ps-Cebes: Cebetis tabula (Tablet of Cebes)
Work
ps-Cebes, Cebetis tabula
(Κέβητος πίναξ)
English: Tablet of Cebes
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: anon.
Translated from: Greek
(Close)
Date:
between 750 and 1000
Source
Pablo Lozano y Casela. Parafrasis arabe de la Table de Cebes. Madrid (Imprenta Real) 1793, 3-85
Download
pscebes_tabulacebetis-transl-ar1.xml [55.05 KB]
لغز قابس صاحب أفلاطن.
وهو أشبه شيء بأمر العالم وما فيه وما يجب أن يعمل فيه العاقل حتّى يسعد السعادة التامّة وينجو من الشرور التي فيه.
بسم اللّه الرحمان الرحيم.
(١) ذكر قابس الأفلاطونيّ المنسوب إلى سقراط أمر لوح وجده موضوعاً في هيكل كان منسوباً إلى زحل فيه لغز يدلّ على هدىً.
قال قابس بينما نحن نمشي في هيكل زحل ونتأمّل ما فيه من أصناف الهدى إذ بصرنا في مقدّم الهيكل بلوح موضوع فيه رسم صورة
ملغوزة لغزاً خفيّاً لم نصل بأفهامنا إلى المذهب فيها ما هو لأنّها لم نحسبها تدلّ على أنّها صورة مدينة ولا صورة هيكل ولا صورة عسكر وهذه صفتها.
كان رسم في اللوح حظيرة في داخلها حظيرتان أخريان أحدهما أكبر من الأخرى ورأينا الحظيرة الكبرى لها باب كأنّ عليه جمعاً كثيراً من الرجال ومن داخل تلك الحظيرة جمع كثير من النساء وعلى هذا الباب رجل شيخ واقف كأنّه يومئ إلى جمع الرجال بشيء لا ندري ما هو.
(٢) فمكثنا حيناً من الدهر متحيّرين يسأل بعضنا بعضاً عمّا يخطر بباله وما يسنح له من ذلك المثال. ولمّا سمع ذلك بعض ذوي الفهم ممّن كانت له عناية بالمسترشدين أقبل علينا فقال لا يغلطنّ عليكم معاشر الغرباء ما دخلكم من الحيرة في أمر
هذه الصورة فإنّ كثيراً من أهل هذا البلد لا يعرفون ما يدلّ عليه هذا اللغز وذلك أنّ هذا الهدى ليس أهل هذا البلد قرّبوه بل رجل طرقنا منذ زمن طويل من أرض غربة من بلاد لاقاذامونيّا كان مبرّزاً في الحكمة فأهدى هذه الصورة قرباً بالزحل.
قال قابس فقلت له هل رأيت هذا الرجل الذي ذكرته. قال إيرقليس إي لعمري لقد رأيته ولزمته وشاهدت رجلاً عظيم الشأن وسمعته يذكر أشياء جليلة وكثر عجبي منه لحداثة سنّه فمنه سمعت ما يدلّ عليه هذا اللغز. (٣) قال قابس فقلت له سألتك باللّه معطي الحياة إن لم يكن لك شغل يقطعك فاقصص علينا ما سمعت منه في تفسير هذا اللغز فإنّ أنفسنا شديدة التطلّع إليه. قال إيرقليس ما أبخل بذلك أيّها الغرباء غير أنّه ينبغي أوّلاً أن تسمعوا منّي ما في تفسير هذا اللغز من ركوب
الخطر. قال قابس كأنّك تقول ماذا. قال إيرقليس إذا سمعتم ما أقوله فإن أنتم فهمتموه ووعيتموه كنتم عقلاء سعداء وإلّا صرتم جهلة أشقياء لا علم لكم بتصرّف المعاش فإنّ تفسير هذا اللغز يجري مجرى لغز سفيننكس الذي كانت تلقيه على الناس فمن فطن له تخلّص ومن لم يفطن له قتلته فعلى هذا النحو يجري الأمر في هذا التفسير فإنّ سفيننكس كانت تلقي على الناس لغزاً غير مفهوم وهو هذا ما الخير وما الشرّ وما الذي لا خير هو ولا شرّ. ثمّ تقول هذا من لم يعرفه أتلفه جهله به عن قريب واستراح من التلف إلّا أنّ تلفه يكون شيئاً بعد شيء في مدّة عمره كما يصيب الذين يتلفون بالعذاب ومن عرف ذلك تلف جهله ونجا هو فصار سعيداً مغبوطاً عمره كلّه فأنتم الآن فتفهّموا قولي ولا يفتكم الإنصات له.
