصية من أجل الحركة التى فى ذاته. ولقائل أن يقول إن له نفساً، لأن النفس هى المنشئة للحركات من الأماكن والشهوات، والشهوة والحركة فى الأماكن إنما تكون مع الحس. وأما اجتذاب الغذاء فيكون من المبدأ الطبيعى، وهذا عام للنبات والحيوان، وليس يكون مع اجتذاب الغذاء حس على كل حال، لأن كل مغتذ يستعمل فى غذائه شيئين وهما: الحرارة والبرودة، ولذلك احتاج الحيوان إلى غذاء رطب وغذاء يابس، لأن البرد موجود فى الغذاء اليابس؛ وذلك أن كل طبيعة من هاتين الطبيعتين غير مفارقة لصاحبتها ولذلك صار غذاء المغتذى دائماً متصلا إلى وقت فساده، وينبغى أن نستعمل فى النبات نظير ذلك.
٢
〈وينبغى〉 أن نفحص عما سلف من قولنا فى شهوة النبات وحركته ونفسه وما يتحلل منه. وليس للنبات نسيم، على أن أنكساغورس زعم أن له نسيماً، وقد نجد كثيراً من الحيوان ليس له نسيم. ونجد عياناً أن النبات ليس له نوم ولا يقظة، وذلك أن اليقظة هى من فعل الحس، والنوم هو ضعف فى الحس، وليس يوجد شىء من هذا فى الشىء الذى يغتذى فى جميع الأوقات على حال واحدة وهو فى طبيعته غير حاس. وأحسب أن الحيوان إذا اغتذى وترقى البخار من غذائه إلى رأسه نام، وإذا انقطع البخار المرتقى إلى رأسه استيقظ من نومه. وارتفاع هذا البخار فى بعض الحيوان كثير، ووقت نومه طويل؛ وارتفاعه فى بعضه قليل ووقت نومه قصير. والنوم سكون الحركة، والسكون راحة للمتحرك.
وأخص الأشياء كلها بهذا العلم البحث عما قال همفدوقلس: هل يوجد فى النبات إناث وذكور، أو نوع جامع للذكر والأنثى — على ما زعم؟ لأن من شأن الذكر أن يولد الولد فى غيره، ومن شأن الأنثى أن تلد من غيرها، وأن يكون [فى] كل واحد منهما معتزلا عن صاحبه. وليس يوجد فى النبات شىء من هذا، لأن كل نوع من النبات الذكر منه ما كان خشناً صلباً، والأنثى كثيرة الثمر. وينبغى أن نبحث: هل يوجد الصنفان فى نبات واحد بعينه كما زعم همفدوقلس؟ أما أنا فما أحسب أن هذا شىء يكون، لأن الشىء الذى يختلط ينبغى أولاً أن يكون مفرداً فى ذاته، وكل ما كان منه ذكراً وأنثى ثم اختلط، واختلاط الشىء إنما يكون من أجل كونه. فقد كان النبات
سوى توليد الثمار؛ وإنما صار الحيوان منفرداً معتزلاً فى الأوقات التى لا يجامع فيها لكثرة أفعاله.
ومن الناس من يظن أن النبات تام كامل من أجل القوتين اللتين له ومن أجل غذائه المعد ولطول بقائه ومدته. وأنه إذا أورق وولد دامت له حياته وعاد إليه شبابه؛ ولم يتولد فيه شىء من الفضول. والنبات مستغن عن النوم لأسباب كثيرة، وذلك لأن النبات منتصب مغروس فى الأرض مربوط بها وليس له حركة من ذاته، ولا لأجزائه حد محدود، ولا له حس، ولا حركة إرادية ولا له نفس كاملة، بل إنما له جزٗ من أجزائها. والنبات إنما خلق من أجل الحيوان، ولم يخلق الحيوان من أجل النبات. وإن قلت إن النبات محتاج إلى غذاء خسيس ردىء، فانه يحتاج منه إلى شىء كثير قائم متصل غير منقطع. وإن صح أن للنبات على الحيوان فضلاً، وجب أن تكون الأشياء الغير متنفسة أكرم من الأشياء المتنفسة؛ وفعل من أفعال الحيوان أفضل وأشرف من النبات. وقد نجد للحيوان جميع فضائل النبات وفضائل كثيرة معها. وقد أصاب همفدوقلس فى زعمه أن النبات تولد والعالم ناقص لم يستتم كاملا؛ فلما كمل وتم، تولد الحيوان. غير أنه ما قال قولا مستقيما، لأن العالم بكليته أزلى دائم، لم يزل يولد الحيوان والنبات وكل نوع من أنواعها. وفى كل نوع من أنواع النبات رطوبة وحرارة غريزية، فاذا فقدها مرض وهرم وفسد وجف. ومن الناس من سمى هذا فساداً، ومنهم من لا يسميه ذلك.
٣
ومن الشجر ما له صمغ كالراتينج واللوز والمر والكندر والصمغ العربى
ومن الشجر ما له عقد وعروق وخشب وقشر 〈و〉لحم داخل، ومنه ما أكثره قشور، ومنه ما ثمرته تحت قشوره. ومن أجزاء الشجرة أجزاء بسيطة، كالرطوبة الموجودة فيه والعقد والعروق، ومنها ما هو مركب من هذه الأشياء، مثل سائر ما فى الشجر من الأغصان والقضبان وغير ذلك. وليست هذه الأشياء كلها موجودة لجميع النبات، بل منه ما له هذه الأجزاء ومنه ما ليس له شىء. وللنبات أجزاء غير هذه مثل الأصول والقضبان والورق والأغصان والزهر والفقاح والاستدارة والقشر الذى يحوى الثمار.
وكما أن فى الحيوان أعضاءً متشابهة الأجزاء، كذلك فى النبات أيضاً. وكل جزء من أجزاء النبات نظير لعضو من أعضاء الحيوان، لأن قشر النبات نظير لجلد الحيوان، وأصل النبات نظير لحم الحيوان، والعقد التى فيه نظيرة لأعصاب الحيوان، وكذلك سائر الأشياء التى فيه. وكل جزء من هذه الأجزاء تتجزأ على جهة الأجزاء متشابهة، وتتجزأ لأجزاء غير متشابهه (لأن الطين يتجزأ على جهة التراب فقط، ويتجزأ على جهة الماء والتربة؛ واللحم يتجزأ فتصير أجزاؤه لحماً، وهو يتجزأ على جهة أخرى للاستقصات والأصل). وليس تنقسم اليد ليد أخرى، ولا الأصل لاٴصل آخر، ولا الورق للورق؛ ولكن فى الأصل والورق تركيب. وأما الثمار فمنه ما هو مركب من أجزاء يسيرة،
ومنه ما هو مركب من أجزاء كثيرة مثل الزيتون، لأن الزيتون 〈ذو〉 أربع طبقات: جلده، ولحمه، ونواه، وبزره. ومن الثمار ما هو ذو ثلاث طبقات. وجميع البزور هى ذات قشرين. وأجزاء النبات هى ما وصفنا. وجملة القول أن تحديد أجزاء النبات وجميع طبقاته واختلاف طبائعه شديدة، لا سيما حدود قوامه ولونه ووقت بقائه والآلام العارضة عليه. وليس للنبات أخلاق النفس، ولا فعل مثل الحيوان. وإن قسنا أجزاء الحيوان بأجزاء النبات طال كلامنا، ولعلنا لا نسلم فى صفتنا لأجزاء النبات من الاختلاف الكثير، لأن جزء الشىء هو من جنسه وجوهره الخاص؛ وإذا تكون بقى على حاله أبداً، إلا أن يسقط عن حاله بسبب مرض أو زمانة أو هرم. ومن زهر النبات وفقاحه وورقه وثماره ما يكون فى كل سنة، ومنه ما لا يكون فى كل سنة ولا يبقى مثل القشور. والجرم الساقط من الشىء يرميه ويسيبه، وليس ذلك فى النبات: لأنه قد يسقط من النبات أجزاء كثيرة فينبت بدلها، إما فوق مكانها وإما أسفله.
