ps-Hermes Trismegistus: De castigatione animae (Admonition of the Soul)
Work
ps-Hermes Trismegistus, De castigatione animae
(Kitāb muʿāḏalat al-nafs)
English: Admonition of the Soul
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator:
Translated from: n/a
Date:
unknown
Source
ʿAbd al-Raḥmān Badawī. al-Aflāṭūnīyah al-muḥdaṯah ʿind al-ʿarab. Dirāsāt islāmīyah 19. Cairo (Maktabat al-nahḍah al-miṣrīyah) 1955, 53-116
Download
psherm_decastigatione-transl-ar1.xml [120.57 KB]
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب معاذلة النفس لأفلاطون وهو أربعة عشر فصلاً
[رسالة منسوبة إلى هرمس الحكيم فى معاتبة النفس، وزجرها عن الأمور السفلية، وحضها على طلب ما يلائمها ويشاكلها من الأمور العلوية، وقصوها عما يؤذيها ويوبقها، وحثها على ما فيه استقامتها وصلاحها. وأوضح الدلائل والبراهين على ما شرحه من ذلك. ولم يقتصر على سبر المعنى، بل أغرق فى كشفه لكل أحد
بغير قصد تفسير ولا تنميق لفظ، بل بما يقوم فى العقول والأفكار، ويقبله كل ذى لب صحيح. إذ كان ذلك مما يردع عن الانحطاط فى شغب هذه الدنيا الفانية، والتمسك بحبال غرتها، ويرشد إلى أعمال الخير ويحض على الإكثار منه وما يقرب من خالقها ويزلف لديه ويسكن نعيمه الذى لا زوال له ولا انقضاء لمدته.
نفع الله به قارئه، وألهمه طاعته، ووفقه لمرضاته، بمنه وخفى لطفه. والشكر لله كثيراً مستمراً].
الفصل الأول
قال أفلاطون قدس الله روحه العزيز فى مخاطبته لنفسه:
يا نفس! تمثلى وتصورى ما أنا مورده لك من المعانى العقلية الموجودة وجوداً دائماً. فما تصورته فقد عقلته واقتنيته وتيقنته كتيقنك أن الحى جنس لنوع الإنسان، وأن المتنفس جنس لنوع الحى، وأن الجسم جنس لنوع المتنفس، وأن الجوهر الأقصى جنس لنوع الجسم؛ وكتيقنك أيضاً أن المستوى غير المعوج، وأن الكل أعظم
اللطيفة والتمييزات الشريفة والحياة الدائمة وسائر الأشياء التى هى جزئيات له لا أجزاء، وهو كلى لها لا كلاً. فاعتبرى ذلك يا نفس وتيقظى واحذرى الغفلة والتوانى، واستعملى التهذب من أوساخ الطبيعة؛ واستعينى على ذلك بالخضوع والرغبة والابتهال إلى ينبوع الخير ومظهره، وأصل العقل ومبدعه، ومفيد الحياة والحكمة والجود التام والرحمة، تحيى بذلك يا نفس وتسعدى.
يا نفس! عن مبدع الأشياء ومبدئها ومنشئها — جل جلاله وتقدست أسماؤه — صنعك وأبدعك وجعلك ذات التصور والتمثل: فأما التصور فتصورك الشىء على حقيقة ما أبدعه مبدعه؛ وأما التمثل فتمثلك ما خفى عنك معناه من عالم العقل بما شاهدته فى عالم الحس، مثلاً بمثل، ومعنىً بمعنىً، كما أن تدل ذات الصورة المطبوعة فى الشمع على معناها وحقيقتها فى الطابع، وكما تدل الصورة الممثلة فى الطابع على معنى حقيقتها فى نفس ممثلها ومصورها؛ وكما يؤثر الماء فى الرمل والطين معانى حركاته وتموجه.
فاكتفى منى يا نفس بحقيقة ما قد أوردته لك، واعلمى أن جميع ما أنت مشاهدة له فى عالم الكون والفساد من الصور والصنع إنما هى تمثيلات وتشكيلات معان هى فى عالم العقل بالحقيقة غير زائلة ولا بائدة. وما فى العالم الروحانى فملاحظته بالمشاهدة
العقلية. فيجب على كل روحانى وجسمانى عند بلوغه الكون الجزئى أن يتيقن بالعقل أنه حقيقة غير زائلة. وإنما يصور العقل ذاته لذاته فى الهيولى، ثم ينظر بذاته إلى معانى ذاته وصورها فيلتذ بذلك إعجاباً منه بذاته، إذ اللذة العقلية هى مما يناله العقل من ذاته بذاته لا بشىء خارج عنه، ولا بعرض عارض بل من ذاته لذاته. وهذه هى اللذة الحق الدائمة الأبدية.
يا نفس! تيقنى واقتنى معرفة الأشياء بآنياتها وماهياتها ولا تحتفلى بمعرفة كيفياتها وكمياتها، لأن المطلبين الأولين بسيطان أزليان ولا وسيط بين النفس وبينهما، وأن المطلبين الآخرين مركبان زائلان زمانيان مكانيان. واعلمى يا نفس أن علم التركيب لن ينفصل معك مجرداً محمولاً فى ذاتك عند مفارقتك الحس. فخذى علم البسيط، وذرى علم المركب.
يا نفس! هذا جرم الأرض هو أثقل الأشياء كلها وذلك لرسوبه تحت سائر الأشياء وطفو سائر الأشياء كلها عليه. ولذلك صار هذا الجرم فى الغاية القصوى من الكثافة والجلافة والانحصار والكزازة وعدم النور والحياة. — ثم يتلو هذا الجرم من الأشياء
جرم الماء وهو ألطف من الأرض وأصفى وأشرف وأنور وأقرب إلى الحياة. ثم يتلو جرم الماء جرم الهواء، وهو ألطف من الماء. ثم جرم النار الذى هو ألطف العناصر الأربعة وأشرفها وأشدها نوراً. ثم يتلو جرم النار جرم الفلك الذى هو صفو ما تحته والمخصوص بالشرف على سائر الأجرام للطافته وإشفافه وشدة أنواره وحسن نظامه وترتيبه وقربه من الحياة ومجاورته الأشياء الشريفة الحية العاقلة، وأنه متشكل بسيد الأشكال وأتمها وأصحها الذى هو الشكل الكرى المدور، وأن سائر ما يحتوى عليه متشكل بشكله كرةً دون كرة على الترتيب الذى ينتهى إلى كرة الأرض. ثم التالى لجرم الفلك الذى هو أقصى الأجرام كلها هو جوهر النفس المعطية الأفلاك الحركة النظامية والأنوار الصافية الشريفة التى هى ألطف من سائر ما أحاطت به من الأشياء واحتوت عليه. وذلك أن سائر ما تحتوى عليه أجسام وهى لا جسم ألبتة، وأن سائر الأشياء ممادونها لا حياة له إلا بها، وأنها ذات الفكرة والإرادة والتمييز: فما واصلته أظهرت فيه ذاتها على حقيقة قبوله فصار حياً، وما لم تواصله لم يوجد له فكر ولا إرادة ولا حركة ولا تمييز. وما فقد شيئاً من هذه الأشياء فهو ميت لا محالة. والشىء التالى لجوهر النفس والعالى عليها والمحيط بها هو العقل. وبحق إنه ألطف الموجودات وأشرفها وأعلاها منزلةً، وإنه المرتب تحت أفق الأزلى تبارك وتعالى والآخذ عنه بغير وسيط، والمفيد جميع ما تحته الشرف والنور والحياة، وأنه الترجمان الأعظم والحاجب الأقرب.
فتأملى، يا نفس، هذا الترتيب وتيقنيه واعتقديه فإن هيئة الموجودات ونظامها وترتيبها.
الفصل الثانى
يا نفس! لا تذمى الدنيا وتقولى: هى دار خديعة ومصيدة وغرور، فإنها ليست كذلك إلا عند ذوى العقول الناقصة ومن يعرض له الجهل والنسيان. ولو كانت دار خديعة بالحقيقة لكان الإنسان منذ بدء ظهوره فيها إلى وقت خروجه منها لا يشافه منها إلا نعيماً ولذات وسروراً. ثم تأتيه المساءة حينئذ بغتةً فتزيله عن ذلك النعيم ويستحيل به ما كان فيه إلى خلاف ذلك. وليس الأمر فيها كذلك، بل إنما يرى الإنسان ينشأ فى هذه الدنيا ويتربى بأحوال مختلفة لا نظام لها: فيوماً محزون، ويوماً مسرور، ويوماً متلذذ، ويوماً متألم متوجع. والشىء إذا أظهر لك جميع ما فى طبعه فقد أنصفك ونصحك؛ وإنما المخادع من كان فى طبعه الخير والشر فأظهر لك الخير وأبطن الشر لوقت الفرصة والمكنة منك. ولست أرى أحداً نال من هذه الدنيا فرصةً إلا وأعقبه ذلك غصة وألماً. وليس هذا شرط المخادعة من قبل الدنيا، وإنما المخادعة من قبل الإنسان لنفسه، وذلك أن الإنسان الناقص هو المخادع نفسه الـمهلك لها، لا الدنيا، لأن الدنيا قد أظهرت له جميع ما فى طبعها من نعيم وبؤس. فاغتبط الإنسان
الضعيف العقل بنعيمها واعتقده دائماً وأنسى بؤسها وأهمله ثم يقول: خدعتنى الدنيا! وأى خداع خدعته الدنياً! وإنما هو المخادع نفسه والـمهلك لها.
يا نفس! لا تكن أخلاقك فى هذه الدنيا كأخلاق الصبى الذى لا عقل له: إن أطعم ورفق به رضى وضحك؛ وإن شدد عليه بكى وغضب: فهو بينما يكون ضاحكاً حتى يكون باكيا، وبينما يكون راضياً حتى يكون غضبان. وليست هذه أخلاق العقل الوحيد، بل أخلاق مشتركة مذمومة.
يا نفس! إنما رتبت الدنيا على هذه المعانى المختلفة التى هى خير وشر، ونعيم وبؤس، وشدة ورخاء — تنبيها للنفس، وإيقاظاً لها، ومثالات تعمل عليها فتكتسب بذلك العقل المضىء المنير والعلم الثابت الذى هو الحكمة والمعرفة بحقائق الأشياء، وإنما وردت إليها النفس لتعلم وتخبر. ومن ورد إلى محل من المحال ليعلمه ويخبره ويعرف حاله ثم ترك العلم والبحث والاختيار وتشاغل بالنعيم والتلذذ — فقد ضيع مطلبه ونسى أربه الذى قصد له.
وإنما شرحت لك يا نفس هذا الشرح لئلا تكونى فى رتبة الذامين للدنيا عند سخطهم عليها، والمادحين لها عند رضاهم عنها، وليس هم بالحقيقة لا ذامين ولا مادحين، بل هم تائهون ضالون قد أضاعوا طلبهم وأنسوا أربهم وذهب استعمالهم آلاتهم باطلاً
غير متحققين بعلم ولا مكتسبين لقنية.
يا نفس! إنما هذه الدنيا دار علم وبحث واختبار للمتأملين. فتأملى، يا نفس، جميع معانيها وصورها وصنعها وتشكيلاتها المحسوسة السائلة الزائلة البائدة الأعراض والأشخاص. واعلمى أنما هى مثالات الصور بالحقيقة والصور الحقية والتشكيلات الحقية الدائمة الأبدية.
وبالجملة، يا نفس، فإنه ليس فى عالم العقل نوع إلا وشكله ظاهر فى كيان جريان الطبيعة. وكذلك جميع ما هو موجود فى عالم الكون إنما هى دواع ومثالات: فلذاته الكاذبة الزائلة تدل على اللذات الصادقة الدائمة، وصوره المنحلة الزائلة السائلة الهالكة تدل على الصور الباقية الثابتة؛ وإن اختلاف جميع ما فى الحس وزواله يدل على اتفاق جميع ما فى العقل وبقائه وثباته.
فما دمت، يا نفس، فى عالم الطبيعة فلا تطلبى منه لذة ولا تتشاغلى بمحسوس عن التعلم والتصور والتمثل والبحث والاستكشاف لجميع ما قصدت له من مطالبك وآرابك لتكفى العودة والرجوع على اكتساب العلم. فإذا تشوقت يا نفس إلى اللذات
والسرور الدائم فانزعى لباسك الكدر وتهذبى من أوزار جسمك، وتنقى من الأشياء المخالفة لجوهرك. ثم صيرى إلى عالم اللذات الحقيقية والسرور الدائم، والبسى حللك الذاتية، وتصورى بصورك الجوهرية الدائمة الباقية التى أنت مشاهدة لتشكيلاتها ومثالات أنواعها وأنت فى عالم الكون والفساد.