(٤) قال قابس فقلت له يا إيرقليس لقد ألقيت في قلوبنا توقاناً شديداً إلى سماع ما تقول إن كان الأمر فيه على ما وصفت. قال إيرقليس فاعلموا أنّ الأمر فيه على ما وصفت. قال قابس فخذ الآن في شأنك ولا تبخل علينا واقصص علينا القصّة على وجهها إذ كان ذلك مرادنا وبغيتنا. قال فأخذ بيده قضيباً وأشار به إلى الصورة وقال لنا أترون هذه الحظيرة فقلت له هوذا نراها. قال إيرقليس هذه الحظيرة تدلّ على مقام الناس في الدنيا مدّة أعمارهم وهذه الأمم الذين ترونهم وقوفاً على بابها هم الناس الذين يصيرون إلى هذه الدنيا فيعيشون فيها متصرّفين عمرهم كلّهم. وهذا الشيخ الذي ترونه واقفاً وبيده قرطاس وبيده الأخرى قلم وهو كأنّه يكتب هو الملك الذي يعلّم من يرد هذا العالم على ما يجب أن يعمل به في تصرّفه
فيه ويريه الطريق الذي إن سلكه سلم فيه.
(٥) قال قابس فأيّ طريق يأمره أن يسلك وكيف يعمل. قال إيرقليس ترى عند الباب كرسيّاً منصوباً بحيث يدخل الناس وعليه امرأة جالسة متزيّنة بأصناف الزينة عليها قبول. قال نعم هوذا نرى ولكن من هذه. قال إيرقليس هذه يقال لها الغفلة وهي التي تعتري الناس كثيراً فهي تشرّب الناس الذين يدخلون الدنيا من غفلتها وقوّتها هذه وتسقيهم منها.
قال قابس فقلت وما هذا الشراب. قال إيرقليس هذا شراب الغفلة والسهو وغروب العلم فإذ شربوا منه دخلوا. قال قابس فقلت له أفكلّ يتشرّب الغفلة أم ليس كلّهم (٦) ومن شرب منه أيضاً هل يشرب بعضهم أقلّ وبعضهم أكثر. قال إيرقليس أوليس ترى من داخل الباب نساء صورهنّ مختلفة
متفنّنة. قال قابس أحسبني قد رأيتهنّ. قال إيرقليس هؤلاء النساء هنّ المفاخرات واللذّات والشهوات فإذا دخل الناس إلى داخل وثبن وتعلّقن بواحد واحد منهم وسقن بعضاً إلى ما يسلم به وبعضاً إلى ما يعطب به للغفلة. قال قابس فقلت يا هذا ما أصعب ما تصف به أمر هذا الشراب. قال إيرقليس إلّا أنّهنّ كلّهنّ يوهمن من تعلّقن به أنّهنّ إنّما يقدنه إلى الفضيلة وطيب العيش وسعته ونفعه والناس لما عراهم من السهو وغروب الفهم لشربهم كأس الغفلة لا يقدرون أن يميّزوا الطريق الصواب الذي يجب أن يسلكوه في معاشهم وتصرّفهم في الدنيا لكنّهم يمرّون على وجوههم كما ترى إلى حيث مرّ من تقدّمهم فدخل وهو غارّ غافل.
