ps-Plato: Liber quartorum (Book of Fours)

Work

ps-Plato, Liber quartorum (Kitāb al-rawābīʿ)
English: Book of Fours

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ṯābit ibn Qurra
Translated from: n/a
Date: between 860 and 901

Source

ʿAbd al-Raḥmān Badawī. al-Aflāṭūnīyah al-muḥdaṯah ʿind al-ʿarab. Dirāsāt islāmīyah 19. Cairo (Maktabat al-nahḍah al-miṣrīyah) 1955, 119-239

Download

psplat_liberquartorum-transl-ar1.xml [317.06 KB]

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الروابيع لأفلاطون شرح أحمد بن الحسين بن بختار لثابت 〈بن قرة〉

الرابوع الأول والثانى

قال ثابت بن قرة:

قلت لأبى العباس أحمد بن الحسين بن جهار بختار عند انقضاء كتاب «أنطوليقا»: إنك بإنجاز وعدك لخليق!

قال أحمد: فيماذا تعنى يا ثابت؟

قال ثابت: فيما تضمنت كشف غوامضه وتفسيره وتحقيق معناه من كتب الشيخ أفلاطون.

قال أحمد: إنى لأعجب من حرصك على ذلك كأنك لم تقف على عواقب الأمور فيما يصير إليه أمر الدهور!

قال ثابت: أشهد الواحد الحى ما حرصى حرص من يحب أن يلام عليه، لأنى لست أريد منه عاجل النفع ولا نزر الطمع، بل ما يفتح لى باباً إلى الحق ويرشدنى إلى سبل الرشاد. إذ قد وقفت من إشارتك أنه يحوى الكلام فى هذا النوع معانى فلسفية حقيقية.

قال أحمد: إن كان ذلك كذلك، فبالواجب حرصك أن يشتد. إلا أنه لو كان سؤالك عن عين الحق وما لا يخلط به سواه — لكان أولى.

قال ثابت: قد علمت أيها الفيلسوف كون هذا العالم وأهله، وأنه لا يحتمل الحق بكليته. فأنا أريد أن أسمع من الكلام ما يؤدى بعضه إلى الحق، وأرضى ببعضه بالطبع، إذ كنت لنقصانى أعجز عن دفع قوى الطبيعة بأسرها.

قال أحمد: إنه ليسرنى أن أجد فى هذا العالم من يتكلم بمثل هذا الكلام أو يهتدى إلى هذا النوع من السياسة. إذ كان العلم مرفوعاً والرأى معدوماً، والعالم وأهله قد عادوا الحق وأهله ومعرفته حتى صاروا فيه معدومين ومما يضاده من الجهل والعمى مخصوصين.

قال ثابت: بعلمك أيها الفيلسوف اهتديت، ومن رأيك اقتبست، فحسنى لك إذ كنت بك فيه اقتديت، وقبيحى لى إذ كنت عن سيرتك تعديت. وأما العالم وأهله فكما وصفت، إلا أنك مصباحه المبين وشمسه المنير. وخليق لهذا الزمن أن يفتخر على سائر الأزمان بك، إذ برزت سبقاً على من مضى، واستحال فى الوهم كون من بك يتساوى.

قال أحمد: دعنى من الملق، فإنما بغيتى عالم ولم أخالف فيه من بسيرة الحق عارف، إلا أنى مضطر إليه كتشبث الطبيعة بى، وأنا مبتهل إلى الله الحق أن يعيننى على نيتى ويوفقنى لمرادى العقلى، لا المراد الطبيعى.

قال ثابت: لست الذى أحتاج أن أقف على السبب الذى منه اعتذرت، وما تكره من نفسك فهو عند غيرك من الفلاسفة سيرة الحق؛ إلا أنك لما حويت الفضائل وأخذت بأزمة الرشاد تستعظم اليسير من الخلل يكون منك.

قال أحمد: أليس يعسر عملى بالعلم، فكيف أستحق لشىء من المدح؟!

قال ثابت: ذلك كما قلت. وكيف لا يكون كذلك وعلمك ما لا يتناهى، وعملك محدود بمحدود فى زمن محدود!

قال أحمد: إن فيما تطالب كشفه من العلم واسطة بين ما لا يتناهى وبين ما يتناهى.

قال ثابت: أسألك أن تكشف لى عن هذا القول.

قال أحمد: لما كان فيه الإنباء عما لا يتناهى، وهو الأصل الذى كان من أجله البسيط القابل لتركيب الذى يستحق اسم المتناهى، ثم الكلام فى المركب اللطيف والمجسم — كان كل ذلك، أعنى علمه، ممكن فيه الارتقاء إلى العلو الذى هو محل الحق الذى لا يتناهى والرجوع فيه إلى المركب الذى هو الطبع المتناهى.

قال ثابت: فأنا الجدير بمطالبتك بذلك وإبرامك فيه حتى أصل إلى مرادى منه.

قال أحمد: لو لم يكن فى إخراجى ذلك إلا ما يمتاز به المهرة من أهل هذا العلم من الخداع المستأكلين بهذه الصناعة، لكان ذلك جليلاً من الحظ.

قال ثابت: إن كان ذلك يخرج فيما تخرجه من هذه الكتب، كان لك المنة العظمى واليد العليا على هذا العالم وأهله.

قال أحمد: إنى عازم على الإخراج فى فحوى بعض كلامى فى هذه الكتب لأشياء نمتحن بها الممخرقين بهذه الصناعة.

قال ثابت: إن فعلت ذلك فما أولاك!

قال أحمد: إن الخداع والمخرقة مجانسا الطبيعة لا يزالان معها وفيها. وقد كان الشيخ أفلاطون وضع فى كتابه المسمى «ديالغون» فى المقالة السابعة أشياء من هذا النوع. ويقول فى بعض فصوله فى هذه المقالة أن ليس شىء من الخداع بأنفذ عند العوام من ادعاء هذه الصناعة وأطماعهم فيها، إذ كان فى نيلها إدراك جميع لذات هذا العالم

والمطلوبات فيه، فيبلغ من حرص الأنفس عليها ما يشغل ذوى الآراء العميقة عن التثبت والتفتيش عن صحة الشىء وباطله، فكيف الخلو من العلم والصفر من الرأى!

وقد كان للشيخ أفلاطون تلميذ يسمى أومانيطس قد ولع بطلب هذه الصناعة وتشاغل بها عن جميع العلوم؛ فكان أفلاطون يعظه ويدفعه عن مراده وما هو عليه. فكان لا تزيده العظة إلا حرصاً والدفع إلا ولوعاً. وكان مما يدعى أنه يصحح عنده هذا العلم والصناعة أنه قال: إنما رأيت الأشياء من الطبائع الأربع، ووجدت الحشائش والنبات منها، ووجدت البذر القليل يبذر فى الأرض فيستحيل من الأرض إليه ما كان ملائماً له، حتى يصير من الشىء القليل الكثير. ووجدت الذهب والفضة وقد جانسا النبات فى الطبيعة، وجب أن تكون زيادتهما ونماؤهما إذا دبرا كالنبات.

فقال أفلاطون حينئذ: إنك قد ركبت يا أومانيطس بيداء مضلة وأنت أعمى عن مطلبك فليس يزيدك جولان الطلب إلا بعداً عن المراد. ولولا أنى قد رأيت من حرصك على هذا العمل ما لا أشك معه أنك إنما تريد به الاستمكان من الطبيعة لكنت أرشدك إليه، فيكون نيلك فى أقرب مدة. إلا أنك لما عدلت عن علم المخلص وسيرة الحق لم لم يسعنى أن أعاونك على ضلالك. غير أن مشاكلة جوهرية الإنس توفقنى لك بعطفى عليك، فأنا أبين لك فساد ما أنت عليه وإن لم أرشدك إلى صوابه.

أما ما ذكرت أن الحشائش والنبات من جنس الطبيعة، وأن الذهب والفضة وسائر الجواهر أيضاً كذلك، وأنه واجب أن يزدادا إذا دبرا كزيادة النبات — فيوجب قولك هذا أن تكون زيادة الذهب ونماؤه فى معدنه وجوهره الذى هو الأرض. وكما أنك لو ألقيت بذر النبات فى النار أو فى موضع غير مشاكل له لم يزد فيه ولم يستحل، بل تفرق وبطل — كذلك الجواهر إذا ألقيتها فى معدنها لم يكن بالمستحيل أن تستحيل إلى جوهرها. وإذا كانت من خلاف الموضع الذى يشاكلها بطل أن تنمو أو تزيد

كما بطل ذلك فى النبات. — فقد بان لك — إن استيقظت من سنة الضلال — أن قولك هذا فاسد واستدلالك هذا باطل.

فلم تردعه وصية الشيخ وما بين له، ودار بينهما كلام كثير، أدى ذلك إلى مفارقته للشيخ وخرج إلى بلاد البابليين، ونزل على مصب الفرات يطلب وجود هذه الصنعة. وزاد فى حرصه عليه منع الشيخ له عنه، وأراد أن يكون انصرافه إلى بلاد اليونانيين. وقد أدرك ذلك لينفى عن نفسه ما نسب إليه من الاشتغال بالباطل والانهماك فى المحال. فلم تزده الأيام إلا حيرة، ولا التفتيش إلا عمىً. فلما يئس وانقطع رجاؤه انصرف إلى بلاد اليونانيين خائباً خاسراً وقد نفذت أيامه وفاته الحظ الجليل من ملازمة أستاذه.

فلقيه أفلاطون فقال له كالهازئ به: هل أصبت مطلوبك يا أومانيطس؟ فقال: أصبت أن مطلوبى من مطلبه غير موجود.

فقال أفلاطون: قد أصبت الموجود.

قال ثابت: أيها الفيلسوف! قد فت هذا الكلام فى عضدى ونقص من غرامى، وأوهى من رأيى، إذ كنت أقدر قديماً تقدير أومانيطس وأظن أنه الصواب. فأنا فى هذا الوقت متحير، قد بطل عندى — ببطلان هذا الرأى — وجود علم هذه الصنعة.

قال أحمد: إنه لا ينبغى أن يصح عندك وجودها حقيقياً حتى يبطل عندك رأيك الأول بطلاناً لا تشك فيه.

قال ثابت: فأسألك بمن خصك بالفضائل إلا ما عجلت كشف غم هذه الحيرة عنى، وألبستنى سرور الإيضاح وفرحة المطلوب والموجود.

قال أحمد: مما ينبغى أن تعلم يا ثابت: أن الاختيار والطبع متنافران متضادان، وأن فعل الطبيعة مستحيل كونه بفعل الاختيار لتنافر الأصلين، أعنى الاختيار والطبع، فيكون الذهب فى هذا العالم بالاختيار ككون الطبع له مستحيل، إلا أنا نخالف ذلك فندبره تدبيراً يباعد الطبع وإن كان بعيداً قليلاً. فإذا فعلنا ذلك دبرناه كتدبير الاختيار فى الأصل، ثم رد البسيط بالتركيب إلى ما يراد من الجوهر.

قال ثابت: إن رأيت أن تزيدنى بياناً، فعلت.

قال أحمد: وإنما وضع الحكيم فى كتبه هذه التحليلات والتكليسات والتفريقات احتيالاً منه للشىء أن يغيره عن تركيبه المطبوع عليه فيرده بسيطاً كما كان فى البدء فينفذ فيه حينئذ تدبير الاختيار كما نفذ فى البدء.

قال ثابت: وكيف ينفذ تدبير الاختيار فى البسيط ولا ينفذ فى المطبوع؟ قال أحمد: لما أخبرتك من تنافرهما.

قال ثابت: ولم لا يتنافر البسيط أيضاً؟ قال أحمد: لأنه أقرب مشاكلةً منه.

قال ثابت: وكيف يتهيأ لنا أن نرد الشىء بسيطاً فى هذا العالم المطبوع المركب؟

قال أحمد: قد قلت فى الفصل من كلامى المتقدم أنه يباعد عن الطبيعة وإن كان البعد قليلاً. فإنما أردت بهذا القول أنه لا يمكن أن يرد بسيطاً كما كان الأصل، إلا أنه يحتال فيه بلطيف التدبير وعلى أدق ما يمكن من الحيلة فى هذا العالم أن يقام الشىء الواحدى الذات خلواً من الشوائب، أعنى من أضداده، فيكون إذاً أقرب إلى البسيط من المطبوع المركب — عمل الاختيار فيه، أقول إنه لا يمكن لأحد فى هذا العالم أن يقيم الشىء الواحدى الذات... ... ... فهو البسيط حتى يكون الذى يخالطه من الشوائب القليل الكمية الضعيف الأثر، فيكون أقساماً — ينجح فيه الطالب لهذه الصناعة.

قال ثابت: قد فهمت هذا القول وقبلته قبول اضطرار. فخذ أيها الحكيم فى تمام كلامك.

قال أحمد: إن أول ما أتكلم به المشورة على طالبى الحكمة المخالفين لسيرة البهائم أن لا يقبلوا من أحد يدعى علم هذه الصناعة إلا من يرشد إلى ما أرشدت.

قال ثابت: فمثل لمن أشرت عليهم مثالاً يقتدون به.

قال أحمد: هو قولى هذا الذى قلت إنه لا يمكن كون هذا الشىء إلا برده إلى البسيط.

قال ثابت: قد صعبت هذه الصناعة وأوعرت الطريق إليها، هذا مع خساسة نتيجتها.

قال أحمد: وكيف ذلك يا ثابت؟

قال ثابت: لأنه لا يتهيأ أن يرد الشىء بسيطاً، إذ الغالب فيه الشىء الواحد، إلا بعد مشقة النفس وكد الطلب. فإذا ركب أيضاً كان الشىء القليل الذى يقل مقداره.

قال أحمد: بل يصح فى هذه الدرجة استدلال أومانيطس. فإنه إذا فعل قد مثلث فإنه يمكن بعد ذلك أن يستحيل إليه من الأركان الأربعة ما جانسه فى الهيئة والشكل، كما قد قلت مراراً إنه من الواجب أن يتصل الشكل بالشكل. وإنما أخطأ أومانيطس لما أراد أن يزيد فى الشىء وهو مركب بالاستحالة إليه مركباً مثله، فهذا يستحيل بفعل الاختيار. فأما البسيط فقابل شكله كما قدمت، ثم يدبر كتدبير البدء.

قال ثابت: فما ترى أن يكون الشىء المدبر؟

قال أحمد: إذا كان أى شىء كان، رددته بسيطاً، فليكن ما كان، لأن أكثر اختلاف الأشياء إنما هو من أجل التركيب. وقول أفلاطون فى صدر هذا الرابوع الثانى الذى أنا مخرجه يشهد بصحة ما قلت. وإنما طول كلامه لينبئ عن طبائع الأشياء وأنها أسهل تدبيراً.

قال ثابت: وما قال أفلاطون؟

قال أحمد: قال أفلاطون: إذا كانت الأشياء من جنس واحد أصلها، فإن ردت ففى واحد.

قال أحمد: يريد الفيلسوف بهذا القول أن الأشياء الموجودة كلها من أصل واحد، وإنما تغايرها من أجل تفاوت أجزائها، وأن كل شىء فيه من اختلاط الطبائع ما ليس فى غيره، وأن تغايرها من أجل ذلك. فنقول: إنه إذا حل التركيب وفرق فإنه يرجع الشىء كما كان فى الأصل، وهو الشىء الذى هو أصل الأشياء وجنس الأجناس.

قال أفلاطون: والمعرفة بالأجسام وكيفياتها وبدئها مما يسهل العمل.

قال أحمد: يقول: إذا عرف الجسم وكيفيته وبدؤه الأصلى فإنه يعين العامل على مراده، لأنه يكون بمعرفته أحرى على تدبيره وأعرف بالاحتيال فيه.

قال أفلاطون: الأجسام الصلبة صورة جاسية، واللطيفة ضعيفة إلا أنها غزيرة.

قال أحمد: يخبرك الفيلسوف أن الأجسام الصلبة، يعنى كالذهب وسائر الأجسام التى تقاوم النار وغيره من الأركان، لا تبلغ من غزارتها ونفاذها ما يبلغ اللطيف، أعنى الأعضاء وما شاكلها. ويقول إن اللطيف ضعيف يحتاج إلى التدبير اللطيف، لأنه لا يثبت ثبات الأجساد الصلبة، إلا أن اللطيفة غزيرة سريعة النفاذ.

قال أفلاطون: وتحتاج أن تعلم لم ذلك كذلك، وليس إلا أن اللطيف طالب لموضعه. قال أحد: أحسن الفيلسوف فى قوله هذا، فإنه يقول: تحتاج أن تعلم لم اللطيف أضعف وأغزر، والكثيف أجسى وأقوى؛ ثم تحكم أنه لطلب الموضع. وإنما يريد أن ما دبر من هذا العمل فإن المراد فيه أن يرد كما كان بدءاً. فاللطيف أقرب إلى جنس البدء. فإذا كان كذلك فإن طالب المحل البدء الذى هو العلو. فالتدبير يجب أن يكون أوفق، والعامل يحتاج أن يكون أوفق ليضبط العمل لئلا يصل إلى الموضع الذى يطلبه فيفوت. فأما الجاسى فكثيف طالب للسفل والعامل مستغن عن ضبطه. فـ «القوة» فى كلام الفيلسوف فى هذا الموضع: «الثبات» و«الضعف» «الفراق».

قال أفلاطون: وبعد أنواع من التدبير يكون الجاسى القوى كالغزير الضعيف.

قال أحمد: صدق الفيلسوف فى قوله هذا، لأنه لا يتهيأ أن ينفذ تدبيره فى الشىء إلا بعد حله وتليينه. فالعضو مخصوص باللين وذلك معدوم فى الجسد إلا بعد المعالجة. وأرى قوله هذا يوجب أن مستعمل العضو قد كفى بعض العمل، لأنه إذا كان تدبير الجسد أول درجته كونه كالعضو، إلا أن أرسطاطاليس يذكر أن تدبير الجسد من أول العمل إلى آخره أهون وهو أصبر من غيره. فيرى أرسطاطاليس أن الشىء لا يخلو أمره من الشوائب كما قدمنا. فإذا كان كذلك فيكون أبداً معه، أعنى الجسد، من القوة الغريزية والتركيب

الأصلى ما ليس مع العضو، فتكون هذه القوة والتركيب مقوياً للجسد فى كل حالاته إلى أن يبلغ. وأراه يصدق فى ذلك، ويدعى أن الشيخ أفلاطون موافق له وأنه أخذه عنه.

قال أفلاطون: وقبل ذلك فأحوج ما كنت إليه معرفة كيفية التركيب.

قال أحمد: يقول إن الحاجة إلى معرفة التركيب وكيفيته شديدة. فذهب الفيلسوف فى ذلك أنه إذا عرف التركيب وكيف يركب، فإنه يهتدى إلى حله ونفاذ التدبير.

قال أفلاطون: وبعد البسيط فهو المثلث، إلى إن قال: فدع قول المخالفين فى ادعائهم المدور.

قال أحمد: إن أفلاطون وجد الأوائل يقولون إن أوائل الأشياء أوائل معقولة، وهو الذى كان من أجله المحسوس البسيط، وهو الشىء القابل للتركيب، فبعض الأوائل يقول إن البسيط شكله المدور لتشابه أجزائه؛ وأفلاطون يخالف هؤلاء ويقال: إن المدور يكون ذا تخلخل لأن أقطاره لا تتلاصق بكليتها. فإذا كان كذلك فإنه يقع فيه الخلاء، وذلك معدوم فى البسيط. ويقول إن البسيط الجزء الوهمى، ويحكم أن الجزء الوهمى الذى لا يقبل التجزئ هو البسيط. ويقول إنه لا يقبل التجزئ لا لصغره، بل لأنه واحدى الذات. فمحال أن يتجزأ إلا بدخيل يدخل عليه فيجزئه، فحينئذ 〈تقع〉 فيه التجزئة، فأما أن يكون واحدى الذات فهو الجزء الذى لا تستحيل فيه التجزئة، وأفلاطون يحيل فيه التجزئة فى هذا الشىء، لا لصغره وقلته، بل لأنه واحدى الذات. فتفهم ذلك وأنصت لما يأتى من قول الفيلسوف فى هذه الكتب، فإنه فيه بيان لهذا على أشد الاستقصاء إن شاء الله.

قال أفلاطون: وكيف يكون المدور بسيطاً وقد دل على بطلان ذلك الشكل؟!

قال أحمد: إن أفلاطون وضع فى كتاب «ديالغون» شكلاً مركباً من المدورات. يتبين من ذلك الشكل أنه لا يجتمع من المدورات إلا الجرم المتباعد الأجزاء، وله على إبرخس رد فى الكتاب فى دعواه إن القسى الصغار من الدوائر الكبار 〈تكون〉 خطوطاً مستقيمة، وبين هناك أن الشىء المدور — وإن تجاوز فى القلة حد المحسوس إلى المعقول — فلا يخلو من التقويس. وقد أخرج بطلميوس القلوذى أيضاً فى كتابه الذى سماه «المجسطى» رأى إبرخس فى القسى الصغار من الدوائر الكبار ووافقه على ذلك. ومن وقف على ما أخرجه أفلاطون من الرد فإنه يصح عنده فساد قول مخالفيه. — ووجدت اسطالينوس يحتج لبطلميوس: ذكر أنه ذهب فى قوله فى كتابه إلى ما يخالف إبرخس، لا الشيخ، ويخرج لكلام بطلميوس وجهاً إن حمل على ذلك التأويل فقد اتفق مع الفيلسوف. ولولا أن أكره الاشتغال به لأخرجته.

قال أفلاطون: والكتاب الموجود بـ«ـإيليا» يدل على ما أمرنا بمعرفته.

قال أحمد: الكتاب الموجود بـ«ـإيليا» يعنى به كتاب إقليدس. وأما أمر معرفته فالتركيب. وهذا الكتاب، أعنى إقليدس، يوجد بـ«ـإيليا» نحله إبلنيس النجار فنسب إليه. وتفسير «إقليدس» إنما هو باليونانية: المفتاح. وليس يدرى من الذى ابتدعه. غير أنه أخبرنى الذى أثق به أن ذلك من إلهام العلويين لمواليهم: وأما ما يدل عليه ذلك من التركيب فمبتدأ القول فيه هو أن تمام العلم بالمعلوم، يعنى أنه لا يوصل إلى علم الشىء إلا بمشاهدة الشىء. والقول الثانى أن النقطة هى التى لا جزء لها، فإنما ينبئ عن ذلك البسيط الذى تقدم القول فيه: ثم يقول فى الخلط المتشابه وهو الذى يحيط بالجرم السكرى، فنسبه إلى جنس النار الذى هو أقرب الأشياء إلى البسيط وأبعده من الطبيعة. ثم تكلم فى فى أول الشكل المثلث فنسبه إلى الهواء لقربه من النار. ثم تكلم فى ذوى الأقطار فنسبه إلى

الماء الذى هو دون الهواء. ثم تكلم فى المجسم فنسبه إلى الأرض الذى هو قعر الطبيعة — وقد تكلم أسقولبيوس فى خطبته فقال إن النفس مربوطة فى الحيوان بالمثلثات، يعنى أنه أقرب إلى البسيط من غيره من ذوى الأقطار والمجسم، فيكون إذن أولى بأن يكون محلاً للنفس. فكتابه كله ينبئ عن الشىء أنه من أصل واحد، وإنما يعتبره من أجل التركيب.

قال أفلاطون: والأقطار والزوايا من التركيب. فما قل فيه فهو أقرب إلى البسيط.

قال أحمد: لما كانت الأقطار من التركيب، كان كل جرم أقل أقطاراً أقرب إلى البسيط. وتوجب هذه القضية أن المثلث أقرب إلى البسيط أيضاً من المخمس والمسدس وذوى الأقطار الكثيرة. فتفهم ذلك.

قال أفلاطون: فأما المدور فبسيط الطبيعة.

قال أحمد: يقول إن الجرم المدور هو بسيط الطبيعة، لأنه أقل الأجرام تفاوتاً وأكثره تشابهاً حتى لقد نسبه بعض الأوائل إلى البسيط الذى يقول أفلاطون إنه الشىء المعقول، لا المحسوس. فتفقد إشارات الفيلسوف وكلامه واعلم أنه إذا قال: المثلث والمربع فى الأجرام، فإنه ليس يعنى به المحسوس فقط، بل الذى لا يحس لقلته أو لطافته، لأن الهواء الذى خص بالشكل المثلث ليس يحس فيه ذلك للطافته ودقة تركيبه. وكذلك فى سائر الأجرام: منه ما ليس يتبين فيه ما قد خص به من الشكل الذى قد أخبر به الفيلسوف. وإنما يتفهم كلامى هذا من قد تدرب فى قوانين المنطقيين وعرف مذاهب الحكماء وألفاظ الفيلسوفين. فأما من كان خلواً من ذلك، فإنه لا ينبغى له الاشتغال بالنظر فيه، فإنه لا ينتج له إلا الضجر به لبعده عن معرفته.

قال أفلاطون: واجعل هذه الأشكال مثالاً، فرد كل شىء إلى الذى يستحيل إليه حتى يرد الشىء بسيطاً بالمراقى.

قال أحمد: ما أحسن ما قاله الفيلسوف وأبين صواب قوله! لأنه يأمرك أن تجعل هذه الأشكال، يعنى به أشكال إقليدس، مثالاً، فتنظر إلى ما يرد المثلث إذا أنت رددته إلى الطبيعة، لأنه إذا كان كذلك فأنت ترده إلى ما تزاد فيه الأقطار. وإذا أرددته إلى

البسيط نقصت من أقطاره حتى يتشابه. فيريد الفيلسوف أن تدبر الشىء حتى يرد الكثيف إلى ما هو ألطف منه فلا يزال يزاد تدبيراً حتى يرتفع من حد الكثيف المطبوع إلى البسيط. وإنما قوله: «المراقى» فإنه يعلم أنه لا يمكن فى الشىء أن يرد بسيطاً فى تدبير واحد، بل يدبر أبداً حتى يستحيل إلى ما هو ألطف منه. فشبه الفيلسوف هذا التدبير بالمراقى.

قال أفلاطون: وأنت مستغن بالنظر فى كتابى عن المعتاص.

قال أحمد: ما أكثر شفقة الفيلسوف على طالبى الحكمة! لأنه يقول فى هذا الفصل إنك تستغنى بالنظر فى كتابه — يعنى به الثالث والرابع الذى قد بين فيه التحليلات والتفريقات — عن الاستدلال بما يعتاص عليك، يعنى به: ما قد أخبر أنه يمكن أن يستدل من أشكال إقليدس.

قال أفلاطون: وإنما يخبر بالمعتاص لا لإدراك الشىء، بل لإخراج لطيف من العلم يكون به مسلك إلى الحق — إلى أن قال: أو الشواهد.

قال أحمد: يقول إنه ليس يخرج هذه الآراء العقلية لإدراك هذه الصنعة، بل ليظهر لطيفاً من العلم يكون هو المنبئ عن علل الأشياء ويرشد إلى ما فيه الخروج من حد البهيمية. وقوله: «للشواهد» — يقول: إذا بينته ببعض الأشياء العقلية تكون شاهدة بصحة ما ذكره قبل الامتحان.

قال أفلاطون: ونرجع فى هذا الوقت إلى ما هو أولى بجنس هذا الكتاب المقصود فيه — إلى أن قال: وأقصد فى أول العمل إلى الجاسى لأن تدبيرك كذلك.

قال أحمد: لما تجاوز إلى الاستدلال بالأشياء العقلية والوهمية كان ذلك مرتفعاً عن حد هذه الصنعة. فنقول: إنى أرجع فى الكلام إلى ما يستحق جنس الصنعة. وقوله: «وأقصد فى أول العمل إلى الجاسى فإن تدبيرك أيضاً كذلك» — يعنى أن تدبيرك لا يكون له عهد بالعمل فلا يبلغ أن تدبر الشىء المحتاج إلى التدبير اللطيف.

قال أفلاطون: وتعلم ما الجاسى، وقد أنبأتك به.

قال أحمد: صدق الفيلسوف فى هذا لأنه قال: «قد أنبأتك به»، وقد أنبأ قبل أن الجاسى من أجل قوة التركيب، وحكم أيضاً أنه لا تتبين قوة لا تعرى منه مدةً من أيام التدبير.

قال أفلاطون: وإن قصدت إلى النقى من الكدر، واعلم أنه لا يعرف ذلك من جهة ما يطفو أو يسفل.

قال أحمد: غرضه فى هذا القول أن يعرفنا النقى من الشىء الكدر، وبقول إنه ليس ذلك من الشىء الذى يتسافل، ولا من الشىء الذى يطفو أو يرتفع.

قال أفلاطون: وإنما أكثر ذلك من أجل الانضمام والتخلخل.

قال أحمد: يقول إنما تتسفل أكثر الأشياء من أجل انضمام أجزائها. ثم إن الهواء لا يداخله، وكل شىء كثر فيه الجزء الهوائى فإنه طالب للعلو لمجانسة الهواء، وكل جسم منضم فطالب للسفل لأن الهواء لا يعينه على الارتفاع.

قال أفلاطون: فى هذا الباب خليق أن يستعمل. فأما الأعمال الجوانية فلا بد لك من أن تحل ما تدبر.

قال أفلاطون: وإن استعملت فى العمل البرانى فلا تستعمل غير القحف وأنت تجده.

قال أحمد: إن عظم القحف عظم نقى. وهو أيضاً مما يذكر جماعة من الأوائل أنه أول عظم حدث فى الإنسان، وهو وعاء مسكن الفكر والعقل؛ وفيه أيضاً لسان يجب أن يستعان به خاصة فى البرانى.

قال أفلاطون: والدماغ محل للجزء الإلهى، إلا أنه سيال.

قال أحمد: لولا أن الدماغ سيال رطب لما ارتبط به النفس مع طلبه لمحله.

قال أفلاطون: وهو أشبه الأعضاء تركيباً بما يراد.

قال أحمد: إن الأشياء التى تتجاور مدة من الزمان خليق أن تتشابه أجزاؤها فى التركيب والهيئة. فالدماغ، لطول مجاورته النفس العقلى واختلاطه، وجب أن يتشابه به. والنفس العقلى بسيط كما ذكرنا.

قال أفلاطون: وليس فى الأعضاء أسرع نمواً وانفصالاً منه.

قال أحمد: كما أن الشعر فى نهاية الغزارة، والدليل عليه طلبه لمفارقة الحيوان، كان الدماغ لقبول لطيف الغذاء ثم تأدية ذلك فى الأعصاب المتشعبة منه — وجب أن ينسب إلى ما نسبه.

قال أفلاطون: وكما أن الشعر الذى نسبته للغالب فيه اليبس، فالدماغ غالب، والرطوبة، حتى صار يمنع النفس من كثير من أفعالها.

قال أحمد: قلت بدءاً إن هذه الأشياء التى ينبغى أن تدبر لهذا العمل يجب أن تخرج منها العوارض الفاسدة التى تخرج للشىء عن حد الاعتدال فى كل شىء من هذه الأشياء. وكل شىء غلب عليه فهو يسهل جزءاً من العمل ويصعب جزءاً. ألا ترى أن الدماغ، لما غلب فيه الرطوبة، أيسر تحليلاً وأصعب تنقيةً وتفريقاً؟ والشعر لما كان الغالب فيه اليبس سهل تفريقه وتنقيته، وعسر تحليله. فكل هذه الأسباب العارضة نافعة فى نوع ضارة فى غيره. فأنا ممثل لك فى كتابى هذا وفى غيره جنس الشىء وما يكون منه؛ ثم أنت أعلم وما تختاره مما أنت أقدر على تدبيره؛ فقد يسهل على الرجل ما يعسر على غيره. وقد سألنى «ثابت» فقال: ما بال الفيلسوف اختار الشعر الأسود وهو أولى باليبس، من الأحمر الذى 〈هو〉 شعر أهل البلدان الشمالية؟ فقلت: إن الشعر الأحمر وإن كان أكثر رطوبة فهو يقصر فى غزارته ونضجه عن الشعر الأسود. فرأى الفيلسوف أن انتزاع الرطوبة منه أهون على العامل من تدبيره تدبير الطبيعة فى النضج والتبليغ به فى

الغزارة ما تبلغه القوى الطبيعية. وأما قوله: «حتى صار يمنع النفس من كثير من أفعالها» — فقد تقدم القول فيه.

قال أفلاطون: وعضو العين كبير اللطف إلا أنه رسم — إلى أن قال: وهو مع ذلك متخوف منه الإعلال قبل أن يربط، إلا أنه مشارك للدماغ فى مجانسة النير.

قال أحمد: إنك تعرف بالحس صدق قول الفيلسوف فى العين: أما لطافته فلإدراكه للألوان، والدسومة ظاهرة فيه أيضاً بمعرفة أصحاب التشريح. والفيلسوف حذر جداً من الأشياء الدهنة لأنها لا تكاد تقاوم النار، والجنس الدهنى كما قاله أرسطاليس واسطانيس الطبيعيان، أعنى اليبس والرطوبة أنك إذا أضفته إلى النار كان رطباً، وإذا أضفته إلى الماء كان يابساً، وقد أخرجت فى هذا النوع من القول ما يقنع فى كتابى «فى التركيب والإضافات». وأحوج ما يكون إليه المنتحل لهذه الصنعة معرفة هذا الجنس من العلم. واعلم أن هذه الطبائع اختلف تركيبها جداً حتى كادت كثرةً أن لا يحاط بكليتها وماهيتها، وصار كل شىء مخصوص بشىء معدوم فى غيره مما هو منسوب إلى طبعه. المثال: أن من العقاقير ما يتفق فى الطبائع ويتفاوت فى كثير من العلم. فنحن مضطرون إذاً أن نخبر عن جنس كل شىء وما يخصه ويظهر من أثره إذا كنا غير واثقين بمن يأتى من بعدنا أن يبلغ من رأيه أن يستدل من التركيب الأول على مجانسة الأشياء وكيفياتها والعلة فيما يخص ويعم. فلهذا وضع الفيلسوف الكتاب الثالث والرابع الذى مثل فيه العمل. ولولا ذلك لكان مستغنياً بما حكاه فى الفصل الأول من هذا الكتاب من الاستدلال بكتاب إقليدس وقوله أيضاً إن الأشياء اختلفت من جهة التركيب، وقوله إنه متخوف منه الإعلال قبل أن يربط، فإن القوى المربوطة بهذا العضو لطيفة جداً، والعضو المربوط رخو والقوة تنحل عنه بسرعة.