فقد صح أن أجزاء النبات غير محدودة: إن كانت هذه الأجزاء هى أجزاء النبات، وإن كانت غير أجزائه. وقبيح بنا أن نقول فى الشىء الذى به ينمو الحيوان ويكمل إنه ليس بجزئه؛ ومما ينبغى لنا أن لا نجعل ثمر النبات من أجزائه،
لأن الجنين ليس هو بجزء لأمه؛ وأما الورق وسائر ما فيه فانه من أجزائه، وإن كان غير محدود وكان ينتثر ويسقط؛ لأن قرون الأيل وشعر بعض الحيوان وريش بعضه الذى يحتقن فى الشتاء فى الكهوف وتحت الأرض يتساقط أيضاً، وهذا شبيه بانتثار ورق النبات.
وينبغى لنا أن نتكلم فى الأشياء التى ذكرنا آنفاً، وأن نأخذ فى ذكر الأجزاء الخاصية والعامية والاختلاف الذى فيه. فنقول: فى أجزاء النبات اختلاف عظيم فى الكثرة والقلة والصغر والكبر والقوة، وذلك لأن الرطوبة التى فى الكبار: منها ما هو لبن مثل لبن التين، ومنها ما هو شبيه بالزفت مثل الرطوبة التى فى الكرم، ومنها صعترى مثل الرطوبة التى فى الصعتر والنبات المعروف بأوريغانون. وفى جملة القول إن من النبات نباتاً له أجزاء محدودة معروفة، ومنها ما له أجزاء محدودة غير متشابهة ولا مستوية، ومنها ما له أجزاء متشابهة وغير متشابهة، ليس مكانها فى موضع. واختلاف النبات فى أجزائه معروف من شكله ولونه، وسخافته وكثافته، وخشونته ولينه، وسائر ما يعرض فيه من الاختلاف فى الاستواء وزيادة العدد ونقصانه ومن كبره وصغره. ومنه ما لا يكون على حال، بل فيه اختلاف كثير، على ما قلنا.
٤
أعنى 〈أن〉 من النبات ما يحمل ثمره فوق ورقه، ومنه ما يحمل ثمره تحت ورقه؛ ومنه ما ثمره معلق بقامته، ومنه ما ثمره معلق فى أصله مثل
الشجر الذى بمصر المعروف بأرخسنو؛ أو ما فوق؛ ومنه ما ثمره فى وسطه. ومن النبات ما ورقه وعقده غير مستور، ومن النبات ما ورقه مستور ومنه ما له أغصان متساوية مثل النبات الذى له ثلاثة أغصان. وهذه الأجزاء التى أذكرها هى 〈من〉 جملة النبات، وهى نامية متزيدة أيضاً، أعنى الأصل والقضبان وقوائم النبات وأغصانه؛ وهى تعدل أعضاء الحيوان التى تحوى سائر الأغصان. وأصل النبات هو الذى يكون الغذاء بوساطته، ولذلك سماه اليونانيون أصل النبات وسبب حياته، لأن الأصل هو المؤدى إلى النبات سبب الحياة. وأما قضيب النبات فهو الذى ينبت من الأرض مفرداً وحده، وهو شبيه بقائمة الشجر. وأما الشعب فهى ما يتشعب من قائمة النبات. وأما الأغصان فهى التى تنبت من فوق الشعب؛ وليست الأغصان بموجودة فى جميع النبات. ومن النبات ما له أغصان ليست بالدائمة أبداً، بل إنما تكون سنة بعد سنة. ومن النبات ما لا أغصان له ولا ورق، مثل الكمأة والفطر. والأغصان إنما تنبت فى الأشجار فقط. والقشر والخشب ولب الشجر ينبت من الرطوبة. ومن الناس من يسمى لب الشجر رحماً، ومنهم من يسميه معى الشجر، ومنهم من يسميه قلب الشجر. والعقد والعروق واللحم فى جميع النبات من الأربعة الأسطقسات. وقد توجد فى النبات أجزاء أخر تصلح للنتاج مثل الورق والزهر والقضبان الصغار التى فيها ورق النبات، وكذلك الثمرة والغصن والفقاح النابت من البزور وما حوله.
ومن النبات ما يسمى شجراً، ومنه ما هو بين الشجر والحشيش ويسمى بامبراخيون ومنه ما يسمى حشيشاً، ومنه ما يسمى عشباً. والنبات كله —
المعروف بقارالسوس والعليق، وربما دخل الآس والتفاح والكمثرى والرمان فى مثل هذه الأشياء لأن شعب هذه كلها من أصولها كثيرة جداً، ولذلك احتجنا إلى أن نحدها لتصير لنا شبه المثال والقياس؛ وما ينبغى أن نطلب فيها كلها استقضاء الحدود.
والنبات كله منه أهلى، ومنه بستانى، ومنه برى. وكذلك الحيوان أيضاً منه كذلك. وأحسب أن كل نوع من النبات إذا لم يعن بفلاحته صار برياً. ومن النبات ما يحمل الثمار، ومنه ما لا يحصل؛ ومنه ما يخرج الزهر، ومنه ما لا يخرج؛ ومنه ما له ورق، ومنه ما ليس له ورق، ومنه ما ينثر ورقه، ومنه ما لا ينثر ورقه. واختلاف النبات بعضه من بعض فى الكبر والصغر، والحسن والسماجة، وجودة الثمر ورداءته كبير جداً. والأشجار البرية أكثر ثماراً من البستانية، والبستانية أجود ثماراً من البرية. ومن النبات ما يكون فى مكان جاف يابس، ومنه ما ينبت فى البحار، ومنه ما ينبت فى الأنهار، ومنه ما ينبت فى البحر الأحمر: يكون كبيراً، وفى غيره يكون صغيراً. ومن النبات ما ينبت على شاطىء الماء، ومنه ما ينبت فى الآجام. وأما النبات الذى يكون فى المواضع اليابسة فان منه ما ينبت فى الجبال، ومنه ما ينبت فى البقاع، ومنه ما يعشب فى الصخر أكثر من عشبه فى غيره، ومنه ما يعشب على التلول، ومنه ما يعشب على البر والماء مثل العرف والطرفاء والأشنة. والنبات يتغير فى الأماكن تغيراً عظيما، فلذلك احتجنا إلى إحصاء اختلافه وتغيره.