(٧) قال قابس فقلت له هوذا أرى لكن
ما معنى تلك المرأة التي توهم أنّها عمياء معتوهة وهي واقفة على حجر مدوّر. قال إيرقليس هذه هي البخت وليست هي عمياء فقط بل صمّاء أيضاً. قال قابس هذه أيّ شيء تعمل. قال إيرقليس هذه تطوف في كلّ مكان فتأخذ من هذا وتعطي هذا. ثمّ لا تلبث أن تعطف على من أعطته فتأخذ منه ما حبته به وتعطيه آخر إلّا أنّها تفعل ما تفعله من ذلك من غير سبب ما يوجبه ومن غير أن يوثق منها بما تأتيه فهي تفرّح هذا بما تمنحه وتغمّ هذا بما تسلبه ولذلك صارت هي تبين عن نفسها مذهبها التي تجري عليه. قال قابس فقلت له أهي الواقفة على الحجر المدوّر. قال إيرقليس نعم.
قال قابس فقلت له ليت شعري على ما يدلّ من أمرها. قال إيرقليس ذلك يدلّ على أنّ ما تسمح به غير موثوق ببقائه ولا معمول على ثباته
وذلك أنّ المرء إذا اعتمد على أنّه قد حصل شيئاً منها يعمل عليه خاست به أوثق ما يكون بها وأوقعته في خسرة شديدة. (٨) قال قابس فقلت هذا الجمع الكثير الذي حولها ما يلتمسون منها وبأيّ شيء يعرفون. قال إيرقليس يعرفون بالهمج الذين لا رويّة لهم والذي يلتمسونه منها هو الفوائد والصلات والهبات. قال قابس فما بالنا لا نرى صورهم واحدة بل نرى بعضهم كأنّهم مسرورون ضاحكون وبعضهم كأنّه مكروب باسط يديه. قال إيرقليس أمّا الذين ترونهم كأنّهم فرحون مسرورون فهم الذين قد حبتهم بشيء وهؤلاء يسمّون سعداء البخت والذين يبكون هم الذين قد سلبتهم ما كانت أعطتهم وهؤلاء يسمّون أشقياء البخت.
قال قابس فما هو الذي تمنح هؤلاء فيسرّون به والذي تسلب هؤلاء فيبكون عليه. قال إيرقليس
له وخدعنه ثمّ لطفن له في المقام قبلهنّ وأوهمنه أنّ العيشة عندهنّ عيشة راضية لذيذة يقلّ الهمّ فيها والشقاء فمن أطاعهنّ ودخل في اللذّات وأقام عندهنّ فهنّ إلى مدّة من الزمان ما دمن يغررنه يظهر له أنّ السيرة رضيّة ثمّ بأخرة إذا تأمّل أمره فشعر بما لم يكن يشعر به فيما مضى ولا يعرفه تغيّرت الصورة عنده بعد أن أتلف ما كان استفاده من البخت فيضطرّه الأمر إلى خدمتهنّ ويصبر على كلّ بلاء ويجهد نفسه ويشقيها بكلّ قبيح يحملنه عليه وعلى ما يضرّه. قال قابس كأنّك تقول ماذا. قال إيرقليس مثل النهب وسلب الحرم واليمين الكاذبة والسعاية والسرق والنميمة وما أشبه ذلك وجرى مجراه.
قال قابس فكيف يكون حال هؤلاء إذا افتقروا. (١٠) قال إيرقليس أما ترى بويباً صغيراً في
الشقاء إلّا أن يلحق الإنسان الندم فيتنبّه على أمره ويفيق من جهله ويتلافى ما فرط منه.
(١١) قال فقلت له فإذا كان ذلك فأيّ شيء يكون حاله. قال إيرقليس يشرف حينئذٍ هو على أمر نفسه ويلتمس لها الثناء الجميل ويشتاق إلى الأدب الصحيح فينقّي بذلك نفسه ويلتمس لها النجاة ويخلّصها ممّا اعتورها وغلب عليها ويصير بذلك حرّاً سعيداً مغبوطاً لا خوف عليه فيما يأتي من عمره إلى أن يعود في الغفلة فيقع في الأسر. (١٢) قال قابس يا صاح ما أعظم هذا الخطر الذي ابتلي به الناس لكنّك ذكرت في كلامك الأدب الصحيح فإن كان هاهنا أدب زور فعرّفنا ما هو. قال إيرقليس ما ترى تلك الحظيرة الأخرى. قال قابس إنّي لأراها حقّاً. قال إيرقليس أولا ترى المرأة الواقفة عليها سيماء الجلالة والهيئة الجميلة.