وقد وضع الفيلسوف أعمالاً يمنع بها القوى الغريزية من مفارقة الشىء حتى يربطه

بالذى يريد. فيخشى أن تكون هذه القوة التى فى هذا العضو للطافة القوة واسترخاء العضو مفارقة قبل أن تستمكن منه. وأما مشاركته للدماغ فى مجانسة النير، وهو من الآراء المتفق عليها جل الأوائل أن الذى يخص الشمس من الناس من الظاهر: العين، ومن الباطن: الدماغ.

قال أفلاطون: وأنت من غيره فى العمل أحوج إليه، لأنه يولد مثله وغير ذلك مما يستحيل عند الأكثر.

قال أحمد: إن هذا الكلام ليس من جنس هذا الكتاب، وقد تجاوزت أكثر ألفاظه إلى ما ينبغى أن أخبر به.

قال أفلاطون: فلا تستعمله لأنك واجد ما قد ارتفع ثلاث درجات.

قال أحمد: إن اللحم عكر الطبيعة، والغالب عليه الرطوبة والتركيب المجسم فلا تستعمله فإنك واجد ما قد ارتفع عنه ثلاث درجات، لأن اللحم استحالته إلى فوق عصب، والعصب استحالته إلى فوق شعر. فالذى يقول إنك تجده هو الشعر — فتفهمه.

قال أفلاطون: والعصب دون الشعر، إلا أنه أرطب.

قال أحمد: إنه قد طال كلامى فى أن الأشياء الرطبة أسرع تحليلاً، إلا أنها أبطأ تنقية؛ فأنا مستغن عن إعادته.

قال أفلاطون: والأسنان تستحيل من العصب فى الجهتين: ففيه ما قد ارتفع عن الشعر، وفيه ما انخفض.

قال أحمد: يعنى بالجهتين: الفوق والأسفل. وقوله: «إن فيه ما قد ارتفع عن الشعر وفيه ما قد انخفض» — فإن الشعر مرتفع عن الأسنان فى اللطافة والنفاذ، متقاصر عنها فى قوة التركيب.

قال أفلاطون: فإن اضطررت إلى استعمالها فاستعمل الثنايا وما جاورها ودع الأضراس.

قال أحمد: لما صارت الأضراس أكثر تخلخلاً صارت العوارض الفاسدة إليها أسرع وفيها أنفذ منها فى الثنايا وما جاورها. فخليق أن تقصد إلى الثنايا لقلة العوارض الفاسدة ثم لما هى مخصوصة به من ملاقاة الهواء الملطف لبعض الأجسام.

قال أفلاطون: والثنايا خاصة لها بصيص يستدل منه على القوة المربوطة.

قال أحمد: إن البصيص غير المفارق دليل أن القوة المطلوبة فى هذا النوع قد ربطت بالشىء ومازجته ممازجة يعسر فراقه. ومن الأشياء ما تكون القوى فيها غير محكمة الوثاق فتنحل عن الشىء بسرعة. واعلم أن البصيص فى جميع الأشياء قوة طالبة لمفارقة الشىء قد عسر عليها، أعنى القوة، فراق ذلك الشىء المخالط لها.

قال أفلاطون: وسائر الأعضاء السفلية فقسه إلى العلوية وتدبر.

قال أحمد: لما كان الفيلسوف قد أخبر عن أعضاء الرأس ما قد تقدم، استغنى عن الكلام فى الجسد، إذ كان لا يخلو ما فى الجسد أن يكون له شبه ومشاكلة من أعضاء الرأس.

قال أفلاطون: ولا بد من الكلام فى المخ، إذ هو مثلث قابل للجنس البسيط.

قال أحمد: ما أحسن هذا القول وأبين صوابه وأحرى أن تشتغل النفس بتفهمه! ولولا أن الكلام فى تفسير هذا القول يطول طولاً يمنع عن إخبار المقصود فى هذا الوقت، لكنت أصرف أكثر همى إلى الإخبار بما تتبين به صحة هذا القول ويكشف عن غامضه، وإن كنت قد أخرجت ذلك فى كثير من كتبى على غاية البيان والبرهان فلا أخلى هذا الفصل من قول مختصر يتبين للناظر فيه معنى لفظ الفيلسوف:

اعلم أن جل الأوائل اتفقوا أن مسكن النفس العقلية الدماغ، وأنه كجرم المصباح فى ذلك الموضع، فقد نفذ نوره فى الجسد؛ وأن العضو الغالب فيه النفاذ والمؤدى إلى سائر الأعضاء القوة هو المخ، لأنه مثلث التركيب، وهو أقرب أعضاء الجسد مشاكلة للبسيط.

قال أفلاطون: لولا أنه سريع القبول للفساد، لكان ينبغى أن يعتمد — إلى أن قال: فاستعمله إن أردت للمحمود وتحرز من المذموم.

قال أحمد: إن المخ كثير الدسم، والنار تسرع فيه جداً، وهو أيضاً قليل الثبات مع غير النار من الأجرام. فيقول الفيلسوف إن استعماله لقرب مشاكلة البسيط محمود، ولدسمه

وسرعة تفرق أجزائه ضعيف، فيأمر أن نستعد لما يكف غائلة المذموم فيه لننتفع بالمحمود منه.

قال أفلاطون: وعضو القلب من الجسد كعضو الدماغ من الرأس.

قال أحمد: لما كان هذان العضوان متشابهين فى محل النفس، وجب أن يتشابها من حيث هما، لأن مسكن النفس العقلية الدماغ، ومسكن النفس الغضبية القلب.

قال أفلاطون: واجعل سائر الأعضاء الباطنة للآلة، فإنك محتاج إلى ذلك.

قال أحمد: يعنى بالأعضاء الباطنة أعضاء الجوف، ويأمر أن نجعل ذلك مما يصفى به أو يحلل أو يعقد سائر الأعضاء المستعملة لهذا النوع من العمل. — المثال: أنك إن أردت أن تحل عضواً من الأعضاء المتولدة من رطوبة أو برد: أن تجعل الرماد محيلا عليه ليكون هو الذى ينفى البرد واليبس ويثبت ما يريد.

قال أفلاطون: ومعرفة طبائع هذه الأعضاء سهل — إلى أن قال: فإذا عرفت فاستعملها لحاجتك.

قال أحمد: يقول إن أعضاء الجوف تسهل معرفة طبائعها، إذ قد وضعت فيه الأطباء الكتب الكثيرة حتى استدل فى العلم بذلك العامة فضلاً عن الفلاسفة. ويقول: إنك إذا عرفت طبائعها أمكنك عند ذلك أن تكف بها أضدادها أين كانت.

قال أفلاطون: والعروق أيضاً مجانسة للعصب — إلى أن قال: والشريانات أنجعها.

قال أحمد: يقول إن العروق هى أعصاب وإن خالفت صيغتها صيغة العصب. والشريانات مخصوصة بمجاورة النفس الحيوانية، فلذلك حكم أنها أنجع.

قال أفلاطون: والأربع طبائع فهى أقرب، إلا أنها يداخل بعضها بعضاً.

قال أحمد: لولا أن الطبائع الغالب عليها اختلاط بعضها ببعض، لكان الواجب أن تستعمل، إذ هى أقرب إلى البسيط من المتولدة منها، أعنى بذلك الأعضاء.

قال أفلاطون: فاستعمل العضو الغالب، ودع المختلط.

قال أحمد: يقول إن استعمالنا العضو الذى قد ظهر لنا أنه قد غلب فيه وعليه نوع أحد الطبائع أحرى من استعمال ما لا يأمن فيه تفاوت الأخلاط.

قال أفلاطون: وإذا وجدت أحد هذه الأركان المركبة خلوة من أضدادها، فقد فرغت من نصف العمل — إلى أن قال: ولا تجد فلا تطمع.

قال أحمد: يعنى بالأركان: المرتين والدم والبلغم. ونقول: إنا لو قدرنا على أخذها مفردة من أضدادها، لكنا قد كفينا نصف العمل، وذلك لأن هذه الأعضاء المستعملة لها تولدها من هذه الأركان، فيحتاج أن يرد العضو فى أول التدبير إلى الذى تولد منه لنرده بالدرج إلى ما نريد، فوجدنا هذا الركن مفرداً، فما يكفينا هذا التدبير الأول، فيوئسنا الشيخ أفلاطون من وجود ذلك، ويأمرنا باستعمال العضو لشيئين: أحدهما أنه إذا رددنا العضو إلى ما استحال منه فإنا قد مررنا على نوع من التدبير يكون الذى توقف على التدبير الثانى. والسبب الآخر أنا إذا رددناه إلى ما استحال منه الركن فهو أنقى مما تجده من الأركان الموجودة فى الإنسان.

قال أفلاطون: والرجيع والبول اختاره من اختاره للاستحالة، فدعه فإنه ثفل.

قال أحمد: غير أن البول والرجيع اختاره من اختاره لأنه قد غلب عليه الاستحالة. وهذا النوع من العمل أكثر ما فيه الاستحالة من جنس إلى جنس. ويشير الشيخ أن لا يستعمل، لأنه ثفل كثير العكر.

قال أفلاطون: وإن جعلته للغسل رجوت أن يكون منجعاً.

قال أحمد: إن بعض منتحلى هذا العلم يسمى الرجيع والبول الصابون؛ فيريد

الفيلسوف أن يجعلا — أعنى الرجيع والبول — مما يغسل به الشىء المستعمل للعمل، وهو ينقى جداً لأسباب كثيرة منها: أنه وسخ يتعلق به جنسه، وأيضاً فقد جرى فى أعضاء الحيوان فأخذ من كل عضو قوةً، وغير ذلك من أسباب يطول الكلام فى شرحها وبيان ذلك فى الإبريز والفوش. — قال أحمد: لما كان الذهب مع صفائه ونقائه يتسافل، والفوش من الأجسام — وإن كان فى نهاية الكدر — يطفو، أبان من ذلك أن الصافى والكدر ليس من أجل السفل والطفو يعرف.

قال أفلاطون: وإنما يسهل علم ذلك من أجل ما يسرع إليه الفساد ومن أجل ما يبطئ فيه.

قال أحمد: إن كل شىء كان كدراً ليس بنقى فإنه يسرع الفساد فيه والعفونات وتفرق الأجزاء، من أجل أنه متفاوت متضاد فى نفسه؛ فيكون إذاً القابل للفساد إذ كان من شكله والواحدى الذات فمتفق غير قابل لما يضاده؛ فيعلمنا الفيلسوف أن نعرف ذلك من هذا الباب.

قال أفلاطون: وهل النقى إلا الواحدى الذات، والكدر إلا المتفاوت؟!

قال أحمد: ما أحسن ما قاله الفيلسوف! لأن الجسم إنما استحق اسم الكدر إذا كان مجموعاً من أجزاء متضادة، فيكون أحد الأجزاء قد كدر ما يضاده؛ والنقى هو الواحدى الذات الخلو من الشوائب.

قال أفلاطون: والنتن والقذارة أيضاً من التفاوت.

قال أحمد: يريد الفيلسوف أن كل جسم ظهر فيه النتن أو كان مما يستقذر فإن ذلك أيضاً من تفاوت الأجزاء.

قال أفلاطون: وقد يكون النتن أيضاً من مقدمات التلطيف.

قال أحمد: قوله إن النتن أيضاً من مقدمات التلطيف تقف على صحته إذا استعملت

ما قد حده لك فى أبواب التحليل والتعفين فى الكتاب الثالث والرابع، لأن هناك تعلم أن أكثر النتن العرضى فى الأجسام إنما هو لارتفاع اللطيف منه.

قال أفلاطون: والرجيع أيضاً وإن كان من تفل الأشياء وعكرها فنتنه أيضاً من التلطيف.

قال أحمد: يقول إن الرجيع — وإن كان أيضاً من عكر الأشياء وتفلها — فنتنه أيضاً من التلطيف، إذ اللطف منه، وذلك أن الغذاء فى الحيوان إذا عمل فيه القوى الطبيعية ليجتذب لطائفه فإنه يظهر فيه النتن الذى يوجد فيه. وقد أخرجت فى كيفية النتن والطيب مقالة بأسرها فى كتابى الذى بينت فيه اختلاط الأركان على أشد استقصاء. فلنتجاوز ذلك إلى كلام الفيلسوف فى هذا الكتاب.

قال أفلاطون: ولا ينبغى أن أنيب إلى التهاتر إلا بعد بصيرة.

قال أحمد: إنه من لم يعرف كلام الفيلسوف ومعناه وقصده فى كل كلام يخيل إليه أن الفيلسوف تناقض كلامه ويخالف البعض منه البعض. — من ذلك ما قد قدم فى هذه الفصول فإنه جعل فى أول كلامه النتن دليل الكدر، ثم جعله أيضاً فيما تلطف. وكان فى كل كلامه محقاً، لأنه ذهب فى كل قول إلى معنى صحيح. — وقد قال ثاوفرسطس فى بعض مقالاته إن النتن إلى السفل من الكثافة، وإلى العلو من اللطافة؛ فيريد أفلاطون أن لا يتسرع إلى قوله بالثلب والعضيهة، فإن لذلك معانى غامضة صحيحة. ومن عاب قول الفيلسوف فإنما هو لنقصان علمه ومعرفته. وقوله: «إلا بعد بصيرة» فإنما قاله لأنه قد أمن بعد البصيرة أن يعاب، إذ كان خلواً من العيب.

قال أفلاطون: ومما ينبغى أن تختار من الأعضاء: عضو جنس الأجناس وصورة الصور.

قال أحمد: يعنى بجنس الأجناس الإنسان، وكذلك صورة الصور. وذلك أن من الأصول المتفق عليها أكثر الأوائل أن الإنسان هو المستولى قديماً وحديثاً على سائر الحيوان، وهو أحكم الحيوان صورةً وتركيباً.

قال أفلاطون: وإذا كان مطلبك من جنس مصباحى العالم فبالحرى أن يقصد فيه لما جانسهما.

قال أحمد: يعنى أنه إذا كان طلبك للذهب والفضة — وهما من جنسى الشمس والقمر — وجب أن يكون ما تستعين به على ذلك ما كان من جنسهما، وكما جانس كل كوكب من الكواكب نوعاً من الحيوان، فالذى يخص الإنسان الشمس. وقد قال بعض الأوائل: إن الشمس والقمر جميعاً قد جانسا الإنسان. فالكواكب التى تخص الذكران للشمس والتى تخص الإناث القمر.

قال أفلاطون: وهذا الجنس هو المخصوص، لأنا قد علمنا أنه لا يتم العمل إلا به.

قال أحمد: يعنى أن الإنسان هو المخصوص بالجزء البسيط المختار الذى هو النفس. وقد أخبر فيما تقدم أن العمل لا يتم دون أن يرد الشىء بسيطاً.

قال أفلاطون: ولو لم يكن إلا طول أيام المجاورة لوجب أن يقصده.

قال أحمد: يقول لو لم يجب أن يقصد إلى استعمال العضو من الإنسان فى هذا النوع من العمل إلا لطول مجاورة النفس له مدة أيام الحياة، لكان مما ينبغى أن يعتمد.

قال أفلاطون: ونتكلم فى الأعضاء ونبدأ بالشعر، إذ هو مما قد علا الحيوان وطلب مفارقته.

قال أحمد: إن الشعر لما صار فى الصفحة العليا من الإنسان وطلب مفارقته دل على غزارته وقوته.

قال أفلاطون: ولولا أن يبس الهواء حل فيه، لكان أقرب إلى الاعتدال.

قال أحمد: إن من يتفلسف من الأطباء يقول إن الشعر عصب امتد حتى علا البشرة، ويقول إن يبوسته من أجل الهواء المحيط، ويحتج فى ذلك بالتغاير الذى يحدث

فى شعور أهل الأقاليم، لأن البلدان الشمالية ترطب فيها الشعور جداً، ولا نعدم فيه أكثر اللون اللحمى الأحمر، والبلدان الجنوبية يتفلفل فيها الشعر حتى يكون كأنه قد تشيط بالنار ويصير لونه نهاية فى السواد.

قال أفلاطون: فأول ما ينبغى أن يعرى مما خالطه من الهواء، ولا يكون ذلك دون أن يرطبه جداً.

قال أحمد: إن الشعر قد استمكن منه الجزء الهوائى مدةً من الزمان حتى كاد لا يفارقه إلا بتعب ومزاولة شديدة، ويريد أفلاطون أن يرطب ترطيباً ينافر ما فيه من اليبوسة الهوائية حتى يعرى منه ويقرب من الاعتدال.

قال أفلاطون: والترطيب أيضاً مما ينقى الجزء الدسم.

قال أحمد: إن أعظم ما يحتاج فيه فى تدبير الأعضاء نفى الدسومة، إذ هى وسخ معين للنار على إحراق الشىء فى ترطيبه على السبيل الذى بينه الفيلسوف فى ذلك الكتاب؛ فإنه يأتى فيه بالقول المقنع.

قال أفلاطون: والذى ينبغى أن يستعمل الأسود من الكامل — إلى أن قال: الأبيض خارج عن الاعتدال.

قال أحمد: يقصد الفيلسوف فى هذا القول ويأمر أن يستعمل الأسود من الكامل وهو شعر الرجل الذى قد قضى من عمره خمساً وعشرين سنة إلى ثلاثين سنة فإن الإنسان فى هذا الوقت داخل فى تدبير الشمس، وهو مما قد أخبرت أن الاستعانة به فى هذا الجنس منجح جداً. وقوله إن: «الأبيض خارج عن الاعتدال» فإن ذلك بين لمن قد سمع من العلوم أدناها: أن الشعر إنما يبيض لعارض فاسد وهو الكيموس العفن الخارج عن حد الاعتدال.

قال أفلاطون: وأنفى فى تنقيته زوال قوته.

قال أحمد: إنه ليس شىء أنت أحوج إليه فى هذا العمل من استعمال ما أمرك به فى هذا القول. وذلك أن من كان تدبيره فى تنقية ما تدبيراً غير مستقيم، فإنه ينتزع القوة الفاعلة للعمل القوى مع ما ينتزعه من الوسخ والكدر. فنقول إن الفيلسوف يأمر أن ينفى هذا الباب من الفعل. وقد أخرج فى الكتاب الرابع الحيل فى التحرز منه. وهذا القول فليس من جنس هذا الرابوع، بل مما يجب أن يوضع فى الرابوع الثالث والرابع؛ إلا أن الفيلسوف أخرجه من هذا الكتاب، فلم أجد بداً من إتباع رأيه فيه.

قال أفلاطون: وشعر الصحيح الطبع الكامل العقل أول ما استعمل.

قال أحمد: ينبغى أن تعلم أن كل شىء كان أقوم تركيباً وبعد عن العوارض الفاسدة فإنك تكون فى تدبيره أنجح وعمله أسهل عليك. وقوله: «الكامل العقل» — فقد تقدم القول فى ألفاظ الفيلسوف فى النفس العقلى، وأن أكثر اختياره لأعضاء الإنسان فى هذا العمل من جميع الحيوان لمجاورة النفس العقلية لها، أعنى الأعضاء. فمراده الكامل العقل، لعلمه أن الأثر الكامل من المؤثر القوى. وإذا كان قوياً فمجاورة أيضاً كذلك.

قال أفلاطون: وبعد هذا العضو فالجلد من الحيوان لا يعتمده.

قال أحمد: يقول: بعد هذا العضو — يعنى به الشعر — والعضو الثانى: الجلد، فهو يأمر أن لا يستعمل بتةً وأنت تجد إلى غيره سبيلاً. — قال أحمد: إن مما تقدم من ألفاظ الفيلسوف دليلاً بيناً أن هذا الشىء واجب كونه من جميع الأشياء، لكنه إنما وضع الفيلسوف هذا الرابوع ليبين أنها أسهل عملاً وأيسر تدبيراً، فيكون القصد إليه ألا يرى أن الفيلسوف قد قال فى هذا العضو الذى هو الجلد: لا ينبغى أن يستعمل وأنت تجد غيره، للعلل التى ذكرها.

قال أفلاطون: والعظم شديد التركيب، يدخل عليك العناء الشديد فى تحليله — إلى أن قال: هو فى البرانى أنجع.

قال أحمد: يقول إن العظام شديدة التركيب لا تنحل إلا بعد الجهد وعناء النفس. وقوله: «إنه فى عمل البرانى أنجع»: فإن من الأعمال البرانية ما يكون العمل بالتكليس والتفريق باليبس دون الحيل أعظم.

قال أفلاطون: والنبات فلو أحسنت استعماله لكان مما يسرع.

قال أحمد: غرضه فى هذا القول أن النبات هو أقرب إلى البسيط مما تقدم ذكره من الأعضاء. ويقول إنه لا يبلغ من لطف تدبيرنا أن ندبر ذلك، إذ هو لطيف عسر الضبط. وإنى قائل قولاً أنت محتاج إلى تفهمه والعمل به فأنصت له: إن استحالة الأشياء على ثلاثة أنوع: استحالة إلى فوق، واستحالة إلى الوسط، واستحالة إلى أسفل. فاستحالة الفوق أن يستحيل الشىء إلى ما هو ألطف منه وأقرب إلى البسيط، واستحالة الوسط أن يستحيل الشىء إلى ما يوازيه فى اللطافة والكثافة، واستحالة السفل أن يستحيل الشىء إلى ما هو أكثف منه وأجسى. فتحتاج أن تدبر ذلك وتقف على كل شىء مما استحال وإلى ما يستحيل إليه، وكيف يضبط قواه فى أوان الاستحالة ليكون الكاشف لك عن غلق من العلم.

قال أفلاطون: والاستحالات يمكن الاستدلال منها على الطبائع.

قال أحمد: يقول إن الطبع إذا استحال منه ضده فإنه يتهيأ أن يعلم هل استحالته إلى العلو أو إلى السفل ثم نتبين فنقول: استحالة الرطب إلى اليابس استحالة فوق، واستحالة اليابس إلى الرطب استحالة أسفل، واستحالة الحر إلى البرد استحالة وسط.

قال أفلاطون: ويتجاوز الكلام إلى المجانسة وإن كانت كثيفة.

قال أحمد: يقول إنى أتجاوز الكلام إلى مجانس المطلوب به الأجسام، وخاصة الذهب والفضة، ونحكم بكثافتهما.

قال أفلاطون: وإن كنت ممن قد خرج من حد البهيمية، فإنك تستغنى بما كشفته فى الأعضاء عن الإخبار بغير ذلك.

قال أحمد: يقول إنى قد بينت فى الأعضاء أن ما يختار لهذا العمل لأى سبب يختار، وما العلة التى أوجبت اعتماد بعضها دون بعض، ونحكم أنه من كان له أدنى رأى وفطنة استدل بما مثله فى الأعضاء بغيرها من الأجسام واستغنى عن تجريد الكلام فيه.

قال أفلاطون: وهذان الجسدان مما يشاكل المطلوب، إلا أنك تحتاج أن تتعنى فى التحليل واللطافة.

قال أحمد: إذا كان المطلوب الذهب والفضة واستعمالهما للتشاكل خليق لأنهما جاسيان ويحتاج فيهما إلى تدبير طويل بلطف.

قال أفلاطون: وأول الدرج من تدبيرهما أن يصيرا زئبقاً.

قال أحمد: إن الزئبق حدث فيه نوع من التحليل بكون الذهب والفضة فى أول ما يدبر بهذا العمل قائم كهيئة أعنى سيلانه، لأنى أقول إن الزئبق لطيف لأن طبعه الغريزى رطب، وهو مما قد أكثرت القول فيه. فالذهب والفضة إذا دبرا فإنهما يكونان ظاهرى السيلان باطنى الغزارة واللطف.

قال أفلاطون: والذهب خاصة قد حوى الجزء القوى من المطلوب الشمسى.

قال أحمد: إن الآراء مجتمعة أن الذهب من جوهر الشمس، وأن الفضة من جوهر القمر، وقد تقدم كلامى فيما يجانس الشمس حين تكلمت فى الدماغ.

قال أفلاطون: والأجساد الباقية فما معنى استعمالها، وأنت مقتدر على ما هو أشد تساوياً؟! — إلى أن قال: فإن اضطررت إلى استعمالها فإنك محتاج أولاً إلى أن تردها مشاكلة للجسدين.

قال أحمد: إن الأجساد الباقية كالحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك أشد تفاوتاً

من التركيب وأكثر عكراً من الذهب والفضة. واستعمال الذهب والفضة أنجع. — وقوله: فإن اضطررت إلى استعمالها فإنك محتاج أن تردها إلى مشاكلة الجسدين، فإنه يعنى أن هذه الأجساد تحتاج أن تدبر أولاً حتى تصير فى النظافة وتساوى التركيب كالذهب، ثم تدبر أيضاً حتى تبلغ بها المبلغ الذى ينبغى.

قال أفلاطون: الذى تحتاج من ذلك اليسير، فلا تهتم.

قال أحمد: إن من سمع قول الفيلسوف الأول يخيل إليه أنه لا درك له فى طلب هذه الصنعة إذ كان يحتاج فى العمل الذهب وهو الذى يطلب. فأراد الفيلسوف أن يخبر أن الشىء اليسير إذا دبر يكون منه الكبير.

قال أفلاطون: واستعمل العقاقير والأحجار كما استعملت أعضاء الجوف.

قال أحمد: لعلك ذاكر قول الفيلسوف حيث أمرك أن تجعل أعضاء الجوف لتحليل الأشياء وتنقيتها وإدخال ما تريد فيها. فيقول ويأمر أن تعتمد العقاقير والأحجار كالكحل والمرقشيتا والزرانيخ والزاجات وما أشبه ذلك أيضاً لتحليل الأشياء وتنقيتها وتفريق أجزائها. إلا أنه يقول إنه لا يمكن العمل منها. فقد أخبرك أن الشىء إنما تغيره من أجل التركيب. وإذا كان ذلك كذلك، فهو واجب كونه من كل الأشياء. إلا أن الفيلسوف لشفقته وضع هذا الكتاب ليخبر أنها أسهل تدبيراً وأقرب مأخذاً.

قال أفلاطون: الزرانيخ مخلخلة جداً، إلا أنها تسرع فى التفريق.

قال أحمد: إن كل مخلخل باليبس يحرق الشىء ويحلله؛ وذلك أن هذا النوع من التفريق إنما هو تفرق الأجزاء؛ والتحليل الثابت هو الترطيب. وقد أخرج الفيلسوف فى الكتاب الرابع الفرق بين حل الرطب وحل اليابس لما تكلم فى إذابة الأجساد فيتحرى قوله هناك، فقد كشفت عن غامضه وبينت صوابه.

قال أفلاطون: واجعل هذه الأشياء أيضاً للتوقى.

قال أحمد: يقول: اجعل هذه الأشياء، يعنى بها الأحجار والزاجات، مما توقى بها الشىء المدبر. المثال: إن الشىء المدبر لا يخلو من تعرضه للحار اليابس والبارد الرطب وغير ذلك من الأركان، لأنك غير مستغن عن ذلك فى أبواب التحليل والتفريق. فجعل هذه الأشياء مجاورة للشىء وقت العمل ليشتغل الركن بمضادتها، فلا يسرع فى فساد الشىء. فإذا انقضى التدبير عملت فيما ينقيها منه، أعنى الأحجار والعقاقير عن الشىء المدبر.

قال أفلاطون: والبيض مجتمع — إلى أن قال: فهو حيوان بكليته.

قال أحمد: إن بعض تدبيرات الشىء كتدبير حضان الطير. فالبيض قد جمع قوى الحيوانية، ويصير فى التدبير كالحيوان الكامل.

قال أفلاطون: وكما اجتمع فيه القوى، كذلك اجتمع فيه التفاوت والتضاد.

قال أحمد: لما صار كالحيوان الكامل، وجب أن يكون كذلك لأن الحيوان كما اجتمع فيه القوى، كذلك اجتمع فيه التضاد والتفاوت.

قال أفلاطون: وهو فى أول العمل قوى، وفى وسطه رخو.

قال أحمد: إن الامتحان والتجربة توقفك أن البيض صبور فى أول العمل، وذلك أنه مجتمع القوة. فإذا أخذ فى التحليل والتفريق، الذى سماه الفيلسوف وسط العمل، فإنه هناك يظهر فيه ضعف، لأن أجزاءه تسرع فى التفريق لما قد أخبرت أنه قد حوى أيضاً للتفاوت.

قال أفلاطون: وقد أخبرت بما لا يخلو المكان من أخذه — إلى أن قال: فإن أردت فاستدل.

قال أحمد: إن ما أخبر به الفيلسوف من هذه الأعضاء والأجساد لا يخلو بلد من البلدان 〈من أن〉 يوجد فيه أحدها. فأراد الفيلسوف أن يقتصر على ما أخبر ولا يشغل نفسه بتسمية كل شىء مفرداً، لا سيما وقد أخبر بجنسه. ويقول بعد ذلك: إن أردت استعمال ما لم ينص عليه فاستدل بما قد نص على طبعه وشكله.

قال أفلاطون: معرفة هذه الأشياء من أبواب — إلى أن قال: من العمل يتبين.

قال أحمد: غرضه أن يوقفنا على ما يعرف به العضو والجسد إذا نحن رأيناه. ويقول إنه من العمل يعرف لأنا إذا دبرنا بعض الأشياء فوجدنا للأثر خلاف ما يجب تحقق أنه غير ذلك العضو الذى يراد.

قال أفلاطون: والأعضاء خاصة، فاستدل بالاشمئزاز — إلى أن قال: فالأجساد أظهر.

قال أحمد: يقول: إذا رأيت عضواً من الأعضاء لا تحقق عضو أى حيوان هو، فإن عضو الإنسان تشمئز النفس منه، وتميز بذلك بين عضو الإنسان وسائر الأعضاء. فأما الأجساد فتعرف ماهيتها سهل، لأنه قد اشترك فى العلم بذلك العوام.

قال أفلاطون: وقد أخرجت فيما بقى ما يقنع — إلى أن قال: وقد كنت مستغنياً عن الإطناب، إلا أن النفس تجيش، فذو الفهم مكتف بالإشارة والغبى لا ينفعه الإطناب.

قال أحمد: إن الفيلسوف قد أخرج فى كتبه الباقية أسباباً يستدل بها على معرفة العقاقير والأعضاء. وقوله: إنى كنت مستغنياً عن الإطناب — يعنى به الإخبار عن كل عضو وجسد — يخبر أن النفس اضطرت إلى أن أخبر بما أخبر. ويقول إن ذا الفهم مكتف بالإشارة، والجاهل لا يزيده التنبيه إلا عمًى؛ ويخبر أن النفس هى التى اضطرته إلى الإكثار. وصدق فى ذلك وقال الحق الذى لا يشوبه غيره. فلقد أرى من حرصى على البيان والهداية إلى ما يسهل العمل ويقرب مأخذه حتى كأنى زعيم الطالب والضامن له صحة الشىء حتى لوددت أنى شاهد كل طالب بعدى، فأعاونه على مراده. وليس شىء من لذات هذا العالم بأوقع عندى من مساعدة طالب أى نوع كان من العلوم ومعاونته على ما يلتمسه.

وقد حذفت من هذا الكتاب ومن الكتاب الأول أشياء رأيت إخراجها فى الثالث والرابع أجدى وأنفع للطالب. وهذا آخر ما أجرجه فى هذا الرابوع الثانى من أرابيع أفلاطون.

تم الرابوع الثانى، ويتلوه الجزء الثالث من أرابيع أفلاطون، وهو المترجم باسطوميناس. والحمد لله وحده.

الجزء الثالث من الرابوع لأفلاطون وهو الكتاب المترجم بـ«ـاسطوميناس»

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الأول من الرابوع الثالث من أرابيع أفلاطون الحكيم

قال ثابت: قلت لأبى العباس: أيها الفيلسوف! قد فرغت من الكتاب الثانى وانقطع كلامك فيه، وإنى عازم على أمر أخاف معه الانغماس فى الطبيعة.

قال أبو العباس: وما هو يا ثابت؟

قال ثابت: مسألتك الكلام فيما يليه، وإنى خائف أن أكون أكلفك من ذلك ما يشق، فأكون قد سعيت فى أمر يؤذى العدل إذ كنت هو، ومضاد العقل، كما قد أخبرت، متسفل فى الطبيعة.

قال أبو العباس: لقد وضعت منى يا ثابت، أو مما تلتمسه، من حيث أردت الرفعة. أما علمت أن كل شىء مقو لشكله: فإن كان مما يسأل عنه الحق فهو العدل. وبالواجب أن يشاكل ما خفت أذاه. وإن غير ذلك، فبالأحرى أن يحيد عنه. وقد يعلم مخلص النسم أن الكلام فى ذلك وما يجانسه يفرج عنى ترحاتى وتنبسط له نفسى وأستروح إليه عند الضجر بما أقاسيه من مجاذبة الطبيعة.

قال ثابت: لست أخلو فى كل كلامك من نفيس من العلم تفيدنيه، أو غامض تكشفه. وكل ما نتجه لى الطبع واكتسبته الفكرة ولم يكن اقتبسته منك، فإنه يظهر عواره عند الامتحان والكشف. فأنا الجدير ألا أعتد بشىء إلا ما آخذه عن ألفاظك، أو آتاه على

طول الأيام محاورتك. فتمم أيها الفيلسوف ما بدأت به من إلزامك نفسك ما تكثر به شكر من يأتى بعدك.