٥
والنبات لاصق بالأرض غير مفارق لها. ومن الأماكن مكان أجود
من مكان، وتربة أجود من تربة. وكذلك الثمار: فأنها فى مكان أجود منها فى آخر. ومن النبات ما ورقه أملس، ومنه ما ورقه غليظ ومنه دقيق الورق، ومنه مشطب الورق مثل ورق الكرم. ومنه ما له قشر واحد مثل التين، ومنه ما له قشور كثيرة كالصنوبر؛ ومن النبات ما هو بكليته قشور محض مثل البلاس. ومن النبات ما له عقد مثل القصب، ومنه ما له شوك مثل العوسج، ومنه ما لا غصن له كالتيل، ومنه ما أغصانه كثيرة مثل العليق. ومنه ما فيه اختلاف كثير، 〈ومنه ما فيه اختلاف يسير〉 وأما اختلافه العظيم 〈فمثل أن〉 منه ما يخرج فراخاً، ومنه ما لا يخرج؛ وإنما يكون ذلك من اختلاف الأصول. ومن النبات ما له أصل واحد، مثل العنصلان، لأنه إنما تنبت له شعبة واحدة ويغوص إلى أسفل وإلى قعر كبير، وكلما كبر وقرب من الشمس نما وازداد، لأن الشمس هى المولدة للفراخ.
وأما القطرات التى فى الثمار فمنها مشروبة خمرية، مثل ثمر الكرم والتفاح والرمان والتوت والآس. ومنها عصارة دسمة كالزيتون والجوز والصنوبر؛ ومنها حلوة عسلية كالتمر والتين؛ ومنها حارة حريفة كالسعتر والخردل؛ ومنها عصارة مرة مثل عصارة الافسنتين والقنطوريون. والثمار أيضاً منها ما هو مركب من
لحم ونوى، مثل الإجاص والقثاء؛ ومنها ما هو مركب من رطوبة وحب، كالرمان؛ ومنها ما له قشر من خارج ولحم من داخل، ومنها ما له لحم من خارج وحب من داخل؛ ومنها ما يتولد فيه البزر من ساعته مثل الغشاء المغشى عليه كالتمر واللوز؛ ومنها ما لا يتولد فيه. وأما المأكول من الثمار وغير المأكول فانه بالعرض، لأنه من الثمار ثمار يأكله بعض الناس ولا يأكله بعضهم، ومنه ما يأكله بعض الحيوان ولا يأكله بعض. ومن الثمار ما هو فى لحم كالتمر، ومنه ما هو فى قشر كالبلوط واللقاح، ومنه ما هو فى قشور كثيرة وفى صفائق ونوى كالجوز. ومنه ما ينضج سريعاً كالتوت، ومنه ما يبطىء نضجه كثمر الجبال كلها أو أكثرها. ومن النبات ما يسرع فى إخراج الثمار والورق، ومنه ما يبطىء فى ذلك. ومنه ما يتم ثماره، ومنه ما لا يتم؛ ومنه ما تجف ثماره، ومنه ما لا ينضج، ومنه ما تدرك ثماره فى الشتاء من غير أن تنضج. وأما لون الزهر والثمار فكثير مختلف الألوان. والنبات بكليته أخضر، ومنه ما يميل إلى السواد وإلى الحمرة وإلى البياض. وأما شكل الثمار فما كان منه برياً فهو مختلف؛ وليس الثمار كله ذا زوايا، وليس كله على خط مستو.
٦
ومن النبات ما له رائحة طيبة فى قشره، ومنه ما له ذلك فى زهره، ومنه فى خشبه، ومنه ما طيبه فى أجزائه كلها، مثل البلسان.
وبعض النبات ينبت إذا غرس، وبعضه إذا زرع، ومنه ما ينبت من تلقاء نفسه. والنبات المغروس إما يقطع من أصله فيغرس، وإما من قامته، وإما من أغصانه أو قضبانه أو بزره، أو كله؛ أو إذا دقت قطع صغار منه. ومنه ما يغرس فى الأرض، ومنه ما يغرس فى الشجر مثل الشىء الذى يطاعم. وإنما ينبغى أن يطاعم الشجر بما يشبه ويشاكله، لأنه إذا فعل ذلك نما نمواً حسناً، أعنى أن يطاعم التفاح مع الكمثرى، والتين مع التين، والكرم مع الكرم وقد يطاعم الشجر مع الشجر المختلف الجنس كالفستق فى اللوز، والبطم بالزيتون، والعليق فى أشجار كثيرة، والشجر البرى مع البستانى. والنبات كله لا يخرج بزراً شبيهة ببزره، لكن من النبات ما يخرج بزراً أجود من بزره. ومنه ما يخرج البزر الردىء شجراً جيداً كاللوز المر والرمان الحامض ومنه ما إذا ضعف لم يخرج بزراً أصلا مثل الصنوبر والنخل. وليس ينبت من البزر الردىء نبات جيد بسهولة، ومن البرز الجيد نبات ردىء. وأما فى الحيوان فقد يتولد من الردىء جيد ومن الجيد ردىء.
والشجر الصلب القشر الذى لا يثمر إن شق إنسان أصله وأدخل فيه حجراً اثمر. فأما النخل فاذا انتثر فى طلعه من طلع النخل الذكر مع دقيقه وقشره
أضنج ثماره ومنع من الانتثار. ومما يعرف الذكر من النخل 〈أنه〉 مما يتقدم فيصير طلعه دقيقاً، ومن رائحته، ويكون طلعه أيضاً دقيقاً؛ وربما هبت ريح شديدة فأدت من رائحة الذكر إلى الأنثى فتنضج ثمارها ولا ينثر إذا جعل فيها من طلع الذكر [وأما بزر الأترج فان سحقه الإنسان وشربه مع الخمر بعد شرب الأدوية القتالة أنقذه من الموت، وذلك لأنه يصل إلى البطن ويخرج السم]. والتين الجبلى الممتد على الأرض نافع للتين البستانى، والجلنار للزيتون، إذا غرسا فى مكان واحد.
٧
ومن النبات ما يتغير ويصير شيئاً بدل شىء، مثل الجوز إذا شاخ. ويزعمون أن النمام ربما تغير وصار نعنعاً، والباذروج إذا حصد وصير بقرب البحر الأحمر ربما صار شاهسفرم. وأما الحنطة والكتان فانهم يزعمون 〈أنهما〉 ربما تغيرا وصارا شيلماً. وأما اللبخ فقد كان فى أرض فارس قتالا فنقل إلى أرض مصر والشام فصار مأكولا. واللوز والرمان يتغيران
عن رداءتهما إذا عنى الفلاح بفلاحتهما: أما الرمان فهو يجود إذا طرح فى أصله من بزر الخبازى وسقى بماء بارد عذب؛ وأما اللوز فاذا ضرب الإنسان فيه سكة من حديد وأخرج منه الصمغ السائل زماناً طويلا. وإذا فعل الإنسان مثل هذا الفعل نقل كثيراً من النبات البرى إلى البستانى، والمكان والفلاحة مما يعنيان على ذلك، وبخاصة أزمنة السنة التى يغرس فيها. ومن النبات ما يحتاج إلى الغرس، ومنه ما لا يحتاج إلى ذلك. وأكثر النبات يغرس فى الربيع، والقليل منه يغرس فى الشتاء والخريف؛ وأما أقل النبات فالذى يغرس بعد طلوع الكوكب المعروف بكلب الجبار، وأقل المواضع التى يغرس الغرس فيها فى هذا الوقت؛ وإنما يغرس الغرس بعد طلوع الكوكب المعروف بكلب الجبار فى بلد فرونية وافريشيه؛ وأما فى مصر فما يغرس فيها إلا مرة واحدة فى السنة.