قال قابس هوذا أراها كذلك. قال إيرقليس هذه المرأة عند الجمهور يقال لها الأدب وليست أدباً حقّاً بل أدباً زوراً فالناس إذا رأوا الأدب الحقّ غلطوا فوقعوا أوّلاً في هذا. قال قابس أتدري ما تقول أو ليس لهم طريق آخر يؤدّيهم إلى الأدب الصحيح. قال إيرقليس لا ما لهم طريق آخر يؤدّيهم إليه. (١٣) قال قابس فهؤلاء الرجال الذين هم داخل الحظيرة وقد نكسوا رؤوسهم على ماذا يدلّون. قال إيرقليس هؤلاء هم المحبّون لهذا الأدب قد غلطوا فظنّوا أنّهم مخالفون للأدب الصحيح. قال قابس فبماذا يعرف هؤلاء. قال إيرقليس هؤلاء بعضهم يعرفون بالشعراء وبعضهم بالجدليّين وبعضهم يسمّون الخطباء وبعضهم يسمّون الملحّنين وبعضهم يسمّى أصحاب تأليف الغناء وبعضهم يسمّى المشّائين وبعض يسمّى الملهين وسائر من أشبه هؤلاء.
(١٤) قال قابس فالنساء المتشاكلات التي كأنّهنّ يعاين التي قلت إنّ الشره يقدمهنّ وسائر من معها من النساء على ماذا يدللن هل يأتين هذا الموضع. قال إيرقليس إي واللّه إلى هاهنا مصيرهم إلّا أنّ ذلك إنّما يقع في الفرط لا كما يكون في الحظيرة الأخرى. قال قابس فأيّ شيء مذهب هؤلاء. قال إيرقليس قد حصل لهؤلاء أيضاً ذلك الشراب الذي تناولوه من الغفلة. قال قابس فقد حصل هؤلاء إذاً على الجهل. قال إيرقليس نعم واللّه معطي الحياة إنّهم لكذلك ولا ينفكون من ذلك ولا من سائر الشرّ دون أن يصيروا إلى الأدب الصحيح ويتشرّبوا تلك القوّة المنقّية من ذلك فإذا تنقّوا وتحسّر عنهم ما هم فيه من الغيّ والطغيان والجهل وسائر ما قد عراهم من الشرّ حينئذٍ تخلّصوا سالمين فإنّ المتشاغل بهذا
الأدب المزوّر الشرور كلّها مصوّرة له بالعلوم التي تجري مجرى الغلط. (١٥) قال قابس فأيّ طريق يؤدّيه إلى الأدب الصحيح. قال إيرقليس هوذا أصف لك أما ترى فوق موضعاً ليس فيه أحد بل كأنّه برّ قفر. قال قابس فقلت له هوذا أراه. قال إيرقليس وترى باباً ضيّقاً وطريقاً يؤدّي إليه بالجادّة ومن يسلكه نفر يسير وكأنّه نشز خشن وعر. قال قابس هوذا أراه لعمري. قال إيرقليس وترى وراءه تلّاً شاهقاً والمرتقى إليه ضيّق حادّ وجرف عميق واهٍ عن جانبيه. قال قابس هوذا أراه لعمري.
قال إيرقليس فهذا هو الطريق المؤدّي إلى الأدب الصحيح وقد تصعب سلوكه وكذلك هوذا ترى فوق ذلك التلّ صخرة عظيمة مرتفعة تتبيّن كأنّها مستديرة مسندة إلى شيء. قال قابس فقلت له هوذا أراها. (١٦) قال
من الغفلة ومحبّة التكبّر بالباطل والشهوات واللذّات الموبقة والسرف وحبّ المال وسائر ما كان فيه بالأمس في الحظيرة الأولى.
