ps-Aristotle: Liber de causis (Discourse on the Pure Good)
Work
ps-Aristotle, Liber de causis
(Kalām fī maḥḍ al-ḫayr)
English: Discourse on the Pure Good
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ibn al-Biṭrīq?
Translated from: Greek
Date:
between 810 and 830
Source
ʿAbd al-Raḥmān Badawī. al-Aflāṭūnīyah al-muḥdaṯah ʿind al-ʿarab. Dirāsāt islāmīyah 19. Cairo (Maktabat al-nahḍah al-miṣrīyah) 1955, 3-33
Download
psarist_decausis-transl-ar1.xml [70.23 KB]
بسم اللّه الرحمن الرحيم وما توفيقي إلّا باللّه
كتاب الإيضاح لأرسطوطاليس في الخير المحض
— ١ —
قال: كلّ علّة أوليّة فهي أكثر فيضاً على معلولها من العلّة الكلّيّة الثانية. فإذا رفعت 〈العلّة〉 الكلّيّة الثانية قوّتها عن الشيء، فإنّ العلّة الكلّيّة الأولى لا ترفع قوّتها عنه، وذلك أنّ 〈العلّة〉 الكلّيّة الأولى تفعل في معلول العلّة الثانية قبل أن تفعل فيه العلّة الكلّيّة الثانية التي تليه. فإذا فعلت العلّة الثانية التي تلي المعلول لم يستغن فعلها عن العلّة الأولى التي فوقها. وإذا فارقت 〈العلّة〉 الثانية المعلول الذي يليها لم تفارقه العلّة الأولى التي فوقها، لأنّها علّة لعلّته. فالعلّة الأولى إذن أشدّ علّة للشيء من علّته القريبة التي تليه.
ونحن ممثّلون ذلك بالأنّيّة والحيّ والإنسان، وذلك أنّه ينبغي أن يكون للشيء أنّيّة أوّلاً ثمّ 〈يكون〉 حيّاً ثمّ إنساناً. «فالحيّ» هو علّة الإنسان القريبة، و«الأنّيّة» هي علّته البعيدة: «فالأنّيّة» أشدّ علّة للإنسان من «الحيّ»، لأنّها علّة للـ«ـحيّ» الذي هو علّة للإنسان. وكذلك إذا جعلت النطق علّة للإنسان، كانت الأنّيّة أشدّ علّة للإنسان من النطق لأنّها علّة لعلّته. والدليل على ذلك 〈أنّه〉 إذا رفعت «القوّة الناطقة» عن الإنسان لم يبق إنساناً وبقي حيّاً متنفّاً حسّاساً؛ وإذا رفعت عنه «الحيّ»
لم يبق حيّاً ويبقى أنّيّاً، لأنّ الأنّيّة لا ترتفع عنه، ويرتفع «الحيّ» لأنّ العلّة لا ترتفع بارتفاع معلولها؛ فيبقى الإنسان أنّيّاً: فإذا لم يكن الشخص إنساناً كان حيواناً، وإن لم يكن حيواناً كان أنّيّاً فقط.
فقد بان ووضح أنّ العلّة الأولى البعيدة أكثر إحاطة وأشدّ علّة للشيء من علّته القريبة. من أجل ذلك صار فعلها أشدّ لزوماً للشيء من فعل علّته القريبة. وإنّما صار هذا على هذا لأنّ الشيء إنّما ينفعل أوّلاً من القوّة البعيدة، ثمّ ينفعل ثانياً من القوّة التي هي دون الأولى، والعلّة 〈الأولى〉 قد تعين العلّة الثانية على فعلها، لأنّ كلّ معلول علّة تفعله العلّة الثانية والعلّة الأولى أيضاً لكنّها تفعله بنوع آخر أعلى وأرفع. وإذا رفعت العلّة الثانية 〈عن〉 معلولها لم تفارقه العلّة الأولى، لأنّ فعل العلّة الأولى أعظم وأشدّ لزوماً للشيء من فعل علّته القريبة. وإنّما ثبت معلول العلّة الثانية بقوّة العلّة الأولى، وذلك أنّ العلّة الثانية إذا فعلت شيئاً أفاضت العلّة الأولى التي فوقها 〈على ذلك الشيء من قوّتها، فتلزمه〉 لزوماً شديداً وتحفظه.
فقد بان ووضح أنّ العلّة الأولى هي أشدّ علّة للشيء من علّته القريبة التي تليه، وأنّها تفيض قوّتها عليه وتحفظه، ولا تفارقه مفارقة علّته القريبة، وقد تبقى فيه وتلزمه لزوماً شديداً على ما بيّنّا وأوضحنا.
٢ — باب آخر
كل أنّيّة بحقّ إمّا تكون أعلى من الدهر وقبله، وإمّا مع الدهر، وإمّا بعد
الدهر وفوق الزمان. أمّا الأنّيّة التي قبل الدهر فهي العلّة الأولى لأنّها علّة له؛ وأمّا 〈الأنّيّة〉 التي مع الدهر فهي العقل، لأنّه الأنّيّة الثانية؛ وأمّا الأنّيّة التي بعد الدهر وفوق الزمان فهي النفس، لأنّها في أفق الدهر سفلاً وفوق الزمان. — والدليل على أنّ العلّة الأولى قبل الدهر بيّن، وذلك أنّ الأنّيّة فيه مستفادة؛ ونقول: كلّ دهر أنّيّة، وليس كلّ أنّيّة دهراً — فالأنّيّة أكثر 〈سعة〉 من الدهر. والعلّة الأولى فوق الدهر، لأنّ الدهر معلول منها، والعقل يحاذي الدهر، لأنّه ممتدّ معه ولا يتغيّر ولا يستحيل. والنفس لاصقة مع الدهر سفلاً، لأنّها أسفل تأثيراً من العقل، ومن فوق الزمان لأنّها علّة الزمان.
٣ — باب آخر
كلّ نفس شريفة فهي ذات ثلاثة أفاعيل: فعل نفسانيّ، وفعل عقليّ، وفعل إلاهيّ. فأمّا الفعل الإلاهيّ فإنّها تدبّر الطبيعة بالقوّة التي فيها من العلّة الأولى. وأمّا فعلها العقليّ فإنّها تعلم الأشياء بقوّة العقل التي فيها. وأمّا الفعل النفسانيّ فإنّها تحرّك الجرم الأوّل وجميع الأجرام الطبيعيّة لأنّها هي علّة حركة الأجرام وفعل الطبيعة. وإنّما فعلت النفس هذه الأفاعيل لأنّها مثال من القوّة العالية، وذلك أنّ العلّة الأولى أبدعت أنّيّة النفس بتوسّط العقل، ولذلك صارت النفس تفعل فعلاً إلاهيّاً. فلمّا أبدعت العلّة الأولى أنّيّة النفس صيّرتها كسياق العقل يفعل العقل فيها أفاعيله، فلذلك صارت النفس العقليّة تفعل فعلاً عقليّاً.
فلمّا قبلت النفس تأثير العقل صارت أدنى فعلاً منه في تأثيرها فيما تحتها، وذلك لأنّها لا تؤثّر في الأشياء إلّا بحركة، أعني أنّه لا يقبل ما تحتها فعلها إلّا أن تحرّكه؛ فلهذه العلّة صارت النفس تحرّك الأجرام، فإنّ من خاصّة النفس أن تحيى الأجسام إذا فاضت عليها قوّتها وتسدّدها أيضاً إلى فعل الصواب.