ومن الشجر ما يورق من أصوله، ومنه ما يورق من عيونه، ومنه ما يورق من خشبة الأملس، ومنه ما يورق من كل مكان فيه، ومنه ما يقرب فيه التوريق، ومنه ما يتأخر فيه، ومنه ما يتوسط فى ذلك، ومنه ما يختلف وقت توريقه. ومن النبات ما يحمل فى السنة مرة واحدة، ومنه ما يحمل فى السنة مراراً كثيرة ولا تنضج ثمارة، بل تبقى فجة غير نضيجة، ومنه
ما تدوم كثرة حملة كالتين، ومنه ما يحمل فى وقت كبره وهرمه أكثر من حمله فى شبيبته كاللوز والكمثرى والبلوط. وبعض الناس يزعم أن اختلاف النبات البستانى يعرف من طبع ذكورته وإناثه، إذا ميز كل واحد منه بالخاصة الموجودة له، لأن الذكر أكثف من الأنثى وأكثر أغصاناً وأقل رطوبة وثماره أصغر وأقل نضوجاً وورقة مخالف وكذلك شعبه.
وينبغى لنا إذا نقدنا هذه الأشياء أن نتفرس فى الشجر على حدته، وكذلك أيضاً فى الحشيش والشعب. وسندكر قول القدماء فيها ونمارس علومهم وكتبهم الموضوعة فى هذه الأشياء. ونحن قادرون على فحص أقدر من هذا، أعنى أنما نفحص عن العشب البعلى، وعن العشب الذى يكون منه البزر وعن النبات الخمرى الشرابى، وعن النبات الطبيعى، وعن نبات الأدوية، وعن النبات القتال. وهذه الأشياء كلها معروفة من الأشجار والنبات. فأما علم أسبابها فينبغى أن نطلب ابتداء كونها وكيف صار بعضها ينبت فى مكان دون مكان وفى زمان دون زمانها وحين نباتها، وأصولها، واختلاف عصاراتها وروائحها ولبنها وصموغها وجودة كل واحد منها وردائه وبقاء ثمارها وفناؤه ولم صار ثمار بعضها يعفن سريعاً وبعضها لا يعفن، وأن منها ما تلين ثماره ومنها ما لا تلين ثماره؛ ونفحص عن خواص سائر النبات وبخاصة عن الأصول، وكيف صار بعضها يهيج شهوة الجماع، وبعضها يجدلب النوم، وبعضها قتال؛ ولبعضها اختلاف كثير عظيم.
تمت المقالة الأولى من كتاب النبات لأرسطوطاليس والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر المقالة الثانية من كتاب النبات لأرسطو تفسير نيقولاوس ترجمة إسحق بن حنين، باصلاح ثابت بن قرة
١
قال أرسطو:
إن النبات له ثلاث قوى: قوة من جنس الأرض، وقوة من جنس الماء، وقوة من جنس النار. فأما ما كان من جنس الأرض فهو ثبات النبات، وما كان من جنس النار فهو تأليف النبات، 〈وما كان من جنس الماء فهو وحدة النبات〉. وكثيراً ما يشاهد هذا فى الفخار: فان فيه ثلاثة أشياء: أولها الطين الذى ينبت عليه أس الفخار، والثانى الماء الذى يتربى فيه الفخار، والثالث النار الذى تجتمع فيه أجزاء الفخار حتى يتم كونه به. فاظهار التأليف كله بالنار، وذلك أن فى الفخار تخلخلا فى أجزائه، فاذا أحرقه النار انبثت مادة الرطوبة وتلاصقت أجزاء الطين وقام اليبس مقام الرطوبة بالغلبة. والطبخ فى كل الحيوان والنبات والمعادن، فان الطبخ حيث تكون الرطوبة والحرارة إذا تناهى فى الفعل؛ ويكون فى طبخ الأحجار والمعادن. فأما الحيوان والنبات فليس كونه كذلك، لأن أجزاءه غير منحصرة، ولذلك
كان منه الرشح والعرق: فأما العرق فللحيوان، وأما الرشح فللنبات. وأما المعادن فلا رشح فيها ولا عرق، لأن أجزاءها غير متخلخلة فلا يخرج منها شىء غيرها كما يخرج من الحيوان والنبات الفضول، وإنما يخرج من حيث التخلخل. وأما مالا تخلخل فيه فلا يخرج منه شىء ألبتة، ولذلك صار مصمتاً، أى لا يمكن فيه الزيادة، لأن ما يمكن فيه الزيادة حتى ينمى ويكبر يحتاج إلى موضع ينمى فيه، وإذا كان مصمتاً لم يكن له موضع ينشأ فيه ويكبر. ولذلك صارت الأحجار والأملاح والترب أبداً على حالة واحدة لا تزيد ولا تكبر. فأما النبات فان الحركة فيه تسوغ، لأن اليبس الذى هو أحد قوى الأرض يجذب الرطوبة. فاذا اجتذبها كان مع اجتذابها حركة تحمى الموضع فيقع الطبخ فى حالة واحدة، ولذلك صار أكثر الحشائش يتكون فى ساعة أو يوم واحد؛ وليس كذلك الحيوان، لأن الحيوان طبيعة مخالفة لذاته. وإنما يكون الطبخ عند استعمال الحيوان المادة: فأما النبات فمادته قريبة منه فلذلك أسرع كونه ونشوؤه وكبره. وكذلك اللطيف منه أسرع كوناً من المتكاثف فيحتاج إلى قوى كثيرة لاختلاف شكله وتباعد أجزائه بعضها من بعض فى الطبيعة. فأما الحشائش والزرع فأجزاؤه قريبة بعضها من بعض، ولذلك أسرع كونه للطاقة بعضها من بعض فكملت فى أسرع زمان. وأما النبات فأكثره متخلخل الأجزاء، وذلك أن الحرارة فى بطون الأرض فى التخلخل، وليس من شأن الماء أن يصعد إلى فوق لكن الحرارة تجذب تلك الرطوبة إلى أقصى النبات فتصير المواد فى جميع أجزاء النبات فما فضل عنه رشحه. وكذلك الحمام: فان الحرارة تجذب تلك الرطوبة فتجعلها بخاراً عالياً، فاذا أفرط فى الموضع رجع قطراً. وكذلك الفضول فى الحيوان والنبات ترجع من العلو إلى أسفل وتصعد من أسفل إلى العلو فى الأفاعيل.
وكذلك الأنهار التى تحت الأرض، فان كونها من الجبال، ومادتها من الأمطار. فاذا كثرت المياه واحتقنت تولد من ذلك بخار حار لاحتقانها فخرق الأرض كلها ذلك البخار فظهرت العيون والأنهار، وقد كانت قبل ذلك باطنة.