(٢٠) قال قابس نعم فإذا نقي فإلى أين تنفّذه. قال إيرقليس تدخله إلى داخل حتّى توصله إلى المعرفة نفسها والفهم وسائر الفضائل. قال قابس وما هذه. قال إيرقليس أما ترى داخل الباب جماعة من النساء في غاية الجمال وحسن النظام وهيئتهنّ وبزّتهنّ ساذجة لا تشبه بزّة ذوات التنعّم وكأنّهنّ باشّات مستبشرات لا يشبهن شيئاً ممّا في غيرهنّ من الزينة الدغلة. قال قابس أحسبني ولكن ما صنيع هؤلاء. قال إيرقليس أمّا التي تقدمهنّ فإنّها تدعى معرفة العقل وأمّا الباقيات والمؤاخيات لهذه فواحدة يقال لها الطهارة وحسن الخلق وواحدة يقال لها النجدة
وأبّهة. قال قابس فقلت له بلى إنّي لأراها فمن هي. قال إيرقليس هذه هي السعادة. (٢٢) قال قابس فإذا وصل الواصل إلى هذه المنزلة فأيّ شيء تعمل به. قال إيرقليس إنّ السعادة تتوّجه بقوّتها وبتاج سائر الفضائل كلّها كما يتوّج من غلب في الجهاد بتاج الظفر. قال قابس وفي أيّ جهاد غلب. قال إيرقليس في أعظم جهاد وذلك مقاومته وغلبته تلك الحيوانات العظيمة السبعيّة التي كانت من قبل تقهره وتعذّبه وتستعبده حتّى صار الآن يستذلّها ويستخدمها كما كانت هي تفعل به فيما تقدّم.
(٢٣) قال قابس إنّي لأحبّ أن أعرف هذه الحيوانات الخبيثة التي تصف أيّ حيوان هو. قال إيرقليس أوّلها الجهل والغفلة والسهو. أفلا تعلم أنّ هذه سباع ضارية. قال قابس فقلت إي لعمري إنّها
كانت حاله حالاً رديئة كحال من لا يبصر ما هناك فلمّا حصّلت له المعرفة واليقين والعقل واستضاء بذلك فهمه زال عماه فصار إذا رأى ما هاهنا تبيّن له شقاؤهم.
(٢٦) قال قابس فقلت له فماذا يصنع إذا شاهد هذه الأمور كلّها. قال إيرقليس يتصرّف كيف شاء ويذهب حيث شاء وذلك أنّ الثقة والأمن يطيفان به وهو محروس من جميع جوانبه بمنزلة الحلزون الذي يطيف به الصدف الذي يجنّه وحيث ما أحبّ أن يعيش فإنّ عيشه يكون أجمل عيش وكلّ من عاشره يقبله ويتمسّك به ويرتاح له كما يرتاح المريض إلى الطبيب. قال قابس فأولائك النساء اللواتي وصفتهنّ لا يخاف أن يناله منهنّ ما يكره. قال إيرقليس ما عسى أن يخاف منهنّ وقد غلبهنّ جميعاً فصار بحيث لا يغلب عليه
أصلاً فيؤذيه لا الظنّ ولا الغمّ ولا خوف الفقر ولا حبّ الثروة ولا شيء أصلاً من سائر الشرور لأنّه قد صار سيّداً مستعلياً عليها كلّها كما أنّ الحوّائين يمسكون بأيديهم الأفاعي فلا تضرّهم لما معهم ممّا يقاوم سمّها ويضادّ فعله.