فقد وضح الآن أنّ النفس ذات أفاعيل ثلاثة، لأنّها ذات قوى ثلاثة: قوّة إلاهيّة، وقوّة عقليّة، وقوة ذاتيّة — على ما وصفنا وبيّنّا.
٤ — باب آخر
إنّ أوّل الأشياء المبتدعة الأنّيّة، وليس من ورائها مبتدع آخر، وذلك أنّ الأنّيّة فوق الحسّ وفوق النفس وفوق العقل. وليس بعد العلّة الأولى أوسع ولا أكثر معلولات منها، ولذلك صارت أعلى الأشياء المبتدعة كلّها وأشدّها اتّحاداً. وإنّما صارت كذلك لقربها من الأنّيّة المحضة الواحد الحقّ الذي ليس فيه كثرة الجهات. والأنّيّة المبتدعة — وإن كانت واحدة — فإنّها تتكثّر أعني أنّها تقبل الكثير؛ وإنّما صارت كثيرة لأنّها، وإن كانت بسيطة ليس في المبتدعات أبسط منها، فإنّها مركّبة من نهاية ولا نهاية؛ وذلك أنّ كلّ ما كان منها يلي العلّة الأولى فهو عقل تامّ كامل غاية في القوّة، وسائر الفضائل والصور العقليّة فيه أوسع وأشدّ كلّيّة، والأسفل منه فهو عقل أيضاً، إلّا أنّه دون ذلك العقل في التمام والقوّة والفضائل. وليست الصور
العقليّة فيه أوسع كسعتها في ذلك العقل. والأنّيّة المبتدعة الأولى عقل كلّها، إلّا أنّ العقل فيها يختلف بالنوع الذي ذكرنا، فلمّا اختلف العقل، صار هناك صور عقليّة مختلفة. وكما أنّ الصورة الواحدة إذا اختلفت في العالم السفليّ حدث منها أشخاص لا نهاية لها في الكثرة — كذلك الأنّيّة الأولى المبتدعة: لمّا اختلفت ظهرت الصور التي لا نهاية لها، إلّا أنّها وإن اختلفت فإنّها لا يتباين بعضها من بعض كمباينة الأشخاص، وذلك أنّها تتّحد من غير تفاسد، وتتفرّق من غير تباين، لأنّها واحد ذات كثرة وكثرة واحدانيّة.
والعقول الأول تفيض على العقول الثواني الفضائل التي تنال من العلّة الأولى، 〈و〉تنسلك الفضائل فيها إلى أن تبلغ آخرها. والعقول العالية الأول التي تلي العلّة الأولى تؤثّر الصور الثابتة القائمة التي لا تدثر فلا تحتاج إلى إعادتها مرّة أخرى. وأمّا العقول الثواني 〈فتؤثّر الصور المائلة الزائلة كالنفس فإنّها من تأثير العقول الثواني〉 التي تلي الأنّيّة المبتدعة سفلاً. وإنّما كثرت الأنفس بالنوع بالذي به تكثّرت العقول، وذلك أنّ أنّيّة النفس أيضاً ذات نهاية؛ وما كان منها سفلاً فغير متناهٍ. فالأنفس التي تلي العقل تامّة
كاملة [قليلة الميل والزوال]. والأنفس التي تلي 〈الأنّيّة〉 سفلاً هي في التمام والميلان دون 〈الأنفس〉 العالية. والأنفس العالية تفيض بالفضائل، التي تقبل من العقل، على الأنفس 〈السفليّة〉. وكلّ نفس تقبل من العقل قوّة أكثر فهي على التأثير أقوى، ويكون المؤثّر فيها ثابتاً باقياً، وتكون حركته حركة مستديرة متّصلة. وما كان منها قوّة العقل فيه أقلّ، يكون في التأثير دون الأنفس الأول، ويكون المؤثّر منها ضعيفاً مستحيلاً داثراً. إلّا أنّه، وإن كان كذلك، فإنّه يدوم بالكون.
فقد استبان لم صارت الصور العقليّة كثيرة، وإنّما هي أنّيّة واحدة مبسوطة، ولم صارت الأنفس كثيرة، بعضها أقوى من بعض، وأنّيّتها واحدة مبسوطة لا خلاف فيها.
٥ — باب آخر
إنّ العلّة الأولى أعلى من الصفة. وإنّما عجزت الألسن عن صفتها من أجل وصف أنّيّتها لأنّها فوق كلّ علّة واحدة. وإنّما وصفت العلل الثواني التي استنارت من نور العلّة الأولى، وذلك أنّ العلّة التي تنير أوّلاً تنير معلولها، وهي لا تستنير من نور آخر
لأنّها هي النور المحض الذي ليس فوقه نور. فمن ذلك صار الأوّل وحده يفوت الصفة. وإنّما كان كذلك لأنّه ليس فوقه علّة يعرّف بها. وكلّ شيء إنّما يعرّف ويوصف من تلقاء علّته. فإذا كان الشيء علّة فقط وليس بمعلول، لم يعلم بعلّة أولى ولا يوصف لأنّه أعلى من الصفات؛ وليس يبلغه المنطق، وذلك أنّ الصفة إنّما تكون بالمنطق، والمنطق بالعقل، والعقل بالفكر، والفكر بالوهم، والوهم بالحواسّ — والعلّة الأولى فوق الأشياء كلّها لأنّها علّة لها، فلذلك صارت لا تقع تحت الحسّ والوهم والفكر والعقل والمنطق؛ فليست إذاً بموصوفة.
وأقول أيضاً: إنّ الشيء إمّا أن يكون محسوساً فيقع تحت الحواسّ؛ وإمّا أن يكون متوهّماً فيقع تحت الوهم؛ وإمّا أن يكون ثابتاً قائماً على حال واحدة لا يتغيّر فيكون معقولاً؛ وإمّا أن يكون متغيّراً داثراً واقعاً تحت الكون والفساد فيكون واقعاً تحت الفكرة. والعلّة الأولى فوق الأشياء العقليّة الدائمة، وفوق الأشياء الداثرة ولذلك لا تقع عليها الحواسّ ولا الوهم ولا الفكرة ولا العقل؛ وإنّما يستدلّ عليها من العلّة الثانية وهي العقل. وإنّما تسمّى باسم معلولها 〈الأوّل〉 بنوع أرفع وأفضل، لأنّ الذي للمعلول هو للعلّة أيضاً إلّا أنّه بنوع أرفع وأفضل وأكرم، كما بيّنّا.
٦ — باب آخر
العقل جوهر لا يتجزّأ. وذلك أنّه إن كان ليس بعظم ولا بجسم ولا يتحرّك — فلا محالة أنّه لا يتجزّأ. وأيضاً فإنّ كلّ متجزّئ إمّا أن يتجزّأ بالكثرة، وإمّا في العظم،
وإمّا في حركته؛ فإذا كان الشيء على هذه الحال، كان تحت الزمان، لأنّه إنّما يقبل التجزئة في زمان. وليس العقل داخلاً تحت الزمان، بل هو مع الدهر، فلذلك صار أرفع وأعلى من كلّ جسم وكلّ كثرة. فإن ألفيت فيه كثرة فإنّما تلفى فيه موحّدة كأنّها شيء واحد. فإذا كان العقل على هذه الصفة لم يقبل التجزئة البتّة. والدليل على ذلك رجوعه إلى ذاته، أعني أنّه لا يميّز مع الشيء المميّز، فيكون أحد طرفيه نابياً من الآخر. وذلك أنّه إذا أراد علم الشيء الجسمانيّ الممتدّ امتدّ معه وهو ثابت قائم على حاله لأنّها صورة لا يضيق عنها شيء، وليست الأجرام كذلك.