٢
وقد قدمنا العلة لظهور الأنهار والعيون فى «الكون العلوى» بأن الزلازل قد تظهر أنهاراً وعيوناً لم تكن قبل ذلك عند انشقاق الأرض بالبخار، فتظهر العيون والأنهار؛ وقد تخفى العيون والأنهار إذا كانت الزلزلة منقلبة. فأما النبات فلا يعرض له ذلك، لأن الهوائية فى تخلخل أجزائه. والدليل على ذلك أن الزلزلة لا تكون فى الرمال، وإنما تكون فى الأجرام الصلبة، أعنى مواضع المياه والجبال. وكذلك الزلازل تكون غالبة فيها، لأن الماء مصمت والأحجار مصمتة، ومن شأن الهواء الحار اليابس أن يتصاعد. فاذا اجتمعت أجزاؤه قوى فشق الموضع فخرج منه ذلك البخار. فلو كان متخلخلا لخرج أولاً فأولاً. فلما كان مصمتاً لم يتهيأ للبخار أن يخرخ أولاً أولاً فاجتمعت أجزاؤه وقوى فخرق الموضع أوشقه فهذه علة الزلزلة فى الأجرام المصمته. ولذلك كان الحيوان والنبات لا تكون فى أجزائه الزلزلة؛ فأما فى سائر الأشياء فتكون الزلزلة — وقد نجد ذلك فى الخزف والزجاج وسائر المعادن كلها. فأما ما كثر تخلخله فمن شأنه أن يعلو، لأن الهواء خلخله. وقد يشاهد ذلك إذا رمى شىء من الذهب وغيره فيغرق من ساعته؛ ويرمى بكل خشب متخلخل فلا يغرق. فليس من أجل الوزن غرق (الذهب) ولا من الثقل، ولكن غرق لأنه مصمت. فأما المتخلخل فلا يغرق بتة، ولذلك صار خشب الأبنوس وما قرب من شكله يغرف لأن التخلخل فيه يسير ولا يكون الهواء يشيله إلى العلو فيغرق، لأن أكثر أجزائه مصمتة. فأما الأدهان كلها والورق فتطفو فوق الماء كلها. وقد بينا ذلك، لأنا قد علمنا أن فى الدهن والورق رطوبة وحرارة، ومن شأن الرطوبة أن تلحق بأجزاء الماء، ومن شأن الحرارة أن تلحق بأجزاء الهواء، ومن شأن الماء أن يحملها إلى بسيطه، ومن شأن الهواء أن يعليها ولذلك صار بسيطاً لا يعلو عليه
الماء، لأن بسيط الماء كله واحد، فلذلك علا الدهن فوق الماء. وأما الحجارة التى تطفو فوق الماء فان الخلل الذى فيها أكثر من مقدار أجزائها، فيكون موضع الهواء أكثر من مقدار جرم الأرض، ومن شأن الماء أن يعلو فوق الأرض، ومن شأن الهواء أن يعلو فوق الماء، ومن شأن الحجارة التى هى من جنس الأرض أن ترسب فى الماء، ومن شأن الهواء الساكن فى الحجارة أن يتصاعد من الماء إلى العلو. فكل واحد منها يجذب صاحبه بخلاف طبع صاحبه؛ فان كانا متكافئين ثبت نصف الحجر فوق الماء ونصفه فى الماء. وإن كان الهواء أكثر، طفا الحجر فوق الماء، وكذلك جميع الأحجار تفعل. فأما الأحجار التى تتولد فى البحر عند اضطراب الموج، فان الموج إذا اضطرب بعضه ببعض اضطراباً شديداً كثر زبده وانعقد كاللبن، فاذا ضرب الموج الرمل جمع لزوجة الزبد ذلك الرمل، فاذا طال به الزمان على هذا تولدت منه الأحجار.
والدليل أيضاً على أن البحر على الرمل أن الأرضين كلها عذبة المذاق، فان وقف الماء امتنع الهواء وصير فى ذلك الموضع ماء محصوراً لم يصعده الهواء وغلبت عليها أجزاء الأرض فملحت التربة وجمدت أولا فأولا، فان الطين الحر فى الأنهار العذبة لسلولة الماء وللطافته، فاذا غلب على الماء يبس الأرض صار الماء من جنس الأرض أو قريباً من ذلك فكدس كل واحد منهما صاحبه ثم دام اليبس بدوام ثبات الأرض ووقوف الماء يفصل أجزاء الطين صغاراً صغاراً، فلذلك صارت تربة البحار كلها رملية وكذلك البرارى إذ ليس لها ستر من الشمس وهى بعيدة من الماء العذب ونشفت الشمس أجزاء الرطوبة العذبة وبقى ما كان من جنس الأرض. ولما دامت الشمس فى هذا الموضع وكان غير مستتر تفصل أجزاء الطين وكان منه الرمل. ويستدل على ذلك الموضع أيضاً أًنا
هو غير متكاثف، لأن التكاثف من جنس الأرض والتخلخل من جنس الهواء. ومن هنا صار الماء العذب فوق المياه كلها، وفهو أبعدها. وقد أعلمنا أن أبعد المياه من الأرض هو الماء الطبيعى. وقد تبين أن الماء العذب فوق المياه كلها، فيستدل على أنه الطبيعى اضطراراً، وكذلك كون الملح فى السباخ هو أن الماء العذب يكون مالحاً، تنشف ملوحة الأرض تلك الملوحة فيبقى الهواء منحصراً، فلا يكون لذلك الجرم الذى نشف عذوبته. وهكذا كون المياه لما يكون منها بالعرق.
وكذلك الحشائش والعقاقير إنما تتولد بالتركيب، لا بالطبع المبسوط مثل ملوحة ماء البحر وكون الرمال. لأن البخارات الصاعدة، إذا عقدت، أمكنت الحشائش ووقع الندى وخلخل الموضع فتألف منه على حسب قوى الكواكب أشكال ذلك الزرع. فأما المادة فواحدة، أعنى مادة الماء، وإن كان كثير اختلاف الأجناس، ولن يصعد من الماء إلا الماء العذب، وكذلك الماء المالح فى الوزن أكثر؛ وكذلك الشىء الصاعد من الماء ألطف من الماء. فاذا جذبه الهواء لطف وتصاعد إلى العلو، فمن هنا صارت العيون والأنهار فوق الجبال وصعد البلغم والدم إلى الدماغ، وكذلك الأغذيه كلها تتصاعد إلى العلو. وكذلك جميع المياه: فأما الماء المالح فيتصاعد عذباً 〈حيث〉 تنفتق الحرارة إلى جنس الهوائية. فلما كان الهواء فوق الماء، كان ما يتصاعد من الماء المالح عذباً. وقد نجد ذلك فى الحمام: وذلك أن الماء
المالح إذا أخذته السخونة لطفت أجزاؤه فصعد بخاراً على ضد ما كان فى أسفل الحمام فتفرقت أجزاء الملوحة بالرطوبة الطبيعية التى من جنس الهواء وتتابع البخار يتلو بعضه بعضاً فى العلو، فحصرته عند تناهيه حجاب الحمام، واجتمع وتكاثف ورجع إلى أسفل قطر الماء عذباً، وكذلك فى جميع الحمامات المالحة يكون بخارها عذباً.