(٢٧) قال قابس فقلت له ما أخلق ما تقول وأشبهه عندي ولكن أعلمني من هؤلاء الذين نراهم كأنّهم ينحدرون من ذلك التلّ وبعضهم متوّج ويتبيّن كأنّهم مسرورون وبعض غير متوّج وكأنّهم مهمومون مضطربون حتّى أنّ أرؤسهم تلحق أرجلهم فتلقاهم كأنّهم مكتئبون بسبب من الأسباب قد اعتراهم منه غمّ. قال إيرقليس أمّا المتوّجون فهم الذين قد وصلوا إلى الأدب فهم بهذا السبب مسرورون فرحون مغتبطون بما أفادوه من الانتفاع به لا تلحقهم غمّ ولا قنوط وأمورهم جارية
في تدبيرهم على السداد. وأمّا غير المتوّجين فلأنّهم لم يعرفوا الأدب فرؤوسهم منكّسة وحالهم سيّئة وهم في شقاء لأنّهم جبنوا فلم يرتقوا إلى الأدب وظلف النفس ولذلك صاروا تائهين بلا عقل. قال قابس فهؤلاء النساء اللواتي معهم من هنّ. قال إيرقليس الغموم والهموم والآلام وضيق الصدر والظنون والجهل. (٢٨) قال قابس أتقول إنّ هذه الشرور كلّها تلحق هؤلاء. قال إيرقليس إي واللّه إنّها لتلحقهم فإذا وصلوا إلى الحظيرة الأولى التي فيها البذخ والإباحة أخذوا في ذمّ الأدب وأهله وذكر مساويهم لأنّهم يزعمون أنّهم أشقياء مذبذبون فهم يفارقون مثل هذا العيش الرغد الذي نحن فيه ويعيشون عيش سوء طلباً للخيرات وهم لا ينالونها.
قال قابس وماذا يعنون بالخيرات. قال إيرقليس مثل البذخ وإباحة النفس للشهوات فإنّ
ظنّي ولكن عرّفنا مع ما وصفته ماذا يأمر ذلك الملك الذي كنت ذكرته من يدخل هذا العالم. قال إيرقليس يأمرهم أن يفرخوا من روعهم ولا ينكلوا كما آمركم أنا فإنّي أقتصّ لكم الأمر كلّه وأشرحه ولا أدع شيئاً منه.
قال قابس فقلت له قد أحسنت. ثمّ مدّ يده إيرقليس وأشار لنا إلى امرأة وقال أما ترى تلك المرأة التي يظنّ أنّها عمياء وهي التي كنت من قبل أيضاً قد أريتكم إيّاها وقلت لكم إنّها تسمّى البخت. قال قابس لعمري. (٣١) قال إيرقليس فالملك يأمر ألّا نثق بما تعطينا هذه ولا يعمل على أنّ ما يؤخذ منها ممّا يوثق به ويعتمد عليه وعلى بقائه وذلك أنّها لا تلبث أن تعود فتنزعه ممّن أعطته وتعطيه لغيره فإنّ هذه سجيّتها وعادتها ولذلك يأمر أن نطلب سبباً
نكون به مستحقّين لقبول الحباء.
قال قابس كأنّك تقول ماذا. قال إيرقليس إنّه يقول لا ينبغي أن نسرّ إذا أعطانا البخت ولا أن نغتمّ إذا عاد فسلبنا ولا نذمّه ولا نحمده إذ كان ليس شيء ممّا يفعله بقصد وتعمّد بل كلّ ما يأتيه فإنّما يأتيه جزفاً من غير تمييز ولا تحصيل كما قلت من قبل ويأمر ذلك الملك ألّا نفحج بما يفيدناه فنكون بمنزلة من دعي إلى وليمة فأتحف فيها بتحفة نفيسة مثل شمّامة أو غيرها فلظنّه أنّها حباء له يسرّ بها حتّى إذا ارتجعت منه ورفعت تلك الآلات تسخّط كأنّه قد أخذ منه ما كان له من غير أن يفكّر فيعلم أنّ ما دفع إليه من ذلك إنّما جرى مجرى ما يؤخذ ويستردّ ليتحف به غيره ولذلك يأمر الملك ألّا يعتمدوا على بقاء ما يفيدهم البخت ويذكرهم
ومن تجاوز ذلك ولم يقبله هلك شرّ هلاك.
(٣٣) فهذا أيّها الغريب تفسير لغزنا. وإن كنتم تحبّون تسمعوا ما في شيء شيء من ذلك فلست أبخل به وأنا أشرحه لكم. قال قابس ما أحسن ما قلت لكن ماذا يأمر الملك أن نأخذ من الأدب الكاذب. قال إيرقليس الأمور التي تظنّ أنّها خيرات. قال قابس وما تلك الأمور. قال إيرقليس النحو والمساحة والحساب والهندسة والموسيقى وسائر العلوم المتداولة التي سمّاها الأوائل التعاليم فإنّها للصبيان في قوّتها تجري مجرى اللجم الكاظمة ولذلك يحتاجون إليها ضرورة وأمّا تلك الأمور الباقية فليس فيها كبير نفع فينبغي لمن أراد الوصول إلى الأدب الصحيح أن يقتني هذه العلوم قبل كلّ شيء وليست ممّا يحتاج إليها بأنفسها ضرورة لكنّها
نافعة في الوصول إلى ذلك الأدب بسرعة فأمّا في لزوم الفضائل والعمل بها فليست ممّا يعيننا على ذلك فإنّ الإنسان إن ابتدأ من التعاليم ثمّ قصد من بعدها نحو الفضائل فإنّه دون أن يحصل له ذلك الأدب الصحيح لا ينتفع به وكثيراً ممّا يلخّص هذا المعنى ويشرحه فضل شرح فيكون فيه منفعة ولا بأس أن تعرفوا أنتم أيضاً هذا المعنى فإنّكم إذا وقفتم عليه انتفعتم به فعساكم من دون هذه التعاليم كلّها تبصرون رشدكم ولا يمنع من ذلك مانع.
(٣٤) قال قابس قبل كلّ شيء ليس ينتفع بشيء من التعاليم في أن يصير أولائك الآخرون ذوي فضيلة. قال إيرقليس هي تنفع إذا وجدوا ..... يعني أنّه يوجد كثيراً بهذه الصفة. قال قابس وكيف حال هؤلاء. (٣٥) قال إيرقليس ليس يعلم من هذا القول
إلّا أنّهم صاروا إلى الحظيرة الأخرى فتصرّفوا فيها كأنّهم يصيرون إلى الأدب الحقيقيّ والأجود متى أرادوا أن يكونوا أكثر نظراً أن يكونوا إذا جاءوا من الحظيرة الأولى دخلوا إلى هؤلاء فامتثلوا فضيلتهم إلّا أن يعتري هؤلاء أيضاً توانٍ ويطيعون من لا أدب له بل معه مغالطة فإنّهم إذا صاروا في هذا الجدّ لم يتخلّصوا أصلاً فأنتم أيضاً أيّها الغرباء الزموا هذه السبيل وروضوا أنفسكم بما وصفناه رياضة كثيرة حتّى تصير فيكم كالسجيّة لا تحول فإنّه ليس يمكن من سماع ذلك مرّة أو مرّتين أو ثلثاً أن يحصل لكم بل ينبغي أن تفحّصوه مراراً كثيرة لأنفسكم ثمّ ترتاضوا به وأن تعتقدوا أنّ ما سواه فضول وإلّا لم تنتفعوا بما سمعتم في هذا الوقت.
(٣٦) قال قابس نحن نفعل ما أمرت به لكن أشرح لنا كيف صار ما يأخذه الناس من البخت ليس
رديئة. (٣٧) قال إيرقليس أوليس قد قلت إنّ الحياة ليست شرّاً لأنّه إن كانت الحياة لمن كان في خير ورفاهية من العيش أيضاً رديئة لم يكن هناك خير ولا شرّ فكما أنّ المرض رديء للمرضى لا الصحّة كذلك الحياة.
قال قابس الأمر على ما قلت. قال إيرقليس فانظر الآن إذا كان الإنسان في حياته في مكروه هل يجب أن يموت على حال جميلة منسوبة إلى النجدة. قال قابس أمّا أنا فهكذا أختار. (٣٨) قال إيرقليس فعلى حسب هذا القول إذاً ليس الموت بشرّ بل الموت على حال قبيحة منسوب إلى الشرّ وذلك أنّك تقول إنّ الموت على حال جميلة غير الموت على حال قبيحة. قال قابس الأمر كذلك. قال إيرقليس أوليس يجري الأمر هذا المجرى من حال الحياة في الصحّة والمرض فإنّ كثيراً ما
يعرض أن يكون الإنسان صحيحاً وهو في شدّة إذا كان مزاج الهواء رديئاً ويكون مريضاً وهو في رخاء. قال قابس حقّاً قلت. (٣٩) قال إيرقليس فلنبحث الآن عن اليسار ولننظر فيه على هذا الوجه ألا ترى كثيراً ممّن هو موسر إلّا أنّه في شقاء من عيشه ومكروه. قال قابس باللّه يميناً برّة إنّي لا أزال أرى كثيراً بهذه الصفة. قال إيرقليس فلم ينفع هؤلاء يسارهم في أن تكون عيشتهم محمودة. قال قابس ما نراه نفعهم. قال إيرقليس إن يكونوا إذاً ذوي فضل ليس إنّما يعتدّونه من اليسار بل من الأدب. قال قابس ذلك واجب عن هذا القول. قال إيرقليس فليس اليسار إذاً خيراً ما لم ينفع من كان له في أن يصير فاضلاً وتكون عيشته محمودة.
قال قابس إنّا لنرى ذلك. قال إيرقليس فبعض
ويستصغر في جنبها ما يناله من المكروه ويستعظم ما يفيد منها فيتخطّى بذلك إلى الجور والظلم فإذا اعتقد أنّ ما يلحق من هذه الأمور عظيم وما يناله فيه من الخير يسير حقير أحجم عن التسرّع إلى الظلم وإنّما يلحق أولائك ما يلحقهم من ذلك لجهلهم وقلّة معرفتهم بأنّ الشرّ لا ينتج خيراً والخير لا ينتج شرّاً فإنّ المال قد يستفاد كثيراً من أفعال رديئة قبيحة مثل الكذب والختل والسرقة وسلب المساجد والسقّايات وكثيراً من أمثال ذلك التي هي في أنفسها رديئة (٤١) فإن كان الخير لا يكون من الشرّ أصلاً فليس ينبغي أن تقول في الثروة التي تكون من الشرّ إنّها خير.
قال قابس هذا لازم واجب من هذا القول. قال إيرقليس لكن العدل والفهم ليسا يحصلان لنا من أمور رديئة ولا نصير أشراراً ظلمة من أمور
محمودة وليس من شأن تلك أن تكون عن هذه ولا هذه أن تكون عن تلك فإنّ اليسار وبعد الصوت والظفر وسائر ما يجري هذا المجرى ليس مانع يمنع من أن يكون لقوم أشرار ظلمة فيجب من ذلك أن تكون هذه وأشباهها لا خيراً ولا شرّاً. فأمّا الفهم والعقل فهما خير فقط والجهل شرّ فقط. قال قابس قد أتيت فيما أحسب على هذا المعنى واكتفي به وزال عنّا الشكّ في أنّ هذه الأمور تكون من أفعال رديئة.
(٤٢) قال إيرقليس إنّ ذلك ليكون كثيراً ولذلك قلنا إنّها ليست خيراً ولا شرّاً وذلك أنّها لو كانت إنّما تحصل من الأفعال الرديئة وحدها لكانت شرّاً فقط لكنّها تحدث من الصنفين جميعاً ولذلك قلنا إنّها لا خير ولا شرّ كما أنّ النوم واليقظة لا خير ولا شرّ وكذلك ظنّي المشي والجلوس وسائر ما
قابس ليس يظهر لنا إلّا أنّ هذا واجب من هذا القول وأنّ هذه ليست خيراً ولا شرّاً على أنّي غير واثق برأي في ذلك. قال إيرقليس هذا لأنّه لم تصر لك بعد سجيّة تتصوّر بها هذا المعنى فافعلوا ما أشرت به عليكم قبيل من الارتياض في هذه الأمور عمركم كلّه ليتمكّن ما قلناه في أنفسكم ويصير لكم به سجيّة وإن شككتم في شيء منه عدتم إليّ لأشرح لكم من أمره ما يزول به الشكّ عنكم.
تمّ تفسير إيرقليس السقراطيّ لقابس الأفلاطونيّ اللغز الذي تضمّنته الصورة الموجودة على باب الهيكل المنسوب إلى زحل.
وللّه الحمد كثيراً.