قال أبو العباس: ارتفع يا ثابت وتشمر ودع ما كنت فيه إلى الآن، فإن الكلام فى هذا الكتاب قد ارتفع عن الطبيعة وتجاوزها، فلا يلحقه إلا من كان كذلك.

قال ثابت: ما أرجو أن أنال ذلك إلا بك وبمعونتك.

قال أبو العباس: إنى أريد أن ألبسه قليلاً وأخلطه بما يشاكل وأقر به من الطبيعة ليسهل متناوله. فأما إن وافقت الفيلسوف فى مذهبه فيه فإنه قل من يفهمه.

قال ثابت: ما أولاك بكل جميل، إذ كانت شفقتك شفقة الأب الرحيم على الولد البر!

قال أبو العباس: سأرتب هذه الكتب ترتيباً ينفع الطالب تفهمه ويروضه على الرقى فيه:

إن الكتاب الأول فى الطبيعة، إذ كان التحرز هو من عمل الطبيعيين؛

والكتاب الثانى فى سماء انفصال الطبيعة، إذ كان اختيار ما يخلص ويدبر؛

والكتاب الثالث فى سماء النفس، إذ هو تدبير الطبيعة والحيل فى قلبها عن ماهيتها؛

والكتاب الرابع هو سماء العقل إذ هو تدبر الكل ورد الطبيعة إلى البسيط والبسيط إلى الطبيعة والتدبير المحصل والمشذب ومحتاج فيه أن يرتفع عن النفسانية فضلاً عن الطبيعة وحتى يشاكل مدبره الأرباب العلويين المحقين وإن شئت أيضاً نسبتها إلى الأركان فجعلت الكتاب الأول لركن الماء إذ هو قعر الطبيعة؛ والثانى لركن الأرض إذ هو مرتفع عن الماء فى الطبيعة؛ الثالث: ركن الهواء، إذ هو مرتفع عن الأرض وهو الذى به وبتداخله تستحيل الأركان؛ والرابع: لركن النار المستعلى على الأركان والمؤثر فيها. وأرتبها ترتيباً تالياً فأجعل الكتاب الأول للطبائع المركبة، والثانى للطبائع المنفصلة، والثالث للطبائع المفردة، والرابع للأثير البسيط. وأتمم الترتيبات أربعةً على عدد الأركان: فأنسب الكتاب الأول

إلى العقل الحسى، والثانى إلى الأثر الداعى إلى التمييز العقلى، والثالث إلى الفكرة الصحيحة الهادية للحقائق، والرابع إلى ما ينتج هذه الآثار المقدمة وما يؤدى إليه. فإنما أحوجت ذلك وكررت ليقتدى الطالب بسياسة نفسه وتدبيرها ليتهجم بعد وقد تعلم نوعاً من التدبير، لأن الأشياء بأشباهها تتم. فإذا كان الطالب بعد الشبيه ولم يرتق على المراقى التى حددت لم يسلك السلوك المؤدى إلى المراد.

قال ثابت: إنك أيها الفيلسوف قد عظمت شأن هذه الكتب وفخمت أمرها مع خساسة نتائجها عندك.

قال أحمد: أظنك تقدر أن ثمرة ذلك هو قلب تركيب الجواهر فقط.

قال ثابت: وهل السؤال والبحث إلا عن ذلك؟ وهل الغرض الأقصى إلا هو؟

قال أبو العباس: كلا! إن أحسن ما يدرك من ذلك غير ذلك.

قال ثابت: فأنعم بالإخبار عما سواه، وصله بساير أياديك وأفضالك.

قال أبو العباس: كما هو البيان عن ذلك فكذلك هو عن غيره، حتى أكاد أن أقول الكل.

قال ثابت: وهل مع البيان إدراك الفعل؟

قال أبو العباس: من أحاط بمعرفته فإنه حينئذ المالك نفسه والمتولى على الشىء الذى هو مربوط به، أعنى به الجسد، حتى متى شاء أقام فيه ومتى ما شاء رحل عنه، وإن شاء عاد إليه. إنى يا ثابت لو كان غرضى حباؤك بما تظن لكنت أوجدك ذلك حساً وفعلاً فى أقرب مدة وأقل زمان يوجد فيه. وسأفعل ذلك وأبتدئ به حتى تعلم أنه لا يعتاص على. ثم آخذ فى إتمام الكلام فى كشف كلام الفيلسوف.

قال ثابت: أنا بقولك واثق ثقة تغنينى عن العيان.

قال أبو العباس: بل هو أوكد.

قال ثابت: رأيك الأعلى وأمرك المطاع.

قال أبو العباس: موعدك بعد الشهر.

قال ثابت: إذاً تطول على.

قال أبو العباس: أو بعد الأسبوع.

قال ثابت: هو كالأول فى بعد المدة عندى.

قال أبو العباس: وهل هذا الأجل فى هذا النوع مما يستبطأ؟

قال ثابت: إذا متعتنى بما فيه شفاء النفس فكذلك، إلا أنك لو لم تقطع الكلام فيه، ثم كان يكون بعد العام لكان مما يستقرب، فإن جمعت إلى الفرحتين جميعاً، لأن يكون ذلك بكرم إحسانك!

قال أبو العباس: سأعجل لك الكلام بالبيان وأفى لك بالوعد.

قال ثابت: كل ما تأتيه فهو يقصر عنك مع علوه على الأشياء، لا أقول غيره.

قال أبو العباس: فى تطويل هذا الكتاب وإخراج الكلام الغلق فيه — للفيلسوف فيه أرب آخر لم أخبر به.

قال ثابت: وما هو؟

قال أبو العباس: لا يدرك ذلك إلا المستأهل، لأن الذى يدرك ذلك من هذه الكتب فبتفهمه لها، فإنه المستحق لعلمه ما هو أرفع منه. وسأقصر الخطب فى التجاوز إلى قول الفيلسوف فى هذا الكتاب:

قال أفلاطون: إذا تممت الكلام وتفهم، فقد كسرت بعض مصائد الطبيعة وبدا لك ما اعتد.

قال أحمد: إن أعظم مصائد الطبيعة وأشدها اختطافاً الشره والقنية والحرص على الإكثار، وفى إدراك ذلك ما يزيل ما ذكرت بكليته، لأن المتيقن أنه نال نهاية العناء لا يعرج على شىء ولا يعبأ به.

قال أفلاطون: وتنبهوا واعلموا أنكم تركبون خطة عظيمة إذ أنتم محتاجون أن تقلبوا الماء ناراً والنار ماءً — إلى ما هو أدق.

قال أحمد: يقول لكم، معاشر الطالبين، غوامض العلوم وخفيات الأعمال: إن عليكم الصعب الذى لا يستغنى عن التدبير الدقيق والرأى الكامل. ثم يمثل فيقول: إنه قلب الماء ناراً والنار ماءً. وقوله: «إلى ما هو أدق» فإنه يعنى به رد الأركان إلى البسيط، وذلك أرفع من التدبير الأول الذى هو قلب النار ماءً. وإنما قال: النار والماء، لأنهما أبعد الأركان شكلاً. فأما العمل ففيه قلب تركيب كل الطبائع.

قال أفلاطون: والعمل الذى كان من غير المستحيل فوق القمر، تحته من المستحيل يصعب.

قال أحمد: يعنى أن التدبير الذى هو القلب من العلة الأولى الذى لا يقبل الاستحالة فى الموضع الذى هو كذلك. وإذا دام المستحيل فى نفسه فى موضع المستحيل الذى هو تحت الفلك، مثل ذلك الفعل فبالواجب أن يتعب.

قال أفلاطون: وعند انتدابك فى العمل فاستعن فى التحليل بالقمر، وفى التصعيد بالشمس — إلى أن قال: فإن أثرهما يظهر.

قال أحمد: الذى أنبأك به قول له فيه وفى سائر آرائه — مذهب أنا مخرج لك جمله، فأبدأ ببعض ما أتى به بعض تلامذة الشيخ أفلاطون: فمنهم غلوقن فيقول: إن من رأى الأوائل أن ما بين الاجتماع والاستقبال القوة للقمر، وبين الاستقبال والاجتماع القوة للشمس. فكل أمر من الأمور التى يستولى عليها أحد هذين الكوكبين يكون الأثر للكوكب فى أوان قوته واستيلائه أكثر. فيقول الفيلسوف إن الاختيار لأوان التحليل: بعد الاجتماع، والتعقيد: بعد الاستقبال. — وقد تكلم فى هذا النوع تلامذة الشيخ وأكثروا القول وخطأوا الفيلسوف فى رأيه هذا. وذلك أنهم رأوا أن القوة تنجذب إلى العلو بعد الاجتماع أكثر منه بعد الاستقبال؛ واحتجوا فى ذلك بالمد والجزر وغير ذلك من

القوى الطالبة للعلو، ويكون الحل فى أوان استيلاء جذب القوة خطأ لأنه يكون إذن المعين على فوت القوة. وكل من رأى رأى أرسطوطاليس فيه أنه ذهب فى معنى قول الفيلسوف أن يستعمل الحل فى الشتاء، وذلك لاستيلاء القمر على الزمان لارتفاعه خاصة فى هذا الإقليم ثم مشاكلة الزمان له بالرطوبة والبرد، فيكون الزمان الرطب أعون على الحل، ويكون العقد فى الصيف المستولى عليه الشمس بالارتفاع ومشاكلة طبع الزمان. وليس شىء من هذه الأقاويل — وإن كانت لا تخلو من الصواب — بالمقنع ولا قصد فيه عندى لمذهب الفيلسوف، لأن غلوقن يدخل على الفيلسوف ما قد عابه عليه التلامذة. وقول أرسطوطاليس ليس يكذب قول الفيلسوف الذى يأتى بعد، لأن من رأى الفيلسوف أن العمل يتم فى سنة شمسية، ويأمر بعقد الشىء وحله مراراً. فإذا كانوا قد خطأوا الحل إلا فى الشتاء والعقد إلا فى الصيف، فكيف يتم العمل فى سنة؟! والواجب على معتقد هذا الرأى أن ينتظر بالحل الشتاء، وبالعقد الصيف. والذى عندى فى ذلك ما يشاكله من آراء الفيلسوف فى غير هذا النوع، وهو ما ليس من شكل هذا الكتاب. إلا أن الأشياء يتعلق بعضها ببعض: فمن قد بخس الجزء فقد بخس الكمال. فرأى الفيلسوف فى هذا القول إنما غرضه الاستعانة بالقوة الروحانية وتألف من أرواح هذين الكوكبين ما يكون المعين. ألا ترى أنه يقول إن الأثر يظهر وليس يكلف مع ذلك العامل أن يقصد فى التألف ما يقصده المتألف للالتماس أو الأعمال الجليلة، بل لافتقاره على الذخر التى تشاكلها فى أوان استيلائها فى الأيام والساعات والابتهال إليها فى تيسير العمل وبيانه والتوفيق فيه، فيكون أقل ما ينتج له هذا الفعل كف الغائلة إن منع المعاونة، لأن المتخوف من القمر فى أوان الحل جذب القوة ويتخوف ذلك أيضاً من الشمس فى أوان العقد.

قال أفلاطون: وإذا استعين بالعلوى كف السفلى.

قال أحمد: إن هذا القول مصدق لما أتيت به قبل. والأرواح السفلية، وإن لم تبلغ من قوتها أن تجذب القوى كما تجذب العلوية، فإنها لا تخلو من الصور فى كل نوع من الفعل. فيقول الفيلسوف إن من عاونته العلوية لم تضره السفلية.

قال أفلاطون: وحل بين ما تتخوف غائلته وبين العمل بالسيد المانع.

قال أحمد: إن فى وقت من أوقات التدبير يكون المنابذ للعمل جنساً من الأرواح لا يكون المنابذ فى غيره من الوقت. فيأمرنا أفلاطون أن نتعرف الجنس من الروح المضاد، وفى أى وقت يضاد فيستعين عليه بتألف ما يضاده، ليكون هو الحائل بينه وبين العمل.

قال أفلاطون: والنارية تضاد وقت الإذابة، والأرضية وقت العقد، والمائية وقت الحل، والهوائية فى التصعيد.

قال أحمد: إن الأرواح متعرضة لهذا النوع من العمل وباغية بالفساد، فتكون فى سلكها أنفذ وعليه أقدر.

قال أفلاطون: وكما ينبغى أن يحرر العمل، كذلك ينبغى أن يحرر العامل والموضع فإنه مطلوب.

قال أحمد: كما كان هذا النوع من العمل غرضاً للفساد ومضادة الروحانيين، كذلك حال العامل وموضع العمل فيجب أن يحترز أيضاً ويحرز، أعنى به العامل وموضعه وعمله.

قال أفلاطون: فإذا أردت أن تعتبر فاعرف أهل لوديا.

قال أحمد: إن أهل لوديا الغالب عليهم طلب هذه الصناعة، وهم مع ذلك كثيراً ما يلحقهم العاهات والآفات. وفى زماننا أيضاً قل من يتعاطى هذه الصناعة إلا نكب فى ماله أو بدنه أو وقع عليه اعتراض ومنع عن العمل، حتى قد نسبه أهل الزمان إلى أعمال المدابير. ولقد رأيت واحداً من الناس تعاطى ذلك فخولط وكان العلة عند أهله أن الأراييح فى التصعيد أفسدت دماغه؛ ولعله أن لا يكون صاعد شيئاً قط، إلا أن الذى لحقه كان من أجل ما قدمت القول مما حذره الفيلسوف. والواجب على طالب الحكمة المحامى على نفسه وعمله أن يكون متمسكاً مستظهراً لئلا ينفذ عليه تدبير مضاديه ومعاديه.

قال أفلاطون: ويقلد الكوكب المشرق بالغدوات مع الشمس عند الخروج إلى العالم. فإن كان موافقاً فهو من أعظم دلائل الإدراك.

قال أحمد: عند الخروج إلى العالم إنما يعنى به عند الميلاد. فإذا كان أحد الكواكب التى توافق هذا النوع من العمل مشرقاً فى ميلاد طالب هذا العمل ولا سيما إذا كان فى الحادى عشر، أو وسط السماء، أو يكون له اتصال بصاحب الطالع أو صاحب وسط السماء أو يكون له حظ فى شهر العمل، فإنه من أحق ما يعتمده العامل فى نجاح طلبته. وأوفق الكواكب لهذا النوع زحل، ثم المشترى، ثم عطارد، والشمس بالنهار موافق والقمر بالليل. وأما الزهرة والمريخ فإنهما يضادان العمل، ولا يخلو العامل من أن يحتاج إلى الاستعانة بهما فى عمل يعرض له لا يوافقه فيه معاونة غيرهما. وقد قلت مراراً إن جميع الأرواح الفلكية والسفلية تضاد هذا النوع، لأن تولد ذلك، أعنى به الجواهر، إنما يكون بخارات تجتمع وتتصاعد بحركة الأشخاص العلوية وقوى روحانيتها. فعند الأرواح أنها هى المولدة لذلك، وأن الذى يروم ذلك إنما يعارضها فى أفعالها ويشاركها فيه. وما أخبرت به من الكواكب التى توافق العمل فإنها أيضاً تضاد لما قد أخبرت. وإنما قلت «توافق» بالقول المرسل إذ هى أقل مضادة من غيرها لما أنا مخبر به. وإنما المشترى، فلأنه سعد، قلما يضاد ويعاند، وعطارد من جنسه العلم والفطنة والتفتيش.

قال أفلاطون: إن يكن ذلك كذلك فكان ممسكاً، كان أيضاً.

قال أحمد: يقول إذا كان أحد هذه الكواكب الموافقة ليس له حظ فيما قدمنا وكان هيلاجاً ومخالطاً للهيلاج، كان معاوناً أيضاً. وقوله: «ممسك» أراد به أن الهيلاج ممسك الحياة.

قال أفلاطون: وتفقد الأوقات التى حدها هرمس فى كتاب «الأشنوطاس» من اختيار الأوقات على منازل القمر فانته إلى ما حد.

قال أحمد: إن هذا الكتاب قد حكاه أرطوطاليس عن هرمس. وقد وقع عندى. وجملة ذلك أنه أخرج فيه المنازل الثمانية والعشرين للقمر وأمر بالتقدم فى بعض الأمور إذا

نزل القمر أحد المنازل ونهى عن بعض. فمن عدم من طلاب هذا العلم هذا الكتاب فليكن ابتداؤه فى العمل والقمر فى الثريا أو النعائم أو بطن الحوت. وليتحرز من الزبانا والدبران. ومن أفضل الأمور إفساد الكوكب المنصرف عنه القمر وصاحب الطالع فى وقت العمل وإصلاح من يتصل به.

قال أفلاطون: وإذا أردت القصد فحل الرباط، ولا يكون ذلك دون أن يلين.

قال أحمد: يعلمنا الفيلسوف أن الواجب علينا فى بدء ما نقصد إلى العمل أن نفك ارتباط الأشياء بعضها ببعض. وحكم أنه لا يكون ذلك دون تحلل الأشياء وتلينها بأن يستولى عليها الجزء المائى فيكون أقدر على تفريقها، لأن التفريق من جنس الهوائية، يكون للأجسام اليابسة الأرضية التى على مثلها يقدر العامل، لا يكاد الهواء أن ينفذ فيه. فإذا استولى عليه الجزء المائى داخله الهواء، إذ هو مخالط له، أعنى الماء، فيسهل من التفريق ما عسر قبل.

قال أفلاطون: والكيان أيضاً يفعل ذلك، وبه يتم له.

قال أحمد: إن الكيان اسم لشىء من الأشياء، خصه أسماء كثيرة، وهو الشىء الذى تسميه الروم طولطسا أى المدبر، وتسميه الأطباء الطبيعة المفردة المدبرة لسائر الطباع، وهو الشىء الذى بقوته يحدث الكون والفساد وبه يكون النشوء. فيقول الفيلسوف إن تدبيره فى تغيير الأشياء كما مثله لنا، لأنه يحيل فى العالم الأشياء من الرطوبة إلى ما يخالفها فى الهيئة والتركيب.

قال أفلاطون: والتفريق بالمتضادين فى الطلب.

قال أحمد: إن هذه نقطة أخرجها الفيلسوف على آراء أصحاب الرواق، وهم يرون التفريق فى طلب هذا النوع من العمل بالتحليل والتكليس جميعاً فى شىء واحد ووقت

واحد. فالتحليل بالماء، والتكليس بالنار الذى هو ضد الماء. فأما ما يعتقده تلامذته، أعنى أفلاطون، فيحلون من الشىء شيئاً بالرطوبة بقدر ما أمكن، ثم يحلون منه بالتكليس ما أبقاه فيه الرطوبة. ولعمرى إن مذهب الفيلسوف الموافق لأصحاب الرواق أخف على العامل وأسهل وأوفق للصواب، لأن الشىء المنتزع بالمضادين يكون أقرب إلى الاعتدال، إذ كان ما ينتزع بالشىء الواحد بالواجب أن يغلب عليه ذلك الشىء وهو متنافر لغلبة ذلك الشىء عليه.

قال أفلاطون: وليكن العامل مداخلاً للعمل فى كل حالاته.

قال أحمد: إن هذا النوع من الأمر لا يقدر على امتثاله إلا الرجل الكامل البالغ من العلم. وإذا كان بالمحل الذى يصلح لما أمر به الحكيم فإنه يستغنى عن الأكثر مما دل عليه الفيلسوف وأرشد إليه، لأنه يكون إذاً المتمكن من الشىء بوقوفه على ماهيته وتغييره فى أحواله، لأن الفيلسوف يقول إنه يجب على العامل أن يكون مع العمل يمسه ما مسه ويصل إليه ما يصل إليه. فإذا كان كذلك فبالجدير أن لا يغيب عنه ما يحتاج إلى معرفته.

قال أفلاطون: ولكأنى صاعد معه ومفارق.

قال أحمد: يقول كأنى مع الجزء الذى يصعد من العمل، والجزء الذى يبقى فيه، والجزء الذى يفارقه. فاعلم ماهية الكل وكميته وكيفيته.

قال أفلاطون: وهل يعتاص ذلك، إذا كان الذى يجب أن يجاوز ذلك الشىء البسيط المحتمل ذلك؟

قال أحمد: يقول إنه لا يعسر أن يقيم العامل نفسه كأنه مع العمل، إذ كان ما يحتاج أن يقيمه فيه علمه البسيط الذى يجب منه مداخلة الأشياء.

قال أفلاطون: فإذا كان النازلون على مصب ماء الفرات قد جاوزوا الأجسام الكثيفة إلى النوع البسيط بالاستعانة بحركة الأشخاص العلوية فأدركوا ماهية حركاتها التى هى أسرع الحركات، فبالواجب عليكم أن لا تعجزوا عن المطبوع المركب.

قال أحمد: النازلون على مصب الفرات هم الكلدانيون العلماء بحساب النجوم والقضاء بها؛ وهم أول من تكلم فى إخراج الضمير. فيريد الفيلسوف أنه إذا كان 〈من〉 غير المعتاص أن يتجاوز علم الإنسان الجسم الكثيف العكر اللحمانى الذى هو ثفل الطبائع فيصل إلى النفس البسيط فيقف على حركاتها ومرادها التى هى أسرع الحركات وألطفها، إذا يستعان بعلم القضاء بحركة الأشخاص العلوية — كذلك يجب على المنتحل لهذا العمل أن يستدل باستدلال الطبيعة، أعنى بها ما يجب أن يحدث فى شىء من الأشياء إذا عولج بنوع من التدبير، فيكون وقوفه عليه فى أوان وقوع الشىء كوقوفه عليه وقد فرغ من التدبير.

قال أفلاطون: وبالنفسانى ما يعلم الطبيعى، كما أن بالعقل ما يعرف النفسانى. فأما العقل فمنعتنا الطبيعة عن الجولان فيه فضلاً عن الإحاطة.

قال أحمد: إن هذا القول قد جمع فيه الفيلسوف علة البدء والانقضاء وماهية ذلك والشىء الذى من أجله كانت الأشياء مما لا يستحق هذا الكتاب وصفه فيه لأنه يرتفع عنه. إلا أنى مضطر أن أكشف منه ما أتم به بيان لفظ الفيلسوف. ولولا أن يظن بى أنى جهلته، لكنت أحيد عنه وأتجاوزه إلى غيره؛ إلا أنى آتى بالاختصار دون التمام:

اعلم أن من آراء الأوائل المخصوصين بالعلم والفضائل أن الشىء الذى من أجله كانت الأشياء إله لا يرى ولا يتحرك، وأن بإرادته كان العقل المميز، وبإرادة العقل كانت النفس البسيطة، ومن أجل النفس كانت الطبائع المفردة التى تولدت منها المركبة؛ ويرون أنه لا يعرف الشىء إلا بما فوقه: فالنفس فوق الطبيعة وبها تعرف الطبيعة، والعقل فوق النفس وبه تعرف النفس، ويعرف العقل وما فوقه ويحيط به ذلك الإله الفرد الذى قد بان استحالة الوقوف على ماهيته، إذ كان قد تقدم القول أنه لا يعرف الشىء إلا

بما فوقه. فإذا كان أرفع ما فينا العقل، وهو تعالى فوقه، فبالواجب أن لا نقف على ماهيته إلا باعتقاد وجود معرفة استدلال بما كان من أجله جل ثناؤه، لا بالإحاطة بمعرفة ماهيته. — وقد قال الفيلسوف فى كتاب «ديالغون»: «إنى جلت السماوات الثلاثة: سماء الطبيعة المركبة، وسماء المفردة، وسماء النفس — ليس هناك مسلك، وجذبتنى الطبيعة فانجذبت». فهذا القول النفيس لم يضعه الفيلسوف استدلالاً على هذا العلم، بل لمراده أن لا يخلى كلامه من محضر للحق مخلص للقسم، وإرادته فى هذا النوع من العمل أن يعرف التدبير الأدون بالتدبير الأعلى.

قال أفلاطون: والنفس أعون للطبيعة من العقل، كما أن العقل أعون للنفس إلى أن قال: وذلك البعد الواقع.

قال أحمد: إذا كانت الطبيعة من أجل النفس، كما أن النفس من أجل العقل، فالنفس بالطبيعة أولى لقرب مشاكلتها. فالواجب أن تعرف الطبيعة بالنفس، كما يجب أن تعرف النفس بالعقل، لا سيما إذا فعلنا ذلك فإنما نبلغ ونرتفع إلى العلم بالمراقى، الذى هو تدبير الفلاسفة ومذاهبهم.

وقد أخذ الفيلسوف من هذا الموضع فى القول الرفيع عن حد الطبيعة، فإن وافقته على مذهبه فإنه لا ينتفع بقراءته إلا القليل من الناس. فالأصوب أن أقصد لما بقى من قوله فى هذه الكتب. وإن احتجت أن أغير ألفاظه فآتى فيه بالمعانى فقط، فلست أريد بذلك إلا الشرح والبيان. وقد قلت مراراً إنه ليس مرادى فيما ألزمته نفسى وأشغلت به فكرى وأسهرت فيه ليلى وأتعبت نهارى. وقد عاب اسطالينوس — الرجل الفاضل — على الفلاسفة فى استعمال الكلام الجزل، وقال بعد: إنه لو ذهب لنا الزمان — الذى يذهب فى الوقوف على الكلام — فى تفهم الكلام والوقوف على معانيه — لكان أولى. وصدق ونصح للمتعلمين والطالبين. وإن الفيلسوف قد أخرج كلامه الجزل مرسلاً، فإن لم أرتبه مراتب أقدم منه البعض على البعض، فإن ببعض ما أخرجه فى الكتاب الرابع فى هذا

الكتاب، وأؤخر إخراج ما أخرجه فى هذا الكتاب وأخرجه فى الكتاب الرابع؛ ويكون مرادى فى ذلك وفى ترك استعمال الكلام الجزل الغلق أن أقربه من الأفهام، ليشترك فى العلم بذلك العامة فضلاً عمن قد يفهم بعض آراء الأوائل ومذاهبهم.

وأبدأ بقول الفيلسوف فى التركيب، فإنه من لم يقف على العلة لم يقف على المعلول، ومن لم يعرف السبب الذى حدث فى الشىء لم يقدر على إزالته:

قال أفلاطون: إذا كان المضاد مباعد مضاده، فبالخليق ألا يجتمع إلا بواسطة.

قال أحمد: إن الكلام مما يحتاج أن يتفهم ويصرف الرأى إلى الوقوف عليه ليدرك علمه. وقد تكلم الأوائل فيه، وطال خطبهم فقالوا: إذا كانت الأضداد من شأنها التباعد فالطبائع لم تزل مركبة على ما ترى، إذ من المحال أن تكون مفردة متضادة فتجتمع. وهؤلاء شيعة برقلس ومن يقول بقدم العالم والتركيب. وأما أفلاطون والفوثاغوريون فيقولون إن أوائل الطبائع طبائع مفردة وهى أربعة: الحر والبرد والرطوبة واليبوسة، وأن الحر مضاد للبرد، واليبس مضاد للرطوبة. فاجتماع الحر والبرد بالواسطتين اللتين هما اليبس والرطوبة؛ واجتماع الرطوبة واليبس بالواسطتين اللتين هما الحر والبرد، لأن ما لا يضاد مجتمع من ذاته، إلا أن بدء الاجتماع اجتماع الحر مع اليبس فتولد منه ركن النار؛ وليس الحر مضاداً لليبس، فليس بالمستحيل أن يجتمعا من ذاتهما، ثم اجتمع الحر والرطوبة أيضاً، وليس كل واحد منهما مضاداً لصاحبه فتولد منه ركن الهواء. ثم اجتمع البرد واليبس وليس هما متضادين فتولد منه ركن الأرض. ثم اجتمع البرد والرطوبة فتولد منهما ركن الماء. — فأما اجتماع الأركان وإن كان أحدهما يضاد الآخر فإنهما يتضادان من إحدى الحاشيتين ويتسالمان من الأخرى، فليس يستحيل أن يجتمعا من جهة التسالم، لأن الماء والنار يتضادان من طرفين والطرفان المتضادان مضادة للحر والبرد،

واليبوسة للرطب؛ فالطرفان المتسالمان مسالمة الحر للرطوبة ومسالمة البرودة لليبس؛ وكذلك سائر الأركان سبيلها هذا السبيل. فلينظر الطالب بعين حكمته: فينظر فى الابتداء وعلته، وكيف تركب واجتمع ليسهل عليه الكثير من عمل التحليل والتفريق.

قال أفلاطون: وأصلح الوعاء والرباط ليكون مقتدراً على حفظ ما يحل.

قال أحمد: يقول الفيلسوف إنك محتاج إلى الوعاء الذى تحبس فيه ما تحل من العمل وتربطه به لئلا يفوتك ويفارقك، لأن الشىء الذى قد صار فى نهاية اللطافة طالب للعلو مفارق للسفل، وهو عسر الضبط جداً. فلهذا أمرك الفيلسوف أن تتقدم فيما تكف غائلته عن نفسك. وقد وضع الفيلسوف فى ذلك أعمالاً واحتال فيه بحيل: كان من حيله وأعماله أنه كان يرد فى الشىء بعدما يخرجه عنه البعض ليكون ممسكاً له. فإذا أراد استعماله فرقه عنه وأخرجه منه، لأن الذى قد حدث عليه الافتراق وتعوده مسارع فى المرة الثانية إلى ما يراد منه.

قال أفلاطون: وإن جعلت الرباط مساعداً كان بالجدير أن لا يداخل العمل ويركب معه — إلى أن قال: تحفظه لتأمن شأن السفل.

〈قال أحمد〉: يجب أن تخالف ما يراد فى العمل ضبطه لئلا يجتمع معه ويداخله فيضعف عندما يحتاج إليه إخراجه عنه. فإن المراد أن يحفظه لئلا يفارق. وأما قوله: «تأمن شأن السفل» فإن الآراء مجتمعة أن السفل فقير إلى العلو طالب لمخالطته والتشبث به. وتكلموا فى السماد وما تولد من القوى التى تظهر بعده فى النبات ما أدى إلى البيان أن أكثر نفع السماد لما قد خص به من تفاوت التركيب، وإنه من إعجاز الطبيعة. فليس كل ما تولد من أجل ما يذهب إليه، بل لما تقدم من القول فى أن من شأن البالغ فى التفاوت التشبث باللطيف لفقره إليه. فإذا تشبث به ضبطه وطلب اللطيف مفارقته إذ ينافره؛ فيظهر بعد ذلك مفارقاً له فى الثبات. هذا سوى ما يفارقه فى الظل وغير ذلك مما لا يحس.

قال أفلاطون: والسيال أوثق ما تربط به.

قال أحمد: إنه قد تقدم القول فى أن الماء عكر الطبيعة. فإذا كان كذلك، فإنه أولى الأركان بالتشبث والضبط.

قال أفلاطون: والآنية أيضاً مما يسهل فيها الضبط إذا استعملها النحرير.

قال أحمد: إن هذه الآنية وعد الفيلسوف إخراج عملها فى الرابوع الأول، وهى الآنية التى لا يحلها الماء ولا تذيبها النار. فيقول: إذا ضبط الحاذق العمل فى هذه الآنية من غير دخيل يدخله عليه — تهيأ له.

قال أفلاطون: والآنية كعمل الإله لوعاء الجنس اللاهوتى الذى أخذ طينةً فعجنها وخلطها بالماء والنار، فصار الماء لا يحلها والنار لا تذيبها، وصار أولى الأشياء لضبط وعاء الجزء اللاهوتى الطالب لمحله.

قال أحمد: إن من رأى الشيخ أفلاطون أن الأنفس لما سلكت من أجرام السموات فوقعت فى الطبائع السفلية كان المتشبث بها من الطبائع ركن الرطوبة وهو الضابط للنفس والمانع له عن أفعاله كمنع السحاب والضباب نور الشمس وضياءه، وأن الإله الأول — جل ثناؤه — فرق بين أجزاء الرطوبة المتشبثة بالأنفس فكانت أجزاء سيالة رخوة، فجعل لها الإله حينئذ بحكمته أوعية صلبة من جرم مخالط للنار والماء، لا النار تذيبه ولا الماء يحله، وهو جوهر العظام الذى منه القحف وعاء الدماغ. فلما أن جعل الله تعالى هذا الوعاء أراد منه أن يحله من رباطه فى أزمنة طويلة لئلا يلحق النفس فى مفارقته ما ليس هو محتمل له، فيكون الداعى إلى انغماسه فى الطبيعة. فلما وجب أن يبقى الزمان الطويل، فتح إليه الأبواب التى هى الحواس، ثم أوصل بذلك الجسد، ليكون الخادم له والمعين على ما يقاسيه من مجاذبة الطبيعة ومنابذتها. ثم جعل فى هذا الجسد أعضاء التناسل والأعضاء القابلة للأغذية وغير ذلك مما قد أخبرت العلة فيه فيه فى سائر كتبنا. وسنأتى فى هذه الكتب ببعض ما يستدل به الأصيل الرأى. فقد وجب بوجوب هذا القول أن جميع

أعضاء الإنسان خلق للنفس ومن أجله، وأن كل ذلك مطيع للنفس والنفس المستولية عليها.

قال أفلاطون: فانظروا إلى تدبير الإله ودقته وكيف تحل الأنفس مع قدرته؛ فاقتدوا به وإن كنتم منقوصين ضعفاء!