فتيقنى يا نفس جميع ما قد شرحته لك واعقليه. واعلمى يا نفس أن مهلكات الأمور ثلاثة أجناس: أولها الشرك وسائر أنواعه، والظلم وسائر أنواعه، والتلذذ وسائر أنواعه. ويجمع هذه الأجناس وسائر أنواعها كلها أصل واحد — وهو حب الدنيا. فتحرزى، يا نفس، من الدنيا وأعرضى عنها، وانظرى إليها بعين الخائف الوجل منها. وكونى منها كالطائر الذى عرف الفخ المنصوب وفطن له فانحرف عنه وحذره. واعلمى يا نفسى أن تحرزك وهربك من جنس الشرك يذهب بك إلى مرتبة التوحيد، وأن تحرزك من جنس الظلم يذهب بك إلى رتبة النور والصفاء والتهذيب والتمحيض، وأن تحرزك من جنس التلذذ يريحك من مقاساة الخوف والحزن والجهل والفقر. فتيقنى يا نفس حقيقة هذه المعانى، واعلمى صحتها تنجى وتسلمى من الهلكة.
يا نفس! تأملى حكمة مبدع هذه الأشياء واعتبرى بها، واعلمى أن الإنسان لم يخلق
متمثلاً. — واعلمى يا نفس أن التأمل لهذه المعانى دليل على لطيف حكمة مبدع العالم جل جلاله وتقدست أسماؤه.
يا نفس! إن المبدع جل اسمه كالناطق الفائض بما عنده من المعانى والجواهر كلها للمستمعين منه؛ وليس كل المستمعين يفهمون عن التكلم، بل منهم من يحتاج إلى ترجمان يؤدى إليه ووسيط يتوسط بين الناطق والسامع، وذلك لضعف تصور السامع عن فهم القول. ومن هو كذلك فهو أعجمى لا يفهم حاجته إلا بترجمان يفسر له حقيقة القول. فلا تكونى، يا نفس، من الجواهر المحتاجة إلى الوسائط: فإن الترجمان ربما خان فى تعبير الكلام، وغير القول وحرفه — فاخرجى يا نفس من رتبة العجومية إلى رتبة الفصاحة، واقتنى، يا نفس، العلم قبل العمل، ومعرفة الثمرة قبل غرس الشجرة، لتحققى بالقول الثبوت على العلم قبل العمل، فإن لك فى ذلك راحة كبيرة وفائدة عظيمة.
الفصل الثالث
يا نفس! إن الأعراض الحالة فى الجوهر الكثيف عدمت الاتفاق، وأتت إلى الاختلاف والمضادة، فتحرزى يا نفس منها وانحرفى عنها: فهى المعنى الذى حذرته والخوف الذى خوفته.
يا نفس! أنت وحيدة وهى متكاثرة، وأنت متفقة وهى مختلفة، وأنت ناصحة وهى مخادعة، وأنت حق موجود وهى لا حقيقة لوجودها، وأنت خير دائم باق وهى زخارف وتمويه مستحيل فان. فأعرضى يا نفس عنها واحذرى استبعادها إياك وقطعها لك وخذلانها بك. فلا تخرجى يا نفس عن ذاتك الوحيدة الحقية الشريفة وتتبعى تكاثرها واختلافها ومحالاتها وخساستها وعورها — فتضلى وتهلكى.
يا نفس! حتى متى أنت فقيرة هاربة من ضد إلى ضد؟ فتارة هاربة من الحر إلى البرد، وتارة من البرد إلى الحر، وتارة من الجوع إلى الشبع، وتارة من الشبع إلى الجوع — وكذلك فى سائر الأطعمة والروائح: إن أسرفت عليك الحلاوة افتقرت إلى الملوحة، وإن أسرفت عليك الملوحة افتقرت إلى الحموضة، وكذلك فى جميع المشمومات وجميع ما أنت مشاهدة له فى عالم الحس: فبينما أنت فقيرة إلى المقتنيات، فإذا وصلت إليها اكتسبت الخوف عليها ما دامت معك، فإذا فارقتك وفارقتها فقد زال عنك الخوف وأعقبك ذلك أحزاناً وغموماً؟ فانزعى يا نفس هذا الشىء الذى أنت فيه ومشاهدة
به لهذه الأشياء، والذى أنت معه واجدة لهذه الأمراض والآلام. ولا تأسى لمفارقة الأحزان والهموم والخوف والفقر، ولا تكرهى مواصلة الغنى والأمن والسرور: فإنه من آثر الفقر على الغنى، والخوف على الأمن، والذل على العز كان جاهلاً، ومن جهل فقد ضل، ومن ضل فقد هلك.
يا نفس! تيقنى أنك قد برزت عن أصل أنت فرعه؛ وأن الفرع — وإن جرى إلى غاية البعد عن أصله، فإن بينه وبينه وصلة ورباطاً، ولهذه الوصلة والرابطة يستمد كل فرع من أصله كالشجرة المثمرة: فإن الثمرة وإن بعدت عن أصلها المبدئ لها فإن بينها وبينه اتصالاً ذاتياً به يكون استمدادها منه. ولو عدمت ذلك الاتصال — بأن يقطع بينهما قاطع مما سواهما، فحال بين الأصل والفرع وأوجب قطع المادة عن الفرع — لفسد فى حال وتلف. — فتصورى يا نفس هذا، وتيقنيه، واعلمى أنك راجعة إلى مبدئك الذى هو أصلك؛ فتهذبى من أوساخ الطبيعة وأوزارها المبطئة بك عن سرعة الرجوع إلى عالمك وأصلك.
يا نفس! هذا عالم الطبيعة وهو محل الفقر والخوف والذل والحزن، وهذا عالم العقل وهو محل الغنى والأمن والعز والسرور. وقد شافهتهما جميعاً وشاهدتهما، فتخيرى
على خبرة منك، واعلمى أنك لابثة فى أيهما شئت غير مدفوعة ولا ممنوعة. واعلمى أن من الممتنع أن يكون الإنسان فقيراً غنياً، خائفاً آمناً، عزيزاً ذليلاً، مسروراً حزيناً. وإن كان هذا هكذا، فكذلك لا يمكن أن يجمع الإنسان حب الدنيا وحب الآخرة، بل ذلك من باب الممتنع أشد الامتناع.
يا نفس! إنه من نزع سلاحه وكف نفسه واستسلم لعدوه وجب أسره. ومن قاتل بسلاحه وحمى نفسه ولم يستسلم لعدوه، وجب قتله. وأى نفس وردت إلى عالم الطبيعة فلا بد لها أن تسلك إحدى هاتين الحالتين: إما القتل، وإما الأسر. فمن اختار الأسر فقد اختار طول العذاب وهوان الاستعمال وذل العبودية. ومن اختار القتل فقدمات عزيزاً وكان موته حياةً له واستراح من الأسر وهوانه وطول ذله.
يا نفس! متى نويت ترك الأفعال الخسيسة الدنيئة فاقصدى نبعها واجتنبيه وهو حب الدنيا. ومتى نويت الأفعال الشريفة الإلهية فاقصدى أصلها واغرسيه وربيه، وهو الزهد فى الدنيا؛ وليكن فعل ذلك بريئاً من النفاق والتمويه.
يا نفس! لا تخرج بك شدة الحذر وإفراطه إلى حد الجبن فتعدمى الشجاعة وشرفها، وتكتسبى الدناءة وخساستها. واعلمى أن كل شىء مستمد هو غير ذات، وإن كان غير
ذات فمحتاج إلى المادة، وأن كل محتاج إلى المادة فمادته متوالية به دائماً طول مدته المقسومة له. فتيقنى يا نفس هذا، فإن لك تحته راحة كبيرة وفائدة عظيمة.
يا نفس! تمسكى بالتدبير الجزئى على حسب الإمكان. فإن تدافعت بك الأمور إلى جهات التدبير الكلى فارضى بذلك واطمئنى إليه، واعلمى أن بذلك يسقط عنك ثقل الاهتمام والتكلف: كرجل تكلف مصباحاً يستضىء به فى طول الليل وظلمته؛ فلما طلعت الشمس استغنى عن المصباح وزال عنه ثقل التكلف.
يا نفس! لا تقترنى بدنيئات الأمور وخسائسها فتلزمك العادة بذلك وتكتسبى طبعاً مخالفاً لطبعك، فتعدمى بالانصباب إليها الرجوع إلى وطنك. واعلمى أن مبدع الأشياء — جل وعلا — هو أشرف الأشياء كلها. فاقترنى بشرائف الأشياء لتقربى من بارئك بطريق المجانسة، واعلمى أن شرائف الأشياء منضافة إلى شرائفها، وأن خسائس الأشياء منضافة إلى خسائسها.
يا نفس! تطالبين بالاستقرار وأنت فى عالم الكون؟! وأى استقرار يوجد فى عالم الكون! إن الزق ما دام على ظهر الماء فلا قرار له ولا طمأنينة ألبتة. وإن استقر وقتاً ما، فإن ذلك بالعرض، ثم يعود الماء إلى اضطرابه وتموجه بما على ظهره. وإنما يستقر ذلك الزق إذا أخرج من الماء وأعيد إلى الأرض التى هى ينبوعه وأصله
المشاكلة له بالكثافة والثقل — فحينئذ يستقر به القرار. وكذلك النفس ما دامت فى جريان الطبيعة فلا قرار لها ولا راحة ولا طمأنينة لإتعابه إياها وخذلانه إياها وقطعه لها. فإذا عادت النفس إلى ينبوعها وأصلها استقرت وظفرت بالراحة، واستراحت من شقاء الغربة وذلها.
الفصل الرابع
يا نفس! إن عالم الطبيعة صفو وكدر، فتجرعى كدره قبل صفوه. وكذلك ينبغى لمن طلب السعادة أن يسوس نفسه هذه السياسة. واعلمى أن شرب الصفو بعد الكدر خير من شرب الكدر بعد الصفو، فلا تغترى بأن فى عالم الطبيعة صفواً يوجد؛ فإن وجد فيه صفو فليس هو بالحقيقة، لأن ما لا دوام له لا صفو فيه، بل كدر كله وثقل. وإنما ضربت لك مثلاً. فإن أردت الشىء الصافى الهنىء فاطلبيه فى غير عالم الكون والفساد. فإنك إن طلبته فى معدنه وجدته، وإن طلبته فى غير معدنه عدمته. وإن أنت عدمت طلبك وفاتك أربك، اقترنت بك الأحزان والفقر، وأعقبك ذلك مرضاً يؤديك إلى الموت من العيش العقلى والحياة الدائمة.
يا نفس! إن هذا المركب الذى قد ركبته فى هذا البحر العظيم إنما هو من أمياه تجمد وبالعرض تركب. ويوشك أن تطلع عليه الشمس فينحل إلى عنصره ويتركك جالسةً على وجه الماء، إن أمكنك الجلوس: تطلبين مركباً ولا مركب تجدين إلا ما اكتسبته من جودة السباحة وحسن التهدى.
يا نفس! إن الماء الصافى النقى يؤدى البصر إلى سائر ما فى ذاته. وإذا شابه الكدر والوسخ حجب النظر عن إدراك سرائر الأشياء المستكنّة فيه، وكذلك نور الشمس إذا أشرق على الأشياء كان النظر مدركا لها بالحقيقة. فإذا عرض فيه البخارات والدخان والغبار حيل بين البصر وبين إدراكه تلك الأشياء. وكذلك أنوار العقل اللطيفة الشريفة إذا امتزجت بالأشياء الجلفة الكثيفة المظلمة كدرتها وأعاقتها عن إدراك ما فى ذاتها من الصور والأشكال، وأعدمتها التصور العقلى. فحينئذ تبقى النفس فقيرة من مقتنياتها، جاهلة بمعلوماتها، عادمة حسن التهدى إلى طريق نجاتها.
يا نفس! ليس الزهد فى الدار ترك تزويقها وإصلاحها مع الرضا بالمقام فيها. وإنما الزهد التام الرضا بالتحول عنها، والاشتياق إلى النقلة منها. وكذلك يا نفس: ليس الزهد فى عالم الطبيعة ترك لذاته وشهواته مع الرضا بالمقام فيه. وإنما الزهد بالحقيقة شدة الشوق إلى مفارقته والراحة منه ومن معاندته ومضادته واختلافه وظلمته. — فينبغة لك يا نفس أن تعتقدى الشوق إلى الموت الطبيعى والرضا به؛ وتحاذرى الفشل عنه. فبالخوف منه تكون الهلكة، وبالتشوق إليه تكون السلامة. أليس تعلمين يا نفس أن بالموت الطبيعى تنتقلين من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الحزن إلى السرور، ومن الخوف إلى الأمن، ومن التعب إلى الراحة، ومن الألم إلى اللذة، ومن الـمرض إلى
الصحة، ومن الظلمة إلى النور؟ فلا تأسى يا نفس أن تسلبى حلل الشر والشقاء، وتلبسى حلل الخير والبقاء، مع تيقنك حقيقة ذلك ومشافهتك إياه ومشاهدتك له بذاتك الفاردة الوحيدة.