وأما الحشائش التى تنبت فى الملح فليس يجب كونها لإفراط البرد واليبس. وذلك أن النبات يحتاج إلى شيئين أحدهما المواد له، والثانى الموضع الملائم لطبعه. فاذا كانت الخصلتان حاضرتين، وجب كون النبات. وقد نجد الثلج فى أقصى الطبائع خارجاً عن الاعتدال، وليس فى الإفراط إلا منع ما يجب كونه فى المكان المعتدل فلا يجب كون ما كان فى الثلج؛ وقد نرى النبات ظاهراً، ومن سائر الحيوان ولا سيما الدود (فانه يتولد فى الثلج)، والريباس وكل حشيشة مرة. فأما الثلج فلا يجب أن يكون فيه ذلك؛ ولكن علة كون الثلج. وذلك أن الثلج ينزل شبيهاً بالدخان فتجمده الريح ويضغطه الهواء، فيكون بين أجزائه تخلخل فيحقن الهواء ويحمى ويرشح من الماء ماء متعفن لما حصره من الهواء. فاذا كانت الحرارة شديدة الاتساع والشمس من علو الموضع خرق الهواء المستكنّ فى الثلج وكذلك المواضع الكثيرة الملوحة، وظهرت الملوحة المتعفنة، فانعقدت بحر
الشمس. فان كان الموضع مستتراً تولد فى الثلج الدود وبعض الحيوان؛ وإن كان غير مستتر تولد فيه النبات، وليس يكون له ورق لأنه بعد عن الاعتدال فجانس الأرض، وذلك أن الزهر والورق للحشائش الممتزجة 〈فى〉 المواضع المعتدلة فى الهواء والماء، فمن هناك قل ورق النبات والزهر الذى يعرض فى الثلج، وكذلك المواضع الكثيرة الملوحة والمواضع اليابسة لا يكاد يظهر فيها نبات لأن مواضعها تبعد عن الاعتدال وتقل التندية لبعد الحرارة والرطوبة اللتين هما خاصة الماء العذب. ولذلك صارت التربة العذبة والجبلية يسرع النبات فيها.
أما 〈فى〉 المواضع الحارة، لأن الماء فيها عذب والحرارة فيها يسيرة، فيقع الطبخ من جهتين: من فعل الموضع بالهواء المستكنّ فيه وطبخ الهواء مع حرارة الشمس فى ذلك الموضع. وأما الجبال فانها تجذب الرطوبات ويعينها صفو الهواء فيسرع الطبخ، ولذلك كان أكثر النبات فى الجبال. فأما البرارى فان الملوحة تغلب هناك، كما أعلمنا آنفاً، فيبقى بين أجزاء الرمل تخلخل وهو شبيه بعضه ببعض، ولا يكون للشمس من القوة ما يثبت أصول كون النبات، ولا تكون فى البرارى عقاقير خاصية، بل يشبه بعضها بعضاً.
٤
فأما النبات الذى يعرض على وجه الماء فانه يكون مع غلظ الماء، وذلك أن البخار إذا لامس الماء ولم يكن للماء جرية، تحرك الماء فصار عليه شبيه بالسحابة وحصره بستر فتعفنت تلك الرطوبة وجذبتها الحرارة وانبسطت على وجه الماء وليس لها أصل، لأن الأصول تكون فى المواضع الجاسية من الأرض والماء متفرق الأجزاء منبسط، فجذبت الحرارة تلك العفونة المتولدة على وجه الماء، فمن هناك لم يكن له أيضاً ورق لبعده عن الاعتدال ولم تكن
الكبريتية فان الريح إذا حاكت الزرنخ، اضطربت وانحقن الهواء الذى فيه فيسخن الموضع فيكون منه النار، ثم يتولد مما فى الزرنيخ ما رشح من ثقل الهواء فتجذبه النار مع عفونة ذلك الزرنيخ فيكون منه النبات، ولا يكاد يكون كثير الورق، كما أعلمنا لبعده من الاعتدال.
وأما غذاء الحيوان من النبات فانه يكون فى المواضع الحارة اللينه العالية، ولا سيما فى الإقليم الرابع والثالث، وما قرب من الغذاء فى المواضع العالية الباردة. ولذلك تكثر العقاقير فى المواضع الباردة العالية بجذب الرطوبات واعتدال حر الشمس فى أيام الربيع. وكذلك الطين الحر يسرع فيه النبات الدهنى لاحتقأنه ورطوبته فى الماء العذب، كما أعلمنا بذلك آنفاً.
٥
فأما النبات الذى يكون فوف الصخر المصمت فانه يعرض فى الزمان الطويل، وذلك أن الهواء المنحصر فيه يطلب العلو، فاذا لم يجد السبيل لقوة الحجر تراجع ذلك الهواء وحمى وجذب الرطوبة الفاضلة فى الحجر إلى العلو، فخرج البخار مع تلك الرطوبة مع زوايا صغار من الحجر، فلما باين الحجر عقده وأعانته الشمس على طبخه فكان منه النبات، ولا يكاد يعلو إلا أن يقرب من تراب أو رطوبة. فأما باقى النبات فيحتاج إلى التراب والماء والهواء. وننظر إلى النبات: فان كان فى أدنى شمس، فانه يسرع، وإن كان إلى الغرب فأنه يبطىء. والنبات إذ غلبت عليه المياه احتقن الهواء فلم يصعد شيئاً فلا يتغذى النبات. وكذلك اليبس إذا غلب صرف الحرارة الغريزية فى الأطراف وحصر المواضع السالكة فيها المياه، فلا يتغذى النبات.
٦
أما النبات كله فيحتاج إلى أربعة أشياء (وكذلك الحيوان يحتاج): إلى
بحرارتها المعتدلة، فينشأ هذا النبات مثل الخيوط ويمتد على ذلك النبات، وهذا خاصة فى النبات الكثير الشوك مثل الكشوث وأشباهه.
فأما جميع الحشائش كلها وجميع ما ينبت على الأرض وفى الأرض فأقسامها خمسة: أحدها بالبزور، والثانى من المتعفن، والثالث من رطوبة الماء، والرابع غرس، والخامس ينشأ على عقار آخر. وهذه الخمسة أصول للنبات.
٧
وحمل جميع الأشجار على ثلاثة: إما أن يكون حمله قبل ورقه، وإما أن يكون حمله مع ورقه، وإما أن يكون حمله بعد ورقه. ومن النبات ما لا حمل له ولا ورق، ومن النبات ما يطلع حسناً لا حمل فيه ولا ورق كالساج والخيزران. وسأبين هذه الثلاثة أفاعيل: أما الذى يطلع ثمره قبل ورقه فانه كثير اللزوجة، فاذا طبخت بالحرارة التى فى طبيعة النبات أسرع النضج وامتد وعلا فى أغصان النبات ومنع الرطوبة أن تصعد منه فيسبق ثمره ورقه. وكذلك فى النبات الذى يطلع ورقه قبل ثمره. فأفعال الرطوبات تكون فى ذلك النبات كثيرة. فاذا أخذت الحرارة وتفرقت أجزاء الماء إلى العلو جذبت الشمس أجزاء تلك الرطوبة وأبطأ النضج، لأن طبخ الثمرة لا يكون إلا عند انعقاده فيسبق الورق الثمر. فأما النبات الذى يكون ورقه مع ثمره فان ذلك النبات كثير الرطوبة، وقد تعرض له اللزوجة، فاذا طبخته الحرارة تعلى
عن ذلك مع تلك اللزوجة وجذبه الهواء مع الشمس فخرجت اللزوجة ثمراً أو خرجت الرطوبة ورقاً فى حالة واحدة. وقد زعم حكماء الأولين أن الورق كله ثمر، إلا أن الرطوبة كثرة فلم ينضج وبنعقد لظهور الحرارة إلى العلو وسرعة جذب الشمس فاستحالت الرطوبة التى لم تنضج ولم يعمل فيها الطبخ — ورقاً؛ وليس للورق معنى أكثر من جذب المواد وستر الثمر عن إفراط الشمس، ولذلك يجب أن يكون الورق ثمراً، إلا أن الرطوبة تغلب عليه، كما أوضحنا، فيستحيل ورقاً. وكذلك الحكم فى الأزهار: فقد تعدم الحمل لأن الطبيعة إذا طبخت تراقى من اللطيف الأدنى شىء لم ينضج فتكون تلك الرطوبة ورقاً، ويكون ذلك الطبخ زهراً، فاذا نضج الطبخ نشأ الثمر وخرج إلى غاية المادة على سبيل الموضع الذى هو فيه.