قال أحمد: تدبر قول الفيلسوف هذا، وانظر إلى اجتهاده فيما يكشف لك وما يطلب لك من المثال الذى يحفد فى علته والتقدير الذى تقتدى به! ألا ترى أن الإله — عز وجل — مع إرادته لحل النفوس وقدرته على ذلك لا يعجل ولا يحمل على الشىء ما ليس فى وسعه واحتماله؟ فالواجب على الرجل المحب للعلم والإدراك أن يقتدى فى الرفق والتأنى بالكامل القدرة المتمكن من الأشياء، لا سيما وهو منقوص ضعيف كما وصفه الفيلسوف؛ وفى امتثاله أمر الشيخ ما يجمع له الفضيلتين: الاقتداء بالله جل ثناؤه، ونيل المراد.

قال أفلاطون: واجعل هذه الأعضاء أيضاً دليلاً، فإنما جعلت للتصفية والحل، لا لغير ذلك — إلى أن قال: وإن جعلت أيضاً للنفس فكذلك.

قال أحمد: يقول الفيلسوف ويأمر أن نجعل الآلات التى نصفى بها العمل كالأعضاء التى فى الإنسان. ويقول إنما جعلت الأعضاء فى الإنسان ليفرق بها بين اللطيف والكثيف.

قال أفلاطون: وبالأعضاء ما قبل الشىء المتغاير وصار من الشىء مثله. قال أحمد: إنه بين عند ذوى الألباب أن تولد المنى من استحالة الأغذية بنضج الأعضاء لها وعملها فيها. فقد بان أن لعمل الأعضاء يستحيل من الشىء ما يخالفه فى الهيئة والتركيب فيكون منه مثله أيضاً، إذ من الحشائش والنبات والأغذية المعروفة فيها الحركة وما يوجد فى الإنسان والحيوان يتولد الإنسان والحيوان، وبالأعضاء ما يكون من الإنسان الإنسان، ومن الحيوان الحيوان.

قال أفلاطون: وكيف لا يكون كذلك، وقد جمع بين الماء والنار؟!

قال أحمد: وهو بما أن النار التى يصف الفيلسوف هى نار المرارة، فإنها ركن النار فى بدن الإنسان؛ والماء البلغم، وقد اجتمعا على نضج الغذاء وجذب قوته حتى استحال منه ما استحال، فيقول الفيلسوف: إنه مما يحتاج فى العمل لأن من جمع بين الماء والنار واستفعلهما وفعل بهما، فقد أدرك الجزء العظيم من أجزاء هذا العمل.

قال أفلاطون: وكما أن الثفل من الحيوان يستعان به فى ضبط القوى وجذبها فواجب استعماله فى مثل ذلك — إلى أن قال: فهو يظهر كما تراه يظهر.

قال أحمد: إنه قد تقدم القول فى ذلك وتبين للعامة، فضلاً عن العلماء، ما قاله الفيلسوف فى السماد، لأن السماد يجذب القوى التى تظهر بعد فى النبات. فالثفل من العمل كالسماد من الإنسان. والفيلسوف يأمر أن يفعل به كما نفعل بالسماد ليلحقنا من الرفق فى ذلك ما يلحق مستعمل السماد.

قال أفلاطون: وجعل الإله عز وجل فينا جزء الشهوة للطعام ليكون مشغلاً للروح الطبيعى عن أذى النفس العقلى. كذلك يجب على العامل أن يلبس العمل فى أوان استعماله ما يكون غرضاً للاحتمال عنه.

قال أحمد: إن النفس الطبيعية إنما ربط بها الشهوة للأغذية والحاجة إليه ليكون مشغلاً لها عن منابذة النفس العقلية. فإذا منعت الغذاء، أعنى الطبيعة، كان داعياً إلى مضادتها ومنابذتها الروح الحيوانية تضاداً ومنابذة تؤدى إلى الخبال. وكذلك إذا كان العمل فى أوان التكليس لم يكن لابساً جزءاً قوياً مقاوماً، فإنه يخاف على العمل الفساد والدمار.

قال أفلاطون: والإناء المدور إنما جعل مدوراً إقتداءً بالسفل والعلو — إلى أن قال: فهو أشبه الأشياء بما يراد توليده فيه، وبالشكل ما يتشكل الشىء.

قال أحمد: إن الآنية التى تحتاج فى هذا العمل يجب أن تكون مدورة الهيئة ليكون

الفاعل ذلك مقتدياً بالفلك وقحف الدماغ: وإذا كان الشىء المحتاج إليه الشىء البسيط المتشابه الأجزاء فبالخليق أن يكون تولده فى الجسم المشاكل المتشابه البعض بالبعض. وقبل ذلك ما أحوج الصنعة للآلة! وهى الآلة التى لا تحرقها النار ولا يحلها الماء لأنه المحتاج إليه فى بدء العمل إذ كان الحامل للعمل وغيره مستغنى عنه فيه. فليعمد العامل إلى الطين الذى قد عود الصبر على النار كالطين الهندى والمغربى أو المشرقى الذى هو الطين الصعيدى الذى تتخذ منه بواتق الصاغة. فيجعل هذا الطين فى إنائه ويغمر بالماء ويصاعد الماء عنه بالقرع ويكلس فى نار الزبل تكليساً قليلاً لا يصل النار إلى أن يقيم الطين كالفخار، بل يشويه بشوية ضعيفة — يفعل ذلك سبع مرار ليأنس من القوة الماسة والنارية ويكون الماسك له هذه القوة فى رفق ليكون فى المرة السابعة كأنك لم تعالجه. ثم تطبخه طبخاً جيداً وتأخذ لكل مئة جزء من الطين ثلاثة أجزاء من الطلق الأجاجى وجزءاً من الحصى الأبيض الدجلى، يعنى النهرى، وربع جزء من المسحقونيا وهو إقليميا الزجاج فتجمعه وتطرح عليه مثل ربع عشرة من عظام قحف الرأس، أعنى به رأس الذكر من الإنسان، ومثل العظام نوشادر. ثم تعجن كل ذلك بالبول، واتركه على حالته تسعة أيام لا تزال تطبخه وتغمره بالماء العذب وتغليه فيه حتى تنفى أكثر الملوحة عنه. فإذا فعلت به ذلك فألق على كل مئة جزء منه جزءاً من الخطمى الأبيض، واتخذ منه الأوانى التى أنا مرسم عملها لك ثم أدخلها النار حتى تنضج وتصير فخاراً مقاوماً للنار. فما كان من هذه الأوانى للتكليس فإنه يجزئ فى العمل. وما كان يجب أن يحل فيه الشىء ويصاعد بالرطوبة فليطل عليه طلاء الغضار، ويكون الطلاء الصينى المعمول من السنبادى والرصاص القلمى ويستعمل الآنيتين، أعنى أوانى التكليس والتحليل قبل العمل أياماً فى غير العمل ليفارقه ما يفارقه ويمرن على العمل.

وإنما إخراجى هذه الصفة بالرذل من القول لأن من شأنى فى مثله استعمال الألفاظ

السهلة العامية التى يشترك فى العلم بها أفناء الناس، لأنه إذا كان المقصود فى وصف عمل الشىء إدراك حقيقته، فبالواجب أن يقصد لما لا يعمى على المتعلم والصانع. فلولا أنى خالفت الفيلسوف فى رأيه وأخرجت هذه الصفات على ما ترى وحدت عن الكلام الجزل الفخم، لكان يقل من ينتفع به. وسأتمم كلامى بأسخف ما يتهيأ من الألفاظ، فليس مرادى ذلك أظنه بقى إلا كشف الغامض وما يسهل على الطالب عمله وعلمه. ولولا أن من الأشياء ما لا يجوز فيها الاختصار دون التمام ولا الإيماء دون التصريح — لكان كلامى يقصر. إلا أنه العلم التام المحتاج منتحله إلى الوقوف على أكثر العلل الأبدية حتى أكاد أن أقول الكل. وكيف لا يكون كذلك، وهو العمل الأبدى الذى كان من أجله ما ترى! وليس يستغنى العامل، مع كثرة كلامى، عن استعمال قياس البعض على البعض ليكون بفعله ذلك مستمكناً من العلم يعرف صدقه عن كذبه ويقف على ما يجب أن يهمله فيه وما لا يجوز تركه بتةً؛ فإنه إذا فعل ذلك وانفتق له الرأى سهل عليه مطلبه ومراده. وليعلم أن هذه الأشياء كالمراقى، وأن الطالب كالسالك البيداء: الواجب عليه أن يهتدى فيها بالمقاييس التى يعرف بها نهج الطريق. فإذا عدم المحجة وما يقيس به فالصواب له التثبت، لأنه لا يأمن أن يكون سيره ذلك مما يبعده عن مقصده. كذلك العامل يجب عليه أن لا يركب شيئاً إلا وقد عرفه وعرف صوابه ليكون هو الذى يغلب العمل لا العمل يغلبه. وأنا مخرج للفيلسوف لفظاً يوجب وصفه فى هذا الموضع:

قال أفلاطون: ومن وقف على الاختلاف والتفاوت الذى يعرض للصباغين فحقيق أن لا يستعظم ما يحدث عليه.

قال أحمد: إن من شاهد من أهل هذه الصناعة عمل الصباغين، لا يستعظم الخلل يقع عليه فى عمله. فكثيراً ما يعالج الماهر فى صناعته صبغاً من الأصباغ مراراً فيحدث عليه فى بعض الأوقات التى يعالجه فيها ما يغيره عن مراده وهو لا يعرف السبب فى ذلك مع كثرة معالجته للعمل وطول أيام مجاورته له. وقد يعمل الرجل الحبر دهره 〈و〉قلما يتفق أن يخرج على لون واحد وعمل واحد، لأنه ربما خرج قتماً، وربما كان الغالب عليه اللون الشعاعى، وربما كان براقاً لا صقال فيه، وربما كان صقيلاً قتماً — هذا ولا تعرف

علته. فأما ما تعرف علته فالتحرز منه سهل. فإذا كان العمل القليل يحدث فيه من التفاوت مع طول الاستعمال ما يحدث، فكيف يظن بالعمل اللطيف المتجاوز لعمل الإنس! وإنما التفاوت الواقع فى الأصباغ والحبر من أجل الأمور المشتركة فيها: منها الزمان والهواء والوقت والمستولى، من الفلك والطالع، ومن الروحانيين ما يقصر عن كف غائلته مستعمل هذه الأصباغ:

قال أفلاطون: والكيان مع خفته واتصاله بالعلو ومداخلته للعمل فإنه لا يسلم عمله من الخبال والفساد.

وقال أحمد: إن الكيان هو الشىء الذى أنبأتك به وأعلمك أنه الروح المغذى المدبر للإنسان، ومنه تكون استحالة الأغذية وتوليد الحيوان وبه قوام الإنسان، وهو الجوهر المخالط لكل ذلك — فترى ما يحدث فى أفعاله من الفساد والبطلان. فإذا كان ذلك كذلك مع استمكانه ونفاذ قوته، فكيف يكون الإنسان المنقوص البطىء؟!

قال أفلاطون: واضبط الفساد من الأفقين إن يصل إلى العمل، وإلا فأكثر ليكون ما يسلم لك على التنجيب.

قال أحمد: الأفقان: أفق العلو الذى هو الفلك، وأفق السفل الذى هو الأرض، لأن الفساد واصل إلى جميع الأشياء من العلو والسفل والواسطة التى بينهما. فإذا قدر الإنسان على منع الفساد من مأتاه فقد أمن من فساد ما يعالج، وإن عجز فالصواب له امتثال قول الفيلسوف فى الإكثار من العمل كأنه يعمل أعمالاً كثيرة فى مواضع شتى فى أوقات متفرقة ليسلم له أخذ ذلك، فإنه من البعيد الكون فساد الكل، كما يستحيل أن تبطل كل أفعال الكيان.

قال أفلاطون: والفساد العلوى من جهة تفاوت مواقع الأشخاص العلوية والسفلى

مداخلة الأركان إياه على غير موافقة والمعالجة على غير سداد؛ وأشد ذلك تضاد المخالط السريع الجوال.

قال أحمد: أما ما تقدم من قول الفيلسوف فهو واضح فى نفسه لا يحتاج إلى تفسير ما خلا قوله: «السريع المخالط» يريد بها الروحانيات، وهى أشد الأشياء على العمل، ومنها يكون أكثر الفساد.

قال أفلاطون: فإن لم تقدر أن ترضيها، فاستعن عليها ما هو أعلى منها ليكفها.

قال أحمد: إن من المحال أن تقدر على تألف جميع الروحانيات، أو تجمع فى التألف بين المضاد والمنافر. وأولى الأمور أن يوالى العامل روحاً قوياً، فى قدرته منع من يخاف منه فساد العمل. وأولى الأرواح بالتألف روحانيات الكوكبين العلويين: زحل والشمس، أو روحانية الدولة والملة، أو الروحانية المتولدة من القران أو المستولية على الزمان. ولا يجمعن فى تألفه بين اثنين، أعنى به كوكبين، أو روحين مختلفين، بل يقتصر على واحد فإنه أتم لأمره وأسلم لإجابته.

قال أفلاطون: وليس يكون منه إذا تألف وأجاب منع المضاد فقط، بل يسدد ويوفق.

قال أحمد: لا يخلو المتألف لروح من الأرواح أن يوفق للصواب فى جميع أعماله لاسيما إذا كان المتولى للتأليف قوياً.

قال أفلاطون: وأنت مستغن عما يحتاج إليه المتألف للالتباس.

قال أحمد: إن المتألف للالتباس يلحقه التعب الشديد والمؤن الكثيرة، ثم لا تسرع الإجابة إليه كما تسرع إلى غيره ممن يتألف للاستعانة، لأن الالتباس أمر جليل عظيم، ليس شىء من أمور العالم إلا بالمثابرة واللجاج والصبر والإلحاح والقيام بكل ما يقربه إلى من يتألفه. ثم لا يتم له فى ذلك إلا فى القران الدال على الالتباس الواجب كونه فيه، وربما حرمه ذلك ضعف مولده وفساد مواضع الكواكب فيه.

قال أفلاطون: وكما يحتاج الداعى للالتباس 〈إلى〉 القرابين والدعوات والذبائح — فالذى يدعو للمعاونة يجزيه الدخن والدعاء.

قال أحمد: إن الذى يتألف للالتباس يحتاج إلى قرابين وذبائح فى أيام معلومة، ويريد أن يدعو مستوليه، ويهيئ له أجل ما يقدر عليه إذا دخل بعض حظوظه أو قارن أحد البابانيه أو يكون له حظ فى اليوم أو الساعة. ويجب عليه مع ذلك أن يتغذى بغذاء الكوكب ويلبس لباسه ولا يقرب مضاده، لأنه يلتمس من الشىء أن يتركب فيه ويخالطه. فإذا خالف سيرته باعده ونافره. والداعى للمعاونة فى هذا العمل وفى غيره يكفيه أن يدخن بدخنة توافق الكوكب وتسمى باسم روحانيته، ويبالغ فى الثناء ويلح فى دعائها وتشييداتها والتضرع إليها. فروحانيات الشمس وزحل ما أنا مخبر به، وروحانية الملة والدولة إن لم تقدر الوقوف على ماهيتها فتألف المجانس لها والمستولى عليها كاستيلاء زحل والزهرة على هذه الدولة. وأنا مختصر لك عمل أسلاف هذه الكواكب، وأوقفك على ما يستغنى العامل إذا عمله عن غيره من الأعمال. وأخرج أيضاً دخن الكواكب، مع اسم روحانيته لتقف عليه:

〈زحل〉

اعلم أن زحلاً لاحظ له فى هذا العمل، وهو يعين على نفاذه إذ كان من جنسه. والذى يجب أن تتألف من روحانياته الثمانية لهذا العمل روحانية بذيماس وتدخن له من عقاقيره بالمقل، ومن الأعضاء دماغ السنانير.

المشترى

كوكب رطب سعد. لا يوافقه كل عمل فيه مشقة على النفس. وهو لا يعين العمل، إلا أنه يكف الغائلة. وأولى روحانياته بالتألف روحانية دهاهوس. ويدخن له من عقاره بالعنبر فقط دون العضو.

المريخ

كوكب نحس شرير، لا يعين أحداً على رأى، ولا يرشد إلى صواب. إلا أنه ربما احتاج العامل أن يسلطه على معاند وصاد للعمل؛ وينتفع به فى ذلك. وأولى روحانياته بالتأليف لهذا الجنس من العمل روحانية مهنداس. ويدخن له من عقاره بالبيش ومن دماغ النمورة؛ ويدخن له أيضاً بالحرمل والخردل. ولا يدعى به فى موضع العمل لأنه لا يؤمن أن يفسد العمل.

الشمس

الكوكب القوى المتمكن، الذى لا يتمكن من العمل إلا به ومعاونته، وهو المشاكل للعمل إذ قد حوى الجزء البسيط المطلوب فى العمل؛ وليس يتم العمل إلا به، إذ كان المستولى على العالم موافقاً للعمل. ويجب على العامل أن لا يحيد معه إلى غيره، إذا لم يضطر. ويجب أن تتألف من روحانياته للعمل روحانية أطميغاس وروحانية طهيغمالايس. — ويحتاج الداعى لهذا الكوكب فقط، فى تألفه لهذا العمل ولغيره، أن يلبس الثياب الموافقة. له، وهى الثياب الحمر المنسوجة بالذهب أو المطلية، يلبسها فى وقت الدعوة، ويدخن له بعقاره الذى هو المسك، ومن الأعضاء دماغ الإنسان، ويدخن له أيضاً بالقرنفل والكبابة والسعد والميعة. وإن دعا غير هذا الكوكب فلا يخلى، مع دعائه غيره، تألفه والقيام بما يقربه منه. والاضطرار الذى يقع فيحتاج أن يدعو غير هذا الكوكب هو أن يكون هذا الكوكب فى أصل مولد الطالب مقابلاً لطالعه أو لصاحب طالعه.

الزهرة

كوكب رطب بارد يميل إلى اللهو والبطالة، ويضاد العلم والنظر، وله استيلاء على الدولة

والملة، وهو يكف إن لم يعن. وأكثر عمله فى منع الأمراض التى تعرض للطالب. والذى يجب أن يتألف من روحانياته ديذاس. ويدخن له بالصندل والقسط والأشنة، وبشحم كلى الضأن. وإنما خص هذا الكوكب بكف غوائل الأمراض لرطوبته وسعادته. — وأكثر ما يعرض لصاحب هذا العمل يبس الدماغ، إذ ما يصعد من العمل بداخله ويخالطه.

عطارد

كوكب ممتزج مختلط بالطبائع، متلازم خفيف سريع ذكى، وهو يفتخ غلق الأعمال بذكائه وفطنته. وله فى مداخلة العمل الأثر الكامل. فإذا عاون أصلح، وإذا نافر وضاد أفسد. وكما يرشد ويوفق، كذلك يخلط ويحير. فليكن عملك وعنايتك فى تألفه على قدر ما أنبأتك من أثره. وله من الدخن الصموغ والكندر والكنه. وأنفذ روحانياته الثمانية فى هذا النوع معودس وبرهانوس.

القمر

الكوكب السريع النافذ، الذى لا تتم جميع أمور العالم إلا به. وبتأثيره وحركته تجرى جميع أمور العالم. وقد قال الحكيم فى بعض كتبه: وأصلح حال القمر الذى هو القهرمان — يريد بذلك أن جميع أمور العالم به تنفذ، وتأثيرات الكواكب به تصل؛ ولا يستغنى عنه وعن إصلاح موضعه وتألفه فى جميع الأعمال — فكيف فى هذا العمل السريع إليه الآفات والغوائل؟! فتفقده مع تألفه، وتعرف موضعه واتصاله وانصرافه. وله من الدخن الأبزار اليابسة، والورد، والبنفسج. وأخص روحانياته لهذا العمل دغاتوس.

***

فهذه الأعمال والدخن مما يجلب تألف هذه الكواكب، ويكف غوائلها فتدبر الأمر

وثابر على تألف ما يستغنى عنه، وحد عمن لا يضرك أن تحيد عنه. وليكن عملك فى الكواكب البابانية على هذا القياس، وكذلك فى أهوية البلدان، وطلوع الأنوار 〈و〉تغير الزمان، أعنى بذلك أن تنسبها إلى أشكالها من العالم العلوى فتدبره كما تدبر شكله من العالم العلوى.

قال أفلاطون: فليكن لك فى الأوانى وصنعتها نفاذ وحذق واقتد فيه بالمحيط بالكل.

قال أحمد: كل عمل من الأعمال يعمله النافذ الماهر فهو أصلح وأوفق من عمل الغبى المغفل. فلهذا يشير الفيلسوف بأن يكون لك فى صناعة الأوانى نفاذ وحذق. ويعنى بـ«ـالمحيط بالكل» الفلك فى تدويره. ويأمرك أن تكون جميع الأوانى المستطيلة وغيرها لا تخلو من جنس التدوير، لأنه أبعد من التفاوت وأوفق للعمل.

قال أفلاطون: وإذا كان المراد من الشىء أن يكون فيه ما فى الأركان من الانحلال والانضمام، فالواجب ما يجب أن يكون فى شكل المحيط بالأركان.

قال أحمد: إن هذا القول مؤكد لما تقدم. وقد أنبأتك مراراً أن بحركات الفلك ما ينخل الأركان فيصير صفوها إلى العالم العلوى، وعكرها إلى القعر. فإذا كان يراد من العمل ما يحدث من الأركان، فالخليق أن تدبر، أعنى به العمل فى المشاكل، بما يحيط بالمركز.

قال أفلاطون: وإنما اضطررنا إلى استعمال المستطيل وغير ذلك من التدابير، إذ كنا مقصورين عن تدبير الإله — جل وعز — وعاجزين عن نصب الأشخاص العلوية.

قال أحمد: إنه يقول إنما يضطر أن يحيد عن الشكل المحيط المدور فى أوانى العمل ويتبعه بسائر الأعمال، إذ كان عاجزاً عن تركيب مثل الأشخاص العلوية المحللة والميبسة والمدبرة لما يحوى؛ فلما كان ذلك كذلك، اضطررنا إلى المستطيل من الإناء للعمل، لأنه ربما لا يصفو الشىء إلا بأن تبعد مسافته إلى التصعيد — إلى غير ذلك مما يحدث فى العمل

ويعرفه المدبر له. وفى الفلك أشخاص تصفى بأجرامها ما يبقى فى الشىء من الكدر بعد الصعود، ومنها ما يمنع الصافى عن الهبوط ويهبط الكدر.

قال أفلاطون: وتحرز أن لا تكون الآنية رقيقة فتنكسر ويكون مع ذلك الفساد سريع النفاذ. ولا يجب أن تبلغ بها فى غلظ الجرم ما يبطئ العمل.

قال أحمد: أولى الأشياء فى الأمور التوسط. وجميع الأوانى إذا رقق جرمها فإن الكسر يسرع إليها والفساد إلى العمل سريع فيها. والثخين من الآنية يمنع القوى عن الأثر؛ فيجب أن تكون متوسطة الصنعة ليعتدل الأمر فيها.

قال أفلاطون: وتفقد ما تحل فيما تحل، وهل هو ضار له أو موافق.

قال أحمد: إن المحلل للشىء مضطر أن تحلله برطوبة وحرارة لأنه لا ينحل الشىء إلا بدخيل رطب يدخل عليه، ولا يداخل الرطب الشىء اليابس، خاصة إذا كان بينه حاجز، إلا بحرارة توصل تلك الرطوبة إلى الجنس اليابس. فيقول الفيلسوف: أن تنظر فيما يحل فيه العمل من الأشياء الرطبة ما هى، وهل هى موافقة للعمل، مصلحة له أو ضارة مفسدة.

قال أفلاطون: والجنس من الحيوان، وإن كان سريعاً فيما يراد، فإنه يعفن إذ كان الجنس اللحمى.

قال أحمد: يعنى بالجنس من الحيوان الزبل والدم وغير ذلك مما يحل به أهل هذه الصناعة العمل. فيقول إنه وإن كان سريعاً لما قد بقى منه من القوة الحيوانية فهو عفن معفن إذ كان 〈فى〉 الجنس اللحمى عفونة الطبائع.

قال أفلاطون: والزبل أشد عفونة والدم أشد تداخلاً.

قال أحمد: إن الدم، وإن كان من عفونة الأركان، فقد حوى القوة النفسانية

وهو مسكن للروح، والزبل ظاهر العفونة؛ فالزبل — لنقصان قوته — يعجز عن مثل فعل الدم فى المداخلة. فقوة الزبل فى تحليله بالعفونة، وقوة الدم بالحرارة، وقرب العهد بمجاورتها الروح.

قال أفلاطون: وفى الزبل، لفرط العفونة، قوى تطلب المفارقة؛ فبطلبها ذلك تداخل العمل فتنجع.

قال أحمد: قد قلت بدءاً وكثر كلامى فى كتبى فى هذه العلة وأعلمت محبى العمل أن الزبل يجتذب القوى البرانية لفقره إليها، وبرهنت ذلك بما يحدث فى السماء والزرع، وأن ما كان فيها من القوى طلب مفارقتها، إذ العفونة تفاوت التركيب ومفارقة الصفو. فيقول الفيلسوف إن القوى الطالبة لمفارقة السماء تداخل العمل وتدبره فيكون منجعاً.

قال أفلاطون: والدم يفرط فيدخل على العمل ما لا يشاكل فيفسد.

قال أحمد: لما كان الدم قريب العهد بمجاورة النفس كان جوالا نفاذاً، فبفرط جولانه وتداخله يدخل على العمل، مع ما يداخله من الصفو، الكدر، فيكون ذلك الداعى إلى الفساد.

قال أفلاطون: فلا يستعمل الدم إلا فى الجاسى البطىء.

قال أحمد: إن من الأشياء ما يضعف حلها ويستحيل أن ينحل فى الزبل، فيضطر العامل إلى أن يحله فى الدم، ولا يتم له حينئذ ما يريد أيضاً حتى يستعين بالنار ويغلى الدم غلياناً شديداً. فإذا خاف أن يخرج عن حد الرطوبة أمده بالماء. فينهى الفيلسوف أن يستعان بالدم إلا فيما لا يعمل فيه الزبل.

قال أفلاطون: وما كان يسهل حله، فارفعه عن الزبل إلى ما هو أرفع منه.

قال أحمد: كما حاد فى تحليل الأشياء الرخوة عن الدم، كذلك يأمر أن يستعان فى حل ما لطف جداً بما هو ألطف من الزبل، كالماء الحار والخمر.

قال أفلاطون: والماء الحار وإن داخل لم يغير.

قال أحمد: قد يجب أن أتعلم أن الماء إذا فارق الشىء فلا يبقى فيه من جنسه

إلا القليل الذى لا يحس، كما ترى ذلك عياناً فى الثياب التى ترطب وغير ذلك من الأشياء التى يجاورها الماء. فإذا يبست فإنه لا يرى فيه من الجزء المائى ما يحس؛ فمداخلته العمل كذلك.

قال أفلاطون: ولو كان يراد بالعمل الحل دون الإدراك لكان يستغنى بإدخال الجزء المائى عليه.

قال أحمد: صدق الفيلسوف! فلولا يراد من تدبير العمل وإدخال القوى عليه دون الترطيب، لكان يكتفى بأن يدخل عليه من الجزء المائى ما يقيمه فى السيلان كهيئته بعد الحل. إلا أن المقصود تفريق الأجزاء فى أزمنة وساعات معلومة.

قال أفلاطون: والخمر بالإضافة إلى الماء كالدم إلى الزبل؛ إلا أن الماء خلو من العفونة.

قال أحمد: إن الخمر إذا أضفته إلى الماء وجدته أكثر عملاً منه بقدر تفاضل عمل الدم على عمل الزبل؛ وهو أيضاً — أعنى الخمر — يدخل فى العمل ما لا يجب أن يدخل، كما يدخل الدم؛ فشبه الفيلسوف هذا التشبيه ثم قال: «إلا أن الماء خلو من العفونة» — أراد به أنه لم يتشابها فى العفونة.

قال أفلاطون: والزبل والدم من الحيوان كالحيوان.

قال أحمد: إن هذين النوعين، أعنى به الزبل والدم من كل جنس، يشاكل ما هو منه؛ فليكن قياسك على ذلك.

قال أفلاطون: إلا أن الزبل من الإنسان والسباع أشد عفونة وعكراً، إذ كان تولده من العفن، فقد تردد.

قال أحمد: لما كان طعام الإنسان والسباع اللحوم المخصوصة بالعفونة وما شاكلها من

الأغذية التى وإن لم تخص بالعفونة فهى رخوة، فبالواجب أن يكون الزبل من هذين الجنسين عفناً جداً لتردده فى العفونة.

قال أفلاطون: ولا تلتفت إلى قول أهل لوذيا فى ادعائهم أن النتن من مقدمات التلطيف، فذلك على خلاف ما ذهبوا إليه.

قال أحمد: أهل لوذيا جماعة من مجاورى اليونانيين. وفى آرائهم أن النتن من مقدمات التلطيف. ويحتجون فى ذلك بارتفاعه عما يحليه حتى صار يرتفع ويداخل حس الشم. فيبطل الفيلسوف هذا الرأى ويعلم أن ذلك على خلاف ما ذهبوا إليه.

قال أفلاطون: وليس كل سريع صفواً، كما أنه ليس الحاد من رذلى الفعل بالصفو.

قال أحمد: يخبرك الفيلسوف أن غير الصفو يسرع أيضاً. واستدل عليه بالأفعال: فكثير من الأعمال السريعة مذمة لا تستحق اسم الصفو.

قال أفلاطون: ولا يخلو أيضاً أن يحدث معه بحركته بعض الصفو، فيوافق قول القوم، وإن كان منهم الرأى فيه غير صواب.

قال أحمد: إذا حدث فى الشىء الافتراق فإنه يفارقه العكر كما يفارقه الصفو، والنتن إذا فارق الشىء فارق معه أيضاً أجزاء الصفو، فتكون هذه الأفراق كالتلطيف، فيوافق قول أهل لوذيا وإن كان رأيهم الخطأ.

قال أفلاطون: وفى الجملة إن ذلك الصفو بعده من التنافر إذ كان الواحدى الذات، والنتن خلو من ذلك.

قال أحمد: إذا كان دليل الصفو أن يكون خلواً من التنافر، والتنافر موجود فى النتن، فالواجب أن لا ينسب إلى الصفو.

قال أفلاطون: وزبل الخيل، وإن بعد عمله، فهو سليم.

قال أحمد: كل ما كان من الأدوية والعقاقير بطىء العمل فصاحبه آمن منه. كذلك زبل الخيل وإن كان غير مسرع فيما يراد منه فهو أقل هذه الأشياء فساداً لما يحوى.

قال أفلاطون: فتدبره فى الاحتراق.

قال أحمد: كل نوع من الزبل كزبل الغنم والبقر فإن ريحه عند الاحتراق يولد فى الإنسان الأمراض الرديئة. وزبل الخيل قلما يضر.

قال أفلاطون: فإن أبطأ فى العمل فاحتجت أن تمده بما يعين، فافعل.

قال أحمد: يقول: إن كان يعسر نفاذه فيما قد دفن فيه، واحتجت أن ترش عليه الخمر والماء الحار فافعل.

قال أفلاطون: وانظر! فإن كان الترتيب يقع من أجل الآنية، فاستدل.

قال أحمد: قد قلت مراراً إن حل الأشياء، وإن كانت بمجاورة الرطوبة تنحل، فلا يستغنى عن أن يداخله بعض الجزء المائى ليكون المعين له على ما يراد منه، وأنه إذا عدم فى الآنية التخلخل، فإنه لا ينفذ الجزء المائى ويعسر حل الشىء. فالرأى ما حده الفيلسوف من الاستدلال بالإناء المنضم الأجزاء 〈إلى〉 الإناء المتخلخل ليصل.

قال أفلاطون: هذا إذا كان الشىء مما يستحيل أن يستقيم إلا بممازجة الماء. فأما غير ذلك فهو أولى أن يمنع الماء من الوصول.

قال أحمد: إن من الأشياء ما الغالب فيه اليبس فذاك مستحيل حله إلا بإدخال الحر والرطب؛ ومن الأشياء ما الغالب عليه البرد فذاك حرارة الزبل تحله، وإن لم يصل الماء. فالفيلسوف يكره وصول الماء إلى المتاع إلا عن اضطرار. فإذا قدرت على إتمام العمل من غير أن يصل الماء فعلت.

قال أفلاطون: ومن الأشياء ما لا ينحل بتةً دون أن يعالج قبل بالنار.

قال أحمد: ما انعقد من الأجسام فى الماء فإنه يستحيل أن ينحل بعد فى الماء، إذ الماء علة العقد. فإذا عولج بالنار وانتزع منه العقد والانضمام الوافع من الماء فإنه بعد ذلك يسهل حله.

قال أفلاطون: وليكن عملك كالمراقى يرتفع من الأرض إلى الماء، ومن الماء إلى الهواء، ومن الهواء إلى النار. ثم صف بعد ذلك.

قال أحمد: إن هذا القول مما يستحق أن يوضع فى الكتاب الرابع. فإنه وإن كان مما يحتاج إليه من يحل الأشياء فإنه تمام العمل. ولما وضعه الفيلسوف فى هذا الموضع فلا بد من كشف غامضه. إن الماء وإن كان قعر الطبيعة فهو لسيلانه ولين تركيبه أسرع استحالةً، والأرض تستحيل إلى الماء إذا دبرت، والماء يستحيل هواءً والهواء ناراً والنار تنفرد، أعنى الحرارة تنفرد عن اليبس. فإذا انفرد سهل أن يلحق بالصفو. فعلى هذا أمر الشيخ أن يكون التدبير.

قال أفلاطون: والعلة فيما يأمر من الارتقاء التدريب.

قال أحمد: يقول: إنا ندبر الأرض حتى يلحق بالتدبير النار ليجرى عليه تدبير العمل فنتدرب؛ ولولا ذلك لكان قصد الجنس النارى مما يغنى عن تدبير جنس الأرض حتى يقام فى جنس النار.