والدليل أيضاً على أنّ العقل ليس بجرم ولا يتجزّأ — جوهره وفعله: فإنّهما شيء واحد. والعقل كثير من تلقاء الفضائل الآتية إليه من العلّة الأولى. وهو، وإن تكثر بهذا النوع، فإنّه ما قرب من الواحد صار واحداً لا ينقسم. والعقل لا يقبل التقسيم لأنّه أوّل مبدع أبدع من العلّة الأولى: فالوحدانيّة أولى به من الانقسام.
فقد صحّ أنّ العقل جوهر، ليس بعظم ولا جسم، ولا يتحرّك بنوع من أنواع الحركة الجسمانيّة. ولذلك صار فوق الزمان، كما بيّنّا.
٧ — باب آخر
كلّ عقل يعلم ما فوقه وما تحته. إلّا أنّه يعلم ما تحته بأنّه علّة له، ويعلم ما فوقه لأنّه يستفيد منه الفضائل. والعقل جوهر عقليّ. فعلى نحو جوهره يعلم الأشياء التي يستفيدها من
فوق، والأشياء التي هو لها علّة: فهو مميّز ما فوقه وما تحته، ويعلم أنّ ما فوقه علّة له، وما تحته معلول منه. ويعرف علّته ومعلوله بالنوع الذي هو عليه، أعني بنوع جوهره. وكذلك كلّ عالم: إنّما يعلم الشيء الأفضل والشيء الأدنى الأرذل على نحو جوهره وذاته، لا على نحو ما عليه الأشياء. فإن كان هذا هكذا، فلا محالة إذن أنّ الفضائل التي تتنزّل على العقل من العلّة الأولى تكون فيه عقليّة، 〈وكذلك الأشياء الجسمانيّة المحسوسة تكون في العقل عقليّة〉. وذلك أنّ الأشياء التي في العقل ليست الآثار بعينها، بل هي علل الآثار. والدليل على ذلك أنّ العقل بعينه علّة الأشياء التي تحته بأنّه عقل فقط. فإذا كان العقل علّة الأشياء بأنّه عقل، فلا محالة أنّ علل الأشياء في العقل عقليّة أيضاً.
فقد استبان أنّ الأشياء فوق العقل وتحته قوّة عقليّة لأنّه علّة لها. وكذلك الأشياء الجسمانيّة مع العقل عقليّة، والأشياء العقليّة في العقل عقليّة، لأنّه علّة لعلّتها، ولأنّه إنّما يدرك الأشياء بنوع جوهره: وهو أنّه عقل — فيدرك الأشياء إدراكاً عقليّاً — عقليّة كانت الأشياء أم جسمانيّة.
٨ — باب آخر
كلّ عقل إنّما ثباته وقوامه في الخير المحض، وهي العلّة الأولى. وقوّة العقل أشدّ وحدانيّة من الأشياء الثواني التي بعده لأنّها لا تنال معرفته. وإنّما صار كذلك لأنّه علّة لما تحته. والدليل على ذلك ما نحن ذاكرون: أنّ العقل مدبّر لجميع الأشياء التي تحته بالقوّة الإلاهيّة التي فيه، وبها يمسك الأشياء لأنّه بها كان علّة الأشياء. وهو يمسك
جميع الأشياء التي تحته ويحيط بها، وذلك أنّ كلّ ما كان أوّلاً للأشياء وعلّة لها فهو ماسك لتلك الأشياء ومدبّر لها ولا يفوته منها شيء من أجل قوّته العالية.
فالعقل إذن رئيس جميع الأشياء التي تحته وممسكها ومدبّرها، كما أنّ الطبيعة تدبّر الأشياء التي تحتها بقوّة العقل؛ وكذلك العقل يدبّر الطبيعة بالقوّة الإلاهيّة. وإنّما صار العقل يمسك الأشياء التي بعده ويدبّر لها وتعلو قوّته عليها لأنّها ليست بقوّة جوهريّة له، بل هي قوّة القوى الجوهريّة لأنّه علّة لها. والعقل يحيط بالأكوان الطبيعيّة وما فوق الطبيعة — أعني النفس فإنّها فوق الطبيعة، وذلك أنّ الطبيعة تحيط بالكون والنفس تحيط بالطبيعة، والعقل يحيط بالنفس، فالعقل إذن يحيط بالأشياء كلّها. وإنّما صار العقل كذلك من أجل العلّة الأولى التي تعلو الأشياء كلّها لأنّها علّة العقل والنفس والطبيعة وسائر الأشياء. والعلّة الأولى ليست بعقل ولا نفس ولا طبيعة، بلى هي فوق العقل والنفس والطبيعة لأنّها مبدعة لجميع الأشياء، إلّا أنّها مبدعة العقل بلا توسّط، ومبدعة النفس والطبيعة وسائر الأشياء بتوسّط العقل. — والعلم الإلاهيّ ليس كالعلم العقليّ ولا كعلم النفس، بل هو فوق علم العقل وعلم النفس، لأنّه مبدع العلوم. والقوّة الإلاهيّة فوق كلّ قوّة عقليّة ونفسانيّة وطبيعيّة لأنّها علّة لكلّ قوّة؛ والعقل ذو كلّيّة لأنّه أنّيّة وصورة، وكذلك النفس ذات كلّيّة، والطبيعة ذات كلّيّة. وليس للعلّة الأولى كلّيّة، لأنّها أنّيّة فقط. فإن قال قائل: لا بدّ من أن تكون لها كلّيّة — قلنا: كلّيّتها لا نهايتها، وشخصها الخير المحض المفيض على العقل جميع الخيرات، وعلى سائر الأشياء بتوسّط العقل.
٩ — باب آخر
كلّ عقل فإنّه مملوء صوراً، إلّا أنّ من العقول ما يحيط بصور أكثر كلّيّة، ومنها ما يحيط بصور أقلّ كلّيّة. وذلك أنّ الصور التي في العقول الثواني السفليّة بنوع جزئيّ هي
في العقول الاول بنوع كلّيّ. والصور التي هي للعقول الأول بنوع كلّيّ هي في العقول الثواني بنوع جزئيّ. وللعقول الأول قوى عظيمة لأنّها أشدّ وحدانيّة من العقول الثواني السفليّة. وللعقول الثواني السفليّة قوى ضعيفة لأنّها أقلّ وحدانيّة وأكثر تكثيراً وذلك أنّ العقول القريبة من الواحد الحقّ المحض أقلّ كمّيّة وأعظم قوّة. والعقول التي هي أبعد من الواحد الحقّ المحض أكثر كمّيّة وأضعف. فلمّا كانت العقول القريبة من الواحد الحقّ المحض أقلّ كمّيّة عرض من ذلك أن تكون الصور التي تنبجس من العقول الأول انبجاساً كلّيّاً متوحّداً تنبجس من العقول الثواني انبجاساً جزئيّاً متفرّقاً.