فأما الشوك فليس هو من جنس النبات فى الطبيعة، ولكن يكون فى النبات تخلخل ويكون فى الابتداء طبخ فتصعد البرودة والرطوبة ومعها شىء من طبخ، فتسلك فى ذلك التخلخل فتجذبه فى شمس فيكون من ذلك الشوك، ولذلك يكون شكله مخروطاً لأن الجذب أولاً فأولاً يبتدىء رقيقاً، ويغلظ أولاً فأولاً، لأن الهواء إذا تباعد النبات فيه لطفت أجزاؤه عند امتداد المواد. وكذلك كل نبت أو شجرة يكون طرفه مخروطاً.
٨
فأما الخضرة فوق النبات فقد ينبغى أن تكون أعم ما فى الشجرة الخضرة، وقد نرى أعم ذلك البياض، والخضرة من خارج، وذلك أن المواد تستعمل
الأقرب فالأقرب، فيجب أن تكون الخضرة فى الشجرة كلها، وهذا كان يجب لأن المواد تجذب فيتخلخل عود الشجرة فيرشح بالحرارة طبيخ يسير فتبقى هناك الرطوبة، فتظهر من ظاهر، فتكون الخضرة. وذلك فى الورق، إلا أنه أكثر طبخاً، وهو ما بين الورق والخشب فى القوة. فأما الخضرة فليست تلبث ولكنها رطوبة فيها شىء من جنس الأرض فيتولد منها اللون الأخضر؛ والدليل على ذلك أن قشور الشجر عند اليبس تسودً، وهن فى المواد بيض، فيتولد فيما بين اللونين اللون الأخضر فى ظاهر النبات.
فأما أشكال النبات فعلى ثلاث جهات: منه ما يخرج إلى العلو، ومنه ما يخرج إلى أسفل، ومنه ما يخرج بين هاتين الجهتين. فأما ما يسلك إلى العلو فان المادة تظهر من لب النبات فتجذبه الحرارة ويضغطه الهواء الذى فيما بين التخلخل، 〈وينخرط〉 كما تنخرط النار عند المواد، فيعلو. فأما إذا كان إلى السفل فان المجارى تطبق، فاذا انطبخت المادة ثخن الماء الذى فيه لب النبات فخرج لطيفه إلى العلو وتراجع الباقى فى الجهات وأخذ نحو السفل بثةله. فأما ما كان بين الجهتين، فان الرطوبة تلطف والمادة تقرب من الاعتدال فى الطبخ وتكون المجارى متوسطة فتأخذ المواد إلى العلو والسفل الطبخ الأول فى أسفل النبات الباطن فى الأرض، والطبخ الثانى فى اللب الخارج عن الأرض الذى هو فى وسط النبات، ثم تظهر المواد فتقسم ولا تنطبخ طبخاً ثالثاً، لأن الطبخ الثالث فى الحبوان انما وجب [الطبخ الثالث] لاختلاف الأعضاء وتباعد طبائعها. فأما النبات فقريب بعضه من بعض، ولذلك كثر فى جميع المواضع، وأكثر النبات ما كان إلى أسفل سلوك مواده. — فأما أشكال النبات فعلى مقدار البزور؛ وأما زهر النبات وثمره فللمياه والمواد. وجعل الحركة الأولى النضج والطبخ فى جميع الحيوان المغتذية
والنافخة والقابضة، وهذه تكون فى جميع الحيوان لا يخلو منه؛ فأما النبات فان الطبخ الأول والنضج على حسب التربة. فأما الشجر كله فيعلو أبداً 〈حتى يتم نموه ثم يموت. والسبب فى هذا أن الطول فى الحيوان مثل العرض، أما فى النبات فليس الأمر كذلك لأن الماء والنار، اللذين منهما يتركب، يعلوان بسرعة ولهذا ينمو النبات. والاختلاف فى فروع النبات يرجع إلى إفراط التخلخل، فاذا انحصرت الرطوبة فيه تعمل الطبيعة على جعله حاراً وتعجل بالطبخ، فتتكون الأعضاء وتظهر الأوراق، كما قلنا.
٩
〈وسقوط الأوراق من الأشجار يرجع إلى الميل إلى السقوط الناشىء عن سرعة تكون التخلخل. فاذا أخذت الرطوبة مع الغذاء اتخذت صورة هرمية فاتسعت المجارى الداخلية ثم تضيق من بعد؛ فاذا ظهر أن الغذاء طبخ، أغلق المجارى، فلا يكون للأوراق غذاء، فتجف. فاذا حدث عكس هذا، كما قلنا، لم تسقط الأوراق من الأشجار. وإذا غلبت البرودة على النبات أثرت فى لونه بسبب إفراز الحرارة فى داخل النبات ووجود البرودة فى الخارج عند الأطراف؛ فتصبح الأوراق زرقاء داكنة ولا تسقط، كما فى الزيتون والآس وما شابههما. وإذا حدث من النبات أو الشجر جذب شديد، نتج الثمر مرةً فى العام؛ وإذا لم يكن منه جذب، أحدثت الطبيعة الطبخ فى مرات متواليات، وفى كل طبخ ينتج ثمر، ولهذا كان بعض النبات يحمل ثمراً مرات عديدة فى العام. وما كان من النبات طبعه كالماء لا يكاد يحمل ثمراً إلا بصعوبة، لغلبة الرطوبة عليه واتساع مجاريه وميل جذوره إلى السقوط؛ وإذا غلبت الحرارة، كان الطبخ أسرع وتخلخل بسبب الماء ولم يتجمد؛ وهذه حال جميع الأعشاب وفى بعض البقول.