يا نفس! تطالبين بالإخوان والأصحاب فى عالم الكون، وقد علمت أن ذلك من جنس الممتنع، وإنما يوجد ذلك فى عالم الروحانيين لانفراد ذواتهم وتمحضها وصفائها. فإن أحببت ذلك فصيرى إلى هناك لتظفرى بمطلوباتك، ولا تطلبى فى عالم الكون ما ليس فيه، لأن سكانه أسرى ومماليك. وأى أخوة لأسير، وأى عهد لمملوك! فتيقنى ذلك، واعملى به، واعتقديه.
يا نفس! اعلمى وتيقنى أن كل فاقد تائه، وأن كل تائه هالك. فاحذرى أن تقتنى ما تفقدينه فتتوهى وتهلكى.
يا نفس! ما أشد مفارقة الأحباب! وأشد من ذلك محبة كل مفارق!
يا نفس! إن أهل الدنيا مظلومون ظالمون، مغرورون غارون: ومن ذلك أنهم يستقبلون النفس الواردة إلى دار الهموم والأحزان بالطرب والسرور، ويشيعونها — إذا صدرت عنها — بالبكاء والعويل. وكفى بهذا، يا نفس، ظلماً ومخالفةً للحق والعدل!
يا نفس! تيقنى وتفهمى بالاستقراء والتأمل، واعلمى أن أربعة أشياء هى السبب
فى هلاكك لا محالة: وهى الجهل، والحزن، والفقر، والخوف. فاعلمى يا نفس أن من بحث عن العلم عدم الجهل، ومن ترك المقتنيات الخارجة عنه عدم الحزن، ومن عف عن الشهوات عدم الفقر، ومن تشوق إلى الموت الطبيعى ورضى به عدم الخوف.
يا نفس! الجاهل لا يعلم الشىء حقيقةً ألبتة. والمقتنى الأشياء الخارجة عنه حزين طول دهره، والفقير إلى الشهوات الحيوانية فقير أبداً. والخائف من الموت الطبيعى قد عدم حلاوة الأمن. فهل يكون أشقى من نفس جاهلة حزينة فقيرة خائفة؟!
يا نفس! إنه لو تقررت لك رتبة الصبر على مضض العدم السائر بك إلى حد الانفصال من الطبيعة — لعدمت الخوف مع الفقر جميعاً. فاعتقدى يا نفس الصبر، ولا تجمعى مع الحزن والأسر والغربة فقراً وخوفاً فتهلكى.
يا نفس! إن الموت تحت الصبر والثبات عز، وإن الموت تحت الهزيمة والفشل ذل.
يا نفس! إن القتل إنما هو ساعة وتنقضى؛ ومقاساة ذل الأسر حال تطول؛ فارضى بالقتل فى الطبيعة ولا ترضى بالأسر، فإن القتل فى الطبيعة هو الحياة الدائمة، وإن الأسر فى الطبيعة هو الموت الدائم.
يا نفس! هذه رتب ثلاث — فكونى على أشرفها وأجملها: فأدناها رتبةً رجل عالم غير عامل، ومثل ذلك كرجل ذى سلاح لا شجاعة فيه. وما عسى يصنع الجبان بالسلاح! والرتبة الثانية: رجل عامل غير عالم — وهو كرجل شجاع لا سلاح له —
فكيف يلقى عدوه من لا سلاح معه! غير أن الشجاع على السلاح أقدر من الجبان على الشجاعة. وكذلك عامل غير عالم أشرف من عالم غير عامل. والرتبة الثالثة هى رجل عالم عامل: فهو كرجل ذى شجاعة وسلاح. وهذه ينبغى أن تكون الرتبة الشريفة.
يا نفس! إن القمر نير ما دام يرد إليه نور الشمس. فإذا عرض له أن يحول بينهما ظل الأرض انخسف وأظلم. فكذلك النفس نيرة مضيئة ما دام يرد إليها نور العقل. فإذا توسطت أسباب الكون والفساد حيلاناً بينهما عدمت النفس نورها فانكسفت وأظلمت. وكما أنه ما دامت الأرض فى وسط العالم لن يعدم القمر الخسوف، فكذلك النفس ما دامت ملازمة الطبيعة لن تعدم الظلمة والأذى. — فقد تبين من هذا الشرح أن راحة النفس فى مفارقتها للطبيعة والتحول عن هذه الدنيا عاجلاً.
الفصل الخامس
يا نفس! إن العقل ليس هو شيئاً غير التصور والتمثل. وأى نفس عدمت التصور والتمثل فقدت ذاتها. ومن فقد ذاته فهو ميت.
يا نفس! إن التصور والتمثل هو العقل الذى هو الحياة الدائمة والتلذذ؛ والتنعم بالدنيا هو الموت الدائم. فلا تؤثرى مزايلة الحياة الدائمة على مفارقة الموت الدائم فتهلكى.
يا نفس! ما بال سائر الجواهر الطبيعية غير العاقلة متحركة بالطبع إلى عناصرها ومواضعها الخاصة بها؟ وبحق أن كل جوهر إنما شرفه وعزه أن يرجع إلى عنصره ويكون بنبعه ومحله وأصله!
يا نفس! أليس سائر ما يتكون من التراب كالحجارة وغيرها يرجع متحللاً إلى التراب الذى هو أصله ونبعته، حتى إنه لو أخذ جزء من الأرض فعلى به على وجه الأرض ثم خلى سبيله لعاد مسرعاً بحركته الطبيعية إلى عنصره وأصله؟ وكذلك سائر المياه تراها أبداً منحدرة بالطبع ذاهبة مجتازة إلى عنصرها الأعظم مالم يعقها عائق — كسائر العيون التى تنضاف إلى الأنهار، وكسائر الأنهار التى تنضاف إلى البحر الذى هو عنصر الماء. وكذلك كل شىء مما سوى ذلك كسيلان النار إلى العلو راجعة إلى عنصرها الأعلى، وكسيلان الهواء راجعاً إلى عنصره. فإذا كانت هذه الأشياء التى ليس لها عقل ولا تمييز، وإنما حركتها حركة هيام وطبع به يتحرك كل واحد منها إلى حيث شرفه وعزه وقوته، ويأبى الغربة والبعد عن وطنه ومحله — فما بالك أنت، يا نفس، وأنت ذات العقل والتمييز، تأبين الرجوع إلى وطنك وعنصرك الذى هو شرفك وعزك، وتكرهين ذلك وتحبين البعد عن أصلك ونبعك، وتختارين اللبوث فى الأرض الغريبة، ومقاساة الذل والهوان؟! فياليت شعرى! أبالطبع تختارين ذلك، أم بالعقل؟ فإن كان ذلك بالطبع فساوى
الطبيعة فى أفعالها ورجوعها أمداً إلى عناصرها. وإن كان هذا منك بالعقل والتمييز، فكيف يجوز للعاقل المميز أن يختار الغربة على الوطن، ومحل الخساسة على محل الشرف، ومقاساة الذل والهوان على الراحة والعز والكرامة؟! ومن حصل على هذه الرتبة فقد بان أنه لا يعد فى رتبة الطبيعيات ولا فى رتبة العقليات. وما لم يكن من هذين الجنسين فليس بشىء ولا يعد فى الموجودات، بل ينبغى أن يكون منفياً منها. — فتصورى يا نفس هذه المعانى، وارجعى بعقلك إلى شرفك الأعلى ومحلك الأقصى.
يا نفس! إنى تأملت اللذات كلها فلم أجد ألذ من ثلاثة أشياء، وهى: الأمن، والعلم، والغنى. ولكل واحد من هذه الأشياء أصل وينبوع يحركه: فمن طلب العلم فليذهب إلى معنى التوحيد فإنه بالتوحيد تكون المعرفة والعلم والتحقيق، وبالإشراك تكون النكرة والجهل والشك. ومن طلب الغنى فليذهب إلى رتبة القنوع، فإنه حيث لا قنوع لا غنى. ومن طلب الأمن فليعتقد التمنى لمفارقة عالم الطبيعة، وهو الموت الطبيعى.
يا نفس! مادمت فى عالم الكون فاحذرى حالين هما مهلكات للنفس فاحذريهما وانحرفى عنهما انحراف الخائف الوجل منهما، وهما النساء والأشربة الـمسكرة. يا نفس! إن الواقع فى مصيدة النساء كالطائر الواقع فى يد صبى لا عقل له، فالصبى يلهو به ويلعب ويفرح بهجاً مسروراً، والطائر فى خلال ذلك يتجرع غصص الموت ويلقى أنواع العذاب.
وكذلك، يا نفس، ينبغى أن تحذرى الشرب والسكر: فإن السكر يجعل النفس كالسفينة الجارية فى تيار الماء وأمواجه وليس فيها ملاح ولا مدبر يدبرها. فكذلك النفس إذا فارقت العقل جرت الطبيعة بها جرياً هائماً لا ترتيب له ولا نظام، فهلكت وتلفت.
يا نفس! إن الشىء الذى يأتيك علمه ثم يعاودك نسيانه فتيقنى أنه إنما يأتيك علمه من خارج ذاتك بمادة تتوسط بينك وبين علم ذلك الشىء. فإذا عاودك نسيانه فإنما ذلك من قبل ظلمة الجسد واختلافه وثقله واجتذابه إياك إلى ذاته، وإعاقته لك بكثرة أضداده وتركيبه، فتعودين، يا نفس، ناسية لما قد كنت ذكرته، وجاهلة لما قد كنت علمته. ومثل ذلك يا نفس كمثل البصر والمبصرات والظلمة والنور، وذلك أن البصر يكون فى الظلمة وتكون المبصرات حاضرةً بين يديه فلا يراها ويضعف عن إدراكها. فإذا ورد إليه النور المضىء أعانه على إدراك مبصراته ومحسوساته التى قد كانت قبل ذلك غائبة عنه، فكان ذلك النور سائقاً له إليها ومتمماً له إدراكه إياها، وجاعلها فيه بالفعل بعد أن كانت فيه بالقوة. فما دام البصر واحداً ذلك النور فهو واحد لمبصراته ومدرك لها. فإذا فقد النور وعاودته الظلمة عاد إلى فقد جميع محسوساته. ولو دام له النور أبداً لدام له الإدراك أبداً ما دام النور وعدم الظلمة. فإذا كان قد اتضح لك، يا نفس، أن النور يأتى من قبل العقل، والظلمة تأتى من قبل الجسد، فينبغى لك يا نفس ألا تأسفى على فراق الجسد لشدة إضراره بك وخذلانه إياك وإعاقته لك عن إدراك معلوماتك الدائمة الحقيقية، بل ينبغى لك يا نفس أن تأسى على مفارقتك عالم العقل النورى لكثرة منافعه لك ومساعدته
إياك على نيل مطلوباتك. فانصرفى، يا نفس، عن الطبيعة زاهدةً فيها، قالية لها، خائفة منها حذرة من عواقبها، فازعةً إلى عالم العقل الذى هو أصلك ونبعك ومعدن شرفك وعزك — تحيى بذلك الحياة الدائمة، وتستكملى السعادة التامة الكاملة.
يا نفس! حتى متى وإلى متى أنت فى عالم الكون تطوفين واردة وصادرة، وذاهبة وراجعة؟! تتخذين القرناء والخلان فخليلاً تتركين، وخليلاً تصحبين. ليس من خليل تصحبينه فيخشن لك منه جانب إلا ولان لك منه جانب معتقداً لك الغدر والخذلان، وأنت معتقدة له الوفاء والمساعدة: يعتل فتصححينه، ويدنس فتطهرينه: فهو دائماً يقابلك بما فى جوهره وطبعه، وأنت دائماً تقابلينه بما فى جوهرك وطبعك. ثم يعقبك بعد هذا كله بالقطيعة الكلية والفراق القاطع على غير جرم أجرمته، ولا ذنب جنيته ولا شر صنعته. فأنت فى كل حين متجرعة من الفراق غصصاً وفاقدة إلفاً وخليلاً، على غدرهم بك ووفائك لهم، وظلمهم إياك وإنصافك إياهم. لا عن الآخرة بالأولى تزجرين، ولا بطول تجربتك واختبارك لهم تتعظين وتعتبرين. فحتى متى، وإلى متى تصاحبين الأشرار الظالمين والخونة الغادرين؟ أهذا جهل منك وعمىً، أم تجاهل وتعام عن الصواب؟!