ونختصر فنقول: إنّ الصور التي تأتي من العقول الثواني هي أصعب انبجاساً وأشدّ تفرّقاً؛ فلذلك صارت العقول الثواني تلقى أنوارها على الصور الكلّيّة التي في العقول الكلّيّة فتجزّئها وتفرّقها لأنّها لا تقوى أن تنال تلك الصور على حقيقتها وصورتها إلّا بالنوع الذي يقوى على نيلها، أعني بالتفريق والتجزئة. وكذلك كلّ شيء من الأشياء إنّما ينال ما فوقه بالنوع الذي يقوى على نيله، 〈لا〉 بالنوع الذي عليه الشيء المنال.
١٠ — باب آخر
كلّ عقل يعقل أشياء دائمة لا تدثر ولا تقع تحت الزمان، وذلك أنّه إن كان العقل دائماً لا يتحرّك، فإنّه علّة لأشياء دائمة لا تستحيل ولا تقع تحت الكون والفساد. وإنّما صار العقل كذلك لأنّه يعقل بأنّيّته، وأنّيّته دائمة لا تستحيل ولا تتغيّر. فإن كان
هذا هكذا، قلنا إنّ علّة الأشياء المستحيلة الواقعة تحت الكون والفساد من علّة جرميّة زمانيّة، لا من علّة عقليّة دهريّة.
١١ — باب آخر
الأوائل كلّها بعضها في بعض بالنوع الذي يليق أن يكون أحدها في الآخر، وذلك أنّ في الأنّيّة الحياة والعقل، وفي الحياة الأنّيّة والعقل، وفي العقل الأنّيّة والحياة. إلّا أنّ الأنّيّة والحياة في العقل عقلان، والأنّيّة والعقل في الحياة حياتان، والعقل والحياة في الأنّيّة أنّيّتان. وإنّما كان ذلك كذلك لأنّ كلّ أوّل من الأوائل إمّا أن يكون علّة، وإمّا أن يكون معلولاً. فالمعلول في العلّة بنوع العلّة، والعلّة في المعلول بنوع المعلول.
ونحن موجزون وقائلون: إنّ الشيء الكائن في الشيء بنوع علّة إنّما يكون فيه بالنوع الذي هو عليه: مثل الحسّ فإنّه في النفس بنوع نفسانيّ، والنفس في العقل بنوع عقليّ، والعقل في الأنّيّة بنوع أنّيّ، والأنّيّة الأولى في العقل بنوع عقليّ، والعقل في النفس بنوع نفسانيّ، والنفس في الحسّ بنوع حسّيّ. ونرجع فنقول: إنّ الحسّ والنفس في العقل والعلّة الأولى بنوع 〈وبنوع〉 على ما بيّنّا.
١٢ — باب آخر
كلّ عقل 〈بالفعل〉 فإنّه يعقل ذاته، وذلك أنّه عاقل ومعقول معاً. فإذا كان العقل عاقلاً ومعقولاً، فلا محالة أنّه يرى ذاته. 〈فإذا رأى ذاته〉 علم أنّه عقل يعقل
ذاته. فإذا علم ذاته علم سائر الأشياء التي تحته لأنّها منه، إلّا أنّها فيه بنوع عقليّ. فالعقل والأشياء المعقولة واحد. وذلك أنّه إن كان جميع الأشياء المعقولة في العقل، والعقل يعلم ذاته، فلا محالة أنّه إذا علم 〈ذاته علم سائر الأشياء. وإذا علم〉 سائر الأشياء علم ذاته. وإذا علم الأشياء فإنّما يعلمها لأنّها معقولة. فالعقل إذن يعلم ذاته ويعلم الأشياء المعقولة معاً، كما بيّنّا.
١٣ — باب آخر
كل نفس فإنّ الأشياء الحسّيّة فيها لأنّها مثال لها، والأشياء العقليّة فيها لأنّها علم لها. وإنّما صارت كذلك لأنّها متوسّطة بين الأشياء العقليّة التي لا تتحرّك، وبين الأشياء الحسّيّة المتحرّكة. فلمّا كانت النفس كذلك، صارت تؤثّر الأشياء الجرميّة، فلذلك صارت علّة الأجرام وصارت معلولة من العقل الذي قبلها. فالأشياء التي أثّرت من النفس 〈هي〉 في النفس بمعنى مثال، أعني أنّ الأشياء الحسّيةّ مثلت على مثال النفس، والأشياء التي تقع فوق النفس هي في النفس بنوع مستفاد.
فإذا كان هذا هكذا، عدنا فقلنا إنّ الأشياء الحسّيّة كلّها في النفس بنوع علّة، غير أنّ النفس علّة مثاليّة. وأعني بالنفس القوّة الفاعلة للأشياء الحسّيّة. إلّا أنّ القوّة الفاعلة في النفس ليست هيوليّة، والقوّة الجرميّة في النفس روحانيّة، والقوّة المؤثّرة في الأشياء ذوات الأبعاد بلا بعد. وأمّا الأشياء العقليّة في النفس فإنّها بنوع عرضيّ، أعني أنّ الأشياء العقليّة التي لا تتجزّأ هي في النفس بنوع يتجزّأ، والأشياء العقليّة والوحدانيّة هي في النفس
بنوع تكثير، والأشياء العقليّة التي لا تتحرّك هي في النفس بنوع حركة.
فقد استبان أنّ الأشياء كلّها — العقليّة والحسّيّة — في النفس، إلّا أنّ الأشياء الحسّيّة الجرميّة المتحرّكة هي في النفس بنوع نفسانيّ روحانيّ وحدانيّ، وأنّ الأشياء العقليّة المتوحّدة الساكنة هي في النفس بنوع تكثير متحرّكة، كما بيّنّا.
١٤ — باب آخر
كلّ عالم يعلم ذاته هو راجع إلى ذاته رجوعاً تامّاً. وذلك أنّ العلم إنّما هو فعل 〈عقليّ〉. فإذا علم العالم ذاته، فقد رجع بعلمه إلى ذاته، وإنّما يكون هذا هكذا، إذا كان العالم والمعلوم شيئاً واحداً، لأنّ علم العالم لذاته يكون منه وإليه: يكون منه بأنّه عالم، وإليه بأنّه معلوم. وذلك أنّه لمّا كان العلم علم العالم، وكان العالم يعلم ذاته — كان فعله راجعاً إلى ذاته، فجوهره راجع إلى ذاته أيضاً. وإنّما نعني برجوع الجوهر إلى ذاته أنّه قائم ثابت بنفسه لا يحتاج في ثباته وقيامه إلى شيء آخر يقيمه، لأنّه جوهر بسيط مكتفٍ بنفسه.