قال أفلاطون: والعمل الكبير ضبط ما يحل.

قال أحمد: لولا ما قدمه الفيلسوف فى قوله لما كان مستحيلاً إدراك هذه الصناعة على ذى الجهل والعلماء. إلا أن هذا الاستمكان من ذلك الفعل العظيم الذى يتجاوز أفعال البشر. وسنأتى فى هذا الكتاب وفيما يليه بالآراء التى ترشد إلى ما يعين على ضبط الشىء إلا أنا إن أخرجنا ذلك بالعبارة التامة الكلية، فلن نستطيع أن نأتى بالمحتاج إليه فى ذلك؛ ولا يستغنى

العامل عن استعمال الرأى والفطنة؛ ولولا أن ذلك مما يتهيأ إخراجه مع تمثيل كل جزء من العمل كأنى أتكلم فيه إذا مثلت صنعة الآنية وغير ذلك من أجزاء العمل لصرفت بعض القول إلى الكلام فيه، إلا أن إخراجه بما ذكرت أولى وأصوب. — وأتقدم فى هذا الكتاب بمشورة، وهو أن يكثر من العمل فاته وإن فاتت البعض استمكن من البعض.

قال أفلاطون: واعلم أنك تحتاج أن تنازل فى الضبط الأركان والعلو.

قال أحمد: إن الصفو طالب للعلو، والعلو يطلبه إذا كان من جنسه؛ والأركان أيضاً تخالط الصفو للافتقار إليه، كما قد أخبرت.

قال أفلاطون: وأشد الأوقات حاجةً إلى الضبط أوان التصعيد والتكليس.

قال أحمد: قد يجب أن تعلم أن الحل من جنس الماء، وأن الطالب للسفر هو يمنع من الارتفاع والتصعيد، والتكليس من جوهر النار والهواء، وهما الركنان الطالبان للعلو.

قال أفلاطون: و〈فى〉 التكليس ما ينفذ فى النار، وفى التصعيد الرطب مما ينفذ فى الهواء.

قال أحمد: إن للمتخلص من الأجرام السفلية مسلكاً فى الأجرام الموافقة لها: فالنار من جنس التكليس، والهواء من جنس التصعيد الرطب.

قال أفلاطون: وإذا كان النيران فى المراكز العالية فإن الشىء سريع فى الذهاب. — إلى أن قال: فأسقطهما.

قال أحمد: قد أنبأتك قبل أن من شأن النيرين جذب 〈الصفو〉. وهما إذا كانا بالمحل الذى ذكره الفيلسوف أقدر على الفعل. فيأمرنا الفيلسوف بإسقاطهما عند العمل، يعنى عند التحليل ليحرز العمل من الجذب المستمكن.

قال أفلاطون: وتعلم أن يكون إسقاطهما مما يضر.

قال أحمد: الذى يضر من إسقاط النيرين فى العمل أن يكون لهما حظ فى الوقت الذى يعالج فيه العمل فيكون الإسقاط مما يفسد الوقت.

قال أفلاطون: والتفريق صفو صاعد حقيق أن ينسب إلى جنس الروح، وصفو سيال حقيق أن ينسب إلى جنس النفس، وجسد موات.

قال أحمد: لولا أنى إذا قصدت لكشف جميع ألفاظ الفيلسوف لطال الكلام وأشغل عن المقصود، لكان كشف ذلك مما ينفع الناظر فى هذا الكتاب. فمما كنت أحتاج أن أتكلم فيه وأطيل: الفرق بين الروح والنفس، وإخراج آراء الأوائل ومذاهبهم فيه. وإنى وإن لم أخرج القول بكماله — فسأخبر عما لا يستغنى عنه طالب هذه الصناعة:

اعلم أن الأشياء صفو يصعد منه، وصفو يستنزل منه: ينسب الفيلسوف الصاعد إلى جنس الروح إذ خص بهذا الاسم الجوهر المنفصل من الحيوان، وهو يشاكل الصاعد من العمل؛ ونسب الصفو السائل إلى النفس، إذ المخصوص بهذا الاسم الجوهر المداخل للحيوان الممتزج، فهو لامتزاجه مركب فى جسم سيال؛ ونسب الجسد المستخرج منه الصفو إلى الموات، إذ هو كذلك.

قال أفلاطون: والجنس السيال أثبت من الصاعد.

قال أفلاطون: إن الشيئين وإن تساويا فى الصفو لكان المرتفع أولى بأن يفوت العامل من السيال. فكيف وما صعد أصفى مما سال!

قال أحمد: يقول: لو تساويا فى الصفو، يعنى به المنسوب إلى الروح والمنسوب إلى النفس، لكان جنس الروح أولى بأن يفارق السفل من السيال؛ فكيف والصاعد أصفى من المستنزل!

قال أفلاطون: والصاعد مما كان فهو إلى البياض أقرب، والمستنزل تختلف ألوانه.

قال أحمد: قد دلك هذا الأثر أن الصاعد أصفى إذا كان يخصه اللون الواحد المنسوب إلى الضياء، والمستنزل بخلاف ذلك.

قال أفلاطون: والصاعد من اليابس أولى الأشياء به أن يكون كالدرمك، ومن الرطب كلون المها.

قال أحمد: إن الصاعد من أى شىء كان إذا صعد كما يجب، فإنه يكون من اليابس كالدرمك قد عدم فيه البريق لتخلخل الأجزاء؛ إذ الصاعد متخلخل؛ ويجب أن يكون من الرطب كثير البريق والصفا، إذ هو سيال، وجوهر الماء صقيل.

قال أفلاطون: والسيال إذا كان له دافع من أسفل تصاعد فعاد التركيب.

قال أحمد: إن ما يسيل من العمل إذا كان له دافع يدفعه، أعنى به حرارة تصعد الشىء فإنه يصعد أيضاً ويخالط الجسم الذى فارقه فيعود العمل كما كان.

قال أفلاطون: فتحرر من ذلك واعمل أن يصل المنضج إلى العمل من جميع جهاته بالسواء كما يصل إلى الآنية المعدية.

قال أحمد: أرى الفيلسوف لا يدع شيئاً يمكن أن يعرض للعامل إلا حذره وأرشده إلى ما يدفع الغائلة — من ذلك قوله هذا، لأن السيال إذا كان ينسب إلى الصفو فإنه إذا لاقى فى الموضع الذى يسيل إليه حرارة مفرطة فإنه يفارق موضعه ويصاعد فيخالط الجزء الذى فارقه؛ فلهذا أمر الفيلسوف أن تكون النار تصل إلى الآنية من كل جهاتها بالسواء، لئلا تفرط على جزء من العمل دون الآخر؛ ويعنى بالآلة المعدية المعدة التى تنضج الأغذية عند الإنسان.

قال أفلاطون: والسيال إذا كان يستحق العمل فإنه يكون كالدم العبيط.

قال أحمد: إنه يكون هذا اللون الذى ذكره الفيلسوف أكثر ما يكون فى البيض والشعر؛ فأما الأجساد فيكون ما ينزل منها كلون النار، ويكون ما ينزل من الشعر أكثر بصيصاً مما ينزل من البيض، إلا أنه يخالطه سواد.

قال أفلاطون: والذى يصعد من الشعر يكون لونه مما يميل إلى الصفرة.

قال أحمد: إن الشعر لما كان غزيراً كبير اللطف جذب معه فى التصعيد من جنس السيال، فصار لونه أصفر بهذا السبب.

قال أفلاطون: ومما يجذب به الصفو أن يكون قليل التغير.

قال أحمد: كل ما كان صافياً فهو واحدى الذات، والواحدى الذات غير متغير.

قال أفلاطون: وآنية التصعيد مما يجب أن يداخل أحدهما الآخر — إلى أن قال: فالداخل مما يجب أن يكون مثقوباً كهيئة المنخل.

قال أحمد: قد يجب أن أقصد فى هذا الموضع من الكتاب إلى ما عادتى أفعله فى مثله، وهو أن أحيد عن إخراج ألفاظ الفيلسوف فيما كان هذا سبيله من العمل، وأتولى الإخبار عنه ليسهل على الطالب إدراك ما يطلب. اعلم أنه يجب أن تكون أوانى التحليل مما مثله الفيلسوف فيما تقدم من القول، ويكون أحدهما كهيئة القرعة المستطيلة مدورة الأسفل مسنونة التقطيع، ويكون طولها قدر ذراعين وعرض أسفلها مقدار عظم الذراع؛ فهذه القرعة الأولى التى يسميها اليونانيون السوكينا، أى المحيط. وتكون القرعة الثانية مثل نصف القرعة الأولى فى هذا الطول والعرض، وتكون لهذه القرعة شفة منكسرة إلى برا. إذا أنت أرسلت هذه القرعة فى القرعة الأولى وقعت الشفة على فم القرعة الأولى فمنعت القرعة من أن تصل إلى أسفل؛ ثم ينصب على فم القرعة الأولى الإنبيق. وليكن كل ذلك ملازماً بعضه لبعض لئلا يفوت ما يخرج من العمل، وتكون قد ثقبت أسفل القرعة الثانية بثقب صغار. فإذا أنت وضعت العمل فى القرعة الثانية ودليته فى القرعة الأولى ونصبت عليه الإنبيق وشددت الوصل وأحكمته ووضعت بعد ذلك القرعة الأولى فى إناء فخار كبير، بعد أن تلقى فى أسفل الإناء كهيئة المستوقد لئلا يلصق به من أسفل القرعة. فيكون ما قد حذرناه الفيلسوف فى وصول النار إلى الجزء السائل، ثم يصب فى الإناء الفخار الماء بقدر ما يحيط بالقرعة وينزل نحو الشبر من القرعة خارجاً من الماء، وتكون

أنبوبة الإنبيق قد أدخلت فى فم الإناء ملازمة؛ واستوثق من الوصل لئلا يفوت الصاعد. أوقد تحته برفق وتأن، فإن المنسوب إلى الروح يصعد إلى الإنبيق: فإن كان سيالاً سال فى الإناء، وإن كان يابساً رقد فى حواشى الإنبيق. ويسيل المنسوب إلى النفس من ذلك الثقب إلى أسفل القرعة ويبقى الجسد فى موضعه.

فهذا جملة أمر التفريق؛ وأخرجه الفيلسوف بكلام طويل هائل، فاختصرت ذلك وأوجزته بكلام سهل عامى، لما رجوت فيه نفى الحيرة عن طالبى العلم.

قال أفلاطون: وليكن المنخل متضايقاً لئلا تشترك النفس مع الجسد.

قال أحمد: إن الثقب الذى فى أسافل القرعة إذا لم يكن متضايقاً فإنه يسيل من الجسد أيضاً كما يسيل النفس فيفسد التدبير، فلهذا يأمرك الفيلسوف بما يأمرك.

قال أفلاطون: وبعد الفراغ فإن خفت فى العمل الاختلاط فدبر كل واحد منها كتدبير الأول.

قال أحمد: إن هذا الذى ذكره الفيلسوف، خفت الاختلاط أم تخفه، فلا بد من استعماله لأنه لا بد أن تصعد ما لا يجب أن يصعد، وتنزل ما لا يجب أن ينزل، ويبقى فى موضعه ما يجب فيه الصعود والنزول فإذا أنت رددت كل واحد منها، أعنى الصاعد والنازل والثابت فى القرعة وعالجته كعلاجك أولاً، استقام لك واستثبت.

قال أفلاطون: والآنية الزجاج فلولا ما يسرع إليه من الكسر لكان فيه مرفق لنفاذ البصر فيه.

قال أحمد: إن هذه هذه الآنية التى علمنا الفيلسوف صنعها إن كانت مقاومة للماء والنار فإنها تعمى على العامل، إذ كان البصر لا ينفذ فى جرمها والعامل يحتاج إلى ذلك ليقف على صعود العمل ونزوله، وهل يجب أن يقطع النار أو يرتد.

قال أفلاطون: فإن قدرت على سياسة الصقيل فافعل واستظهر بالاستعمال للآخر.

قال أحمد: من وثق من نفسه بالصبر على العمل والتوقى من الخرق وما فيه كسر الآنية فاستعمل الزجاج الذى يسميه الفيلسوف الصقيل كان مما يؤيد رأيه إذ هو مستمكن من النظر إلى العمل. على أن الفيلسوف قد أمر مع هذا بالآنية الأخرى، يعنى بها ما مثل عملها قبل، كأنه يجعل بعض العمل فى الزجاج وبعضه فى الإناء الآخر ويكون الوقود والتدبير على سنن واحد، فيستدل بما يراه فى الزجاج عليه وعلى الآخر، ويكون مستظهراً بالإناء المكلس إن عرض للزجاج عارض.

قال أفلاطون: وإذا أنت رددت من الصفو على العكر استحال إليه.

قال أحمد: إن المطلوب من هذا العمل هو المعنى الذى ذكرناه فيما تقدم من كلام الفيلسوف؛ وهو ما قد أشرت إليه فى كتابى هذا وفى غيره، وهو أن أوائل الأشياء أوائل متشابهة والاختلاف من أجل التركيب. فإذا أقمت الشىء مقارباً لما كان فى البدء وأقام كل ما جاوره وخالطه كهيئته فى التركيب — فيقول الفيلسوف إنك إن رددت ما قد صفى بعض التصفية على العكر أحاله إلى الصفو، لما قد أخبرت.

قال أفلاطون: والتركيب وقع فى أزمنة ومداخلة فلا يبطل دون مداومة العمل.

قال أحمد: يحرضنا الفيلسوف على إعادة العمل مراراً ويوئسنا بقوله هذا من إدراك المطلوب إلا بالعناء الشديد والتدبير النافذ.

قال أفلاطون: ولا يزال يفرق حتى يستيقن قيام كل واحد منهما بذاته — إلى أن قال: فالتدبير له كتدبير الآلة.

قال أحمد: وإن المدبر العلوى لا يعيد الشىء حتى يصير فى هيئته الأولى — كذلك يشير الفيلسوف أن يكون تدبير العمل كذلك.

قال أفلاطون: ومن دليل الصفو إذا أنت خلطته مع العكر أن لا يمازجه بل يستحيل إليه.

قال أحمد: إن الشىء إذا صار بالمحل الذى وصفه الفيلسوف لا يخالط شيئاً بتةً، بل يحيل إلى جوهره ما جاوره حتى يصيرا فى هيئة واحدة.

قال أفلاطون: فهو كالنار، بل هو أقوى، إذ لا يبقى.

قال أحمد: قد نرى النار إذا وقع فى الخشب والنبات فإنه لا يأتى على كل أجزائه، بل يبقى منه الرماد والفحم؛ والعمل لا يترك شيئاً من الأشياء إلا أحاله بكليته.

قال أفلاطون: وترى فيه حركة روحانية لا تقبل الموت.

قال أحمد: إن الفساد والاضمحلال فى الشىء: من الشىء ما يكون كما ترى النار الآكلة فى الخشب والعفونة فى التفاح. فالفساد إذا لم يكن من جنسه متمكن ممكن فيه فإنه لا ينفذ فى الشىء ويستحيل منه تدبيره فيه. فهذا أحد الأسباب التى تمنع هذا الشىء من قبول الفساد.

والسبب الثانى: أن فارق الصافى الكدر عنه مفارقة الصافى اسم الموت. فأما الشىء الذى هو الحياة فإنه يستحيل منه قبول الموت.

قال أفلاطون: والتكليس بعد التصعيد مما يصفى — إلى أن قال: فإن شئت فاجمع، وإن شئت فافرد.

قال أحمد: إنك إذا صاعدت الشىء ثم صاعدته أيضاً من غير أن يكون بين التصعيدين تكليس، فإنه قلما يغنى، وإنما يزيل هذا الشىء عن جهته، أعنى عن تركيبه، التصعيد بعد التكليس، والتكليس بعد التصعيد. وجائز أن تفرد الثلاثة الأجناس التى يولدها لك العمل الأول، فدبر كل واحد على حدة؛ وجائز أن تجمعها أيضاً، والجمع أسهل، لأن المفردات من هذه الثلاثة الأشياء الفساد إليها أسرع والتدبير لها أعسر.

قال أفلاطون: وإن كان فى العمل بعد التصعيدين أو الثلاثة قلة فالحق به من الشىء غير المدبر فإنه يلحق به.

قال أحمد: لعلك قد سمعت فى بعض ألفاظ من ينتحل هذا العلم من الفلاسفة:

«الخميرة» لأن من آرائهم أن الشىء وإن كان قد جرى عليه نصف التدبير فإنه إذا خلط به من جنسه الأول تساوى معه فى النضج والإدراك.

قال أفلاطون: وهو إذا بلغ النهاية سم قاتل — إلى أن قال: إذ من عادته الجذب، وخاصةً المجانس.

قال أحمد: إن الشىء البالغ هو الجوهر البسيط الواحدى الذات: فهو يجذب كل ما يشاكله. فإذا أكثر الإنسان النظر إليه أو داخل بعض الحواس ويكون الأكثر من أجزائه من خارج متصلاً به فإنه يجذب ويقتل الحيوان — هذه الدرجة مثل العامل من روائح العمل فيجب أن يتحرز منه كل الاحتراز 〈أى〉 من مشام العامل فإنه إن شمه قتله فيجب التحرز منه. والآلة الأولى التى ذكرها الفيلسوف هى أسلم من هذه، وهى التفريق للغاية.

قال أفلاطون: وهذا فى بلوغه النهاية، فأما أن لو كان قبل استحالة تدبيره...

قال أحمد: إنه يظهر هذا الأثر منه وقد بلغ النهاية واستغنى العامل عن ملازمته. فأما إن لو كان ذلك يظهر منه قبل، لهلك مدبره قبل أن يتم تدبيره.

قال أفلاطون: وهو إذا أكلته مقو للروح زائد فيما يثبته.

قال أحمد: قد يجب أن تعلم أن الضرر الواقع على الإنسان من هذا الشىء ليس من أجل تضاده للروح، بل من أجل ملاءمته له. فإذا كان خارجاً جذب؛ وإذا داخل الإنسان لازم وقوى شكله الذى ناسبه.

قال أفلاطون: وهو أيضاً يعمى إذا نظر إليه. فإذا اكتحل به قوى نور البصر — إلى أن قال: وسائر الحواس أيضاً كذلك.

قال أحمد: العلة فى هذا كالعلة فى الموت الذى تقدم كلامنا فيه. وليس كل الأطباء

يوافقون على هذا الرأى، إلا أنه الصواب، وليست بنا حاجة إلى إشغال أنفسنا بذكر حجج الموافق والمخالف فى هذا الأمر، والتجاوز إلى غيره أولى.

قال أفلاطون: والتصعيد الكامل أن يصير الشىء واحداً ثم يفرق بالمتجاوز من الحرارة.

قال أحمد: إن أفلاطون يرى أنه إذا ثابر على التصعيد صارت الأجناس الثلاثة الجنس الواحد الذى يختلف فى القوة ويتساوى فى التركيب؛ ثم فى رأيه أيضاً أن تفرقه بالنار الشديدة كنار الإذابة بالنفخ. فأما 〈ثاو〉 فروسطس وأرسطوطاليس وفيثاغورس فيخطئون هذا من رأيه لأنهم يرون أن ما ذكر خلاف ما ذكر، إلا أنهم يقولون إن ذلك لا يتهيأ لأحد ضبطه فى النار؛ والشيخ لا يلحقه العتب فى هذا لأنه كان واثقاً بنفسه فى ضبط العمل وتدبيره. وليس العجز والنقيصة فى غيره مما يلزمه. ويرى الفيلسوف أن ذلك إذا خلا مما ذكره، وهو التفريق بالنار الشديدة، فإنه يوشك أن لا يقاوم النار بعد. ومن رأى من خالف الفيلسوف فى قوله هذا أن التكليس بالنار الشديدة يغنى عن التفريق بمثل هذه النار.

قال أفلاطون: والحمامات أيضاً مما يعين على التفريق.

قال أحمد: إن العمل إذا خاف العامل منه أن لا يسرع فى التصعيد فإنه يتخذ له أتوناً كالحمام ويعلقه فيه فى أوانى زجاج أياماً، ويكون تارة كنار الحمام. فإذا دبر هذا التدبير أياماً نضج وقبل فى قرب مدة تدبير التصعيد.

قال أفلاطون: واحذر أن يكون هذا التدبير مما يخيل.

قال أحمد: إنه ربما كان تدبير العامل ليس بالمستقيم، فيقع فى العمل فى مثل هذا الأوان الدود، ويكون ذلك من قلة التعاهد. ولا يستعظمن أحد تخيل الديدان فى العمل مما من شىء فيه رطوبة فأمد بحرارة أو برودة ألا يخيل فيه؛ وقد يخيل فى اليبس والحر أيضاً من ذلك ما أخبرنى به ثابت ما سمعه من بعض الموابذة الملازم لنار يبست بأرمينية أنه تخيل فى النار ديداناً لونها كلون النار لها حركة؛ وأنها كانت إذا خرجت من

النار بطلت حركتها. فأما الثلج فإنه كثيراً ما يرى ذلك فيه؛ والكيان إذا لان مسلكه وقرب فى مكانه خيل. والحيلة فى كف هذه الغائلة حركة الإناء وضربه ليبطل عمل الكيان فإنه إذا قوى فى موضع نقل إلى الموضع الآخر، فاحتاج أن يبتدئ أيضاً، فلا يزال به كذلك حتى يفرغ من العمل.

قال أفلاطون: وأكثر ما تعرض هذه الأشياء الحيوانية — إلى أن قال: لقرب العهد.

قال أحمد: صدق الفيلسوف وتكلم بالحق، فإن هذا الشىء إذا كان من جنس الحيوان فإنه أقرب إلى التخيل منه إذا كان من الأجساد القريبة العهد بالنمو. وقرب العهد بمجاورة الكيان مما يمكن للكيان.

قال أفلاطون: وطحن العمل بعد التكليس مما يعين على الحل.

قال أحمد: إن الطحن يفرق الأجزاء فيسرع إليها الحل. وما كلس من العمل ربما اجتمع فانضم أجزاؤه.

قال أفلاطون: والعمل الحل، كذلك النبات لا ينمو دون الحل.

قال أحمد: إن هذا الرأى من الفيلسوف تظهر صحته فى القمح، لأنه إذا بدأ فى النبات ثم طحن وخبز كان متخلخل الأجزاء لا يكاد ينضم.

قال أفلاطون: اعلم أن النار الشديدة للغسل والخفيفة للتفريق.

قال أحمد: إن النار الشديدة لا تكاد تحلل، بل تضم الأجزاء بعضها إلى بعض. وإنما التفريق يقع باللين من النار.

قال أفلاطون: فاعتبر ذلك بالعرق.

قال أحمد: إنه لا يسيل العرق الذى هو كنوع من التحلل إلا بالحرارة اللينة.

قال أفلاطون: ومن تمام الإدراك أن يكون العمل خلواً من الطعوم.

قال أحمد: إن الطعوم من الطبائع المركبة، والعمل محتاج أن يخلو من التركيب. فإذا كان فيه ما فى الطبائع فإنه لم ينفرد بعد.

قال أفلاطون: والبرانى يكفيه هذا المقدار. فأما الجوانى فينقى بالروحانيات.

قال أحمد: إن العمل البرانى يكتفى من التصفية بالحل والتصعيد؛ فأما الجوانى فلا يكتفى بالتصفية دون أن يستعان بالروحانيات ليصفى تلطفها ما يعجز البشر عن فعله.

قال أفلاطون: والروحانيات سهل على الروح جذبه. فأما الجوانى فلا يتهيأ دون لباس الروح جسداً.

قال أحمد: إن الشىء الروحانى لطيف: فمنه ما يكون ذا غائلة وسطوة، ويجب أن ينقى العمل منه، والروح مقتدر على جذب الروحانية المفسدة. فأما ما كان من العلم الجسدانى فلا يتهيأ للروح جذبه إلا بأن يكون لابساً جسداً من الأجساد يجذب به ما كان من جنسه.

قال أفلاطون: وإذا أحطت بالعمل من لطائف العلو فإنه يكفى الضبط.

〈قال أحمد〉: يعنى بلطائف العلو الروحانيات. وأنت إذا استعنت بها أحاطت بالعمل فمنعت اللطائف من اللحاق بالعلو.

قال أفلاطون: وأحق المستعان به فى هذا العمل نجم البلاد.

قال أحمد: يعنى بنجم البلاد «المشترى» لأنه المخصوص ببلاد اليونانيين وهو الكوكب المنجح فى كل أمر، الخير الطبع الذى لا يشوبه الشر.

قال أفلاطون: وتحرز فى ذلك من النيرين؛ فأما سوى ذلك فممكن منه المعاونة.

قال أحمد: إن من شأن النيرين الجذب. فإذا كان هذا طباعهما وفعلهما، فكيف يعينان على منع ذلك؟!

قال أفلاطون: وإن لم يصح عندك ما نقول فى المحيط فاستدل بالمبرسم وتدبير الأطباء له.

قال أحمد: إن من شأن المبرسم فى الشتاء أن يحال بينه وبين الهواء البارد، ويكون موضعه الموضع الدفىء إذ كان يجب أن يخرج ما قد علمت فيه من الحرارة المفرطة. فإذا كان فى الهواء البارد انعكست الحرارة المفرطة إلى جسمه وكان وشيك الهلاك. وإذا كان المحيط الهواء الدفئ فإنه تنحل منه الحرارة فيه. فأراد الفيلسوف بما مثل أن يصح عندنا أن مضاد الشىء إذا أحاط بالشىء منعه عن مفارقة موضعه.

قال أفلاطون: والشىء إذا دبره الماهر فإنه يتألفه من غير أن يضاده.

قال أحمد: إن من شأن المحيط المضاد أن يفسد وإن منع عن مفارقة الموضع. فيقول الفيلسوف إن الماهر يدبر العمل تدبيراً يستغنى أن يحيط به ما يضاده.

قال أفلاطون: وإن حاط أيضاً فليحجز ليأمن الفساد.

قال أحمد: يعلم الحكيم أنه لا يستغنى عن إحاطة المضاد ليمنع من المفارقة، فيحتال لنا بما هدانا إليه، وهو أن يحيط بالشىء مسالم، لا مشاكل، ثم يحيط بالمسالم المضاد ليكون المسالم حاجزاً بين المضاد وبين الشىء فيؤمن الفساد والفوت.

قال أفلاطون: والعمل أقل أيام تدبيره حول، يعنى دور النير الأعظم.

إلى أن قال: ويجب أن يكون الابتداء فيه الوقت الذى يعتقده الهند أن فيه تحويل سنتهم.

قال أحمد: قد أعلمك أن العمل يحتاج العامل أن يقوم عليه سنة تامة، ويأمر أن يكون الابتداء فيه الوقت الذى يعتقده الهند أن فيه تحويل سنة العالم، وهو حلول الشمس أول الجدى.

قال أفلاطون: وإن الزمان يوافق جنس العمل.

قال أحمد: إن أول تدبير العمل الحل وهو الرابع من أرباع السنة، أعنى به ما بين نزول الشمس رأس الجدى إلى أن ينزل رأس الحمل، ربع يغلب فيه العضو المائى وتميل الشمس إلى ناحية الجنوب، فيكون هذا الربع من أرباع السنة أوفق لما يراد حله من غيره من الأرباع.

قال أفلاطون: ثم يكون الغالب من العمل فى كل ربع من الأرباع ما يوافق الربع.

قال أحمد: إذا كان الربع الشتوى مما يوافق الحل، فالربع الربيعى — وهو ما بين نزول الشمس أول الحمل إلى أن ينزل برأس السرطان — مما يوافق التصعيد، إذ الزمان زمان هوائى يصعد فيه الماء من أسافل الأشياء إلى أعاليها وتتفرق الأشياء فى أجناسها؛ ويكون الربع الصيفى مما يثابر فيه على التكليس إذ الزمان زمان يبس لا يصلح فيه شىء كما يصلح التكليس؛ ويكون الزمان الخريفى، وهو بين نزول الشمس أول الميزان إلى أن ينزل برأس الجدى، مما يقصد لتفريق الشىء وتصفيته، إذ الزمان يعين على ذلك، كما يرى يقع فى النبات والحشائش وورق الشجر الاضمحلال والبلى؛ وإنما قال الفيلسوف ما الغالب فى كل زمان لأنه علم أن الشىء محتاج أن يدبر مراراً كثيرة، وعلم أن أكثر ما يلحق العمل فى إبطال التدبير وهو الحل فى أربعين يوماً، إذ هو الشىء الرطب الذى هو علة الإبطاء (افهم: علة إبطاء العمل) — والربع نيف وتسعون يوماً — فإذا كان إبطاء التدبير يلحق فى أقل من نصف أيام الربع، فكيف يتهيأ للعامل ألا يخرج فى عمل كل ربع إلى غيره، لاسيما وأبعد أيام التصعيد فى الأعمال الجوانية النهاية فى اللطافة أقل من الأسبوع. فالفيلسوف لا يحظر أن يخرج العامل فى الربع الواحد من تدبير إلى غيره؛ إلا أنه يأمر أن يكون الغالب فى الكل — كل زمان من العمل — شكل الزمان، لا يغفل سائر العمل؛ وقوله الذى يأتى بعد محقق لما أقول.

قال أفلاطون: وإذا ارتفع لك جزء العمل فى أوانه — وهو الأوان المأخوذ من حركة النير الأعظم — فجد فى غيره واستعن فيه بحركة النير الأصغر فإنه سريع ليرتفع لك العمل

فى الزمان القريب — إلى أن قال: لئلا يفوتك مطلوبك ويقطعك عنه العارض لجنسك.

قال أحمد: يقول: إذا ارتفع لك فى ربع من الأرباع عمله فجد فى عمل الربع الآخر، وليكن العمل والقمر فى البروج الموافقة كأنك إذا فرغت من الحل فى الربع الشتوى بدأت فى غيره والقمر فى أول الحمل وأتممت ربع الشهر، وهو ما بين نزول القمر برأس الحمل إلى أن ينزل برأس السرطان إلى آخر الميزان؛ وكذلك فى سائر الأرباع فليكن عملك فيه؛ كذلك أقم القمر مقام الشمس ليسرع لك العمل فتأمن ما قد حذرك الفيلسوف من أن يقطعك عن مطلوبك الموت العارض لجميع الخلق؛ وعملك يصعب فى أوله؛ فأما إذا جرى عليه التدبير بعد التدبير سهل، فتفقد؛ ولا تفعل مع هذا فى الابتداء إلا بالاختيار وإصلاح مواضع الكواكب؛ والعاقبة كما قد أمرتك لأنك محتاج إليه والعمل متعلق بعضه ببعض؛ وإذا أغفلت الجزء بطل عليك الآخر.

فهذا آخر ما أخرجته فى هذا الرابوع من كلام الفيلسوف، وقد يعلم إله الحق أنى قد بذلت الوسع فى كشفه حتى يحدث أن أخالف وأحيد عن مذهب الفيلسوف، إذ كان كلامه الجزل الغلق كما قد اخترت، وتركت أكثر كلامه فيه، إذ كنت مستغنياً عنه بما تقدم من كلامى فيه وفى الرابوع الأول والثانى، وما أعزم على إخراجه فى الرابوع الرابع، إن شاء الله.

تم الرابوع الثالث من أرابيع أفلاطون والحمد لله وحده

بسم الله الرحمن الرحيم

الرابوع الرابع ترجمه اسطوميناس وهو الكتاب الأول من الرابوع الرابع من أرابيع أفلاطون

قال ثابت: لما فرغ أبو العباس أحمد الحسين من تفسير الرابوع الثالث من أرابيع أفلاطون — قلت له: أيها الفيلسوف المخصوص بكل فضيلة! إنك قد تكلفت من نقل هذه الكتب المنسوبة إلى الشيخ أفلاطون فى هذا النوع من العلم، وتجشمت لى من اشتغالك بها ما بهرنى وأيأسنى عن أداء بعض الحق فيه، ولو عريت من الكون والفساد وبقيت دهر الدهور فى خدمتك وما يلزمنى لك. على أن ذلك الجزء مما قد أسديته إلى بدءاً، وقليل فيما أرجوه مستأنفاً. فالباغى أداء حقك باغ مجازاتك وثناءك. ومحال ذلك إذ كنت قد خصصت بما قد يحسن هذا للأنام من الابتداء إلى الانتهاء. ولقد تيقنت الفضل على من قد تقدمنى من أئمة العلم بك وبما قد أتيته، فلا عتب لى على الفلك وحركاته إذ كنت خلواً من الأمل والتمنى إلا فى دوام ما قد شملنى وتكامل لدى. فأنا أرغب إلى إله الخلق أن يطيل لك البقاء، ويكمل لديك النعماء — فإنك قد أسديت — بإخراجك غوامض هذه الكتب — إلى وإلى من بعدك من منتحلى هذا العلم اليد التى أتت باستتمامها لديهم ولى بإخراجك غوامض هذه الكتب. فقد أخرجتهم بما كشفت من شبه الضلالة وخلصتهم من خدع الطبيعة. فالحكمة توجب عليك أن لا تدع ما منحتهم به ابتداءً دون إتمامه، وشفقتك تمنعك من أن تدعنى والطالبين بعدك متأسفين حيارى فيما قد سبق الوعد منك فيه.

قال أحمد: قد استعفيتك مراراً من المدح الذى لا استحقه، ولا يجوز كون من ينسب إليه مثله. وإنى مبتدئ فى تفسير ما سألت من الكتاب ليتم المعنى وأبلغ الغرض المقصود، ولأخلى ما بذلت فيه من النقص وإن كنت لا أخلو من العجز. وأبدأ بقضايا الشيخ فيثاغورس، فذلك مما يوضح الكثير مما يحتاج إليه:

قال فيثاغورس: النهاية كالبدء.