〈ويحدث اللون الأغبر إذا كانت التربة شديدة الحرارة: إذا فيها تقل الرطوبة وتضيق المجارى، فاذا أرادت الطبيعة إحداث الطبخ لم تجد رطوبة تكفى الغذاء فتضيق المجارى. لهذا تنعكس عملية الطبخ وتجعلها الحرارة تستمر، فيظهر
على النبات لون بين الأبيض والأسود. فاذا حدث هذا، كان عنه خشب أسود أو شىء يشبه الأبيض والأبنوس، أعنى واحداً من مجموع الألوان ابتداءً من لون الأبنوس حتى لون الدردار؛ ومثل هذا الخشب يغوص فى الماء لأن جزئياته متكاثفة ومجاريه ضيقة، لا يدخلها هواء. فاذا غاص الخشب الأبيض فالسبب فى هذا ضيق المجارى ووجود الرطوبة الزائدة التى تسد المجارى بحيث لا يدخل الهواء؛ ولهذا يغوص. وكل زهرة تتركب من مادة متخلخلة حينما يبدأ الطبخ؛ ولهذا فان الزهر يسبق الثمر عادةً فى النبات وقد بينا من قبل لماذا يطلع النبات ورقه قبل ثمره. وفى النبات ذى الأجزاء الرقيقة يكون لون الزهر شبيهاً بالأزرق اللامع؛ وإذا لم تكن الأجزاء متكاثفة، تميل إلى البياض؛ وفى حالة بين بين يكون اللون أزرق داكناً. وخلو بعض النبات من الأزهار يرجع عادة إلى تنوع أجزائه وتخلخله أو خشونته أو غلظه. ولهذا لم يكن فى النخيل وما أشبهه أزهار.
〈والنبات الغليظ اللحاء ينمو ويزداد بفضل ضغط الرطوبة وقوة الحرارة؛ وهذا أمر نراه فى الصنوبر والنخيل. والنبات الذى يعطى عصيراً لبنياً يكون هذا العصير فى داخله؛ إذ تكون فى داخله حرارة شديدة وتكون فيه مادة دهنية. فاذا بدأت الحرارة فى إحداث الطبخ، تحولت المادة الدهنية إلى رطوبة، وجمدتها الحرارة شيئاً يسيراً، وتحدث حرارة موضعية، فينشأ سائل دهنى شبيه باللبن، ويصعد البخار من الرطوبة التى تجذب المادة اللبنية إلى أطراف النبات، وتحتفظ الرطوبة بالحرارة التى تظهر. ولا تتجمد المادة اللبنية، لأن وظيفة الحرارة أن تجمدها. فاذا ظهر فى المادة اللبنية تجمد كبير، فمرجع ذلك يكون إلى وجود البرودة فى النبات. وتتجمد المسادة اللبنية إذا تركت وضعها الأصلى فى الشجرة، وعن هذا يكون الصمغ. والصمغ يفرز حاراً من الشجر بالتقطير، فاذا اتصل بالهواء جمد. وبعض الصمغ يسيل فى المناطق المعتدلة، ويكون قوامه كالماء؛ وبعضه الآخر يسيل ثم يصبح جامداً كالحجر أو المحار. والصمغ الذى يتساقط قطرة فقطرةً يحتفظ بشكله، مثلما يحدث فى الشجر المعروف باسم Aletafur. والصمغ الذى يتحول إلى مادة حجرية يكون بارداً
جداً أول سيلانه، وإفرازه يكون بسبب الحرارة، فاذا سال تحجر؛ وهذا يحدث فى التربة الحارة جداً. وبعض الأشجار تتغير فى الشتاء، فتصبح مرة خضراء ومرة زرقاء داكنة، ولا تسقط أوراقها ولا ثمارها؛ لأن الأشجار التى يقع فيها هذا تحوى كمية كبيرة من الحرارة والماء المتخلخل فى مجاريها السفلى. فكلما مضى العام احتفظ هذا الماء بحرارته بسبب برودة الجو؛ ولأن الحرارة تستحيل إلى برودة، تطرد الرطوبة معها، وتصبغها الرطوبة بلون الحرارة الطبيعى، ولهذا يبدو اللون فى مظهر الشجرة. ويستحيل البارد والحار إلى فعل، وتحتفظ الرطوبة بالحار ولهذا يظهر لون آخر.
١٠
〈ومرارة الثمر تنشأ عن كون الحرارة والرطوبة لم تتما عملية الطبخ (فالبرد والجفاف يمنعان من إتمام هذه العملية)، فيصبح الثمر مراً. ويتضح هذا من كون ما هو مر إذا وضع على النار أصبح حلواً. والأشجار التى تنمو فى المياه المرة تحمل ثمراً حلواً، لأن الملوحة بمعونة حرارة الشمس تجذب ما هو من صفتها، أى البرودة والجفاف، فتظهر السوائل الحلوة فى داخل الشجرة، ويصبح قلب الشجرة حاراً حينما تشرق الشمس عليه باستمرار، وبعد هذا يصبح طعم الثمرة مراً، فاذا تم الطبخ انحلت المرارة تدريجياً حتى تختفى، وهنالك تظهر الحلاوة. وتبعاً لهذا تصير الثمرة حلوة، بينما الأوراق وأطراف الشجرة تكون حامضة. فاذا تم الطبخ، صارت الثمرة مرة: وهذا راجع إلى إفراط الحرارة وقلة الرطوبة. ثم تزول الرطوبة، وترفع الثمرة الحرارة، ولهذا تصبح الثمرة مرة، والأحجار فى الثمرة تكون هرمية الشكل بسبب جذب الحرارة إلى أعلى وجذب البرودة إلى أسفل
وكذلك الرطوبة التى من طبيعة الماء المر؛ وتبقى الرطوبة فى جذع الشجرة الذى يغلظ بينما تدق أطرافها. وإذا غرست الأشجار فى أرض معتدلة تسرع فى الطبخ قبل زمان الربيع، وذلك لأنه إذا كانت الحرارة معتدلة والرطوبة قد ظهرت والجو صحواً، فان الثمرة لا تحتاج إلى حرارة كثيرة خلال عملية الطبخ. ولهذا فان الطبخ يتم سريعاً ويقع قبل أيام الربيع. ومرارة الطعم أو غلظه تغلب فى الأشجار كلها بدء غرسها. والسبب فى هذا أنه حينما تكون الرطوبة فى أطرافها ويحدث الطبخ فى الأجزاء الموجودة فى وسط الشجرة التى منها تأتى مادة الثمرة، ينشأ الجفاف ويتلو الرطوبة، ويكون الطبخ الأول حامضاً أو مراً أو عفصاً. والسبب هو أن الطبخ يقع بالحرارة والرطوبة، فاذا غلبت الرطوبة أو الجفاف على الحرارة، تكون الثمرة الناتجة على هذا النحو قد نضجت نضجاً تاماً، ولهذا يكون نتاج الثمر فى الأول عديم الحلاوة.
أما〉 الاهليلج فانه يكون فى ابتداء كونه عند ظهور الثمر حلواً، ثم يكون عفصاً، ثم يكون فى تمامه مراً. وذلك أن شجره متخلخل جداً،
فاذا كان فى وقت الطبخ وكانت المجارى واسعة سبقت الحرارة والرطوبة فأنضجت الثمر؛ فكان فى ابتدائه حلواً. ثم أحدثت الحرارة اليبس الذى من شكلها فضيقت المجارى فغلبت البرودة واليبس 〈الحرارة〉 والرطوبة؛ فاستحال الثمر عفصاً. وغلبت الشمس بالحرارة فأحدثت اليبس المفرط مع ذلك البرد الذى فى ظاهر الشجر فغلبت العفوصة. ثم انجذبت الحرارة الغريزية إلى العلو وأعانتها حرارة الشمس من خارج، بغلبة الحزارة واليبس، فكان الثمر مراً. والله أعلم بالصواب.
تمت المقالة الثانية من كتاب «النبات» لأرسطوطاليس وبتمامها تم الكتاب والحمد لله رب العالمين