١٥ — باب آخر
كلّ القوى التي لا نهاية لها متعلّقة باللانهاية الأولى التي هي قوّة القوى، لأنّها لا مستفادة أو ثابتة قائمة في الأشياء الهويّة، بل هي قوّة الأشياء الهويّة ذوات الثبات. فإن قال قائل بأنّ الهويّة الأولى المبتدعة، أعني العقل، قوّة لا نهاية لها —
قلنا: ليست الهويّة المبتدعة قوّة، بل لها قوّة ما. وإنّما صارت قوّتها غير متناهية سفلاً لا علواً لأنّها ليست بالقوّة المحضة التي إنّما هي قوّة بأنّها قوّة، وهي الأشياء التي لا تتناهى نهاية سفلاً ولا علواً. فأمّا الهويّة الأولى المبتدعة، أعني العقل، فلها نهاية ولقوّتها نهاية أيضاً ببقاء علّتها. وأمّا الهويّة الأولى المبتدعة فهي اللانهاية الأولى المحضة. وذلك أنّه إن كانت الهويّات القريبة لا نهاية لها من أجل استفادتها 〈من〉 اللانهاية الأولى المحضة التي من أجلها كانت الهويّات، وإن كانت الهويّة الأولى هي التي جعلت الأشياء 〈التي〉 لا نهاية لها، فلا محالة أنّها فوق اللانهاية. وأمّا الهويّة المبتدعة الأولى، أعني العقل، فليست لا نهائيّة، بل يقال إنّها غير متناهية، ولا يقال إنّها هي التي لا نهاية بعينها. فالهويّة الأولى إذن هي مقدار الهويّات الأولى العقليّات والهويّات الثواني الحسّيّات، أعني أنّها هي التي ابتدعت الهويّات وقدّرتها مقداراً ملائماً لكلّ هويّة.
ونعود فنقول: إنّ الهويّة الأولى المبتدعة فوق اللانهاية. فأمّا الهويّة الثانية المبتدعة فإنّها غير متناهية. والذي بين الهويّة الأولى المبتدعة وبين الهويّة الثانية المبتدعة لا نهاية. وسائر الفضائل المفردة — 〈مثل〉 الحياة والضياء وما أشبههما — فإنّها علل
الأشياء كلّها ذوات الفضائل، أعني أنّ اللانهاية التي هي من العلّة الأولى والمعلول الأوّل هي علّة كلّ حياة، وكذلك سائر الفضائل المتنزّلة من العلّة الأولى على المعلول الأوّل أوّلاً وهو العقل، ثمّ تتنزّل على سائر المعلولات العقليّة والجسمانيّة بتوسّط العقل.
١٦ — باب آخر
كلّ قوّة وحدانيّة فهي أكثر〈في〉 اللانهاية من القوّة المتكثّرة، وذلك أنّ اللانهاية الأولى 〈التي〉 هي العقل قريبة من الواحد الحقّ المحض. فمن أجل ذلك صارت كلّ قوّة قريبة من الواحد الحقّ المحض فاللانهاية فيها أكثر من القوّة البعيدة منه. وذلك أنّ القوّة إذا بدأت تتكثّر، فإنّها تهلك وحدانيّتها. فإذا هلكت وحدانيّتها، هلكت لانهايتها التي كانت فيها. وإنّما تفقد القوّة اللانهاية من أجل تجزئتها. والدليل على ذلك القوّة المتجزّئة وأنّها كلّما اجتمعت وتوحّدت، عظمت واشتدّت وفعلت أفاعيل عجيبة؛ وكلّما تجزّأت وانقسمت، صغرت وضعفت وفعلت أفاعيل خسيسة.
فقد بان إذن ووضح أنّ القوّة كلّما قربت من الواحد الحقّ المحض اشتدّت وحدانيّتها؛ وكلّما اشتدّت وحدانيّتها كانت اللانهاية فيها أظهر وأبين، وكانت أفاعيلها أفاعيل عظيمة عجيبة شريفة.
١٧ — باب آخر
الأشياء كلّها ذات هويّات من أجل الهويّة الأولى. والأشياء الحيّة كلّها متحرّكة بذاتها من أجل الحياة الأولى. والأشياء العقليّة كلّها ذوات علم، من أجل العقل الأوّل. وذلك أنّه إن كانت كلّ علّة تعطي معلولها شيئاً، فلا محالة أنّ الهويّة الأولى تعطي معلولاتها كلّها الهويّة. وكذلك الحياة تعطي معلولاتها الحركة، لأنّ الحياة هي انبجاس ينبجس من الهويّة الأولى الساكنة الدائمة وأوّل حركة. وكذلك العقل يعطي معلولاته العلم، وذلك أنّ كلّ علم حقّ إنّما هو من العقل، والعقل هو أوّل عالم كان، وهو المفيض العلم على سائر العلّامة.
ونعود فنقول: إنّ الهويّة الأولى ساكنة وهي علّة العلل، وإن كانت تعطي الأشياء كلّها الهويّة فإنّها تعطيها بنوع إبداع. وأمّا الحياة الأولى فإنّها تعطي ما تحتها الحياة لا بنوع إبداع، بل بنوع صورة. وكذلك العقل: إنّما يعطي ما تحته — من العلم وسائر الأشياء بنوع صورة، لا بنوع إبداع، لأنّ نوع الإبداع إنّما هو للعلّة الأولى وحدها.
١٨ — باب آخر
إنّ من العقول ما هو عقل إلاهيّ لأنّه يقبل من الفضائل الأول التي تنبجس من العلّة الأولى قبولاً كثيراً، ومنها ما هو عقل فقط لأنّه لا يقبل من الفضائل الأول إلّا بتوسّط العقل الأول.
ومن النفس ما هي نفس عقليّة لأنّها متعلّقة بالعقل، ومنها ما هي نفس فقط. — ومن الأجرام الطبيعيّة ما لها نفس تدبّرها وتقوم عليها، ومنها ما هي أجرام طبيعيّة
〈فقط〉 لا نفس لها. وإنّما صار هذا هكذا، لأنّه ليس الشرح العقليّ كلّه ولا النفسانيّ كلّه ولا الجرميّ كلّه متعلّقاً بالعلّة التي فوقه، إلّا ما كان منه تامّاً كاملاً فإنّه هو الذي يتعلّق بالعلّة التي فوقه، أعني أنّه ليس كلّ عقل متعلّقاً بالفضائل الآتية من العلّة الأولى إلّا ما كان منها عقلاً تامّاً أوّلاً كاملاً، فإنّه يقوى على قبول الفضائل المتنزّلة من العلّة 〈الأولى〉 والتعلّق بها لشدّة وحدانيّته. وكذلك أيضاً ليست كلّ نفس متعلّقة بالعقل إلّا ما كان منها تامّاً كاملاً 〈وأشدّ مع العقل فإنّها تتعلّق بالعقل وهو العقل التامّ〉. وكذلك أيضاً ليس كلّ جرم طبيعيّ ذا نفس إلّا ما كان منها تامّاً كاملاً كأنّه منطقيّ. وعلى هذه الصفة تكون سائر المراتب العقليّة وبهذا القياس.
١٩ — باب آخر
إنّ العلّة الأولى تدبّر الأشياء المبتدعة كلّها من غير أن تحيط بها وذلك أنّ التدبير لا يضعف وحدانيّتها العالية على كلّ شيء، ولا يوهنها، ولا تمنعها وحدانيّتها المباينة للأشياء من أن تدبّر الأشياء. وذلك أنّ العلّة الأولى ثابتة قائمة بواحدانيّتها المحضة دائماً، وهي تدبّر الأشياء المبتدعة كلّها وتفيض عليها القوّة والحياة والخيرات على نحو قوّتها واستطاعتها.