الفصل السادس
يا نفس! إنه لو شرب شارب من الماء شربة واحدة لقد كانت تلك الشربة
تقرر فى نفسه المعرفة بطبيعة الماء كله، وإن اختبار الجزء من الشىء الفارد لينبىء عن جميع كليته، وإن الناظر إلى كف من التراب فقد رأى التراب كله، وإن اختلفت ألوان التراب فليس جوهره بمختلف ولا حده؛ وإن المصاحب للقرناء الذين كلهم من طبيعة واحدة وجوهر واحد لعارف بأن أحدهم لينبىء عن جميعهم والقليل منهم ينبىء عن كثيرهم. فاقتصرى يا نفس على هذا الشرح، واكتفى به — توفقى للنجاة والسلامة.
يا نفس! إنى أرى كل شكل يحن إلى شكله، وكل نوع ينضاف إلى نوعه. فينبغى أن تكونى بهذا المعنى عارفة.
يا نفس! أنت صافية فلا تصحبى كدرا،ً وأنت نيرة مضيئة فلا تصحبى مظلماً، وأنت حية ناطقة فلا تصحبى ميتاً أبكم، وأنت عالمة عادلة فلا تصحبى جاهلاً جائراً، وأنت طاهرة نقية فلا تصحبى نجساً دنساً، وأنت متصرفة بالتمييز والإرادة العقلية فلا تصحبى المتحرك حركة الهيام والالتباس والتشويش. فإن أنت لم تتحققى شرحى هذا فأرينى كيف يكون الاتفاق من معانيك التى ذكرتها بمعانى سواك؟! ومن المحال
يا نفس أن يثبت لك اجتماع المخالفين فى معنى واحد. فثقى يا نفس بقولى، وارجعى إلى ما رسمته لك وحددته تجدى الحق وتظفرى بالصواب.
يا نفس! ما أشغل الغريق فى الماء عن صيد السمك! وكذلك ساكن الدنيا: ما أشغله عن مقتنياتها ولذاتها بخلاص نفسه إن فطن لسوء وقوعه فيها! يا نفس! يكفيك وأنت فى عالم الحس ما تقاسينه من آلاتك وأضدادها وأوساخها، فلا تضيفى إلى آلاتك شخصاً آخر، فتكونى كالغريق المرتهن فى البحر قد حمل على عاتقه حجراً؛ وما أرى أن غريقاً ينحو من البحر مجرداً بنفسه، فكيف إذا حمل على عاتقه آخر غيره!
يا نفس! إن سلوك طريق النجاة من قبلك يكون بحسب ما تعرفينه وتختبرينه وذلك أنه إن كانت معرفتك بالمحسوسات فقط، فإنه فى وقت انتقالك إلى ما علمته تنتقلين، ونحوه تتجهين، وبه تغتبطين. وإن كانت معرفتك بالمعقولات وآثرتها على غيرها، فنحوها تتجهين، وإليها تنتقلين، وبها تغتبطين.
يا نفس! هذه دار المحسوسات ودار المعقولات محضرة بين يديك، وكلاهما قد خبرته وشافهته، فتخيرى أيهما شئت لا مدفوعة ولا ممنوعة، واذهبى إلى أحظاهما عندك. فإن اخترت اللبوث فى دار الحسن فأقيمى على ما قد خبرته وعرفته. وإن أحببت المصير إلى دار العقل فينبغى لك قبل الانفصال أن تتصورى معنى طريقك وسلوكك إياه على
ترتيبه محلا بعد محل حتى تنتهى إلى محل المستقر. — فإن كنت، يا نفس، ذاكرة لهذا الطريق فاحذرى أن يحول بينك وبينه النسيان والخوف وقت الانفصال فتضلى وتتوهى. وإن كنت يا نفس ناسية لهذا الطريق فتذكريه واستعينى على تذكره بوصف سالكيه وخابريه فإنهم أثمة الهدى ومصابيح الدجى والأدلاء على المسلك الأعلى إلى الانتهاء. واعلمى يا نفس أن كل شىء يذهب وينتقل إلى العلا ينبغى أن يكون خفيفاً صافياً نقياً ليكون أسرع لممره إلى غايته، وأن كل شىء يذهب نحو السفل ينبغى أن يكون ثقيلاً كدراً، وعلى حسب كدره وثقله تكون سرعة ممره إلى غايته.
يا نفس! إن الأصناف الشريفة ترد من عالمها إلى عالم الطبيعة ورود مختبر له. فإذا استعملت الآلات التى تشافه بها الطعوم والروائح والمبصرات وجميع الآلات العارضة فى الحس نسيت عالمها وجميع ما فيه وظنت أنه لا شىء غير ما هى مشاهدته فى الحس فحينئذ تنسى عالم العقل وتعدم ذكره. فإذا زالت عن النوع الناطق قيل إنها قد ماتت ومضت مع جريان الطبيعة. فمتى عادت إلى الكون الأول، ثم ذكرت عالمها بعض الذكر قيل إنها قد حييت من مماتها وحينئذ تتعلق بالمعنى الذى قد ذكرته مستكشفة له وباحثة عنه وعن جميع المعانى التى نسيتها أولاً. فكلما عقلت شيئاً مما نسيته تجلى بصرها وقويت صحتها وفارقت مرضها. وعند ذلك تدرك ببصر عقلها أن جميع ما هى مشاهدة له فى عالم الحس
إنما هو خيالات أشياء، لا أشياء بالحقيقة. وظل الشىء هو ظل الشىء بالحقيقة على وجه الأرض أو الماء. وإنما عرض للنفس مرابطة أشكال الأنواع دون الأنواع عينها بنسيانها عالم العقل أولاً عند ورودها إلى عالم الحس. وبتأملها هذه المعانى وذكرها لها تكون صحتها من مرضها، وعقلها بعد جهلها، فتذهب راجعةً إلى تأمل المعانى الحقيقية والحياة الدائمة السرمدية.
يا نفس! تأملى قولى وافقهيه واعلمى أن العقل للنفس كالأب، والطبيعة كالزوجة، وأن للنفس جهتين تميل إليها: فتارة تميل نحو العقل بالمناسبة كالمناسبة التى بين الأب والابن، وهذا هو العقل الطبيعى الحقى؛ وتارة تميل نحو الطبيعة كالعاشق الذى يعشق زوجته — وهذا هو العقل العرضى الزائل. فتأملى، يا نفس، الرجل إذا خلا مع زوجته كيف تقابله بالمداعبة والضحك والملق وتكلمه بألطف ما يكون من الكلام وأرقه. وليس ما تبدى من ظاهرها كباطنها، لأنها إنما تفعل ذلك لتستعبده وتستعمله فى أغراضها وتشافه به المهالك. فانظرى يا نفس إلى فعل الزوجة كيف تسقى العسل مخلوطاً بسم قاتل ردىء العاقبة. ثم تأملى، يا نفس، الرجل إذا خلا مع ولده كيف
يقابله بالعتب والتوبيخ ويكلمه بأمر الكلام وأخشنه. وليس ظاهر ما يبدى من ذلك كباطنه، لأنه إنما يريد بذلك تشريفه ومنفعته فى جميع حالاته. فانظرى يا نفس إلى فعل الأب: كيف يسقى الدواء المر الكريه لولده مخلوطاً بالصحة والحياة وحسن العاقبة! فتفهمى يا نفس هذه المعانى: فما كان حقاً فخذيه، وما كان باطلاً فدعيه واطرحيه.
يا نفس! إنما لك أخاطب، وإليك أشير، وإياك أريد! إنما الطبيعة زوجتك، والعقل أبوك؛ وإن لطمةً من أبيك خير لك من قبلة من زوجتك.
يا نفس! إنه لا بد لك من أبيك، لأنه لا شىء يقطع المناسبة بينك وبينه ألبتة: لا الفرقة ولا الاجتماع ولا الغضب ولا الرضا، بل المناسبة ثابتة على كل حال لا يمكن زوالها، لأنه قد يمكن أن يخلى الرجل زوجته فتنقطع علائقه منها، ولا يمكنه أن ينتفى من أبيه ويأخذ له أباً غيره.
يا نفس! إنه بطاعتك للعقل تحيين وتشرفين، وبعصيانك إياه وطاعتك للطبيعة تموتين وتنحسين. فتصورى يا نفس حقيقة هذه المعانى وتمثلى بها — توفقى للسعادة وتستكملى الرشاد.
الفصل السابع
يا نفس! حتى متى وإلى متى أنا سائق لك إلى طريق المنفعة والنجاة لى ولك لا تنساقين، وأنت سائقة لى إلى طريق الهلكة والمضرة لى ولك فلا أنساق معك؟! فإذا كان قد وجب هذا الخلف بينى وبينك فليس هاهنا يا نفس غير المفارقة. فإذن نفترق يا نفس ويمضى كل واحد منا إلى حيث يهوى ويريد.
يا نفس! ما أنت منصفة ولا عادلة ولا عاقلة! أبوك مقبل عليك بتأديبه ومعاتبته: النافعة لك عواقبها، اللذيذة ثمارها، وأنت معرضة عنه ومقبلة على زوجتك وخداعها وطنزها ولطيف ملقها المثمر لك الأحزان والهموم، والمخافة والفقر.
يا نفس! إنه إن فاتتك فرصة العمل بالصحة فى أوان العمل فاتتك حلاوة الاستثمار والثواب على صالح الأعمال. فإن من لم يغرس الشجرة فى أوان الغرس، لم يتلذذ بالثمرة عند إدراك الثمر: فتيقنى يا نفس قولى هذا وافهميه إن كنت حية عاقلة. وإن كنت ميتة جاهلة، فما أبعد تيقنك إياه وفطنتك له!
يا نفس! إن الأصناف الشريفة إنما وردت إلى عالم الكون لتختبره. فلما وردته وشافهت معانيه أنسيت عالمها العقلى وجهلت ذاتها الصورية. فمتى استدركت ذكر ما أنسيته فقد صارت مشافهةً للعالمين جميعاً ومميزة بينهما بالشرف والخساسة،
وملكت التخير أن تلبث عند أيهما آثرت. فإذا أدركت ببصيرة عقلها علو المرتبة الشريفة على دنو المرتبة الخسيسة — فحينئذ تؤثر الرجوع إلى ما ناسبها بالمعنى الذى هى به، وتنفصل مما قارنها بالعرض ظاعنةً عنه زاهدة فيه. — فتحققى بذلك يا نفس فإن لك تحته راحة كبيرة وفائدة عظيمة وسعادة دائمة مضيئة.
يا نفس! إن المواعظ والتنبيه صقال النفوس من الصدأ، وإن المرآة الصدئة بالعرض السريع الزوال يمكن للصيقل جلاؤها وإن المرآة التى قد قبلت الصدأ بالعرض الثابت البطىء الزوال الخارج عن حد القوة إلى حد الفعل فقد صار لها ذلك الصدأ طبعاً ثانياً ثابتاً مستحكماً فلن ينجح فيه عمل الصيقل ولا يستخرج الصدأ منها إلا بإعادتها إلى النار. وكذلك النفوس العرضية الكدر تنجلى بالتنبيه والمواعظ فتذكر سالفات أمورها. فأما النفوس الطبيعية الكثيرة الوسخ والكدر فليس يجلوها إلا دخولها إلى رتبة العذاب وطول لبوثها فيه وترددها إليه.
يا نفس! كم يتردد الذهب الكثير الغش إلى النار قبل أن يصفو ويتهذب!
وكم يدخل العود المعوج إلى النار ويقوم قبل أن يتقوم! وكم تعاد الحنطة إلى الغرابيل قبل أن يهذب دغلها وغلثها! وكم تشافه النفوس الخبيئة الصدئة بألوان العذاب قبل أن تستقيم وترجع!
يا نفس! إنه لا يمكن أحداً أن يعرف فضل حلاوة العسل على مرارة الصبر دون أن يذوقهما جميعاً ويعقلهما بالتمييز. وكذلك لا يمكن النفس أن تعرف فضل حلاوة النعيم على مرارة العذاب دون أن تذوقهما جميعاً وتعقلهما.
يا نفس! كم بين الخارج من شىء قد خبره وذاقه فزهد فيه، وبين الداخل إليه الراغب فى أن يختبره ويذوقه!
يا نفس! إن المقاتل فى الحرب يتمنى الخروج منها لكرب القتال وثقل السلاح. والذى لم يشاهد حرباً قط يشتهى أن يلاقى الحرب ويذوقها. فإن قلت يا نفس إنك قد وصلت إلى غايتك مما قد جربته — فارجعى الآن إلى نهايتك مما كنت فيه ونسيته.
يا نفس! متى أردت الاعتبار الأكبر فانصرفى إلى تأمل الشىء الأبدى الديمومة الأزلى الغاية، السرمدى المسافة — إذ لا حد لمسافة شىء سرمدى — والذى هو مبدأ الأشياء
كلها عند ظهورها، ومفيضها عند دثورها، الذى هو باسط الأشياء وقابضها، ومبدؤها ومعيدها، وواضعها ورافعها، ومنشئها ومبدئها — كلاً بعد كل، وفرعاً بعد فرع.
يا نفس! تأملى الأشياء الجزئية كيف تضعف قواها عن الثبوت والديمومة فتدثر عن كيانها وترجع إلى كلياتها — فكذلك الأشياء الكلية تضعف عن المساواة فى الديمومة الأصل الفردى الأزلى فتدثر عن انحلال قواها وتناهى مددها دفعةً واحدة. وكذلك توجد الأشياء تارةً بالفعل، وتارة بالقوة دائماً سرمداً.
يا نفس! كم بين خليل يرزأك ويحسدك ويحوجك ويفقرك ويحزنك ويفزعك ويعميك ويجهلك ويغشك ويكدرك! تتجهين للبصر فيعميك وتحاولين الرشاد فيطغيك. يفيدك المقتنيات الزائلة البائدة التى لا حقيقة لها، ويمنيك الأمانى الكاذبة الخسيسة التى لا وجود لها. فأنت يائسة أبداً محتاجة فقيرة خائفة حزينة ذليلة مسكينة مظلمة صدئه مستعبدة. كلما أسعفته زاد فقراً، وكلما طهرته ازداد نجاسةً، وكلما صححته ازداد مرضاً، وانتقاضاً؛ تتوهمين دوام خلته وثباته وهو مسرع بجريانه إلى تركك والذهاب عنك. وحينئذ يذيقك غصص الفراق وتوهان العقل. وهذا كله يجرى عليك
بضلالتك ونقصك وعماك وجهلك. وكم بين هذا الخليل يا نفس وبين خليل غيره تصحبينه: إن افتقرت أغناك، وإن ضللت هداك، وإن جهلت علمك، إن عميت بصرك. لن يلزمك منه مؤونة ولا كلفة ولا اهتمام ولا خدمة. وهو أبداً معك لا تذوقين لخلته انقطاعاً، ولا لوجوده فقداً ولا فراقا. كلما دمت معه اكتسبت من شرفه شرفاً، ومن نوره نوراً، ومن حياته حياةً، ومن علمه وبصيرته علماً وبصيرة، ومن غناه وعزه غنًى وعزاً. يقنيك المقتنيات الدائمة الأبدية، ويفيض عليك بالصلات الموجودة الحقية فأنت معه رابحة غير خاسرة.
فتمثلى هذا الخليل يا نفس واقترنى به وانضافى إليه وبه اتحدى!
الفصل الثامن
يا نفس! إن من كان له حبيب ففقده، ثم وجد مع فقده إياه عوضاً منه وبديلا — يوشك أن يسلاه وينساه، ولا سيما إذا كان الآتى أوفق وأحمد من الماضى. ومن فقد حبيباً ثم لم يجد منه عوضاً يوشك أن يطول حزنه وتعظم حسرته. ومن السياسة يا نفس إن كان لك خليل أنت متحققة فقده وفراقه — أن ترتادى منه بديلاً وعوضاً وتلتمسى لك صباحاً قريناً. ومن الواجب أن يكون المستأنف أوفق وأحمد من الماضى. فإن من فقد شيئاً ثم وجد ما هو خير منه تحولت مصيبته نعمة، وحزنه فرحاً وسرورا.
يا نفس! من قبل مزايلتك عالم الكون والفساد تمكنى من مواصلتك عالم
العقل. ومن قبل مفارقتك قرينك الغادر الدنىء الفانى تخيلى فراقه وتمثيله، وتخلى عنه مهلاً مهلاً، واستقبلى مواصلة خليلك الآتى وأنسى به وانضافى إليه مهلاً مهلا.
يا نفس! أى أحد سكن منزلاً فبغضه وأراد الخروج منه فينبغى له أن يرتاد موضعاً غيره قبل نقلته. فإن من انتقل من موضع ولم يعرف موضعاً غيره ينتقل إليه يوشك أن يبقى تائهاً مضطراً، والاضطرار يلجئه إلى أن يسكن حيث وجد على غير ترتيب ولا اختيار، فلعله يسكن بالضرورة فى موضع شر من موضعه الأول فيتنغص عيشه وتتكدر حياته.
يا نفس! إنه ما من أحد يسكن فى موضع إلا وهو يشتهى أن ينتقل منه إلى ما هو أشرف من الأول وأوسع وأبهى. فما بالك يا نفس تؤثرين أن تسكنى فى المساكن المظلمة الخربة الوحشية، وتتركين المساكن النيرة المضيئة الآنسة؟! فحتى متى تكونين من عمار الخرابات الوحشية، وتكون منازلك الأولى الحقية معطلة منك خالية؟!
يا نفس! تيقنى ما أقوله لك وتدبريه: إن كنت متحققة لشىء غير ما تدركينه بالحواس الخمس فقد توجهت إلى طريق نجاتك. وإن كنت لم تتحققى شيئا من الأشياء
إلا ما شاهدته ببصر الجسد وسمعه وذوقه وشمه ولمسه فأنت إذن موقفة على طريق العطب ومقاساة العذاب.
يا نفس! إن حد التقى كلمة ينبغى أن تعقليها وتتيقنى معناها. فحد التقى أن تتقى الأشياء الضارة لك. وكل شيئين يكون أحدهما ضارا للآخر فينبغى أن يكونا مختلفين فى معناهما، لأن المضرة إنما تكون بالمخالفة، كما أن المنفعة إنما تكون بالاتفاق. ومن اتقى الأشياء المضرة كان متقيا بالحقيقة؛ ومن واصل الأشياء المضرة له مع الأشياء النافعة فقد صار لا متقياً بالحقيقة ألبتة: لا لضار ولا لنافع. ومن واصل الأشياء الضارة له واتقى الأشياء النافعة له فقد يقال له أيضاً إنه غير متق إذا اتقى ما ينفعه وواصل ما يضره. وليس يوجد من الموجودات شىء آخر يكون لا نافعاً ولا ضارا. فإن آثرت يا نفس المنفعة فواصلى الأشياء الموافقة لك فى معاييك، وإن آثرت المضرة فواصلى الأشياء المخالفة لك فى معانيك. وإن آثرت الحيرة والتوهان والإشراك والشكوك فواصلى الأشياء النافعة والأشياء الضارة جميعاً. إذ لا تجدين حالاً من الأحوال غير ما قد رسمته لك.
فتيقنى يا نفس هذه المعانى: فإن كنت نيرة مضيئة فلا تشافهى الظلمة، وإن كنت حية ناطقة فلا تشافهى الموتى البكم. وإن كنت عاقلة مميزة فلا تشافهى الجهال والعميان.
يا نفس! تهدى إلى الشىء النافع لك باتفاقكما، وإلى الشىء الضار لك باختلافكما
فى المعنى: فما كان نافعاً فخذيه، وما كان ضاراً لك فاطرحيه واحذريه.
يا نفس! إذا عزمت على النقلة من مسكن أنت ساكنته فانتقلى إلى مسكن يكون أشرف من المسكن الأول ليشتد سرورك بنقلتك، فإن من انتقل من بيت مظلم ضيق خرب وحش إلى بيت مضىء نير رحب آنس يوشك أن يبقى مسروراً بنقلته، فرحاً بحسن عاقبته.
يا نفس! احذرى الخطأ فى السياسة فإن ثمرة الخطأ هى العذاب بعينه، لأن الخطأ والزلل لا يثمران إلا خطأً وزللاً وسوء عاقبة؛ وإن ثمرة الإصابة وحسن التهدى هى النعيم بعينه، لأن الإصابة وحسن التهدى لا يثمران إلا إصابة وهدىً وحسن عاقبة.
يا نفس! إن من غرس النخل وأجاد فى خدمته أكل الرطب والتمر وحمد عاقبته. ومن غرس الصفصاف والعليق عدم الثمر وذهبت خدمته وتعبه باطلاً، وذم عاقبة فعله. فتهدى يا نفس فى جميع أحوالك إلى أخذ ما هو نافع لك وترك ما هو ضار، لتكونى من النفوس الموفقة الرشيدة المقترنة بالسعادة الأبدية الدائمة.
يا نفس! تيقنى ما أنا باسطه لك وممثله! فإنى اختبرت هذا العالم وبحثت عنه فوجدت هيولاه على جهة الابتداء، لا على معنى اختبار: فكل ما لطف وشرف امتاز إلى العلو، وكل ما تكاثف وخشن امتاز إلى السفل. ثم وجدت الحركة الفلكية
تقسم هيولى هذا العالم على أربعة أصول، وهى: النار والهواء والماء والأرض. وإننى اعتبرت هذه الأركان الأربعة فى حركاتها ومعانيها فوجدتها تتحرك بالطبع حركة هيام وموت، لا حركة عقل وخبرة. وإنى وجدت أشياء كائنة من هذه الأركان ذات حياة ونطق وعقل فعجبت كيف تكون الأشياء الميتة الجاهلة أصولاً للأشياء الحية العاقلة. ثم قلت: لعل هذه الأركان إذا امتزجت فى أبدان الحيوان الناطق أحدثت فيها حياةً وعقلاً. ولكن كيف ينساغ فى العقل أن يمتزج الميت بالميت فينتج من بينهما حى، أو يمتزج جهل بجهل فيكون من بينهما عقل؟ — فدعتنى الضرورة حينئذ أن أقول إن هذا الشىء الحى العاقل هو شىء ليس من هيولى هذا العالم، أعنى عالم الكون والفساد، بل من أشياء طارئة غريبة واردة وصادرة، وأنه من الممتنع أن يكون الموت ينبوع الحياة، أو أن يكون الجهل ينبوع العقل. فينبغى يا نفس أن تتيقنى أن هذا الشىء الحى العاقل ليس هو من أركان هذا العالم، بل هو شىء آخر غيره، فابحثى عنه لتعرفيه، واستكشفى حالة لتختبريه فبذلك تسعدين، وتستكملين عملك وكمالك.
الفصل التاسع
يا نفس! إن من أصعب الأشياء وأشدها امتناعاً أن تعمل صناعة الصياغة بأداة الفلاحة أو صنعة النجارة بأداة الخياطة. ولكل صنعة آلة لن يستوى عملها إلا بها لا بغيرها. وإذا كان الإنسان عارفاً بجميع الصنائع ويستعمل آلاتها جميعاً فقد ينبغى له
إذا أراد أن يعمل الخياطة أن يرمى من يده أداة الفلاحة ويأخذ للخياطة آلاتها التى تصلح لها. وإذا أراد أن يعمل الفلاحة رمى من يده آلة الخياطة وأخذ للفلاحة آلاتها التى تصلح لها. وكذلك يا نفس ينبغى لمن أراد أن يدرك عمل الخير أن يترك من يده آلة الجهل والشر وهو حب الدنيا والرغبة فيها. فمتى هممت يا نفس بطلب العلم والخير فدعى من يدك آلة الشر، كما قد تقرر فى علمك أن الصنيعة لا تعمل إلا بآلاتها. وخذى للعلم والخير آلاتهما فإنه متى عملتهما بآلاتهما عملا بغير تعب ولا نصب. ومتى كان بيدك آلة الشر وأردت أن تعملى الخير، امتنع ذلك عليك وصعب، كما امتنع على من كان بيده آلة الفلاحة فأراد أن يعمل بها الصياغة فطال تعبه ونصبه ولم يتم له عمله. فتيقنى يا نفس هذا المعنى، واعلمى أن حب الدنيا والخير لا يجتمعان فى قلب أبداً. فتصورى يا نفس حقيقة هذا وأدركيه ببصر عقلك.
يا نفس! إنه بالعلم الحقيقى تدركين ببصرك اتصالك ببارئك ومناسبتك إياه فتلتذى بذلك لذة الحق، وأنه بالجهل تعدمين ذلك وتنكرينه، وذلك بعماك وظلمتك وخطئك وزللك فتتخيلى بالتوهم أنك من الأصناف الخسيسة وتلحقى بها فتقترنى بألوان العذاب والآلام.
يا نفس! لتكن أغراضك كلها علم الحق. فإذا اقتنيته فانهضى وتزكى
فى الفكر والتمييز دائماً لتدركى بذلك الإصابة وتجرى عادتك ويحتد بصرك ونورك، فتفعلين حينئذ فعل المصب البصير النير المهتدى، وتنسين الجهل والعمى والخطأ فتتركينه وتعدمين بذلك فعل الجاهل الأعمى المخطئ. فتدبرى هذا واعتبريه، فإن باعتبارك إياه تجدين حقيقته.
يا نفس! إن حد العذاب مشاهدة النفس ما اختلف وتغير، وإن حد النعيم مشاهدة النفس ما اتفق ودام وثبت دائماً. والبرهان على ذلك يا نفس ما تشاهدينه فى عالم الحس: فإن أشد الناس جزعاً وخوفاً واستكانةً من كان فى النعيم ثم عدمه وانتقل إلى الشقاء. — فقد تبين يا نفس أن العذاب هو الاختلاف والتغير، وأن النعيم هو الاتفاق والدوام. فإن أردت، يا نفس، الراحة من العذاب فانتقلى من عالم الاختلاف والتغير إلى عالم الدوام والبقاء.
يا نفس! إن التجار ليس يظهرون بضائعهم ويزينونها ليراها العميان، لكن ليراها ذوو الأبصار الصحيحة. وكذلك القصاص والمتكلمون إنما يتكلمون على قوارع الطرق لا ليسمعهم الصم وإنما ليسمعهم ذوو الآذان السامعة الصحيحة. كذلك الحكماء: ليس ينطقون بالحكمة ويشيرون بالمعانى إلى النفوس السالكة رتبة الموت. وإنما يومئون بالحكمة ويشيرون إلى النفس السالكة رتبة الحياة؛ وذلك أن النفوس السالكة رتبة الحياة هى نفوس واردة راغبة فى المعانى، لكن النفوس السالكة رتبة الموت صادرة عنها
وزاهدة فيها — فتأملى يا نفس هذا المعنى، واعلمى أن شتان بين الصادر والوارد، وبين الراغب والزاهد!
يا نفس! إن كرهت العقاب فاتقى الزلل واحذريه، وتجنبى الخطأ واطرحيه. وإن آثرت الثواب فتهدى إلى الإصابة واعلمى أن مقاصد النفس فى جميع معانيها تكون إلى حالين هما الخطأ والإصابة، وأنه لن يخلو الخطأ أن يثمر العقاب والخسران، ولن تخلو الإصابة أن تثمر الثواب والربح. فإن لم يكن ذلك كذلك، فليكن الخطأ يثمر الثواب، والإصابة تثمر العقاب. وهذا ما لا ينساغ فى العقل، ولا يوجد فى مشاهدة الحس. فقد وجب ضرورةً أن يكون الخطأ يثمر العقاب بالحقيقة.
يا نفس! إنه بانصبابك إلى العقل يقوى ضوؤك فتدركين الإصابة ببصرك، وبانحرافك عن العقل وانضيافك إلى الحس تعدمين النور العقلى، فتظلمين وتضعفين فتقترنين بالخطأ بعماك وظلمتك.
يا نفس! إن الطبيب يأمر العليل أن لا يأكل ما يضره: فإن أطاعه أصاب وأثمرت له الإصابة البرء والصحة؛ وإن عصاه أخطأ وأثمر له الخطأ السقم والألم.
يا نفس! إن أردت أن تعرفى حال النفس بعد مفارقتها الجسد فانظرى إلى حالها وهى
ملازمة له. فإن كانت موافقة للإصابة فإنه بعد مفارقتها الجسد لن تؤديها عادتها بالإصابة إلا إلى الإصابة وحسن العاقبة والثواب. وإن كانت مقارنة للخطأ فإن عادتها لن تؤديها إلا إلى الخطأ، والخطأ يثمر لها العقاب والعمى وسوء المنقلب. فافهمى هذا.
الفصل العاشر
يا نفس: إنى لأتأمل حالك فيطول تعجبى منه! تظهرين بالقول أنك زاهدة فى الشقاء والأحزان، وأنت بالفعل راغبة فيها وملازمة لها ومغابطة لأهلهما عليهما. وتظهرين بالقول أنك راغبة فى النعيم والسرور، وأنت بالفعل زاهدة فيهما ومنحرفة عنهما ومستوحشة من الطريق إليهما. وهذا، يا نفس، فعل مختلف، والفعل المختلف لا يظهر إلا من فاعل ليس بفارد ولا متوحد بل فيه اشتراك وتركيب، لأن الشىء الفارد لا يفعل إلا فعلاً فارداً لا اختلاف فيه، والشىء المختلط لا يفعل إلا فعلاً مختلطاً. فقد تبين الآن، يا نفس، أنك لم تتمحضى من غشك، ولم تتهذبى من سوء مكتسباتك التى اكتسبتها فى سالفات أدوارك فقد تبقى فيك جرب وصدأ هو السبب فى اختلاف ما يظهر من فعلك. فإن كان هذا الصدأ فيك بالعرض السريع الزوال — فبادر
بالجلاء والصقال قبل أن يستحكم فى ذاتك. وإن كان هذا الصدأ فيك مستحكماً باقياً فعودى إلى النار فانسكبى فيها لتخرجى منها صافية محضةً. فإن المرآة ذات الجرب والصدأ الثابت لا ينجح فيها الجلاء ولا ينقلع صدؤها إلا بالنار والسبك. — فإذا أنت تمحضت، يا نفس، من جربك وصدئك فحينئذ يتحد فعلك بغير اشتراك ولا نفاق، فتكونين إما راغبة فى الشقاء والأحزان بالحقيقة زاهدة فى النعيم والسرور بالحقيقة؛ وإما راغبة فى النعيم والسرور بالحقيقة، زاهدة فى الأحزان والشقاء بالحقيقة. — فاعملى يا نفس بهذه الوصية — توفقى للسعادة وترشدى إلى النجاة وتهتدى إلى الإصابة فتستثمرى جميل الثواب وحسن العاقبة.
يا نفس! تيقنى أولاً أن الموت الطبيعى ليس هو شيئاً غير غيبة النفس عن الجسد. فإذا تقرر هذا فى علمك فتمثلى أن الرجل الحكيم العالم هو حكيم عالم عند حضوره، وهو حكيم عالم عند مغيبه، لن ينتقل عن حكمته وعلمه أيما توجه وأينما سلك. فتنبهى يا نفس إلى هذا المعنى واقتنيه وتيقنى أيضاً بأن غارس شجرة الخير وغارس شجرة الشر مختلف بينهما، لأن شجرة الخير لا تثمر إلا خيراً وشجرة الشر لا تثمر
إلا شراً. فإن لم يكن ذلك كذلك فشجرة الخير إذن تثمر شراً وشجرة الشر تثمر خيراً. فإن كان هذا هكذا وكانت الشجرة تثمر غير ما فى طبعها فقد ينبغى لغارس شجرة الكرم أن يستثمر منها البلوط ولغارس شجرة البلوط أن يستثمر منها العنب. ولسنا نرى شجرة تثمر غير ما فى طبعها: لأن شجرة الكرم لا تثمر إلا عنباً، وشجرة البلوط لا تثمر إلا بلوطاً. فكيف يكون، يا نفس، غارس شجرة الخير يستثمر غير الخير، وغارس شجرة الشر يستثمر غير الشر؟! — فقد اتضح ضرورةً وتبين حساً وعقلاً أن الشىء لا يلد ويثمر إلا نوعه وشكله. وإلا فمتى رأيت حماراً قط ينتج إنساناً، أو إنساناً ينتج فرساً! فإن يكن يا نفس قد اتضح لك هذه المعانى فاطلبى العلم بحقائق الأشياء وافعلى الخير واغرسى شجرته لينجلى بصرك فتستثمرى من عملك عملاً، ومن فعلك الخير خيراً، ومن استبصارك تبصراً ونوراً وهداية — فتكتسبى بذلك المحل الأعلى، وتستكملى السعادة الدائمة والراحة الأبدية.
يا نفس! تمثلى بالتوهم مفارقة الحواس الخمس ثم انظرى بعد ذلك هل أنت مدركة شيئاً غير ما كنت مدركة له بالحواس. فإن وجدت إدراك شىء غير ما كنت مشاهدة له بالحواس، فقد آن رجوعك إلى وطنك ووقوعك على أربك. وذلك
أن العقل إذا أراد إدراك شىء ما — أفرده مما سواه وانتزعه مما قارنه ثم أدركه إدراكاً فارداً بذاته الفاردة لأنه كما أن الحس لا يدرك شيئاً فارداً فكذلك العقل لا يدرك شيئاً مركباً ولا يعلمه علماً عقلياً دون أن يفرد معانيه ويميزها وينزع كل جنس منها فيجعله فارداً بذاته ثم حينئذ يدرك معانيه كلها على الانفراد. — فقد تبين أن الحس الذى هو الشىء المركب يدرك المركبات، وأن العقل الذى هو الفارد البسيط يدرك الأشياء البسيطة الفاردة. فتأملى، يا نفس، كيف العقل كلما جرى مع التركيب فارق الفردانية وفارق أيضا الإدراك الفردانى الذى هو إدراك الحق واللذة بالحق والعلم بالحق. وكلما رجع متوجهاً نحو التوحيد وفارق التركيب والاشتراك أدرك الأشياء الفاردة الأبدية وعدم الأشياء المركبة الزمنية. فقد تبين من هذا الشرح أن حياة النفس فى مفارقتها عالم الطبيعة، وأن موتها وطول عذابها اللبوث فيه.
الفصل الحادى عشر
يا نفس! إن هذا عالم الطبيعة قد وردته واختبرته. فهل اختبرت منه شيئا غير مبصرات موحشة ومسموعات مفزعة مبهته وطعوم مؤلمة مضجرة وروائح كريهة
منتنة وملموسات نجسة دنسة؟ فلما وردت إلى هذه الأشياء اغتبطت بها إعجاباً وهوى وعشقا، ونسيت معانيك الذاتية الشريفة. فلما عرفت خطأك وزللك أردت أن تشركى معك فى خطئك غيرك وتحيلى الذنب على سواك. هيهات! هيهات! يا نفس! ليس الذنب إلا ذنب من جناه، وليس الخطأ إلا خطأ من أخطأه. فتلافى يا نفس خطأك وزللك: فإنك كما وقعت فيما تكرهين بهواك وشهوتك، فكذلك تتخلصين منه بهواك وشهوتك.
يا نفس! كل مكروه أصابك وأنت فى عالم الكون فتيقنى أن سببه وأصله هو من قبلك ومن حيث خطؤك وزللك. ومتى تذكرت ذلك ذكرته وعرفته، ومتى ورد عليك وارد من المكاره فلم تعرفى سببه وأصله فلا تحيليه على غيرك، بل اجعلى سببه وأصله خطأك القديم الأول الذى قد نسيته، لأن من دخل إلى دار المصائب وأتاها وأصابته مصيبة، فإن ذلك بخطئه إذ أتى إلى دار المصائب فدخلها وقد كان له بد من دخولها. وأعظم من هذا كله أنه قد حذر منها فلم يحذر، وقد خوف منها فلم يخف، ونصح فلم يقبل، واتبع هواه وشهوته.
يا نفس! أليس وأنت خارج السجن كنت تبصرين الأشياء وتسمعين الأخبار؛ فلما دخلت إلى السجن خفى ذلك كله عنك وصرت مسجونة أسيرة تتشوقين إلى خبر تسمعينه، وتتشوقين إلى علم تدركينه وتبصرينه؟ فما الذى حملك على دخولك السجن؟ أليس هذا كله بخطئك؟
يا نفس! قد كنت وأنت فى عالم الوحدة غنية مبصرة عالمة؛ تبصرين العوالم كلها
محضرة بين يديك، وهى كلها صافية نيرة مضيئة مشفة وفى أسفلها عالم الكون والفساد أسود مظلم وهو يلوح منها كما يلوح الحجر الأسود من الماء الصافى. فقام لك أن تدخليه لتختبريه وتعلمى علمه. فلما عزمت على ذلك خرجت عن رتبة التوحيد ونزلت إلى رتبة الاشتراك ومضيت مع الحركة تطلبين ماهويتيه فصرت إلى عالم الكون، وكان مثلك فى خروجك من عالم الوحدة ورغبتك وشرهك فى عالم المركبات كالطائر القاصد إلى الفخ ليسلبه حبته، فسلبه الفخ المنصوب مهجته؛ أو كالسمكة التى فى الماء أرادت أن تبلع طعم الصياد فبلعها الصياد فأنت يا نفس شافهت بنورك وصفائك عالم الظلمة ومازجته فأغشى نورك وأظلمه وأعماك وأخفى عنك جميع معلوماتك وما كنت تبصرينه وبقيت أسيرة رهينة. يا نفس! هذا كله بخطئك القديم. ولكن متى آثرت الرجوع يا نفس فاقصدى الأشياء الضارة التى كانت لك فى الطبيعة فانسلخى منها وتنقى فإن نقاءك منها هو سبب خلاصك ورجوعك. وإنى لأجمع لك هذه الأشياء كلها فى معنى واحد ليسهل عليك علمها، فإن هذه الأشياء كلها يجمعها معنى واحد، وهو التلذذ الجسمانى: فكل ما وجدته لذيذاً بالجسد فاتركيه واحذريه، وكل ما وجدته لذيذاً بالعقل فخذيه واستعمليه.
يا نفس! إن النار تطفأ ونار الشهوة لا تطفأ، والأوجاع تعرض للبدن ثم تزول فيستراح منها وأوجاع الشهوة لا يستراح منها إلا أن تداويها بالعقل؛ ودواؤها تركها واقتناء الصبر عنها، لأن حياة الشهوة مواصلتها، وموتها مقاطعتها والصبر عنها. وقد ينبغى يا نفس أن تعلمى أن شهوات الدنيا ليست كلها فى المآكل، بل فيها ما هو خارج عن المآكل، ولكن شهوات المآكل أضرها، وذلك أن الجسد لا يشتهى الأشربة إلا بعد أن يشبع، ولا يشتهى النكاح إلا بعد أن يشبع، وكذلك الكسوة وجميع المقتنيات الحاملة للنفس على ركوب المهالك والمخاوف، المخرجة لها إلى الضعة والخساسة والدناءة.
يا نفس! إنى قد بصرتك فلا تتعامى؛ وقد صوبتك فلا تتخاطى — فتعظم حسرتك ويتضاعف عذابك باتباعك هواك وشهواتك.
يا نفس! إن الأعمى إذا مشى ووقع فى جب، كان معذوراً عند نفسه وعند غيره. فأما البصير إذا أتى جباً وهو ببصره فألقى نفسه فيه بهواه وشهوته فأى عذر له عند نفسه أو عند غيره!
يا نفس! ما أعظم حسرة الواقع فى المكروه بعلم وبصيرة، وما أشد عذابه! ومعنى شدة عذابه علمه ومعرفته وفطنته إلى ما فعل بنفسه. فخذى يا نفس هذه الوصايا واعملى بها — توفقى للسعادة وتفوزى بالنجاة.
يا نفس! إن من عف عن شهوات الدنيا عفت مصائب الدنيا عنه وخرج من الدنيا سليماً رابحاً، وربحه قربه من الله. ومن أسرع إلى شهوات الدنيا أسرعت مصائب
الدنيا إليه وخرج من الدنيا سقيماً خاسراً، وخسرانه بعده من الله. يا نفس! فعلى هذا الضرب من التجارة اتجرى، وبمثل هذه المعانى تدبرى لتفوزى بحسن التوفيق والسداد، ويحدوك النور والتهدى إلى سبيل الرشاد.
الفصل الثانى عشر
يا نفس! إن من غرس شجرة الصبر أثمرت له الظفر وفاز بالغلبة؛ وإن أسعد السعداء من سما إلى شىء فظفر به. ومن غرس شجرة الفشل أثمرت له الحرمان؛ وإن أشقى الأشقياء من سما إلى شىء فحرمه.
يا نفس! اقترنى فى جميع مطلوباتك كلها بالصبر، فإن الصبر خلق النفس الأشرف، وهو الذى به يكتسب الخير وتدرك السعادة. وإنى ممثل لك معانى عدة فتحققى بها: إن النفس هى الطالبة وإن الخير هو المطلوب، والصبر هو المعنى الذى ينبغى أن ينتصر به الطالب، والتوفيق هو المعنى الذى ينتصر به الخير ويجود به. فإن اتصل الفعل من الطالب بالفعل من المطلوب وجبت الوصلة وتم الانضياف. وإنما مثلت لك هذا المعنى لتعلمى أنه إنما تنال الأشياء كلها بالصبر وأن الخير لا ينال إلا بالصبر.
يا نفس! إن مرارة الصبر تثمر الحلاوة والراحة، وحلاوة العجل تثمر المرارة والتعب.
يا نفس! اقتنى الصبر والثبات على عبادة إله واحد فهو أهنأ لعيشك وأعظم لراحتك. واحذرى أن يحدوك الملل والضجر فتخرجى عن حد الوحدانية فتكثر آلهتك. ومن كثرت آلهته كثرت خدمته واشتد تعبه ونصبه، وتوافرت همومه وتشعثت نفسه فهلك.
يا نفس! إن الضجر والـملل مقرونان بالنفوس البهيمية، والصبر والثبات مقرونان بالنفوس التامة الإنسانية. فلا يخرجك الضجر والملل عن حد الصبر فتستريحى إلى اتخاذ الآلهة ثم تنقسمى بعبادتهم وخدمتهم فتتحمقى وتتحللى فيطفأ نورك وتضعف قوتك ويذهب شرفك ويزول سلطانك. وهذا هو موتك فاحذريه وانحرفى عن معانيه.
يا نفس! ينبغى أن تتيقنى معرفة ذاتك وما لها من المعانى والصور، ولا تتوهى أن خارج ذاتك شيئاً مما يجب أن تطلبى علمه، بل جميع معلوماتك كلها معك وفيك، فلا تتوهى بطلبتك ما هو معك، فإن كثيراً من الناس يكون معه شىء وينسى أنه معه فيطلبه خارجاً عن ذاته ويتوه ثم يأتيه الذكر فيذكره ويجده مع نفسه لا خارجاً عنها. فتيقنى يا نفس أنه لا شىء من الأشياء المعلومة والموجودة وجوداً دائماً أبدياً خارج عنك البتة. وإنما الشىء
الخارج عنك هو ما امتاز من كدرك وثقلك فى الابتداء الأول وهو الشىء القابل للأعراض الجارى مع الكون. ولا شىء آخر يوجد ألبتة غير هذا. فارجعى، يا نفس، إلى ذاتك فاطلبى جميع معلوماتك فيك لا خارجاً عنك، ولا تخرجى عن ذاتك فترجعى إلى كدرك تطلبين علم ما فيه فتقعى فى تيار الاختلاف وتتلاعب بك الأعراض كتلاعب البحر الهائج بما فيه من السفن؛ ثم آخر أمرك أن لا تكسبى منه خيرا ولا شرا، ولا يحصل معك منه علم. فثقى يا نفس بحقيقة هذا القول ولا تنسى الشىء الذى هو معك وتمضين تطلبينه فى موضع آخر، فإن جميع ما ينبغى أن تعلمه النفس هو فى النفس بلا غيار ولا غيرية من النفس، بل إنما يعرض (من) الحس الذى هو الجسد.
يا نفس! إن آلة الصانع إذا خلقت أو كانت منتقضة لا هندام لها، فما اقل منفعته بها! وما أقل جدواها عليه! وتركها خير له من استعماله لها، واستبداله بها أصلح من شحه عليها.
يا نفس! إنه ليجب على الصانع متى وجد الآلة المحمودة أن يعمل بها ويكد ويحرص على الاكتساب وجمع الأموال. وإن الصانع إذا كثر ماله استغنى عن العمل، وإذا استغنى باع آلته بالثمن البخس واستراح من الكد والتعب.
يا نفس! تلطفى فى اتخاذ الآلة المحمودة فإذا وجدتها فأحسنى سياستها بالعدل واطلبى الكد والاكتساب والاقتناء. فإذا نلت الغنى وكثر مالك فينبغى أن تبيعى آلتك بأوكس الثمن، وفوزى بما اكتسبته، وانصرفى من محل الاكتساب.
يا نفس! افهمى عن قولى هذا بصحة منك فإن العليل بالمرة الصفراء لا يذوق حلاوة العسل ولا يجد له لذة، بل الصحيح هو الذى يدرك لذته ويذوق حلاوته. فكذلك ليس يتلذذ بكلام الحق إلا من يدرك ذوقه ويفطن لمعانيه بصحة من عقله. فأما العقل المريض بالجهل والنسيان والحزن والتلدد والخوف — وهذه هى الأمراض العقلية — فإن مرضه يعوقه ويمنعه عن ذوق الكلام والفطنة لمعانيه.
فتمثلى يا نفس هذه الوصية وتصوريها بالحقيقة.
الفصل الثالث عشر
يا نفس! ينبغى أن تعلمى وتتيقنى أن حد اللذة بالحقيقة هو ما لا يمل. ومتى طلبت النفس، وهى فى عالم الطبيعة، لذةً قد سمت إلى غير موجود، وطلبت ما ليس يمكن. والدليل البين على هذا أن جميع ما تشافهه النفس فى هذه الدنيا مملول، والمملول لا ينبغى أن يسمى لذة إذ كان حد اللذة ما لا يمل. أو ما تنظرين يا نفس إلى أكثر أهل
الدنيا كيف يبحثون فى طلب اللذات ويتوهمون أنها موجودة فى الدنيا وليس هى بموجودة. فتبينى أن الناس يطلبون فى الدنيا ما ليس فيها.
يا نفس! تأملى نفوس الناس كيف يرد إلى معانى الدنيا كلها فتشافهها مشافهة ذائق مختبر، ثم تصد عنها صدود قال ضجر. وليس أحد فى الدنيا براض بمنزلته فيها، بل قال لها ضجر منها. وهذا من أوضح الدلائل على أن النفوس إنما تبحث فى هذه الدنيا وتطلب منزلة توازى شرفها وتضاهى معانيها، فلا تصيب ذلك: فهى مقبلة مدبرة تطلب ما ترتضيه. فمتى حصل فى النفس حقيقة هذا الشرح، اقتنت الإياس وأزالت الطمع: من مطالبة اللذات، وهى فى عالم الكون.
يا نفس! كيف توجد فى الدنيا لذة، وكل رتبة تقف النفس عليها فى الدنيا تحتاج إلى الصبر، والصبر مر المذاق، وكل شىء حلو إن خلطته بالمرارة فهو يصير مراً. ومتى نفرت النفس من الصبر والتأدب به ثم ذهبت تطلب المعنى المرضى لها حصلت على التوهان: تذوق هذا وتتركه، وتواصل هذا ثم تقطعه، وترغب فى هذا ثم ترفضه. وهذا معنى قبيح وفعل خسيس وخلق دنىء. ومتى تأدبت النفس بالصبر على أى رتبة كانت من رتب الدنيا فقد اقترنت بها مرارة الصبر. — فقد حصل من هذا الشرح كله: إما
أن يكون الإنسان تائهاً ذواقاً فيحصل على رتبة الخساسة والدناءة، وإما أن يرضى برتبة صالحة من رتب الدنيا مع الصبر عليها، فيحصل على مقاساة المرارة مدة مقامه فى عالم الطبيعة. ولأكل المرارة مع اكتساب الشرف والعز خير من أكل الحلاوة مع اكتساب الخساسة والدناءة.
يا نفس! إن غرض الحق وقضاء العقل أن تكون الأشياء على ترتيبها الطبيعى ثابتة. فإذا كانت كذلك فما أحسنها وأجملها وأعدلها! وذلك كالصانع الذى ينبغى له أن يكون هو الذى يستعمل الآلة، لا الآلة تكون مستعملة له؛ وكالفارس الذى ينبغى أن يكون هو مدبر الفرس ويجريه ويروضه، لا أن يكون الفرس يدبر الفارس؛ وكالسلطان الذى يجب أن يكون هو مدبر الرعية والسائس لها، لا أن تكون الرعية تدبره وتسوسه. فإذا جرت هذه الأشياء على كيانها الطبيعى ظهر الحق والعدل الحسنان الجميلان. وإذا انعكست بالضد والخلاف ظهر الشر والجور القبيحان الرديئان.
يا نفس! إن كان الجسد بالنفس يحيا وبها يبصر ويسمع ويشم ويذوق ويلمس، فقد وجب ضرورةً الإقرار بأن الجسد آلة النفس. ومن القبيح أن تكون الآلة تدبر الصانع وتستبعده؛ فإن الصانع المدبر، لا الآلة، لأن الجاهل إذا اتخذ آلةً اشتغل بتزيينها وتزويقها وترفيهها — عن استعمالها والاكتساب بها ثم يحصل على عبادته لها، فحينئذ ينقلب الحق باطلاً، ويصير العدل جوراً، والحسن الجميل قبيحاً سمجاً، إذ يصير الحى البصير السميع العاقل الشريف عبد الميت الأعمى الأصم الجاهل الخسيس.
يا نفس! إن زماناً تدبر فيه الرعية السلطان لزمان معكوس، وقد وجبت الهلكة على الجميع. وإذا وجب أن يكون الفرس يدبر الفارس فقد وجب هلاكها جميعاً. وإذا وجب أن يكون الجسد يدبر النفس فقد وجب هلاكها جميعاً.
يا نفس! إن السياسة هى خلة لا تصلح لمخلوق ألبتة، وإنما هى محنة يمتحن بها الناس: فإن امتحن بها العاقل الرشيد تبين من نفسه الضعف عن القيام بتدبيرها فخضع وذل ورغب إلى سائس الكل وعلته، الفائض بالخير كله على الطالبين إليه، فاكتسبت نفسه بانصبابها إلى الخير خيراً وبصيرة، فيهدى إلى حسن السيرة والقصد إلى وجه الإصابة والنجاة من الخطأ بحسن التوفيق. فتكون هذه النفس تشرب من ينبوع الخير والعدل، ثم تفيض بما فيها على من تشتمله سياستها. فبذلك يكون ظهور العدل والخير وسعادة السائس والمسوس. — وأما الجاهل فإنه إذا امتحن بالسياسة سره ذلك وأبهجه، ورأى أن فى قوته وطبعه ما يقوم بهاو بأضعافها. فحينئذ يتهاون بها وبتدبيرها، وينصرف بجميع قوته إلى التلذذ والتنعم المثمرين الجهل والعمى والزلل والخطأ؛ فتكون تلك النفس تشرب من ينبوع الشر والجور، ثم تفيض بما فيها على من هو تحت سياستها، فيكون بذلك ظهور الشر والجور وهلكة السائس والمسوس.
يا نفس! إذا دخلت عالم الأحلام فلا تغتبطى به، ولا بمشاهدته ولا تتحققيه وإلا صرت عند اليقظة ضحكة ومسخرة وملهاة.
يا نفس! إن عالم الكون والفساد هو عالم الأحلام، فينبغى أن تتمثلى أن النائم الحالم فيه إنما هو نائم نوماً ثانياً وحالم حلماً ثانياً. فإذا استيقظ فإنما هو نائم انتبه من نومه العرضى ورجع إلى نومه الطبيعى: كرجل أبيض اللون بالطبع عرض له الخجل فاحمر لونه ثم رجع بسرعة إلى لونه الطبيعى. وكلا اللونين يؤول إلى زوال، غير أن حمرة الخجل هى عرض سريع الزوال ويسمى حالاً، واللون الطبيعى هو عرض ثابت يزول بزوال الطبع. — فعلى هذا القياس قياس النائم الحالم فى عالم الطبيعة: إنما هو نائم ينام وحالم يحلم، أعنى أنه فى الدنيا نائم بالعرض الثابت؛ ثم يعرض له النوم بالعرض الغير ثابت: فكأنه إنما اكتسب نوماً على نوم، فإذا انتبه فإنما انتبه من نوم إلى نوم.
يا نفس! تيقنى قولى هذا، واعلمى أنما أنت فى هذه الدنيا راقدة، وأن جميع ما أنت مشاهدة له فيها إنما هو أحلام. وكما أنه يعرض لك النوم الذى هو بالعرض السريع الزوال فتنامين وتحلمين، فإذا زال ذلك العرض انسلخت من جميع الأشياء التى كنت مشاهدة لها انسلاخاً كلياً ورجعت إلى مشاهدة الأشياء الطبيعية التى هى بالعرض الثابت والتى أنت بها أشد تحقيقاً منك بتلك الأشياء التى هى بالعرض السريع الزوال. فكذلك إذا استيقظت من نومك الطبيعى الذى هو الدنيا ورجعت إلى اليقظة الحقيقية التى هى عالم العقل،
فإنك إنما ترجعين إلى معان وأشياء أنت بها أشد تحقيقاً منك بما كنت مشاهدةً له فى رقدتك فى عالم الطبيعة، ويكون معناك فى هذا كمعناك الذى كان يعرض لك وأنت فى الدنيا، أعنى أحلامك فيها.
الفصل الرابع عشر
يا نفس! إنما أحلام الدنيا ليست بشىء حق بالإضافة إلى أسباب الدنيا. وكذلك أسباب الدنيا ليست بشىء حق بالإضافة إلى عالم العقل الذى هو الشىء الحق والمحل الحق. وإنما شرحت لك يا نفس هذه المعانى لئلا تغتبطى بمشاهداتك التى فى عالم الحس، فتكونى كالذى نام فرأى فى منامه أشياء حسنة مبهجة أنيسةً فركن إليها. فلما استيقظ حزن وجزع على مفارقته تلك الأشياء التى رآها فى نومه نعماً، حتى إنه بضعف عقله وقلة علمه يعود إلى النوم شوقاً منه إلى الأشياء التى رآها فى نومه. فإن كان هذا، يا نفس، قد اتضح لك، فاعلمى أن النفس إذا كانت فى عالم الكون مشاهدةً لنعيمه ولذاته وسروره، فإنها مهما تفارقه تألم لذلك أشد الألم وتجزع له أشد الجزع. وبالحقيقة إنما تعود إليه تطلب تلك الأشياء التى كانت تشاهدها — شوقاً إليها واغتباطاً بها. ومتى كانت النفس فى عالم الكون مشاهدة لبؤسه وأحزانه وضيقته فإنها مهما تفارقه تجد لمفارقته أعظم
اللذة وأكمل السرور والراحة. وبحق إنه لو رأى نائم فى منامه كأنه مشاهد الأشياء كلها سمجة وحشة مؤذية، ثم استيقظ من نومه ذلك، لوجد عند استيقاظه أعظم اللذة وأتم السرور والراحة لمفارقته تلك المعانى التى شاهدها فى نومه. نعم! ويكره أن يعود إلى النوم استيحاشاً وفزعاً من تلك المكاره التى رآها.
يا نفس! متى أعطتك الدنيا شيئاً فلا تأخذيه منها، فإنها ربما تطربك لتضحكك قليلاً وتبكيك كثيراً. وهذا الفعل منها إنما هو بالطبع، لا بالتكلف. ولن يقدر الشىء الطبيعى أن يكون غير ما هو. فأما النفس فلأنها حية عاقلة مميزة فلها الاستطاعة على أن تنخدع وعلى أن لا تنخدع. فإذا شافهت أفعال المخادع لها ثم انحرفت عن خداعه وحذرته فقد نجت من سوء العاقبة. وإذا قبلت المخادعة والمحال فإنما ذلك بهواها وشهواتها. وكما أنه يمكنها أن تقبل الخداع، فكذلك يمكنها أن لا تقبل ذلك: فهى مالكة الاستطاعة إن شاءت تحرزت من الهلكة، وإن شاءت دخلتها. — فانظرى يا نفس إلى هذه الوصايا، وتدبرى بها، لتفوزى بالنجاة إلى دار البقاء ومحل النور والصفاء، مع السادة الأخيار والأنبياء الأبرار.
يا نفس! خذى من الأشياء ما عرفته وعرفه الجميع؛ ودعى ما أنكرته وأنكره
الجميع. وقد عرفت أنت والجماعة أن النار حارة محرقة مضيئة، وأن الماء بارد رطب سيال يروى من العطش، وقد عرفت أن كل الشىء أكثر من جزئه، وأن المستوى غير المعوج وقد عرفت أن الطوبى هو الحظ الشريف السنى، وأن الويل هو الحظ الخسيس الدنى. وقد علمت أن المرغوب فيه حبيب الراغب، وأن المزهود فيه بغيض الزاهد: فإن كان فراق الحبيب شراً ومصيبة وفراق البغيض خيراً ونعمة، وإن كانت الدنيا مفارقة بالحقيقة وبغير ذلك — فقد وجب الويل لمحبيها والطوبى لمبغضيها.
يا نفس! انفصلى من الطبيعة بوهمك، ثم انظرى: هل تجدين شيئاً غير ذاتك وكونها؟ فإذا نعت ذاتك فقولى: هى الجوهر الصورى المصور المحرك المتحرك الحى العاقل المميز المتهجس إلى معانى إرادته ومطلوباته، ذو الأخلاق الشريفة الخيرة التى هى العدل والحكمة والجود والرحمة. فإذا نعت ذاتك بهذه المعانى، وكانت لك ذاتية طبيعية — فقد لزمك الإقرار بأنك أنت الشىء الحى اللطيف المدبر. فإن سموت إلى نعت كدرك هل تجدين له نعتاً ذاتياً أو صفة دون أن تستعيرى له النعوت والصفات،
فتنعتيه بالمعانى التى هى غيره. أفليس قد لزمك الإقرار بأن شيئاً لا نعت له ذاتياً ولا صفة هو شىء ميت موضوع للاستعمال بطبعه؟! — ومما ينبغى أن تفهمى أن النفس إنما تفعل فى الطبيعة معانى ما تفعله العلة الأولى فيها. فمتى تمثلت، يا نفس، هذا المعنى الموجود فى الحس وجدته هو الترتيب السلطانى بعينه.
يا نفس! تأملى هذا المثل! فإما أن تضحكى منه تعجباً، أو تعتبرى منه تخوفاً: فلو أن طائرين من نوع واحد ربطا جميعا فى رباط واحد وتركا فيه لعظم عذابهما وبعدت الراحة منهما. وإن فرحة كل واحد منهما وراحته انفصاله من الآخر. فإذا كان طائران هما نوع واحد وشكل واحد ربطا جميعاً فأعقبهما الرباط أنواع العذاب، فكيف إذا ربطت أشياء مخالفة بعضها فى الشكل والمعنى كحمل ربط مع ذئب، أو ثور ربط مع سبع، أو حى ربط مع ميت؟! أم هل يكون أشقى من عالم ربط مع جاهل؟! — يا نفس! إن كانت راحة الحمل أن ينحل من مرابطة الذئب، وراحة الثور أن ينحل من مرابطة السبع، وراحة الحى أن ينحل من مرابطة الميت، وراحة العالم أن ينحل من مرابطة الجاهل — فإن كنت يا نفس، تقرين بحقيقة هذا المعنى فقد
انجلت الغشاوة عن بصرك؛ وإن كنت منكرةً لذلك فاستعملى الأدوية المزيلة العمى عن الأبصار، والأخلاق المخرجة من الظلام إلى الأنوار.
يا نفس! تأملى جوهرك واعتبريه، واعلمى أن جوهر النفس جوهر عال شريف — وذلك بمناسبتها جميع العوالم وحلولها بكل محل، وأنها تنسب فى بعض الأحايين إلى عالم الطبيعة فتكون إنسانية مشاهدة للمحسوسات، مشافهة للمآكل والمشارب وجميع معانى الطبيعة، وتارة تنسب إلى عالمها الأخص بها نفساً حاسةً محسة مستعملة محركة متهجسة ذات استبحاث وتأمل واختبار وإرادة. فهذه المعانى هى معانى النفس، وهى الحياة المنبثة فى جميع ما احتوت عليه ملكوت النفس. وتارةً تنسب إلى عالم العقل فتكون منتزعة الصور عن الهيولى، مدركة البسائط الأولى، مميزةً متصورة عاقلة لجميع المعانى الفاردة البسيطة. وتارة تنسب إلى العالم الإلهى فتكون بالغة الخير والجود آمرة بهما، خالية من الشر والجور ناهية عنهما، حكيمة الأفعال متقنة الأعمال. ومن أوضح الدلائل على أن النفس تناسب العلة الأولى ما هو موجود فى خلقها من أنها
تسمو إلى الإحاطة بجميع الأشياء التى يحتوى عليها الملكوت العظمى، وأنها لن تلفى مستقرة راضية تامة الرضا دون أن تبلغ العالم العقلى بجميع ما فيه، فحينئذ تلفى النفس غير طالبة شيئاً قارة مستقرة تامة الرضا. ومن استعمل الإفرار فى ذاته توجد له حقيقة ذلك.
يا نفس! ما يكون أشقى منك وأعظم حسرة وقد أصبحت فى محل الأعاجم وحيدة فريدة: تبثين إليهم الشكوى بلفظك فلا يفهمونه، ويبثون إليك من لفظهم ما لا تفهمينه. ومتى قارن الشىء خلافه فهو مهجور موهون مشغول عن ذاته بذات غيره.
يا نفس! ما أعظم حسراتك إذ تنطقين فلا تجدين سامعاً، وتبثين الشكوى فلا تجدين راحماً. فياليت شعرى! ماذا عزاء من أصبح غريباً عن وطنه، نائياً عن معدنه، بعيداً عن أصله ونبعته، قد أوبقه هواه وشارف استثمار زللـه وخطئه، محمولاً على مركب الغرور والشهوة، مقترناً بمذلة اللهو والتلذذ، ساهياً فى
طربه، موقوفاً على عطبه. فليعلم الراكب فى لجة البحر فى المراكب المزخرفة الـمزجية عند تحللها وذوبها أنه إنما صاحب من خذله، واستسلم إلى من غره وخدعه، فيالها من حسرة ما أعظمها لمغرور بحبيب خائن وقرين خاذل!
يا نفس! من غرس طيباً أكل طيباً، ومن غرس خبيثاً أكل خبيثاً، وإن ثمرة العمل الصالح كأصلها، وثمرة العمل الردىء كأصلها. وقليل من العلم مع العمل به أنفع من كثير من العلم مع قلة العمل به.
فرحم الله من علم وعمل وعلم وقرأ وفهم وفهم، ووصل وأوصل، وكان وسيطاً بالحق، ناطقاً بالصدق، مقترنا بالتوفيق.
][ تم كتاب معاذلة النفس، والحمد لواهب العقل والصور، والصلاة على أنبيائه وأوليائه؛ وخصص بالصلاة محمداً وآله الطاهرين — فى العشر الأول من ذى القعدة الشريفة فى تاريخ سنة أربع وستين وألف، بمدينة القسطنطينية المحمية، عمرها الله، تعالى عن الأفهام ][