قال أحمد: من آراء الأوائل أن الشىء إذا بلغ نهاية التفاوت فى التركيب والتراكم 〈فـ〉ـإن الحال الذى يحدث عليه بعد لا يمكن أن تكون إلا بما يرده إلى التفرق والتساوى. فليعتقد منتحلو هذا العلم صحة هذا القول، فليس يجوز إدراكه ذلك إلا بعد أن يصح عنده ما تقدم.

وقضية أخرى وهى قوله: لا يضبط الشىء إلا بما هو أجسى منه.

قال أحمد: ما أنفع هذا القول لطلاب هذا العلم والعمل، وأغناه لديهم! لأنهم محتاجون إلى ضبط ما يدبرونه. فإذا لم يكن له محيط به أجسى منه فارق وفات.

وله قضية أخرى قوله: وقد يستغنى عما يضبط إذا بلغ مبلغاً لا يكون فى المشاهد ألطف منه.

قال أحمد: أنه إذا بلغ العمل نهاية التلطيف فإنه يبلغ مبلغاً يكون الركنان اللطيفان، أعنى بهما النار والهواء، كالإناء له لا يداخلهما ولا يداخلانه. فإذا كان كذلك فإنه الواجب أن لا يسرعا إليه الفساد.

ولا يخلو كلام الشيخ أفلاطون فى كتابه من أن يأتى على المعانى التى قصد لها فيثاغورس؛ فإخراجى قول فيثاغورس فى صدر كتاب الشيخ أفلاطون ليس لأن الشيخ أغفل بعض

ما وجب، أو عجز عن إخبار المحتاج، بل للتأكيد، ولتتبين موافقتهما فى الرأى. وهذا ما بدأ به أفلاطون فى هذا النوع:

قال أفلاطون: كما لم يخل الموضع من التفاوت والنقص، كذلك لا أضمن أن يخلو من ذلك.

قال أحمد: يعنى بالموضع العالم؛ ويقول: إنى لا أضمن أن يجرى العمل فى مدته على السداد والصواب، إذ هو فى الموضع الكبير العوارض والتفاوت.

قال أفلاطون: ولكن آمرك بالصبر على ما نويت والتحرز — إلى أن قال: فأشد ما أخاف عليك تركيبك.

قال أحمد: يقول إن خوفه على ما يعرض للعامل فى نفسه وجسده أشد من خوفه على العمل.

قال أفلاطون: فليكن حزمك وسياسة مركبك أبلغ من حزمك — فيما يدبر — إلى أن قال: فلها تطلب. فأما إذا فارقت فقد نلت الغنى الذى لا يكون معه فقر.

قال أحمد: ما أبين صواب هذا القول وأظهر منفعته للعامل من العلماء! فإنما يعنى بالمركب الجسد، وسماه مركباً للنفس، وإن كانت النفس غير محمولة لارتباطها — أعنى النفس — بالجسد. فنقول: إن حاجتك إلى ما تطلب تكون وأنت مرتبط بالجسد. فأما إذا فارقته وحللت فى تلك العوالم العالية المجردة من الطبيعة، فقد نلت الغنى وعريت من الحاجة.

قال أفلاطون: فتحرز أن يداخلك شىء منه. وما لم نقو به، فقابله بضده.

قال أحمد: قد يجب على العاملين أن يتحرزوا من أن تداخل أجسادهم من بخارات العمل ورائحته بسد الخياشيم والمنافذ التى فى الجسد. فما داخله بعد، مما لا يضبط فطر ما طبعه، فيسكن بما يضاده كتدبير الأطباء.

قال أفلاطون: وخاصة الإلهى فاحفظه فإنه يسرع إليه.

قال أحمد: العضو الإلهى الدماغ، إذ هو مسكن للجزء الإلهى التى هى النفس، وإن ما دخل الخياشيم من البخارات واصل إلى العضلات المحيطة بالدماغ حتى يكاد أن يفسد الحاد منه التركيب. وفى فساد تركيب هذا العضو بطلان الجسد. فلهذا خص الفيلسوف هذا العضو بالحفظ دون سائر الأعضاء.

قال أفلاطون: وإذا وصل إلى العضلات فكان يابساً فإنه يسرع إلى الناظر الماء.

قال أحمد: من فعل الطبيعة أن يسرع الضد إلى الضد. وإذا غلب على الأعضاء. والأعصاب المتصلة بالناظر اليبس، فإنه يسرع إليها الجزء الرطب المائى لمقابلة ما يضاد، فيوشك ألا يسلم بصر العامل عند ذلك من الماء الذى يمنع النور من النفاذ.

قال أفلاطون: وربما بلغ على الاتفاق حلاً فحل. قال أحد: قد قلت بدءاً إن الشىء، وإن اجتهد العامل فيه واستفرغ وسعه، فإنه لا يبلغ به حتى يقيمه كالبسيط، إلا أنه ربما بلغ ذلك على الاتفاق. وهو حينئذ لا يضبط بحيلة. وربما مر عند مفارقته فاتصل بنفس العامل فجذبه معه. فيريد أفلاطون بالحل حل النفس من الجسد، إذ كان من آرائه أنها مربوطة.

قال أفلاطون: وإنى كنت أومأت فيما قدمت بأنه لا يوقف على الكون دون الإخبار. والتصريح بالبدء وعلله.

قال أحمد: إن أفلاطون يضمن بهذا القول كشف السر العظيم من أسرار الفلاسفة فلتنصت لما يخبر، ففى ذلك علم الابتداء والانقضاء.

قال أفلاطون: وأخبرك إلى حيث بلغت، ثم تقيس بالرأى الذى أفدت.

قال أحمد: إن أفلاطون يرى أنه قد أحاط بالطبيعى والنفسانى بالعقل، وأنه لم يتجاوز

ذلك، أعنى بالعقل. وذلك بين فى كتابه المترجم بـ«ـديالغون» فإنه يقول فيه: «إنى جلت السموات الثلاث: سماء الطبيعة، وسماء النفس، وسماء العقل — فلما رمت الخروج إلى ما هو أرفع منعنى التركيب الطبيعى، وأنبأنى العقل أن ليس مسلك»: فيقول: إنى أخبر بما أحطت به وأقيس ما لم أحط به بما أفادنيه الجولان والإحاطة بالسموات الثلاث.

قال أفلاطون: ولو كان مما يسلك لسلكت.

قال أحمد: إن أفلاطون يرى أنه إنما أمكنه الإحاطة بهذه السموات الثلاث لأنه قد حوى من كل واحد منها الجزء؛ فيخبر أنه لو كان فيه ما وراء العقل لسلك إليه واخله.

قال أفلاطون: فمن النقص أتيت لا من التوانى.

قال أحمد: يقول: إن ما أتيت من عجزى عن تجاوز العقل بما قد نحسه، لا من توان وتقصير.

قال أفلاطون: ولكن من القضايا المعقولة التى تكون عن مقدمات برهانية أن السبب الأول للكون الثانى إله لا يرى ولا يتحرك ولا يلحقه نعت من نعوت الكون. ومن أراد أن يعلم ذلك فسيثبت له إذا بسط الرأى المراتب العدلية البرهانية.

قال أحمد: إن هذا القول من الفيلسوف والرأى منه قد تحير فيه الأنام وأعتقد كل جيل — عن تقليد دهرى وإيهام من الطبيعة — رأياً خالف فيه الآخر، وكون ذلك واجب أعنى الاختلاف، لأن أنفس الأشياء فينا العقل، وهو دونه لا يدركه. والشيخ أفلاطون لما عجز عن إدراك حقيقته استدل بالأثر على المؤثر بما أمكنه الاستدلال، لا بغير ذلك. فكان من حيله أيضاً فى إدراك ذلك جمع ما اعتقده الأوائل من الأمم الماضية قبله وتبحر كل ذلك وتبيين فساد الفاسد وطلب العلة التى أوهمت ذلك ودعت إليه. ولم تزل تلك حاله حتى أداه التفتيش إلى صحة ما اعتقده الفلاسفة قبله: منهم سقراط واسقولييوس

وفرامنيدس. ومن رأى هؤلاء المخصوصين بكل فضيلة أن العلة التى من أجلها المشاهد. إله لا يرى ولا يدركه شىء من الصفات، وذلك بين واجب أنه كذلك، إذ لا يمكن أن يلحقه ما يلحق ما خالفه فى الأولية. ولقد نفى عنه الحكيم جميع الصفات التى يصفه بها العوام، حتى لقد حظر أن يقال «قديم» إذ القدم فى الزمان وبالزمان؛ ونهى أيضاً أن يقال «عليم» إذ هذه الصفة تلحق الطبيعيين ومن يجوز عليه الجهل. — وكان مراده أيضاً فى نفى هذه الصفات أن لا يتوهم كون شىء معه بتةً. وهذا القول يشهد بصحة نسبته إليه.

قال أفلاطون: وإنما أثبته على الاضطرار من حيث كنت لأنى معترف بالعجز.

قال أحمد: يقول إنما أثبته كما أمكن عندى وكما يجوز أن أعلمه. فأما المعرفة من حيث هو فمحال ذلك فى النفسانى العقلى؛ فدع المركب الطبيعى.

قال أفلاطون: ومعرفة الكون فمعتاص، من أجل ذلك لا يرجى الاتفاق فيه.

قال أحمد: يعنى بالكون العقل وما دونه. وللفلاسفة فيه اختلاف كبير يوازى اختلاف العامة فيه. وسأخبر بالاختلاف الذى يقارب الصواب، ولا يخلو الحق من أن يكون فى أحده:

أما الاسطخسيون فيقولون إن الخلق من العقل منقوض فنسبوا العقل إليه، وسموا العقل الفاعل للنفس معقوله، لا على الانفصال. وأما فيثاغورس وشيعته فيقولون إنه أراد فكان العقل. ونسبوا الإرادة إلى صفات الفعل ونفوها عن صفات الذات. — وأما أفلاطون ومن تقدمه من أئمته فيرون أن الإرادة محيطة بالفعل، وأن الفعل المراد. هذا

رأى أفلاطون ومن يأتم به، ما خلا اسقلبيوس فإنه يقدم على الإرادة، التى من أجلها الفعل، مقدمات ويرتب ذلك ترتيباً يكون بين العقل وبين السبب الأول ما بين العقل وقعر الطبيعة. وإنما أخرج فى هذا الكتاب الحكاية عن القوم وأضرب عن البراهين والحجج التى احتج بها كل فريق منهم صفحاً، إذ ليس ذلك من جنس الكتاب. وإنما غرض الفيلسوف فى إخراج ما يولف به على حقيقة الكون والتركيب، لا غير ذلك. فمن أراد أن يعرف ذلك بالبراهين والحجج والمقاييس فلينظر فى كتاب الفيلسوف المنسوب إلى البيان والبرهان، وفى كتابى المترجم بـ«ـالإيضاح»؛ فقد أخرجت فى هذين الكتابين هذا السر العظيم من العلم الكبير المشتمل على العلوم بأصح ما تهيأ وأوضح ما أمكن؛ ودققت الكلام وأخرجته مخرجاً لا تلحقه الآراء اللطيفة إلا بمشقة وصبر على التبحر.

قال أفلاطون: وإنى وإن عجزت عما أخبرت فمن الحق أن أقول إنى أحطت بما دون ذلك حتى لم يغرب عنى ما أردت.

قال أحمد: كما اعترف بالعجز عن إدراك ما فوق العقل، فكذلك ادعى — ودعواه الحق — أنه لم يفته ما أراد من علم ما دون ذلك.

قال أفلاطون: وتساوى عندى القريب والبعيد لما فى البعيد من السنن المستوى.

قال أحمد: يقول: تساوى عندى إدراك القريب التى هى الطبيعة، والبعيد الذى هو العقل والنفس؛ إذ العقل والنفس يجريان على سداد وتساو، فيكون الرأى أضبط له، والطبيعة وإن تفاوتت فقد جاورها وقرب منها.

قال أفلاطون: ومن أجل العقل والنفس.

قال أحمد: المسائل والمناطحات التى تقع فى كون العقل لا تقع فى كون النفس، إذ العقل من أجل ما قدمنا. وللمناضلين أن يسألوا عن العلة التى أوجبت من العلة الأولى؛

وهذا الكون أعنى به العقل، إذ الأول كما أخبرت لا يليق به شىء من الصفات المعقولة. فأما العقل فلاستحقاقه اسم التكوين جاز أن ينسب إليه الفعل الإرادة المعقولة، إذ الإرادة من العلة الأولى غير معقولة، إذ هى — أعنى هذه الإرادة — فوق العقل، والعقل واجب فيه الإدراك، والإدراك يكون بالحركة المعقولة، لا الحركة التى تكون فى الأجسام المحسوسة. وإذ قد بينت الحركة المعقولة وجاز فى العقل الانفصال لما استحق من اسم التكوين، وكانت الحركة من الصفات، والصفة لا تكون إلا لجوهر، جاز ثبات ما قدمنا كون الجوهر المتحرك وهو النفس البسيط — هذا رأى اسقلبيوس. فأما أفلاطون فيقول إن العقل لاستحقاقه اسم التكوين استحق اسم الحاجة وجاز عليه فاحتاج إلى مركب وحامل، فجعل النفس ليكون حاملاً له. وإنما أخبر من كل قول بالبعض منه وأومأ إلى الرأى فيه؛ فأما إخراجه على جهته فيغمض ويختلط على الناظر فيه.

قال أفلاطون: فالعقل ما به أدركنا، والنفس ما به قدرنا.

قال أحمد: الإدراك والقدرة من صفات العقل والنفس. فالعقل يحوى الصفتين، أعنى الإدراك والقدرة، ولا يجوز عليه أضداد هذه الصفات. والنفس خلو من الإدراك، جائز عليه العجز.

قال أفلاطون: والعقل لا يداخل، والنفس بخلاف ذلك.

قال أحمد: إن الجزء الحساس فينا هى النفس؛ وظاهر أنه كثيراً ما تألم وتعترضها العوارض؛ وذلك لا يكون إلا بمداخلة؛ و〈أما〉 العقل فإنه لا يشاركه فى ذاته ضد. وقد اعترض الفوثوغوريون على الفيلسوف فى ذلك وقالوا إن الجهل والحمق فى العقل كالألم فى النفس — فكان من جواب الفيلسوف لهم فى ذلك أن الجهل والحمق نفى العقل، وليس الألم نفى النفس، ولا يداخل الإدراك العقلى العمى الجهلى، كما يداخل النفس الألم المؤذى. ولا يجوز على النفس النفى كما يجوز على العقل، لأن نفى النفس الموت وبطلان البنية،

وليس فى نفى العقل ذلك. وصحة هذا القول قد اشترك فيه العامة لظهوره ووضوحه فضلاً عن الفلاسفة، فقد يقولون للرجل: لا عقل له، ولا يقولون: لا روح له.

قال أفلاطون: واتخذ النفس لتدبره، ولا لحاجة.

قال أحمد: لما أخبر فيما تقدم من قوله إن العقل خلق النفس لتصيره مركباً، ومن رأيه أن العقل مدبر غير محتاج، أراد أن يظهر رأيه فى ذلك ويعلمنا أن العقل لا يحتاج إلى حامل كما تحتاج الطبيعة والأشياء المحسوسة. ولكن أخرج اسم المركب هناك على الاستعارة ونسق الكلام.

قال أفلاطون: وكيف يكون ذلك، والنفس التى هى من أجل العقل غير محسوسة بل معقولة؟!

قال أحمد: قد تعلم أن ما يحتاج إلى الحامل الجوهر المحسوس المركب. فالنفس التى هى فعل العقل غير محسوسة، وهى حاملة لما تحتها، أعنى به الطبيعة. فكيف ترى يكون العقل؟!

قال أفلاطون: والنفس ترى ولا ترى، وهى دائمة الحركة، ومن أجلها الطبيعة.

قال أحمد: قد اختلف العلماء أيضاً فى هذه الدرجة، فقال فريق منهم إن الطبيعة هى النفس المتراكمة فى التركيب. وقال فريق — وهم الجمهور وفيهم أفلاطون — إن النفس اقتدت بالعقل فى الفعل. وأرادت أن تحدث أيضاً فأحدثت الجوهر البسيط، وهو ينقص فى الفضيلة عن النفس كنقصان النفس عن العقل.

قال أفلاطون: فالبسيط للطفه حساس.

قال أحمد: إن هذا الجوهر لما خلا من التركيب والتفاوت وكان مناسباً للنفس مشاكلاً له — وجب أن لا يخلو من الحس.

قال أفلاطون: وأول التركيب فريون.

قال أحمد: هذا الجوهر لما كثر فيه الحركة والانتقال تكاثف فصار منه الجوهر الذى يسميه الفلاسفة فريون؛ وهو أيضاً حساس لطيف.

قال أفلاطون: ومن فريون الأثير؟

قال أحمد: الأثير جوهر الضياء الخلو من الشوائب. وقد بلغ التركيب بهذا الجوهر فى هذه الدرجة أن جعله محسوساً، لأن الضياء لون، واللون محسوس.

قال أفلاطون: ويتكون من الأثير الجوهر القابل للتفريق والاجتماع.

قال أحمد: إن الأثير للطفه وواحدية ذاته لم يمكن منه التداخل. فلما ازداد تركيباً. حدث فيه الجزء القابل للاجتماع. إن أوائل الأشياء الجزء القابل للاجتماع والافتراق، وسموه الهيولى؛ وزعموا أن جوهر الضياء متولد منه على التركيب. فلولا ظهور بطلان هذا القول لكنت أجعل بعض نهارى للكلام فى نقضه لكنى قد كفيت ذلك بما أخبرت. وكيف يجوز على رأى من الآراء أن التركيب يزيد الشىء صفاءً، وأن الظلام العتم يتولد منه النور المضىء؟!

قال أفلاطون: وليس بكليتها فى الدرجات تستحيل، بل البعض ويبقى الباقى كهيئته.

قال أحمد: يقول أن ليس كل جوهر بكليته يقبل التركيب ويستحيل، بل يحدث ذلك على البعض دون البعض. كأنه يقول: إن فريون لم يستحل بكليته أثيراً، ولا الأثير استحال بكليته الجوهر القابل للاجتماع والافتراق، بل استحال من كل واحد منها البعض دون البعض، وبقى ما لم يستحل كهيئته.

قال أفلاطون: ومن الجوهر القابل تتولد فيه أجزاء هى أقل قليل الشىء المحسوس، ولا تكاد تنقسم بالفعل لصغرها، وتنقسم بالقوة والعقل. ولى فيه كلام كثير فى كتبى على أصحاب الطبائع.

〈قال أحمد〉: فيرى أفلاطون الثلاثة الأجزاء إذا اجتمعت حدث منها السطح، وإذا علا هذه الثلاثة الأجزاء ثلاثة أخرى حدث فيها الجرم العريض الطويل

العميق. ويخالف ذلك أرسطوطاليس، وزعم أن السطح لا يكون إلا من أربعة أجزاء، والجرم لا يكون إلا من ثمانية أجزاء. وذلك ما أنبأتك به من التركيب حتى بلغ هذا الجوهر القابل للاجتماع والافتراق، وحدث بعد ذلك فيه هذه الأجزاء. إن الأجزاء التى يعتقد الطبيعيون أنها لا تنقسم ولا يلحقها التجزىء بخلاف ما يعتقدون، إذ التركيب بعد التركيب بلغ به هذا المبلغ، لكن استحال أن يتصور فى أوهام هؤلاء تجزئتها معقولاً، ولا محسوساً.

قال أفلاطون: فمن المثلثات المدورات التى كان منها الأجرام السماوية.

قال أحمد: إن الأجرام السماوية لما كانت متشابهة نسبوها إلى الجرم المدور، وإن أفلاطون لما رأى أن تلك النقط والأجزاء لا تكاد تحس على الانفراد، وكان الجرم المحسوس يكون من أجزاء ستة، إذ السطح من ثلاثة، ولا يكاد أن يكون المدور من هذا العدد — نسب أوائل الأجرام إلى المثلثات، ونسب الأجرام السماوية إلى الدوائر المركبة من المركبات. فمن اعتقد من تلامذة أفلاطون أن القوس الصغير من الدائرة الكبيرة خط مستو، فإنه يذهب إلى أن ضلع الدائرة مركب من ضلع مثلث؛ ومن ذهب إلى أن القوس من الدائرة لا يخلو من التقويس، وإن كان فى نهاية الصغر والدائرة فى نهاية العظم، فإنه يعتقد أن ضلع الدائرة مركب من زوايا المثلث ونضع لذلك شكلاً ليكون أقرب إلى فهم الطالب. فنضع مثلث أ المركبة من الثلاثة الأجزاء فضلعها ب وزاويتها جـ، فقد حدث فى ب الخط المستوى المحسوس وعدم ذلك فى جـ وذكر من اعتقد تركيب ضلع الدائرة من الزوايا لا يتلاصق فى تركيب الدائرة إلا مقوساً. وقد قال أرسطالينوس الرجل الذى نقل فى العالم كون مثله القول الصواب الذى لا شك فيه، وهو أن الدائرة العظيمة كيف كان تركيبها من الضلع ومن الزاوية فقسيها الصغار خطوط مستوية بالحس مقوسة بالعقل والقوة لأن الزاوية وإن كانت نقطة لا تنقسم بالحس فهى تنقسم بالقوة والعقل.

قال أفلاطون: وتشكل أشكالاً متشابهة جملة متساوية إذ التركيب لم تبلغ به حد التفاوت.

قال أحمد: إن الأجرام السماوية لقربها من البسيط ومشاكلتها له خلوة من العاهات التى فى الطبائع السفلية فلا يسرع إليها الاضمحلال والفساد كما يسرع إلى السفلى.

قال أفلاطون: وأول المحسوسات ما نحسه بالعضو الأشرف إلى أن نبلغ به أن نحس بالعضو الأرذل.

قال أحمد: العضو الأشرف عضو العين. وقد سبق من قولى فى هذا الكتاب أن أول ما بلغ بالتركيب البسيط أن جعله محسوساً أقامته نوراً مضيئاً وهو ما نحسه بالعين. فلما تمادى التركيب بلغ ما نحس باللمس وغير ذلك من الحواس.

قال أفلاطون: وبالتركيب والحركات السريعة تولد اليبس.

قال أحمد: إن من رأى أفلاطون أن اليبس بدء الطبائع وصفوها كما أن الرطوبة قعر الطبيعة.

قال أفلاطون: وبالتركيب والحركات البطيئة تولد الرطوبة.

قال أحمد: إن هذا القول قد خرج تفسيره فيما تقدم من القول.

قال أفلاطون: ومن التركيب واليبس تولد الحرارة — إلى أن قال: ومن بالتركيب والرطوبة تولد البرد.

قال أحمد: إن الحر أخو اليبس، والبرد أخو الرطوبة، فيقول الفيلسوف إن التركيب الواقع واليبس تولد الحرارة، وبالرطوبة والتركيب تولد البرد. ولو قد أخرجت ما تكلم به الفيلسوف مما يثبت كون الطبيعة وتولدها وفى توليد الجواهر على الدرجات ومناظرته للمجادلين له — لطال الكلام واشتغل عن المقصود فى هذا الكتاب. ومن عادتى أن لا استقصى فى كل كتاب إلا غرض الكتاب وأتجاوز سائره، وعلى أن غرض الفيلسوف

فى الإخبار عن ذلك، أعنى به تولد أولية الأشياء والإخبار عما تركب كيف تركب، ليكون المثال للعامل فيما يدبر من تركيب أو حل وغير ذلك.

قال أفلاطون: فتركبت الحرارة واليبس، واقتبسا من الضيائية اللون لقربها.

قال أحمد: إن الحرارة واليبس لما امتزجا تولد النار المحرق؛ ولطلب الحرارة العلو وسرعة اليبس اقتبسا من جوهر الضياء ما ظهر فى لون النار واستعلى — أعنى النار — على الطبائع المركبة.

قال أفلاطون: وتولد سائر الأركان أيضاً بالممازجة، فصار العلوى المخصوص بالحر، والسفلى المخصوص بالبرد.

قال أحمد: يعنى بالأركان النار والهواء والماء والأرض: فالنار والهواء المخصوصان بالحر محلهما العلو، والماء والأرض المخصوصان بالبرد محلهما السفل.

قال أفلاطون: وبلغ تراكم التركيب أخلاط الأركان.

قال أحمد: إن الأركان، وإن كانت متضادة، فإنها تتمازج بتمازج لها. فالحر والبرد متضادان يجمعهما اليبس والرطوبة؛ واليبس والرطوبة متضادان يجمعهما الحر والبرد. فيقول الفيلسوف: إن هذا الاجتماع تراكم التركيب.

قال أفلاطون: فاجتماع المتضادين 〈يؤدى إلى〉 الاضمحلال والفساد.

〈قال أحمد〉: الأشياء السفلية إذ كانت مركبة متضادة فالجزء منها يضاد الآخر وينافره، والأجرام السماوية وإن كانت مركبة فهى واحدية الذات لم يبلغ بها التركيب حد ما يتضاد، فلذلك طال ثباتها؛ وإن كانت لتركيبها وقبولها الأثر قابلة للتغيير والزوال.

قال أفلاطون: وكلما ازداد تركيباً ازداد تفاوتاً وعكراً وكان الفساد أسرع إليه إذ هو المشاكل له.

قال أحمد: إن الفاسد فى ذاته يسرع إليه الفساد ويشاكله، والشكل طالب للشكل.

قال أحمد: مراده فى هذا القول ما قد أخبرت به فى قضايا فيثاغورس فلنتجاوز ما يأتى من كلامه.

قال أفلاطون: والأجرام السماوية للتركيب شاكلت المضمحلة.

قال أحمد: يعنى بالمضمحلة الأجرام السفلية. والأجرام السماوية قد ينسب إليها فى المشاكلة ويقع منها — أعنى السماوية، الأثر المشاكل للطبائع. فيخبر الفيلسوف أن هذا الأثر والشكل من أجل التركيب.

قال أفلاطون: وكل ما كان منها أوفق للطبيعة فهو أبعد من البسيط.

قال أحمد: كل جرم من الأجرام السماوية كان كثير الأثر فى الطبيعة وعاون الطبيعة على فعلها فبالواجب أن ذلك لبعده من البسيط وقربه من الطبيعة.

قال أفلاطون: وكما تفاضلت الأجرام السفلية ونقص تفاوت بعضها — كذلك كانت الأجرام العلوية.

قال أحمد: إن الأجرام العلوية ازداد بعضها على بعض فى التركيب، إلا أنها لم تتضاد. فما ازداد تركيبها صار المشاكل لها فى الأجرام السفلية ما هى فى قعر الطبيعة؛ وما قرب من التساوى صار المشاكل لها من الأجرام السفلية لطائف الطبيعة.

قال أفلاطون: ومن أجل التركيب تفاوتت مراكز العلوية.

قال أحمد: يقول: من أجل التركيب حدث الاختلاف فى مراكز الكواكب، فصار بعضها فوق بعض.

قال أفلاطون: فلما تزاوجت الطبائع تمكن منها كل مركب فيما وافقه.

قال أحمد: يعنى بالطبائع المفردة وهو الحر المفرد والبرد المفرد واليبس المفرد والرطوبة المفردة. فتولد من الحر واليبس النار، ومن الحر والرطوبة الهواء، ومن البرد والرطوبة الماء، ومن اليبس والبرودة الأرض فيثبت كل منها فى الأماكن الموافقة لها.

قال أفلاطون: وطلب كل واحد منها الآخر بالتنافر.

قال أحمد: من رأى الأوائل أنه لما حدث الكون الركنى طلبت منافرة العلوية وطلبت العلوية منافرتها، حتى كان من الأمر ما يخبرك به الشيخ أفلاطون.

قال أفلاطون: ولو خلى بين الطبائع لتولد من الأمر ما لا يتلافى.

قال أحمد: يقول: لو تركت الطبائع لتولد من الأمر ما لا يتلافى تراكم الفساد فيها، حتى كان يبلغ من ذلك ما لا يتصور فى أوهامنا.

قال أفلاطون: ولكن الأنفس سلكت حتى بلغت أجرام السماوات ثم ما دون ذلك ليمنع من الإفراط ويرد إلى الاتفاق.

قال أحمد: يعتقد أفلاطون ومن تقدمه من الأوائل أن النفس لما جذبت الجوهر البسيط اقتداءً منها بالعقل، أرادت الإمكان فى غيره، فوقع عليها المنع من العقل، فلم يكن منها بعد ذلك جذب؛ وإن الطبيعة لما تفاوتت وبلغ بها الأمر إلى ما يشاهد لم تزدد على طول الثبات — إذ ليس هناك زمان، إذ الزمان ما بين الحركات المعلومة — إلا تفاوتاً وتراكماً، فسلكت إليهما الأنفس فمنعت التراكم فى الفساد.

قال أفلاطون: وسلكت إلى الأجرام السماوية فمنعت أن تحل محل السفلية ومنعت السفلية عن الزيادة — إلى أن قال: فاستعان منها عليها.

قال أحمد: يعنى بالزيادة الزيادة فى الشر. وقوله: «استعان منها عليها» يريد أن النفس منع بالطبع الطبع عن طباعه.

قال أفلاطون: ووافى وقد اختلطت اختلاط مداخلة لا مجاورة.

قال أحمد: يعنى بالموافى النفس. والاختلاط عند الفلاسفة نوعان: اختلاط مجاورة، واختلاط مداخله. فالاختلاط المجاور كاختلاط الخردل والسمسم، واختلاط المداخل كاختلاط الخمر والماء، لأنه إذا اختلطا صار كل الماء فى كل الخمر، وكل الخمر فى كل الماء بالتداخل، لأن الأجزاء فى هذين — أعنى بهما: الماء والخمر — سيالة لا تمنع من التداخل، والسمسم والخردل وما أشبههما لا يقبلان التداخل لانضمام الأجزاء والتعقد. فيقول الفيلسوف: إنه وافى النفس فوجد 〈أنه〉 قد اختلطت الأركان بالمداخلة اختلاطاً صار فى الجسم الواحد الأركان الأربعة.

قال أفلاطون: ولما وقعت فى هذا التهور العظيم لم يكن ينفذ منها الأثر كما ينفذ فى عالمها — إلى أن وقعت فى الجرم السيال فبطل الأثر بكليته.

قال أحمد: يعنى بالتهور العظيم الطبيعة؛ ويقول إنه لما وقعت الأنفس فى الطبيعة لم يكمل الأثر كما كانت مكملة فى عوالمها لاختلاطها بالمطبوع المركب. فلما خالطت الجرم السيال، يعنى الرطوبة ، بطل منها الأثر بكليته.

قال أفلاطون: ومنع بطلان الأثر حدث عليها فى ذاتها ما لم تحس معه.

قال أحمد: إنه من البين عند العلماء بفعل الطبيعة أنه ليس ركن من الأركان أمنع للنفس من فعلها — من الرطوبة. بيان ذلك فى التوليد: فإنه لاستيلاء الرطوبة عليه بطل أثر النفس فيه، والرطوبة هى المانعة، إذا غلبت على الهواء المحيط، لضياء الشمس من النفاذ؛ هذا مع قوة الشمس وغلبته حتى يرى فى شواطئ البحر وخاصة فى الأركيد، وهو الموضع البعيد الغور، قد عدم ضوء الشمس عدماً دائماً. وقد يجب علينا مع ما نشاهد تصديق الشيخ فى قوله.

قال أفلاطون: وكأن هذا الجرم مع ما يبطل من الأثر تعسر مفارقته.

قال أحمد: بالحق قالت الأطباء إن الحياة بالرطوبة، والموت باليبس، لأنه متى ما وجد فينا الجزء الرطب معتدلاً فإنه يستحيل من النفس مفارقة الجسد كما قد أخبر به. الفيلسوف. إلا أنى أقول إن فراق النفس الجسد بغلبة الرطوبة. بلى! قد يكون ذلك إذا غلب حتى يسد المسام ويغلب على الأضداد فتقبل النفس منها فى أوان مجاذبتها لأضدادها واشتغالها عن الضبط.

قال أفلاطون: فلما ارتبطت بالجسم السيال وعسر عليها المفارقة حدث التجبل.

قال أحمد: إن الأنفس لما مكثت مداخلةً الطبيعة بطلت مفارقتها وتشبثت الطبيعة بها — حدث عن ذلك بهذه المجاذبات الحيوان.

قال أفلاطون: وكان التجبل حينئذ؛ وإن كانت النفس المخالطة تجرى على غير سداد لتكامل فساد الطبيعة.

قال أحمد: يقول إن الحيوان الذى تجبل قبل لم يثبت إلا القليل، إذ كان فساد الطبيعة لا يكاد يقيمه، ولأن البنية لم تكن على سداد.

قال أفلاطون: وكان من هيئة التجبل أن تكون فى أجسام مستديرة مأخوذة شكلها من الشىء السريع الحركة المشتاق بعضه إلى بعض.

قال أحمد: إن فيما يزعم الأوائل أن التجبل كان فى البدء أجراماً مستديرة فكانت لا تكاد تثبت لعدمها المثبتة لها كالأعضاء المغذية والمنفسة. أعنى بالسريع الحركة الفلك، والمشتاق بعضه إلى بعض، فهو قول مجاز مشهور فى اليونانيين: تصوروا فى أوهامهم أن الفلك إنما سرعته فى الدوران لطلب الجزء منه ما يليه فالكل طالب لا يدرك، وذلك كثير فى كلام الشعراء. قال أوميرس الشاعر: «طلبتك طلب الأفق للأفق» — يعنى به أفق السماء.

قال أفلاطون: فدفع ما ارتبط من النفس إلى مضيق شديد وخص المخالط بالألم الدائم.

قال أحمد: يريد 〈بقوله:〉 «ما ارتبط من النفس» أن يعلمنا أنه ليس كل الأنفس ربطت، ولا كلها سلكت إلى الطبيعة. وقد تلت بدءاً إن الاستحالات والتغاير فى الدرجات حدث على كل نوع منها البعض دون الكل، وأن من الأنفس المرتبطة خالطها كما يذكر الفيلسوف حمياً الطبيعة فلقيت الألم الشديد والعذاب.

قال أفلاطون: فهنالك جاء العقل لاستنقاذ النفس فوجدها لا تكاد تستنقذ إلا فى الزمان الطويل بالتدبير الذى نصفه.

قال أحمد: يقول إنه كان من ارتباط النفس بالطبيعة واستمكان الطبيعة منها أن استحال استنقاذها إلا بالمعاناة والتدبير فى الزمن الطويل.

قال أفلاطون: فخص الجسم المستدير وأطاف به الشىء الحافظ له وفتح إليه الأبواب ليوسع عليه، ثم جعل له المعاطف وما يغذيه وما يغذى المربوط به لتشتغل به عن مجاذبته، فكان جسد الحيوان الأول جنس الأجناس وصورة الصور تتلوه.

قال أحمد: الجسم المستدير عضو الدماغ، والشىء الحافظ له القحف، والأبواب يريد بها الحواس الخمس التى هى البصر والسمع والشم والذوق واللمس. فكل ذلك يفرج عن النفس ويوسع عليه. ويعنى بالمعاطف الجسد؛ وما يغذيه فهو الكلام المقوى للنفس. وما يغذى الطبيعة فالمطعم والمشرب الذى تشتغل به الطبيعة عن مجاذبة النفس؛ والحيوان صورة الصور؛ وجنس الأجناس الإنسان.

قال أفلاطون: وأوصله بعد ذلك بالعالم العلوى ليكون هو المعين على تخلصه.

قال أحمد: إن العالم العلوى دائم التأثير فى الإنسان وواصل بسمته، أعنى الإنسان، عند موته إلى الفلك،. فلا يزال الوصول حتى يرجع ما خرج من العالم العلوى إلى موضعه

الجزء بعد الجزء؛ ولست أقول إن كل ما وصل إلى الفلك واصل إلى عالم العوالم، بل يصل الصفو دون الشوائب.

قال أفلاطون: وأحدثت الطبيعة فيها أعضاء التناسل — إلى أن قال: وإن كان به الفعل الخسيس الطبيعى فإنه يولد ما يحدث منه.

قال أحمد: يقول إن هذا العضو من أحداث الطبيعة؛ ويقول إنه وإن كان بهذا العضو الفعل الرذل الطبيعى فإنه يتولد به الحيوان الذى يحدث منه القوى إلى العلو، فيكون أحد الأسباب المؤدية إلى المراد.

قال أفلاطون: وسكن الموضع الأرفع وأبعد النفس حتى أقامه فى المعاطف فى عضو نفيس كالشعلة أقامها على تدبير مخلص بها — إلى أن قال: فالطبيعة أيضاً تحتال.

قال أحمد: الموضع الأرفع الدماغ مسكن العقل؛ وإنه لما صار الدماغ مسكن العقل صار القلب مسكن النفس، والقلب كما ذكر الفيلسوف على صورة الشعلة مستغلظة الأسفل مستدقة الأعلى، والدم يحويه أيضاً على هذه الصورة؛ فأقام العقل فى هذا العضو مدبراً للنفس معيناً لها على التخلص. وقوله: إن الطبيعة تحتال فالطبيعة محتاجة تطلب النفس وتتشبث بها وتحتال فيما تستمكن به منها. فكل أثر يكون من الإنسان يشاكل العقل فإنه معين للنفس على التخلص، وما شاكل الطبيعة فإنه يزيد فى الانغماس.

قال أفلاطون: وتستفعل النفس الطبيعة، فما ضعف انقاد.

قال أحمد: كما يدبر العقل التدبيرات فى خلاص النفس، كذلك تحتال الطبيعة فى التشبث بها. وإن كان غير مستحكم القوة أو كان قريب العهد بالخلاص من الطبيعة الحاسية فإن الطبيعة يستفعلها الفعل المشاكل لتقوى بها على الربط.

قال أفلاطون: ودبر المدبر الحيوان بأن جعله متصلاً بالعالم العلوى ليكون الحادث منه.

قال أحمد: إن الحيوان والنسم المربوطة قد اتصلت بالفلك، فلذلك تحركاته — أعنى

الفلك — تؤثر فى الحيوان وهو دائب التأثير ويجذب من الحيوان والناس الذى هو النبات وغير ذلك من الأجرام.

قال أفلاطون: فما كان من الجرم الأعلى موافقاً للجرم السيال فإنه يعين الطبيعة على فعلها، وما كان موافقاً لليابس فبخلاف ذلك.

قال أحمد: قد تقدم من قولى فى هذا الكتاب وفى غيره فى الجرم السيال ما فيه المقنع وأنبأت أنه قعر الطبيعة وأنه أشد الأجرام فى التشبث بالنفس وأن بغلبة اليبس أو تفاوت الرطوبة فارق النفس الجسد. فيقول الفيلسوف إنه ما كان من الأجرام العلوية قد غلب عليها اليبس فإنها لا تعين الطبيعة على فعلها؛ وما كان رطباً فإنه يعين جداً. وسأوضح ذلك للطالب ليقف عليه، ويصح عنده أن العلماء بأحكام النجوم قد اعتقد كل واحد منهم عن اختبار وامتحان أن بعض الكواكب المتحيرة سعد وبعضها نحس — من أن يعلم أكثرهم العلة فى ذلك. والسعد عندهم: المشترى والزهرة والقمر؛ والنحس: زحل والمريخ والشمس وبالحق ما اعتقدوا ذلك، إذ كان العالم دار الطبيعة وموضع التركيب؛ والسعد عند أهله ما أعانهم على فعلهم وقيض إليهم مرادهم؛ والنحس ما كان بخلاف ذلك، فخصوا الأجرام المخصوصة بالرطوبة إلى السعد، والأجرام اليابسة بالنحس، فوصلوا إلى معرفتها بالحقيقة بالتجربة والسماع وإن لم يقفوا على العلة. فهذا ما بان فى الكواكب المتحيرة وهى البينة التأثير. وسائر الفلك والأجرام فيه أيضاً كذلك. ألا ترى أنه كان من منتهى رأى الأوائل فى البابانية أنهم نسبوها إلى مزاج السبعة؟ فأما البروج فليس أن تخص كما تخص السبعة، لأنه قد يقع فى البرج الواحد الدرج والكواكب المختلفة الطباع. فلذلك اضطر أصحاب الأحكام إلى وضع الحدود والوجوه والدرج النيرة والمظلمة وغير ذلك مما يدل على الاختلاف مما قد أخرجته فى كتبى فى هذا النوع على غاية الشرح. وقد أخرج بعض أصحاب الأحكام الشمس فى قسمة السعود، وذلك لعلة أنا مخبر بها إن شاء الله: إن الشمس لما كثر فيه الجوهر البسيط النير لم يصل إلى الأنفس منها من الأدنى ما يصل من زحل والمريخ لموافقة هذا الجوهر، أعنى به البسيط، للأنفس. لكنه مع ذلك كثيراً ما يحرم وينحس. وأكثر

تأثيره فى فساد الطبيعة بالجذب وسائر النحوس بالاضمحلال والآثار المؤلمة. والشمس أيضاً فلا يخلو من ذلك، إلا أنه يقل منه الأثر المؤلم؛ وعلى أن أكثر العلماء قد حكموا بنحوسته. وقد تكون الرفعة والجلالة فى أنباء النحوس وليس ذلك كتأثير السعود، بل أن تكون القادرة على الطبيعة، فتكون منها الآثار التى لا توافق الطباع، وإنما جلالها لاستمكانها. وإنما يحيط بعلم ذلك من قد أحاط بعلل الكون وعرف مجارى الكلام واستعارات الألفاظ عند الاضطرار وما يخرج من القول بالحقيقة أو المجاز.

قال أفلاطون: وما يجذبه العلو يجذبه منه المستولى عليه بقدر ما أمكن، ويرجع الباقى إلى السفل.

قال أحمد: إن الفلك لما كان قريباً من الطبيعة قبل منها النقى وغير النقى. فما قبله من النقى الخلو من الشوائب فإنه يجذبه منه البسيط، وما كان كدراً أو مركباً رده الفلك إلى المركز ليجر فى علته التدبير هناك ثم يجذبه أيضاً إذا نقص من تركيبه وتصفى. كذلك يفعل دائباً حتى يعود الكل بالكون والدور كما كان بدءاً. وكما يجذب الفلك يجذب منه، ويجذب أيضاً من الجاذب حتى ينتهى الجذب إلى العقل.

قال أفلاطون: والإنسان أكرم الحيوان وأقربه إلى البسيط — إلى أن قال: وذلك من أجل 〈أن〉 العقل ضرب فسطاطه فى الجنس الحيوانى فى الإنسان فصار جنس الأجناس وصورة الصور.

قال أفلاطون: وسائر الحيوان فلا يصير إلى الأثير إلا بأجرام أخر.

قال أحمد: يعتقد أفلاطون أنه يصل الإنسان، الذى مذهبه العدل، إلى الجوهر النفيس العالى إذ قد شاكل الموضع بمذهبه وفعله، ويدفع أن يكون شىء من الحيوان ينفذ إلى ذلك دون حلولها فى أشياء تردها إلى التساوى.

قال أفلاطون: وذلك أن الإنسان مميز مشاكل، وسائر الحيوان بهيمى منافر.

قال أحمد: من رأى الأوائل أن فى الحيوان روحين بهيميين أحدهما منسوب إلى العصب والحياة، والثانى إلى الشهوة؛ وأن الخوف يحدث عند ضعف الروحانية الغضبية. فهذان الروحان لما خصا بعدا من العالم البسيط. فالإنسان قد حوى مع هذين الجنسين — أعنى بهما الروحين — الجنس الفكرى العقلى. فهذا تفاضل وقرب من مشاكلة البسيط.

قال أفلاطون: وليس المدبر يحل بالحيوان فقط، بل بسائر الأشياء أيضاً — وقوله: إنما يضطر إلى ذلك الجنس الرطب — يعنى إلى أن قال: فجنس الرطوبة يضطر إلى ذلك.

قال أحمد: يقول: إن رد الشىء إلى التساوى ليس بالحيوان فقط، بل بسائر الأجرام أيضاً. وقوله: «إنما يضطر إلى ذلك الجنس الرطب» — يعنى: إلى الحيوانية، لأنه أى شىء استمكن فيه الرطوبة كان داعياً إلى تجبل الحيوان فيه.

قال أفلاطون: فما كان فى الصفحة العليا فهو أسرع إلى الوصول. وما كان فى التخوم فربما وقع عليه المانع.

قال أحمد: يعنى بالصفحة العليا وجه الأرض والماء. فما كان بهذا المحل كان سريعاً إلى الوصول لمحاذاة الأجرام العلوية التى من شأنها الجذب. وما كان فى التخوم فإنه يقع عليه المواقع الحائلة كالأجرام الصلبة المانعة من النفاذ وغير ذلك من العوارض.

قال أفلاطون: فلذلك نرى قد رسب فى التخوم الأشياء القريبة من التساوى.

قال أحمد: يعنى بالأشياء الراسبة ما نجد فى تخوم الأرضين وفى المعادن من الجواهر الصافية الموجود فيها البصيص المشاكل للبسيط. فيقول: إن ذلك الشىء إنما رسب هناك لأن الأجرام الشديدة التركيب المانعة من أن تداخل منعتها عن النفاذ. وما أبين صحة هذا القول! فإنا لا نكاد نجد معادن الجواهر إلا تحت الحجر الصلد المنضم الأجزاء، اللهم

إلا ما يكسحه الجزء المائى السيلان فنراه فى الشواطئ وفى الرمال؛ وذلك إنما يكسحه من وقت قد انعقد وانضم واستحال منه الانحلال. فأما الذى يكون بخاراً، أو فى أجزائه لطافة فإنه لا ينبته إلا الجرم الصلد الذى قد أخبرت. وقد يكون الحجر الذى يحوى الجوهر هشاً رخواً؛ وليس ذلك الجنس، أعنى به الحجر، يمنع الجوهر من النفاذ، بل الحجر الصلد الذى يعلو هذا الحجر، لأن الذى يمنع من النفاذ إنما يمنع بأن لا يداخل متحجر. وهذا الحجر الذى يحوى قد 〈...〉 ذلك كما يرى داخله.

قال أفلاطون: وبحركة الأشخاص العلوية ما تنحل هذه الأجرام.

قال أحمد: إن الأجرام العلوية تؤثر فى الشىء تأثيراً يحلها ويلطفها ثم يجذب ذلك لأنه أقدر على تصفيته وهو رخو ليس بمنضم.

قال أفلاطون: والبخارات ترتفع من النجوم: فبعضها يثبت للحاجز، وبعضها للعكر.

قال أحمد: إن البخارات ترتفع فى التخوم بالتأثير المحيط فيثبت بعضها فيما يقرب من الصفحة العليا بعلتين: إحداهما الحاجز الذى أخبرت؛ وأكثر ما يعرض ذلك للبخار. اللطيف الكثير الصفو. والعلة الثانية: للعكر الذى يثبت الأشياء ويمنعها عن الارتفاع.

قال أفلاطون: ويثبت أيضاً باستيلاء الرطوبة إذ هو القعر.

قال أحمد: قد يكون ذلك فى كثير من الجواهر، وأرى نبات الرصاص والزئبق لاستيلاء الرطوبة، ونبات الكباريت والزاجات لكثرة العكر.

قال أفلاطون: والحديد: فجوهر الأرض، طال مجاورته.

قال أحمد: الحديد كما قال جوهر الأرض فلا يكاد يفارق؛ وهو مع ذلك كثير العكر يابس؛ واليبس كما لا يتشبث كذلك لا يخلى عما قد يخالط فى الأوان الذى كان فى غير هذا

الشكل، أعنى به أنه كان مستولياً عليه بعض الرطوبة، إلا بأن يدخل عليه دخيل فيفارق حينئذ.

قال أفلاطون: وترى ما أثبته الحاجز بعيداً من الاضمحلال، إذ هو الحلو منه، وما أثبته العكر متفاوتاً فاسداً.

قال أحمد: إن الذهب والياقوت وإن كانت أجزاؤهما شديدة الانضمام فليس ذلك من أجل التركيب وتراكمه، بل للازدحام فى طلب المخلص إذ كان ما بلغ مبلغهما وهما فى هيئة البخار طالباً للعلو ولقرب عهدهما بالرد إلى التساوى، وصارا لا يقبلان الاضمحلال إذ تخليا منه. والشىء الكثير العكر تسرع إليه المقاربة للفساد. ويجب للعامل أن يفرق بين هذا التركيب — أعنى به تركيب الذهب والياقوت — والتركيب المتفاوت.

قال أفلاطون: ولها نسبة إلى الأجرام العلوية كما لسائر الأشياء: النامية منها والجماد.

قال أحمد: النامى عند الفلاسفة الحيوان والنبات؛ والجماد الأشياء الميتة الصلدة، وللكل شكل من العلوى ينسب إليه: فنسب ذكران الإنس إلى الشمس، والإناث إلى القمر؛ ونسبة الدواب والبهائم والطيور الكريمة التى تحسن ألوانها وأجسامها إلى المشترى؛ ونسبة السباع الضارية إلى المريخ؛ ونسبة الوحوش الجبلية وبعض الطيور إلى عطارد؛ ونسبة دواب الماء إلى الزهرة؛ ونسبة الحشرات والهوام وبعض الدواب إلى زحل. وكذلك نسبوا كل جنس من الشجر إلى ما يشاكله ويوافقه؛ واختلفوا فى ذلك وخالف بعضهم بعضاً فى النسبة فى جميع الأشياء، أعنى بها النامى والموات، ولكل واحد أصل يعمل عليه لم يخل من بعض الصواب وإن لم يدرك الحق. وقسمت هذه الجواهر أيضاً على السيارة: فنسبت بعض الناس الذهب إلى الشمس، ونسبه بعضهم إلى المشترى. فأما الذى نسبه إلى الشمس فذهب إلى أن هذا الجوهر أجل الأجسام الذائبة وأكثر ضياءً. وحسناً، وأن الشمس بين الكواكب كالذهب بين سائر الأجساد. وبعضهم نسبه — أعنى الذهب — إلى المشترى: فيقول: إن الشمس ليس من شأنه أن يثبت بل يجذب.

والذهب قد خالف الشمس فى الطباع، إذ كان جوهر الشمس حاراً يابساً، وجوهر الذهب حاراً ليناً كطباع المشترى. ونسبوا الفضة إلى القمر، والحديد إلى زحل، والنحاس إلى المريخ، والرصاص إلى الزهرة، والزئبق إلى عطارد. وفى الكل اختلاف كما فى الذهب والشمس، وسأخبر به عند الحاجة إليه. واضطر من نسب الذهب إلى الشمس أن نسب النحاس الأصفر إلى المشترى، وذلك خطأ، لأن صفرة النحاس الأصفر من دخيل خالطه. — وقد أخرجت ذلك بكماله وعلله وتكلمت فيه بالكلام الواضح المستقصى فيما فسرته من كلام فيثاغورس فى كتابه المترجم بـ«ـاسطخس» وهو الأركان. فمن أراد أن يدرك علم ذلك حتى لا يشذ عنه شىء منه فلينظر فى ذلك الكتاب. وقد أخرج فيثاغورس فى ذلك الكتاب رأياً حسناً لطيفاً لا يكاد يقف عليه إلا الماهر اللبيب، وذلك أنه نسب الجواهر إلى الأجرام بالحقيقة ثم نظر إلى تأثير كل جرم، أعنى بها الكواكب. ثم طلب الحالات التى تحدث عليها حتى ظهر من أحدهما تأثير الآخر وفعله فعرف علة هذه الحالات والمزاجات وكيفيتها فى الفلك بالحركات والعوارض والانتقالات، فحكم بأن الجوهر السفلى إذا حدث عليه الحدث المشاكل للعلة التى أقامت أحد الكواكب فى هيئة الآخر أنه يقيمه فى هيئة الجوهر المشاكل للكوكب الآخر — المثال: أن الزهرة إذا حلت فى بعض البروج الشريفة والمراكز العالية وقارنت أحد البابانية وحلت بالمحل الذى يوجب أن يؤثر تأثير المشترى فعرف العالم العلل التى أحلت هذا الكوكب، أعنى به الزهرة، بهذا المحل حتى أحاط بكيفيته وماهيته؛ ثم دبر الجوهر المنسوب إلى الزهرة حتى يحدث عليه ما حدث على الزهرة حتى أقامه مقام المشترى، فإن الجوهر المنسوب إلى الزهرة يقوم مقام الجوهر المنسوب إلى المشترى حتى يوازيه فى اللون والهيئة والأثر؛ وذلك على قدر التدبير وكماله. وهذا الفعل والتدبير معتاص من إدراكه، لأنه استدلال بما لا يدرك بالحقيقة على عمل بعيد الغور. وطلبه من غير هذه الجهة أسهل.

قال أفلاطون: وكيان الأرض ككيان الحيوان.

قال أحمد: إن فى تخوم الأرض فى الصفحة العليا القوى المدبرة كالقوة التى فى الحيوان التى يسميها الأطباء «الكيان».

قال أفلاطون: فهو يصفى ذائباً ويفرق كما تعرف ويغذى.

قال أحمد: هذا الكيان الأرضى يصفى وينقى بالنضج والتدبير المستقيم كما يأخذ الكيان الحيوانى قوى الأغذية.

قال أفلاطون: فمن تدبيره أن يقلب الجرم الأرضى والمائى أجساداً مختلفة.

قال أحمد: إن هذا التدبير هو أن يفارق جرم الأرض أو الماء التركيب الذى من أجله صار فى هذه الهيئة، فإذا تركب تركيباً مخالفاً للتركيب الأول وتشكل بالشكل الذى يوافق التركيب.

قال أفلاطون: وهذا التركيب الثانى ليس كالتركيب الذى كان بدءاً، بل بدخيل أو منع.

قال أحمد: التركيب الذى كان بدءاً هو التركيب الذى يقبل من حد البسيط إلى حد الطبيعة. وهذا التركيب الثانى عند الفيلسوف أن هذا الجرم لما فارق بعض التركيب إنما أبطأه عن الذهاب إلى عالمه شيئان: أحدهما أن خالط فى ممره بعض الأشياء العكرة الفاسدة التى ترسب وتسفل؛ والثانى الحاجز الذى قد تكلمت فيه، فما كان سببه الاختلاط بغيره فإن الفساد يسرع إليه، إذ قد وجد مكاناً وشكلاً، لأن الشىء فيما يوافقه ينفذ، وما كان بسبب الحاجز فإنه لا ينفذ فيه ما يزيله عن هيئته.

قال أفلاطون: والتركيب الذى بسبب الحاجز فأكثر التركيبات ثباتاً — إلى أن قال: فلا يستوى حتى يرجع إلى القعر.

قال أحمد: قد يجب أن تعلم أن الشىء المركب إنما يرده إلى التساوى التغاير والانتقال من حالة إلى أخرى. فالجرم الشبيه بعضه ببعض المتفق الأجزاء كالذهب والياقوت لا يقبل ما يغيره عن ذاته. وإذا كان كذلك فهو ثابت على حالته لا يزول عن هيئته. فهو لا يرد إلى التساوى إلا برده إلى حد ما يقبل التغاير ويسرع فيه الفساد من أركان الطبيعة. فقد

تضاعف فى رده إلى التساوى بالعمل إذ كان رده إلى حد الطبيعة المضمحلة يوازى رده من حد الطبيعة إلى حد التساوى.

قال أفلاطون: فما كان استحالته من الماء كان صقيلاً، وما كان من الأرض كان قابلاً للإذابة.

قال أحمد: الاستحالات يكون أكثرها من الماء والأرض بالنار والهواء، لأن الهواء والنار الركنان الفاعلان، والماء والأرض الركنان اللذان يجرى عليهما أكثر الفعل. فيقول الفيلسوف إن الجواهر الصقيلة كالياقوت والزبرجد والبجادى وغير ذلك من الجواهر الصقيلة استحالتها من جوهر الماء جوهر صقيل راد الصورة. وهذه الجواهر أيضاً كذلك والجواهر القابلة للإذابة كالذهب والفضة والنحاس استحالتها من جوهر الأرض، فهى مجانسة للنار من أحد الطرفين، فصارت أقبل لتدبيره، إذ كان النار أحد طرفيه اليبس، والأرض أيضاً كذلك، والماء والنار متنافران من الطرفين جميعاً.

قال أفلاطون: وليس الاستحالة فى الأركان من هذين، بل بالاستيلاء.

قال أحمد: قد آن للطالب — بتكريرى القول فى علل الطبيعة — أن لا يخفى عليه كلام الفيلسوف هذا. فمراده أن يعلمنا أنه ليس الاستحالات من الماء والأرض دون الهواء والنار، إذ الأركان مداخلة بعضها لبعض. فما استحال من شىء فإنما يستحيل من الأربعة. فإذا نحن قلنا: استحال من الماء أو من الأرض فإنما نعنى به الجزء الغالب عليه الماء والأرض.

قال أفلاطون: فلا تزال الأركان كذلك تختلف وتتغاير وهى فى كل الحالات تنحل منها الأجزاء.

قال أحمد: إن الجرم إذا انتقل من هيئة إلى هيئة فلا يخلو أن ينحل منه الجزء الذى يصير إلى العالم العلوى، وإن كان ما يرسب أكثر.

قال أفلاطون: والمحصور المحاط به، وإن انحل منه القليل فإنه فى الزمان الطويل يفنى — إلى أن قال: فكيف بالتدبير فى الكل دائماً؟!

قال أحمد: يقول إن الطبيعة محدودة. ولو أن ما ينحل منها إلى العوالم العالية فى اليوم اقل قليل الأجزاء لكان من الواجب أن يصير الكل فى الزمان الطويل إلى العالم، فكيف والتدبير من العالم العلوى فى الرد إلى التساوى دائم ثابت!

قال أفلاطون: وعلى ما يأتى بعد على ما وراء العقل، فلذاك بعدنا عن إدراكه.

قال أحمد: يقول إنه إذا رد الشىء كما كان بدءاً فإن علم ما يأتى بعد لا يدرك، إذ كان ما وراء العقل لا تدرك ماهيته وكيفية مراده.

قال أفلاطون: ولو كان ذلك إلى العقل وما دونه لطلبنا إدراكه.

قال أحمد: [ينفرد بالتدبير] لم يكن بالمعتاص إدراك علم ما يأتى بعد، إذ من وقف على حقيقة الشىء يقف على الأثر منه فى كل وقت. إلا أن المحيط بالكل المدبر للكل هو المدبر بما لا تدرك حقيقته وماهيته. وقد عارض الفوثاغوريون الفيلسوف فى هذه القضية وتكلموا فى المستقبل من العلم، وأن كون هذا الحدث إن كان معقولاً فبالواجب أن يوقف عليه — هل تنبأنا أم لا؟ فكان من جواب الفيلسوف لهم أن قال إنه لا ينفرد بالتدبير، إذ ذاك الشىء المعقول، وغير ذلك من الحجج والبراهين التى أنا متجاوزها إذ ليس لإخراجها فى هذا الموضع وجه. قال أفلاطول: وإنما ننبئ بالبدء والانقضاء لنقف على ماهية التدبير.

قال أحمد: يقول: قصصى للأمر الماضى والمستقبل أن أوقفك على التدبير وماهيته فتكون فى تدبيرك كهذا.

قال أفلاطون: فلذلك نخبر بالجزء دون استقصاء.

قال أحمد: يقول: إنما أخبر من علل الأصل والانقضاء بالجزء الذى يكتفى به مدبر العمل وأترك الاستقصاء الذى يحتاج فى التثبت عند الخصوم.

قال أفلاطون: وإن كنت قد أخبرت بالعمل بما امتثلت فإنى أقصد أيضاً بما يزيد فى البيان.

قال 〈أحمد〉: يعتقد الفيلسوف أن فى الإخبار بما أخبر تمثيل العمل، فيقول: إنى أخبر أيضاً بما يزيد العامل بياناً وهداية.

قال أفلاطون: ويجب أن تعلم أنه لا ينحل المنضم الأجزاء إلا باستيلاء النار والماء.

قال أحمد: لما كان انضمام الأجزاء وشدة التركيب باستيلاء الجوهر الأرضى البطىء وضعف الهوائى المخلخل للأجسام استحال من الهواء أن يداخله إلا بدخيل يدخله أو تدخل أجزاؤه هناك. فالواجب أن يستولى عليه الجزء النارى والمائى، فإنه وإن كان قعر الطبيعة فإنه قد بلغ مبلغاً فى التفاوت أوجب الحال الذى يحدث عليه بعد الحال التى تقرب من التساوى.

قال أفلاطون: وستقف عند الامتحان أنك لا تقدر على ما تريد إلا بما وصفت.

قال أحمد: إن التفريق الذى يجب أن تحدثه فى الشىء لا يكون إلا بعد أن تكلسه أو تحله: فالتكليس بالجزء النارى، والتحليل بالجزء المائى.

قال أفلاطون: وإذا استولى فإنه يكون بعد ذلك للمائى أفضل.

قال أحمد: من الأجساد ما إذا كلست أسرع فيها الحل، ومنها ما لا ينحل إلا بالحرارة والرطوبة. والحرارة أحد طرفى النار، والنار إذا داخل شأنه التخلخل لأجزاء الشىء فيكون بعد ذلك للجزء المائى أقبل لما يداخله.

قال أفلاطون: فإن عملت بالنار اليابسة فإنك تلقى التعب فى الضبط وفى تفريق جزئى الروح.

قال أحمد: إن كل ما كثر فيه وغلب عليه الجزء البسيط فإنه ينسب إلى الروح. فما كان من هذا الشىء، أعنى به الغالب عليه البسيط فى نهاية ما يجب أن يكون من الاستيلاء، فإنه يخصه اسم الروح، وهو الجزء الذى يكاد يتحرك بغير آلة. وكل ما كان

دون ذلك، ولا سيما إذا خالط بعض الرطوبة، فإنه ينسب إلى النفس وهو دون الروح. فيقول الفيلسوف إن العمل بالنار اليابسة يعسر مع ضبط الشىء، إذ كان النار كما ترى: مفارق طالب للعلو. ويصعب أيضاً إيجاد الجزء الذى يخصه اسم النفس، إذ ذاك إنما ينسب ببعض الرطوبة.

قال أفلاطون: فإذا حللت بعد التكليس، إن كان يحتاج إلى ذلك، فدبر العمل فى الإناء الذى وصف بدءاً.

قال أحمد: إنما يقول: إذا حللت الشىء بعد التكليس إن كان محتاجاً إليه، إذ من الأعمال ما يستغنى فيها بالتعفين عن التكليس. وإذا أقمت الجزء كما يمكن فيه الافتراق فلا عليك أن يخلو من التكليس، إذ المراد من التكليس فى هذه الدرجة أن يقيم الشىء مقاماً يقبل الافتراق. ويريد بـ«ـالإناء» الإناء الذى وصف عمله فيما سلف، وهو الإناء المداخل بعضه لبعض الذى يكون كهيئة القرعتين ويكون المداخل مثقوب الأسفل وفيه تقع على باب المداخل له، وعليه الإناء كالإنبيق والمثقب، ويكون معمولاً من الجسد الذى مثله الفيلسوف.

قال أفلاطون: وإذا حللت بالحرارة والرطوبة فقد جانست الهواء المحلل وأخذت بطرفى النار والماء.

قال أحمد: إن الجزء الذى يفرق قد غلب عليه — لانضمام أجزائه وجساوته — الجوهر الأرضى فبضد الأرض ما يزايله عن ماهيته. فإذا استعنت بالحرارة والرطوبة فهو جوهر الهواء المحلل للأجسام وأخذت بطرفى النار والماء، إذ الماء أحد طرفيه الرطوبة، والنار أحد طرفيه الحرارة، وكل ذلك مما يعين على انقلاب الجزء الأرضى عن ماهيته.

قال أفلاطون: وإياك أن يبلغ التعفين حداً يؤذى.

قال أحمد: إذا تجاوز الشىء فى الحل المقدار فإنه ربما زاد فى التركيب، فيحذر الفيلسوف 〈من〉 هذا الباب.

قال أفلاطون: ودبر وارفق فى عملك ولا تطلب سرعة الفراغ فيؤدى ذلك إلى أبعد البعد.

قال أحمد: إن أكثر منتحلى هذا العمل — لحرصهم على سرعة الإدراك — ربما دبروا التدبير الثانى قبل انقضاء الأول — فذلك مما يفسد ويبعد العامل عن الإدراك.

قال أفلاطون: وهذا الفعل من أقوى ألم النفس.

قال أحمد: قد كاد الفيلسوف فى هذا الرأى أن يوافق السوفسطائيين؛ وذلك أنه يرى أن الالتذاذ ألم للنفس، إذ كان طالب الشىء قبل وقته؛ والحزن أيضاً فى النفس هو طلب التخلص من الشىء قبل حينه. فطالب الشىء قبل حينه خارج من الاستواء؛ وما كان كذلك فهو مؤلم للنفس. إلا أن جنس الفرح مركبه الدم، وجنس الحزن مركبه السوداء أو البلغم المالح. وهذا الرأى ليس مما يجب أن يخرج فى هذا الموضع، إلا أنه ما تمثل به الفيلسوف تكلمت به.

قال أفلاطون: وإذا رفقت ودبرت تدبير العلماء سيلت الجزء المخصوص بالنفس إلى أسفل، وأصعدت المخصوص بالروح إلى العلو، وثبت المخصوص بالجسد فى موضعه.

قال أحمد: إنك إذا أدخلت العمل فى القرعة المثقوبة الأسفل، وأدخلت هذه القرعة فى الأخرى، ووضعت المثقب الذى وصفت لك، ودبرت بالحرارة الخفيفة الرطبة — لا حرارة الزبل — فإن ذلك يبطئ ولا يكاد ينفذ فيما يراد. وهو يعفن أيضاً ويعكر، بل الماء الحار سال الجزء الغالب عليه جوهر النفس مع الرطوبة. إذ قد أنبأت أنها — أعنى الرطوبة — متشبثة بالنفس فتسيل فى الثقب وتتنخل ويصعد المخصوص بالروح رطباً سيالاً؛ إلا أنه يكاد يخالط الهواء للطافته ويبقى الجسد فى موضعه وقد نزع منه القوى. فافهم ذلك!

قال أفلاطون: وإذا فرقت هذا التفريق يكون المخصوص باسم النفس مركباً بالرطوبة، والمخصوص بالروح مركباً بالجزء الموافق للهواء، والجسد يابس قد غلب فيه جوهر الأرض.

قال أحمد: إنى قد قلت فيما تقدم إنه من المستحيل أن تقيم الروح أو النفس فى دار الطبيعة بذاتها دون أن تخالط ما يكون لها كالمركب. فإذا نحن قلنا: النفس أو الروح فى هذا العمل فإننا نعنى به الجزء الذى قد غلب فيه وغلبه أحد الشيئين. فجزء النفس مركبه الرطوبة لتشبثها به، ولما كان ما يركب مع الجزء النارى. فإن حصل مازجه الحد اللطيف السيال المتقارب من جنس الهواء.

قال أفلاطون: فاصرف العناية إلى الاحتفاظ بالجزء المخصوص بالروح.

قال أحمد: لما كان النفس الرطوبة تضبطه والجسد ثابتاً لجساوته — كان ما يجب أن يحتال فى حفظه الجزء المخالط للجزء الهوائى، لئلا يختلط بشكله.

قال أفلاطون: وتحتاج أن تبالغ فى الافتراق جهدك حتى لا يبقى فى الجسد من القوى الغريزية إلا ما لا يحس.

قال أحمد: كما تحتاج أن يقيم الشىء غالب فيه النفس والروح، كذلك تحتاج أن تفرد الجسد حتى لا يشاركه غيره. ولما علم الفيلسوف أنا لا نكاد أن نخلى الجسد من هذه القوى، أجاز ما لا يحس.

قال أفلاطون: وتعرف ذلك بالانقطاع وذهاب البهاء.

قال أحمد: إن من أعظم الدليل أن الشىء الذى قد خلا مما كان فيه أنه إذا عولج بالعلاج الذى كان يستخرج به ما كان فيه لم يخرج منه. وأيضاً فإن الشىء اللطيف المساوى إذا كان مخالطا للجاسى أحدث فيه وميضاً وبهاءً وحسناً. وإذا فارقه عدم كل ذلك فيه إذ كان من أجله كان؛ وأنا أرى رأياً فى هذا النوع من العمل ليس هو من آراء الفيلسوف، وهو أن كل شىء ضعفت الحرارة والرطوبة عن استخراجه فى زمان ما، فإن الحرارة واليبس تخرجه أو بعضه فى القليل من الزمان لأنه قد أتى عليه التدبير المحلل الملطف فصيره موافقاً له فى اللطف. فإذا ألقى الركن الحاد السريع، الذى هو النار، أظهر ما كان فيه وأحدث فيه

تفريقاً؛ فيجب على العامل أن يلقى القليل من هذا الجسد على النار، فإن دخن أو رأى فيه أنه يفارقه شىء من الأشياء، رده إلى التدبير وصير عليه حتى يبلغ مبلغاً يصلح معه العمل.

قال أفلاطون: وإنما وضعنا ذلك فى الحول، وأوفينا الأزمنة الأعمال لتتسع فى الوقت.

قال أحمد: لعلك ذاكر ما أمرك به ومثله لك فيما سلف من القول: أن يكون تدبيرك للحل فى الزمان الموافق له. وكذلك التفريق والتكليس وغير ذلك من أنواع العمل. فنفس لك فى الأجل، ووسع عليك فى الوقت ليكون تدبيرك برفق.

قال أفلاطون: ويجب أن تحتال فى هذه الأجزاء حتى تكون مقاومة للأركان.

قال أحمد: إن هذه الأجزاء المفرقة تحتاج فى تدبيرها إلى المعالجة بالأركان، وخاصة النار. فإذا لم تكن مقاومة، فارقت وبطلت. فيأمرنا الشيخ أن نحتال فى ذلك.

قال أفلاطون: وإنما لا يقاوم الشىء الشىء لتفاوت أو شكل.

قال أحمد: كل شىء لا يقاوم النار فإنما يكون لعلة شيئين: أحدهما أن يكون ضعيفاً متفاوتاً مختلف الذات فيسرع إليه الفساد؛ والثانى أن يكون مشاكلاً للنار فتسرع فيه. فالواجب أن يعرى العمل من هذين الجنسين.

قال أفلاطون: وأشد ما أخاف على السائل — إلى أن قال: فهو دسم.

قال أحمد: يعنى بالسائل النفس. وفى الرطوبة التى فى النفس دهنية يسرع معها فى النفس النار، وهى شىء قد أعيا الأوائل فيه التدبير، لأن هذه الدهينة عسر استخراجها. فأصغ لما يأتى من قول الفيلسوف بعد هذا فإنه يدلك على الحيلة فيه.

قال أفلاطون: فدبر الثانى مراراً كتدبير الأول حتى يتم التدبير.

قال أحمد: يريد بالأول وضع العمل فى القرعة والتفريق؛ ويريد بالثانى أن يدبر النفس والروح كل واحد على حدة كتدبير العمل الأول مراراً حتى يبلغ التدبير فى التفريق نهايته، لأن النفس إذ دبرتها كتدبير الأول لا يخلو من أن يبقى فى موضع الجسد بعض، ويصعد منه ما يوافق الروح أيضاً.

قال أفلاطون: فالحق كل وقت البعض بالبعض.

قال أحمد: يأمرك أن تلحق ما يصعد من النفس بالروح الأول، وما يبقى فى موضع الجسد بالجسد الأول؛ وكذلك يكون عملك بالروح الأول والجسد الأول حتى يخلص لك الكل ويستقيم لك فيه التدبير.

قال أفلاطون: واستخرج الدهنية ببعض الجسد، أو استخرج المراد بالجسد؛ ثم استخرجه أيضاً.

قال أحمد: إن النفس إذا رددته على الجسد لم يخل أن يفيض على بعض أجزائه. فإن دبرته تدبيراً يبقى فيه الجزء الأشرف ويخلى عن الأخس، فقد دبرت لأنك قادر بعد ذلك على استخراج الجزء الأشرف من الجسد. وإن دبرته تدبيراً يفيض على الأخس ويخلى عن الأشرف فقد دبرته التدبير التام، لأنك قد نلت المراد وتسهل عليك بعد ذلك تطهير الجسد. واعلم أن الذى يبقى من النفس بعد استخراج الدهن إنما هو صبغ نفسانى ومركبه النفس، وهو لا يكاد يثبت، لأن من شأن اليبس أن يخلى عما يخالطه. والتدبير فى شأنه بعد هذا ما يأمر به الفيلسوف فى قوله هذا.

قال أفلاطون: وأثبته حينئذ بالرطوبة الروحانية، فهو إذا لقى الركن فارق ولم يجذب معه المربوط به.

قال أحمد: يعنى بالرطوبة الروحانية الرطوبة التى فى الروح الصاعد؛ وليست هذه الرطوبة التى فى النفس، لأن هذه الرطوبة كالطل الذى يلتقط الهواء، فضلاً عن الأركان. والرطوبة التى فى النفس كالدهن الذى لا يكاد يفارق الشىء عند ملاقاة الأركان. وإذا فارق الركن وباعده جذب معه الشىء المخالط. وهذه الرطوبة الروحانية تضبط النفس وقتما تحتاج إلى ضبطه. فإذا أردت أن تفارقه فارقته بأهون التدبير؛ والدهنية بخلاف ذلك كما مثلت. وسأمثل مثالاً يكون الرائد فى معرفة الطالب: لو أن ثوباً غمس فى الماء، ثم قابله بعض الحرارة النارية أو الهوائية لفارقه الرطوبة وبقى الثوب على حالته.

ولو غمس فى الدهن، ما كان يفارقه بالحرارة النارية والهوائية دون أن يبطل الثوب. والسبيل فى النفس هذا السبيل — فتفهم ! — ولا يكاد يفارق الثوب الدهن إلا بالرطوبة وملاقاة بعض الأركان اليابسة؛ وهو شبيه بما دبرناه فى أمر النفس.

قال أفلاطون: والجسد إذا أفردته فاحمل عليه الحرارة واليبس لتنقيه جداً، يعنى النار.

قال أحمد: يأمر أن نبالغ فى تكليس الجسد بعد إفراده ليبقى ويصفو ويخرج فضوله وما كان فى نهاية التفاوت. وإنما يأمر أن يفعل ذلك بعد الإفراد لأن الجسد إذا كان مخالطاً للشىء المتفاوت للروح والنفس، فارق النار وتفرق؛ إذ النفس والروح من طبعهما الذهاب والفراق. فإذا خالطا الجسد فارقاه بافتراقهما.

قال أفلاطون: والجسد بعد التكليس الشديد لا يكون منه التشبث بالنفس والروح كما كان.

قال أحمد: إن الحاجة إلى الشىء الذى أخبر به الفيلسوف أنه فى الجسد، من ترك التشبث، شديدة. وذلك العمل هو رد الشىء إلى أقرب مشاكلة للبسيط. وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت فى دار الطبيعة إلا بمركب يركبه. فإذا حل الجسد بهذا المحل كان مثبتاً للشىء من غير أن يداخله ويخالطه. والتفاوت والتركيب أكثر ما يكونا بالمداخلة والمخالطة.

قال أفلاطون: وإنما صار لا يقبله لأن التدبير قد أحله بالمحل الذى يقبل الأثر من الشىء الضعيف. فكيف من النار؟! — إلى أن قال: فغيره عن التركيب الأول فلم يجانس.

قال أحمد: إن الشىء المدبر تلطف أجزاؤه فيسرع فيه التأثير. فالنار إذا لقى الجسد المدبر أثر فيه تأثيراً يغيره عن ماهيته الأولى فلا يكاد يجانس ما كان فارقه من الروح والنفس.

قال أفلاطون: والواجب أن يكون فى أول التفريق الجسد أغبر قتماً، والنفس أحمر

براقاً، والروح أبيض يكاد من لطافته أن يعرى من اللون — إلى أن قال: فإذا أكمل فيه التدبير فإنه يتساوى.

قال أحمد: إن أول ما يظهر من أثر التفريق ظهور اللون الذى يخص الشىء. فالنفس، لما كان الأغلب فيه الدهنية والحرارة، وجب أن تظهر فيه الحمرة؛ والروح، لما ارتفع من النفس، صار لونه اللون المضىء المخالف للألوان، وهو اللون الصقيل؛ والجسد، لما كان ثفلاً وكان من جنس الأرض، وجب أن يظهر فيه وعليه لون الأرض. على أنه قد يجب أن يظهر فيه السواد أيضاً لاحتراقه بانتزاع القوى منه. فإذا رددت ... ... ما تهيأ منها إلى التساوى.

قال أفلاطون: والجسد يكون فى بدء التكليس أغبر؛ فإذا دبر صار أبيض صافياً.

قال أحمد: إن الجسد إذا كلسته التكليس التام عرى عن مجانسة الأرضية أيضاً، فصار لونه اللون المقارب للبسيط وهو البياض.

قال أفلاطون: ويكون النفس أيضاً كذلك — إلى أن قال: فالروح قد كان مقارباً قبل.

قال أحمد: يرجع لون النفس أيضاً عند التصفية إلى لون البياض المقارب للبسيط. وقوله: «إن الروح كان مقارباً قبل» فإن الروح لونه فى أول التفريق 〈يكون〉 مقارباً للون الذى يحدث فى الكل عند تمام التدبير.

قال أفلاطون: وعند تكليس الجسد فاطبخ الروح والنفس.

قال أحمد: إنما يراد بتكليس الجسد التنقية. والروح والنفس، لما استحال فيهما هذا النوع من العمل، احتيل فيهما بالطبخ.

قال أفلاطون: فاطبخ فى الحمام الهوائى — إلى أن قال: فأدم عليه التدبير نهاية بحران القمر. كما أنه يجب أن يديم التكليس بحران القمر الأوسط.

قال أحمد: الحمام الهوائى الحمام الرطب، ويجب أن يكون كهيئة الحمام وفى مقدار حرارته ويكون العمل قد أودع القناديل المعلقة فى الحمام، ونهاية بحران القمر ووسطه. فقد أخرج ذلك أبقراط الطبيب فى كتابه المترجم بـ«ـاليسابيع» على غاية الشرح؛ وأنبأ هناك أن نهاية البحران فى الأمراض الجادة ثمانية وعشرون يوماً دور القمر، والوسط من البحران فى هذه الأمراض — أعنى بها الحادة — سبعة أيام انتقال القمر من ربع إلى ربع. فأما بحرانات الأمراض المزمنة ففى تسعين يوماً وفى العام، إذ ذلك مأخوذ من مدار الشمس فيأمر الشيخ أفلاطون أن يدام التدبير على العمل المطبوخ ثمانية وعشرين يوماً، وعلى العمل المكلس سبعة أيام دائباً.

قال أفلاطون: واحمل على الجسد وارفق باللطيف، وانظر أن لا يداخلهما ما يكون فيه بعض الفساد.

قال أحمد: يجب أن يكون تكليس الجسد بالنار الجزل، ويكون فى آنية معمولة من طين البواتق، وينقل فى كل أربعة وعشرين ساعة من آنية إلى آنية أخرى، لأن الآنية لا تصبر على النار مدة أيام التكليس، ويكون الطبخ فى أوانى زجاج مسدودة الأفواه بسد الحكماء وطينهم المعمول من الصاروج والحطمى. ولا يلصق إليها من الحرارة إلا بالمقدار الذى يصبر جسد الإنسان عليه. ويخلى الحمام فى كل أربع وعشرين ساعة من الرطوبة دون الحرارة مقدار ساعة واحدة، وتفتح فم الأوانى حتى يخرج الفضول إلى القصد فى الطبخ لاستخراجها. ثم تعيد السد. وتحذر ما حذرك الفيلسوف وهو: أن يداخل الشىء ما يفسده. ويجب أن تعلم أن التكليس إنما يخاف أن يداخله الرماد فيثبت فيه منه البعض إذ هو مقارب له. فأما الحرارة فلا تثبت بعد انقطاعها عنه: وأما المطبوخ فالذى يجب أن لا تداخله الرطوبة — فتفهم هذا الباب.

قال أفلاطون: وبعد التكليس والطبخ فردهما على الانفراد إلى التصعيد — إلى أن قال: فكل واحد بما يشاكله. فإن تفاوت فاعلم أنك قد غلطت، فتدارك خطأك.

قال أحمد: قوله بما يشاكله — يريد به أن يصعد الكلس بالأثال والمطبوخ بالقرع. وهذا التصعيد متحان العمل، وذلك أن الجسد إن صعد منه فى هذه الدرجة شىء فهو الدليل على الفساد فى التدبير وذلك أن الغرض فيه أن يعرى مما يصعد ويفارق. والروح والنفس إن بقى منهما ما لا يصعد، ويتفاضل البعض على البعض، فهو دليل الفساد أيضاً، إذ العمل الأكبر أن يقاما خلوين من الشوائب والعكر متشابهى الأجرام واحدى الذات.

قال أفلاطون: فإن رأيت العمل فى التصعيد غير مشاكل فدبره أيضاً، لأن تدبيره أنجع من تدبير غيره.

قال أحمد: يقول إذا صاعدت المكلس والمطبوخ فوجدتهما على غير السداد فردهما إلى العمل. والتدبير أيسر من الابتداء فى غيره.

قال أفلاطون: وليكن تدبيرك فى الكل تدبير الآلة فى الجرم المحيط.

قال أحمد: يعنى بالجرم المحيط «الفلك»، ويعنى بالتدبير فيه «الاستحالات» التى تكون نتيجتها رد الشىء إلى عالم العوالم. ألا ترى النبات وينابيع الماء والحيوان كيف تستحيل ويرتفع منها اللطيف ويتحفظ منها الكثيف برد الشىء إلى شكله فى أوانه، والتدبير مع ذلك، أعنى به انخفاضها دائماً فيها. فلو لم يظهر التدبير إلا فى الجرم السيال الذى هو الماء لكفى ودل على المراد. فإنا نرى الماء يخرج من الينابيع والأجرام الأرضية، وهو حينئذ البسيط أغلب عليه منه وقد بقى على وجه الأرض مدة فيجذبه حر الهواء من وجه الأرض ومن الحيوان والنبات، فيسيل بعد ما يفيض منه بعض التساوى إلى أسفل، ثم يرتفع أيضاً ويدبر بالتدبير الأول. ومما يصحح هذا القول البحر: لما كان الماء راكداً فيه والتدبير دائماً فى الجذب منه صار العكر الغالب عليه. ولولا ما ينصب فيه من ماء الينابيع وما يرده الهواء إليه لصار بحاله من العكر والتفاوت، لا يتكون معها فيه الحيوان. لكن المدبرين من تدبيرهم رد اللطيف على الكثيف ليسهلوا به رد الكثيف إلى التساوى فالمقتدى بسيرة الإله ميسر له المراد فى عمله.

قال أفلاطون: ومن الفيثاغوريين من يعتقد تفصيل العمل على أنواع، فلا يلتفت إلى ذلك فإنما ينجع فيما يرده إلى التساوى، لا ما يفرده عن أركان الطبائع.

قال أحمد: إن من الأوائل وأهل الزمان من يكون تدبيره أن يفصل الشىء على سبعة فصول وما فوق ذلك من العدد. ولقد سمعت 〈من〉 بعض منتحلى هذا العلم من أهل الزمان أنه فصل من الشعر أنواعاً كثيرة يشبه كل نوع منها ببعض الأملاح والجواهر كالنوشادر والمرقشيثا والزاجات. فيقول الفيلسوف إن ذلك غير نافع إذ كان المراد رد الشىء إلى التساوى، لا تفرد الأركان.

قال أفلاطون: ويصعب عليك العمل فى الرد إلى البسيط. فأما 〈فى〉 الابتداء الثانى فإن الطبيعة هى المعاونة لك.

قال أحمد: إن هذا القول من الفيلسوف كاشف عما يخبر فيه الكثير من منتحلى هذا العلم، وذلك أنه يختلط عليهم الرأى فيه، فيرون أن التدبير فى الابتداء الثانى يصعب كصعوبة العمل فى الرد إلى مشاكلة البسيط. فيرى الفيلسوف خلاف هذا الرأى. ورأيه الصواب، لأنه إنما صعب التدبير فى الرد إلى التساوى لأنه عمل فى دار الطبيعة مضاد للطبيعة. فأما الابتداء الثانى فالطبيعة مشاكلة لقربها منه.

قال أفلاطون: وإذا أقمت كل نوع من أجزاء العمل على ما يجب أن تقيمه فرد الروح على الجسد وصاعده فإنه يصعد.

قال أحمد: إن الروح إذا رددته على الجسد بعد التدبير إذا صاعدته صعد الجسد معه، لا بالتشبث، بل بقوة الروح لأن الروح حينئذ يحمل ما قرب منه، فكيف ما جاوره! وهذا التصعيد يجب أن يكون بالحرارة اليابسة المشاكلة للروح. فأما إن أودعته الرطوبة فإنه يفارق الروح بكلية العمل ويبقى الجسد. وهذا من أعظم الدليل أن الصعود ليس من أجل التشبث.

قال أفلاطون: وما يصعد عند ذلك جوال رجراج غير مخالط للأركان.

قال أحمد: إن هذين الجنسين إذا رد بعضهما على بعض وصعدا فإنه يكون تركيبهما لا كتركيب الطبيعة ويقومان كهيئة الزئبق لا يخالطان شيئاً من الأركان إلا بعد مشقة.

قال أفلاطون: فرد عليهما بعد ذلك المخصوص بالنفس — إلى أن قال: فإنهما يمتزجان.

قال أحمد: إن الفس للطفها تخالطهما لا اختلاط مداخله، بل اختلاط تقوم البعض بالبعض.

قال أفلاطون: والنفس قيد الروح، كما أن الجسد قيد النفس.

قال أحمد: إن هذا الشىء إذا رد إلى التساوى لا يكاد يثبت فى دار الطبيعة. وهذه الثلاثة الأقسام — أعنى بها: المخصوص باسم الروح والمخصوص باسم النفس والمخصوص باسم الجسد؛ فإنه وإن كان قد رد كل واحد إلى التساوى فألطفها وأغزرها الروح، ثم النفس، ثم الجسد. فالنفس تضبط الروح، كما أن الجسد يضبط النفس.

قال أفلاطون: وليس القيد كقيد الطبيعة، بل كالمركب.

قال أحمد: إنى قد أخبرت فيما تقدم أن الاختلاط الذى يقع بعد لا يقع فيه من التشبث ما يقع فى تركيب الطبيعة، لأن تركيب الطبيعة يداخله الأضداد، وهذا تركيب بائتلاف.

قال أفلاطون: وإذا بقى مدةً من الزمان فإنه يغلب فيه الأقوى حتى يحل الكل.

قال أحمد: قد آن للطالب، مع تكريرى القول، أن يقف على ذلك من غير هذا الإخبار. وذلك أن من القضايا المعقولة فى هذا الكتاب وفى غيره من الكتب أن الأشياء واحدية الأصل؛ وأن كل ما جاور شيئاً أو خالطه استحال الأضعف إلى الأقوى. فلما كان التدبير قد أتى على الجسد حتى لطفه وصيره قابلاً، والروح والنفس أيضاً كذلك، وجب أن تستحيل النفس روحاً، والجسد — بالمرقاة التى هى النفس — روحاً أيضاً إذا أحكمها تساوياً من الثلاثة الدرج وقد وجد ما يقبله ويشاكله.

قال أفلاطون: وهو إذا استمكن من القيد لا يثبت — إلى أن قال: فزاوجه حتى يولد مثله.

قال أحمد: إن الروح إذا أحال الجسد والنفس جميعاً حتى يقوما كهيئته فإنه لا يثبت

فى دار الطبيعة دون أن يشغله. وشغله أن تزاوجه من الجسد الذى منه دبرت فى البدء فإنه يشتغل بقلبه عن ماهيته إلى ذاته عن الذهاب.

قال أفلاطون: فيلحقك مع الضبط كفاية المؤونة فى العود إلى العمل.

قال أحمد: من المستفيض عند منتحلى هذا العمل أن من دبر العمل مرة واحدة فإنه مستغن عن العود إلى العمل. فيرى من لم يتدرب فى العلوم العلوية أن ذلك إنما هو أن الشىء القليل يقلب الكثير من الجسد عن ماهيته إلى المراد باقتصاره على ما دبر مدة زمانه؛ وذلك بخلاف هذا. وهو ما أخبرنا به الفيلسوف، لأن الروح إذا أحال الجسد والنفس حتى يقوما كهيئته إذا جمع بينه وبين الجسد الذى كان منه بدء العمل فإنه لا يزال يؤثر فيه حتى يقلبه عن ماهيته إلى ذاته حتى يقيمه كهيئته. فالعامل مستغن بهذا العمل من الروح عن العود؛ وكذلك الفادح ناراً مستغن عن الزناد ما بقى عنده النار.

قال أفلاطون: ويتبرم بكثرته حتى يضطر إلى التخلية عنه فى كل مدة.

قال أحمد: إن هذا الشىء إذا أحال مثله أو غيره من الجسد الذى كان منه، كان زائداً فى كميته. فلا تزال الزيادة تنتهى إلى حد يتبرم بها العامل فيضطر إلى تخلية بعضها إذ قد استغنى بالقليل الذى يبقيه، سيما وهو يعلم أن الزمان يبلغ به فى الزيادة إلى ما يريد، إذ هو كالشريرة من النار فى الفعل.

قال أفلاطون: ولا تزاوجه بما تريد أن تحيله إليه إلا بما كان منه فى البدء — إلى أن قال: فإن فعلت ذلك صار إكسيراً للذى تزاوجه؛ ولذلك قد فات أكثر العاملين مرادهم بعد الفراغ من العمل بما بخسوا من الوقوف على هذا السر.

قال أحمد: إن هذا الفصل من كلام الفيلسوف السر الأعظم من أسرار الفلسفة فى هذا النوع، وهو الذى يتم به للعامل ما يريده. ولقد أنظر فى كتب من تقدم الفيلسوف أفلاطون من العلماء بهذا النوع من العلم فأجد الكل قد أومأ إلى جميع ما يحتاج إليه فى العمل، إن لم يكن بالتصريح فبالإشارة — ما خلا هذا السر العظيم. وأنا أرى أن من فاته هذا السر ثم قبل ما تقدم من القول فى أنواع هذا العلم فليس قبوله ذلك بمعرفة

ولا علمه بحقيقة، لأن بمعرفته هذا السر يجب أن يصح عنده كون مراده؛ وإذا غبى عنه هذا السر فخصمه يدحضه ويفلجه فى بطلان ما يدعيه. فلو أن قائلاً قال: قد قبلت قولك فى كل ما تدعيه من الكلام فى أولية الأشياء وواحدية ذاتها فى الأصل وتغايرها بعد ذلك من أجل التركيب فما حجتك بعد فى قلبه الفضة ذهباً والنحاس فضة وغير ذلك من الأجساد السخيفة عند أهل العلم إلى هذين الجسدين الكريمين عندهم — فكيف لا يقلب الذهب والفضة إلى الأجساد السخيفة؟ وهل الذهب والفضة إلا من الطبائع المركبة، فكيف شاكلهما القريب من البسيط؟ — لكان قد ألزمه الحجة وأبطل عليه الرأى إن لم يدفعه عن نفسه ورأيه بما قد أنبأنا به الفيلسوف فى هذا القول. وسأتولى جواب هذا الخصم، إذ فيه الكشف عن قول الفيلسوف وهو أنى أقول: إنا لم ندع فى العمل مشاكلةً بينه وبين الذهب والفضة ولا مضادةً، إذ الشىء إنما هو شكل البسيط؛ وإنما عمله قلب الأشياء عن ماهيتها. فلو ألقيته على الفضة أو على الذهب أو سائر الأجساد، ما كان يحيل الجسد إلى جسد غيره، بل كان يميله إلى طبعه. بلى! إذا ألقى الجسد الملقى عليه الإكسير على جسد آخر قلبه إلى جنسه. والمثال لذلك أن يلقى بعض العمل على الفضة فلا يغيره عن ماهيته دون أن تحدث فيه قوة فتقوى على قلب الشىء، إذ ليس هو — أعنى به العمل — بينه وبين سائر الأجساد من المشاكلة ما ليس له مع الآخر. فإذا ألقيت هذه الفضة المعمولة على سائر الأجساد اقلبها فضة إذ قد صارت إكسيراً ثانياً مشاكلاً لجوهرية الفضة. وكذلك إن ألقيته — أعنى العمل على النحاس — صار هذا النحاس قالباً لسائر الأجساد إلى جوهرية النحاس. ولذلك قال الفيلسوف وأمر أن يكون ما يشغل به العمل عن الذهاب الشىء الذى دبر منه العمل، فإنه لقرب عهد العمل بمثل تركيبه وشكله يحيله بكليته حتى يقيمه كهيئته. فأما أن يكون ما يشغله به عن الذهاب ما لا يجانسه فإنه لا يقوى على كل الاستحالة والقلب فيه، فيصير ذلك الشىء إكسيراً لنفسه: إن كان نحاساً كان الشىء الذى يقلب الذهب والفضة وسائر الأجساد نحاساً؛ وإن كان فضة كان

الشىء الذى يقلب الأجساد فضة — وكذلك سائر الأجساد هذا سبيلها. وذلك أن الشىء — أعنى به ال عمل — إذا داخل الجسد الذى يخالفه فى البدء أحدث فيه شكله الذى هو قلب الأشياء ولم يقدر على نهاية استحالته؛ فيكون حينئذ الجسد الذى قد خالط العمل قد حوى مع القوة على الاستحالة والقلب إلى طبعه فى أوان جسدانيته. فهو يقلب الأشياء بالقوة التى ألبسته إياه العمل، ويكون قلبه إياه إلى ذاته لما قد بقى فيه من قوة الطبع الجسدانى.

وقول الفيلسوف: إن من الناس من عمل وفرغ وحزم المراد — فإن ذلك إنما أتى من جملة هذا الفعل. وذلك أن الذى قد فرغ من العمل إذا ألقاه على بعض الأجساد فلم يظهر له فيه ما يريده وجهل أن الواجب إلقاؤه على الجسد الذى يريد أن يتولد له مثله، ثم يلقيه بعد ذلك على سائر الأجساد — فقد يحس عند الفراغ من العمل نيل غرضه.

قال أفلاطون: واجعل ما تلقيه من العمل القليل على الكثير حتى لا يبلغ به إلا حد الإكسيرية لنفسه دون ما سواه.

قال أحمد: إنك إن ألقيت الكثير من العمل على القليل من الجسد فربما غلب العمل بكثرته على الجسد فنقله من حد الإكسيرية لجوهره إلى شكله فى كل الجهات، فيصير المحل الذى لا يكون بينه وبين الأجساد مشاكلة فلا يولد له حينئذ جنسه.

قال أفلاطون: وما فاتك بالرأى يوشك أن لا يفوتك بالامتحان.

قال أحمد: من لم يؤده الرأى إلى مراده والوقوف على ما يقصد إليه فإن الامتحان يرده إلى ذلك.

قال أفلاطون: واعلم أنك قد نلت الأمر العظيم بما ولدت، لأنه على السبيل الذى رتبنا مقو لكل شىء ومولد له.

قال أحمد: عظم الفيلسوف هذا الأمر وفخمه؛ وليس تعظيمه إياه لما يدرك به من

متاع الدنيا فى تولد هذين الجسدين — أعنى بهما الذهب والفضة — بل لما قد أدرك من العمل الموازى لعمل العلويين ثم ما يقدر به من تولد الأعضاء الساقطة فى الحيوان وإصلاح الحواس الفاسدة والأعضاء، إذ هو إذا جمع بينه وبين شىء من الأعضاء أو أحد الحواس فإنه حينئذ يولد فى أى عضو تريد، إذا دبرته بالتدبير الذى قد مثله لك الفيلسوف.

قال أفلاطون: وإنك إن ألقيت القليل منه على الجسد الكبير فإنه حينئذ يصير فى مدة من الزمان، ذروراً أنت مستغن عن ضبطه.

قال أحمد: إن ألقيت شيئاً من العمل على جسد من الأجساد وكان القليل على الكثير فإنه إذا استمكن مثله يقلب الجسد ذروراً، لونه لون الجسد الذى ألقيته عليه. وهذا الذرور. إكسير يقلب جنسه. ولقد رأيت ذروراً يقلب الفضة ذهباً أوضح عندى أنه ليس من عمل أهل الزمان، بل شىء بقى من عمل تلامذة أفلاطون. وربما وقع القليل منه فى يد بعض المخادعين فيعرضه على من يريد أن يستفزه ويعلمه أن ذلك من عمله حتى يصل منه إلى ما يريد.

قال أفلاطون: وقد مثلت لك ما يستغنى به ذو الرأى، ولا ينتفع بأضعافه الخلو منه.

قال أحمد: إن فى دون ما أخرجه الفيلسوف فى هذه الكتب ما يكتفى به من كان له فى الفلسفة أدنى حظ. ولو أطال الكلام مدة أيامه وكرر القول وبذل المجهود منه فى إفهامه ذلك الخلو من الرأى ما قدر عليه، إذ من المستحيل قبول الشكل إلا شكله.

قال أفلاطون: وهو الحيلة فى تولد الرأى فى الخلو منه — إلى أن قال: إذ من شأنه أن يقوى شكله.

قال أحمد: إن الرأى الصواب من جنس البسيط والعمل يولده فى الإنسان ويقويه فيه، وهو مقو للروح إذا دبر كالإكسير. فأما ما قبل ذلك فهو كما قدمت جاذب.

قال أفلاطون: واليواقيت والجواهر فتدبير بطىء — إلى أن قال: فاللحمانى سبيلها سبيل الحيوان.

قال أحمد: إن الفيلسوف قد تكلم فى هذا الكتاب فى أنواع الجواهر واليواقيت. إلا أنى حذفت ذلك من هذا الكتاب وأخرجته فى كتابه فى الجواهر، لعلمى أن من أدرك عمل الأجساد ونفذ تدبيره فيها، فإنه لا يخفى عليه الاحتيال فى الجواهر؛ وقوله: «اللحمانى» إنما يعنى به الجوهر اللحمانى الذى هو اللؤلؤ، ويذكر أنه يجب أن يحتال فى توليدها كما يحتال فى توليد الحيوان، إذ هو من جنسه.

قال أفلاطون: واعلم أن التفاوت إذا رددته إلى ما هو أشد تساوياً منه فإنه يكون له الثفل الكثير.

قال أحمد: إن الذهب والفضة أشد تساوياً من سائر الأجساد، وهى أقل عكراً. فإذا ألقيت أكسير الذهب والفضة على سائر الأجساد فإنما يقلب الصافى ويرد أكثرها ثفلاً كهيئة الرماد.

قال أفلاطون: ومن علم غرضنا فى المقصود وسار بسيرته فقد أدرك واستغنى.

قال أحمد: أجل ! من علم ذلك فقد أدرك واستغنى عنه. وكان الشيخ أفلاطون فى سيرته، إذ هو عند ذلك طالب للتخلص.

قال أفلاطون: ومن علم علم أن بعض قولنا من مصائد الطبيعة.

قال أحمد: لولا أن الفيلسوف غطى هذا القول — فلا يسعنى أن أخالف مذهبه وسيرته — لكنت أكشف من ذلك ما يقمع الطبيعة وينافرها. إلا أن الفيلسوف لخوفه من هرب الطبيعة احتال فيها بحيل الحكماء، وسار فى مجاذبتها بسيرة الرحماء.

قال أفلاطون: فهو مصباح الحكيم يسير به كالنور الساطع. وأما أبناء الطبيعة فيخبطون فى بيداء مظلمة لا يتبين لهم المصباح وقد خلوا منه.

قال أحمد: سبيل هذا القول ما تقدم من القول الذى يجب أن أتبع فيه أثر الفيلسوف. وهو آخر كلام الفيلسوف فى هذه الكتب.

***

ويعلم واهب الحياة الأبدية أن غرضى كان فى تفسيرى كلام الفيلسوف فى هذه الكتب غرض الفيلسوف فيه. وقد تجاوزت الكثير من كلامه صفحاً للاستغناء عنه بما أخرجت. وكل رأى تكلم به الفيلسوف فى أحد كتبه ثم أعاده فى الآخر — احتياطاً منه للطالب — فإنى حذفته اجتناباً من الإطالة الداعية إلى الغلط، ولم 〈يكن〉 ذلك إلا بمقدار من الكشف كان من فهمه مستحقاً لإدراكه؛ ولولا قلة ثقتنا بالزمان وأهله لأخرجنا الأعمال التى نقلت بأهون السعى للأجساد، فيتوفر منها حظ الطالب. لكنه لما مال أهل الزمان إلى الطبيعة وما يوفر عليهم ما يليهم وحادوا عن طلب السرور الأبدى والفرح التام — لم يسعنا إعانتهم على ذلك.

وأنا أسأل الله المدبر للكل أن يجعل ثوابى فى إخراجى ذلك مخرجاً يضمنه الفيلسوف فى العاقبة لمن كان مدة أيام حياته قائماً على العدل.

][ تم الرابوع الرابع من أرابيع أفلاطون. وتم به الكتاب. والحمد لله وحده ][