وأمّا الخير الأوّل فإنّه يفيض الخيرات على الأشياء كلّها فيضاً واحداً؛ إلّا أنّ كلّ واحد
من الأشياء يقبل من ذلك الفيضان على نحو كونه وأنّيّته. والخير الأوّل إنّما صار يفيض الخيرات على الأشياء كلّها بنوع واحد، لأنّه إنّما هو خير بأنّيّته وهويّته وقوّته بأنّه خير، والخير والهويّة شيء واحد. فكما صارت الهويّة الأولى هويّة وخيراً نوعاً واحداً، صارت تفيض الخير على الأشياء فيضاناً واحداً، ولا تفيض على بعض الأشياء أقلّ وعلى بعضها أكثر، وإنّما اختلفت الخيرات والفضائل من تلقاء القابل. وذلك أنّ القوابل للخيرات لا تقبل الخيرات بالسواء، بل بعضها يقبل أكثر من بعض، 〈وذلك من أجل عظم جودها〉.
ونعود فنقول: إنّ كلّ فاعل يفعل بأنّيّته فقط فليس بينه وبين مفعوله وصلة ولا شيء آخر متوسّط. وإنّما كانت الوصلة بين الفاعل والمفعول زيادة على الأنّيّة؛ أعني أنّه إذا كان الفاعل والمفعول بآلة ولا يفعل بأنّيّته وببعض صفاته، وكانت أنّيّته مركّبة — فذلك الفاعل يفعل بوصلة بينه وبين مفعوله ويكون حدّ الفاعل مبايناً لفعله ولا يدبّره تدبيراً صحيحاً ولا مستقصياً. فأمّا الفاعل الذي ليس بينه وبين فعله وصلة البتّة — فذلك الفاعل فاعل حقّاً ومدبّر حقّاً يفعل الأشياء بغاية الإحكام الذي لا يمكن أن يكون من ورائه إحكام آخر، ويدبّر فعله بغاية التدبير، وذلك أنّه يدبّر الشيء بالنوع الذي يفعل، وإنّما يفعل بهويّته 〈فبهويّته〉 أيضاً يدبّر. من أجل ذلك صار يدبّر ويفعل بغاية الفعل والتدبير الذي لا اختلاف فيه ولا اعوجاج.
وإنّما اختلفت الأفاعيل والتدبير من قبل العلل الأولى 〈بحسب استحقاق القابل〉.
٢٠ — باب آخر
العلّة الأولى مستغنية بنفسها وهي الغناء الأكبر؛ والدليل على ذلك وحدانيّتها لأنّها لا وحدانيّة مبثوثة فيها، بل هي وحدانيّة محضة لأنّها بسيطة في غاية البسط. فإن أراد مريد أن يعلم أنّ العلّة الأولى هي الغناء الأكبر — فليلق وهمه على الأشياء المركّبة وليفحص عنها فحصاً مستقصياً، فإنّه سيجد كلّ مركّب ناقصاً محتاجاً: إمّا إلى غيره، وإمّا إلى الأشياء التي تركّب منها. فأمّا الشيء المبسوط — أعني الواحد الذي هو خير — فإنّه واحد ووحدانيّته خير، والخير والواحد شيء واحد، فذلك الشيء هو الغناء الأكبر، يفيض ولا يفاض عليه بنوع من الأنواع؛ فأمّا سائر الأشياء — عقليّة كانت أو حسّيّة — فإنّها غير مستغنية بأنفسها، بل تحتاج إلى الواحد الحقّ المفيض عليها بالفضائل وجميع الخيرات.
٢١ — باب آخر
العلّة الأولى فوق كلّ اسم يسمّى به. وذلك أنّه لا يليق بها النقصان، ولا التمام وحده لأنّ الناقص غير تامّ ولا يقدر أن يفعل فعلاً تامّاً إذ كان ناقصاً؛ والتامّ 〈عندنا〉 — وإن كان مكتفياً بنفسه — فإنّه لا يقدر على إبداع شيء آخر، ولا أن يفيض عن نفسه شيئاً البتّة. — فإن كان هذا هكذا، عدنا فقلنا إنّ العلّة الأولى ليست بناقصة ولا تامّة فقط،
بل هي فوق التمام 〈لأنّها مبدعة الأشياء ومفيضة الخيرات عليها إفاضة تامّة〉 لأنّها خير لا نهاية له ولا نفاد.
فالخير الأوّل إذن يملأ العوالم كلّها خيرات، إلّا أن ٮَل عالم إنّما يقبل من ذلك 〈الخير〉 على نحو قوّته.
فقد بان ووضح أنّ العلّة الأولى فوق كلّ اسم يسمّى به وأعلى منه وأرفع.
٢٢ — باب آخر
كلّ عقل إلاهيّ فإنّه يعلم الأشياء بأنّه عقل، ويدبّرها بأنّه إلاهيّ. وذلك أنّ خاصّة العقل العلم؛ وإنّما تمامه وكما له بأن يكون عالماً. والمدبّر هو الإلاه تبارك وتعالى، لأنّه يملأ الأشياء من الخيرات. والعقل هو أوّل مبتدع، وهو أكثر تشبّهاً بالإلاه تعالى؛ فمن أجل ذلك صار يدبّر الأشياء التي تحته. وكما أنّ الإلاه — تبارك وتعالى — يفيض الخير على الأشياء، كذلك العقل يفيض العلم على الأشياء التي تحته. غير أنّه وإن كان العقل يدبّر الأشياء التي تحته، فإنّ اللّه تبارك وتعالى يتقدّم العقل بالتدبير، ويدبّر الأشياء تدبيراً أعلى وأرفع من تدبير العقل لأنّه هو الذي أعطى العقل التدبير. والدليل على ذلك أنّ الأشياء التي لا ينالها تدبير العقل فقد ينالها تدبير مبدع العقل، وذلك أنّه لا يفوت تدبيره شيء من الأشياء البتّة، لأنّه يريد أن ينيل خيره جميع الأشياء كلّها. وذلك أنّه ليس كلّ شيء يشتاق إلى العقل ولا يحرص على نيله، والأشياء كلّها تشتاق إلى الخير
〈من الأوّل〉 وتحرص على نيله حرصاً وافراً، لا يشكّ في ذلك شاكّ.
٢٣ — باب آخر
العلّة الأولى موجودة في الأشياء كلّها 〈على ترتيب واحد، لكن الأشياء كلّها لا توجد في العلّة الأولى على ترتيب واحد. وذلك أنّه وإن كانت العلّة الأولى موجودة في الأشياء كلّها〉، فإنّ كلّ واحد من الأشياء يقبلها على نحو قوّته، وذلك أنّ من الأشياء ما يقبلها قبولاً وحدانيّاً، ومنها ما يقبلها قبولاً متكثّراً، ومنها ما يقبلها قبولاً دهريّاً، ومنها ما يقبلها قبولاً زمانيّاً، ومنها ما يقبلها قبولاً روحانيّاً، ومنها ما يقبلها قبولاً جرميّاً. وإنّما صار اختلاف القبول لا من أجل العلّة الأولى، لكن من قبل القابل. وذلك أنّ القابل يختلف، فلذلك صار القبول مختلفاً أيضاً. فأمّا المفيض فإنّه واحد غير مختلف، يفيض على جميع الأشياء الخيرات بالسواء، فإنّ الخير يفيض على جميع الأشياء من العلّة الأولى بالسواء. فالأشياء إذن هي علّة اختلاف فيضان 〈الخير على〉 الأشياء. فلا محالة إذن أنّه لا توجد الأشياء كلّها في العلّة الأولى بنوع واحد.
فقد بان أنّ العلّة الأولى توجد في جميع الأشياء بنوع واحد، ولا يوجد فيها جميع الأشياء بنوع واحد. فعلى نحو قربه 〈من〉 العلّة الأولى وعلى نحو ما يقتدر الشيء على قبول العلّة الأولى — فعلى قدر ذلك يقدر أن ينال منها ويتلذّذ بها. وذلك أنّه إنّما ينال الشيء من العلّة الأولى ويتلذّذ بها 〈على〉 نحو وجوده. وإنّما أعني بالوجود
المعرفة، فإنّه على نحو معرفة الشيء بالعلّة الأولى المبتدعة — فعلى قدر ذلك ينال منها ويتلذّذ بها، كما بيّنّا.
٢٤ — باب آخر
كلّ جوهر قائم بذاته فهو غير مكوّن 〈من شيء آخر〉. فإن قال قائل: قد يمكن أن يكون مكوّناً 〈من شيء آخر〉 — قلنا: إذا كان يمكن أن يكون الجوهر القائم بذاته مكوّناً 〈من شيء آخر〉، لا محالة كان ذلك الجوهر ناقصاً محتاجاً إلى أن يتمّمه الذي كوّنه. والدليل على ذلك الكون نفسه وذلك أنّ الكون إنّما هو طريق من النقصان على التمام. فإن ألفي شيء غير محتاج رجع إلى قوّته في كونه — أي في صورته وتصويره — إلى شيء آخر وغيره، وكان هو علّة تصويره 〈وتمامه〉 — كان تامّاً 〈كاملاً〉 دائماً. وإنّما صار علّة تصويره وتمامه من قبل نظيره إلى غايته دائماً. فذلك النظير هو تصويره وتمامه معاً.
فقد وضح إذن أنّ كلّ جوهر قائم بذاته ليس بمكوّن من شيء آخر.
٢٥ — باب آخر
كلّ جوهر قائم بذاته فهو غير واقع تحت الفساد. فإن قال قائل: قد يمكن أن يكون الجوهر القائم بذاته واقعاً تحت الفساد — قلنا: إن كان يمكن أن يكون الجوهر القائم بذاته واقعاً تحت الفساد، أمكن أن يفارق ذاته فيكون ثابتاً قائماً بذاته دون ذاته؛ وهذا محال غير ممكن؛ لأنّه لمّا كان واحداً مبسوطاً غير مركّب كان هو العلّة والمعلول معاً. وكلّ واقع تحت الفساد فإنّما فساده من أجل مفارقته علّته. وأمّا ما دام الشيء متعلّقاً بعلّته الماسكة الحافظة 〈له، فإنّه〉 لا يتبدّد ولا يفسد. فإن كان هذا هكذا، كان الجوهر القائم بذاته لا يفارق علّته أبداً لأنّه غير مفارق لذاته من أجل أنّ علّته نفسه في تصويره. وإنّما صار علّة نفسه من أجل نظره إلى علّته. وذلك النظر هو تصويره. فلمّا كان دائم النظر إلى علّته، وكان هو علّة ذلك النظر، 〈و〉كان علّة نفسه أيضاً بالجهة التي ذكرنا فإنّه لا يبيد ولا يفسد، لأنّه العلّة والمعلول معاً كما ذكرنا أيضاً.
فقد بان ووضح أنّ كلّ جوهر قائم بذاته لا يبيد ولا يفسد.
٢٦ — باب آخر
كلّ جوهر داثر غير دائم إمّا أن يكون مركّباً، وإمّا أن يكون محمولاً على شيء آخر، من أجل أنّ الجوهر إمّا أن يكون محتاجاً إلى الأشياء التي منها يكون، فيكون مركّباً منها؛ وإمّا أن يكون محتاجاً في قوامه وثباته إلى حامل، فإذا فارق حامله فسد ودثر. فإن لم يكن الجوهر مركّباً ولا محمولاً، وكان مبسوطاً، وبذاته — كان دائماً لا يدثر ولا ينقض البتّة.
٢٧ — باب آخر
كلّ جوهر قائم بذاته فهو مبسوط لا يتجزّأ. فإن قال قائل: قد يمكن أن يتجزّأ — قلنا: إن أمكن أن يكون الجوهر القائم بذاته يتجزّأ وهو مبسوط — أمكن 〈أنّ ذات الجزء منه تكون بذاته أيضاً كذات الكلّ. فإن أمكن ذلك، رجع〉 الجزء منه على نفسه، فيكون كلّ جزء منه راجعاً على جزء منه كرجوع الكلّ على ذاته. وهذا غير ممكن. فإن كان غير ممكن، كان الجوهر القائم بنفسه إذن غير متجزّئ وكان مبسوطاً. فإن لم يكن مبسوطاً وكان مركّباً، كان بعضه أفضل من بعض، وبعضه أخسّ من بعض. فيكون الشيء الأفضل من الشيء الأخسّ، والشيء الأخسّ من الشيء الأفضل. إذاً كان كلّ جزء منه 〈مبايناً لكلّ جزء منه〉، فتكون كلّيّته غير مكتفية
بنفسها إذ صارت تحتاج إلى أجزائها التي منها ركّبت. وليس هذا من سمة الجوهر المبسوط، بل من سمة الجواهر المركّبة.
فقد وضح أنّ كلّ جوهر قائم بذاته فهو مبسوط لا يتجزّأ. وإذا لم يكن قابلاً للتجزئة وكان مبسوطاً، لم يكن قابلاً للفساد ولا للدثور.
٢٨ — باب آخر
كلّ جوهر قائم بنفسه، أعني بذاته، فإنّه مبتدع بلا زمان، وهو في جوهريّته أعلى من الجواهر الزمانيّة. والدليل على ذلك أنّه غير مكوّن من مكوّن لأنّه قائم بذاته، والجواهر المكوّنة من مكوّن هي جواهر مركّبة واقعة تحت الكون.
فقد وضح أنّ كلّ جوهر قائم بذاته إنّما ابتدع بلا زمان، وأنّه أعلى وأرفع من الزمان ومن الأشياء الزمانيّة.
٢٩ — باب آخر
كلّ جوهر ابتدع في زمان : إمّا أن يكون دائماً في الزمان والزمان غير فاصل عنه لأنّه ابتدع الزمان سواء؛ وإمّا أن يكون منفصلاً عن الزمان والزمان يفصل عنه لأنّه ابتدع في بعض أوقات الزمان. وذلك أنّه إن كانت المبتدعات يتلو بعضها بعضاً، وكان الجوهر الأعلى إنّما يتلو الجوهر الشبيه به، لا الجوهر غير الشبيه به — كانت الجواهر الشبيهة
بالجوهر 〈الأعلى〉، وهي الجواهر المبتدعة التي لا يفصل عنها الزمان، قبل الجواهر التي لا تشبه الجواهر الدائمة، وهي الجواهر المنقطعة عن الزمان المبتدعة في بعض أوقات الزمان. فلا يمكن أن تتّصل الجواهر المبتدعة في بعض أوقات الزمان بالجواهر 〈الدائمة〉، لأنّها لا تشبهها البتّة. فالجواهر الدائمة إذن في الزمان هي التي تتّصل بالجواهر الدائمة وهي المتوسّطة بين الجواهر الثابتة وبين الجواهر المنقطعة عن الزمان. ولم يكن ممكناً أن تكون الجواهر الدائمة التي فوق الزمان تتلو الجواهر الزمانيّة المنقطعة عن الزمان إلّا بتوسّط الجواهر الزمانيّة الدائمة في الزمان. وإنّما صارت هذه الجواهر متوسّطة لأنّها 〈تشارك〉 الجواهر العالية الدائمة في الدوام، وتشارك الجواهر الزمانيّة المنقطعة في الزمان بالتكوّن. فإنّها، وإن كانت دائمة، كان دوامها بالتكوّن والحركة. والجواهر الدائمة بالزمان تشبه الجواهر الدائمة التي فوق الزمان بالدوام، ولا تشبهها في الحركة والتكوّن. وأمّا الجواهر المنقطعة عن الزمان فإنّها لا تشبه الجواهر الدائمة التي فوق الزمان بجهة من الجهات. فإن كانت لا تشبهها، فإنّها لا تقدر أن تتناولها أو تماسّها. فلا بدّ إذن من جواهر تماسّ الجواهر الدائمة التي فوق الزمان، فتكون مماسّة الجواهر المنقطعة عن الزمان فتجمع بحركتها بين الجواهر الزمانيّة المنقطعة عن الزمان وبين الجواهر الدائمة التي فوق الزمان؛ وتجمع بدوامها بين الجواهر التي فوق الزمان وبين الجواهر التي تحت الزمان، أعني الواقعة تحت الكون والفساد؛ وتجمع بين الجواهر الفاضلة وبين الجواهر الخسيسة، لئلّا تعدم الجواهر الفاضلة فتعدم كلّ حسن وكلّ خير، ولا يكون لها بقاء ولا ثبات.
فقد استبان من هذه الأدلّة أنّ الدوام نوعان: أحدهما دهريّ، والآخر زمانيّ؛ غير أنّ دوام أحدهما قائم ساكن، ودوام الآخر متحرّك؛ وأحدهما مجتمع وأفاعيله كلّها معاً لا بعضها قبل بعض، والآخر سائل ممتدّ وبعض أفاعيله قبل بعض؛ وكلّيّة أحدهما بذاته، وكلّيّة الآخر بأجزائه التي كلّ واحد منهما جزء مباين لصاحبه بنوع الأوّل والآخر.
فقد بان ووضح أنّ الجواهر منها ما هي دائمة فوق الزمان، ومنها دائمة مساوية للزمان والزمان غير فاصل عنها، ومنها ما هي منقطعة عن الزمان يفصل عنها من فوقها وأسفلها وهي الجواهر الواقعة تحت الكون والفساد.
٣٠ — باب آخر
إنّه بين الشيء الذي جوهره وفعله من حيّز الدهر، وبين الشيء الذي جوهره وفعله من حيّز الزمان — موجود متوسّط: وهو الذي جوهره من حيّز الدهر وفعله من حيّز الزمان. وذلك أنّ الشيء الذي جوهره 〈واقع〉 تحت الزمان، أي أنّ الزمان يحيط به فهو في جميع حالاته 〈واقع〉 تحت الزمان، 〈فيكون فعله
واقعاً تحت الزمان أيضاً〉، لأنّ الشيء إذا كان جوهره واقعاً تحت الزمان، فبالحريّ أن يكون فعله واقعاً تحت الزمان أيضاً. فالشيء الواقع تحت الزمان في جميع حالاته 〈هو مباين للشيء الواقع تحت الدهر في جميع حالاته〉. والاتّصال إنّما يكون في الأشياء المتشابهة. فلا بدّ إذن من أن يكون شيء آخر ثالث متوسّطاً بينهما، جوهره واقع تحت الدهر وفعله واقع تحت الزمان؛ 〈فإنّه غير ممكن أن يكون شيء جوهره واقع تحت الزمان وفعله تحت الدهر〉، فيكون فعله أفضل من جوهره. وهذا غير ممكن. فكان إذن لا محالة أنّه بين الأشياء الواقعة تحت الزمان بجواهرها وأفاعيلها، 〈وبين الأشياء التي جواهرها وأفاعيلها واقعة تحت الدهر〉 أشياء واقعة تحت الدهر بجواهرها وواقعة تحت الزمان بأفاعيلها، كما بيّنّا.
٣١ — باب آخر
كلّ جوهر واقع في بعض حالاته تحت الدهر، وواقع في بعض حالاته تحت الزمان — فذلك الجوهر هو هويّة وكون معاً. إذ الشيء الواقع تحت الدهر هو هويّة حقّاً. وكلّ شيء 〈واقع〉 تحت الزمان هو كون حقّاً. فإن كان 〈هذا〉
هكذا، وكان الشيء الواحد واقعاً تحت الدهر والزمان — كان هويّة وكوناً لا بجهة واحدة، بل بجهة وجهة. — فقد بان إذن ممّا ذكرنا أنّ كلّ مكوّن واقع بجوهره تحت الزمان متعلّق الجوهر بالهويّة المحضة التي هي علّة الدوام وعلّة الأشياء الدائمة كلّها والأشياء الداثرة.
فلا بدّ إذن من واحد حقّ مفيد الوحدانيّات وهو غير مستفيد؛ وأمّا سائر الوحدانيّات فإنّها مستفادة كلّها. والدليل على ذلك 〈ما أقول〉: إن ألفي واحد مفيد والآخر غير مستفيد غير مستفاد، فما الفرق بينه وبين الواحد الأوّل المفيد؟ فإنّه لا يخلو من أن يكون شبيهه في جميع حالاته، وإمّا أن يكون بينه وبينه فصل. فإن كان شبيهه في جميع حالاته وكان واحداً مثله — فلم صار أحدهما أوّلاً والآخر ثانياً؟ وإن كان لا يشبهه في جميع حالاته فلا محالة أنّ أحدهما واحد أوّل حقّ، والآخر واحد فقط. فإن كانت الوحدانيّة فيه ثابتة غير موجودة من غيره، فيكون هذا الواحد الأوّل الحقّ، كما بيّنّا. فإن ألفيت الوحدانيّة فيه موجودة 〈من غيره〉، كان غير الواحد الأوّل الحقّ. فإن كان 〈من〉 غيره، كان 〈من〉 الواحد الأوّل إذن مستفاد غير الأواحد. فيعرض من ذلك أن يكون الواحد الحقّ المحض وسائر الأواحد وحدانيّة أيضاً. وإنّما صارت وحدانيّة من أجل الواحد الحقّ الذي هو علّة وحدانيّتها.
فقد بان ووضح أنّ كلّ وحدانيّة بعد الواحد الحقّ فهي مستفادة مبدعة، غير الواحد الحقّ الأوّل، مبدع الوحدانيّات 〈فهو〉 مفيد غير مستفيد — كما بيّنّا. والسلام!
][تمّ ما وجد من هذا العرض. والحمد للّه أوّلاً وآخراً كما هو أهله ومستحقّه، وصلّى اللّه على محمّد وآله وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وفرغ من نسخه ليلة السبت الرابع والعشرين من ذي الحجّة من سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة][