al-Ruhāwī: Adab al-ṭabīb (Practical Ethics of the Physician)

Work

al-Ruhāwī, Adab al-ṭabīb
English: Practical Ethics of the Physician

Text information

Type: Original (Arabic)
Date: between 880 and 930

Source

J. Christoph Bürgel. "Kitāb adab al-ṭabīb taʾlīf Isḥāq ibn ʿAlī al-Ruhāwī", unpublished, 1992

بسم الله الرحمن الرحيم وعليه توكلى وبه نستعين.

قال جامع هذا الكتاب ومؤلفه: إن أناسا من الأطباء — أيها الحبيب، أسعدك الله ببلوغ مطلوباتك، وأعانك على درك الحق — حين جهلوا أصول صناعة الطب، وفاتهم درك فروعها، وقصروا عن تأمل الصواب فى طرقها، خرجوا إلى الحيل والتلبيس، حتى أفسدوا محاسنها، وأساؤا سمعة أهلها، وكانوا بمنزلة بنائين راموا إصلاح تشعيث دار قد بنيت أتقن بناء، وأحكمت أحسن إحكام، وأعد فيها ضروب المصالح والمنافع، فجعلوا يسعون فيها، محجوبة أبصارهم عن مواضع الفساد، لجهلهم بمعرفة ما فيه بنيت الدار، وسوء تحصيلهم نظمها، وأحكام هيئتها. فإنهم لما عميت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل لكونها، صاروا يجولون كالحيارى، لا يفهمون مواضع الفساد، ولا مواقع علله. وربما رام الواحد منهم الإصلاح لشئ يجهل سببه، فيسرع إلى إفساده وهدم أساسه، كالذى أقدمت 〈عليه〉 وجاهرت به الطائفة من الأطباء الذين رأيتك تذمهم وتوبخهم، وأشباههم من أهل القحة والإقدام على ما لا يعلمونه، فحق على من أنعم الله عليه بمعرفة، ووفقه لتأصيل هذه الصناعة، أو حلها والوقوف على ما فيها من لطيف التدبير وصواب التقدير، ألا يقصر فى إظهار مابلغه علمه من ذلك، بل يجتهد فى نشره وإذاعته، ليقوى به نفوس أهل الحقائق ويجتنب به سوء العمل فى تدابير الأصحاء والمرضى، محتسبا للثواب فى ذلك، واثقا بمعونة الله تعالى، وتأييده إياه.

وقد تكلفت جمع ما قدرت عليه من الآداب التى ينبغى للطبيب أن يؤدب بها نفسه، والأخلاق المحمودة التى ينبغى أن يقوم بها طبعه. وذكرت طرفا من التدابير التى ينبغى أن يدبر بها جسمه، والأفعال التى يجب أن يفعلها بذاته أولا، والأفعال التى يفعلها بالأصحاء والمرضى، وجملا من الأفعال والوصايا والتدابير التى ينبغى له أن يتقدم بها إلى المريض وخدمه ومن يتولى مصالحه، وجعلت جميع ذلك مقالة أولى من هذا الكتاب. ثم جمعت فى المقالة الثانية ما يجب على المريض أن يكون عليه من القبول، لتنصلح أخلاقه لنفسه ولطبيبه ولخدمه، فيتم بذلك صلاح جسمه. وذكرت فيها

أيضا واجبات ولوازم تدعو الحاجة إليها فى صلاح الأصحاء والمرضى، من قصص وأخبار يتأدب بها سائر الناس كافة والأطباء خاصة. وأنا أميز كل صنف من هذه المعانى فى باب، ليكون الكتاب أبوابا، فيسهل بذلك على طالب المعنى مطلبه، ويقرب مأخذه. والأبواب عشرون بابا. ويجب أن نعددها أولا، وما يتضمنه باب باب، ثم نأخذ فى شرحها بعون الله وتأييده.

الباب الأول: فى الأمانة والاعتقاد الذى ينبغى أن يكون الطبيب عليه، والآداب التى يصلح بها نفسه وأخلاقه.

الباب الثانى: فى التدابير التى يصلح بها الطبيب جسمه وأعضاءه. وهو باب يشتمل على واجبات كثيرة، فلذلك يجب أن يميز أقوالا مفصلة.

الباب الثالث: فيما ينبغى للطبيب أن يحذره ويتوقاه.

الباب الرابع: فيما يجب على الطبيب أن يوصى به خدم المريض.

الباب الخامس: فى أدب عواد المريض ومتفقديه.

الباب السادس: فيما ينبغى للطبيب أن ينظر فيه من أمر الأدوية المفردة والمركبة، وكيف ينبغى أن يحذر مما قد فسد منها بغير قصد، أو بقصد من الصيدنانى وغيره ممن يتولى حفظها وتدبيرها.

الباب السابع: فيما ينبغى للطبيب أن يسأل عنه المريض وغيره.

الباب الثامن: فيما ينبغى للأصحاء والمرضى جميعا أن يعتقدوه ويضمروه للطبيب فى وقت الصحة، ووقت المرض.

الباب التاسع: فيما يجب على المريض إبرامه من قبوله لأمر طبيبه ونهيه، وما يؤول إليه حاله عند خلافه له.

الباب العاشر: فيما ينبغى أن يعمله المريض مع أهله وخدمه.

الباب الحادى عشر: فيما ينبغى أن يعمله المريض مع عواده.

الباب الثانى عشر: فى شرف صناعة الطب.

الباب الثالث عشر: فى أن الطبيب يجب له التشريف بحسب مرتبته من صناعة الطب من الناس كافة، ولكن تشريفه من الملوك والأفاضل يجب أن يكون أكثر.

الباب الرابع عشر: فى نوادر جرت لبعض الأطباء، بعضها من جنس تقدمة المعرفة. وهى تحث الطبيب على تعرف طرق الإنذار، وبعضها مستظرفة تبعث الطبيب على اختبار تحصيل من يشاوره قبل مشورته عليه، لئلا ينسب فساد — إن جرى — إلى الطبيب.

الباب الخامس عشر: فى أن صناعة الطب لا يصلح أن يعملها كل من التمسها، لكن اللائقة بهم فى خلقهم وأخلاقهم.

الباب السادس عشر: فى محنة الأطباء.

الباب السابع عشر: فى الوجه الذى به يقدر الملوك على إزالة الفساد الداخل على الأطباء ومن جهتهم، والمرشد إلى صلاح سائر الناس من جهة صناعة الطب، وكيف كان ذلك قديما.

الباب الثامن عشر: فى التحذير من خدع المحتالين من الذين يتسمون باسم الطب، والفرق بين خدعهم والحيل الطبية.

الباب التاسع عشر: فى العادات المذمومة التى قد اعتادها كثير من الناس، وهى تسوق إلى الإضرار بالأصحاء والمرضى، وإلى ذم الأطباء.

الباب العشرون: فيما ينبغى للطبيب أن يذخره ويعده من وقت صحته لوقت مرضه، ومن زمان شبابه إلى زمان شيخوخته.

الباب الأول فى الأمانة والاعتقاد الذى ينبغى ان يكون الطبيب عليه، والآداب التى يصلح بها نفسه واخلاقه

أما بعد الحمد لمن لا تبلغ الألسن غاية حمده، ولا تنال العقول نهاية مجده. فإننى لما فكرت فى مسألتك، أيها الحبيب — أسعدك الله بدرك الحق وأنار لك طرقه — وجدت الجواب عنها يقتضى أغراضا كثيرة، ويلابس معانى جليلة، عظيم نفعها لجميع من يرتسم بصناعة الطب، وأحب تعلمها، لما يرسم فى نفسه من الآداب العقلية، والوصايا الطبية التى اجتهدت فى جمعها من مقالات القدماء، وآداب الفضائل.

وأيضا فإن نفعها عام شامل لسائر الناس ممن له عقل وتحصيل، لما يربه من فضيلة أدبه، إن كان ذا أدب، ولما يبعثه ويحثه على التأدب، إن كان محبا للأدب، أو لما يخجله ويعرفه دناءة نفسه بين أهل العلم والأدب، إن كان عادلا عن محبة الأدب، وخاصة إن كان ممن قد نصب نفسه قاضيا على النفوس، وحاكما على الأجسام، ويتولى طبها وتدابيرها. فإن الخصال اللائقة بالحاكم، هى أو أكثرها لائقة بالطبيب أيضا. وقد قال أرسطاطاليس: تفقد من الحاكم أربع خصال: أن يكون حسيبا وأن يكون عالما وأن يكون ورعا وأن يكون غير عجول. وقال: إن الحاكم يزين الحكم وهو يوحشه. وإذا نقلت هذه الأقاويل إلى الطبيب، وجدتها به لائقة وعليه واجبة، إذ الطبيب حاكم فى النفوس والأجسام، ولا يشك أحد فى أن النفوس والأبدان أشرف من الأموال. فلذلك ينبغى للطبيب أن يأخذ نفسه بالآداب والعلوم النافعة له فى صناعة الطب، وبغير شك أن من لم يحط بما نذكره واطرحه، سيخجل إن كان له أدنى حس، وإن يكون له مع الحس يسير من العقل، فإنه سيستحى من الله جل ذكره الذى أنعم على الناس بصناعة الطب، ومنحها أفاضل يستحقون تعلمها، يخافونه ويرهبونه قبل الإقدام على علمها، فضلا عن العمل بها. وسيرى هذا المجترئ على الله وعلى أهله أن مزاحمته لهم، ودخوله بينهم بغير نصيب منها، قبيح جدا. فإن بعثه خجله على تأديب نفسه وإصلاح أخلاقه، ثم قصد أهلها بلطف وأدب وحسن مسألة، فتعلم منهم وخدم بين أيديهم فى أعمالهم، أمكنه حينئذ اجتماع العلم والعمل أن يحفظ صحة الأصحاء وأن يعالج المرضى. ولعل بعض الجهلة أن يظن أن خدمته لطبيب ما مدة من الزمان فى دكانه، ومعرفته ببعض الأدوية

المفردة والمركبة، أو الفصد وما ماثله من أعمال الصناعة، وأخذه لذلك وتعرفه له من كناش أو أقراباذين، قد كفاه وأغناه عن قراءة كتب صناعة الطب، وتعرف أصولها وقوانينها. فليس ذلك إلا سوء حظ له ولمن يدبره، لأن ما علمه مما ذكرناه، إن لم يعلم أين يضعه من الجسم، وفيمن يجب استعماله، ومتى وأين من الأماكن، وبأى الحالات والمقادير، كان إلى أن يمرض الأصحاء، ويقتل المرضى، أقرب من أن يحفظ الأصحاء ويشفى المرضى.

فعلى جميع الوجوه والأسباب يجب أن أسارع إلى إجابتك فيما سألته، والله بكرمه المعين على جميع الخيرات. وبعد ما قدمته، أقول: إن أول ما يلزم الطبيب اعتقاده صحة الأمانة، وأول الأمانة اعتقاده أن لكل مكون مخلوق خالقا مكونا واحدا قادرا حكيما فاعلا لجميع المفعولات بقصد، محى مميتا ممرضا مشفيا، أنعم على الخلائق منذ ابتداء خلقهم بتعريفهم ما ينفعهم ليستعملوه، إذ خلقهم مضطرين وكشف لهم عما يضرهم ليحذروه، إذ كانوا بذلك جاهلين. فهذه أول أمانة واعتقاد ينبغى للطبيب أن يتمسك بها، ويعتقدها اعتقادا صحيححا. والأمانة الثانية أن يعتقد لله، جل ذكره، المحبة الصحيحة، وينصرف إليه بجميع عقله ونفسه واختياره. فإن منزلة المحب اختيارا أشرف من منزلة الطائع له خوفا واضطرارا. والأمانة الثالثة أن يعتقد أن لله رسلا إلى خلقه، هم أنبياؤه، أرسلهم إلى خلقه بما يصلحهم، إذ العقل غير كاف فى كل ما يصلحهم، دون 〈أن يرسل〉 من رسائله ما شاء وكيف شاء فى الوقت الأصلح، كما اختار من الخلق للرسالة الصفوة ممن شاء.

فهذه أصول الأمانات التى يجب على الطبيب أن يستسرها بينه وبين خالقه ويعتقدها اعتقادا صحيحا. فقد دلت القدماء على صحتها، وأتت الكتب المنزلة بها، وشهدت على حقيقتها، ولا يسع ذو شرع الخروج عنها. فليس ينبغى أن تحفل بمن عدل عن هذه الأمانات، ظنا منه ببطلانها، فأزرى على الشرائع، وأظهر التدهر والزندقة، فليس ذلك منه إلا جهلا يسوقه إلى الهلاك وسوء العاقبة. فإن دعتك نفسك إلى أن تختبره، لينكشف لك جهله، فسله عما اعتقده، لم اعتقده، ولم عدل عن اعتقاد الكافة وأهل شرعه! فإنك من مبتدأ جوابه تستدل على حيرته وسوء عقله. ولعله أن يكون فى ذلك مقلدا لمن كان يصحبه ممن كان يذهب ذلك المذهب، ويعتقد ذلك الرأى، ميلا إلى الرخصة وخلع العذار، وشوقا إلى بلوغ اللذات، ولم يزل هواه يغلبه، ولذاته تغره، حتى انطمست عين عقله، وعميت عن النظر الصحيح فيما يصلحه ويرشده إلى المذهب الحق، والرأى الصحيح. ودائما ذلك دأبه، والجهل يستحكم عليه 〈إلى〉 أن يؤدى إلى هلاكه فى دنياه وآخرته. ومع ذلك، فإنه سيكون سببا لهلاك من يصحبه من الأغراء، فتكون منزلته منزلة

أصل الشوك الذى كلما كثرت فروعه، عظم ضرره، وعسر قلعه، فلا يستأصله إلا نار قوية تهلك الفروع والأصل معا، إذ يسقط فى الأرض من البزر ما يكون منه خلف. كذلك يكون الضرر أعظم كثيرا ممن اعتقد هذه الآراء، و〈تكون〉 الآفات على الناس أشد، والبلاء أكثر من الأحداث والجهال التابعين لهم، لميل الأحداث إلى اللذات، وسرورهم بالرخصة وقلة الكلفة. فهم بذلك يبيحون المحرمات، ويستحلون المحظورات، فقد أحاط منهم بالتابع والمتبوع نار لا تطفأ، وعذاب لا يفنى، بسوء ذكر فى الدنيا، وأليم عذاب فى الآخرة.

والشقى المغرور من هؤلاء الأحداث، الكبير العجب بالحقير من دنياه، الكافر بنعم مولاه، لو تيقظ من نومته، وصحا من سكرته، ففكر فى خلق ذاته وبقائه، وثباته مع تضاد أسطقساته، وتعادى أخلاطه، مدة حياته، وإتقان أوصاله، وإحكام هيئته، لكفاه ذلك دليلا على وجوب علته، وكان منه أوضح برهانا على وحدانية خالق الكل وقدرته وحكمته. وإذا كان هذا المخدوع قد عمى عن هذا الطريق وجهله، فقد كان له عدة أدلة من طرق أخر غيره. منها تأمله لنوع نوع من الموجودات، كعجائب ما فى الأرض من معادنها وأحجارها ونباتها وأشجارها، وما على وجهها من أصناف ماشيها وسائحها، وسابحات الماء، وطائرات الهواء، وما به تم كل نوع من هذه، من فضوله وخواصه المقومة لأفعاله. فإنه قد كان يكتفى فى الاستدلال على ما قدمناه من صحة تلك الأمانات، وحقيقة ما ذكرناه من الاعتقادات ببعض هذه الطرق، إذا سلكها فى استدلاله سلوكا مستقيما.

فأما إن فاتته هذه الأدلة، وأخطأ هذه الطرق، فقد كان له من الأدوية النافعة لعماه قراءته فى كتب الشرائع الحاثة على الخيرات، الآمرة بالصالحات، الباعثة على النافعات، مقومة الأخلاق، ومعدلة الأفعال، معدن الآداب والفضائل التى قد خاب من جهلها، وعظمت خسارة من عدل عنها، و〈عن〉 أخذ نفسه بامتثال أوامرها، واتباع سننها.

ولذلك وصى أرسطوطاليس للأسكندر بهذه الوصية، فقال: خذ نفسك بإثبات السنة، فإن فيها كمال البقاء! وأيضا فليقل لمن فاتته هذه الطرق، وعدم هذه السعادات: إن مما يرجى له الشفاء من عماه، والتخلص من حيرته، قراءته فى كتب العقلاء من المتقدمين الذين قد أجهدوا أنفسهم بالطرق العقلية، والقوانين القياسية فى إصابة الحق، ودركه. فإنه قد كان يجد فيها من فصيح الأقاويل، وواضح الأدلة على وجوب الإقرار بالبارئ تعالى، وعلى وحدانيته وقدرته وحكمته ووجوده، والإقرار برسله وشرائعه، والثواب والعقاب، ما لو جمع لكثر وطال وثقل محمله. ولكن لا بأس بإثبات اليسير من ذلك، لما أرجو به من النفع لمن التمس الحق، والتوبيخ والإخجال لمن عدل عنه إلى الآراء

الرديئة، والمذاهب المفسدة.

وينبغى أن أقدم من القول فى هذا المعنى أقاويل الفلاسفة، وأبدأ منهم بأقاويل أرسطوطاليس، ثم أتبع ما قالته الفلاسفة ببعض ما قالته الأطباء. وأظهر أقاويل أرسطوطاليس وأوضحها فى ذلك ما صرح به فى كتابه الذى عنونه ﺑ «كتاب ما بعد الطبيعة»، وخاصة فى «مقالة اللام» منه، قال: إن الذى لا مكان له أصلا ولاتحويه نهايات الأجسام، كما يحوى جميع الأشياء التى فى المكان هو الله حقا.

وقال أرسطوطاليس أيضا فى موضع آخر من هذه المقالة: فإنه من الصواب والحق أن يعتقد أن ذلك الشئ المعقول مفرد عن الجواهر جميعا، حتى لا يوجد بينه وبينها مشاركة البتة، لا فى الطبع ولا فى عرض من الأعراض، وهو الله تعالى. ثم قال: وغرضنا إنما هو الكلام فى هذا الشئ الأعظم، أعنى الأول الذى لا يتحرك، وهو الله الحق. وقال أيضا: المحسوسات واقعات تحت حس البصر، منها الأجسام السماوية، والأجسام الأرضية من الحيوان والنبات، وأمرها بين. وأما الفاضل الأول، فهو الذى هو غير متحرك، الأزلى الأبدى. وقال أيضا: وذلك أنه ليس بينه وبين ما هو دونه من الجواهر مشاركة فى شئ من الأشياء أصلا، لا فى تغير من كل التغير، ولا فى مكان، ولا فى نمو، ولا نقص، ولا يجمعهما أيضا مبدأ واحد عنه حدثا، لكن البدء الأول الذى هو الله لا مبدأ له أصلا، وكل ما هو دونه، فمبدأه منه.

ومن أقاويله التى صرح فيها بضرب من ضروب النبوة قوله فى الطبيعة هذا القول، قال: وليس بعجب أن تكون الطبيعة، وهى لا تفهم، منساقة بما تفعله إلى الغرض المقصود إليه، إذ كانت لا تروى ولا تفكر فى فعل ما تفعله. قال: وهذا مما يدلك على أنها ألهمت إلهاما تلك النسب من سبب هو أكرم منها وأشرف وأعلى مرتبة. ولذلك صارت تفعل ما تفعل منساقة نحو الغرض، وهى لا تفهم الغرض، كما قد ترى القوم الذين يلهمون أن يتكلموا بكلام ينبئون به، كما يسألون عنه قبل أن يكون، فهم لا يفهمون العلة فيما يقولون

وقال أيضا: فالصانع لهذا العالم، ولترتيبه، وهو الحق الأول، وله العلم المحض فى الغاية القصوى، وعن علمه يكون ترتيب الأشياء ونظامها، وإلى الاقتداء به يشتاق. وقال أيضا بعد كلام طويل: فقد تبين من هذا أن الله يعلم ذاته، ويعلم بذلك جميع الأشياء التى هو مبدأها، وأحوالها وتصرفها، ويعلم ذلك كله معا. وقال أيضا فى كتاب سمع الكيان أقاويل كثيرة من هذا الفن، غير أنى أكتفى منها بقول واحد قاله فى المقالة الثامنة منه، قال: ليست الخليقة، يا هذا، غير مهيأة مفعولة، وإنها

لحسنة التهيئة والفعل. وإذا كانت فيها تهيئة، فقد اضطرت أن تكون بإرادة وقدرة عليها نعت واحد، وإن الذى لا منتهى له، ليس له نعت واحد، ولا حد.

وأما فلاطن، فإنه تكلم فى النفس فى الكتاب المنسوب إلى فادن فى النفس، وأطنب فى وصف الثواب والعقاب والحساب فى الآخرة، وطبقات الثواب والعقاب بعد الموت، مما يطول إعادته، ولكن نذكر منه طرفا. قال سقراط: أظنك، يا قابس، لم تفهم عنى بعد. قال قابس: لا والله واهب الحياة فما فهمت عنك على ما ينبغى. قال سقراط: فانهم عنى، فإنى مستأنف بك قولا مجددا. ثم قال سقراط بعد أن قال: فإن سلمت لى بهذه الأشياء، أوجدتك أن النفس شئ لا يبطل بعد مفارقة البدن؟ قال قابس: فبادر بنتيجتك، فإنى مسلم لك. قال سقراط بعد أن قال: فالنفس غير مائتة، ولا باطلة، بعد مفارقة البدن، قال سقراط: ثبت، يا قابس، أن أنفسنا بعد الموت موجودة، لا فى مدة هذا الزمان الذى تنسب فيه إلى الحياة، بل فى الأبد أبدا. وقال فى موضع آخر: وعند ذلك لا يؤذن فى السرور، فإنه لو كان الموت هو بوار الأمر كله، لكانت هذه هى فرصة الأشرار، إذا ماتوا أن يستريحوا من البدن، ومن همهم مع النفس التى هى فى أبدانهم.

وقال: إن كل واحد من الناس إذا مات، فإن ملكه الموكل به خاصة وهو حى يروم أن يسوقه إلى موضع من المواضع المذكورة فيه، بحيث يحوز المجتمعون فيه على ما لهم وعلى ما عليهم. ثم يقودهم إلى الآخرة قائد من الملائكة، مأمورا بأن يمضى بمن هناك إلى هاهناك. فإذا جوزوا هناك بما يستحقون المجازاة به، ولبثوا بالمكان المدة 〈و〉الزمان الذى يجب أن يلبثوها فيه، ساقهم سائق آخر من الملائكة فردهم إلى ما هناك فى أدوار من الزمان كثيرة، بعيدة المدة، وأخلق بمسير الأنفس ألا يكون كما ذكر أسخيلوس عن طيلافس، فإن ذاك قال: أيها الملك، إنما تسير الأنفس فى طريق واحد مفرد. قال سقراط: لكن الصحيح فيها تشعب فى طرق كثيرة مختلفة. ونحن نقول ذلك على حسب ما يستدل به من الذبائح والأشياء المفترضة فى الشريعة أن نفعلها، فالنفس الذاهبة الكيسة تنقاد لسائقها ولا تجهل ما هى فيه. وأما التى هى مغراة بالشهوات الجسدانية، فإنها، كما قلنا، تبقى مدة من الزمان طويلة تجول متحيرة، تجاذب مجاذبة شديدة، وتلقى أنواعا من الجهد كثيرة. فبالعسر والكف تمضى منقادة للملك المأمور بسياقتها. فإذا انتهت إلى الموضع الذى فيه الأنفس الأخر غيرها،...أما إذا كانت دنسة، فقد فعلت أفعالا دنسة، إما من القتل جورا وظلما، وإما من غيرها إلى ما شابهه، ومما هو من أنفس هى نظائرها، فإن كل ملك قد يهرب منها ويزوغ عنها، ولا يشاء أن يقارنها فى طريق ولا يقودها، وتبقى تتية وهى على غاية الحيرة، إلى أن تنقضى أطوار من الزمان، وعند

انقضائها، تأتى بها الضرورة إلى المسكن الذى هو أولى بها.

ثم ذكر فلاطن فى هذا الكتاب صفة أراض نضرة، منبتة أنواعا من الأشجار الطيبة الروائح، الحسنة المنظر، الرفيعة القدر، وبقاع كثيرة الأنهار الكدرة التى تحوى الطين ذا الروائح الكريهة، والألوان الوعرة، تهوى إلى قعر الأرض، ونيران تسمى الجحيم، وذكر أن الأشرار فيها يعذبون، والأخيار فى تلك يخلدون.

وهذا من كتب فلاطن المشهورة، وإنما اقتصصت ما اقتصصته منها، ليسمعه هذا السيئ العقل، الردئ الحظ، المستخف بشرعه، المباين أهل العقول والأديان بكفره، فيرجع عن جهله وعداوته. وأنا أزيده من أقاويل بقراط وجالينوس ما يزده بيانا.

قال بقراط فى كتاب كون الجنين مقرا بالله تعالى وتكوينه للخلائق قصدا: فإذا امتلأ من الريح، صير الله للريح طريقا فى وسط المنى. وقال أيضا فى كتاب حبل على حبل: المولودين فى سبعة أشهر: فكثير منهم يحيون، لأن الزمان يخلق الله فيه الجنين فى الرحم... وقال أيضا فى كتابه الذى سماه كتاب الوصايا، قال: وأى امرئ أعطاه الله علما يشفى به المريض، وحباه بذلك...وقال فى كتابه فى الإيمان والعهود: إنى أقسم بالله، رب الحياة والموت، وواهب الصحة، وأقسم بأسقلبيوس، وبخالق الشفاء وكل علاج...وأسقلبيوس، هو جده القديم فى الطب. وقال أيضا: وأقسم بأولياء الله من الرجال والنساء جميعا.

وأما جالينوس، فإنه قال فى تفسيره لهذا الكتاب، فى تفسير الفصل الأول منه قال: فأما نحن، فالأصوب عندنا والأولى أن نقول إن الله جل وعز خلق صناعة الطب، وألهمها الناس، وذلك أنه لا يمكن فى مثل هذا العلم الجليل أن يدركه عقل الإنسان، لكن الله هو الخالق الذى هو بالحقيقة، فقد يمكنه خلقه. وذلك أنك لا تجد الطب أخس من الفلسفة التى يرون أن استخراجها كان من عند الله تعالى بإلهام منه. وقال جالينوس فى تفسيره للفصل الثانى من هذا الكتاب، قال: بعد أن أحلف بقراط من يتعلم صناعة الطب بالله تبارك وتعالى، وبمن كان أول من استخرج صناعة الطب، عاد فأحلفه بأولياء الله، من كان منهم يونانيا، ومن كان منهم من غير اليونانيين، ليكون كل واحد ممن يحلف، إذا حلف بأولياء الله من عشيرته، حفظ ما يحلف بسببه حفظا بالغا.

وأما ما قاله جالينوس فى كتبه فى هذا المعنى، فكثيرة نذكر منها يسيرا. قال فى المقالة الخامسة من كتابه فى منافع الأعضاء: وذلك أن بعد همتك وعنايتك لا يلحق بحكمة الخالق

لذلك، وببعد شأنه وعنايته. ثم قال فى قول آخر بعد ذلك: فإنى أرى أن فى ذلك كفاية فى البيان عن آثار حكمة الله تعالى فى الخليقة.

وقال فى المقالة السادسة من هذا الكتاب: وخالقنا، إذ هو حكيم، لا يغيب عن حكمه شئ، فهو لم يخلق فى شئ من الحيوان شيئا باطلا ولا جزافا. وقال فى المقالة السابعة منه فى خلق القلب وتجويفه الأيسر منه: فيجب لنا الشكر له، إذ كان إنما لطف فى ذلك، واحتاط فيه، حتى جعله على ما هو عليه، لكى لا تخمد الحرارة الغريزية.

وقال أيضا: وهذا السر الذى أريد أن أخبرك به ليس بدون تلك الأسرار، ولا ينقص عنها فى الدلالة على حكمة الله وقدرته وعنايته. وقال: وقد أشرفت من لطف الخالق وقدرته فى هذا وغيره على أشياء، أنا مقر بأن طاقتى تقصر عن بلوغ ما يستحقه من الثناء والمديح على حسن تقديره لخلقه الحيوان، وغير الحيوان.

وقال فى التاسعة: لم يخلق الله شيئا مما وصفنا باطلا، ولا عن غير تعمد. وقال فى العاشرة: وجميع ما وصفنا يدل على سابق علم خالقنا، وحكمته العجيبة. وقال: فلما صحت عزيمتى على الإضراب عن شرح كذا وكذا تخفيفا عن المتعلمين، رأيت فيما يرى النائم، بإلهام من الله، طارقا طرقنى يعذلنى ويلومنى، ويقول: لقد ظلمت هذه الآلة التى هيأها الله، ونافقت الخالق تبارك شرح هذا الفعل العظيم الذى يدل على غاية رحمة الخالق بالخلق. فألحق آخر هذه المقالة! ثم قال: أمرنى واحد من الملائكة بعد ذلك بشرحها، وأنا منته إلى أمرنى به. وقال أيضا: فالله يعلم أنى ما أتزيد فيما أقول. ثم أقسم أنى ما أتكلم إلا بحق من قبل أن يأمرنى الله سبحانه بوضع هذا فى كتاب، قد كنت عزمت على أن أطرح أكثره، وذلك لكيلا يبغضنى ويشنأنى كثير من الناس.

وقال فى الحادية عشرة: ولا علم لى كيف يجوز أن أنسب من زعم أن هذا التدبير العجيب والحكمة الفائقة، 〈كيف〉 وقع كل ذلك بالبحث والاتفاق. يا هذا! إن كان هذا مما يقع بالبحث والاتفاق، فأى شئ يكون بالتعمد والعناية والقصد واللطف والحكمة؟! وقال جالينوس فى هذه المقالة مقرا بصحة ما قاله موسى عليه السلام وعلى سائر النبيين: والذى هو أفضل وأصوب هو أن نقول فى ابتداء خلق الخالق لجميع ما خلق على المذهب الذى يقول به موسى...ثم قال: قف عند العلم والقول! أحب أن تكون هذه الأمور على ما وصفنا لهذه الأسباب التى ذكرتها، ولا تتجاوز ذلك بالفحص عن كيف كانت. فإن الفحص عن ذلك جرأة وتهجم وإقدام. فإياك أن تأخذ فيه، ولا

ترده! فإنه قبيح بك أن تقدم على الفحص كيف كانت أمور قد كنت أقررت بأنها كانت، ولا سبيل لك إلى العلم بذلك.

وقال فى السابعة عشرة وهى آخر مقالات الكتاب: وقد بلغ من حكمة القادر البرغوث وقدرته أنا نجده يخلقه وينميه ويعدو 〈على〉 أضلاعنا ولا يكلف. وإذا كنا نجد فى هذا الحيوان الذى قد بلغ من خساسته أن يتوهم المتوهم أنه إنما كان عن غير تعمد حكمة هذا مبلغها، فكم بالحرى ينبغى أن يتوهم فضل حكمة البارى وقدرته فى أصناف الحيوان الجليلة القدر! فهذه إحدى المنافع العظام التى نستفيدها من علم الطب، أعنى من طريق أنا محتاجون إلى الدلالة على قوة الله، إذ كان قوم يرون أن هذه القوة ليست بموجودة أصلا، فضلا عن أن يكون يعنى بمصالح الحيوان.

وقال جالينوس أيضا فى كتابه فيما يعتقدونه رأيا، وقد ذكر الله تعالى، فإنه شفاه من علة مؤيسة، فقال: ولذلك أعتقد إعظامه وتبجيله، وأتبع فى ذلك الشريعة والسنة، وأقبل ما أمر به سقراطيس من قول ما أمر الله به.

فبدى ما ذكرناه من هذه الأقاويل الجليلة عن هؤلاء القدماء الأفاضل الذين يقرون فيها بالله تعالى وبرسله، وبالوحى وبالثواب والعقاب، لم يشف بعد عمى هذا الشقى المغرور، ونحن نقول إن ما أحضرناه كاف لمن آثر الحق، ومال إلى الصدق. ولو علمت أن الزيادة تنفع من لم ينتفع بما تقدم ذكره، لزدت من أقاويل هؤلاء وغيرهم ممن هم فى طبقتهم مثل فثاغورس وافيقروس ودمقرايطيس وزينون وأمثالهم، ومن أقاويل أفاضل من الحدث مثل الكندى، وحسبك به جلالة وفضلا، فإنه قد أطنب فى هذه المعانى وخاصة فى كتابه فى الفلسفة الخارجة فى الرد على الثنوية ومثل حنين واسحاق وابنه، وغيرهم من أهل العلوم العقلية. فإن حنينا، على أنه على ضد مذهب التوحيد، قد وضع مقالة فى التوحيد، ووضع أيضا مقالة فى صحة الرسل. ولكنى أكتفى بما ذكرته لما فيه من توبيخ وتنبيه لمن يرجى له الفلاح والصلاح. وأما من لم ينتبه لما نبهناه، فليعد من الموات، أو من البهائم التى لا يؤثر فيها التوبيخ والعتب. فقد قيل لبزرجمهر: ما بالكم لا تعاتبون الجهلة؟ فقال: لأنا لا نريد من العميان أن يبصروا.

ولنرجع إليك، أيها المحب للأدب، فنقول: إنه إذا صحت أمانتك بما تقدم القول به من الإقرار بالله جل وعز، ومن المحبة له والاعتراف بحقه، والإقرار برسله، والتمسك برسائله، فعليك بالعبادة له بما يرضيه. ولن تقدر على ذلك، دون أن تصلح أخلاقك، وتعدل أفعالك، ولا يمكنك ذلك حتى تعلم 〈أن〉 أصول قوى النفس هى ثلاث قوى، كما بين ذلك القدماء من الطبيعيين والأطباء. فإن جالينوس

قد شرح ذلك وكشفه فى كتابه فى آراء بقراط وفلاطن، وفى كتابه فى الأخلاق، وفى مقالته التى بين فيها أن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وقال: إن القوة الأولى من قوى النفس هى القوة النفسانية، وهى التى تتم أفعالها بالدماغ. والقوة الثانية هى القوة الحيوانية، وأفعالها تتم بالقلب، والقوة الثالثة هى القوة الشهوانية، وأفعالها تتم بالكبد.

ثم تعلم 〈أن〉 باعتدال هذه القوى فى الإنسان تكون أخلاقه فاضلة ممدوحة، ونفسه طاهرة زكية، ولخروج هذه القوى عن الاعتدال، تصير أخلاقه مذمومة، ونفسه رذلة. فاعتدال القوة النفسانية يكسب الإنسان اللب والعقل، وجودة التحصيل والتمييز، وصحة الفكر. واعتدال القوة الحيوانية يكسبه الهدوء والرزانة، وقلة الحرد والغيظ. واعتدال القوة الشهوانية تكسبه العفة، وضبطه لنفسه عن اتباع الشهوات واللذات.

وبعد علمك بما ذكرناه، يجب أن تروض نفسك وتعودها هذه الخصال الثلاث، أعنى العقل والرزانة والعفة، لتصير فاضلا أديبا، وتنقى نفسك، وتصلح لاقتناء العلوم. واجتهد فى الحذر من الوقوع فى أمراض هذه القوى! فإن خروج القوة النفسانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب سوء التحصيل والجهل. وخروج القوة الحيوانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب سرعة الغضب والجزع. وخروج القوة الشهوانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب ألا يضبط الإنسان نفسه، أو ألا تقوى له شهوة. واجتنب هذه الحالات الست، فإنها أمرض للنفس يوجب لها الفجور والخبث والدناءة! وتعمد العدل، فإن فضيلته تنزل النفس كل شئ منزلته!

واستوص بوصية ارسطوطاليس للاسكندر! فإنه قال: لا تمل إلى الغضب، فإنه من أخلاق السباع والصبيان! لا تفرط فى الجزع على ما فاتك، فإن ذلك من خواص النساء الضعفاء! ولا تمل إلى النكاح، فإنه من خواص الخنازير، وهى أقوى عليه منك، وهو يهلك العمر! أصلح نفسك لنفسك، فيكون الناس تبعا لك! وتمسك بالحرية، فإنها فضيلة للنفس، بها تكون السماحة فى البذل لاقتناء الحسنات! وكن شريف الهمة! فإن من شرفت همته، نال الخير والكرامة، ومن دنت همته نال الشر والهوان. إنصرف إلى تسديد رأيك، وميز الخير من الشر برزانة، ليوجد منطقك سديدا، وفعلك حميدا! وتوق القلق عند الغضب، والإفراط فى العقوبة عند الأدب! واحذر اللجاج مع شراسة الخلق، فإنهما يدلان على الحمق! كن قوى النفس عند الأمور المفزعة، لا يتداخلك الرعب ولا من الموت! وكن مقدما شجاعا عند الاضطرار إلى المخاطرة، مؤثرا للموت المحمود على البقاء المذموم! إستعمل الصبر، وتجشم التعب، ولا ترغب فى الراحة واللعب! كن عفيفا دمثا شكلا ذا وقار، لئلا

تكون سخيفا زريا ذا احتقار! إحرق الشهوات بنار الصبر، قبل أن توردك اللذات إلى عميق القبر! مع تمسك بالعدل، فتمسك بسنن ملتك وبلدك، ولا تخرج عن إجماعهم، واحذر مخالفة الشريعة، لئلا تكون عقوبتك قريبة سريعة!

قال ارسطوطالس: أول العدل ما قضيناه من حق الله تعالى. وبعد ذلك ما نلزم أنفسنا من طاعة الملوك. وبعده الذى يجب علينا لأهل مدينتنا وبلادنا وآبائنا. وبعده ما نفعله مع سلف منا. وفى ذلك رحمة هى جزء من العدل أو من لواحقه. وقد يلحق العدل السلامة والصحة والأمانة وبغض الشرور. كن ذا لطافة ورأفة ومروة، فإن ذلك من أخلاق الحرية!

قال اوميرس الشاعر: لا ينال المراتب السنية بخيل، ولا يرتقى على الدرجة العليا إلا كريم. ود الأقرباء، وحب الأخيار 〈و〉تحنن على الغرباء، فإن ذلك من فعال الأحرار الأدباء! ليس السعادة حب الكرامة، والتفتق، والتمتع باللذات، والسرور بالسلطنة، والغلبة عند المبارزة، فإن اعتياد هذه 〈الأمور〉 ومداومتها يرخى النفس، ولكن احتمال الشقاء، وقوة النفس عند النصب، والاغتباط بالقناعة، جميع ذلك من السعادة وكبر الهم والشجاعة.

قال سقراطيس: قارض الله دهرك، واجتهد فى ذلك مع موافقة الجماعة فإن العصمة بذلك مع العمل بالسنة! ثم كن بعد ذلك مع والديك كما تحب أن يكون معك بنوك! وكفى بهذه غاية وصفة لعظيم حقهما عليك، إن كنت ترى لنفسك على والدك حقا. إبطاؤك بالمواخاة أحسن بك من أن تواخى اليوم وتهجر غدا، فلا خير فى سرعة المواخاة وتعجيل الصريمة فإن كليهما من عمل أهل السخافة والطيش. واعلم أن مودة الأخيار دائمة زائدة، ومودة الأشرار سريعا بائدة. وأصلح من ميراث المال من الآباء، وراثة الإخوان والأحباء! عند الشدائد تمتحن صحة الصداقة، كما يمتحن صحيح الذهب بالنار. أسبق بالجميل إلى أصدقائك، قبل التماسهم ذلك منك، وخاصة إن عثر الدهر بهم! أودع الخيرات لأهل الصلاح والأبرار، ولا تشق عليهما بأهل الطلاح والأشرار! أمقت المخادع والملاق، كمقتك الكذاب والسراق! كن سهلا خلطا بالإخوان، مكرما مفضلا على الجيران! أقرب ممن قرب إليك، واعف عمن جفا عليك، واعلم أن استقامة الأدب مع الحكمة خير من المال والسلطنة!

قال ارطوطاليس: الحكمة رأس التدبير، وهى سلاح النفس ومرآة العقل. إجتهد ألا تكون واعظا بجميل الأقوال، لكن تكون عظتك بجميل القول والفعال! لا تأخذن الحدث بصعب التأديب، لكن درجة الأدب بترتيب! لقح عقلك بالآداب، كما تلقح الشجرة بالشجر الكرآب! رض النفس بالحكمة لتدرك الحقيقة، كرياضة الراضة للجسم، لتصبر على المشقة! واعلم بأن الحكمة تقضى بأهلها إلى

مراتب عظيم فضلها، كما أن من ولى سلطانا وجب عليه أن يبعد الأشرار عنه، لأن جميع عيوبهم منسوبة إليه.

كذلك أنت، أيها الطبيب، يجب أن تبعد عنك الأشرار من الأصحاب والتلاميذ، فإن جميع ما يأتيه صحبك وخدمك منسوب إليك من قول وفعل! واعلم أن الفقر مع الحلال، أصلح من الغنى مع الحرام! والذكر الحسن مع بقائه، خير من نفيس المال مع فنائه! وأيضا فإن المال قد يوجد عند السفهاء والجهال، والحكمة لا توجد إلا عند أهل الفضل والكمال. إجتهد فى أن سرورك وحزنك جميعا بتوسط! وكن على ما زاد منهما متنسكا وتأمل حال النفس الموسطة للأخلاق من هذا القول الذى أحكمته لك من كلام جالينوس فى أول المقالة الثانية من كتابه فى المزاج: فإنه قال بعد أن وصف حال المزاج المعتدل هذا القول، قال: فهذه حال الإنسان الذى هو من أعدل الناس مزاجا فى بدنه، وهو أيضا فى نفسه متوسط بالحقيقة فيما بين الشجاعة والجبن، وبين المبطئ المتأخر والعجول المتهور، وفيما بين الرحيم والحسود. ومن كان كذلك، فهو طيب النفس، محب متحبب، متوخ لمحبة الناس، دمث. وإذا كنت مجتهدا على أن تخفى مالك فى بيتك، فاحذر أن تخفى حالاتك فى نفسك! إجتهد أيها الطالب للحكمة والأدب، فى إصابتهما من كتب أهلها! والتقط ألفاظهما ومعانيهما كما تلتقط النحلة ما يلاءم عملها من جميع الشجر، وتعمل منه ما يصلح للبناء بيتا، وما نغتذى به، وهو العسل، تذخره محفوظا!

فتأدب بما تقدمنا ذكره من هذه الوصايا والجمل، ففيها كفاية للنفوس المسعودة! ثم انصرف إلى الاهتمام بما يصلح جسمك، ويحفظ صحته، فإنى ذاكر جمل ذلك فى باب الثانى من هذا الكتاب، وهو الذى أبتدئ الآن فتدبره حسنا!

الباب الثانى فى التدابير المصلحة للأبدان وبها يصلح الطبيب جسمه وأعضاءه

أقول، والله المعين: إن الخالق تعالى، لما شاء إظهار حكمته وقدرته، جعل كل مخلوق محكما، وجعل الأدلة فى المخلوقات على إحكام خلقتها، وقدرة خالقها تبارك، كثيرة جدا. من ذلك ما جعل لبعضها من الاتصال الطبيعى ببعض، وما فضل بعضها عن بعض، وما رتبها بذلك مراتب مختلفة، لتأخذ من نوره، وتقبل من حكمته، بحسب ما لها من شرف المنزلة. فأعطى تعالى الناميات من القوى الأربع التى بها تتغذى وتنمى، ليتم لها البقاء بنوعها، ما لم يعطه للجامدات.

ووهب تعالى للإنسان من نوره نفسا، علامة عاقلة مميزة، ما لم يعط لغيره من الحيوانات. فالإنسان لذلك هو أتم أنواع الحيوان وأكملها، لأنه من جسم حى، ومن نفس ناطقة، ولأن النفس الناطقة هى المتممة لنوع الإنسان، وأفعالها بجسمه تظهر، فلذلك بنى جسمه بناء يلاءم قواها، كالذى بنيت عليه أجسام سائر الحيوان من الملاءمة لقوى نفوسها. فما كان منها شجاعا محبا للغلبة والقتال، بنى لنفسه جسم يصلح لهذه الأفعال، كالسبع والنمر والذئب، وأشباه هذه. وما كان منها جبانا، خلقت له آلة تصلح للهرب، كالأرنب والثعلب، وأشباه هذه من الحيوانات. فلذلك بنى جسم الإنسان أيضا بناء يلاءم نفسه. فنفس الإنسان لما كانت أصفى النفوس وأعدلها، بنى لها جسم أكمل الأجسام أعضاء، وأتمها هيئة، وأعدلها مزاجا، لتكون أفعاله تامة كاملة متقنة، ككمال نفسه وتمامها وشرفها.

وأيضا لما كان البدن آلة للنفس، وكانت أعضاء البدن مخلوقة لنفس الحيوان بحسب قواها، وكان لكل حيوان من الحيوانات عمل يخص ذلك النوع من الحيوانات، لا يقدر على غيره، وأعضاؤه كلها مرافد بعضها بعضا فى مصالحه، وفى إكمال ذلك العمل — كالذى نجده من عمل الزنبور والنحل والنمل لثبوتها، كل واحد بحكم ثبوته، وبشكلها بغير تشكيل الآخر، لكن بحسب ما يلاءم مصلحتها، وكنسييج العنكبوت لأخبيته، ودود القز، وما سوى ذلك من الحيوان — وكان الإنسان لشرف نفسه ولكمالها، ولقوة عقله على العلم بجميع المهن والصنائع، وإن الحكيم جل ذكره لما أراد إظهار ما فى قوة نفس الإنسان إلى الوجود بالفعل، خلق أعضاء جسمه أكمل وأتم، ليقدر على جميع ما يعمله الحيوان طبعا بعقله. فخلق تبارك له اليدين، ليقدر بهما على عمل ما دق من المهن، وما جل، وليتخذ بهما أنواع السلاح، كالسيف والرمح والنشاب والترس، ويروض الخيل،

ليركبها. إذ كانت هذه الأشياء متفرقة فى الحيوانات، كالذى يوجد من الأنياب للخنزير لينجل بهما، فيقطع ما أمكنه قطعه، كقطع السيف، وكرمى القنفذ بشوكه، كرمى السهم، وكالقرون والمخاليب والجنن لسائر الحيوان. وليست توجد أمثال هذه مجموعة تامة كاملة، إلا للإنسان وحده، لأنه بعقله يلتمس الأعمال ويقومها.

أما الحيوان، فإنما له عمل واحد يعمله بطبعه. ألا ترى أن الحيوان لما كان بأسره مضطرا فى البقاء إلى المأكول والمشروب، والمكان، والستر من الحر والبرد، والتناسل، صار بطبعه يتخذ له الأعشاش والبيوت، وبطبعه يعرف أنواع أغذيته الموافقة له فى بقائه لا يبعد عنها، ومشروبه لا يتعداه، ويزاوج الذكور من كل نوع أناسه للنسل، لا يتجاوز ذلك، وبعضه فى أوقات من الزمان لا يزيده، وما لم يقدر عليه من مصالحه بطبعه، خلقه الله تعالى له لطفا به، لئلا يهلك، كالأصواف والأوبار والريش والشعر والجنن التى هى كسى له ساترة من الحر والبرد.

وأما الإنسان العاقل، فلما وهب الله تبارك وتعالى له ما هو أشرف من الطبع، وتوجه بالحكمة والعلم بالأمور الزمانية السالفة اللائقة، وصار يعلم ما يصلحه، له أن يتصرف بعقله فيما يختاره من اتخاذ الأبنية والكسى وأنواع الأغذية والأشربة، وله أن يقاوم بعقله المضار والمؤذيات الطبيعية والاختيارية جميعا. وذلك أن اللذة مقرونة بالأمور الطبيعية خلقها الخالق تعالى بحكمته فى الأمور المحسوسة والحواس، ليشتاق الحيوان إلى ما يلتذ به، فيستعمله. ولولا ذلك، لم ينسل الحيوان، ولم يبق. ولما كان الطبع يلتذ ويشتاق إلى اللذات، ولم يكن لأنواع الحيوانات عقل يقدر لها 〈من〉 الأمور اللذيذة ما يكفيها، لطف لها الخالق تبارك بتقدير ذلك لها طبعا، فلا تأخذ من كل لذيذ إلا ما يصلحها ويكفيها. ولذلك عدمت أكثر الحيوانات أكثر الأمراض التى تعرض للإنسان.

فأما الإنسان، فله عقل يقدر أن يميز به لطبعه الضار من النافع ويقدر له من الأغذية والأشربة وسائر ما هو مضطر إليه الكافى. فلذلك ترك وطبعه. فإن تبع ما يأمره به طبعه من استعمال الأشياء، واتخاذها للذاتها، ولم يتق ما يتبع اللذة من المضار والآفات، دخلت عليه الأمراض والأعراض، ولم يوقف عليه الهلاك، لأنه يكون فى ذلك دون البهائم، لما لم يجعل لها عقل تقدر به، كما قلنا قبل، صار لها التقدير طبعا، فهى بذلك أصلح حالا وآمن وخير ممن لا يتأدب بعقله.

فأما من تدبر بعقله الأمور، وتبع ما يأمر به عقله وشرعه، وسلك فى طرقهما ومذاهبهما، فهو الفاضل الأديب، وهو الإنسان بالحقيقة.

ولما اختلفت طبائع الناس لاختلاف أمزجتهم، احتاج العقل أن يضع لكل ما خالف الأمر المعتدل ما يرده إلى الاعتدال. وما يضعه العقل من ذلك هو على ضربين، أحدهما تعليم ما عدل أخلاق النفس، والآخر ما عدل مزاج البدن. فأما تعليم ما عدل أخلاق النفس، وأكسبها الفضائل، وهداها سبل الحق، لتزهد بذلك فيما يأمرها به الطبع من اتباع اللذات المؤدية بها إلى سبل الشر والرذائل، فهو التعليم العقلى، والتأديب الذى به ينتقل الإنسان من الأخلاق البهيمية إلى الأخلاق الشريفة النفسانية. وهذا المكتسب من التأديب، إذا رسخ وثبت فى النفس الإنسانية بالعادات التى يوجد الإنسان بها منذ صبائه، والتأديب الذى يؤدبه أهل الآداب، يسميه القدماء عقلا مكتسبا، ومنزلته من العقل الكلى منزلة شعاع الشمس من الشمس. فكما أن بضياء الشمس يستنير الهواء، وبوقوعه على المحسوسات تدركها الحواس، كذلك بما للنفس من ضياء العقل الكلى تقبل التأديب، وتتصور ما يصور لها، فيظهر نورها ونهارها. وكلما زاد نورها، استمرت من العقل نورا تستضئ به وتفتش عن الفضائل والعلوم، فيكون بذلك الإنسان عالما أديبا، يتبع علمه ويقتدى به.

ومن علم بأن الله تعالى قد خصه بجزء من ذلك، وأقدره على أن ينفع به غيره، فقد وهب له نعمة لا تفسد ولا تبيد. وقد وجب عليه ألا يفتر طرفة عين عن شكر المنعم عليه، وأن يمنح تلك النعمة لمن طلبها، وينعم عليه بإخراجه واستنقاذه من لجج ظلمات الجهل المميت إلى علو نور العلم المحيى. فإن من أدب نفسه، فقد أكسبها حياة دائما. وإلى الله نبتهل فى إحياء نفوسنا بإحسانه، وله نشكر أبدا دائما!

وإذا كان هذا الضرب الأول من تعليم العقل وتأديبه للطبع، فقد ذكرنا منه فيما تقدم جملا مشوقة للأحداث إلى التعليم والتأديب، وسائقة لهم إلى منافعهم فى دنياهم، مدة بقائهم، وفى آخرتهم بعد موتهم، فقد آن لنا أن نذكر الضرب الثانى من التعليم العقلى، وهو المعدل مزاج البدن، والحافظ عليه صحته، ليكون بذلك هذا التعليم تاما، والغرض الذى قصدنا نحوه فى كتابنا هذا كاملا. وأنا أذكر الممكن ذكره من هذه الجمل بطريق قريبة، ومقاصد سهلة، وبألفاظ مألوفة، وعبارة معروفة، ليقرب على محب الأدب والتعليم غرضه، ويسهل عليه مطلبه، وبالله أثق واستعين، فأقول:

إن التعليم الثانى الذى نصبه العقل ووضعه، لتقويم الطبع، وإصلاح الإنسان، هو ما عدل جسمه، وأكسبه صحة، أو ما حفظ على الجسم صحته. وهذا التعليم والعمل به هو المسمى صناعة الطب، وهى

التى وهبها البارئ تعالى للعقل، فنصب العقل للعقلاء أصولها، وعلمهم استخراج فروعها بطريقين هداهم بهما سبلها، وهما طريق القياس، وطريق التجربة. فبهذين الطريقين جميعا مجموعين استخرج علماء صناعة الطب علمها، ووصلوا إلى أعمالها.

وإذا كان قد اتضح لك، أيها المحب لتعلم صناعة الطب، أصول طرق التعاليم التى نصبها العقل للعقلاء وانكشف لك منها جمل، فارجع بنا إلى بسط التعليم الثانى، وهو المصلح للجسم، فإنى أحدثك فى طريق سهل المرام، واضح المسلك قد سبقنا من تقدم من العلماء بتوطئته، وأبان لنا سبله.

وأول المبادئ لهذا الطريق لمن أراد تعديل جسمه أن يفتقد أفعاله، إذا رام أعماله، فإن وجدها جارية مجاريها، ولم يتعذر عليه فعل ما ولا عمل من أعمال جسمه، فليعلم أن جسمه صحيح، لا مرض به. وكذلك ينبغى أن ينظر فى أمر عضو عضو من جسمه. فإن العين خلقت لتبصر المبصرات من الألوان والأشكال وغيرها. فإن وجدها تدرك مبصراتها بلا عائق ولا تقصير، قيل لها صحيحة، وإن قصرت أو لم تبصر، قيل لها مريضة، أو عادمة الإبصار. وكذلك القول فى سائر أعضاء البدن، وفى جملة البدن. ثم بعد العلم بالصحة وبالبدن الصحيح، يجب أن تعلم بماذا تحفظ الصحة على الصحيح، لئلا تزول عنه فيقع فى المرض.

ثم يتبع هذا التعليم الثانى بتعليم ثالث، وهو أن يعلم المريد إزالة المرض عن الجسم، إذا حل به المرض، ما هو المرض، وأى الأمراض هو، وكيف يزال، وبأى الأشياء والتدابير يزال. ويحتاج بالضرورة إلى علم جميع ذلك من رام علاج الأمراض ولأن ليس غرضنا فيما نذكره هاهنا شيئا من هذا الفن، فلذلك لا نذكر من هذا التعليم الثالث شيئا، إلا ما جرى بطريق العرض فى فروع الكلام. ولكنى أقول أن ما أذكره فى هذا الباب الثانى من هذا الكتاب من حفظ الصحة، وتعديل الجسم بالأغذية والأشربة والتدابير، وتعريفى جملا من تقدير هذه على طريق القانون، فإنه ينبه ذا اللب والفطنة إلى معرفة أصول تدابير المرضى، وجمل ينتفع بها فى علاجهم. وهو أيضا يحث المتعلمين على طلب معرفة الأمراض، وما يعالجون ويدبرون به المرض.

فلنرجع إلى غرضنا، فنقول لمن علم أن بدنه صحيح: إن أول ما ينبغى لك أن تعلمه فى حفظ صحة بدنك، أن تعلم بماذا يحفظ الصحيح، لتقدر على حفظ صحتك، ومن ذلك بالضرورة 〈أن〉 تعلم بأى شئ تجتلب الصحة، إذا فقدت. فاعلم الآن أن الصحة تحفظ بما شابهها، لأن الشبه يحفظ شبهه.

ولذلك يكون اجتذابها بما يضادها، لأن الضد ينفى ضده. ولا يغلطك ما تراه من إصلاح أمزجة حارة مثلا بأشياء باردة، وأمزجة باردة تصلح بأشياء حارة. فإن ذلك علاج مرض، لا حفظ صحة.

ولأن الصحة هى الطبيعية للبدن لأنه لم يقصد بخلقه إلا ليكون صحيحا، وقد ذكرنا معرفة ما الصحة قبيل باختصار، فيجب أن نجمل القول فيها ونصفها بما حدها به قدماء الأطباء فقالوا: إن الصحة هى حالة طبيعية للجسم، يتم له أفعاله بها. ولما كانت أفعال الجسم كثيرة، لأن عددها مساو لعدد أعضاء الجسم الآلية، وجب أن يكون كل فعل من أفعال آلات الجسم إنما يتم بصحة تلك الآلة، كالذوق الذى لا يتم إلا مع صحة الفم وآلاته، وكذلك البصر وسائر الأفعال.

وأعضاء البدن الآلية، أعنى التى هى آلات لأفعاله، تتم صحتها بثلاثة أشياء، أحدها اعتدال مزاج العضو، والثانى اعتدال هيئته، والثالث اعتدال اتصاله. ويجب أن تعلم أيضا أن اسم الاعتدال يعم ثلاثة معان، أحدها اعتدال تتساوى فيه الأسطقسات فى البدن، فيكون فيه من الحار مثل ما فيه من البارد، ويكون فيه من الرطب مثل ما فيه من اليابس، وهذا مزاج لا يمكن وجوده حسا، بل فهما، لأن الجسم لا يمكن أن يبقى طرفة عين بحالة واحدة، لكن تغيره واستحالته دائمة. والصنف الثانى من الاعتدال هو ما قرب من هذا الأول، وداناه، وهو أيضا قليل الوجود. فأما الصنف الثالث، وهو الكثير الوجود، فهو الذى هو بالحقيقة مائل إلى أحد الأربعة الأمزجة المركبة، أعنى الحرارة مع اليابس، أو إلى الحرارة مع الرطوبة، أو إلى البرودة مع الرطوبة، أو إلى البرودة مع اليبس، إلا أنه مع ذلك صحيح الأفعال، لا يذم منها شئ فلذلك سمى معتدلا.

ولذلك يجب أن يكون حفظ الصحة لكل واحد من هذه الأمزجة لا يتم، إلا بعد معرفتها بمقادير ما لها من كل كيفيتين من هذه المزاوجات وبعلامات صنف صنف منها، يعلم ما بها تحفظ، وبجميع كميات ذلك، وكيفياته وأماكنه وأزمنته، وغير ذلك مما قد شرحه قدماء الأطباء فى كتبهم، فاعلم ذلك! وينبغى أن يكون حاضرا لذكرك أيضا أن عملك إن كان فى شخص من الأشخاص، وكانت الأشخاص مختلفة الأمزجة، وصحة كل واحد منها يخص مزاجه، ولكل مزاج علامات تخصه، وتدابير توافقه، فيجب لذلك أن تتدبر وترتاض فى معرفة الحدس الصناعى الذى به تصل إلى التقدير، ولن تصل إلى ذلك، إلا بأحكام علم القوانين النوعية.

فإن اقتنيت علم الأصول والقوانين، وتدربت بالحدس، فخذ بنا الآن فى الكلام فى الطرق الجزئية التى ينبغى أن يسلكها حافظ الصحة على بدنه. وأول من يجب أن يعلم هذه الطرق، ويقتنيها ويعمل بها، هو الطبيب لأن من أقبح الأشياء أن يرى العاقل من الناس أن مصلحته فى شئ، وهو يعمل ضده، لسيره إلى لذة ما أو لهو آخر غير ذلك.

وبعد إحكام الطبيب لما ذكرناه من جمل الأصول وفروعها، فيلزمه أن يعلم أن الأبدان لا تثبت على حالة واحدة، لسرعة تغاير الأزمان لها، وتبدل أمزجتها، فالأبدان لذلك تنحل دائما وتنقص. فلذلك هى محتاجة إلى ما يخلف عليها عوضا لما تحلل منها. والمخلف عليها ذلك هو الغذاء. ولأن لا سبيل لنا إلى أن نورد إلى أجسامنا مثل ما تحلل منها سواء فى مشابهته ومقداره، لأن ذلك من أعمال الطبيعة، فلذلك وجب علينا ألا نورد إلى أجسامنا، ونحن نريد أن نغذوها، ما بعد عن مشابهتها بعدا كبيرا، لكن نجتهد فى أن يكون ما نورده من المأكول والمشروب أشده مشابهة لأجسامنا، وأقربه من نوعها، وأسرعه استحالة إليها.

وبغير شك أنه من لم يحكم تعرف مزاج جسمه، ويحكم معرفة أنواع المأكولات والمشروبات، ويعلم مقدار مزاج مزاج من جميع ذلك، أنه لا يقدر على معرفة ما يحفظ صحته من الأغذية والأشربة، ولا يحسن تقدير ما صلح منها لنفسه، ولا لغيره. وأيضا فإذا كانت المأكولات والمشروبات القريبة الشبه لأبداننا، الموافقة لأمزجتنا، ولو على غاية ما يمكن من المشابهة، لا تغذو أبداننا، ولا تلصق بأعضائنا، إلا من بعد طبخ أعضائنا لها، ونضجها، وبعد تمييز الطبيعة لها، لتدفع إلى كل عضو ما يشاكله ويشبهه.

فلابد من فضلات لا تصلح لتغذية الأعضاء، فيجب بروزها. فلذلك أعد البارئ تعالى فى جسم الإنسان موا ضع تجتمع فيها، وطرقا تبرز منها، لئلا يفسد بكثرتها، وطول مقامها. ولذلك صار واجبا على حافظ الصحة أن يفتقد هذه الجوائز والطرق، هل أفعالها جارية على الأمر الطبيعى، وهل هى فى خدمتها لطبيعة ذلك البدن على ما ينبغى، أم محتاجة إلى معاونة من خارج. فإن من أفعال الطبيب تفقد ذلك، وإعانة الطبيعة بجميع الوجوه على إخراج ما كثر، وإصلاح طرقها بحسب طاقته.

فقد بان إذاً مما قلناه أن الطبيب يلزمه العلم بما يورده إلى البدن بنوعه، وبسائر حالاته وإصلاحاته، وبالحالات التى للطريق التى يرد فيها، وبإصلاحاتها، كالذى ذكرناه فيما يبرز من البدن. وقد بين القدماء من الأطباء أن الغذاء، إذا ورد إلى المعدة، فإنه ينطبخ فيها طبخا أول، فإذا جذبت الكبد إليها صفوته بالعروق المسماة الماساريقى وتفسيرها المصافى، فإن الثفل الذى يبقى يترك فى الأمعاء ويجتمع فى المعاء الأعور، ثم يبرز بآخره. وإن الصافى النافذ إلى الكبد ينطبخ أيضا فيها طبخا ثانيا، وبعد إنفاذها إلى الأعضاء ما يصلح لكل واحد منها، تبقى منه فضلات تنفذ إلى الكلى، ثم إلى المثانة، ثم تبرز بالبول. وما يرد إلى عضو عضو ينطبخ أيضا طبخا ثالثا فى ذلك العضو، قبل

أن يتشبه به، ثم يلصق بالعضو ما شابهه، وما لم يشابهه، برز عنه بالعروق والتحليل الخفى عن الحس.

وإذا كان ذلك كما قلنا، فالواجب على الطبيب أن يفتقد ما يخرج ويبرز بنوعه وكميته وكيفيته ووقته، وأن يعين الطبع على بروز ما يبرز بالرياضة والدلك والدهن. ولكل واحد مما ذكرناه أنواع مختلفة تفعل أفعالا مختلفة، يصلح كل صنف منها لبدن من الأبدان، وفى زمان ومكان، وبحسب حال ليس هو للأبدان الأخر. فاجتهد، أيها الطبيب، فى معرفة ذلك واقتن علم أصول ذلك من الكتاب الذى ألفه معلمنا جالينوس فى تدبير الأصحاء وهو ست مقالات!

وأيضا مما ينبغى أن نذكره قبل ذكر التدابير المصلحة للأعضاء، وواجب على الطبيب علمه، هو أن الأعضاء على ضربين، منها ظاهرة للحس كالعينين واليدين والرجلين، ومنها باطنة كالمعدة والرئة والكبد. وأيضا من الأعضاء أعضاء رئيسية، هى أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان. ويجب أن لا يهمل تفقد صنف صنف منها، ولكن تكون العناية بتفقد الباطنة منها أوكد، لاستتارها على الحس.

فلنأخذ الآن فى ذكرها، ونذكر تدابيرها ومصالحها التى لا يسع الطبيب الجهل بها، لا فى نفسه، ولا فى غيره. ولنبدأ منها بالأشرف، ثم نتبع ذلك بالقول فى عضو عضو على ترتيب، بعون الله وتوفيقه.

القول فى الدماغ ومصالحه

أبدأ بالعناية بإصلاح الأمور الحافظة للدماغ أولا، لأنه مقدم فى الشرف، والأفعال الحيوانية والإنسانية. أما فعله النافع العام لسائر الحيوان، فهو الحس وحركة الانتقال. ولولا ما يثبت من الدماغ من الأعصاب التى ترد فيها القوى الحساسة والمحركة إلى الحواس والأعضاء المتحركة، لما أحس الحيوان، ولا انتقل من موضع إلى موضع.

وأما فعل الدماغ النافع للإنسان خاصة مع تلك الأفعال، فهو أن به يتم له التمييز والحفظ والذكر والتخيل. وليس هذه الأفعال تامة كاملة، إلا للإنسان الذى هو النوع التام الكامل الذى خصه الله تبارك وتعالى بأعدل الأمزجة بإضافته إلى سائر أنواع الحيوان. فلذلك قيل إن مزاج دماغه أعدل من سائر أدمغة الحيوانات. ولذلك أيضا قيل أنه صار محلا لقوى النفس الناطقة الإلهية الشريفة التى خص بها نوع الإنسان، فصار نوعا شريفا، يعلم بها العلوم، ويستخرج بها دقيق المهن، ومحاسن الصنائع.

وإذا كان هذا العضو، هذه أصول منافعه وجمل أفعاله، فواجب على كل عاقل أن يعنى بحفظه، لأنه للجسم ولسائر أعضائه بمنزلة ما الملك عليه من التدبير والاهتمام بمصالح سائر من فى ملكه ومدينته. وكما أن الملك، إن أغفل تمييزه، وقل اهتمامه بأمر خواصه وعوامه، فسد حالهم وحاله، كذلك الدماغ، إن تغير مزاجه، أو ساءت حاله، وفسد تمييزه بمرض من الأمراض، اضطرب سائر الجسم، وفسدت حالاته. ولا يقدر على حفظ الدماغ، إلا من عرف مزاجه وطبعه. وكذلك يجرى الأمر فى أمر حفظ سائر الأعضاء.

فعليك، أيها الطبيب، أن تعنى بعلم مزاج الإنسان، وتميزه من أمزجة سائر الممتزجات، ثم تعنى أيضا بتعرف الأمزجة الخاصة بشخص شخص، وكم أصنافها وخواصها وعلاماتها، ثم تعرف ما يختص به عضو عضو من أعضاء البدن من تلك الأصناف، ليمكنك أن تصيب فى حفظها على حال صحتها، وتكتسب لها الصحة، عند مرضها.

واعلم أولا من أمر سائر أدمغة الحيوان أنها خلقت مائلة إلى البرد والرطوبة، وذلك بإضافة مزاج دماغ الحيوان إلى باقى أعضائه، أى حيوان كان. فلذلك قيل إن مزاج دماغ الإنسان بارد رطب. وقالوا إن الله تعالى خلق الدماغ من الحيوان باردا رطبا، لئلا يفسد بدوام حركاته، وبدوام ما يتصاعد إليه من البخار الحار. وإذا كان لمزاج دماغ كل إنسان من الناس من البرودة والرطوبة مقدار يخالف سائر مقادير أمزجة الأدمغة، فبغير شك أنه يلزم الطبيب أن يعرف مزاج دماغ شخص شخص، وكم

مقدار ما لذلك الدماغ من البرودة والرطوبة، ليحفظها عليه، لأن بحفظ ذلك المزاج تتم أفعال ذلك الدماغ.

وقد بين القدماء أن من أفعال الدماغ ما يفعلها بذاته، أعنى بغير واسطة، وهى ثلاثة أفعال: أحدها التخيل وهو يتم بجزئه المقدم، والثانى التمييز وهو يتم بجزئه الأوسط، والثالث الحفظ وهو يتم بجزئه المؤخر.

ومن أفعال الدماغ ما يفعلها بتوسط العصب الثابت منه، وهذه الأفعال صنفان: أحدها أفعال الحواس، وهى خمسة: حس البصر، وحس الشم، وحس السمع، وحس الذوق، وحس اللمس. والثانى حركات الأعضاء الانتقالية. وبينوا أيضا أن هذه الأفعال والمنافع إنما تتم للدماغ بشيئين: بصحة مزاجه، وبصحة هيئته. فاختبر، أيها الطبيب، من كمال هذه الأفعال والمنافع جودة مزاج الدماغ ورداءته، وصحة هيئته وفسادها، لتقدر على صلاح نفسك أولا، ثم صلاح غيرك. واعلم أن الدماغ قد تتغير أفعاله، بحسب أشكاله، وأشكاله أبدا تتبع شكل جملة الرأس. فتفقد ذلك، ليصح لك تعرف أفعال الدماغ! وتعرف أيضا حالات الأمزجة التى للدماغ، من الشعر النابت على الرأس وفى الوجه، ومن حالات الحواس، ومن حركات الأعضاء! وضع لك، أيها الطبيب، المزاج القريب من الاعتدال أيضا ميزانا تزن به، وتقيس عليه ما خرج عن الاعتدال من الأمزجة، وما بعد عنها، وكذلك فافعل فى تعرف مزاج عضو عضو!

ومثل ذلك الرأس. فإن الشكل له القريب من الاعتدال هو أن يكون مستديرا، كأنه قد غمر من جنبتيه، فظهر له نتوء من مقدمه، ونتوء من مؤخره، وأن يكون معتدلا فى الكبر والصغر، وأن يكون الشعر النابت عليه، وفى الوجه، معتدلا فى الخشونة واللين، والتلزز والتفرق، والكثرة والقلة، يبدو فى الصغر أصهب ثم يسود ويبطئ شيبه. وأن تكون أعضاء الوجه متناسبة فى مقاديرها ووضعها. فالعينان منه معتدلتان، لا بالكبيرتين ولا بالصغيرتين، ولا بالسريعتى الحركة ولا بالبطيئتى الحركة. و〈أن يكون〉 الأنف معتدلا فى طوله وقنونه وغلظه. و〈أن تكون〉 الوجنتان معتدلتين الحمرة، ما هما كذلك، فافهم فى باقى الحواس، وبالجملة فى سائر أجزاء الوجه.

ثم انظر بعد ذلك فى أفعال عضو عضو من هذه الأعضاء، كالنظر بالعينين، إذا وجدته صحيحا قويا، وكقوة الاشتمام والاستماع والذوق وتعرف الطعوم على صحتها، وكدرك حقيقة الملموسات مثل الحار والبارد والرطب واليابس، وما يتبع هذه من الكيفيات كالصلابة واللين والخشونة والملاسة، وما شابه

هذه. فإن بصحة هذه الأفعال ينبغى لك أن تقضى على صحة الأعضاء الفاعلة لها، وبصحتها أيضا، وبصحة الأعضاء الفاعلة لها، مع صحة التخيل، وجودة التمييز، وقوة الحفظ، فاقض على جودة صحة مزاج الدماغ مع سائر ما تقدم من العلامات!

وحينئذ فاعن بحفظ الدماغ، وحفظه يتم بتعديل ما يرد إليه، والأشياء الواردة على الدماغ منها طبيعية، ومنها ما ليست طبيعية. ولأن التى ليست بطبيعية لا وجه لذكرها هاهنا، إذ هى من أسباب الأمراض، فلذلك ينبغى أن أذكرك بالطبيعية فقط، وأعرفك من فروعها جملا، لتتخذها لك أصولا تفرع منها، وتقيس عليها ما لم أذكره. فيمكنك بذلك أن تحفظ على الدماغ، وعلى سائر أعضاء البدن ما بطن منها، وما ظهر، صحتها. فافهم ذلك، واتخذه قانونا!

والأمور الطبيعية هى هذه: حالات الهواء، والحركة والسكون، والمأكول والمشروب، والاستفراغ، والاحتقان، والنوم واليقظة، والأعراض النفسانية، والبلدان والأعمال، والعادات، وقوة الجسم، والسن، والسحنة، وطبيعة البدن. واعلم أنك إذا عرفت مزاج أى عضو أردت حفظ صحته من أعضاء البدن — أعنى المزاج المعتدل، وهو المسمى صحة — ثم عدلت كل واحد من هذه الأمور الطبيعية بحسبه، كانت أسبابا لصحته. وكذلك إذا صارت بها أمراضه، كانت أسبابا لشفائه من أمراضه. فتيقظ لذلك، واجعل ما نذكره من منافعها للدماغ مثالا لك تستعمله فى باقى أعضاء البدن، إذا قصدت حفظ صحتها، أو علاج أمراضها.

القول فى وصف محمود الأهوية للأصحاء والمرضى والمحمود من الأهوية للدماغ خاصة على طريق المثال

الهواء جسم خفيف، وجوهر لطيف، فلذلك يرد إلى الجسم من مسامه، ومن سائر منافذه، باختيار الإنسان، وبغير اختياره. ولذلك صار ما تغير منه تغييرا غير موافق للأبدان أسرع ضررا، لأجل صعوبة الاحتراز منه. ومثال ذلك ما يظهر من صلاح الدماغ، وسائر الحواس، عند صفائه ونقائه واعتداله، وما يعرض من تكدرها عند تكدره وفساده، وكذلك يعرض لسائر الجسم.

وأحمد الأهوية الموافقة فى مزاجها ما صفا ونقى، ولم يكتسب روائح تفسده، بل ما عدلته وأصلحته الروائح الطيبة الموافقة، إذ كان الهواء لا رائحة له فى ذاته. وأيضا فإن الهواء، وإن كانت حركة الطبيعة له هى واحدة، وهى الترقى إلى العلو لخفة جسمه، فإن له حركات عرضية يتغير بها مزاجه، ويغير بها الأبدان، كالذى يعرض له عند تحريك الرياح له. فإن الريح الشمالية تغير مزاج الهواء إلى البرودة واليبس، والجنوبية إلى الحرارة والرطوبة. وأما الشرقية والغربية، فتعدلان مزاجه. ويكون تغيير هذه الرياح له أقوى إذا كانت المساكن مقابلتها، ووضع البلدان فى جهاتها، وخاصة التى هى مقابلة طرفى المحرر، والتى هى مقابلة جهتى الاعتدالين. فأما ما يهب من الرياح، وماهو من البلدان والمساكن فيما بين ذلك، فأمزجتها تختلف بالأكثر والأقل. فافهم ذلك، إن كنت ممن يحب العناية البالغة بحفظ الصحة، ومعالجة الأمراض!

واعلم أن المعتدل من هذه الرياح، والمتحرك منها حركة معتدلة، يصفى الهواء وينقيه من البخارات التى تعلو من الأجسام الأرضية، الرطبة منها واليابسة. ولذلك صار ما اعتدلت حركته من الهواء، وتوسط بين الحر والبرد، والرطوبة واليبس، ونقى جوهره، هو أصلح الأهوية للجسم الصحيح. ومثال ذلك ما يرى الدماغ عليه من جودة أعماله، وقوة أفعاله، وصفاء حواسه، عند اعتدال الهواء. ولهذه العلة صار هواء الفصلين المعتدلين هو أحمد الأهوية التى تصل إلى الدماغ وإلى سائر أعضاء البدن، أعنى هواء الربيع، وبعده هواء الخريف. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يجب أن تجتهد فى تعديل هواء الفصلين الآخرين، أعنى الصيف والشتاء. وكذلك ينبغى أن تعدل كل هواء تجده خارجا عن الاعتدال، لتحفظ الاعتدال بالمعتدل، لأن الشبه يحفظ شبهه، كما قدمنا بذلك القول، والضد أيضا يشفى ضده، كما قال الجليل بقراط.

القول فى الموافق من الحركة والسكون لأبدان الناس، وعلى طريق المثال للدماغ ولسائر الأعضاء

إن الحركة الانتقالية التى يتحركها الإنسان باختياره هى على ضربين: أحدهما 〈حركة〉 معتدلة وهى التى تسخن إسخانا معتدلا، فتنمى الحرارة الغريزية التى يكون بها الهضم فى المعدة، وفى عضو عضو من أعضاء البدن، وبها تنفى الأعضاء عنها فضلات ما يبقى من الأغذية بعد الهضم، وبها تجذب الأعضاء إليها ما شاكلها من الأغذية، وبها تمسك الأعضاء ما صار إليها مما هو شبيه بها، فيكون ذلك زائدا فيها.

وأما الضرب الثانى من الحركة، فهو الخارج عن الاعتدال، إما إلى الزيادة، وإما إلى النقصان. فإن نقصت الحركة عن الاعتدال، لم تقو على الأفعال المقدم ذكرها على التمام، وإن زادت وأفرطت، بردت، لكثرة ما تستفرغه من الأعضاء.

فيجب عليك، أيها الطبيب، أن تعلم ذلك، وتتخذه أصلا لسائر أصناف الرياضة بالحركة التى الحاجة إليها ضرورية فى حفظ صحة الأعضاء، وفى معالجة أمراضها. ولذلك يلزمك أن تعرف أوقاتها، وترتيب أزمانها، وما ينبغى أن يتقدمها، وما ينبغى أن يتبعها، إذ كانت طبيعية للأبدان، ضرورية فى جودة الصحة والبقاء.

ولأن جالينوس قد حدد ذلك، فينبغى لك أن تحكمه من أقاويله، وأنا حاك لك فصلا من قوله، لتتخذه أصلا فى ذلك، قال: إن أفضل أوقات الرياضة هو الوقت الذى يكون فيه الغذاء الأمسى قد استكمل انهضامه واستمراؤه فى الموضعين جميعا، أعنى فى البطن وفى العروق، ويكون قد حضر وقت تناول غذاء آخر. فإن استعملت الرياضة قبل هذا الوقت، أو بعده، فإنك حينئذ إما أن تملأ البدن أخلاطا نية، وإما أن تشحذ المرار الأصفر على التولد والتزيد، وقد تقدر على الوقوف على الوقت الذى أشرنا إليه بكون البول. وأنا أحكى لك قوله الذى قاله فى الاستدلال من البول فى قول مفرد، لتقوى فيما بعد فى حفظ الصحة، وتقدير الرياضة والأغذية.

القول فى الاستدلال على وقت الرياضة من البول

قال جالينوس: إن ترتيب هذا القول بعد القول فى الحركة والسكون. وأما السكون، فإنه فعله أبدا واحد، والزائد منه تتبعه البرودة، ويتبع البرودة الرطوبة، لعلة أن الحرارة تفنى الرطوبة. فالطبيب، إذا عرف أصناف الحركات التى تخصها، من جهة مقدارها، ومن جهة كيفياتها، ومن جهة مخالطة السكون لها، بلغ غرضه فى حفظ الأصحاء، وفى معالجة المرضى. فالحركة التى كيفيتها شديدة قوية عنيفة، تسخن الأعضاء وتجففها وتصلبها، والحركة الضعيفة، أفعالها أضعف وأقل. واختلاف الحركة من جهة مقدارها، يكون على ضربين أيضا: إما لأن زمانها ممتد، فتسمى كبيرة، وفعل هذه فعل القوية، وإما أن تكون قصيرة المدة، فتفعل فعل الضعيفة. واختلاف الحركة من جهة مخالطة السكون لها تكون على ضربين أيضا: أحدها بأن تكون سريعة متواترة، وهذا الصنف يفعل ما تفعله الحركة القوية، والضرب الثانى أن تكون بطيئة متفاوتة، وهذا الصنف يفعل ما تفعله الحركة الضعيفة.

وبعد معرفة الطبيب لفعل الحركة على الإطلاق، وفعل السكون، وما يفعله كل نوع من أنواع الحركات فى بدن الإنسان جملة، فعليه أن يعرف ذلك فى عضو عضو من أعضاء البدن. ولا يتم له ذلك دون أن يعرف حركات الأعضاء التى تتم بها أفعال الأعضاء، ليحفظها من الحركات بما شابهها وجانسها، فتقوى وتدوم لها صحتها.

وأنا أمثل لك كيف ينبغى أن تفعل ذلك من أمر الدماغ، وفى حاسة من الحواس الخمس، لتتخذه أصلا تتمثل به فى باقى أعضاء البدن، إن كنت ذا قريحة وفطنة، فأقول: إن القدماء قد بينوا أن النفس التاطقة التى خص بها الإنسان تفعل أفعالها بالدماغ. وبينوا أن أفعال هذه النفس، منها ما يتم بأجزاء الدماغ نفسه، وهى ثلاثة: التخيل وهو يتم بجزئه المقدم، والتمييز وهو يتم بجزئه الأوسط، والحفظ وهو يتم بجزئه المؤخر. وهذه الأفعال الثلاثة لا تتم، إلا بحركات تخص هذه الأجزاء من الدماغ، ليظهر بها ما فى القوى من الأفعال.

ومن أفعال النفس أيضا ما لا يتم بذات الدماغ، لكن بقوى تسرى إلى سائر أعضاء البدن فى الأعصاب الثابتة منه. وهذه الافعال هى الحس والحركة الانتقالية. وبغير شك أن هذه الأفعال أيضا لم تتم، إلا بحركة القوة النفسانية التى سرت فى الأعصاب إلى الأعضاء. فقد بان أن معرفة هذه الحركات، ومقاديرها، وكيفياتها، على الطبيب أوجب ضرورة، ليمكنه حفظها.

فاقصد إذا، أيها الطبيب، فى تعديل حركات الدماغ إلى أوسطها، ليعدل بذلك مزاجه، وتجود به أفعاله. فإن لتقدير الحركات والرياضات المختلفة فى إصلاح أمزجة الأعضاء حظا وافرا فى تدبير

الأصحاء، وفى معالجة المرضى. وإذا كنت، أيها المحب لصلاح دماغه، تعلم أن أفعاله الصحيحة إنما تتم بصلاح مزاجه، ومزاجه — مع مزاج جميع الأعضاء — إنما يتم ويصح باستعمال الموافق من المأكول والمشروب والهواء والحركة والسكون، وسائر الأشياء المقدم ذكرها التى نحن فى شرحها، ثم إنك 〈إذا〉 أصلحت مزاج دماغك مثلا، وعدلته، وصحت لك أفعاله، فاحذر أن تفرط فى حركاته جميعا، فيفسد بذلك مزاجه.

ومثال ذلك أن تأخذ نفسك كثيرا فى تخيل ما بعد ودق من المهن والعلوم العسرة الوجود، والبعيدة المرام، وبالجملة تخيل جميع ما عسر إمكانه، كالذين يكدون خواطرهم وأفكارهم فى طلب علم الكيمياء والعزائم، وأعظم من ذلك بعداً تخيل قوم وتصورهم لأرواح تخاطبهم من الجن وغيرهم. وقد يستعمل ذلك قوم على طريق الحيلة، للتكسب، ويظهرون أنه حق، فيظن قوم أن لذلك حقيقة، فيرمون تخيله، فيكون ذلك سببا لفساد الجزء المقدم من الدماغ، لكثرة ما يفرط عليه من الحركة التخيلية، فيؤول الأمر إلى فساد التخيل.

وكذلك القول فى الإفراط فى التمييز والحفظ. فإن ناسا أيضا قد أكثروا من أخذهم لنفوسهم تصنيف العلوم والكتب، وحب المذاهب، وعشق الآراء، وقوم بنظم الشعر، وقوم بحفظه وحفظ كثير من الأقاويل الدنيائية، لطلب المراتب والرياسات، فأفسد عليهم إفراطهم فى ذلك، وسهرهم، وتعبهم أدمغتهم. فلذلك يجب أن تحذر من إفراط هذه الحركات والأفعال، وتجتنب مباحثة من ساء عقله، وقبح مذهبه، وفسدت أفعاله منهم.

فأما التعلم من العلماء، ومفاوضة الأفاضل الأدباء، وتخيل الحقائق، وتمييزها من الأقاويل الكاذبة والآراء الفاسدة، وحفظ ذلك واقتناؤه باعتدال وتوسط، فإنه يقوى الدماغ، ويحد الخاطر والتخيل، ويجود الفكر والتمييز، ويزيد فى قوة الحفظ. فالنفس الناطقة بذلك تسر وتنير.

وكالذى قلناه فى أفعال الدماغ وحركاته الذاتية، فمثله افهم أيضا فى أفعاله التى يفعلها بغير ذاته، وهى على ضربين: أحدهما أفعاله الحركية، وهى التى تمسك أيدينا، وتمشى بأرجلنا، وبالجملة سائر الحركات الإرادية التى فى أجسامنا. فإن هذه أيضا ما استعمل منها على غير اعتدال وموافقة، أضر بالدماغ، كالحصار المفرط، والصياح المفرط، وأخذ الإنسان نفسه بأن يتحرك على استدارة بإفراط، ومن هذا الجنس الصراع والقفز وما شابه ذلك.

فأما الرياضات الموافقة لكل واحد من الناس، التى انخرج بها إلى الأعياء والتعب، فإنها تقوى الدماغ على قبوله للغذاء، وعلى نضجه، وعلى إنفائه عنه فضلاته التى لا حاجة به إليها،

وكذلك تقوى أيضا الحواس بأسرها، وتجود حركات الأعضاء وأفعالها.

ويجب أن تعلم أن الرياضة جنس يعم أنواعا كثيرة من الحركات، لأن الدلك نوع لها، والركوب على اختلاف أصنافه نوع لها، وكذلك المشى والحصار والصراع. ومما يدخل فى جملتها أيضا الدهن والتمريخ والاستحمام والدلك، وأشباه ذلك من الحركات القوية. وذلك أن ليس كل حركة رياضة، لكن الرياضة هى الحركة القوية عند المرتاض، من قبل أن حركة ما قد تكون قوية عند إنسان، ضعيفة عند آخر. فلذلك ليس كل حركة رياضة، والحد للرياضة هو مع ابتدائها فى تغيير نفس المتحرك إلى العظم والسرعة والتواتر، فإنها حينئذ تسمى تعبا ورياضة.

ولذلك قال جالينوس: إن اسم الرياضة فى لغة اليونانيين تشتق من العرى، لأن الذين يعملون الأعمال المتحركة يعملونها عراة. وقال: إن منافع الرياضة جنسان: أحدهما استفراغ الفضول، والآخر جودة بنية الأعضاء الأصلية. والرياضة تحدث ثلاثة أمور: أحدها صلابة الآلات لمحاكتها بعضها ببعض، ونمو الحرارة الغريزية، وتزايد الحث فى حركة الروح.

فأما منافعها الجزئية، فهى قوة الجذب، وجودة الاستحالة، وجودة الاغتذاء، وانحلال الفضلات الصلبة، ورقة الرطوبات، واتساع المجارى والمسام، واستفراغ الفضول، وجودة الدفع. ولأجل أنها تنشر الغذاء فى البدن، فلذلك ينبغى أن تحذر قبل هضم المعدة والكبد والأعضاء ما ورد إليهم من الغذاء، لكن وقتها ينبغى أن يكون قبل الغذاء، كما قال بقراط فى الفصول: إن التعب ينبغى أن يقدم على تناول الغذاء. وأنت إذا أردت معرفة أصناف ذلك، ومنافعه، تعلمه من كتاب معلمنا جالينوس الذى عنونه بتدبير الأصحاء، وهو ست مقالات، وواجب عليك قراءته.

وأما الضرب الثانى من أفعال الدماغ التى لا يفعلها بذاته، لكن يفعلها بتوسط الآلات الأخر، فهى أفعاله الحسية التى يفعلها بتوسط الحواس. وقد ينبغى هاهنا أن نذكر واحدا واحدا من الحواس، وأفعاله، لتعلم بذلك حركاته، فيصح لك حفظها بما يوافقها من الحركات والمتحركات والمحسوسات.

القول فى حاسة البصر وما يوافقها

أما صحة البصر، فإنها تتم بصحة العين. وذلك أن العين عضو مركب من طبقات ورطوبات، وعضل تمسكها وتحركها، وأعصاب مختلفة الصور، لأن واحدة منها مجوفة الداخل، وهى التى يرد فيها النور والقوة النفسانية التى يكون بها الحس للمبصرات، ولأن لكل جزء من أجزاء العين فعلا يخصه، ومنافع لأجلها خلق على ما هو عليه، وينبغى للطبيب أن يعنى بمعرفته، ليقدر على حفظه. فلذلك يجب أن يكون المتولى لحفظ صحة العين، وعلاج أمراضها، منفردا بذلك، شديد الحرص على تعلمه، إذ هو عضو جليل الخطر، عظيم النفع فى مصالح الجسم.

فأما أنت، أيها الطبيب الطبيعى، فيجب عليك أن تنظر فى أفعال العين، ومنافعها الظاهرة، فتحرسها من مضارها، ومؤذياتها الواردة عليها من خارج، والواصلة إليها من داخل. فإما ما يصل إليها من داخل، فأنت تمنعه بتعديل الأغذية والأشربة، والحركات، والنوم واليقظة، وبالجملة باستعمال الموافق من الأمور الطبيعية التى نحن فى وصف جملها. وأما ما يرد عليها من خارج، فأنت تقدر على تعديله لها، واستعمال الموافق لها، إذا أنت عرفت منافعها، وفعلها، وكيف يفعل فعلها.

وأنا أريك من ذلك جملا تستدل منها على كثير من جزئياتها. فأما إحكام جميعها، فلا يقدر عليه إلا من قرأ كتب الأطباء. فاقصد كتب الفاضل جالينوس فى منافع الأعضاء، وكتبه فى التشريح، لتصل إلى غرضك على التمام.

فأما ها هنا، فلا تطالبنى بذلك، فإنى لم أقصده، لكنى قصدت — كما عرفتك أولا — تنبيه العقل من أهل صناعة الطب على مقدار شرفها ونفعها، وحثهم على علمها، وخاصة — مع أن تكسبهم وتعيشهم بها ومنها — ممن لا يشتاق بما أذكره، ولا يتحرك به لقراءة كتبها، والتأدب بآدابها، فهو الخاسر نفسه ودينه جميعا.

فارجع بنا، أيها المحب للحق، إلى ما كنا فيه وافهم ما أقوله! أقول: إن القدماء قد بينوا أن إدراك حاسة البصر للمبصرات إنما يتم بنفوذ النور الباصر الواصل إلى العين فى الهواء المضئ، حتى ينفذ ويتصل بالمبصرات، فتدركها القوة الباصرة، وتخيلها القوة المخيلة للنفس. وكيفية هذا التصوير، والقول فيه، وحكاية ما رأته القدماء فى ذلك، لا يليق بهذا الموضع ذكره، لطوله وصعوبة مرامه.

فأما ها هنا، فإنا نقول: إنه إذا كان الأمر على ما قيل، وما هو مشاهد أيضا من الهواء والضوء جميعا، هما واسطة بين الباصر والمبصر، ولا يمكن وصول صور المبصرات إلى حاسة البصر دونهما، فيجب أن تجتهد فى تعديلهما وإصلاحهما، ليصح لحاسة البصر إدراكها. والهواء، فقد يقبل الضياء، وقد يعدمه. والضياء، فقد ينفذ نفوذا مستقيما فى الهواء، وقد يتعذر نفوذه، وذلك لأن الهواء قد يغلظ، ويتكدر بما يخالطه من البخارات الرطبة واليابسة، فيعوق ذلك لنفوذ النور فيه. وكذلك أيضا يعرض لنور البصر عند كدر الهواء ألا ينفذ فيه نفوذا مستقيما، ولا يدرك المبصرات إدراكا حقيقيا.

فبواجب إذاً ينبغى لك أن تعنى بإصلاح الهواء المحيط بك، وتجتهد ألا يفسده عليك بخار ولا دخان ولا غبار. واجتهد أيضا فى أن يكون مسكنك موضوعا قبالة الرياح الشرقية! فإن المدن التى وضعها هذا الموضع هى أقرب إلى الاعتدال، ولذلك 〈يكون〉 هواؤها أصح وأرق وأشد صفاءً. ولذلك تجد بقراط يفضل هذه المدن على غيرها، ويقول، قال بقراط فى الموضع الشرقى من المدن فى كتابه فى البلدان والمياه هذا القول: وأما ما كان من المدن موضوعا قبالة الرياح التى فيما بين مطالع الشمس الصيفية وبين مطالعها الشتوية، وما كان موضوعا منها على ضد ذلك، فهذه هى الحال فيهما: أما ما كان منها موضوعا قبالة مطالع الشمس، فيجب أن تكون تلك المدن أصح من المدن الموضوعة قبالة الشمال، ومن المدن الموضوعة قبالة الرياح الحارة، وإن كان البعد فيما بينهما ليس هو إلا مقدار اسطاذيون واحد، وهو عند اليونانيين سبع ميل. وذلك أنه فى أول الأمر 〈يكون〉 الحال فيهما من الحرارة أقرب منها إلى الاعتدال فيما بينهما وبين البرد. وقال: ثم إنه يجب ضرورة أن لا يكون فى تلك المدينة هواء غليظ، وذلك أن الشمس تمنع من ذلك، إذا طلعت فوقع شعاعها عليه، لأن الهواء الغليظ إنما يكون فى كل واحد من الأوقات فى الغدوات على الأمر الأكثر. واحذر الإلحاح على تأمل الأنوار القوية الساطعة، كجرم الشمس، وما عظم من النيران! فإن ذلك يضعف نور البصر ويفرقه. وكذلك يفعل البياض الساطع، فإنه يفرق البصر، كما أن اللون الأسود يجمعه. وكذلك يجب أن تحذر الإدمان على الأعمال الدقيقة، والخط الدقيق، فإن ذلك يضعف البصر أيضا.

ومما ينقى العينين تنقيتهما وغسلهما، وخاصة بعد النوم، وحفظهما مما يرد إليهما، ومن العرق النازل إليهما. ولا بأس بتعاهدهما بما قواهما من الأكحال كالأثمد ونظيره. وقد يفعل ذلك أيضا النظر إلى المبصرات المحمودات والنافعات، كالخضر وأنواع النبات النضر.

وعلى ما ذكرته لك فقس، واعدل ببصرك، أيها العانى بمصالحه، مع توفرك على جميع هذه الأشياء إلى قراءتك فى الكتب، والالتذاذ بفوائدها! فإن هذه هى أول النعم التى وهبها لك بارئك تعالى، وأوصلك إليها بنور عينك. فعليك وعلينا أن نحمده كثيرا، ونسبحه دائما، ونصرف أبصارنا عن المحذورات والمذمومات، لتدوم هذه النعمة لنا وعلينا.

القول فى حس السمع والأشياء الموافقة له

وكذلك يجب أن تنظر فى آلة السمع، فإنها حاسة لطيفة أيضا، محتاجة فى تمام فعلها إلى الهواء، لأن بتوسطه تصل المسموعات إليها، مما تحمله الأصوات، كالأقاويل والنغم والألحان والأخبار، وبالجملة جميع المسموعات. فلذلك يجب أن تعنى بالهواء الذى هو الواسطة، كالعناية التى وصيت بها فى حاسة البصر. وأخص العناية ينبغى أن يكون بالهواء الذى داخل الأذن، فإن به يتم الاستماع أولا، ثم بالهواء الخارج عن الأذن، باتصال أحدهما بالآخر. فاحذر من تكدر أحدهما، لئلا يتكدر الآخر المتصل به! والحذر على الهواء الذى داخل الأذن ينبغى أن يكون بما يتصاعد إليه، أو يتصل به، من بخارات المعدة، وفضلات الدماغ. 〈و〉أشد وأكثر ما يفعل ذلك هو ما يملأ المعدة والدماغ من الأطعمة والأشربة المجاوزة فى الكمية والكيفية المقدار القصد. وكذلك القول فى الحركات والاستحمام، وسائر الأمور الضرورية التى لا ينفك الجسم منها، غير أن علينا تعديلها، فعدلها لجسمك بحسب ما يوافقه منها، ليصفو لأذنك هواؤها!

وأما الهواء الخارج، فقد سمعت القول فى إصلاحه، واختيار المحمود منه، وإنما هو فى القول فى العين. ويجب أن تتوقى — مع ما قلناه هناك — هذه الأشياء أيضا: وهى مجاورة الصنائع، والمواضع المفسدة الهواء، كالحدادين والنشارين، وأتاتين الحمامات، وغيرها من المواقد العظيمة، كمسابك الزجاج والنحاس.

وكذلك توق استماع الأصوات العظيمة المهولة، كأصوات السباع، وأصوات الدبادب والطبول الدائمة، والبوقات المتصلة! فإن جميع ذلك يفسد القوة التى ترد إلى الأذن ليكون بها الاستماع، ويعوقها عن الاستماع، فتضعف لضعف آلتها، وكلما ضعفت الآلة، قل قبولها لقوة النفس، كالذى يشاهد من ذلك عند الشيخوخة، وفى الأمراض العامة للبدن، والخاصة للأذن.

فتدبر بما قلناه، واعن بمصالح أذنك، ونقها مما يرد إليها من فضلات الدماغ! فإنها هى وسائر المنافذ — مع ما لها من المنافع والإحساس — قد جعلت طرقا لتنفيذ ما يصل إليها من الفضلات والبخارات. واجعل تنقيتك لها بعد خروجك من الحمام، لأن ما داخلها يلين! ولا تعنف عليها! فإن العصب الذى فى باطنها هو شديد الحس، وقريب من الدماغ. فتجنب كثرة الحك لها، وإدخال الأجسام إليها!

ومع جميع ذلك، فاجتهد ألا يقرع آذانك من الأصوات إلا أحسنها، وألذها لسماعك، وما وافق نفسك من الأقاويل والألحان! فإن فى ذلك تعديلا الأخلاق. فأما ما خرج عن الاعتدال الموافق، فاجتنبه ما أمكنك! فإن لصناعة التلحين أن تعدل الأخلاق، وللموسيقار الحاذق أيضا بصناعة التلحين أن يميل

أخلاق النفس إلى حالات ليست أيضا بالطبع، فيجعل من كان جبانا شجاعا، ومن كان محزونا فرحا، وكذلك فى أضداد هذه، وفى باقى المتضادات من حالات الأخلاق.

ولذلك 〈كان〉 إجماع الأطباء فى حفظ الأخلاق المحمودة على استماع ما يسر النفوس، كاستماع أخبار الفضائل، والمتألهين، واستماع علوم العلماء — الإلهية منها، أعنى الشرعية، والعقليات — وأخبار المتدينين وأهل الورع والطهارة. لأن فى استماع جميع ذلك سرورا للنفس الفاضلة ولذة، لأنها أفعال تصدر عن جوهرها الشريف، وهى تحب أن تكون بتلك الحالات وتقتنيها. وكذلك تجدها تكره استماع المحالات، وتستشنع الكذب، والأقاويل المذمومة، والأفعال القبيحة، وتغتم من ذكر أهل هذه الأحوال، فضلا عن مشاهدتهم، واستماع كلامهم.

فاجتهد، أيها الحدث، أن تقاوم طبعك المذموم، الداعى لك إلى المذمومات، وتمنعه لذاته! فإن مع كل لذة محسوسة جسمانية، آفة خفية مكروهة، لا يقوى على كشفها إلا العقل. فخذ نفسك بما يسوقك إليه عقلك، لا طبعك، لئلا تعتاد وتألف لذات الطبع، فيحرمك لذات العقل، الدائمة السرور، المأمونة من الشرور! واحرص فى أن تعود نفسك قلة الكلام، مع كثرة الاستماع النافع! فإن حظ المرء فى أذنه، والحظ لغيره فى لسانه. وتجنب استماع الآراء المفسدة، كمذاهب المتدهرة والملحدة! وكذلك توق مشورات الجهلة والحساد! فإنها تسوق إلى هلاك النفوس والأجساد. فتأمل ما قلته لك، وقس عليه ما لم أقله، ترشد إن شاء الله تعالى!

القول فى حاسة الشم والأشياء الموافقة له

وأما حاسة الروائح، فليست تكون ما تراه ظاهرا من المنخرين، لكنها تكون بما داخل القحف من البطنين المتقدمين من بطون الدماغ، وذلك بالروح النفسانى الذى فيهما من الدماغ. ولكن لما كانت حاسة الشم لا تتم أيضا إلا بتوسط الهواء الحامل للبخارات والروائح إلى هذين البطنين، وكان الهواء قد يحمل أيضا مع ذلك أجساما لطافا، وكانت أيضا الحاجة إلى استنشاق الهواء فى بقاء الحياة على الحيوان ضرورية، وكان أيضا ما ينقيه الدماغ من فضلاته قد يحدره بالمنخرين من جهة هذين البطنين، لأنهما مطلين على المنخرين، لطف الخالق تعالى للحيوان بحاجز يحجز دون هذين البطنين اللذين هما آلة الشم، وخلقه مثقبا كثقب الإسفنج، لتصفو منه فضلات الدماغ، وتصل إليه من تلك الثقب الروائح مع الهواء، ودائما ينفذ فيها الهواء، ويخرج منها ما ينقيه الدماغ من البخار، بنفخه وحركته الدائمة، مع ما يبعثه من الروح النفسانية إلى الحواس، وإلى غيرها من الأعضاء عنه. فالهواء قد يصل إليه مفردا، بغير روائح، وقد يصل مع الروائح.

وليس هذا اللطف العجيب من آلة الشم فقط، لكنه موجود فى آلة السمع أيضا. فإن آلة اسمع لما احتيج أن تجعل أيضا داخل الرأس، لتقرب من الدماغ، وجعلت الأذن لها حاجبا وساترا، وكان الهواء يريد أن ينفذ فى داخلها، ولم يؤمن من أن يصل معه غير الصوت من أجسام صغار وغيرها، جعل داخل الأذن معوجا ومستديرا، كاللولب، ليصل الهواء والصوت، ولا تنفذ الأجسام.

فتأمل لطف البارئ تعالى بالحيوان، وحكمته، وإتقان صنعته! وليس ذلك فى الحيوان فقط، لكن فى كل مصنوع. ومن لطفه تبارك وتعالى أن جعل للحيوان من آلات الحس زوجا زوجا، كالعينين اثنتين، والأذنين، والمنخرين، واللسان مقسوما قسمين، ليكون، إن دخلت آفة على أحدهما، تبقت الأخرى للفعل.

وإذا كنت قد وصفت جملا من خلقة المنخرين، وآلة الشم، وغيرها من الحواس، ولوحت لك من منافعها تلويحا، لتشتاق بذلك إلى معرفة بنية جسمك، ومنافع أعضائك، فلا تقتصر على ما ذكرته ها هنا فقط، بل اقصد كتب المعلم الفاضل جالينوس فى التشريح، وكتابه الذى وضعه فى منافع الأعضاء! فإنك تحظى من هنالك بعلم ذلك بأسره.

فارجع بنا إلى القول فى آلة الشم، واعلم أن الواسطة فى اشتمام الروايح هى الهواء. فلذلك يجب أن تعدله، وتحتاط فى صلاحه، للسبب الأعظم الذى هو الحياة والبقاء. فإنه من المنخرين يصل

إلى الدماغ، وإلى الرئة، فيروح عنهما، ويمدهما بالصافى النقى منه. والسبب الثانى أن به تصل الروائح إلى البطنين المقدمين من الدماغ اللذين بهما يكون الشم.

والوجه الأخير من فساد الهواء قد تقدم لنا القول به، عند القول فى حاسة البصر، وحاسة السمع. ومع ذلك فإنى أقول أيضا إنك، وإن بعدت من القرب من مواضع الروائح الرديئة، فإنه ينبغى أن تحتال لموضعك، ولهوائك المحيط بك، فى أن تكسبه روائح موافقة طيبة، ليصل إلى دماغك دائما بالشم ما يصلحه، ويصلح الروح النفسانى التى فيه، وتذكيها، كالبخورات وأنواع الطيب. ولذلك تجد الأفاضل يكسون ثيابهم وأجسامهم بالبخورات، وغيرها من هذه الروائح، ليدوم استنشاقهم لها. فتعمل لذلك، ولا تهمله! فإنك قد تنتفع بذلك بوجه آخر، وهو أنك قد تحضر عند مرضى، فتنال من روائحهم ما يؤذيك، ولا يمكنك أن تنفك منه، فتلك الروائح التى قد أكسبتها لكسوتك تمنع عنك، وتقاوم لك تلك الروائح. ومع ذلك فإن فى ذلك راحة ما، وقوة نفس عاجلة للمريض، إذا اشتم روائحك. فهكذا ينبغى أن تصلح هواءك. ولذلك يجب أن يكون تعلمك للطبيب، لا لغيره.

ثم اجتهد فى أن يكون ما يترقى من المعدة إلى آلة الشم من البخارات محمودا. وإنما يتم لك ذلك باحترازك من كثرة الأغذية والأشربة، وفساد كيفياتها، وسوء ترتيبها. وقد ذكرت فيما تقدم من ذلك طرفا، فخذ نفسك باستعمال الموافق لك من جميع ذلك، لينقى دماغك، وسائر حواسك، بذلك! وخذ نفسك بتنقية المنخرين اللذين قد خلقا كالمحرابين لتنفذ فيهما الفضلات! وتعاهدهما بالغسل والدهن فى أوقات دلكك! واختر لنفسك النوع الموافق من الرياضة والدلك والاستحمام! فإن فى ذلك تنقية للدماغ، والحواس من فضلاتها.

وتوق عند ممارستك العلاج من روائح الأدوية المنكرة الروائح! فإن يكن لا يوافق مزاجك، ومزاج دماغك، ما تريد معاناته منها، فتقدم إلى غيرك فى صنعتها، بحضرتك! فإن الضرر الداخل من ذلك ليس هو على الدماغ، وعلى آلة الشم فقط، بل وعلى القلب والرئة، فاعلم ذلك!

واجعل البرهان لك على صحة ما ذكرته ما أمر به بقراط فى كتابه فى الغذاء! فإنه يأمر هناك بشم الروائح الموافقة الطيبة، المقوية للنفس، لمن أردنا تغذيته تغذية لطيفة، وقد عاقنا عن إعطاء هؤلاء من الأغذية اللطيفة عائق ما، فأمر باستعمال شم الروائح فيهم، فقال هذا القول، قال بقراط: من احتاج بدنه إلى زيادة سريعة، فأبلغ الأشياء فى رد قوته الشئ الرطب، ومن احتاج من ذلك إلى ما هو أسرع، فتقويته تكون بالشم.

القول فى حاسة المذاق والأشياء الموافقة لها

حاسة المذاق تتم باللسان واللهوات والحنك، وذلك بالعصب المبسوط على هذه الآلات من الفم. والفم لما كان يشتمل على الأسنان، وعلى جميع أجزائه التى خلقت فيه لأنواع من مصالح الجسم، كتعرفه على أصناف الطعوم، وكيفية طبعه للأغذية، وكسر ما صلح أن يكسر منها، ثم طحن ما يصلح للطحن بالأضراس، وتقليب اللسان لذلك الغذاء، وترطيبه بالريق، ليتم طحنه، وتساوى أجزائه، لتكون صورته واحدة فى اللين، ليسهل نفوذه فى المرئ.

وأيضا مما ينتفع به الحى فى صلاح حياته بالفم ما يرد منه من الهواء إلى الرئة، والقلب، ليروح عن حرارته الغريزية، ويمدها بما صفا ونقى من الهواء. ومن منافع الفم وآلته خروج الصوت منه إلى الحيوانات، وخاصة فى الإنسان الذى خصه البارئ تعالى بالقوة العاقلة، القادرة على تفصيل صوته، وتقطيعه بآلات الصوت، وبآلات الفم، حتى صحت له النغم والحروف، وقدر بلطيف تمييزه على جمع تلك الحروف، حتى صح له القول الدال المعبر عما فى نفسه من الأمور المتصورة. فقدر بذلك النطق على الأقاويل المختلفة، والعبارات المتباينة فى أصناف العلوم. فالفم إذاً باب يدخل منه، ويخرج ما ينفع الإنسان فى مصالح نفسه وجسمه.

فكما أن بحاسة الذوق، وما خلقه البارئ تعالى من القوة النفسانية المميزة للطعوم، يمكن للعاقل أن يعرف الغذاء من الدواء، ليستعمل كل واحد منهما فى وقته، ويعلم أيضا مما يبرز من الفم كثيرا من حالات البدن، كالبصاق والجشاء والقذف، وما جانس ذلك، فى كل واحد من هذه الفضلات عدة علامات يستدل بها على صحة المعدة وسقمها، وكذلك حالات غيرها من الأحشاء، كذلك أيضا يستدل العاقل من الناس من الألفاظ والأقاويل الصادرة من النفس على قدر شرفها، وعلو فضيلتها، أو على خساستها، وسقوط منزلتها.

وإذا كان ذلك كذلك، فيجب أن يعنى كل عاقل بنفسه وجسمه، لئلا يرد إليهما إلا محمود موافق لهما، ولئلا يصدر عنهما إلا مرض ممدوح. وأعظم ما أعان على ذلك صلاح الحواس، وخاصة الفم الذى هو الآلة للذوق والنطق، فإن من أنعم الله جل اسمه عليه بالمنطق المستقيم، فقد شرفه ونفع به الناس أجمعين. ومن حرم النطق عدم فضائل السامعين، كما أن من ساء نطقه، كان مرذولا حقيرا بين الناطقين.

وأيضا فإن من فسد ذوقه بمرض أو بعرض من الأعراض، لا يلتذ بطعامه ولا بشرابه، وما لا يلتذه الذوق، كرهته المعدة ودفعته. وإذا بقى البدن بغير غذاء، هلك الحيوان، وفسد. فسبحان من نعمه على خلائقه دائمة!

ولأن الفم — كما قلنا — مركب من أجزاء مختلفة، فلذلك يجب أن تخص كل جزء من أجزائه بتدبير موافق لذلك الجزء فى مصالحه، سوى إصلاح الأمور العامية له بأسره. وأول الأمور العامية التى بصلاحها تصلح أفعال الفم، وبفسادها تفسد، هو الهواء. فإنه دائما يرد عليه، وهو دائم الاختلاف، لأنه قد يتغير فى اليوم الواحد إلى الحر والبرد، والرطوبة واليبس، عدة تغيرات، فضلا عما يتغير إليه فى الفصول، وبحسب هبوب الرياح.

فيجب أن تتوقى وتحذر على فيك أن يدخله هواء غير موافق، بحسب طاقتك. وقد علمت مما قدمناه من القول فى الحواس الأخر أيما هى الأهوية الرديئة، فاحذرها بأسرها! واحذر أيضا مع ذلك ورود هواء قد حمل إليك بخارات الجيف والزبول المتعفنة وأبخرة ما ينفثه أصحاب العلل القاتلة، كالذى ينفثه أصحاب قرحة الرئة، والردئ من نفث أصحاب ذات الجنب! فإن المنتن من ذلك يفسد ويعدى. وكذلك احذر أيضا ما خالط الهواء من أبخرة البراز، والقذف، وما خرج من النزلات، والخراجات الرديئة، وسائر ما برز من الجسم!

وكذلك فاحذر أيضا من أن يرد إلى فيك من الطعوم ما يفسد، بكيفية له رديئة، مذاقك أو جزءاً من أجزاء فيك، كالأسنان، أو اللسان، أو الحنك، أو ما سوى ذلك، كذوات الطعوم الشديدة الحمض، أو الشديدة القبض، أو الشديدة المرارة! فإن هذه تضر بآلات الذوق، وآلات الفم، وخاصة الأسنان. واجتهد فى تنقية هذه الآلات بالدلك والسواك والجلى! واعتمد فى جلائها على دلكها بالعسل! فإنه ينقى الأوساخ، واللزوجة التى تجتمع عليها، وخاصة على الأسنان. واجتهد فى أن لا يتراقى من معدتك إلى فيك إلا بخار محمود! فإن الأبخرة الرديئة تفسد الفم. وإنما يتم لك ذلك بإصلاحك لأغذيتك فى كميتها، وكيفيتها، وترتيبها.

واجتهد أيضا فى صون أضراسك، وأسنانك، من الكسر بها الأشياء الصلبة، لئلا تثلمها، وتهشمها! فإن ما عدم منها، أو انثلم، لم يعد. واحذر أيضا عليها من الأشياء العلكة، ومن البرودة المفرطة كالثلج، ومن ورود الأشياء الباردة بعقب الحارة!

ومع جميع ما وصيتك، فاجتهد ألا يبرز من فيك نطق، إلا محصل نافع! وصن ما تنطق به من العلوم! ولا تسمعه إلا أهله ومستحقه! وقل كما قال أفلاطن، حين جلس يوما، وحوله تلامذته سوى ارسطوطاليس، فقيل له: تكلم، يا معلم! فقال: لو وجدت مستمعا، لتكلمت! فقيل له: حولك، أيها الحكيم، ألف تلميذ! فقال: أريد واحدا كألف! وإذ قد ذكرت هذه الجمل فى الحواس، فقد آن لى أن أرجع إلى تمام القول فى تلك الأمور الطبيعية.

القول فى المأكول

وإذا كان ما ذكرنا من مصالح الحواس الخمس نافعا فيما نحن فى الكلام فيه من إصلاح حالات الجسم، وكان ذلك قد توسط الكلام فى الأمور الطبيعية على طريق المثال والإرشاد والتنبيه، وكنا قد ذكرنا من الأمور الطبيعية أمر الهواء، وأمور الحركة والسكون، فيجب أن نتبع ذلك بالقول فى أمور المأكول على الطريق الذى سلكناه من الإيجاز، وذكر الجمل النافعة التى تحث وتشوق إلى تقصى العلم بذلك من مواضعه وكتبه.

فأقول: إن المأكولات تسمى أغذية على طريق الاستعارة، ولأنه قد يكون منها أغذية أيضا. فأما الأغذية الحقيقية، فإنما هى الجوهر الذى قد تميز من المأكولات بالطبخ الأول والثانى والثالث، وفارقته فضلاته التى لا تغذو، وبقى ذلك الجوهر الذى يصلح أن يلصق بالمغتذى، ويخلف عليه عوض ما تحلل منه، وهو الزائد فى كميته، لئلا يتحلل دائما فيهلك.

وإذا كان الأمر كذلك، فأنت تجد المأكولات مختلفة الطعوم والكيفيات، وبحسب اختلاف حالاتها، تؤثر فى البدن. فيجب أن تتعرف جواهرها وأفعالها، وتعنى أيضا بمعرفة البدن، ومزاجه الطبيعى له. ولابد لك مع ذلك من معرفة مزاج المعدة الطبيعى لها أو المكتسب.

وقد حثنا وأرشدنا إلى ذلك معلمنا الفاضل جالينوس فى كتابه فى الأغذية، فإنه قال: وإنما ينبغى أن تقصد للعناية بمعرفة الأمور. وقد تجد الأغذية تبطئ أو تسرع فى الانحدار، إما من قبل ما عليه طبيعة المعدة منذ أول أمرها، وإما من قبل جواهر الأشياء التى تؤكل وتشرب، لأن بعضها رطب، وبعضها يابس، وبعضها لزج، وبعضها يسرع التفرق والتقسيم، وبعضها فيه حدة وحرافة، وبعضها فيه حموضة، أو مرارة، أو حلاوة، أو ملوحة، أو قبض، أو عفوصة. وقد يوجد فى بعضها قوىً ما من القوى الموجودة فى الأدوية، 〈فتكون〉 قوى هذه الأغذية داخلة فى جنس الأدوية المسهلة.

والعناية بما ذكره جالينوس من ذلك ينبغى أن ينصرف إليها الطبيب انصرافا شديدا تاما، إذ الحاجة إلى هذا الجزء من علمها فى بقاء الإنسان عظيمة جدا. قال جالينوس: وذلك أن العلم بقوى الأغذية قريب من أن يكون أنفع علوم الطب كلها، إذ كانت الحاجة إلى استعمال سائر ما يستعمل فى مصلحة البدن ليست فى كل وقت، فالحاجة إلى الغذاء دائمة أبدا، فى وقت الصحة، ووقت المرض، إذ كانت الحياة لا تبقى إلا معه.

وليس ينبغى لك، أيها الطبيب، أن تأخذ أمر قوى الأغذية، وحالاتها، وما تفعله من أفعالها فى

البدن تقليدا ممن ذكره فى كتاب! فإن لأصحاب التجربة كتبا قد وضعوها فى ذلك على رأى التجربة. والتجربة فى ذلك غير كافية، إذ كانت تقضى على الأمور من ظاهر حالاتها. وأنت تجد من الأشياء المتشابهة ما يعمها بأسرها شئ واحد، وبه تشابهت، ولا يصلح لأجل ذلك الشئ أن تقضى عليها بقضايا أخر عامة لها كلها. ومثال ذلك أنك تجد عدة أشياء تسهل، أو تدر البول، وغير ذلك من الأفعال، وتجد بعضها باردا، وبعضها حارا.

وقد تقدم بتعليم ذلك جالينوس، ومن كان قبله من علماء الأطباء، كالذى حكاه جالينوس عن ديوقليس، وهو هذا القول، قال، قال ديوقليس: أما من ظن بأن الأشياء المتشابهة فى الطعوم، أو فى الروائح، أو فى الحرارة، أو فى غير ذلك مما أشبهها، قوتها واحدة، فبئس ما ظن. وذلك أنه قد يقف الإنسان من هذه الأشياء المتشابهة فى هذه الأشياء على أشياء كثيرة مختلفة القوى. وليس ينبغى أيضا أن يعمل على أن كل شئ مما يطلق البطن، أو يدز البول، أو له قوة أخرى سواها بين القوتين، فإنما صار كذلك من قبل أنه حار، أو بارد، أو مالح. وذلك أنه ليس كل الأشياء الحلوة، أو المالحة، أو غير ذلك مما أشبهها، قوية قوة نظيرها فى الطعم، ولكن ينبغى أن يعمل على أن السبب الذى من أجله يحدث كل واحد من الأشياء ما من شأنه أن يحدث عنه، هو جملة طبيعة ذلك الشئ. فإن المتمسك بهذا الأصل لا يغلط، ولا يفوته الحق أصلا.

ولا ينبغى لك أيضا أن تسارع على أن تقطع على شئ من الأغذية أو الأدوية من حيث صورته للحس مفردة، بأنه يفعل فعلا واحدا. فإنك قد تجد ما صورته واحدة، وهو يفعل أفعالا متضادة، كالذى يفعله العدس والكرنب. فإنهما يطلقان بعض البطون، ويحبسان بعضهما. وإنما يفعلان ذلك لأن خلقة كل واحد منهما من أصل تركيبه ومزاجه قد اجتمع فيه جوهران مختلفان لهما قوتان مختلفتان. قال جالينوس: وأما السبب الذى صار له العدس يطلق بطن بعض الناس، ويلينه، ولا يحبسه، ويعقله فهو ما أصف، أقول: إنى قد بينت فى كتاب الأدوية المفردة أن كثيرا من الأنواع التى يظن بها بسيطة مفردة، وقد ركبت فى أول خلقتها من جواهر مختلفة، وقوى متضادة، بمنزلة ما نؤلفه نحن بالصنعة، فنعمل 〈من〉 أنواع كثيرة مختلفة نوعا واحدا مؤلفا. وقد نجد ذلك فى كثير من الأغذية، كالعدس، والكرنب، وجميع حيوان البحر ذوات الجلود الخزفية. فإن طبيعة كل واحد منها مؤلفة من قوى متضادة. وذلك أن جرمها الصلب بطئ الانحدار، حابس للبطن، وما فيها من الرطوبة، يطلق البطن. وبيان ذلك ما نجده فى طبيخها. وذاك أن مرق كل واحدة منها يطلق البطن، وجرمه الصلب يحبس البطن، ومن ثم اختلف الناس فى أمرها.

ثم انظر أيضا، مع ما تنظر من حالات الأغذية، فى حالات المعدة! فإنك قد تجد من المعدة ما الغالب عليها الحرارة النارية. إما لأن مزاجها من أجل خلقتها كذلك، أو لأن مرارا أصفر ينصب إليها مما قد مال من أصل الخلقة عن طريقه الذى كان إلى الأمعاء، فصار ينصب إليها. فإن المعدة التى هى حالها تهضم من الأغذية غليظها، كلحم البقر، ونظيره، ويفسد فيها ما لطف كلحوم الدراج والفراريح.

فليس ينبغى لك أن تمتحن وتجرب الأغذية، وتقطع عليها بأن بعضها سريع الانهضام، وبعضها بطئ الانهضام، بحسب حالات هذه المعدة. فإن هذه المعدة، وما سواها مما بعد عن الاعتدال بعدا كثيرا، لا يصح القضاء على الأغذية من جهتها.

ويجب أن تنظر فى أمر الأغذية نظرا آخر، وهو أن من المأكولات ما أكثر ما فيها ما يغذو، لمشابهتها لجسم المغتذى، وذلك كالحنطة، والشعير، والأرز، وما شابه هذه من الحبوب، وكلحوم الحيوان العذبة الطعم، السريعة النضج والانهضام. فإن جميع ذلك، وما جانسه، يغذو الإنسان، إذا أجيد إصلاحه، غذاء كثيرا. فأما ما وجد من المأكولات غير مشابه لجسم المغتذى، فإنه، مع أنه لا يغذى غذاء محمودا، فإنه قد يمرض، إذا لم يفهم الآكل له وجه استعماله، وذلك كالمأكولات التى قد غلبت على بعضها الحموضة المفرطة، والملوحة المفرطة، والحلاوة المفرطة، أو القبض المفرط. فإن هذه إلى طبائع الأدوية هى أميل.

وقد يوجد بين المأكولات المشابهة، والخارجة إلى الأطراف خروجا كثيرا، متوسطات، مختلفة المراتب، إذا حسن إصلاحها، غذت المغتذى بها، لم تضره. وأيضا فإن من هذه الخارجة عن التوسط فى الطعوم ما يصلح أبدانا كثيرة، كالذى يفعله العسل، فإنه يصلح أبدان المشائخ، وخاصة من كان مزاجه منهم باردا، ومن غلب عليه البلغم، وكذلك أصحاب الأمزجة الباردة، وفى الأزمان الباردة، وفى البلدان الباردة. فافهم ذلك، وقس عليه باقى المأكولات ذوات الطعوم الظاهرة المختلفة! وإذا صح لك معرفة الغذاء الموافق، فاحذر من الزيادة والنقصان، وتوخ التوسط! فإنه أسلم وأوفق.

وإلى ذلك أشار بقراط بقوله، قال بقراط: كل كثير عدو للطبيعة، والقليل قليلا ثقه! وقال بقراط: لا الشبع، ولا الجوع، ولا غيرهما من جميع الأشياء، بمحمود، إذا كان مجاوزا لمقدار الطبيعة. وقال بقراط أيضا: متى ورد على البدن غذاء خارج عن الطبيعة كثير، فإن

ذلك يحدث مرضا ويدل على بروة وقال: يضطرك الأمر فى تقدير الغذاء لبدن المغتذى إلى النظر فى أمر الفصل من الزمان الذى أنت فيه، وذاك أن الصيف والخريف فصلان لا يحتمل الجسم فيهما الزيادة فى الغذاء. فأما فصلا الشتاء والربيع، فيحتملان من الغذاء الكثير. وإلى ذلك أشار بقراط فى هذا الفصل من قوله، قال بقراط: أصعب ما يكون احتمال الطعام على الأبدان فى الصيف والخريف، وأسهل ما يكون احتماله عليها فى الشتاء، ثم بعده فى الربيع.

وبين ذلك جالينوس، وفسر بهذا القول، قال جالينوس: إن الأبدان تبتدئ فى الخريف تبرد، وتجتمع، وتتكاثف. وتبتدئ فى الربيع تسترخى، وتستخف. وقال بقراط أيضا: الأجواف فى الشتاء والربيع أسخن ما تكون بالطبع، والنوم أطول ما يكون. فينبغى فى هذين الوقتين أن يكون ما يتناول من الأغذية أكثر، وذلك أن الحار الغريزى فى الأبدان فى هذين الوقتين كثير، ولذلك تحتاج إلى غذاء كثير، والدليل على ذلك الأسنان والضرسان.

وأيضا مما هو ضرورى من علم زمان الغذاء هو معرفة أوقات التغذية الجزئية، أعنى التى ينبغى أن يتغذى فيها من اليوم والليلة مثلا، وكم مقدار الزمان بين الغذائين. فإن معرفة ذلك إنما تكون من جهة المغتذى، وسرعة هضمه، ونقاء معدته من الغذاء الأول، ومن أخلاط مفسدة، والكثرة الزائدة. وقد أجمل ذلك بقراط فى قوله هذا فى ابيديميا، فى المقالة السادسة منه، حيث رتب الغذاء بعد الرياضة، وقبل النوم، فقال: التعب، والطعام، والنوم، والجماع، ينبغى أن تستعمل كلها بالقصد. ومع ترتيبه له الترتيب الطبيعى، نبه فى قوله «بالقصد» على الاجتهاد فى تقدير كميته لكل مغتذ. قال بقراط: البدن الذى ليس بالنقى، كلما غذوته، إنما تزيده شرا.

ولأن من المأكولات ما كثيرها يغذو غذاء قليلا كالبقول، ومنها ما قليلها يغذو غذاء كثيرا كلحوم الحيوان، وما صلب من الحبوب، ومنها ما هى متوسطة بين ذلك، كلحوم الجدى، والفراريج، والدراج، وأمحاح البيض، وما شاكل ذلك، فلذلك يجب أن تعنى بعلم ذلك، لتستعمل منه الأوفق، بحسب الحاجة.

وأيضا لأن من المأكولات ما يسرع إليه الفساد، لاستحالتها سريعا، ومنها ما يبطئ فسادها لصلابتها، فلذلك يجب أيضا علم ذلك على الطبيب، ليرتب الغذاء بحسب ذلك، وبحسب حال المعدة. فإن على أكثر الأمر ينبغى أن تقدم الأغذية السريعة الاستحالة، قبل البطيئة النضج، ليسهل نفوذ الصلبة، وأيضا لئلا تفسد، إن قدمت على السريعة. فإن تقديم أكل البطيخ، والمشمش، وما شاكلها، على الخبز، والمأكولات الأخر أحمد. ولذلك صار أكل أمثال هذه، بعد الطعام، مفسدا للطعام والمعدة والأخلاط.

ولا تهمل، مع جميع ما قدمته لك، النظر فى الأسنان، والسحن، والبلدان، والعادات، والأعمال، والحالات! فإن علم جميع ذلك واجب ضرورة على كل من أحب إصابة الطريق المحمود فى تغذيته لجسمه، ولغيره. فتدبر بذلك، وقس عليه!

القول فى المشروبات

وأما المشروبات، فالعلم بقواها وأفعالها واجب أيضا، ليستعمل نافعها ويحذر ضارها. ولا يقدر على ذلك 〈إلا〉 من جهة أمزجتها وطبائعها. ولأن الماء أقدمها كلها فى الشرف، والطبع، والمرتبة، والنفع، فلذلك يلزم العناية بعلم حالاته التى بها يغير الأبدان. وذلك أن حاله الطبيعية له هى واحدة، لا تختلف. وذلك أنه جوهر لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، ولكنه بارد رطب، وخلق جسمه لا ثبات له، ولا اتصال لأجزائه، إلا بضام يضمها، ومكان أجزائه ثبات بعضها عند بعض بجربة. فلذلك لا يغذو، غير أنه نافع فى نضج الغذاء، ونفوذه إلى أجزاء الأجسام.

فأما ما وجد من المياه مخالفا لما ذكر، فبغير شك أن جسمه قد خالط غيره من الأجسام ذوات الكيفيات، واكتسب بذلك كيفيات لم تكن 〈له〉، كالمياه الكبريتية، والبورقية والشبية، وأشباه هذه من المياه المختلفة الطعوم والأفعال. ولذلك صار له طعم، ورائحة، أو ثقل عن وزن غيره، ولأجل ذلك يصير مغيرا للأبدان، ومؤثرا تأثيرات مختلفة فيها.

فيجب على الطبيب أن يعنى بمعرفة قوى المياه، واختلافها. فإن الضرر الداخل على الجسم من إهمال أمر الماء عظيم جداً، لأجل الحاجة إليه فى البقاء، واستعماله دائما. وأمره، وأمر الهواء، وأمر فصول السنة إذا اختلفت، وأمر الرياح فى عمومها للأبدان، أمر واحد فى الضرر الداخل على الأجسام منها.

ولذلك قال بقراط هذا القول، قال بقراط: من أراد طلب الطب على طريق المستقيم، فينبغى أن يفعل هذه الأشياء التى أنا واصفها وهى أن يتفكر أولا فى أوقات السنة، ما الذى تقدر أن تفعل، وذلك أن بعضها لا يشبه بعضا، لكنها مختلفة جداً فى أنفسها، وفى تغيرها. ثم ينظر بعد ذلك فى الأرياح الحارة منها والباردة، وخاصة ما يعم منها جميع الناس، ثم ما يخص منها كل واحد من البلدان. وقد ينبغى له أيضا أن يفكر فى قوى المياه. فإنه كما قد تختلف المياه فى الطعم والوزن، كذلك قوة كل واحد منها مخالفة جداً لغيره.

وإذا تدبرنا ما أمرنا به بقراط بأفكارنا، علمنا أن الماء عظيم النفع فى حفظ الصحة، إذا كان موافقا، وعظيم المضرة، إذا كان غير موافق. ولا يقدر على تمييز ذلك، وتحصيله، أكثر مما ميزه

القدماء، وأشدهم تحصيلا لذلك بقراط. فاستمع لتعليمه، واعن بحفظه، لتصل إلى بغيتك فى صناعة الطب!

قال بقراط: وأريد أن أخبر عن سائر المياه، ما كان منها أقربها إلى إحداث الصحة. وأنا واصف ما يجب أن يحدث عن الماء من الآفات، وما يحدث عنه من الماء المالح. وذلك أن حظ الماء فى المعونة على الصحة عظيم جداً، فأقول: إنه ما كان من المياه آجاميا قائما وغائضا، فيجب ضرورة أن يكون فى الصيف حارا، غليظا، ذا رائحة، من قبل أنه لا يجرى فينفد، لكنه لما كان الماء المطر لا يزال يمده دائما، فلا تزال الشمس تحرقه، وجب ضرورة أن يكون حائل اللون، وديئا، مولدا للمرارة، وأن يغلب عليه فى الشتاء الجمود، والبرد، والكدورة، من قبل الثلوج، والجمد، حتى تكون هذه المياه أقرب إلى توليد البلغم، وأولاها بإحداث البحوحة، وأن تحدث لشرابها دائما أطحلة عظيمة صلبة.

ثم قال بعد: فالأمر عندى فى هذه المياه أنها رديئة فى جميع الأمور. وقال: ثم من بعد هذه المياه التى ينابيعها من مواضع صخرية، وذلك أنه يجب ضرورة أن تكون هذه المياه خشنة، وكذلك المياه التى تنبع من أرض فيها مياه حارة، أو يتولد فيها حديد، أو نحاس، أو فضة، أو ذهب، أو كبريت، أو شب، أو بورق، فإن هذه كلها إنما تتولد عن حصر الحرارة. فليس يمكن أن يتولد عن هذه الأرض مياه صالحة، لكنها يجب أن تكون خشنة، ملهبة، عسرة الدور بالبول، ممانعة لانطلاق البراز.

وقال: وأفضل المياه هى الجارية من مواضع مشرفة عالية، ومن جبال مدرية. فإن تلك المياه مياه عذبة صافية، والذى تحتمله من الخمر قليل، وتكون فى الشتاء حارة، وفى الصيف باردة. فإنها إذا كانت كذلك، كانت من أبعد الينابيع غورا.

وقال أيضا يصف المياه الفاضلة: أما ما كان منها ينابيعه مقابلة لمشارق الشمس، فتلك المياه أفضل المياه. ثم من بعدها ما كان من المياه فيما بين مطالع الشمس الصيفية وبين مغاربها، وخاصة ما كان منها مقابلا لمطلع الشمس. ثم الثالثة بعدها المياه التى فيما بين مغارب الشمس الشتوية وبين الصيفية، وأردأها المياه التى تقابل الجنوب، وهى التى تقابل ما بين المشرق الشتوى وبين المغرب، وهذه المياه تكون فى أوقات هبوب الرياح الجنوبية رديئة جداً، وتكون عند هبوب الرياح الشمالية أجود. وقال: وينبغى أن تستعمل هذه المياه على هذا الطريق، أما من كان صحيحا قويا، فلا ينبغى

له أن يميز بين المياه، لكن يشرب منها ما حضره.

وقال يمدح ماء المطر: إن ماء المطر أخف المياه، وأصفاها، وأعذبها، وأرقها. وذلك أولا من قبل أن الشمس إنما ترفع من الماء، وتسلب منه أرقه، وأخفه. ومما يدلك على ذلك أمر الملاحات، وذلك أن الجزء المالح من الماء يبقى فيها، بسبب غلظه وثقله، فيصير ملحا، وتسلب الشمس أرق الماء، لخفته، فترفعه. والشمس ترفع ذلك لا من المياه العذبة فقط، لكن قد ترفعه من ماء البحر أيضا، ومن جميع الأجسام، وترفع من أبدان الناس دائما أرق ما فيها من النداوة، وأخفه. ومما يدل على ذلك أعظم الدلالة أن الإنسان إذا مشى فى الشمس، أو جلس فيها، وعليه ثوب، فإن ما كان من جسده بارزا للشمس، لا يعرق، وذلك أن الشمس تسلب دائما ما يبرز من العرق، فترفعه. وما كان من بدنه مغطيا بالثوب أو بغيره، أى شئ كان، فإنه يعرق، وذلك أن الشمس تخرج العرق قسرا والجبة تحفظه، وتبقيه، حتى لا تبيده الشمس. فإذا انتقل ذلك الإنسان إلى الظل، عرق بدنه كله على مثال واحد. وذلك أن شعاع الشمس عند ذلك لا يقع عليه.

قال: ولذلك صار ماء المطر أقرب المياه إلى العفونة، وإلى أن يصير له رائحة رديئة، لأنه إنما تجمع من رطوبات كثيرة جداً، فهو مختلط منها. فيجب من ذلك أن يكون أولى المياه بأن يعفن.

ثم لما أورد أبقراط، بعد هذه الأقاويل، كيف يتكون المطر، قال: فهذا الماء واجب أن يكون أول المياه، لكنه قد يحتاج إلى أن يهذب، بأن يغلى. ثم قال: فإن لم يفعل به ذلك، صارت له رائحة رديئة، وأحدث لمن يشربه بحوحة، وسعالا، وثقل صوت. وقال بقراط: وأما ماء الثلوج، وماء الجمد، فكله ردئ، وذلك أن الماء إذا جمد مرة، لا يعود إلى طبيعته الأولى. لكن ما كان منه صافيا، خفيفا، عذبا، انحصر، وباد، وتبقى منه أعكره، وأقربه من القائم

وإذ قد ذكرت فى هذا الموضع هذه الفصول من كلام بقراط، ليستدل منها على ما الحاجة إليه ماسة من أمر الماء، ولتكون أيضا حاثة لك على تقصى علم ذلك من مواضعه من كتب ابقراط وجالينوس، فإنى عائد إلى القول فى المنافع بالاستحمام بالماء، وأقول: إن المنافع بالاستحمام بالماء مختلفة أيضا للأصحاء والمرضى. وذلك أن من الأبدان الصحيحة ما يوافقها الاستحمام بالماء العذب البارد. وكذلك قد يوافق بعضها المائلة إلى الملوحة، وإلى البورقية، وإلى الشبية، وغير هذه من المياه ذوات الطعوم الأخر الحارة الموجودة فى الحمامات، وغير الحارة. وكذلك قد توافق هذه الأصناف من المياه لبعض المرضى دون بعض، ولأسنان دون أسنان، وفى بلدان دون بلدان، وللعادات فى ذلك أيضا حظ عظيم، فيجب عليك اختبار ذلك وتقصيه.

واجتهد فى التقصى على محمود المياه من مذمومها بالأوجه التى وصفها بقراط، وبهذه الأوجه التى نذكرها هاهنا، وهى هذه: إجعل دلالتك التى تستدل 〈بها〉 على خفة الماء، وجودته، سرعة برده،

وسرعة سخونته! وهذا هو قول بقراط فى ذلك، قال: الماء الذى يسخن سريعا، ويبرد سريعا، هو أخف المياه. وفى الخامسة من كتابه فى الفصول: وخفة وزنه بمقايسته لغيره، وسرعة جفاف ما يعجن به، مع سرعة نضاج ما يطبخ 〈به〉.

وبعد ذكرى لهذه الجمل، فقد ينبغى أن أتبعها بذكر الخمر والنبيذ، لما فى ذلك من المنافع. فإن للخمر منافع للأصحاء والمرضى. فأما الأصحاء، فإنه يغذو أسرع مما تغذو سائر الأغذية الباقية، لسرعة نضجه ونفوذه إلى الكبد، واستحالته إلى الدم، لما له فى خاصة مزاجه من الحرارة. فهو لذلك يكثر الدم، ويصفيه، وينفى عنه بالبول كثيرا من الرطوبات المخالطة له، وهو ينضج ما صادف فى المعدة، والكبد، بحرارته من البلغم، وما لم يستحكم نضجه من الأخلاط. وكذلك صار أصحاب الأمزجة الباردة، والمعد الكثيرة البلغم، ينتفعون به، وخاصة عند أخذهم القليل منه فى جملة أغذيتهم. وبما له من الفضائل صار يقوى البدن، ويكسبه خصبا، ولونا مشرقا، ونشاطا للحركات والأعمال. ولذلك أيضا هو يكسب النفس سرورا، وفى بعض الأمزجة يجود الخاطر، ويحد القريحة. جميع هذه المنافع يفعلها فى الأصحاء، مع ما له من المنافع فى المرضى، إذا استعمل منه ما جاد فى جوهره، واعتدل فى كميته وكيفيته، وبحسب الأصلح، ليستعمله فى حال طبعه، وسنة، وعمله، وعادته، والوقت من السنة، والبلد الذى هو ساكنه، وغير ذلك مما لا بد من النظر فيه.

فأما إن أهمل النظر فيه، 〈أ〉و فى واحد من هذه الأشياء، أو فى أكثر من واحد، كان الضرر الداخل على الإنسان، فى نفسه وجسمه، بحسب ذلك، وخاصة إن جعل شاربه غرضه من شرب الخمر والنبيذ الالتذاذ به، وطلب السكر منه، ودوام ذلك، فإنه سيؤول به الأمر من المضار العاجلة إلى ما يكثر تعديده، ووصفه. وأنت إن افتقدت المضار والعيوب التى يجلبها على من داومه بكثرة، وجدتها ظاهرة، يعرفها من ليس هو طبيبا بسهولة، عندما يجعلها باله. فكم من جسم صحيح قد أمرضه! وكم صنوفا من الموت قد أحدثها! وكم أدمغة قد أفسدها، فذهب بحفظها، وأساء تمييزها، وكدر تخيلها! وكم أعصاب قد يبسها، وأعضاء قد أرعشها، وحواس قد أضعفها! وكم صنفا من التغايير الرديئة يحدث للنفس فى نومه! فكيف إذا تمادى بصاحبه الإدمان على كثرته، لأنه ينقل شاربه، بعد سروره، إلى الطرب واللعب، كلعب الصبيان، ثم ينقل الإنسان إلى ظنه بنفسه

الشجاعة، فيحمله على التهور فى المهلكات، ويصور له القبائح بصورة المستحسنات، ثم آخر أمره يؤول بصاحبه إلى العجز عن الحركات المستقيمة، إلى الحركات المضطربة، حتى ربما قذف وبال بين الحضور، وهو لا يعلم، فتصير منزلته فى وقته ذلك منزلة الأطفال الذين تجرى هذه الأفعال منهم مجراها من البهائم، بغير عقل ولا تمييز! فهذه جمل من عيوب شرب الخمر، وجمل من منافعه، ولك أن تفهم منها من فروعها ما لم أر للتطويل بذكره وجها.

وبعد ما ذكرته، فقد بقى أن أقول لمن أراد استعماله: فمنافعه أن تنظر فى اختلاف أصنافه، فإن الخمر الأسود، الغليظ، القابض، هو مضاد للأبيض، الرقيق، المائى. فأما الأحمر المائل إلى الصفرة، فهو متوسط بينهما. وأعنى بأن الأسود مضاد للأبيض فى أفعاله لأن الأسود، لغلظه، لا ينفذ عن المعدة بسرعة، بل يبطئ فيها، وهو يغلظ الدم ويغذو. فأما الأبيض، فيفعل أضداد هذه الأفعال، وهو أشد إدرارا للبول، لسرعة نفوذه، وأقل إسخانا للبدن. وإذا كان الأمر فى هذين الطرفين كذلك، فأفعال المتوسط بينهما متوسطة أيضا. ولأن من الخمور ما هى متوسطة أيضا بين هذا الأوسط وبين الأطراف بمراتب كثيرة مختلفة — فمنها ما هو قريب من المتوسط، ومنها ما هو قريب من الأطراف — فلذلك ينبغى أن تميز أصنافها، وتقيسها بالمتوسط الذى هو أعدلها، لتعلم طبعه، وتأثيره فى أجسام الأصحاء والمرضى.

ويتبع الخمر من الأشربة ما عمل من الزبيب. فإنه أقرب إليه مما عمل من التمر، وغيره من المسكرات على اختلاف صنعتها. فقس جميع تلك بما ذكرته من أمر الخمر! وأنت تقدر على تعرف فعلها فى الجسم من اختلاف طعومها.

وكذلك فافعل فيما لا يسكر من الأشربة، لكنه ينفع فى حفظ الصحة، ومعالجة الأمراض، كالمشروبات المستخرجة من الثمار، كماء الرمان، وماء التفاح، وماء السفرجل، ونظائر ذلك، وما يركب من هذه، وما يعمل أيضا من السكر والعسل، وغيرها من الأشربة المختلفة أصنافها، المتغايرة أفعالها.

فلذلك يجب أن تأخذ نفسك فى تعرف أصنافها، وتقصى وجوه تراكيبها، وما تؤثره فى صنف صنف من الأمزجة، لتستعمل منها ما احتجت إلى استعماله على ثقة. واعن بمعرفة شراب العسل، وأصناف تراكيبه! فإنها كثيرة، بحسب الحاجات إليه، والحاجات إليه فى حفظ الأصحاء، وفى معالجة المرضى، عظيمة جداً.

واعلم أن اختلاف أفعاله فى حل الطبع، وعقله وإدراره للبول، وقلة إدراره، وقطعه للعطش، وزيادته فى العطش، وإنضاجه للأخلاط، وقلة إنضاجه، وتغذيته للبدن، وقلة غذائه، جميع ذلك يفعله

بحسب كثرة مزاجه بالماء، وقلته، وتوسطه، وبحسب وجه استعماله من الحار، والبارد، ووقت استعماله أيضا. فإن النظر فى جميع ذلك يعينك على تقدير ما تستعمل منه، وفيمن، وعند أى الحالات، ويدلك على الموافق من المشروبات لكل واحد من الناس، وفى حالة واحدة من حالات الجسم. فتدبر ذلك، وقس عليه، والتمس جميع ما أحببته منها من الكتب التى وصفت فيها هذه الأشربة، وتفقدها فى كل صنف منها من المفردات! فإنك بذلك تصل إلى حقيقة مطلوبك.

القول فى الاستفراغ والاحتقان

نظر الطبيب فى أمر الاستفراغ والاحتقان يجب أن يكون على وجهين: أحدهما للحاجة إليهما فى أمر حفظ صحة الأصحاء، والثانى فى أمر معالجة المرضى. فالاستفراغ والاحتقان فى حال الصحة هما طبيعيان، وفى حال المرض هما عرضيان. وذلك أن البارئ تعالى جعل للأجسام المغتذية النامية قوة تجذب إليها ما يوافقها من الأغذية، وقوة أخرى تحفظ عليها ما انجذب إليها، إلى أن ينهضم. وبعد ذلك تغتذى منه بما وافقها، وما فضل مما لا يوافقها، يندفع عنها بقوة أخرى خلقت فى الأعضاء، لدفع ذلك عنها. فإذا كان الجسم صحيحا، فعلت هذه القوى الأربع أفعالها فى الأوقات التى تخصها، وإذا ضعفت أفعال هذه القوى، أو لم تفعل أفعالها البتة، أو فسدت، أوتأخر فعل بعضها عن وقته، دل ذلك على مرض بالجسم. فلذلك يجب على الطبيب أن يعنى بمعرفة الاستفراغ والاحتقان فى تدبير جسم الإنسان، إذ كان غذاء الجسم ليس هو جميع ما يأكل الإنسان ويشربه، لكن اغتذاء أجسامنا إنما هو بالذى يصير شبيها بها فقط، فأما ما لم يكن فيه المشابهة، فإنما يبقى فضلا، 〈لا〉 ينتفع ببقائه فى الأعضاء المغتذية.

فلذلك خلق البارئ جل وعز فى كل جسم مغتذ منافذ وطرقا تبرز منها تلك الفضلات، تدفعها القوة الدافعة لها عن المغتذى. وذلك كمنفذ البراز، ومنفذ البول، ومنافذ العرق، والأثقاب التى يبرز منها فضل عضو عضو، كالفم، والمنخرين، والأذنين، وبالجملة سائر الأثقاب التى أعدت لذلك.

وإذا كان الأمر على ما قلنا، فقد يلزم الطبيب العناية بمعرفة نوع ما يستفرغ من البدن فى حالة الصحة. فإن وجده يبرز عن البدن بالمقدار الذى يجب، وفى الوقت الذى ينبغى أن يبرز فيه، وهو الوقت الذى قدرته الطبيعة للبروز، اكتفى بفعلها، وكف عن معاونتها. وإن وجد ما يبرز من تلك الفضلات قد خرج عن الأمر الطبيعى، وجب عليه أن يرد ما خرج عن الأمر الطبيعى إلى مجراه الطبيعى، إذ كان الطبيب خادما للطبيعة.

وخروج ما يبرز من البدن عن الأمر الطبيعى هو على ضربين: إما أن يكون ما يبرز من البدن أكثر مما ينبغى، أو أقل. فإن كان أكثر، وجب عليه قطعه، ومنعه، وإن كان أقل، وجب عليه إسهاله، ودفعه. ولن يقدر الطبيب أن يأتى فى ذلك الأمر المستقيم، إلا بعد أن يعلم لم احتبس ما كان من عادة الطبع دفعه، ولم اندفع ما لم تجر عادة الطبع بدفعه. ومثال ذلك البراز، والبول. فإن

نوعيهما، وما ماثلهما من فضلات الجسم، من شأن الطبع أن يدفعها عن الجسم، ويخرجها فى أوقات معلومة، بمقادير مناسبة لما يرد إلى البدن من الأغذية، وبكيفيات متشابهة، هذا إذا كان البدن صحيحا، والتدبير موافقا. فأما ما لم يجعل له الطبع استفراغا بنوعه بتة، فالدم من الذكور، ولو قيل من الأناث أيضا، لكان قول حق، إذ الحيض المنبعث من الأناث ذوات الحيض، إنما هو فضل من فضول الدم والبدن.

ولا يمكن أيضا الطبيب أن يستعمل الأمر الواجب فى الاستفراغ، والاحتباس، دون أن يعلم الأشياء التى يكون بها الدفع، والحبس. فإنه، وإن علم مثلا أن البراز قد احتبس لكيفيته هو فى نفسه مثلا — أعنى ليبسه، أو لغير ذلك من الكيفيات المانعة له من الخروج، أو لأن القوة الدافعة قد ضعفت عن دفعه، أو لأن مانعا ما قد سد طريقه ومنفذه، كورم قد عرض فى بعض الأمعاء — فإن علمه بذلك، وأمثاله، لا يغنيه فى استفراغ ما قد اعتقل، دون أن يعلم بأى شئ ينبغى أن يكون الاستفراغ. وكالذى قلناه فيما احتبس، فكذلك ينبغى أن تفهمه أيضا فيما استفرغ. وإنما ذكرت هذه النكت فى هذا الباب، لتكون منبهة لك، أيها الطبيب، وحاثة، حتى تعرف أصولها، وفروعها، من الكتب التى وضعها قدماء الأطباء فى ذلك.

فإن بقراط قد ذكر جملا من أمر الاستفراغ، وحالاته، واجب علمها على من عنى بحفظ صحة الأصحاء، وبمعالجة المرضى. منها قوله هذا، قال بقراط أيضا: إن كان ما يستفرغ من البدن عند استطلاق البطن والقئ اللذين يكونان طوعا من النوع الذى ينبغى أن ينقى منه البدن، نفع ذلك، وسهل احتماله. وإن لم يكن كذلك، كان الأمر على الضد. وكذلك خلاء العروق، فإنها إن خلت من النوع الذى ينبغى أن تخلو منه، نفع وسهل احتماله، وإن لم يكن كذلك، كان الأمر على الضد.

قال بقراط أيضا فى المقالة الرابعة من هذا الكتاب، أعنى كتابه فى الفصول: إنما ينبغى أن يسقى من الدواء ما يستفرغ من البدن من النوع الذى إذا استفرغ من تلقاء نفسه، نفع استفراغه، فأما ما كان استفراغه على خلاف ذلك، فينبغى أن يقطعه.

وكما أنك، أيها الطبيب، مضطر عند استفراغك لفضلات أخلاط البدن، وفضوله، إلى النظر فى مزاج البدن، وسحنة ذلك الإنسان، وسنه، وعاداته، وصنعته، والزمان الحاضر، وحال الهواء، وحال البلد، فكذلك يجب أن تنظر أيضا فى هذه الأشياء يوما فيوما عند قصدك استفراغ ما قد احتبس من فضلات أغذية البدن عضوا عضوا من أعضائه.

واستعن فى دفعك لما تريد إخراجه بالحركة! فإنها تثير ما يقصد لدفعه، ويضد ذلك السكون. ولهذه العلة يأمر بقراط من شرب دواء سهلا بالحركة، لأنها تحمى أخلاطه، فترقها. ولذلك يكون جذب الدواء

لها، ودفعه، أسهل وأسرع. قال بقراط: إذا سقيت إنسانا خريقا، فليكن قصدك لتحريك بدنه أكثر، ولتنويمه ولتسكينه أقل! وقد يدل ركوب السفن على أن الحركة تثير الأبدان.

ومع ما للحركة الموافقة، والرياضة المعتدلة، من دفع الفضلات، واستخراجها، فإن للاستحمام بالماء المعتدل الحرارة أيضا فى ذلك حظا، وكذلك للدهن، والدلك، وأخذ ما يؤكل ويشرب من الأشياء الموافقة فى الاستفراغ، والاحتقان.

وأنت تقدر على تعلم هذه الأمور من كتب جالينوس، وغيره من القدماء. فإن جالينوس قد صنف لما ذكرناه من أمر الاستفراغ، والاحتقان، ولتصنيف الرياضات، وبالجملة سائر ما ينتفع به الأصحاء من ذلك، كتابت قسمه ستة مقالات، وسماه كتاب تدبير الأصحاء، أنت تحظى منه بجميع غرضك.

القول فى النوم واليقظة

ومما ينبغى للطبيب أيضا أن ينظر فيه من أمر النوم واليقظة هو أن يعلم ما الذى يفعله كل واحد منهما فى أجسام الأصحاء، ثم فى المرضى، ليقدر لكل بدن من أبدان الحيوان، بحسب حاله، المقدار الكافى، الموافق فى حفظ الصحة، وفى معالجة المرضى، لأن النوم أحد الأمور الطبيعية التى لا قوام لصحة الإنسان إلا بها. فلذلك له وقت محدود فيما بين الأمور الطبيعية، وزمان معلوم، بينه الجليل بقراط فى المقالة السادسة من كتاب ابيديميا، فقال: التعب، والطعام، والنوم، والجماع، ينبغى أن تستعمل كلها بالقصد. قال جالينوس: إن قوله «بالقصد» هو إشارة إلى تحديده مقاديرها لشخص شخص. ولذلك صار النوم يوجد فى سائر أسنان الناس بالطبع.

فنقول: إن من لطف البارئ تعالى بالحيوان أنه جعل له النوم راحة لجسمه، وليعود إلى البدن به عوض ما تحلل منه فى اليقظة. وذلك أن اليقظة تنتشر معها الحرارة الغريزية إلى ظاهر البدن، وإلى سائر أقطاره، وينبسط معها الدم الذى هو مركبها، وينشرها فى البدن، فيتحرك الحيوان بقوة الحرارة، لأعماله، ومعيشته. وكلما تحرك، تحللت من بدنه من الرطوبات جزء بعد جزء، ويكسبه ذلك يبسا. ولو دامت عليه الحركات، واتصلت اليقظة، لأفرط اليبس على بدنه، وهلك. فلذلك جعل الله تبارك وتعالى أزمان النوم بين أزمان اليقظة، لتجتمع الحرارة فى وقت النوم إلى باطن البدن، فتستولى البرودة على ظاهره، وتسترخى أعضاء الحيوان، وتعطل حواسه، فيسكن من أعماله، وتأخذ الحرارة فى هضم أغذيته، وإصلاح رطوباته، لتوافق الأعضاء، فتأخذها بقوتها الجاذبة، فتترطب بها، ويكون ذلك خلف ما تحلل.

وتقوى أيضا بالنوم القوة الماسكة، والقوة المغيرة، والقوة الدافعة. ومعلوم أن بصلاح هذه القوى الأربع، وجودة أفعالها، يكون البدن صحيحا، وأفعاله مستقيمة. وأيضا فإن النوم مع أنه يقوى القوى الطبيعية، فإنه يضعف القوى النفسانية، لأن الحواس، وقوى العقل فيه، تضعف، لامتناعها من أعمالها.

فإذا كان ذلك كذلك، فقد يجب على الطبيب، إذا علم ذلك، أن يعلم المقدار من النوم واليقظة لكل إنسان، إذ كان لكل إنسان منهما مقدار طبيعى، بحسب مزاجه، وعادته، وأعماله، وأغذيته، وبحسب السن، والفصل، وحال الهواء. فإذا خرج أحدهما عن حاله الطبيعية فى كميته، أو وقته، دل ذلك على أمر ردئ خارج عن صحة ذلك الجسم.

ولذلك قال بقراط: النوم والأرق، إذا جاوز كل واحد منهما المقدار القصد، فتلك علامة رديئة. وأيضا فإن الطبيب، إذا رأى النوم مثلا قد خرج عن اعتداله، استدل بذلك على مرض ما، قد حدث بالدماغ، إذ كان النوم إنما هو حال خاص بالدماغ، يحدث مع يرده ورطوبته المعتدلين. فإن أفرطا عليه، أحدثا به السرسام البارد.

ولذلك قال جالينوس: وبعد: النوم يكون من برد الحاس الأول، أعنى الدماغ، وذلك البرد، إذا كان قويا، ثم خالطته رطوبة، حدث منه المرض الذى يسمى ليثرغس، وهو السرسام البارد. ومتى كان معه يبس، حدث منه المرض الذى يسمى قاطاليبسس، وهو الجمود، وكذلك الأرق يكون من سخونة الحاس الأول، إلا أن تكون تلك السخونة إما أن تكون مزاجا رديئا مجردا، وإما أن تكون بغلبة من المرة الصفراء.

وقال بقراط: إذا كان النوم فى مرض من الأمراض يحدث وجعا، فذلك من علامات الموت. وإذا كان النوم ينفع، فليس ذلك من علامات الموت. وقال بقراط أيضا: متى سكن النوم اختلاط الذهن، فتلك علامة صالحة. فاجمل استدلالك من النوم واليقظة، بحسب ما ذكرناه لك من حالاتهما، وما ذكره القدماء فى ذلك. واعلم أن النوم، وإن كان يتبعه احتباس ما يستفرغ، ويتبع اليقظة استفراغ ما هو محتبس، فإنهما يفعلان ذلك، بحسب اختلاف حالات أخلاط البدن. وذلك أن النوم، إن صادف فى البدن خلطا لم ينضج، وغذاء لم يستمرأ، أنضج وجود الاستمراء، وسخن، ورطب. وإن وجد البدن نقيا، محتاجا إلى غذاء، قوى الحرارة، فتفنى ما صادف من الرطوبات. فلذلك تعقب قلة المادة برودة البدن. فأما إن صادف مادة معتدلة، قوى بها الحرارة الغريزية، فكان نفعه عظيما، كما أنه، إن صادف مادة كثيرة، عسرة النضج، قاهرة للقوة، كان النوم ضرره عظيما، كالذى يعرض فى ابتداء نوائب الحميات النائبة. ولذلك يأمر الأطباء فى مبتدأ النوبة بترك النوم. فاستعمل النوم، واليقظة بحسب هذه القوانين!

وقد قال بعض القدماء: إن النوم فيه مماثلة ما للموت، لأن الإدراك بالحواس والتمييز يبطلان معهما، ولا يكون معهما علم لمحسوس. فلذلك ينبغى لطالبى العلوم، والفضائل، أن لا يتوفروا على النوم، بل يتوفروا فى مدة حياتهم على إصابة الحقائق من العلوم، والفضائل، وإلا، كانت يقظتهم نوما، وحياتهم موتا.

القول فى الأعراض النفسانية

ومن الواجب على الطبيب أيضا أن يعلم ما الأعراض النفسانية، وكم أصنافها، وعماذا تحدث فى كل صنف منها. فإنه، إن لم يعلم ذلك، لم يقدر على حفظ الطبيعى منها، ولا على نفى ما ليس بطبيعى. وقبل جميع ذلك، يجب أن يعلم أن للإنسان قوة يميز بها ويفكر، وقوة أخرى يغضب بها ويحرد، وقوة ثالثة يشتهى بها، ويشتاق إلى اللذات، وأن هذه الثلاث قوى بها يتم للإنسان حركاته وأفعاله. والقدماء يسمونها قوى نفسانية، لأنهم وجدوا الأخلاق، والعوارض النفسانية، أنواعا لهذه الثلاثة الأجناس من قوى النفس.

وأيضا ينبغى أن يعلم ما الذى يريد القدماء بقولهم «عارض». ولأن جالينوس قد شرح ذلك، وبينه، فيجب أن أحكى قوله بلفظه. قال جالينوس: إنه متى مادامت نفس الإنسان باقية على حالها، فتلك الحالة لها كالسكون والهدوء. فإن تغيرت حالها، توهمنا ذلك التغير كالحركة لها. ولأن الحركة منها ما يكون من نفس المتحرك، ومنها من قبل غيره، سمينا الحركة التى تكون من نفس المتحرك فعلا، وسمينا الحركة التى تلحقه من قبل غيره عارضا. والمثال فى ذلك أنه، إن أخذ 〈إنسان〉 شيئا، فنقله من موضعه إلى موضع آخر، كانت حركة اليد فعلا لذلك الإنسان وليده، وكانت حركة الشئ عارضا للشئ. وهذا حكم الفعل والعارض فى حركة المكان. وأما فى التغير، فإنه متى سخن بدن إنسان، من نار، أو من حر الشمس، كانت السخونة عارضة للبدن، والإسخان فعل الشئ الذى أسخن.

ولما قدر الخالق تعالى لمصلحة بدن الإنسان من هذه القوى، ومن أفعالها، مقدارا ما، وجب أن يكون ذلك المقدار هو الطبيعى لذلك الإنسان، وما نقص عنه، أو زاد عليه، فهو غير طبيعى. ولذلك يكون الطبيعى صحة لتلك القوة، ولذلك الجسم، والغير طبيعى مرضا لهما. ولأن النفسين البهيميتين اللتين فى الإنسان كثيرا ما تضران بالنفس الناطقة، وخاصة الشهوانية منهما، لأجل اللذة المقرونة بها، فلذلك وجب أن يكون للذة وقت محدود، وقدر معتدل. ومتى جاوزت ذلك المقدار، ضرت، وأمرضت. ولذلك صارت النفس العاقلة هى المصلحة لهذا الفساد، بتقديرها، وتحديدها أوقات للفعل، ومقاديره. وإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يعلم فعل كل نفس من هذه الأنفس، على الانفراد أولا، بغير معونة من النفسين الأخرايين، ثم ما تفعله بمعونة. فالنفس الناطقة، فعلها على الانفراد هو وجود اتفاق الأشياء، واختلافها. ومثال ذلك أنها، إذا سمعت قولين، وقفت على ائتلافهما من اختلافهما،

وعرفت الحق من الباطل. وأما فعلها بمعونة غيرها لها، فهو أنها، إذا رأت النفس الشهوانية قد أفرطت فى بعض حركاتها، استنجدت بالنفس الغضبية، وهى الحيوانية، لأن لهذه النفس الجلد، والبطش، ولولاهما ما أمكن النهوض بفعل، ولا البلوغ إلى غاية.

وجالينوس يقول إن هذه النفس، أعنى الغضبية، جوهرها هو الحرارة الغريزية، وهذا قوله بلفظه، قال جالينوس: وجوهر هذه القوة التى يقوى بها الإنسان على الصبر، والثبات فى الأعمال، فيما أرى، الحرارة الغريزية، لأن حركة الحرارة الغريزية، كلما كانت أقوى، كان الإنسان أحر، وكما أن البرد يورث الكسل، والسكون، والضعف، كذلك الحرارة تورث النشاط، والحركة، والقوة على الفعل. ولذلك صار الشباب والخمر يبعثان الإنسان على الحركة والبطش، والشيخوخة والأدوية الباردة تورثان الكسل والضعف. فإن تمادى بهما الزمان، أبطلا الأفعال والحركات.

فإذن اعتدال النفس الناطقة، هو أن تكون ذكية، كثيرة الفهم والحفظ، مشتاقة إلى الأفعال الجميلة، وخروجها عن الاعتدال، هو ما قاله جالينوس من أضداد هذه. قال جالينوس: لابد، إن كانت النفس الناطقة بليدة، قليلة الفهم والحفظ، غير مشتاقة إلى الأفعال الجميلة، وكانت النفسان البهيميتان قويتين عسيرتى الانقياد، لم يمكن أن تعتدل. فقد يحتاج إذا أن تكون النفس الناطقة محبة للجميل، مشتاقة إلى الحق، عارفة باتفاق الأشياء واختلافها، وأن تكون النفس الغضبية، وهى الحيوانية، قوية، سلسة الانقياد، وتكون النفس الشهوانية، وهى النباتية، ضعيفة، لأن هذه النفس غير منقادة للنفس الناطقة، كما وصفها فلاطن وشبهها بسبع ضار، وقال: إن الذى يحتاج إليه من النفس النباتية ضعفها، لا أدبها، لئلا تمنع النفس الناطقة من أفعالها.

وإذا كانت قوى هذه النفوس تابعة لمزاج البدن، فما يعرض إذن لأفعالها، وأخلاقها، من الأعراض التى تغيرها، وتخرجها عن الاعتدال، والأمر المحمود، إنما يحدث عن تغايير الجسم، والذى يدل على 〈ذلك〉 ما يعرض لمن فزع، أو حزن، أوسر، ولمن شرب الخمر، ولغير هؤلاء ممن تغير مزاجه بضرب من أمثال هذه الأسباب، أنه يخرج بذلك السبب، والتغيير العارض منه، عن خلقه، وحالات نفسه التى قد عرفها لنفسه فى حال صحته، وسكون نفسه من تلك الحركة، ومن ذلك العارض.

فيجب لذلك أن يكون الطبيب مرتاضا بتعرف أجناس الأمزجة وأنواعها، ليقدر بذلك على معرفة مزاج الشخص الواحد من الناس الذى غرضه حفظ المحمود من أخلاقه، وقوى نفسه، أو تقويم ما خرج عن الأمر المحمود منها، وأن يكون أيضا خبيرا، كثير التفقد لما يعرض للنفوس من الأعراض،

إذ كان قد يستدل من الأعراض على قوى النفوس، وعلى أمزجة الأبدان.

فإن من كان من الناس بالطبع حيياً، ليس حال مفسه، ولا مزاج نفسه، كحال من كان بالطبع قليل الحياء. وإنما استثنيت بقولى «بالطبع»، لأن الأدب قد يغير الطبع بعض التغيير. فإذا أردت امتحان ما فى طبع الإنسان، وأعراض النفوس، وأخلاقها، فامتحنه فيمن لم يتأدب بعد، ولا انصلحت نفسه بالفضائل والعلوم، كالصبيان مثلا! فإنك تجد هذه الأعراض، والأخلاق، فيهم مفردة، وخاصة فيمن لم يعود العادات المحمودة، ولا أخذ فى تأديبه، وذلك أنه يفعل ما فى طبعه فقط.

وقد وصف جالينوس من هذه الأخلاق فى الصبيان طرفا، ينبغى أن نحكيه بألفاظه، وعلى أن المشاهد من ذلك قد كان يغنى ذا الفطنة والذهن. قال جالينوس: إنه قد يكون من الصبيان الصغار من لا يكذب البتة، ومنهم من لا يصدق البتة، ومنهم من لا يستحى، ومنهم من هو كثير الحياء، ومنهم جبان، ومنهم جرئ، ومنهم نهم، وغير نهم، ومنهم سخى، مواس بما يملك، ومنهم بخيل غير مواس، ومنهم من يحب الظلم والغضب، ومنهم من يحب العدل، ومنهم من يرحم، ويرق للمضروب من الصبيان، ومنهم من يسر بضربه، ويضحك لذلك، وقد يخالف بعضهم بعضا اختلافات أخر من الأخلاق.

وإذا كان الأمر على ما قيل فى ذلك، فقد يجب على الطبيب معرفة الخلق الطبيعى، وما الفرق بينه وبين الخلق التأدبى، ليمتحن حالات النفوس، وأعراضها، بالطبيعى، لئلا يغلطه الخلق الذى قد أصلحه الأدب، والعادات المحمودة.

وكما أن مصاحبة الأخيار والأفاضل، تكسب الفضائل، وصلاح النفس، كذلك مصاحبة الأشرار، وأهل العادات المذمومة، قد تفسد أخلاق كثير من الناس، وتنقلهم عن جيد الطباع إلى غيره. فلذلك يجب أن يأخذ الطبيب نفسه أولا، ثم من قصد تدبيره، بإصلاح النفس، وأعراضها، ويهتم بذلك أكثر من غيره، إذ كان تمام الإنسان بنفسه، والتمام أشرف من المتمم.

وفيما ذكرناه من هذه الجمل تنبيه على استيفاء هذا الغرض من كتبه، وحث على الاهتمام به، وقراءة ما قاله جالينوس وغيره فى ذلك. فإن جالينوس قد بين فى كتابه فى القوى الطبيعية، وفى كتابه فى آراء بقراط وفلاطن، وفى كتابه فى أخلاق النفس، وفى مقالته التى بين فيها أن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، أصول كل أفعال النفس، وأخلاقها، وسائر أعراضها،

وبين أيضا أن هذه القوى الثلاث التى سماها كثير من القدماء نفوسا، أعنى النفس الناطقة، والنفس الحيوانية، والنفس النباتية، لكل واحدة منها مسكن، ومحل يختص بأفعالها. فمحل النفس الناطقة الدماغ، ومحل النفس الحيوانية القلب، ومحل النفس النباتية، وهى الشهوانية، الكبد. وبغير شك أن بصحة هذه الأعضاء، يصح لهذه النفوس أفعالها وبمرضها تفسد. فإذا كان ذلك كذلك، فقد وجب ما قلناه فيما تقدم، وهو أنه يلزم الطبيب علم حالات هذه الأعضاء، إذا أراد معرفة الأعراض النفسانية.

ولما كان كلامنا فى الأعراض النفسانية الآن، إنما هو لأجل أنها أحد الأمور الطبيعية التى عددناها فيما تقدم، وهى حالات الهواء، والحركة والسكون، والمأكول والمشروب، والاستفراغ والاحتقان، والنوم واليقظة، والأعراض النفسانية، والبلدان والأعمال، وسائر ما تبقى منها مما قدمنا ذكره، وكان ذكرنا لهذه الأمور الطبيعية ضروريا فى حفظ صحة البدن بأسره، وفى صحة عضو عضو من أعضائه، وكنا قد بدأنا على طريق المثال، والتعليم لمحبى صناعة الطب، أن نرى كيف ينتفع الطبيب بهذه 〈الأمور〉 فى حفظ الصحة، أعنى تعلمها، وجعلنا مثالنا لذلك من الدماغ، إذ كان أشرف أعضاء البدن. ووضعنا فى كل باب، مما ذكرناه، من القول فى هذه الأمور الطبيعية جملا، وأصولا، تحث المتعلمين، وتذكر العلماء بما قيل فى كل معنىً منها. ولم نتممها بأسرها، لكنا تكلمنا على بعضها، فلذلك يجب أن نأتى على ما تبقى منها، كالذى فعلناه فيما مضى، ليكون القول على تدبير الدماغ الذى جعلناه لنا فى الأعضاء على طريق المثال تاما. ثم ننتقل إلى ذكر تدبير عضو عضو من باقى أعضاء البدن بطريق وجيز، وقول مختصر، لئلا يمل الكلام لطوله. والله المعين بجوده.

القول فى تغايير البلدان للأبدان بحسب أوضاعها

ولما كانت المساكن ضرورية فى البقاء، وكانت أوضاعها ومواقعها من الأرض مختلفة، وكانت الأبدان تتغير بحسب أحوالها وأمزجتها، وكانت أيضا أمزجة البلدان قد تخرج عن حالاتها الطبيعية، فتمرض سكانها، وجب لذلك على الطبيب أن يعرف حالات مدينته التى هو ساكنها، وإلى أى الأمزجة هى أميل، أعنى هل الحرارة واليبس أغلب عليها، أم البرودة والرطوبة، أم البرودة واليبس، أو الحرارة والرطوبة، وما الذى أوجب لتلك المدينة ذلك المزاج.

فإن بقراط قد بين الأسباب المغيرة لحالات البدن فى أمثلة أربعة، وضعها لمواقع المدن التى فى الجهات الأربع، وبين كيف تكون أمزجة هذه المدن، وكيف تكون حالات سكانها. فمن فهم ما وضعه بقراط من هذه الأمثلة، أمكنه أن يجعلها أصلا، وقانونا يتعرف به الحال فى أى مدينة دخلها. ولذلك أمر بقراط من دخل مدينة، لم يكن عرفها، أن يتعرف وضعها، ومهب الرياح عليها، ويقيسها، ويضيفها إلى تلك المدن، فيعلم بذلك حالها.

وأنا أحكى لك ما أمر به بقراط، قال: إذا ورد الوارد مدينة لا خبر له بها، فينبغى له أن يتأمل، ويتفقد وضعها، وكيف هى موضوعة فى مقابلة الرياح، وفى مشارق الشمس. وذلك أنه ليس حال المدينة الموضوعة قبالة الشمال، وحال المدينة الموضوعة قبالة الجنوب، حالا واحدة بعينها. ولا حال 〈المدينة الموضوعة قبالة مشارق الشمس، وحال〉 المدينة الموضوعة قبالة الشمس وقت غروبها، حالة واحدة بعينها. وقال أيضا: ينظر فى أمر الأرض، هل هى مكشوفة من الشجر، عديمة المياه، أم كثيرة الشجر، كثيرة المياه، وهل هى فى موضع عميق، فهى ومدة، أم هى فى موضع مشرف، فهى باردة.

وليس يخفى عمن أحسن التفقد لما قاله بقراط فى هذين الفصلين، أنه قد بين فيهما أسباب تغايير البلدان، وهى تأثير الشمس فى تلك المدينة مقابلتها لشروقها عليها وغروبها، والثانى هبوب الرياح عليها. والأشبه أن يكون إنما ذكر الرياح الشمالية والجنوبية، لقوة تأثيرها فى البلدان الموضوعة قبالتها أكثر من تأثير 〈الرياح〉 الشرقية والغربية فى البلدان المقابلة لها، إذ كان تأثير الشمس فى هاتين الجهتين هو الأغلب والأظهر. وطبيعة الريح الهابة من المشرق، وهى مؤثرة أيضا فى البلدان الشرقية، من جنس ما تؤثره الشمس، وكذلك طبيعة الريح الغربية أيضا.

فإنما عدل بقراط إلى السبب الأول فى تغيير أمزجة البلدان الشرقية والغربية، وإلى العلة

الأقوى. ثم إنه لما كانت البلدان قد يعرض 〈لها〉 من انكشافها، وقلة الأشجار فيها، والسواتر لما يمر بها من الرياح، وحر الشمس، ما يوجب لها قبول التأثير، أكثر مما تقبله من ذلك، إذا سترتها الأشجار، وجعل ذلك سببا ثالثا. وكذلك حال كثرة المياه وقلتها.

وكذلك يعرض للبلدان من جهة ارتفاعها فى العلو، ووضعها على الجبال العالية، ومن جهة انخفاضها، ووضعها فى مواضع مستفلة عميقة، أن يختلف لذلك قبولها لحر الشمس، ويبسها، ولتأثير الرياح بحسب أمزجتها فيها. ولذلك تختلف صور سكان المدن، وأخلاقهم، وأفعالهم، وأكثر حالاتهم، كما بين ذلك بقراط، فقال: وفى بلاد اوروبى أمم يخالف بعضها بعضا فى مقادير الجثث، وفى الصور، وفى الشجاعة، والأشياء التى تغير〈ها〉 هذه الأمور التى قلناها فيما تقدم. قال: وأنا أشرح ذلك شرحا أبين من هذا، فأقول: إن من كان مأواه فى بلد جبلى مشرف، كثير المياه، وتغايير الأوقات تكون عندهم مختلفة اختلافا كبيرا، فيجب أن تكون جثثهم جثثا عظاما، وتكون مستعدة للكد، والشجاعة السبعية فى أصحاب هذه الطبائع أكثر منها فى غيرهم. وأما الذين يسكنون فى مواضع عميقة، رحبة، وهدة، وتهب عندهم من الأرياح الحارة أكثر مما يهب عندهم من الرياح الباردة، ويستعملون مياها حارة، فإن جثثهم لا تكون عظيمة ولا معتضدة، لكنها تكون آخذة عرضا، ويكون اللحم فيها كثيرا، وتكون شعورهم سوداء، ويكون أيضا الأغلب على ألوانهم الأدمة أكثر من البياض، وتكون غلبة المرار عليهم أكثر من غلبة البلغم.

فهذه الأقاويل بينة فى الدلالة على حاجة الطبيب إلى تعرف حال البلد الذى يحتاج أن يدبر سكانه. وكذلك أقاويل أخر كثيرة لبقراط، لم أر إطالة هذا الباب بذكرها، إذ كان فيما أحضرته كفاية لمن له قريحة، وسيبعثه ذلك على طلب ما لم نذكره من مواضعه، ليكمل هذا الباب، ولله الحمد كثيرا.

القول فى تغايير الصنائع والأعمال للأبدان

وإذا كانت أعمال الناس، وصنائعهم، لها من القوة فى إحالة الأبدان، ونقلها من كيفيات إلى أضدادها، كالمزاج الحار يصير باردا، والبارد حارا، والرطب يابسا، واليابس رطبا، واللين صلبا، والصلب لينا، وغير هذه من المتضادات، فلذلك يلزم الطبيب أن يعلم ما تفعله كل صناعة من الصنائع فى مزاج كل واحد من الناس، الصحيح منهم والمريض، ليحفظ الصحيح بما شابهه، ويشفى المريض بما ضاده.

فالصنائع التى تعانى النار والشمس مثلا، تكسب الأمزجة الحرارة، كصنائع السباكين، والحدادين، والزجاجين، والكلاسين، وأشباه هذه من المهن. فإن هذه، ونظائرها، تفعل فى الأبدان، بحرارة النار، وقربهم منها، وبالبعث فى معاناتها. وأضداد هذه الصنائع 〈تؤدى إلى〉 تبريد الأبدان، كالصنائع التى تعانى الماء، كالغواصين والملاحين والصيادين من الماء، ونظائر هذه الصنائع. فأما الصنائع التى تيبس الأبدان، فهى الكثيرة الكد والتعب، وخاصة فى الشمس، كالبنائين، وقطاعى الحجارة، والنجارين، والمصارعين، والنقالين، ونظائر هذه. فأما التى ترطب الأبدان، فذوات الدعة، وقلة التعب، والتى تتوفر فيها اللذات على البدن، كمهنة العطر، ومهنة الموسيقى، والمدمنين على الحمامات، ونظائر هذه.

وينبغى للطبيب أن يعنى بمعرفة أمر الصنائع ذوات الكيفية الرديئة المضرة بالأبدان، وما نوع الضرر الداخل منها على جملة البدن، وعلى عضو عضو من أعضائه، كالصنائع التى تفوح منها الروائح الرديئة، مثل الدباغة، وتنقية طرق المياه من الأثفال، فإن هذه وما ماثلها تضر بالحواس، وبالدماغ، وخاصة إذا اتصلت وتتابعت. وكالغربلة للحبوب، ودق الكتان ومشطه، وعمل الصابون، والصنائع التى يعانى أربابها الدخان كثيرا. فإن هذه، وما أشبهها، كثيرا ما تضر بالصدر، والرئة، وتكسب ضيق النفس. وكالذى يعرض أيضا للنقالين، والفيوح فى العروق التى تسمى المدمية وما يعرض لأمثال هؤلاء من أوجاع الأوراد، وعرق النسا، وغير ذلك من الأمراض المزمنة الرديئة.

وقد يضطر الطبيب أيضا فى علاجه، وحفظه للصحة، إلى علم الأخلاق، والنفس محمودها ومذمومها،

ليستدل بذلك على حالات النفس، وهل هى من النفوس التى تصلح للعلوم والآداب، أم من التى لا توافق ذلك، ولكن أجسامها غليظة، عبلة، توافق المهن الصلبة، والأعمال الخشنة، لكى يعلم ما يوافق كل نفس، وكل جسم، وما يخالفهما، ليحفظهما بالشبيه، ويصلحهما بالمضاد. وبذلك يقدر الطبيب أن يختار لمجالسته، ومذاكرته، وإفادة علمه، الموافق، ويحذر خلافه ومضاده.

القول فى العادات

وللعادات أيضا قوة عظيمة فى حفظ الصحة على الأصحاء، وفى معالجة المرضى. وذلك أنه كما أن فى شخص نوع الإنسان آحادا قد اعتادوا استعمال الأشياء بمقادير، وفى أوقات بحالات بأعيانها، فألفوا تلك الأفعال، فصارت أمزجتهم تحتملها، وأبدانهم صحيحة عليها، متى انتقلوا عنها، تغيرت صحتهم، ومرضوا، واضطربت أبدانهم، كذلك قد يوجد أيضا من سكان البلدان الموضوعة فى الجهات المختلفة 〈آحاد〉 قد ألفوا واعتادوا أفعالا مختلفة، وأغذية مختلفة، وأشربة مختلفة، ومساكن مختلفة، وغير ذلك من الأشياء التى هى طبيعية ضرورية فى بقاء الأجسام، فضلا عما ليست بطبيعية. فصارت أجسامهم صحيحة على تلك العادات، وقد ألف بعضهم أخلاق بعض، ورضى بعضهم بأفعال بعض، على أن تلك الأفعال والأخلاق عند أصناف أخر من الناس غير محمودة، ولا مرضية.

ومثال ذلك أن فى أجساد الناس من قد اعتاد أكل خبز الشعير، والمواظبة على أكل الألبان والأجبان، وكذلك تجد قوما قد ألفوا شرب الكثير من الخمر صرفا، وعلى أن أمزجتهم حارة، فتحتمله أبدانهم، ويوافق صحتهم. ونحن نشاهد أيضا ممن أمزجتهم هذه الأمزجة الحارة لا يقدرون على شرب ذلك المقدار من الخمر والأدوية بكثير، وليس ذلك إلا للعادة! وكذلك نجد قوما قد رتبوا منذ صباهم فى الصنائع الشاقة، والصعبة المرام، وأجسامهم مع ذلك نحيفة ضعيفة، وهى تحتمل ذلك الكد والتعب على تواتره، وتتابعه عليهم. وتجد أجساما، هى أعبل وأقوى كثيرا من تلك، لا تصبر على تلك الأعمال، لأنها لم تعتدها. ألا ترى أن الأبدان التى قد اعتاد أصحابها أخذ أغذيتهم بمقدار ما، متى ازدادوا من الغذاء زيادة على ذلك المقدار، ضرهم ذلك. وكذلك القول فيمن اعتاد أن يأكل مرة، فأكل مرتين، 〈فيـ〉ـناله 〈من〉 الضرر ما يمرضه.

وقد قال بقراط فى هذا المعنى أقاويل كثيرة، أنا أحضر منها قولين، أحدهما مثال لتغاير العادات للأشخاص، والآخر هو قول أعم، ومثال لحال الأمم المختلفة التى قد اعتادت أشياء، وألفتها، فصارت لها كالطبيعة، لا يصلح أن ينتقل عنها. فأما القول الذى ينبغى أن يتعلم منه حال عادات الأشخاص، فهو هذا:

قال بقراط: ومعرفة ذلك سهلة، أعنى أن التدبير الردئ بالمطعم والمشرب الشبيه بعضه ببعض،

أوثق بالجملة، فى جميع الأوقات، فى حفظ الصحة، من الانتقال بغتة إلى تدبير آخر أجود منه. من ذلك أن انتقال من جرت عادته أن يأكل مرة واحدة بغتة إلى ضد ما كان عليه، يحدث عليه ضررا، وضعفا. و〈من〉 لم تكن عادته أن يتغذى فتغذى، أضعفه ذلك على المكان، وأثقل بدنه، وكسله، وأرخاه. فإن تعشى مع ذلك، تجشأ جشاءً حامضا. ومنهم من يعرض له لين الطبيعة، والسبب فى ذلك ما أثقل معدته، على خلاف ما جرت عليه طبيعته. وذلك أن العادة جرت عنده أن تكون المعدة منه خالية، وأن لا تمتلئ من الطعام مرتين، ولا تهضم الطعام أيضا مرتين. وقد ينتفع هؤلاء بأن يخفف عنهم ما ينالهم عند انتقالهم فى التدبير إلى ضده. وذلك أنه ينبغى أن يناموا بقدر ليلة تامة بعد عشائهم، إما فى الشتاء، فمع توق من البرد، وإما فى الصيف فمع حذر من الحر. فإن لم يمكنهم أن يناموا، مشوا مشيا كثيرا رفيقا، من غير أن يقفوا. فإذا كان بعد ذلك، إما لا يتعشوا، وإما يتعشوا عشاء خفيفا لا يضرهم، ويشربوا أيضا شرابا قليلا غير ممزوج بالماء.

فهذا القول من كلام بقراط كاف فى البيان، والمثال لما ذكرنا من تغير الأبدان عند انتقال العادات فى أشخاص الناس المفردين. وإن أنت أحببت استماع جميع ما قاله بقراط فى أمر العادات، وما قاله جالينوس فى تفسيره لذلك، فاقصد كتاب بقراط الذى عنونه بكتاب ماء الشعير المفسر بتفسير جالينوس!

وأما المثال العامى فهو هذا، قال بقراط: وأعطيك دليلا من أعظم الدلائل على رطوبتهم، وهو أنك تجد كثيرا من الصقالبة، أو كلهم من الأمة المعروفة منهم بالراعية، بهم كيا على أكتافهم، وأعضادهم، وأرساغ أيديهم، وأوراكهم، ومقدم صدورهم. وليس ذلك لشئ سوى رطوبة طبعهم ولينه، وذلك أنهم لا يقدرون على توتير القسى ولا على الرمى بالمزاريف على أكتافهم بسبب رطوبتهم، وضعفهم. فإذا كووا، جفت من مفاصلهم تلك الرطوبة، وصارت أقوى مما كانت، وأشد شبها بالمفاصل. ويكونون فدعا، عراضا، أما أولا، فمن قبل أنهم لا يشدون بالأطمار فى حالة الطفولة كما يفعل بمصر، ولا ذلك جار على سنتهم، بسبب ركوبهم الخيل ثباتا عليها، ثم من بعد ذلك بسبب القعود، وذلك أن الذكورة منهم

ماداموا لا يقدرون على ركوب الخيل، إنما هم قعود أكثر مدة زمانهم فى العجل، وقل ما يستعملون المشى لثقلهم وتصرفهم. والأناث منهم عجيب من حالهم فى الفدعة والغلظ.

وقال أيضا: فأقول إنهم يعتريهم من ركوب الخيل العلة التى تسمى باليونانية قادماطا، لتعلق الرجلين دائما على الخيل. ثم إنهم يعرجون ويحرون أوراكهم متى اشتدت بهم العلة، ويداوون أنفسهم بهذا الطريق: أول ما تبتدئ بهم العلة، يعمدون إلى عرقين خلف الأذنين، فيفصدونهما من الجانبين. فإذا جرى الدم، استولى عليهم النوم، بسبب الضعف، فينامون، ثم ينتبهون وبعضهم قد برئ، وبعضهم لم يبرأ. وأنا أرى أن بهذا العلاج يفسد المنى. وذلك أن عند الأذنين عرقين، إن فصدهما فاصد، لم يولد لمن يفصدان له، فاحسبهم إنما يفصدون هذين العرقين.

وإذ قد أبنت لك جميع هذا الكلام الثانى، فقد أوجدتك الطريق إلى تعرف تغاير العادات فى أجسام الأصحاء والمرضى. وإن أحببت أن تسمع من كلام بقراط فى العادات، وكيف يكسبونها سكان البلدان، بحسب تغاير الأهوية، والمياه، والبلدان عليهم، فاقرأ ما قاله فى كتابه فى البلدان والمياه والأهوية. فإنك تحكم منه كثيرا من أمر العادات. واكتفى بما ذكرته لك هاهنا منبها، ومحركا.

القول فى قوى الجسم وأفعالها

وقد يلزم الطبيب أن يعنى بمعرفة قوى الجسم، إذ كانت أفعال الحيوان إنما تتم للجسم بهذه القوى، وبصحتها، ومتى فسدت القوة، فسد الفعل. من ذلك للعين الإبصار، وللمنخر الشم، وللفم الذوق، وللأذن السمع، ولسائر أعضاء البدن الحساسة حاسة اللمس. ولا يمكن لعضو من هذه الأعضاء أن يعمل عمله، إلا بقوة تخصه، قد أحكمها البارى تعالى، وأعد لها آلات فى ذلك العضو. فما كان من تلك الأفعال طبيعيا، أو حيوانيا، أو نفسانيا، فله قوة تلائمه، تنبعث إليه فى مجار وطرق تصلح لتلك القوة، لا يخالط بعضها بعضا، ترد إلى ذلك العضو من أصل، وينبوع لتلك القوة.

وقد بين القدماء أن هذه المعادن ثلاثة، وهى الدماغ والقلب والكبد. فالدماغ ينبوع القوة النفسانية، والقلب ينبوع القوة الحيوانية، والكبد ينبوع القوة الشهوانية. وبينوا أيضا أن الجسم إنما يقال فيه إنه قوى على الإطلاق، إذا كانت هذه القوى ترد إلى الأعضاء من أصولها معتدلة فى كميتها، وكيفياتها. وبغير شك أنها لا تكون كذلك، إلا باعتدال أصولها ومعادنها. وقالوا أيضا إن كل عضو من أعضاءالجسم، يقال له قوى صحيح، إذا كانت قواه التى تخصه معتدلة أيضا. فأما إن خرجت فى كميتها، أو فى كيفيتها عن الاعتدال، قيل أنه غير معتدل، ولا قوى. ووجه معرفة اعتدال القوة، وصحتها، يعلم من قوة الجسم بأسره، ومن قوة كل عضو من أعضائه على انفرادها بأفعالها. فإن وجدت الأفعال لا يشوبها تقصير، ولا فساد، فاستدل بذلك على صحة قوة الجسم، والعضو! وإن وجدتها مقصرة، أو فاسدة، فاقض بفساد القوة، 〈أو〉بتقصيرها!

وليس يقنعك أن تعلم أن أجناس القوى ثلاثة، على ما ذكرنا، دون أن تعلم ما تحت كل جنس من هذه الأجناس من أنواع القوى، فتعلم أن القوة الطبيعية أربعة أنواع من القوى، وهى القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، وأن لجنس القوة الحيوانية القوة التى يكون بها النبض، والتنفس، والقوى التى تكون بها الأنفة، والغضب، وحب الترأس، وأن للقوة النفسانية نوع القوى الحساسة الخمس، ونوع التخيل، ونوع التمييز، ونوع الذكر، ونوع القوى المحركة بإرادة.

وبعد تحصيلك لأنواع هذه القوى، بفصولها، وخواصها، وما لكل عضو من الأعضاء منها، فحينئذ تكون قد أتقنت أمر قوى الجسم، فبذلك تقدر على حفظها على الجسم بأسره، وعلى عضو عضو من أعضائه، وتقدر على إصلاح ما فسد منها، أو زيادة ما نقص، أو نقصان ما زاد، وذلك أمر ضرورى

فى الطب.

ويلزم الطبيب أن يعلم من أمر القوى أيضا متى تفعل أفعالها، ومتى تمسك عن أفعالها، ليخدم كل قوة فى وقت فعلها بما تستحقه من الخدمة. فإن القوة المولدة لا تزال تفعل التوليد إلى تمام الشئ المتولد وكماله، ثم يتيسر للفعل قوة أخرى، إن احتيج إلى ذلك. ومثال ذلك فعل المولدة لتصوير الجنين إن كان ذكرا، ففى ثلاثين يوما، أو خمسة وثلاثين يوما، و〈إن كان〉 أنثى، ففى أربعين يوما. ثم تمسك المولدة عن فعلها، وتفعل المربية فعلها، إلى تمام عظم الشئ المتربى، كتربية أعضاء الإنسان إلى تمام منتهى الشباب، وهو خمسة وثلاثون سنة. فأما الغاذية، ففعلها دائم، مادام الشئ المتولد موجودا، والحيوان يحيا.

فأما اختلاف الأسنان، فإن علمه واجب أيضا على الطبيب، إذ كان لكل سن من الأسنان من التدابير فى حال صحته، وحال مرضه، غير ما للآخر. وذلك أنه، إن لم يعلم المزاج الطبيعى الخاص بكل سن، لم يقدر أن يعلم مثلا الغذاء الموافق له، ولا الشراب، ولا غيرهما من الأشياء الحافظة للصحة بمتشابهاتها. وإذا لم يعلم ذلك، كان أجدر ألا يعلم الأشياء الدافعة للأمراض بمضاداتها.

من ذلك أن سن الصبيان، لما كانت أرطب الأسنان، لكون الجنين من الدم والمنى، وهذان جميعهما رطبان، وإنما يتكون الجنين بانعقادهما من الغذاء الشبيه بأمزجتهما، كاللبن للرضيع، وما جانس ذلك. والمقابل فى الطرف الأبعد لسن الصبيان سن الشيوخ، لأنها يابسة جداً، لأن الأعضاء تبلغ فى الشيوخة الغاية القصوى من الجفاف. والمتوسط بين هذين الطرفين هو سن الشباب الذين هم فى عنفوان الشبيبة. فلذلك تكون هذه السن وسطا فى المزاج، فهى أيبس من سن الصبيان، وألين من سن الشيوخ.

فهذا حال اختلاف الأسنان فى الرطوبة واليبس. فأما اختلافهما فى الحرارة والبرودة، فواجب تبيينه أيضا على الطبيب. غير أنا نذكر من ذلك هاهنا، كالذى ذكرناه من أمر الرطوبة واليبس، إذ كان ما نذكره من هذه الجمل يحث المحب لصناعة الطب، إن كان له ذكاء وقريحة محمودة، على استيفاء علم جميع 〈ما〉 نذكره، من كتبه التى ألفت لعلمه، فنقول: إن سن الصبيان حارة جدا، لقرب عهدها من مبدأ الكون من المنى، والدم، والروح التى كلها حارة. وذلك موجود حسا. وسن الشيوخ باردة، لبعدها من الابتداء المقدم ذكره. ولانطفاء الحرارة فى أبدان الشيوخ، واستيلاء البرد عليها صاروا يجدون، ويسرع إليهم ألم ما لا يجده غيرهم من ذوى الأسنان الباقية. ولذلك صارت

أبدانهم تحضر وتسرع إلى قبول الأمراض الباردة. وإذا لمست أبدانهم، وجدت باردة.

فأما سن الشباب، فلم يختلف الناس فى حرارتها، 〈ولكنهم〉 اختلفوا 〈فى أمر آخر〉 لا يليق بهذا الموضع ذكره. لكن الوصول إلى فهم ذلك، أنت تقدر عليه من كتاب جالينوس فى المزاج، وفى مواضع أخر من كتب بقراط أيضا. فأما جالينوس، فيرى أن قوة الحرارة فى سن الصبى، وفى سن الشباب، كلتاهما سوى، إلا أن حرارتهما تختلف فى المقدار، لأن حرارة الصبى توجد أكثر مقدارا من حرارة الشباب، وألين، وحرارة الشباب أقل مقدارا، وأحد كيفية.

وقد قسم قوم السن إلى أربعة أقسام، وقالوا إن مزاج كل واحد مشابه لمزاج أخلاط البدن، وأركانه، وفصول السنة. فقالوا: إن سن الصبى حار رطب، مشابه لمزاج الدم، والهواء، وفصل الربيع. وسن الشباب حار يابس، كمزاج الصفراء، والنار، وفصل الصيف. وسن الكهول بارد رطب، كطبع البلغم، والماء، وفصل الشتاء. وسن الشيوخ بارد يابس، كطبع السوداء، والأرض، وفصل الخريف. 〈وليس لهذه القسمة〉 من الوثاقة، كوثاقة القسمة الأولى، غير أن التدرب بمعرفة أصناف القسم نافع جداً فى ذلك.

القول فى سحنة البدن

فأما سحنة البدن فإنها تابعة لمزاجه. فلذلك يجب على الطبيب أن يحكم معرفة السحنة. وأول ما ينبغى أن يعلمه من ذلك أن مزاج جملة البدن يعرف من خمسة أشياء، وجميعها داخل تحت اسم السحنة، ومعنى كل واحد منها غير معنى الآخر. وأحد هذه الخمسة كيفية الجوهر، والثانى قوام البدن، والثالث مقدار لحم البدن وشحمه، والرابع حالات شعره ومقداره، والخامس لونه.

فأما كيفية الجوهر، فإنه إذا كان حار الملمس، فإن البدن حار المزاج. وإن كان باردا، فالمزاج بارد، وكذلك القول فى المعتدل. وأما قوامه، فهو إن كان صلبا، فهو يابس، وإن كان لينا، فهو رطب، وإن كان بين ذلك، فهو معتدل. وأما مقدار لحمه وشحمه، فإنه، إن كان لحيما، فهو رطب، وإن كان معرقا، فهو يابس، وإن كان بين ذلك، فهو معتدل. وأيضا فإن البدن إن كان سمينا، فهو بارد، وإن كان لا شحم له، فهو حار، وإن كان بين ذلك، فهو معتدل.

فأما ما يعرف من حال البدن من جهة شعره، فهو يستدل من ثلاثة وجوه، وهى مقداره، وشكله، ولونه. فأما مقداره، فهو أن يكون كثيرا أو قليلا، أو غليظا أو رقيقا. فأما كثرته وغلظه، فيدلان على البرودة، واعتداله فى الجميع دليل على اعتدال المزاج. فأما شكله، فهو إن كان جعدا، دل ذلك على اليبس، وإن كان سبطا، دل على الرطوبة، وإن كان بين ذلك، دل على الاعتدال. فأما ما يدل عليه لون الشعر، فهو إن كان أشقر أو أحمر، فهو يدل على الاعتدال، وإن كان أسود، دل على الحرارة، وإن كان أبيض، دل على البرودة، وإن كان كمدا، كان برده أقوى وأشد، وإن كان أسود، دل على الحرارة واليبس.

ومع علم الطبيب بالاستدلال بهذه الأصول، مع فروعها واختلاطها، وتعرفه لمزاج جملة البدن بها، فإنه قد ينبغى أن يعلم أيضا أن معرفة مزاج عضو عضو من أعضاء البدن يكون من هذه بأعيانها، ولا يكفيه أن يعلم من هذه ما ذكرناه فقط، دون أن يقسم كل واحد منها إلى ما ينقسم إليه، ويعلم مماذا يحدث كل قسم، ليعلم بذلك على ماذا يدل. وذلك كخصب البدن، وكثرة لحمه، فإنهما نوعان، أحدهما تابع للمزاج الطبيعى، وهو المزاج الرطب باعتدال، والآخر المزاج المكتسب من التدبير المرطب للبدن. وكذلك ينبغى أن يفهم فى الشحم وغيره.

وكذلك يلزمه أيضا أن يعلم أن هذه القضايا لا تصح له، إلا فى البلدان المعتدلة. فأما فى البلدان الخارجة فى المزاج عن الاعتدال، فلا تصدق. فلذلك ينبغى أن يستثنى فى قضاياه بذلك، وبحكم علم

ذلك، ليصح له استدلاله. وكذلك قد يخطئ كثير ممن يستدل على مزاج جملة البدن من عضو من أعضائه، كالذين قضوا على الأفطس أنه رطب المزاج، وعلى الأقنى أنه يابس المزاج، وعلى الأعين أنه رطب، وعلى الصغير العينين أنه يابس المزاج، وبارد أيضا. وذلك أن الذى يقضى بذلك على الإطلاق، لم يعلم أن القوة المصورة التى طبعها البارئ تبارك فى الحيوان، قد تصور أعضاءه، بحسب ما يتهيأ لها من كثرة المادة وقلتها، وبحسب كيفياتها الجيدة والرديئة، وقد يقصد أيضا أن تجعل حالات الأعضاء، بحسب أخلاق النفس وقواها، فإذاً واجب إحكام ذلك.

القول فى طبيعة البدن

وأما أمر تعرف طبائع الأبدان، فأمر واجب معرفته على الطبيب بالضرورة، لأنه إذا كان قصده حفظ صحتها، أو معالجة أمراضها، وكانت صحة البدن إنما تحفظ بما شابهها، فلا سبيل إلى معرفة ما يشابه مزاج البدن، 〈دون أن〉 يعرف مزاج البدن أولا، وهو الذى أرادوا فى هذه المواضع بقولهم «طبيعة البدن»، إذ كان اسم الطبيعة عند بقراط، وعند سائر الأطباء، اسما مشتركا، لأنه قد يقع على مزاج البدن، كما قلنا، وقد يقع على هيئاته، وقد يقع على القوة المدبرة لأفعاله، وبالجملة فإن المقصود إليه من اسم الطبيعة هاهنا، إنما هو إلى المزاج الذى يخص البدن. فإذاً يلزم الطبيب أن يعرف مزاج البدن الذى يقصد لحفظ صحته، أو لعلاج مرض به.

وقد بين القدماء أن إعطاء علامات يتعرف بها مزاج شخص شخص من الناس، ممتنع، لأن الأشخاص بغير نهاية، وأمزجتهم أيضا كذلك، وما لا نهاية له، فمحال الإحاطة بعلمه. فلما كان ذلك كذلك، التمسوا معرفة أنواع الأمزجة، وأجناسها، وحصلوا ذلك، وميزوا كل جنس ونوع بخواصه، وفصوله التى ينفصل بها عن غيره، ليكون ذلك قانونا لسائر من أراد أن يعرف أى مزاج من الأشخاص قصد لحفظ صحته، أو لعلاج مرضه.

فمن لم يحكم من الأطباء معرفة هذا القانون، وما سواه من قوانين هذه الصناعة، كان بالواجب ممرضا للأصحاء، قاتلا للمرضى. ومن تأدب، وانتبه لما يلزمه من واجب العقل والشرع، وأحب لنفسه المصلحة، وللناس، فإنه سيأخذ نفسه بالتماس ما جهله من هذه الأصول فى القوانين التى لا يمكنه — إذا أنصف نفسه — أن يتسمى طبيبا، دون معرفتها التى أحدها ما نحن بسبيله فى هذا الباب، وهو علم أجناس المزاج، وهى تسعة: فأحدها هو المزاج المعتدل، والثمانية خارجة عن الاعتدال. وهذه الثمانية الخارجة عن الاعتدال، منها أربعة مفردة، وهى: الحار، والبارد، والرطب، واليابس، وأربعة مركبة، وهى: الحار الرطب، والحر اليابس، والبارد الرطب، والبارد اليابس.

ولا يغنى الطبيب أن يعلم أن ذلك كذلك، دون أن يعلم أن لطبائع الأبدان طبقات، أوسطها المعتدل الطبع، وأن عن جنبتى هذا الوسط طبقات من الأمزجة الصحية والمرضية، إلى أن تنتهى إلى نهاية ما يمكن من الفساد، ما لا يحصى، وأن يعلم أيضا ما لكل نوع من هذه الطبقات من العلامات التى يستدل بها عليها. ومثال ذلك العلامات التى ذكروها للمزاج الحار، والمزاج البارد، فإنها، وإن كانت كأنها تدل على شئ واحد، فإنها بالحقيقة هى بأعيانها تدل على أشياء كثيرة، لأنها تدل على نوع المزاج الحار، وهو واحد، وبكثرتها، وقلتها، وشدتها، وضعفها، وتغاير أزمانها، تدل على أمزجة أشخاص النوع كلها. وذلك أن علامات المزاج الحار اليابس مثلا، هى أن يكون الصدر واسعا، والعروق

واسعة، والنبض عظيما، والنفس ذات شجاعة ونجدة، والبدن كثيف العضل، وثيق المفاصل، مقاربها، والجلد أسود، أو آدم صلبا، والشعر كثيرا أسود، والشحم قليلا، والبدن قضيفا، وأضداد هذه العلامات هى علامات البدن البارد الرطب.

فكما أن الأمزجة الحارة اليابسة، والباردة الرطبة، فى الشدة و الضعف، كثيرة لا تحصى، كذلك هذه العلامات، وأمثالها من علامات باقى أنواع المزاج الثمانية، لها طبقات ومنازل، بعضها أشد من بعض، لا تحصى، تدل الطبيب على أمزاج الأشخاص الذين قصد حفظ صحتهم، أو علاج أمراضهم. ولا يليق بقولنا هذا إحضار علامات الطبائع، إذ ليس لذلك قصدنا بكتابنا هذا، وإنما ذكرنا ما ذكرنا على طريق المثال، والتشبيه، للعقلاء من أهل صناعة الطب، وحثا للمتعلمين. فأما أفاضل هذه الصناعة، فإنهم بما قد قرؤوه من كتبها، يستغنون عن كثير من ذلك. فلنكتف بما ذكرناه فى هذا الباب، ولنعد إلى مقصدنا، فنقول:

أما إذ فرغنا من ذكر جمل وعيون الأمور الطبيعية التى كانت حاجتنا إلى ذكرها ماسة فى ذكر مصالح البدن، وإصلاحه، وما تدعو الضرورة للطبيب خاصة ولسائر من قصد صلاح جسمه إليه، إذ كان أول قصدنا من تأديب الطبيب، إنما كان لصلاح نفسه، وتقويم أخلاقه أولا، وقدمنا ذلك على مصالح جسمه، لتقدم النفس بالشرف على البدن، 〈و〉جعلنا لذلك بابا مفردا، وهو الباب الأول الذى قبل هذا. ثم لما قصدنا فى هذا الباب الثانى ذكر مصالح البدن، لأنه الجزء الثانى من شخص الإنسان، وقلنا فيما تقدم من هذا الباب إنه لا يسع الطبيب الجهل بمعرفة أعضاء البدن، وبمراتبها، إذ كان منها شريف مخدوم، ومنها خادم أيضا، ومنها ما خلقت آلات وخدما للنفس الناطقة، ومنها ما خلقت مع ذلك آلات وخدما للطبيعة، وقلنا إنها مختلفة الأمزجة والهيئات، وإن من قصد حفظها، وعلاج مرض، إن عرض لواحد منها، فهو محتاج إلى معرفة جميع حالات 〈البدن〉، فإن الطبيب أحوج الناس إلى ذلك، ليصلح حال جسمه هو أولا، ثم حالات أجسام الناس. كما أنه ينبغى أن يؤدب نفسه أولا، قبل التعرض لما ذكرناه من هذه الصناعة الشريفة.

فلذلك دعتنا الضرورة 〈إلى〉 أن نرى لتدابير الأعضاء قانونا، يقدر ذو الفطنة اللطيفة، والقريحة الصافية، أن يستعمله فى جملة البدن، وفى عضو عضو من أعضائه، ولم يكن لنا بد فى ذلك من اتخاذ مثال للطريق الذى يجب أن نسلكه فى ذلك القانون، فاتخذنا من جملة الأعضاء الدماغ مثالا. وذكرنا من الطرق الواجب ذكرها، ومن الأمور الطبيعية التى هى ضرورية فى بقاء الشخص، وكيف ينبغى أن يختار منها الأصلح، غير أنا قصدنا بذلك تنبيه الطبيب على ما لا بد له من علمه.

وإذا كان ذلك قد تم، فقد ينبغى لك، أيها المحب لهذه الصناعة، أن تنقل ما ذكرناه فى الدماغ إلى

باقى الأعضاء الشريفة، أعنى القلب والكبد، وإلى بقية الأعضاء النافعة فى البقاء، وهى آلات النفس، وآلات الغذاء كالمعدة والأمعاء، وبالجملة إلى عضو عضو من سائر أعضاء الجسم، ما كبر، وما صغر من الأعضاء الآلية، وإلى سائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء، لتختار لكل عضو من أعضاء الجسم، ما أصلحه من تلك الأمور الطبيعية، أعنى حالات الهواء، والحركة والسكون، والمأكول والمشروب، والاستفراغ والاحتقان، والنوم واليقظة، والأعراض النفسانية، والبلدان والأعمال، والعادات، وقوة الجسم، والسن، والسحنة، وطبيعة البدن. فيختار من كل واحد من هذه لجملة البدن، ولعضو عضو من أعضائه، ما يوافقه بالكمية، والكيفية، والزمان، والمكان، على النحو الذى قدمنا ذكره فى باب باب، لكل واحد مفرد، على تقصى فروع كل أصل من هذه الأصول.

فإن كل إنسان من الناس إلى ذلك محتاج، وهو يستعمله فى حال صحته، وفى حال مرضه، دائما مهما هو حى. وإنما الفضيلة لأهل هذه الصناعة، ولأفاضل الناس الذين يقتدون برأى الأفاضل من الأطباء، هى أنهم يختارون من كل واحد من هذه، أوفقه، وأنفعه، ولا يستعملون منه، إلا ما لابد من استعماله، للبقاء بالشخص، أو بالنوع.

ومثال ذلك ما يستعمل لبقاء الشخص 〈من〉 المأكول، والمشروب، وسائر تلك الأمور الطبيعية المقدم شرح عيونها. فإن الفاضل لا يأكل، إلا ما حاجته إليه ماسة، وفى الوقت الموافق، والمقدار الكافى. وكذلك ما يشربه، وكذلك يفعل من سائر أعماله، وحركاته، وسكونه، ونومه، ويقظته، وبالجملة سائر ما يدعوه الطبع إلى استعماله. فإن فضيلته فى ذلك هى ألا يأخذ منها بحسب اللذة، لكن بحسب الحاجة. فإنه من أقبح الأمور أن تكون البهائم لا تستعمل من هذه الأمور إلا بحسب حاجتها، ويكون من يرى بنفسه أنه عاقل يستعمل منها فوق حاجته. وأشد من ذلك قبحا من يجهد فى الوصول منها إلى ما فوق طاقته، كالذين يتخذون المعاجين والجوارشنات، ليقووا من الجماع على المقدار الكثير. وهذا للإنسان مهلك، وأشباهه، ومع ذلك قبيح بالعقلاء، فإنه أعظم قبحا، وأسمج، بالطبيب المدعى تدبير الخواص والعوام من الناس.

فاستعن، أيها الحبيب، على طبعك بعقلك، وعلى التفهم لقلة بصيرتك بمنافعك، بقراءة كتب المتقدمين، وعلى التفهم لأقاويلهم بلقاء الخبيرين بها، لتزداد بذلك علما، وتقدر على العمل المحمود، فبالعمل مع العلم، تنل الصالحات وتبلغ الخيرات! وأرى أنه من الصواب، بعد ما قدمته من هذه الجمل، أن أذكر جملا من الوصايا، التى تحث الطبيب على ما يصلح بقية أعضاء البدن الكبار، ويستدل بها على إصلاح باقى الأعضاء. ثم أتبع ذلك بوصف سيرة الطبيب: كيف ينبغى أن يكون، وكيف يرتب تدابيره لجسمه، يوما يوما سائر أيام حياته، وبذلك يتم هذا الباب.

القول فى الحث على مصالح الأعضاء واقدمها بعد الدماغ القلب

وينبغى للطبيب أن يعنى بأمر صلاح القلب العناية الشديدة، لأنه معدن الحياة، ومحل الروح الحيوانى، ومنشأ الحرارة الغريزية، ومنه تسرى الروح الحيوانية فى العروق الضوارب النابتة منه إلى سائر البدن، ومن لطيف دمه يصعد إلى شبكة الدماغ مع لطيف القوة الحيوانية، لتحول هناك، وتتهذب، فيكون الدم للدماغ غذاء، وللروح الحيوانية...،وللروح النفسانية مادة وأستقساً. وخلق القلب بشكل صنوبرة، كشكل الجوهر النارى الذى فيه.

والعناية بصلاح القلب مأخوذة من أصلين: أحدهما بصلاح ما يرد إليه من خارج من الهواء المروح عن ناريته، وبما يمد الروح الحيوانية التى فيه. والثانى بصلاح الدم الواصل إليه، ليغذوه، ولينمى، ويحفظ القوة الحيوانية، والحرارة الغريزية، كما ينمى ويحفظ النار الزيت.

فلذلك ينبغى للطبيب أن يعنى دائما بصلاح الأغذية التى يتولد عنها الدم، وبين أن، مما يطيف بهذين الأصلين، ويتمم صلاحهما، تقويم تلك الأمور الطبيعية، المقدم ذكرها فى تدابير الدماغ، والأخذ منها بحسب صلاح القلب.

وقد بين القدماء أن القلب آلة للقوة الغضبية، وبصلاحه تستقيم أفعال هذه القوة، وتعتدل الأخلاق، وتضعف القوة الغضبية، لأن الدم يصفو، والنفسانية تقوى. وبفساد القلب، تفسد الغضبية، وتصير الأخلاق سبعية. فالذى به يستدل أولا على حالات القلب، ثم على آلات سائر أعضاء البدن، هو نبض العروق. وعلم النبض للطبيب فى حفظ الصحة، وفى معالجة المرض، علم عظيم النفع، لأنه، كما قال جالينوس: مخبر لا يكذب. فلذلك وأشباهه ينبغى أن يتوفر 〈الطبيب〉 على حفظ القلب.

القول فى الكبد

والكبد أيضا فهى عضو رئيس خلق لتكوين الدم. وذلك أن الكبد تجذب إليها بالقوة الجاذبة التى خلقها الله جل وعز فيها، وفى كل مغتذ، الصافى من كل الغذاء الذى قد طبخته المعدة وأنضجته نضجا أول. فإذا انطبخ فيها، أعنى فى الكبد، ونضج نضجا ثانيا، صار بالقوة المغيرة، فى مدة الزمان التى قد مسكته 〈أثناءها〉 القوة الماسكة، دما.

وبعد ذلك تنفذه 〈الكبد〉 وتدفعه إلى الأعضاء، وترسل ذلك فى العروق الثابتة منها إلى كل عضو ما يشاكله، وبحسب كفايته. وبعد أن تأخذ منه هى غذاءها، وتبقى منه ما لا يصلح لغذائها، ولا لغذاء الأعضاء من عكر، وزبد، ومائية، ذلك تقدير العزيز الحكيم.

وخلقت الكبد بشكل هلالى، ذى زيادات، محدودب الظاهر، أخمص الباطن، ليمكن بذلك احتواؤها بتقعيرها، وبأصابعها الزائدة، على المعدة، لتسخنها، وتعينها على طبخ الغذاء، فيكون مثالها مع المعدة مثال القدر الموضوعة على الموقد. وبالقوى الطبيعية التى فى الكبد تم الكون، لأن منها قوى أول، وهى المصورة والمربية، وثوان، وهى الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة. وبصلاح الكبد تصلح جميع هذه 〈القوى〉، ويصلح حال الحى.

فلذلك يجب على الطبيب العناية بها فيما يرد إليها من الأغذية والأشربة، وما يبرز عنها، وبالجملة فى تقدير الأمور الطبيعية، بحسب مصلحتها، كالذى تقدم به القول.

القول فى المعدة

وبعد العناية من الطبيب بالأعضاء الرئيسية، أعنى الدماغ والقلب والكبد، فإنه ينبغى أن يعنى بتنقية الأعضاء التى هى خدم لهذه الرئيسية، ونفعها عام لسائر الجسم. وأشد هذه تقدما المعدة، لأن الطبخ الأول للغذاء فيها يكون وبها، إذ كان ما يفعله الفم، والأسنان، والأضراس، واللسان، من تقطيع الطعام، وطحنه، وأشباه ذلك، لا يستحق أن يسمى هضما، ولا طبخا، إذ كانت منزلته منزلة ما يصلحه الطباخ من التقطيع والدق قبل طبخه.

فالمعدة بالحقيقة هى أول آلات الطبخ. ولذلك جعل ليفها الآخذ عرضا ليفا موريا، لكى تحتوى به وتقبض على الطعام، ليتم لها سحقه وطبخه فى مدة ما من الزمان. وتتعاون على ذلك قوتان، إحداهما الماسكة، والأخرى المغيرة، وهى الهاضمة. وهاتان القوتان فعلاهما يتلوان فعل القوة الجاذبة شئ، 〈و〉لا تفعل هاتان القوتان شيئا 〈قبل ذلك〉. كما أن القوة الدافعة تالية فى فعلها للقوتين المتوسطتين.

ولذلك جعل للمعدة طريقان أحدهما ينجذب إليها منه ما يرد إليها، وهو المتصل بالمرئ، والآخر المسمى البواب، وهو الثقب المتصل بأول المعى المسمى الاثنى عشرى. والمعدة أسفلها، الذى هو أوسع جزء منها، لحمى، لأجل أن أكثر النضج به يكون. وأعلاها عصبى، لأجل أن أكثر الحس به يكون.

وإذا كان نفع المعدة 〈على〉 ما ذكرنا، فبحق يجب على الطبيب أن يعنى بصلاحها. وأول صلاحها هو نقاؤها، ونظافتها مما قد بقى فيها، أو تولد فيها، من الفضلات العفنة، ليرد الغذاء إليها على نقاء، كما أن أول صلاح طبخ الطباخ هو نظافة قدره، وآلات الطبخ. وبعد ذلك فأحمد الأمور للمعدة، ولسائر الأعضاء، هو ألا يورد إليها، إلا ما وافقها من الطعام والشراب، وغيرهما مما يرد إليها. والموافق لها يحتاج أن يكون موافقا فى الكمية، وفى الكيفية، وفى الترتيب، وفى الوقت. فإن الطعام والشراب، إذا لم يكونا فى مقدارهما فوق مقدار الحاجة، وكانت كيفيتهما موافقة فى الحرارة والبرودة مثلا، ورتبت الأغذية ترتيبها الموافق، فقدم مثلا الطعام اللطيف السهل الانهضام، قبل الطعام البطئ الانهضام، وقدم أيضا الطعام قبل الشراب، وكذلك أيضا إذا حفظ زمان الهضم، ولم يورد على المعدة طعام آخر، كان جميع ذلك، مع سائر ما يقدر للمعدة من باقى الأمور الطبيعية، أعنى الحركة والسكون، والنوم واليقظة، والاستفراغ والاحتقان، وسائر ما يبقى من ذلك، مصلحا لحال

المعدة، ولحال سائر البدن. فلذلك يلزم الطبيب العناية بها.

وأيضا مما يحتاج أن يذكر به الطبيب، ليعنى بعلمه من أمر المعدة، هو ما ذكرناه أولا من استنظافها مما يتولد فيها. والمتولد فيها نوعان من الأخلاط: فأحدهما يمكن إصلاحه ونضجه مع الأغذية، حتى يصل إلى الكبد، ويتولد منه دم. والنوع الآخر من أخلاطها لا يمكن أن يكون منه دم، ولذلك يجب العناية بإخراجه عنها، إما بالإسهال، أو بالقذف.

فالنوع الأول الذى يمكن كونه دما هو البلغم. ولذلك يجب أن يعنى بنضجه وإصلاحه، كالذى نأمر به المشائخ، وأصحاب الأمزجة الباردة الرطبة، ومن يتولد فى معدهم البلغم كثيرا، لتخلف هضمهم ببرد معدهم، بأكل العسل، وما وافقهم من الجوارشنات، وشرب اليسير من الخمر الصرف فى جملة أغذيتهم، ونظائر ذلك.

وأما النوع الثانى من الأخلاط المتولدة فى المعدة التى لا تستحيل دما، ولا يمكن إصلاحها، فهو مما يتولد فيها، أو ينصب إليها، من الصفراء، أو المرة السوداء، من الأخلاط الصفراوية، والأخلاط السوداوية. وإخراج هذين الخلطين من أسفل، يكون بما يسهلهما من الأدوية المسهلة لهما، إذا مالا إلى أسفل، أو بالقذف، إن مالا إلى ناحية فوق، فقس على ما ذكرته لك، وأحسن التقدير، توفق إن شاء الله!

القول فى الأمعاء والطحال والمرارة والكلى والمثانة

وينبغى للطبيب أيضا أن يصرف عنايته إلى علم جواهر بقية الأعضاء الخادمة، وما منافع كل واحد منها، ليعلم بذلك بما يصلحه. فإنه لا يغنيه فى بقاء الجسم، وحفظ صحته، صلاح حالات المخدومة، دون صلاح الخوادم. وهذه الأعضاء هى من الخوادم التى جعلها البارئ تعالى فى الرتبة الثالثة لخدمة المعدة. والأمعاء الدقاق الثلاثة، أعنى المتصل بالبواب، والإثنى عشرى، والصائم، مع ما جعلت طرقا ليتقدم منها ما قد فرغت المعدة من عمله، فإن لها منفعة أخرى، وهى أن العروق الدقاق التى ترد إليها من الكبد، المسماه الماساريقى، وتفسيرها المصافى، خلقت لتجتذب صفو الغذاء إلى الكبد، ليصير فيها دما. ولذلك عوجت هذه الأمعاء تعويجا كثيرا. فأما باقى الأمعاء، فهى الغلاظ، فالمنفعة فيها أنها طرق فقط لتنقية ما تبقى من الثفل.

ولذلك يجب العناية ببروزه وخروجه منها، إن قصرت الطبيعة عن إخراجه. ولذلك يلزم الخادم للطبيعة، وهو الطبيب، أن يعلم كيف ينبغى أن يكون إخراجه، وذلك أن إخراج الثفل، وتسهيل بروزه، يحتاج إلى تفقده يوما يوما. فإنه كما أن الحاجة إلى الغذاء يوما فيوم، كذلك الأمر فى خروج أثفاله. فأول معين فى بروز الثفل بسهولة، هو أن يكون الغذاء سريع الانهضام، ولا يصعب على المعدة إنضاجه، لكن يكون قد أنضج وسحق بعد النضج، بالصنعة والطبخ من خارج، ثم بالفم. ثم ينبغى أن يكون الغذاء فى مزاجه مشابها لمزاج المغتذى به، إذا كان صحيحا.

ومما يعين خروج البراز فى الأمزجة الباردة، وفى المعد المستولى عليها البرد والبلغم، خلط الأشياء الملطفة بالأغذية، لتعين على تولد الصفراء، وتحريكها، وصبها إلى الأمعاء، لتحث البراز على الخروج. وهذه الأشياء الملطفة هى الأشياء الحريفة، كالكمون، والكرويا، والدارصينى والزنجبيل، والفلفل. وللعسل فيما ذكرناه أعظم فعل، لأنه مما يلطف، 〈و〉ينضج البلغم، ويعين على كونه دما. ومما ينفع فى ذلك منفعة عظيمة شرب الخمر وهو صرف، أو قريب من الصرف. وفى الشتاء يكون مزاجه بالماء الحار، والأنبذة المائلة إلى الحلاوة نافعة فى ذلك.

وإن تخلفت الأمعاء عن دفع البراز، لبرد مزاجها، أو لبلغم قد كثر وغلظ فيها، أو ليبس ما صار إليها من الثفل، أو لعظم رياح قد تولدت من نوع الغذاء، فيلزم الطبيب الحيلة لإخراجه بالحقن بالأشياء المسخنة للأمعاء، والمذيبة للبلغم، والطاردة للرياح، والمزلقة أيضا، كالخطمية المضروبة فى ماء العسل والزيت، وكماء قد طبخ فيه كمون وخطمية، أو حلبة وكمون، وخلط مع ذلك

العسل والزيت، وحقن به. وذلك وأمثاله نافع فى حفظ الصحة، وتنقية الأمعاء، والرياضة، وتعديل الأمور الطبيعية كلها. فى ذلك أعظم نفع، ولا ينبغى أن يهمل منها شئ.

وأما الطحال، فهو عضو له منافع كثيرة، أظهرها وأعظمها هى تنقيته، وجذبه لعكر الدم من الكبد، ثم طبخه لما صار إليه، حتى يصير منه المرة السوداء، ثم إنفاذ جزء من هذه المرة السوداء إلى فم المعدة، يسدها بما فيها من القبض، وبما فى هذه المرة من الحمض، تتحرك الشهوة للطعام.

ثم يعين الطحال على امتحان المعدة للطبخ، باحتوائه على جرمها، كما يحتوى الكبد من ناحية اليمين، وكما يجللها الثوب من قدامها، جميع ذلك لإسخانها. ولهذه المنافع والأفعال من الطحال، يجب الاهتمام بإصلاحه وتنقيته، إذا وجد الطبيب منه تخلفا فى فعله. كما 〈يجب أن〉 يعطى الأشياء التى تجلوه، وتقوى حدته، وتخرج ما فيه، مثل السكنجبين العسلى، والعنصلى، والكبر المعمول بالخل، ونظائر ذلك.

وكذلك يجب على الطبيب النظر فى أمر المرارة، فإنها آلة خلقت لتجذب من الدم ما يعلو على ما طبخه الكبد من الزبد، كالذى يأخذه الطباخ بالمغرفة من الزبد الطافى على الطبيخ، لينظفه منه. ومن ذلك الزبد اللطيف الخفيف يكون المرار الأصفر بطبخ المرارة له. وهى مع ذلك بعد تغذيتها منه، تنفذ منه فى عرقين، إلى أسفل المعدة، وإلى الأمعاء، لتعين المعدة على الهضم بحرارته، وأيضا لتعين البواب على إخراج ما نضج، ولتعين الأمعاء الغلاظ على دفع الرجيع، وتجلوها دائما من البلغم الذى يكثر فيها، لبرد مزاجها. فلذلك يجب العناية بالمرارة، وبتفقد حال ما يتكون فيها، وما هى عليه من قوة الجذب والدفع، بتعديل الأطعمة والأشربة، والحركات، والاستحمام، وبالجملة سائر الأمور الطبيعية.

وكالقول فى المرارة، كذلك القول فى الكلى والمثانة. فإنهما عضوان خلقا، ليجذبا إليهما مائية الدم. فهما بعد أخذهما منه ما يغذوهما، يخرجانه بالبول. فلذلك ينبغى للطبيب أن يفتقد ما يخرج من البول، وينظر من أمر البول فى كميته، أعنى فى كثرته وقلته، وفى كيفياته على اختلاف ضروبها، كألوانه، وقوامه، وسهولة خروجه، وغير ذلك مما هو داخل فى باب الكيفية، وفى أوقات خروجه.

فإن علم الاستدلال من البول على حالات آلات الغذاء كلها خاصة، وعلى حالات سائر البدن عامة، فى

حال الصحة، وحال المرض، عظيم النفع للطبيب. فلذلك يجب أن يعنى بعلم دلائله، وبقراءة ما ألفه الأطباء من الكتب. ولذلك أيضا يجب العناية بتفقد الكلى والمثانة، لما لهما من الأفعال والمنافع، بتعديل الأغذية والأشربة خاصة، وسائر الأمور الطبيعية.

القول فى الرئة والصدر

ومن الأعضاء الخوادم للأعضاء الشريفة، النافعة فى بقاء الحى الرئة. فإنها عضو له منافع، منها صون القلب، والترويح عنه، لإنفاء بخار الحرارة النارية التى فيه، ولاستجلاب الهواء الصافى البارد إليه، ولتصفية حرارته، كالذى تفعله المروحة من استجلاب الهواء إلى النار، لتنفى عنها ما اجتمع عليها من الدخان والرماد، فتصفو بذلك، كذلك تفعل الرئة. ولذلك خلقت سفنجة خفيفة، ولشرف نفعها احرزت، يصونها سور يحيط بها، مركب من عظام، وعضل، وأغشية، وغير ذلك، وهو الصدر.

ولها من المنافع للحى أنها مع الصدر أكثر الأسباب فى تولد الصوت، وكونه. فلذلك يجب على الطبيب الاهتمام بمصالحها جميعا، وذلك بتعديل الأغذية، والأشربة، وخاصة الهواء المحيط بالشخص، وبحركاته. فإن ذلك أسرع إليهما. وبالجملة ينبغى أن يصلح لهما جميعا الأمور الطبيعية، ليدوم لهما بذلك، ولسائر أعضاء البدن، ما ذكرناه، وما لم نذكره، من السلامة والصحة.

ولم نذكر ما ذكرناه من هذه الأعضاء، إلا على طريق التنبيه، والمثال للطبيب على ما يجب أن يعمله فى سائر أعضاء البدن. فلذلك ينبغى له أن يعرف أعضاء البدن كلها الآلية، ويعلم أعضاءه التى هى فى المرتبة قبل الآلية، وهى المتشابهة الأجزاء، لأنها هى الأصول للأعضاء الآلية. ثم يلزمه أن يكون عالما بما منه ركبت الأعضاء المتشابهة الأجزاء، ليعلم كيف يحفظها. فيلزمه أن يتقدم عنده العلم بأمر الأخلاط، وقبل العلم بالأخلاط، العلم بالمزاج 〈الذى〉 يكون الأخلاط من الأسطقسات.

فلذلك قالوا إن هذه الأشياء هى الأمور الطبيعية للجسم، مع أسبابها وعلاماتها. ولهذه العلل، ولكثرة بحوثها، وتفنن طرق العلم بها، صنف القدماء لكل فن منها كتبا. فإن أحببت علم ذلك على إتقان، فيجب أن تلتمسه على ترتيب ونظام، فتقرأ كتب فن فن منه على توالى الأمر الطبيعى لبدن الإنسان. وأحمد ما قرأته فى ذلك، كتب جالينوس، ومنها خاصة الستة عشر كتابا التى رتبها الاسكندرانيون للمتعلمين لهذه الصناعة. وسنذكرها على ترتيبها، وبأسمائها، فيما بعد، بمشيئة الله تعالى.

فيجب أن تصرف العناية إلى درسها على من يفهمها. فإن كتاب الأسطقسات منها مقدم قبل المزاج، والمزاج مقدم قبل علم التشريح ومنافع الأعضاء، وهذه مقدمة قبل القوى

الطبيعية. وكذلك أجروا القول فى ترتيبها.

فإذ قد انتهى بنا القول إلى هاهنا، فلنرجع إلى ما ينبغى للطبيب أن يأخذ نفسه به من التدابير، والسياسة، لبدنه، ولنفسه، يوما يوما، فنذكره، لتكون مصالحه تامة، وسيرتهكاملة. وبذلك يكون كمال هذا الباب.

القول فى التدابير والسياسة التى ينبغى للطبيب أن يدبر نفسه بها فى كل يوم مدة حياته

فنقول: إنه ينبغى للطبيب بعد إتقان ما قدمنا ذكره، مما يلزمه علمه، أن يبدأ فى كل يوم باستنظاف ما يبرز من سائر منافذ بدنه، كالذى يبرز من منخريه، وعينيه، وفمه، ونظائرها، وتذكيتها بالماء. وليس يكثر فى هذه المنافذ الفضلات، إلا لكثرة الأكل والشرب، وسوء ترتيبهما. فلذلك يكون أنفع الأشياء فى تذكية الحواس، ونقائها، هو تعديل المأكول والمشروب.

وأيضا فإن الطبيب مضطر إلى حضور مجالس الأفاضل والأدباء، والأدب لائق به. وليس من الأدب التنخع، والتبصق، والتثاؤب، والتمطى، وأشباه هذه الأشياء. وجميع هذه ونظائرها إنما تأتى على التملؤ من الطعام والشراب. فينبغى للطبيب أن يحذر ذلك، وما يملأ الرأس، ويفعل هذه الأشياء العشاء فيجب أن يتوقاه.

وبعد ذلك، فينبغى أن يعنى بفمه بالسواك، والسنونات التى تجلو الأسنان، وتطيب النكهة، وتشد اللثة، كالسعد، والإذخر، ونظائرهما، ويأخذ فى فيه من العود ما يمضغه قليلا قليلا، ليطيب بذلك نكهته، ويقوى معدته، ودماغه، وكذلك من المصطكى، ونظائرها.

ولذلك قال جالينوس: فقد كان رجل، به رائحة رديئة من فيه. فعنى بعلاجها، حتى نقصت، وقلت، بالقئ، والإسهال، وشرب الأدوية التى تصلح لها. ثم كان بعد 〈ذلك〉 فى كل يوم يلقى إلى فمه أحيانا حماما وأحيانا شيئا من الساذج، وأحيانا غير ذلك من الأشياء الطيبة الرائحة، ولم يكن يخرج من منزله، إلا بعد أن يفعل ذلك.

ثم يجب أن يتبع ذلك بتفقد روائح سائر أعضائه. فما أنكر منها من رائحة، قابلها بما يزيل تلك الرائحة، كالتوتيا لروائح الابط، والذرائر التى تقمع الروائح الرديئة. وكذلك

يلزمه أن يتفقد كل ما فضل من أعضائه، مما لا حاجة ضرورية للجسم إليه، فيزيله، كالزائد من الأظافير، والفاضل من شعر رأسه ووجهه، وغير ذلك مما شابهه.

ويتلو ما ذكرناه عناية الطبيب بلباسه. فإنه ينبغى له أن يتعمد شيئين: أحدهما النافع، وذلك كاللين والمسخن فى الشتاء، وكالرقيق الناعم فى الصيف، والآخر ما جمل وحسن عند أبناء نوعه، ولم يخرج عن طبقة مثله. فإن الطبيب الخادم للسلاطين يحتاج من الكسوة، والطيب، إلى أكثر مما يحتاج إليه طبيب العامة.

ويجب 〈على〉 الطبيب أن يحرس حواسه كلها، ولا يستعملها إلا فيما اجتلب نفعا، ودفع ضررا. فإن نطق، نطق عن علم وتحصيل، ولا يسمع منه لفظة مكروهة. وينبغى أن يتحفظ فى ألفاظه، خاصة فى مجالس الملوك والرؤساء، فلا يسأل إلا عما يعنيه أمره، ولا يجيب إلا عما سئل عنه. وكذلك يلزمه فى حراسة بصره، وذلك بأن لا ينظر إلى حرمة ليست له، بمحرم نظر هو غنى عنه، ولا إلى غلام. ويجتهد فى أن يكون نظره دائما فى كتب صناعته، وفى ديوان شريعته، فإن كتب الشرائع تقوم الأخلاق، وتبعث على الأعمال المحمودة، وكتب صناعته تكسبه علما بها.

ويجب على الطبيب حراسة سمعه، وذلك بأن لا يسعى إلى محادثة الجهال، ولا إلى استماع أقاويل الأشرار، ومذاهب الآراء الرديئة. وحسم ذلك عنه هو بألا يجالس أهل هذه الأمور، ولا يخالطهم، ولا يحادثهم، ما أمكنه. فإن تهيأ له مذاكرة فاضل، وإلا كان الأنس بالوحدة، والخلوة بالدرس، له أعظم الأنس.

وهكذا ينبغى للطبيب أن يأخذ نفسه فى حراسة حواسه الباقية. وذلك بأن يحرس نفسه من اشتمام الروائح المكروهة، المفسدة لدماغه، أو ملامسة الأعمال المفسدة لبدنه. وينبغى أن يجتهد فى تعديل هواء مسكنه، ومجلسه، وذلك بأن لا يجاور ما أفسد هواءه، من مسبك نحاس، أو أتون حمام، أو مجمع ماء ردئ، أو مدبغة، أو ما أشبه ذلك. ثم يجب على الطبيب أن يقسم نومه وليلته أقساما بحسب حاجاته ومصالحه، ويجتهد فى أن يكون وقت نومه أقل الأوقات، وبحسب الحاجة فقط، لأن النوم كأنه موت ما، والأعمال، فإنما تتم باليقظة. فلذلك يجب أن يكون زمان اليقظة أكثر من زمان النوم.

وينبغى أن يجزئ زمان أعماله تجزئة يحسبها. ومثال ذلك أن أول الأفعال التى ينبغى للعاقل أن يفعلها — بعد قيامه من نومه، ونظافة جسمه وحواسه، على ما تقدم به القول — هو الصلاة. فإن الشكر للمنعم، والإقرار له بالوحدانية، والخشوع بين يديه — إذ هو العلة لكل خير، والقادر على كل فعال — من الواجب عقلا وشرعا. وبالتنصل، والإقلاع عن العيوب، مع نقاء القلوب،

يمحص الرب الذنوب، ويجيب الدعوات، ويوصل إلى كل محبوب. فلذلك وأمثاله ينبغى أن يكون أول الأفعال الصلاة، وذلك يكون فى الجزء الأخير من الليل. ثم يجب أن ينعطف من صلاته إلى قراءة جزء من كتب شرعه، إذ هو الآمر له بالخيرات، والباعث له على الصالحات. ثم يعدل إلى قراءة ما قد رتبه له من كتب الطب، حسب ترتيب القدماء لذلك.

فإذا توجب له الخروج إلى مرضاه، عاد فصلى صلاة الصبح النهارية، وسأل الله تبارك وتعالى أن ينجح سعيه، وأن يشفى المرضى على يديه، وخرج بنية صادقة إلى مرضاه، الذين قد نالتهم أنواع المكاره، وعيونهم ساهرة من عظم البلاء، فى حال ما كان هو نائما معافيا، فيحمد الله على ما وهبهه له كثيرا، ويسأله المعونة على برئهم. فإذا وافى المريض، وسأله عن حاله، وعرف أخباره، طيب نفسه، ووعده بالبرء والسلامة. فإن يكن المريض، أو من يخدمه، يعون ويفهمون، وصف أدويته وأغذيته، بل أثبتها لهم، فإن ذلك أسلم له، ولهم. وإن لم يكن 〈هناك〉 من يعى، تولى هو إصلاح ما يحتاج إليه بيده. فإن لم يتهيأ له ذلك، لم يصف له شيئا، لأن سكوته عن وصفه لمن لا يعى، ولا يؤمن منه الخطأ، هو أصلح للمريض، وللطبيب.

وبعد أن يستوفى العيادة لمرضاه، فيجب أن يعود إلى مجلسه المرسوم له، فيجلس لمن يجيئه من المرضى، ويحسن المساءلة. ولم أذكر هاهنا كيف ينبغى أن تكون مساءلته للمرضى، ولا كيف ينبغى أن يكون المرضى، ولا كيف ينبغى أن يكون خدمهم، لأنى قد أفردت لكل معنىً من ذلك بابا وسمته به، يأتى فيما بعد، بعون الله. ولكن على الطبيب أن يوسع خلقه، ويحتمل من المرضى ضجرهم، وأى كلام، يسمعه منهم بغير تحصيل، لا يحفل به. ولكن عليه أن يحصل من جميع ما يسمعه ما ينتفع به فى برء المريض، وما سوى ذلك، لا يفكر به.

وليس ينبغى للطبيب أن يمنع المريض من كثرة ما يشكيه، فيظهر ضجرا من ذلك، لأنه ربما أورد فى كلامه علامات يستدل منها الطبيب على ما ينتفع به، ويستشهد بها على صحة مرضه. وينبغى للطبيب أن يكون فيه رحمة، ولا يتم ذلك إلا بتقوى وخوف من الله جل وعز. وإذا كان الطبيب كذلك لم يسمع منه إلا بالصدق، ولم يفعل إلا الخير مع سائر الناس كافة.

وإذا فرغ من حوائج الناس، ثم أخذ فى مصالح جسمه، من استحمام، وأكل، وشرب، فعليه أن يعدل ذلك لجسمه، حسب ما يوافقه، بالكمية والكيفية، وبحسب الزمان والمكان. وإن احتاج إلى الأكل مع غيره، فلا يتبع فى أكله وشربه محاباة الأصحاب، بل يأخذ من كل أمر طبيعى، بحسب الواجب،

وبمقدار الحاجة، لا بحسب اللذة، ويكون هو المعلم لغيره الصواب فى ذلك. وليجد مضغ ما يأكله، وليمتص ما يشربه. والأحمد للطبيب أن لا يجالس شراب النبيذ، لأنه يضيع زمانه، ويشغل مكانه. وليحذر أيضا مخالطة الأحداث، وكثرة المزاح، فإنه ينشط عليه الجاهل والوقاح.

ولا ينبغى للطبيب أن يجاذب النساء، لئلا يسقط عند العامة والرؤساء. ولا يصلح للطبيب كسب الأموال من التجارة، لئلا يقطعه 〈ذلك〉 عن العلم، ويكسبه الخسارة. ولا يصلح للطبيب التشاغل باللعب والملاهى، لئلا يسخف، ويصير واهيا. ولا يليق بالطبيب الملق، فإنه خلو خلق. ولا يحسن بالطبيب الحسد، فإنه يسقطه عن كل أحد.

وينبغى للطبيب إذا أراد شرب النبيذ، ألا يشربه إلا للانتفاع به، وأكثر ما يمكنه ذلك، إذا شربه وحده. وأحمد أوقات شرب النبيذ له أول الليل، بعد انهضام طعامه، لأنه حينئذ ينفذ الغذاء، ويعين الكبد بحرارته المعتدلة على هضمها لصفوة الغذاء دما، لأن الخمر أقرب الأشياء إلى كون الدم. ويجب أن يشرب من الخمر والماء، بحسب ما يوافقه، ويكون شربه قليلا قليلا، ومنادمته لأهل علمه، أعنى قراءة كتبهم. ولا يزال تارة يقرأ، وتارة ينسخ، وهو بين ذلك يشرب، إلى حين النوم.

فهذا ما كان ينبغى أن أذكره من إصلاح الطبيب لجسمه، كما ذكرت إصلاحه لنفسه فى الباب الذى قبل هذا. وفيما ذكرته فى هذا الباب من مصالح الجسم كفاية لذوى الألباب، والمحبين للآداب.

الباب الثالث فيما ينبغى للطبيب أن يتوقاه ويحذره

وينبغى للطبيب مع ما قد تقدم به القول من التحذيرات له، والوصايا فيما يصلح نفسه وجسمه، أن يحذر أشياء أخر كثيرة فى حفظ الأصحاء، وفى معالجة المرضى، نحن نذكر منها هاهنا ما تهيأ، ليستدل به على ما لم نذكره.

فأول ما ينبغى للطبيب أن يحذره، وعليه الاحتراس منه، هو ألا يدبر أحدا فى حفظ صحة، أو فى معالجة مرض، أو يختبر عقل من يريد تدبيره، وعقل من يخدمه، وبعد ذلك 〈فعليه بـ〉ـإصلاح ما يوافقه فى تدبيره، ثم حينئذ بأخذ فى تدبيره. وإلا فالأصلح له وللمريض، هو ألا يدبره، فيسوق إلى المريض، وإلى نفسه، ضروبا من المكاره، ويكون قد جهل فى ذلك جهلا يصعب عليه تلافيه. وذلك لمخالفة قول الجليل بقراط حين قال: وقد ينبغى لك ألا تقتصر على توخى فعل ما ينبغى، دون أن يكون المريض، ومن يحضره كذلك، والأشياء التى من خارج. فإن بقراط قد أتى فى هذه الوصية، لمن تدبرها، على جل الوصايا التى ينبغى أن يستوصى بها الطبيب، ويحذرها، من أمر المريض فى نفسه، وفى أمر خدمه وعواده، وذلك بقوله «ومن يحضره». وأما قوله «الأشياء التى من خارج»، فإنه يفهم منه أمر موضعه الذى يسكنه، وهوائه المحيط به، وأدويته، وأغذيته، وأنواع تقديرها، وإصلاحها، وجميع ما تدبر به المريض من استحمام، ودلك، ودهن، ورياضة، وأشباه ذلك من العلاج، والتدابير التى — إن استعملها الطبيب فى غير موضعها، وبغير المقدار الذى يحتاج إليه بها — ضر المريض، ولم ينفعه، وكان بذلك قد ترك موعظة بقراط المقدم ذكرها، والأخرى التى قالها فى المقالة الأولى من أبيديميا، وهو قوله، قال: وينبغى أن تلزم نفسك سنتين، أحدهما أن تنفع المريض، والأخرى ألا تضره.

ولأن جالينوس قد ذكر فى تفسيره لهذا الفصل قولا يليق بما نحن بسبيله، وينفع اقتصاصه هاهنا ما نفعله، فلذلك أرى أن أتلوه إليك، فاستمعه، وتدبره، بغير ضجر! قال جالينوس: وينبغى للطبيب أن لا يتبع إرادة المريض، إذا لم تكن موافقة لصلاحه، ولا ينبغى أن يحمله على ذلك رهبة منه، ولا رغبة فى ماله، بل من الله يجب أن يرهب، وإليه ينبغى أن يرغب.

وينبغى للطبيب أن لا يكون حقودا، ولا حسودا، ولا عجولا، ولا ملولا، ولا صلفا، ولا شرها، بل يكون للذنب صافحا، وللناس مسامحا، ثابتا، متوقفا، وبالأمر عارفا، لينا متواضعا، وإلى الخيرات مسارعا، قنوعا شكورا، وبحسب الثناء مسرورا، عن المآثم عفيفا، وفى باطنه وظاهره نظيفا.

وإذا كان الطبيب آخذا لنفسه هذه الأخلاق المحمودة، فإنه لا يرى أن يقابل جاهلا، لئلا يكونا فى الجهل بالسوية. ولا يرغب فى الحرام من الأموال، لئلا يكون محتالا. فكم ممن قد أرغبهم الأشرار من الرجال والنساء ببذل الأموال، والمواعيد، وأنواع الخدم، فلشرههم وجهلهم أعطوا أدوية قتالة، ومزرحات أسقطت الأجنة، وأشباه ذلك من الأمور المهلكة، جميع ذلك جهلا بالعواقب، وكفرا بالمنعم. فلو سعدوا بصحة الفكر، وجودة التمييز، لعلموا أن الخالق تبارك عادل، لا جور عنده، وأنه يكافئ المرء بحسب دينه: فمن قتل قتل، ومن أفقر أفقر، ومن سلب سلب، ومن أمرض أمرض، ومن خدع خدع. ولو علموا أيضا بأن الإمهال من البارئ تعالى للمذنب، تدريج له، وحجة عليه، لسارعوا إلى الإقلاع عن الذنوب، وزهدوا من الدنيا فى كل محبوب، وكان الخير الحق هو عندهم المطلوب.

فإن لم تكن، أيها الحبيب، ممن قد نصب فهمه لهذه الأقاويل، ووهبت له السعادة، فاقبل وصايا الجليل بقراط، فإنه قال: إنه لا ينبغى لك أن تخدع بجزع امرأة تراها مكروبة، فزعة من حملها، فترحمها، وتعطيها دواءً يسقط جنينها. فإنها لم تفزع من الله تعالى. ولا وجه لقتل الجنين، بل يجب تربيته، ولتربيته أجر عظيم. فأما أمه الرديئة، فلا تستعمل معها الرحمة، فإن فضيحتها سبب لصلاح غيرها من النساء. فاحذر أن تعطى مثل ذلك 〈الدواء〉، اللهم إلا أن ترى أنت إعطاء ذلك، خشية على الحامل، أو على الجنين من التلف! ولا فرق بين أن تعطى الدواء، أو تشتريه. ويجب عليك أن تبدأ، قبل تعرضك لعلاج الطب، بقراءة كتاب بقراط فى عهوده، لتفهم وصاياه، وتلزمك عهوده، وتدخل تحت أيمانه التى حلف بها، واستحلف المنتحلين لصناعة الطب أيضا، ليلزمهم بذلك جميع شروطها.

وأنا أحكى لك فصلا من ذلك الكتاب، وتفسير جالينوس له، لتستدل به على غرضه، وعلى كثير مما قصدنا له فى هذا الباب. قال بقراط: وأقصد فى جميع التدابير بقدر طاقتى منفعة المرضى.

فأما الأشياء التى تضرهم، وتدنى منهم، بالجور عليهم، فامتنع عليهم، بحسب رأيى. قال جالينوس: إن بقراط يحلفنا كيف نستعمل صناعة الطب، طلبا لمنفعة المرضى. وذلك أن الطب فقط يمكن فيه بتلك الأشياء بأعيانها التى ينتفع بها، أن تضر. فيجب إذا على من كان من شأنه أن يكون طبيبا فاضلا، أن يكون إنما تصرفه فيما ينتفع به المرضى. وما أحسن قوله فى استثنائه فى قوله «بقدر طاقتى»! وذلك أن كثيرا من الناس تجدهم يضرون بالمرضى ولا ينفعونهم كثير منفعة، بغير إرادة. فأما الذين يمكنهم أن ينفعوا المريض، ولا يفعلون ذلك، فقوم سوء أشرار، وذلك أن الفكر منهم ردئ، لا صناعتهم! وهم الذين يجترئون على تجاوز هذه الأيمان. وأما بقراط، فبحسب رأيه يضمن أن يمتنع من جميع الأشياء التى تضر، ويعطى جميع الأشياء التى تنفع. وقد أحسن بقراط فى استثنائه وقوله «بحسب رأيى». وذلك أن 〈ما〉 امتحن فى جميع الأشياء، إنما هو الرأى، وهو الذى منه يظن بالإنسان أنه خير أو شرير. ترى من ذلك إنا نجد كثيرا خلقا فعلوا فعلا رديئا، ولم يجاوزوا على ذلك، عندما احتج عليهم. فإن ما كان منهم 〈حدث〉 بغير إرادة، ولا معرفة. وكثير من الناس فكروا فى فعل الشر، فلم يفعلوه، فنزل بهم الحكم.

ثم قال: إن من أمكنه أن يمنع الأشياء التى تضر، ولم يحب أن يفعل، فهو الإنسان الشرير، المجاوز العهد. وأما الذى يحب أن يفعل الخير، غير أنه لا يمكنه فعله، فليس هو سببا للبلية، لأنه لم يمكنه صرفها.

وينبغى لك أن تستوصى بوصية بقراط التى وصى بها نفسه، فإنه قال: لا أشق أيضا عن من فى مثانته حجارة، بل أترك ذلك لمن كانت صنعته هذا العمل. وليس ينبغى لك أن تفعل ذلك فى الشق عن الحجارة فقط، لكن 〈أيضا〉 فى أمثاله، كقدح العين، وبزل الماء، ونظائرهما من أعمال اليد التى لها قوم قد تفردوا بها، لئلا تدخل نفسك فيما ليس من عملك، فتهلك المرضى، وتهلك!

ولا ينبغى للطبيب أن يعالج مريضا، لم يتحقق عنده مرضه، لئلا يوقعه فى مرض آخر، ولعله أن يكون أعظم من الأول، فيحتاج أن يعالج من العلاج. ولا ينبغى للطبيب أن يسقى دواء مسهلا، إلا بعد حذر وتوق، فإن وجب عنده إعطاؤه، فيجب أن يستجيده، ويقوم على إصلاحه، ويختار له الزمان والوقت 〈المناسبين〉، فإن الصيف والشتاء يكرهان للاستفراغ، وخاصة وسطيهما، وكذلك وسطى النهار والليل.

ولا ينفع الطبيب مدح الأشرار، وأهل الخداع، له. فلذلك لا ينبغى له أن يسر بذلك، لأنهم مخادعوه بحمدهم، ومحتالون لاستعباده، واستقراض رحله؟؟ بشكرهم. ولا ينبغى للطبيب أن يحفل بذم ذام له

على صواب أتاه، ولا ينتهى عن الصواب، ولو ناله مكروه. ولا يلتفت إلى قول يسمعه من المريض لا يرضيه، فإن كثيرا من الأمراض يفسد التخيل والتمييز. بل ينبغى له أن يعمل ما يجب، ويتبع فى ذلك قول بقراط حين قال: إذا فعلت ما ينبغى، وكم يكن ما ينبغى، فأنت عن فعل ما ينبغى لا تقلع مادام الأمر كذلك.

ولنكتف بما قلناه فى هذا الباب من هذه الجمل والتذاكير مع ما تقدم، ولنتبع ذلك بما جانسه من الوصايا التى تلزم الطبيب أن يتقدم بها إلى خدم المريض.

الباب الرابع فيما يجب على الطبيب أن يوصى به خدم المريض

وإذا كانت الضرورة تدعو فى معالجة المرضى إلى من يخدمهم، لعجزهم عن خدمة نفوسهم، ولأن الطبيب لا يمكنه خدمتهم على الكمال، فقد يجب أن يكون لهم من يقوم لهم بمصالحهم الموافقة لعلاج الطبيب، وتدبيره للمريض. ولأن خادم المريض لا يمكنه علم ذلك، إلا من الطبيب، فلذلك يجب على الطبيب أن يتقدم إلى الخادم بما يحتاج إليه وقتا بوقت. ويجب أيضا على الطبيب أن يفتقد على الخادم حسن طاعته له، وهل يفى فى عقله وبطشه بالقيام بما يؤمر به. فإنه ليس كل عاقل يصلح لكل عمل، ولا كل من يخبر أعمال المريض يصلح لخدمته. وذلك أن الخادم يحتاج أن يكون عاقلا، أديبا، شفقا، له دربة وبطش بالأعمال الموافقة للمريض. ويحتاج أن يكون له هيبة على المريض. ومتى لم تكن هذه أوصافه، دخل الضرر على المريض فى نفسه، وعلى الطبيب فى صناعته من المرضى.

وأما ما يدخل من الضرر من جهة رداءة الأمانة والدين، فهو عظيم أيضا، لأن القليل الأمانة من الخدم، قد يدعوه شرهه ورغبته إلى إهلاك المريض، إما بما يبذله له المريض نفسه ليبلغ شهوته، أو بما يبذله له أعداؤه. وكذلك أيضا متى لم يكن الخادم للمريض شفقا عليه، لم يؤمن منه التهاون بخدمته. وبغير شك أن من لم يكن له دربة بالأعمال التى يحتاج إليها المريض، كان من ذلك عليه أعظم ضرر. كالذى رأيته من جهل خادم تولى إصلاح ماء الشعير لمريض كنت أشرت عليه بأخذه. وكان المريض من أهل الأدب، فوثقت بعقله ودربته. فأمر خادمه بإصلاح ماء الشعير، وأخذ منه ما أخذه. فلما كان بعد أربع ساعات، أتانى رسوله مذعورا، فوافيته، وهو فى كرب. فسألته عن السبب فى ذلك، فقال: لم آخذ غير ماء الشعير. فحدست على أن البلية جاءت من إصلاحه، فقلت: إن كان تبقى منه شئ، فهاتموه! فجاؤونى منه بشئ جامد أبيض، يشبه النشا المطبوخ إذا برد. فسألته: كم شربت من هذا؟ فقال: رطلين بالبغدادى. فبادرت وقذفته، فرمى به، وقد بدأ يفسد، ففرج عنه. وكانت الخيانة الأولى منه جهل خادمه بصنعته، والثانية كثرة ما أخذ منه.

ولأن من المرضى من لا يمكنهم تعريف ما يجدونه، إما لأجل المرض فى نفسه، كأصحاب

السكتة، والبرسام ونظائرهم، أو لأن المريض طفل لا يعقل، أو أعجمى، أو أخرس، أو أمثال هذه الموانع، فلذلك يحتاج الطبيب إلى معرفة حالات هؤلاء ممن يخدمهم، ولا يتم ذلك لخدمهم، إلا بما يوصيهم، وينبههم عليه الطبيب من تفقد الحالات، والعلامات التى يحتاج إليها. ومتى لم يمكن الطبيب أن يتولى إصلاح دواء المريض، أو يصلح بحضرته، فيجب عليه أن يوصى المتولى لخدمته، بعد علمه بفهمه، كيف يصلح دواءه، وغذاءه، ومقدار كل واحد منهما، وزمانه، وغير ذلك من سائر تدابيره.

ولأن منزل المريض ربما كان غير موافق له، لمجاورته بما يؤذيه، من روائح، أو أصوات، أو غير ذلك من المضرات به، فيجب على الطبيب أن يأمر بنقله من ذلك المنزل إلى الأوفق له. ويجب أن يحذر المواضع التى تحتقن فيها الأهوية والبخارات الرديئة، كسفل الدور التى لا تخترقها الرياح، ولا ينقى هواؤها، فإن ذلك مفسد جداً. وليختر له من البيوت الرياح الموافقة له، ويأمر أيضا بإصلاح هوائه المحيط به بما يوافقه من البخور، والزهور، والرياحين، بحسب ما يوجبه مرضه، والوقت.

〈و〉مع جميع ذلك يجب ألا يترك حول المريض، ولا بقربه، 〈أحد〉 متى ما يبرز من جسمه، كبراز، أو نفث، وخاصة ما له رائحة كريهة. فإن ذلك يضر به فى مرضه، ويمرض خدمه. ويجب على خادم المريض ألا يخبره بما يغمه، ولا بما يحزنه، ولا يسمعه ولا يريه ما يكرهه. وبالجملة، فإن جميع ما يعمل مع المريض مما لا يوافق عمل الطبيب، فهو يفسد عليه علاجه، فيجب أن يحذر من ذلك، كما حذر منه، وتقدم بالقول فيه الجليل بقراط فى الفصل المقدم ذكره، وهو قوله: وقد ينبغى لك ألا تقتصر على توخى فعل ما ينبغى، دون أن يكون المريض ومن يحضره كذلك والأشياء التى من خارج. فقد جمع هذا الفصل جمل ما بسطناه وما لعله قد تبقى مما لم نذكره، فتدبره، وقس بجميع ما شرحناه ما لم نشرحه، لتصل بذلك إلى الغرض، بعون الله تعالى!

الباب الخامس فى آداب عواد المريض

ولأن حالات المرضى مختلفة، حسب الأمراض — وذلك أن من الأمراض ما يذهب معها تمييز المرضى، كالوسواس، والسكتة، وما جانسهما — فلذلك ينبغى ألا يعاد هؤلاء، بل يسأل عن حالاتهم فقط. ومن الأمراض أمراض تقلق المريض، ولا يمكنه معها كلام الناس، لاستحيائها له إلى ما تدفعه الطبيعة بتواتر أو بتغير روائح. فلذلك يجب ألا يعاد هؤلاء أيضا، لئلا يلحقهم المكروه والأذى، بصبرهم على ما يحركهم على الخروج من براز، وقذف، وغير ذلك. ولمثل ذلك لا ينبغى أن يعاد من سقى دواء مسهلا، ولا من عرض له إسهال المرضى فى يوم شربه للدواء.

ومن الأمراض أمراض حادة، سريعة التنقل، والتغيير، تحتاج إلى مبادرة فى التدابير من الطبيب، ومن خدم المريض. فيجب أن يتقدم الطبيب أيضا إلى أهل المريض، ألا يدعوا عائدا، ولا أحدا يدخل إليه، إلا ممن يخدمه فقط، ليوفر من خدمه على خدمته، ولا يشغل زمان التدبير بما لا ينفع المريض. ومن الأمراض أيضا ما يبعث المريض على ما لا يريده، وأيضا على أفعال لا تصلح، كالذى يعرض لكثير من أصحاب السوداء ومن حدث بهم ضروب من المالنخوليا، فلا وجه لعيادة هؤلاء. وكم عائد قد خرقت ثيابه، فضلا عن الشتيمة!

وإذا كان أمثال هؤلاء المرضى لا يجب أن يعادوا، فإذا يحتاج العائد لما سوى هؤلاء من المرضى أن يعلم، إذا عاد مريضا، كيف ينبغى أن تكون عيادته. فأول ذلك أنه يجب أن لا يطيل عند المريض الجلوس، ولا يدخل إليه، إلا بثوب نقى، ورائحة طيبة، لتقوى بذلك نفسه، وتحركه، وتسوقه إلى التشبه به. ولا ينبغى لأهل الصنائع الرديئة أن يعودوا المرضى، لئلا يضروهم بروائحهم، ويفسدوا عليهم الهواء، كبائع الكبريت والقطران، والدباغ، والقصاب، وغيرهم، ولا ممن تعلق بهم الروائح الرديئة. فالأنفع للمريض ألا يعودوه هؤلاء، وأمثالهم.

وقال جالينوس فى تفسيره لقول ابقراط فى أبيديميا: وما ينظر إليه — يعنى ما ينظر إليه المرضى — إنه ينبغى أن يطيل اللبث عند المريض من عواده، أصدقهم إليه، وأقربهم إلى قلبه. فأما

غيرهم، فالتدبير فيهم أحد الأمرين: إما أن لا يدخلوا إليه أصلا، أو أن لا يراهم طويلا. وينبغى للطبيب، إذا دخل إلى المريض من يستثقله، أن يلبث قليلا، ثم يقول: إنه ينبغى للمريض أن يهدأ، ليقوم من عنده. فإن ذلك يحدث فى فكره لذة، وفى حس بصره قد يلتذ برؤية أشياء، دون أشياء، من ألوان، وأشكال، وزهر النبات، وأصناف النبات، والصناعات، والصور، مما لا يلتذ برؤيتها، أو يكرهها غيره. فقد ينبغى للطبيب أن يسأل أهل بيت المريض عن الأشياء التى كان يلتذها، فيأمر بإدخالها عليه إلى البيت الذى فيه المريض، ولا يخبره بما يغمه، من خبر تجارة خسرت، له فيها سبب، ولا يذكر بحضرته ذكر ميت، ولا خبرا رديئا لمريض آخر.

ولا ينبغى للعائد أن يستخبر عن مرضه استخبار متقص، فإن ذلك لا ينفع المريض من العائد، إلا أن يكون طبيبا. ولا ينبغى له أيضا أن يشير عليه بدواء، ولا بغذاء قد كان نفعه، أو سمع بأنه نافع، فإن ذلك ربما حمل المريض لجهله، أو لشدة ما به، أن يستعمله، فيضر به، ويفسد على الطبيب عمله، وربما كان ذلك سببا لهلاك المريض. ولا ينبغى للعائد أن يعارض الطبيب بحضرة المريض، متى لم يكن من أهل العلم، فيوقع له الشك فيما وصفه الطبيب، كالذى رأيته من بعض المشائخ، وذوى النبل عند نفوسهم، وقد حضر عند مريض كنت أدبره، فبدأ يسائل المريض عن حالاته، وحال دوائه، وغذائه، فى أمس يومه الذى كنا فيه. ثم حضرت قارورته، فتكلم، وأنا فى جميع ذلك ساكت، ليحس بسوء أدبه. فما انتبه لذلك، بل وصف دواء. فلما فرغ من صفته، قمت منصرفا. فقال لى المريض: تقوم وما وصفت لى شيئا، ولا سمعت منك يومى هذا كلمة! قلت: صدقت، وكذلك يجب. قال: ولم؟ قلت: أولا: فلان هذا الشيخ قد ناب عنى، وما بقى لى شئ أقوله، والثانية لأنك قد قنعت بذلك، وأصغيت إليه، فلا وجه لكلامى! فأما الشيخ، فإنه خجل، وما عاد إلى مثل ذلك. وكذلك المريض اعتذر، فتأدبا جميعا بذلك، وجميع من كان بالحضرة، ومن سمع أيضا. وإنما أحضرت ذلك هاهنا، لينتبه به، ويتأدب، من لم يكن يعلم ذلك. فلنكتف بما ذكرنا فى هذا الباب.

الباب السادس فيما ينبغى للطبيب أن ينظر فيه من أمر الأدوية المفردة والمركبة وفسادها

ولأن الأدوية أعظم الأسباب فى شفاء الأمراض، فلذلك يلزم الطبيب العناية بمعرفتها أولا، ثم الجيد منها والردئ. والأدوية على ضربين: منها مفردة، ومنها مركبة، فلذلك تكون الأسباب الجالبة الفساد على الأدوية المركبة، هى أكثر من الأسباب التى منها يدخل الفساد على الأدوية المفردة، وذلك من جهة أنحاء الخطأ فى التركيب، وقلة الحذق بصنعة التأليف، والتركيب، والمزج، والخلط. فاصغ لما أذكره، أيها الطبيب، فإنك مضطر إلى علمه!

فأول ما يجب أن يعلمه الطبيب، ويعنى بالخدمة فيه، أمر الأدوية المفردة، ولا يتم له 〈ذلك〉، ولا يصح، بقراءته وتعرفه ذلك من كتب، لكن بخدمته للأستاذين من أصحاب الأدوية، وحافظيها، وخزنتها. والأدوية المفردة، على كثرة أصنافها، يدخل عليها الفساد من وجهين: أحدهما فيما يخص جواهرها، والآخر فيما يخص أعراضها.

فأما الفساد الداخل على جواهرها، فهو 〈يحدث من جهة〉 اجتنائها 〈المبكر〉، وما قطع من الحشائش، والأشجار، واستخرج من البزور، وقلع من الأصول، والصموغ، وأشباه ذلك، قبل كماله الطبيعى. وما أخذ كذلك من الثمار، 〈و〉كان فجا، ومن البزور، 〈و〉كان كثير الرطوبة، ضعيفا. فلذلك يجب أن لا يختزن منها شئ، أو تحكمه الطبيعة، وتتمم نضجه. وما قلناه من ذلك، هو بين، لمن تأمل الفواكه، والحبوب، والبقول، فإن الناس دائما ينتظرون بها البلوغ إلى كمال نضجها، لقلة الانتفاع بها قبل النضج. فعلى الطبيب أن يعرف أزمنة ذلك. وكذلك أيضا يجب ألا يدع الأدوية بعد نضجها، إلى أن تأخذ فى الفساد، فيجرى أمرهامجرى ما نضج من الثمار، فلم يقطف، فتعمل 〈فيه〉 الحرارة الفاضلة فسادا. فهذا هو الفساد الداخل على جواهر الأدوية، وأمثالها.

فأما الأعراض التى تلحقها بعد ذلك، فهى من جهة خزانها، وقلة علمهم بذلك، أو تهاونهم بحفظها. وذلك كالذى يعرض لها من العفن، إذا خزنت ندية، فكبس بعضها بعضا. وكذلك يعرض لها من المواضع التى تخزن فيها، إذا كانت المواضع ندية، كسفل الدور، وخاصة إذا لم تكن الأهوية تخترقها، والشمس تطلع عليها. فلذلك يجب أن تجفف أولا فى الظل، لأن الشمس تضعف قواها. والدليل على ذلك نقصان ألوانها، وروائحها. وبعد جفافها، تخزن فى المواضع المعتدلة الأهوية. وكذلك ينبغى أن

تحفظ الأدوية الأرضية، كالأطيان، والأحجار، والأملاح، والزاجات والعصارات. فإن المواضع الندية تحل هذه، وتفسدها، كما قلنا قبل.

ويجب أيضا على الطبيب أن يحذر من الأدوية ما عتق، وطال مكثه، لأن قوى هذه تضعف، وأفعالها تنقص، وكثير منها يفسد، فيفعل الفساد لهرمها. ومنها ما يسرع إليه الفساد لما فيه من الدهنية، ولذلك يزنخ، ويتغير باليسير من النداء، كبزر الخشخاش، وبزر الكتان، والفجل، وأشباه هذه.

ويجب أن يحذر 〈الطبيب〉 خزن دوائين، أو أكثر، فى إناء واحد، لأن أحدهما يغير الآخر، والأقوى يفسد الأضعف، ويدل على ذلك اكتساب أحدهما من الآخر روائحه، وطعمه. ولذلك لا ينبغى أن يجعل دواء فى إناء قد كان فيه آخر، إلا بعد نقائه من الأول. فهذه الأشياء، وأشباهها، تفسد الأدوية، بتقصير خزانها، وتوانيهم، فتفسد، بغير قصد منهم لفسادها. فيكون الضرر الداخل على المريض فى علاجه، وعلى الطبيب فى عمله، عظيما، لا يستهان به. فلذلك يجب على الطبيب أن يتيقظ لذلك، ولا يعول، إذا وصف دواء، على أن يأخذه من الصيدنانى من اتفق ممن يخدم المريض، بل يجب على الطبيب أن ينظر إليه قبل استعماله.

وأما ما يجرى من فساد الأدوية بتعمد وقصد، فهو أعظم ضررا مما يجرى بغير قصد. وذلك أن من الصيادنة القليلى الأمانة ممن يخلط بالدواء العزيز المثمن دواء يشبهه قليل الثمن، كالذين يغشون الأفيون بدقيق الشعير وعصارة الخس، والمحمودة بالعنزروت، والزنجار بالملح،

والكافور بالرخام، وبالأرز، وأشباه ذلك كثير.

ومنهم من يستحل أن يعطى بدل الدواء، دواء يشبهه فى المنظر، وإن ضاده فى الفعل، فيقتلون المرضى، كالذى أعطى من دق ورق الدفلى الإنسان الذى طلب منه شيئا، فقتل مريضه. وللدهاة، القليلى الدين منهم، حيل فى عمل أدوية تشبه أدوية، بضروب من الحيل، والتركيب، لا أحصيها، ولا يصلح ذكر ما نعرفه منها، لئلا يتعلمه الأشرار.

ولقد جاءنى بعضهم بطباشير، عرضه على، وقد كان باع منه لجماعة من الصيادنة، فتأملته، وشككت فيه. فلما ذقته، وجدته معمولا من الشب، وعرفت بالحيلة فيه. فتكلمت به، ومنعته من بيعه، وأنذرت من اشتراه بالفضة. ومن هذا النوع من يعمل القرنفل، والزعفران، والمسك، وأشباه هذه من أصناف العطر. فإذا استعمله الطبيب على سبيل الدواء، دخل على المريض منه الضرر ما لا يدخل مثله من جهة العطر.

ولذلك لا ينبغى لطبيب لم يكن خدم فى الصيدنة، بين يدى حذاقهم، ومشائخهم، أن يتولى شراء دواء من صيدلانى، أو عطار، ولا يعالج به مريضا. فكم من صيدنانى قد طمع فى أطباء، فدفع إليهم بدل دواء دواءً آخر، ولم يعلم ذلك الطبيب. كما رأيت منهم من دفع إلى طبيب بدل كمون كرمانى بزر خس، وحب البان بدل الفلفل الأبيض، فلم يعلم الطبيب بذلك، وبينهما تضاد عظيم فى القوة والفعل! وكذلك رأيت من أعطى ميويزج بدل قطر أساليون. وأما إعطاؤهم العصارات، والصموغ، بعضها بدل بعض، فكثير لا يحصى، لما بينها من التشابه. فكم من

مريض قد هلك فيما بين عمى الطبيب، وقلة دين الصيدلانى. فهذا وأمثاله يجرى فى أمر الأدوية المفردة. فيجب على الطبيب الاحتراز من أنواع فسادها.

وأما فساد الأدوية المركبة، فأكثر وأعظم، لأن أصناف تراكيب الأدوية كثيرة جداً، ولكل نوع من التركيب غرض قصد نحوه، وبه يقع النفع. فإن تغير عن صورته، ونوعه، بقصد، أو باتفاق، دخل الضرر منه، بحسب خروجه عن الغرض. من ذلك أن ما عمل من الحبوب المسهلة معجونا، بعسل أو بغيره من الحلاوة، فقد أفسد، وصار يضر ضررا عظيما، لأن الحبوب ركبت حبوبا معجونة بمياه فقط، ليمكن جفافها، وعملت حبا لتبقى فى المعدة، فتجذب إليها بقواها الأخلاط، ولا تنفذ، وهى حادة، إلى الأعضاء، فتهتكها، ولهذه العلة لم يخلط بها شئ من الحلاوة، لأن الأعضاء، لميلها، واستلذاذها للحلاوة، تجذبها إليها، فتجذب معها الأدوية الحادة التى تقع فى هذه الحبوب. وهذه الحبوب هى حب الأسطمحيقون وحب القوقايا وحب المقاصل، وما جانس هذه مما يقع فيه المحمودة، وشحم الحنظل، والسيرم، وما سوى هذه من الأدوية المسهلة الحادة.

〈و〉من التغيير لصور أدوية مركبة أيضا الداخل منه الضرر العظيم، ما عمل من الحبوب المسهلة الحادة حبا صغارا، كصغار الفلفل، لينحل بسهولة، وتنقى منه المعدة والأحشاء بسرعة. فإن جهل الطبيب علم هذه العلة، فعمله حبا كبارا، طال مكثه، ولم ينحل بسرعة، وحل فوق مقدار الحاجة، وربما أفسد بحدته الأعضاء التى يطول مكثه فيها.

وبضد ذلك ما عمل من الحبوب التى أمر الأطباء يعملها كبارا كالحمص، ليطول مكثها، ولتبقى، فتصل قواها إلى الدماغ الذى قصد لتنقيته بها. وهذه هى حب الشييار، وحب الدهب، والأيارج. فإن الذى لا يعلم لم عملت كذلك، متى عملها صغارا، لم تبلغ له ما أراده، وقصرت عن عملها. وكذلك مجرى الأمر فيما عمل من الأدوية ناعما، وقد أمر الأطباء بعمله جريشا من السفوفات والجوارشنات.

فإن جالينوس يذكر أنه أشار على إنسان يشكو وجعا ما يجوارشن الكمون، فعاد إليه وذكر أنه قد عمله هو لنفسه على النسخة التى رسمها له جالينوس، وأنه زاده وجعا. قال جالينوس: فوجدت الفساد من جهة إصلاح الدواء فى دقه، لأنه جعل دقه ناعما، ثم عجنه. فأمرته أن يعيد عمل النسخة بعينها، وينخلها بمنخل واسع، لينحدر جريشها، ثم يعجنه، ويأخذ منه ما رسمته له. فلما فعل ذلك، ووجد نفعه، جاءنى، فعجب من ذلك. فأخبرته بالسبب، وأنه من جهة الإصلاح، والتركيب. فهذا وأمثاله من تغير صور الأدوية المركبة كلها يجرى هذا المجرى من الفساد.

وأما الضرر 〈الحادث〉 من جهة مواد الأدوية المركبة، فهو ما أقول. أقول: إن الفساد الداخل على الأدوية المركبة من جهة موادها، أعنى الأدوية المفردة التى عنها يكون التركيب، يدخل عليها من عدة أوجه: أحدها أن تبدل الأدوية، وتغير جواهرها، كالذى رأيناه من قوم يجعلون فى الطريفل بدل الهليلج الكابلى، أصفر، لرخصه، وبين جوهريهما، وفعليهما، فرق عظيم! وأعظم من ذلك من لم يقنع بالأصفر، حتى جعل بدل الأصفر قشور رمان. وحسبك بهذا شرا وفسادا!

والوجه الثانى من الفساد هو إسقاط دواء، أو أكثر من دواء، من الدواء المركب، لغلائه، أو لقلة وجوده. ولعل ذلك الدواء الذى أسقطه، بشره، وجهله، هو عمدة الدواء، وهو لا يعلم. والوجه الثالث هو الزيادة فى الدواء ما لم يذكر فيه، ظنا من المركب له أنه يزيده نفعا بذلك، أو قصدا للزيادة فى كميته. وإن قصد أيضا أن يبدل الأدوية، ويزيد أدوية، وينقص أخر، كان 〈ذلك〉 أعظم للآفة، وأقوى للفساد. والوجه الرابع من الفساد هو الداخل من جهة كمية الأدوية المفردة فى الوزن، وذلك كالأيارج الفيقرا مثلا، فإن كمية أدويته من جهة عددها تسعة، ومن جهة وزن كل دواء من هذه التسعة، هو أن تكون ثمانية منها بالسواء فى الوزن، والصبر بوزن الثمانية الأدوية الباقية. فيكون للدواء المركب صنفان من الكمية، متى خرجا عن مقاديرهما، فسد الدواء.

وللدواء المركب أيضا من جهة الزمان نوع آخر من الكمية، يلزم للطبيب النظر فيه، وهو مدته وزمانه. فإن من الأدوية المركبة ما لا يصلح استعمالها، دون بلوغها ونضجها، وذلك كالأفلونية مثلا، فإن القدماء، وخاصة افلن مركبها، يأمرون بتركها ستة أشهر، ودفنها فى

الشعير، على ما ذكر قوم، ثم حينئذ تستعمل. ومنها ما له زمان، تكون قوته فيه مبقاة عليه، فإن جاوز ذلك الزمان، ضعف فعله، وقصر عمله، وكان كالشيخ، وإن افرط فى البعد عن ذلك الزمان، ماتت قوته، وبطلت. وذلك كالدرواق، فإنه إن جاوز ثلاثين سنة، ضعف فعله، وكلما بعد عنها، كان أضعف لفعله، إلى أن يعطل.

وكذلك يجب أن ينظر الطبيب فى الفروق بين التراكيب. فإن عجن من الأدوية بالعسل، كانت مدته، وعمره أطول، لأن العسل يحفظ قوى الأدوية، ويعين الأدوية بإيصاله لها، وإنضاجه، وجلائه، مما لا يوجد فى أدوية أخر من الأدوية الحافظة. وهذه الحافظة هى العسل، والخل، والملح، والثلج أيضا يحفظ ما يجعل فيه. فأما ما عجن من الأدوية بالمياه، كالحبوب، والأقراص، فإن أعمارها قصيرة، لأن قواها، وأفعالها، تضعف سريعا. فلذلك يجب أن يفتقد الطبيب أمثال هذه الأشياء عند النظر فى أمر الأدوية.

ومع ما ينظر فى أمر الأدوية، وجواهرها، وكمياتها، وكيفياتها، وأزمانها، كما قدمنا، فعليه أن ينظر أيضا إلى من هى منسوبة فى عملها. فإن من صناع الأدوية من هو مشهور بالثقة والأمانة. وأعظم نظرا للطبيب بعد جميع ما قدمنا ذكره من أمر الأدوية المفردة، والمركبة، هو بحثه عن أفعال الأدوية. فإن أفعال الدواء الواحد قد تكون كثيرة، وذلك بحسب ما قد اجتمع فيه من القوى، وذلك كالصبر مثلا الذى يفعل الإنضاج، والجلى، والتقوية، والإسهال، وذلك بما فيه من القوى التى بها يفعل كل واحد من هذه الأفعال.

وإذا كان الدواء المفرد له أفعال كثيرة، لما جعلت الطبيعة فيه من القوى، بحسب ما له من جهة مزاجه، فأحرى وأجدر أن تكون أفعال الأدوية المركبة أكثر كثيرا، لما قد اجتمع فيها من الأدوية المفردة ذوات القوى الكثيرة. وبغير الشك أن الدواء المركب، إنما سمى مركبا، لفعلنا فيه التركيب بالصنعة من الأدوية المفردة التى لم يكن لنا نحن فيها تركيب، فليس يشك فى أن الأدوية المفردة مركبة أيضا، ولكن تركيبها هو من فعل الطبيعة.

ومع نظر الطبيب من أمر الأدوية، وأمر باعتها، وخزانها، ما قدمناه، فإن على الطبيب أن يحذر الصيدنانى من إعطاء النساء أدوية لتسقط الأجنة، وتدر الحيض، مهما لم يأمره الطبيب بذلك. وينبغى للصيدنانى أن يحذر إعطاء السمائم لأحد غير الطبيب الثقة أيضا، كالذراريح

والأفيون والافربيون والسقمونيا ولين السبرم وما شاكل هذه. وفيما ذكرناه فى هذا الباب كفاية لمن اهتدى، وقصد العدل.

الباب السابع فيما ينبغى للطبيب أن يسأل عنه المريض وغيره ممن يتولى خدمته

وينبغى للطبيب أن يكون ماهرا بالعلامات، والأدلة، التى بها يستدل على حالات الأصحاء. 〈و〉إذا كان قد تقدم بعلم علامات الصحة، فهو عليه أسهل من استدلاله على حالات كثيرة من المرضى، إذ كان كثير من المرضى، يحول بينهم وبين إخبار الطبيب بما يجدونه، أصناف من الموانع. غير أن هذه الموانع، وإن كثرت، تنضم إلى جنسين: أحدهما جهل المريض بما يسأله عنه الطبيب، والآخر ما يعوقه عن الجواب.

ولأن من العلامات ما هى مدركة حسا، ومنها معلومة استدلالا، وكان الاستدلال خاصا بالطبيب، ومعرفة ما يدركه الحس من علامات الأمراض، وأعراضها، مشتركا عاما للطبيب والمريض — وكان الطبيب مضطرا إلى بعض هذه الأسباب، والأعراض، فى تعرفه الأمراض من المريض، أو من خدمه — وجب لذلك أن يكون الطبيب قد تقدم، فعلم أجناس العلامات، والأسباب، والأعراض، وبالجملة أجناس سائر حالات الأبدان، وأنواعها، وفصولها، ليعلم بكل واحدة من حواسه، ما لتلك الحاسة من هذه الأمور، ولا يسأل المريض عما هو بين، ظاهر لحسه، لأن ذلك من الطبيب عجز وجهل. وليستعمل مل يخصه من طرق الاستدلال، والقياس، فيعلم بذلك ما لا يمكنه علمه من جهة المريض. وأما ما لم يكن للحواس ظاهرا ولا بينا، والحاجة إليه ماسة فى أعمال الطب، فالضرورة تدعو الطبيب إلى تعرفه بمساءلة المريض عنه، أو من يخدم المريض.

ومثال ذلك أن طبيبا دخل إلى المريض، فوجده يسعل، ونفسه عليه ضيقا، وجس شريانه، فدل على أنه محموم. وقد كان معلوما عند الطبيب أن العلامات الخاصة بمرض ذات الجنب هى أربع، هذه الثلاث التى وجدها بهذا المريض، والرابعة هى نخس يجده المريض فى جنبه. ولأن النخس ليس يظهر للحس، ولا يجوز له أن يقطع على وجوده من جهة العلامات الثلاث المقدمة ذكرها — إذ كان هذا عرضا قد يعرض لغير ذات الجنب — فلذلك وجب ضرورة أن يسأل الطبيب ذلك المريض، هل يجد نخسا أم لا. فإن اجتمع وجود نخس الجنب، مع السعال، وضيق

النفس، والحمى، فقد صح أن المرض ذات الجنب. فحينئذ ينبغى للطبيب أن يأخذ فى البحث عن السبب المحدث لهذا المرض، ليصح له أى شئ من أنواع ذات الجنب هو. وبعد ذلك يأخذ فى علاجه. وهذا المسلك ينبغى للطبيب أن يسلك فى تعرف سائر حالات الأبدان، ليثق الأصحاء، والمرضى، بتدبيره، ويستسلموا فى يديه.

وما ذكرناه، وإن كان بينا، فإن قول الجليل بقراط يزيده بيانا. قال بقراط: إنى أرى أنه من أفضل الأمور أن يستعمل سابق النظر. فقوله: «سابق النظر» يدخل تحت تقدمة المعرفة بجميع ما يحتاج إليه الطبيب فى أعمال الطب، وبتقدمة معرفته بذلك، يتبين فضله، وحذاقته. ولأن تقدمة المعرفة تعم ثلاثة أصول، وهى معرفة ما تقدم، ومعرفة ما هو حاضر، ومعرفة ما هو كائن، فلذلك قال بقراط أيضا فى المقالة الأولى من كتابه الذى عنونه بأبيديميا هذا القول، قال: وينبغى أن يخبر بما تقدم، ويعلم ما هو حاضر، وينذر بما هو كائن. قال: وينبغى أن يدرس هذه الأشياء! كما سنبين ذلك فى الباب الذى نصف فيه محنة الطبيب.

وبعد ما قدمته مما لابد للطبيب من علمه فى استخراج علم الحالات، فإنى أتبع ذلك بتعريف الطبيب المداخل، والمبدأ الذى منه ينبغى أن يبدأ فى تعرف الحالات. وأجمل الكلام فى تعرف حالات المرضى ليكون أبين، وأنفع، فأقول: إن بعد معرفة الظاهر من العلامات، والأعراض، للحواس، ينبغى للطبيب أن يجعل له مبدأ ثانيا، وهو ما يتشكاه المريض، أو ما يذكره من يخدمه من شكاويه، وأوجاعه، أو يتخد ذلك أصلا للمساءلة. ومتى لم يفعل ذلك، بقى مدهوشا، متحيرا، لأنه لا يدرى عما يسأل عنه.

ومثال ذلك طبيب رأى مريضا به إسهال قوى، ولم يكن عنده علم بأسباب الإسهال. فإن منه ما ينبغى أن يقطع، ومنه ما لا ينبغى أن يقطع، بل منه ما يجب معاونة الطبع على دفعه. فبغير شك أن ذلك الطبيب يبقى حائرا دهشا. فأما إن كان حاذقا، فسينظر إلى لون البراز، وقوامه، وما يجده من روائحه. فإن وجده مثلا أصفر، استدل بأن صفراء قد اندفعت مع البراز، فيحضر خاطره أسباب اندفاع الصفراء، ويسمع من المريض، أو من خدمه ما يقولونه من شكاوى المريض. فإن وجدهم يذكرون أن كان به حمى غب، وكان المريض فى صيف، وسنه سن الشباب، وبحرانه قد أزف، علم من جميع ذلك أن الإسهال هو لأن مرضه قد تبحرن، وأنه لا ينبغى أن يقطع. وإن وجدهم يذكرون أسبابا للإسهال غير تلك، فيقولون مثلا أن الذى أحدث الإسهال أكل أشياء حارة حريفة، أو إدمان شرب شراب صرف، أو ما شابه ذلك، تعلق بما سمعه منهم، مع ما وجده من لون البراز، وغيره، وجعل جميع

ذلك مبدأ يبحث منه عن السبب. فما بان لحسه، لم يسأل عنه، وما لم يبن لحواسه، سأل عنه، بعد أن يستعمل الاستدلال. فإن سأل المريض: هل هذا الإسهال لبحران مثلا، ضحك منه، وهزئ به.

فقس على ما ذكرناه، واجعله لك أصلا، وقانونا تستدل منه، وتستخرج علم ما يسائل عنه المريض، والصحيح، فى تعرف حالاتهم. وبغير شك أن من كان له ذكاء وفطنة، سينتفع بما ذكرناه نفعا عظيما، وذلك بما يحثه، ويبعثه إلى تعلم طرق الاستدلال، ومعرفة أصناف العلامات، فيصير بذلك ماهرا بالمسائلة للمرضى، والتعرف لحالات الأبدان، وكثير من حالات النفوس.

فقد اتضح إذا نفع هذا المبدأ الثانى، أعنى ما يتشكاه، وينطق به المريض من شكواه. وصار هذا المبدأ تابعا للمبدأ الأول المقدم قبله، وهو معرفة الطبيب لما تقع عليه حواسه، وصارا متقدمين فى الرتبة، والطبع، لما يريد أن يسأل عنه الطبيب المريض، إذ كانت المساءلة للمريض، إنما تجب بعد أن يشاهد حاله، أو يشتكى المريض حالة ما إلى الطبيب. فحينئذ يأخذ الطبيب فى تعرف تلك الحال، ويبدأ بعلمها من جنسها، ويقسم أنواع ذلك الجنس بفصوله القاسمة للأنواع، والمحدثة لها، فيستدل من تلك الفصول، والخواص الملازمة للأنواع، على صورها. وبعد ذلك يأخذ فى البحث عن أسبابها، وعللها الموجبة لحدوثها، ليتم له بذلك إزالتها، وحسمها.

ومساءلة الطبيب للمريض هاهنا، يقع الضطرار إليها فى مواضع كثيرة. وذلك أن ما لا يدركه حس الطبيب من الأسباب، وما لم يخبره به المريض، ولا نقل إليه خبره من خدم المريض، أو غيرهم من المخبرين الثقات، فبغير شك، أنه هو يحتاج أن يسأل عنه المريض، أو من يخدمه، ويقدر على الجواب.

ومثال ذلك أن طبيبا استدعى إلى مريض به إسهال، فرأى صورة المريض، وعرف من لون برازه أنه عن صفراء مفرطة، وكذلك استدل أيضا من سنه، ومن الزمان الحاضر، ومن سحنة المريض، وعمله، على أن جميع هذه قد أوجبت كثرة الصفراء فى بدنه، إذ كان سنه سن الشباب، والزمان زمان القيظ، وسحنته تدل على أن مزاجه حار يابس، وكان — مع ذلك — عمله بعض أعمال النار. فقد صح من جهة الحواس معرفة بعض أسباب المرض. ولأنه لم يشاهد هذا المريض قبل ذلك الوقت، فبغير شك، لابد له من مساءلة المريض، أو من يخدمه، عن أشياء كثيرة، لم يقدر عليها من جهة الحس، منها معرفة زمان ابتداء المرض، ليعلم من ذلك كم قد مضى من الزمان، منذ ابتدأ، وإلى ذلك الوقت، فيعلم كم مقدار ما نقصت، وكم بقى، بحسب قوة المرض، وضعفه من الثبات. ومنها أيضا معرفة مقادير المجالس، وتواترها، وهل تختلف فى الكثرة والقلة، ليلا ونهارا. ومنها أيضا معرفة

بقية الأسباب التى لم تظهر للحس، من ذلك مساءلته عن أغذية ذلك المريض، ما كانت، وكم كان مقدارها، وأوقاتها، وترتيبها. وكذلك أشربته، ومنها هل سقى دواء، أو كان له تدبير أوجب ذلك، مما يعلمه المريض، وأشباه هذه الأشياء. فإذا هو وجد الأسباب الموجبة لذلك الإسهال الصفراوى قد تشابهت، صح عنده علم سبب المرض. وأيضا فإذا كان المرض مثلا حمى غب قد أوجب كونها هذه الأسباب على ما قلناه قبل، ووجد الإسهال قد حدث فى وقت بحران المريض، فقد اتضح له أن الإسهال هو لبحران ذلك المريض من مرضه.

وقد يضطر الطبيب فى أوقات إلى مساءلة من يخدم المريض، لا المريض، وذلك لأسباب تقطع المريض عن الجواب، إما لأنه قد اسكت، أو ناله غشى، أو ما شاكل ذلك. وأيضا فقد يحتاج الطبيب فى أوقات إلى معرفة أشياء، يضطر إلى معرفتها فى علاج المريض من غير أهل المريض، وذلك كطبيب غريب دخل إلى بلد، لم يكن عنده معرفة بوضع ذلك البلد، ولا بهوائه ولا بمياهه، وأشباه هذه الأمور، فدعى إلى علاج مريض، فبغير شك أن الضرورة تدعوه إلى تعرف هذه الأشياء من أطباء البلد، وأهل الخبرة بها، إذ كان علمها لا يصح، ولا يمكنه إلا بعد زمان طويل، وتقص شاف، إذ كان من الأمراض أمراض بلدية، وأمراض وافدة، وأمراض شخصية.

ومما يضطر الطبيب إلى مساءلة من هم أبعد من أهل البلد، فى بعض الأحايين، من أصابه فى حرب سهم مثلا، أو من استأمن، أو غيرهم ممن يخبر هل سهامهم مسمومة، أم لا، فيعمل بحسب ذلك. فقد بان أن هذه المساءلة للمرضى والأصحاء، وأمثالها، واجبة، ضرورية، لنفعها فى حفظ الصحة، وفى علاج الأمراض. ولما كانت مساءلة الطبيب لمن يتولى تدبيره وعلاجه، يجب أن تكون على ترتيب طبيعى، لأنها داخلة فى جمل أجناس المسائل الأربعة التى بعضها يتقدم بعضا بالطبع، وهى: هل الشئ موجود، أو غير موجود؟ ثم: ما الشئ الموجود؟ ثم: كيف حاله؟ ثم: لم هو؟ وبغير شك أنه من قدم أحد هذه المسائل على ما قبله، فقد جهل طريق المساءلة، وأفسد البحث. ومن ترتيب الطبيب المسائل، يعلم حذقه بما ذكرنا، وتقدمه فى صناعته.

ولما كنا معتزمين على إفراد باب للقول فى محنة الطبيب، وكان هذا القول متعلقا بذلك الباب، وجب ألا نطيل هاهنا فى الكلام فى المسائل، وكيف يتقدم بعضها بعضا بالطبع، خاصة وقد تقصينا الكلام فى المسائل، وأنواعها، وترتيبها، فى مقالة مفردة لذلك، جعلتها مدخلا إلى علم الجدل، أنت تعرف منها جميع ما تحتاج إليه من ذلك، لكن نقطع هذا الباب هاهنا، وبه نختم المقالة الأولى، ولله الحمد، والمنة.

المقالة الثانية والباب الثامن فيما ينبغى للأصحاء والمرضى جميعا أن يعتقدوه ويضمروه للطبيب فى وقت الصحة ووقت المرض

إذا كانت أبدان الناس دائمة الاستحالة، والتغيير، لامتزاجها من متضادات، يغالب بعضها بعضا، ولما طبعت عليه أيضا من قبولها للتأثير من المؤثرات العلوية، فلذلك هى محتاجة إلى تعديل ما يفرط عليها من الزيادة والنقصان، وإلى مقابلة كل كيفية قوية، بما ضادها، ليعتدل بذلك المزاج الاعتدال الذى يخص كل مزاج، ويتم لكل بدن أن يعمل أعماله الصحيحة التامة. وهذا التعديل، وسائر ما انضم إليه من إصلاح ما فسد من نظم تركيب الأعضاء، ومن رد ما خرج منها فى كمية عظيمة، أو تغيير شكله، أو موضعه، عن حالته الطبيعية، هو أعظم أصول الطب، والعالم به، وبما يتبعه، هو الطبيب.

وأيضا لما كانت الأبدان الصحيحة هى التى يجب حفظها على صحتها، ولا يتم للبدن حفظه على صحته، إلا بما شابهه، ولا يقدر على 〈معرفة〉 ما شابه الجسم، إلا من عرف مزاجه، ومقادير أخلاطه، وصورة اعتداله الخاص به، وما يخص عضوا عضوا من المزاج، والهيئة، والتركيب، والاتصال، والوضع المبنى عليه، ومعرفة النسب والمقادير التى بها يتم للشبه حفظ شبهه، وذلك بأسره مع ما يتبعه من لواحقه، هى جملة أجزاء الطب، والقيم بعلمها هو الطبيب، وهو الذى يقدر بذلك على حفظ الصحة، وعلى اجتلابها، إذا فقدت. فبواجب إذا أن الأصحاء والمرضى محتاجون إلى الطبيب، فى حال الصحة، وحال المرض. وأيضا لما كانت ذات الإنسان يجب أن تكون عنده أشرف أملاكه، وأشرف ما يملكه ويقتنيه لذاته هى الصحة، والصحة لا تثبت و〈لا〉 تنحفظ، إلا بصناعة الطب، وجب لذلك أن يكون مقتنى صناعة الطب عند العقلاء، الأفاضل، مؤثرى الصلاح لذواتهم، هو أشد الناس عندهم تقدما، وأرفعهم منزلة، وأجلهم قدرا، وأصدقهم قولا. ولست اشير إلى من يتسمى بالطب، وهو عادم لمعناه، إذ كان هؤلاء بالهوان أحق من الإكرام، لاستحسانهم الكذب، ورضاهم لنفوسهم بالمحال.

لكنى أرى أن الكرامة واجبة، لمن عرف قدر ما وهبه الله جل وعز له من جزيل النعمة، وعلو القدر، أعنى ما تفضل به على نوع الإنسان، من علم صناعة الطب، لعنايته، ورحمته له. ولما من بهذه

الصناعة على نوع الإنسان، ولم يكن جملة أشخاصه يصلحون لتعلمها، خص به آحادا، أفاضل، عقولهم صافية، وقرائحهم حادة، محبون للخير، رؤوفون بأبناء نوعهم، ذوو رحمة، وعفة. ولذلك وجب على من خصه الله بهذه النعمة، أن يدمن 〈على〉 شكره، ويحسن عبادته، ويخلص له المحبة.

وبغير شك أن أخيار الناس، وأفاضلهم، يوجبون على نفوسهم لهذه الطائفة من الأطباء الإكرام، والإعظام، وأن من أزرى على هؤلاء، ووضع منهم، وجحدهم حقوقهم، فقد جحد الله، وأخل بمنته، واستخف بإحسانه. ولم يشك عاقل فى أن فاعل ذلك بنفسه استخف، وعن جهله بين.

ومن أدل دليل على جهله، مانراه عند المريض: كيف يلتفت إلى والد، ولا إلى ولد، ولا يرجو الصلاح من صديق، ولا حميم، لكنه يستغيث بالله، وبالطبيب. فإذا خلص من مرضه، نسى الطبيب، واستهان بحقه. وليس ذلك فعل من ينبغى أن يعد فى عداد المذكورين بالعقل، بل بالبهيمة، 〈فهو〉 بهذه أشبه، وأوصافها به أولى. وكم من ناس قد بغضوا الأطباء، وكرهوا قربهم، فضلا عن أن يحبوهم، ويكرموهم، لأجل منعهم لهم من شهواتهم، وتحذيرهم لهم من اتباعهم للذاتهم. فلذلك يكرهون اجتماعهم معهم، ويسبونهم، ويكرمون دائما من تابعهم إلى شهواتهم، وفضل عندهم لذاتهم، واستعمل معهم الملق، وأكثر الترداد إلى منازلهم، ومايلهم، بالخدمة لهم فيما يهوونه، والمحادثة بما يستحسنونه.

ولما علم أهل الخداع والحيل من الأطباء، بما يتفق مع كل صنف من أهل اليسار والرياسة من هذه الخدع، عملوا لصيدهم بذلك المعنى، فكانت هذه الحيلة لهم بمنزلة الشبكة للصياد. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا — وامتحان ذلك سهل على من أراد تفقده، وتأمل ما قد نصب من الفخاخ، والشباك، وأنواع المصائد، أعنى بذلك ما يتزيا به أهل الحيل من الزى، وما يعظمون لنفوسهم 〈من〉 المجالس، ويتخذون من الآلات، والأمتعة، فى الدكاكين التى قد كبروها وزخرفوها — فليس ينبغى للعاقل أن تغره أمثال هذه الحيل، بل ينبغى له أن يفتقد من الطبيب ما يحسنه، وما منزلته من صناعة الطب، وينظر فيماذا أفنى عمره، وكيف سيرته، وبالجملة يجب أن يتأمل سائر ما نذكره فى الباب الذى نذكر فيه محنة الطبيب. فإذا رآه من أهل صناعة الطب بالحقيقة، فليعتقد فيه أنه من أولياء الله، ومن المكرمين عنده، ولذلك وهب له هذه الصناعة، وخصه بفضيلة سياسة أبناء نوعه، وجعله مصلحا لنفوسهم، ومقوما لأخلاقهم، ومعدلا لأبدانهم، وحافظا عليهم صحتهم، هذا إذا كان طبيبا بالحقيقة، أعنى فيلسوفا.

وإذا اعتقد العاقل فى الطبيب الفاضل أنه من خواص البارئ تبارك وتعالى، فقد وجب عليه إكرامه فى الظاهر، والمحبة له فى الباطن، وإشراكه فى نعمه، والمسارعة لقضاء حوائجه، إذ كان بصلاح حالاته، تصفو نفسه، وتصح له أفكاره، ويتوفر على درس علم الطب، ويواظب على خدمتك فى صحتك، ومرضك.

ولأنك، أيها العاقل من الناس، دائما تحتاج إلى حفظ صحتك، إذ كانت الأسباب المغيرة لها دائمة التأثير فيك، وأنت أيضا غير آمن من حدوث الأمراض بك، فأنت دائما تحتاج إلى من يعرفك كيف تحفظ صحتك، وبماذا تحفظها، وكيف تتدبر فى مرضك، وبماذا تعالجه، فإذاً واجب ضرورة عليك أن تجعل أفضل أطباء بلدك لك، وأنك لتوجب على نفسك بذلك قبول أوامره، و〈اتخاذه〉 صديقا، لتلزم نفسك الحياء منه، والإنصاف له، و〈تتخذه〉 معلما، لتستفيد منه، وتحفظ عنه آداب صناعة الطب، والنافع لك من علمها، وتوجب عليه لك حقا، بخص التلميذ من معلمه 〈الذى〉 صلته أعظم من وصلة النسب والصداقة، وهى وصلة العلم والأدب اللذين بهما يصير الإنسان بالحقيقة إنسانا.

واعلم أنه كما تجد الحسن التدبير بمنزله، يعد له القوت، والكسوة، ويصلح المسكن له، ولعائلته، قبل موافاة الشتاء، فكذلك ترى أيضا ملاح السفينة، يعد مصالحها، قبل موافاة الريح، والشدة، لتكون مصالحه، وما به يرجو الخلاص من الشدة، عتيدا عنده، فكذلك أعد لنفسك طبيبا موافقا، واحفظه على نفسك، بحسن العشرة، والسيرة، والكرم، ليكون لك عدة لأوقات، هى أصعب، وأخطر، من شدائد البحر، والشتاء! وفيما ذكرناه كفاية لذوى الألباب.

الباب التاسع فى أن الصحيح والمريض يجب عليهما القبول من الطبيب

وأقول أيضا لمن قد اختبر طبيبه، وصح عنده فضله فى صناعته، وثقته فى أمانته، وإخلاصه الود والنصيحة لمن يريد تدبيره، إنه يجب أن يستسلم فى يديه، ويثق بقوله، وعمله، ويتجنب مخالفته، إذ كان قصوره عن فضله فى صناعته، دليلا على عجزه عن الصواب، ومن عجز عن الصواب، فيجب أن يلتمسه من القادر عليه، ولا يعدل عن ذلك. وأيضا، فإن الأمانة مع العلم يدفعان الهوى، ويهديان إلى الحق. فمن بان علمه، واتضحت أمانته، فقد وجب أن يوجد الحق عنده، ووجب اتباع أمره، ونهيه، واتخاذه إماما إلى الحق، والهدى، والمصالح. ومن عدل عن أوامره، ونواهيه، فقد رغب فى الباطل، والمحال، وسريعا ما يقع فى المضار، والمكاره.

ولأن الحق والصواب قد تدخل الآفة على طالبيهما من وجهين: أحدهما من قلة خبرته بالصواب، وسوء تحصيله للحق — فلذلك ربما وجده، 〈و〉يظن أنه لم يجده بعد، وربما توهم أنه قد أدركه، وهو بالحقيقة لم يجده — والوجه الآخر أن طالب الحق ربما طال عليه الطريق إلى الحق، واعتورته فى طريقه شكوك وشبه، فناله الضجر والملل، فلا يصبر حتى يستوفى سائر طريقه، لكنه يقطع على شبهة من الشبه، أنها هى الحق، فيفوته بذلك درك الحق. فإذا كان هذان الوجهان هما آفتان على طالب الحق، فيجب أن يحذرهما، إما بنفسه، إن وثق باختياره، أو بغيره من أهل الخبرة.

وإذا كان ما ذكرناه متجها فى كل قول ومعنى، يلتمس حقيقته، وكانت صناعة الطب، وصواب علمها، وعملها، مستصعبا جداً، فبغير شك، أنه سيحتاج المختبر لصدق الطبيب فى أقاويله، ولصوابه فى أعماله، إلى زمان طويل، ودربة قوية، وحدس دقيق. وإذا كان ذلك ممتنعا على عامة الناس، فإن من أحمد الأمور للعوام والمتوسطين — إذ كانت حاجتهم إلى الأطباء، كحاجة الخواص إليهم — أن يسلكوا فى اختبارهم هذا الطريق، وهو أن ينظروا إلى أفاضل زمانهم، وأهل الثقة والعلم من أهل بلدهم، بمن يثقون، ومن يمدحون، وعلى من يعتمدون، فيعتمدون هم أيضا عليهم، فيطيعونهم، ولا يخالفونهم.

ويتبع ذلك أيضا أمر، هو أشهر، وأبين لهم، مما يختبرون به الأطباء، وذلك بأن يفتقدوا ما يحكيه الثقات عن ذلك الطبيب، فى كثرة من عوفى على يديه، وحسن الثناء عليه. فإن فى ذلك ما

دل على سعادته فى نفسه، وبركته على المرضى، وعلمه بما يعمله. وإذا بان ذلك بعد الزمان الطويل، فقد وجب ألا يخالف ذلك الطبيب، ولأجل ما يقع من الأغلوطات، وسوء الفهم، والتحصيل، من المرضى، ومن يخدمهم، فيهلك بذلك المرضى، فلذلك يجب أن يحترز الكل من ذلك، أعنى الطبيب، والمشاور له.

ولأن فى ذكر ما شاهدناه من ذلك، دلائل على صدق ما قلناه، وفيه أيضا تنبيه إلى الصواب، وتحذير من الخطأ، فلذلك أنا أذكر من ذلك عيونا. فمن ذلك أننى شاهدت طبيبا، بمدينة حلب، حاذقا بالطب، وقد أشار على مريض، بكبده مرض، أن يأخذ دانق راوند مع ماء الرازينج الرطب، وسكنجبين. فاشتبه على خادم المريض اسم الراوند، فظنه زراوند، فاشترى بدانق زراوند، وأعطاه للمريض كرها، فمات آخر النهار، لأن كان مقدار ما سقاه كثيرا. فلما بحث عن ذلك الغلط، برئ منه الطبيب، والرسول، والصيدنانى، لأنه جرى بغير قصد، وهلك الرجل. وكذلك رأيت من غلط فى الأسم، بين أفيون وأفتيمون، وأمثال ذلك كثيرة.

فلأجل ذلك ينبغى أن يكون الطبيب شديد التفقد، لتحصيل المريض، أو من يخدمه، إذا كان يريد أن يلزمه القبول منه، وألا يخالفه، ليصح الأمر، ويخلص. وكذلك أقول أيضا لمن يريد الطاعة للطبيب: إنه يلزمه أن يفتقد تحصيل الطبيب، لأن الرغبة، والرهبة قد تغيرانه. وأيضا: هل الطبيب آخذ نفسه بالقبول من أفاضل صناعته، وملتزم واجباته، ومنته عما ينهى عنه؟ فإن وجده كذلك، فليطعه، ويسلم نفسه، وجسمه فى يديه. وإن وجده يأمر بما لا يفعله، فلست أشير عليه بالاستسلام إليه، ولا بالطاعة له، إذ كره طاعة الحق، وأطاع لذاته وهواه، فلذلك سقطت طاعته.

ومن الوصايا التى ينبغى أن يتحفظها، ويعمل بها، من وثق بطبيب، واعتمد على عمله: 〈أنه〉 لا يجوز أن يشاور طبيبا غيره سرا، لأنه لا يخلو الطبيبان من أن يكونا فى صناعتهما بمنزلة واحدة، أو أحدهما أفضل من الآخر. فإن اعتمد على الأدون، فقد أخطأ، إذ ترك الاعتماد على الأفضل، وإن اعتمد عليه، ثم أراد رأيا مع رأيه، ممن هو دونه، فذلك أشنع، وأقبح، إذ جعل الناقص عيارا للتمام.

ولست أمنع من مشاورة طبيبين، وثلاثة، وما فوق ذلك، لمن أحب مشاورتهم، ولكن يفعل ذلك من حيث يجمع بينهم، ليبحثوا عن الحق بعضهم بعضا، ويشيروا بما يرونه صوابا، على اتفاق منهم، فبذلك يسهل درك الحق.

واعلم أن مما يؤمن معه الاشتباه، والنسيان، وتكون العافية فيه محمودة، أن يستشير طبيب 〈المريض〉 طبيبا آخر، وأن يكتب عن 〈ذلك〉 الطبيب ما يشير به من الدواء، ثم أوثق من ذلك أن ينظر إلى ما أشار به ويعاينه، وأشد ثقة من الجميع أن يتولى هو إصلاح الدواء، أو يصلحه من يثق به بحضرته، وهو يقدر كميته، ويشاهد دقه، ونخله، أو عجنه، أو طبخه، أو غير ذلك من 〈أنواع〉 الإصلاح. فلست احصى كم ضررا دخل على الطبيب، وعلى مرضاه، ومن يدبرهم، من اتكاله فى إصلاح الأدوية على حرم فى المنزل، وخدمهن. وذلك أن المريض يسئ حاله، والطبيب يسئ ذكره. ولقد رأيت مرارا من فساد ماء الشعير فى قشره، وفى طبخه، وفى تقدير مائه، وناره، أنواعا من الفساد، لا يمكننى إحصاؤها، جرت من خدم المريض، والطبيب لا يعلم، فأضرت بالمريض، وأفسدت على الطبيب تدبيره. على أن ماء الشعير هو من الأشياء التى قد ألف الناس إصلاحها فى منازلهم، كأصناف الحبوب، والمعاجين، وغير ذلك من 〈الأشياء〉 التى لها شروط فى صنعتها، كتحبيب بعض الحبوب صغارا، وبعضها كبارا، وكذلك بعض الأدوية ناعمة، وبعضها جريشة. فهى كبعض المطبوخات التى يقع بعض حوائجها فى حال طبخها، وبعضها بعد طبخها. فإنى لا أحصى كم رأيت من الخطأ الجارى فيها. فلذلك ليس ينبغى لأحد أن يثق على صنعتها بأحد ممن فى منزله، ولا ممن يخدمه، غير طبيبه، أو من يرتضيه الطبيب من تلاميذه، أو الصيادنة الموثوق بهم عنده.

وإذ قد ذكرت فى هذا الباب جملا من الوصايا التى ينتفع بها الأصحاء والمرضى عند قبولهم من أطبائهم، فإنى ألحق ذلك بوصية عظيمة، كثيرة النفع — وكثيرا 〈ما〉 يتجاسر عليها الناس، والخطأ الواقع من جهتها ليس بالصغير — وهى كتمان المرضى، وخدمهم، عن الطبيب، ما يحدث، وما يصنع من الخطأ. وفى كشف ذلك للطبيب فؤائد، ومنافع كثيرة، لأنه يسارع إلى تلافى ما وقع فيه التفريط، ولصلاح ما حذره من الفساد. فيجب على كل عاقل ألا يكتم طبيبه شيئا من الحوادث التى تحدث عن الطبع، ولا فعلا أتاه هو بقصد، أو اتفق عليه بعرض.

الباب العاشر فيما ينبغى للمريض أن يتقدم به إلى أهله وخدمه

ولما كان الصحيح من الناس يمكنه أن يتولى تدبير نفسه، لحفظ صحته، ويشاهد ما يتولى تدبيره من ذلك أهله، وخدمه، وكان المريض لا يمكنه ذلك حال مرضه، وجب لذلك على كل عاقل من الناس — إذ كان يعلم أن الأمراض قد تعرض للأصحاء — أن يتقدم، فى حال صحته، بإعداد أنواع مصالحه، لمرضه، كالذى يفعله حكماء الناس من إعدادهم مصالح شتائهم، قبل وروده، وكالذى يفعله أيضا الحاذق، بتدبير السفينة، فى حال سكون البحر، من إعداد جميع مصالحها، قبل هيجان الريح، ليكون ذلك عتيدا لديه، عند الحاجة إليه.

ولأن أنواع مصالح المريض كثيرة، مختلفة، وتعديد أشخاصها ممتنع، فلذلك يجب أن نذكر منها هل هى أنواع لتلك الأشخاص. ومن العلم بتلك الجمل يمكن للمريض؟ 〈أن〉 يدرك علم ما يحتاج إلى التقدم به، والوصية إلى أهله، وخدمه، فى حال صحته، لحال مرضه. وأول هذه الوصايا هى تقدم الإنسان، مع ابتداء مرضه، إلى أهله، وخدمه، بقبولهم من طبيبه، ما يأمرهم به من سائر تدابير مرضه، ويحذرهم من مخالفته. وبغير شك أن القابل للأمر، والطائع للآمر، إنما يقبل، ويطبع، رهبة، أو رغبة، أو لهما جميعا. والطائع رهبة فقط، قد تفسد طاعته سريعا، وذلك يكون مع عدم 〈ما〉 عليه كانت الرهبة. ومثال ذلك أن يكون الخدم، والأهل، طائعين، قابلين، فزعا، ورهبة، فإذا اتفق للآمر، المطاع، مرض يصرعه، أو يغير تمييزه، زالت هيبته عن خدمه، وفسدت طاعتهم له، وأمكنهم بذلك أن يصنعوا به ما يشاؤون. فأما الخدم، والأهل، الطائعون محبة، فطاعتهم ثابتة، لا تتغير، فالثقة بهم دائمة، لدوام المحبة منهم، وإن انضاف إلى المحبة هيبة، أكدت دوامها، وأبدت قوتها.

وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على كل عاقل، أن يبدأ أولا فى حال صحته، بالإفضال، والإحسان إلى أهله، وخدمه، ليصح له منهم المحبة، والشفقة، وليثق منهم، بالقبول منه، والطاعة له، والنصيحة، عند مرض، إن عرض له، فغير تمييزه، وأزال هيبته عنهم، وبعد ذلك، فليأمرهم بالقبول من طبيبه، وليثق منهم بالطاعة له، والشفقة عليه.

ومن فروع هذا الباب المقدم ذكره، أن الإنسان إذا استعمل العدل مع أهله، وخدمه، علمهم استعمال

العدل معه، عند حاجته إليهم. وإذا أفضل عليهم، وأحسن إليهم، وظهر لهم منه المحبة، والشفقة، دعاهم ذلك إلى الشفقة عليه، والمحبة له، وتعلموا من أفعاله بهم، ما يعملونه معه.

ومثال ذلك من اعتل له خادم، فدعا له بطبيب حاذق، ليدبره، فلم يثق فى إصلاح أدوية مريضه ذلك بأحد من سائر أهله، وخدمه، بل تولى تدبيره هو بيده، أو من يثق به بحضرته، وأقبل على الاستفهام من الطبيب جميع ما يحتاج أن يفهمه منه من أمر الدواء، والغذاء، وجعل يواظب على تعرف مصالح المريض، ويقوم بها أتم قيام، حتى يبرئ خادمه من مرضه. فليس يشك عاقل فى أن فاعل ذلك مع خادمه، مع ما قد أكد له من الحمد، والثناء، والشكر، فإنه قد علم خادمه كيف يخدم المرضى فى أمراضهم. وأول من يحظى بذلك منه هو فى نفسه، إن مرض، أو من يعنيه أمره ممن فى منزله، لأنه إن كان ذلك الخادم ذا نفس زكية، وطبع محمود، كانت منزلته فيما عومل به، منزلة ما بذر فى الأرض النقية، الزكية، التى لا يضيع فيها بزر، وهو لذلك يحفظ ما علمه، ويتذكر ما عومل به، ليقابل الجميل بمثله، والمحبة بمثلها، بل بأكثر منها، ويستعمل من الخدمة ما يعلمه. فأما من رام الكفاية، والقيام بالخدمة الموافقة، التامة، من أهله، وخدمه، من دون الكفاية لهم، والقيام بمصالحهم الموافقة، الكاملة، والتبصر لهم علما، وعملا، فقد رام المحال، والتمس الممتنع، وما مثاله، إلا كمن رام الحظ الجيد من 〈زرعه〉، فلم يقدم بإصلاحه.

ولقد رأيت من الناس أناسا دخل عليهم أصناف من الضرر، من خدمهم، وأهلهم بسبب جهلهم بما ذكرناه. فمن ذلك أنى رأيت رجلا، كان به ذات الجنب، فصح 〈من〉 مرضه، ونفث جميع ما كان فى صدره، وزال حمله واستقامت نفسه. فأمرته بصب الماء، ومنعته من بعض الأغذية. فلما رأيته من غد، وجدته قد حم، وقد حدث به أعراض رديئة، أنكرتها. فلما بحثت عن سبب ذلك، عرفنى بعض من يهمه أمره، أن أم ولده أطعمته ما نهيته عنه. فعند إنكارى ذلك، قالت: «كأنكم تريدون من هذا — وهو رجل شيخ — 〈أن〉 يعيش؟! هذا لا يبرأ!». وبان من كلامها أنها تريد الراحة منه.

وأما قوم، كان أهلهم، وخدمهم، يتمنون موتهم، ويسرون بأمراضهم، لما كانوا عليه من الشح، وقبح المعاملة لهم، فلا أحصيهم كثرة، حتى أن بعض خدم هؤلاء، وأهلهم، كانوا يتعمدونهم بالمكاره، ولا يطيعون أطباءهم، بل يتعملون لضد ما يقوله الطبيب، ويشير به. وإذا كان البلاء، والفساد الداخل على هؤلاء المرضى، هو من سوء عقولهم، وتدابيرهم، فما عسى للطبيب أن يعمله، وكيف يتم له برء العليل، والعليل أحد أسباب البرء؟!

وذلك أن أسباب البرء، والذى لا يتم أمره إلا بها، ثلاثة، على ما حكاه حنين عن بقراط

وجالينوس، وهى: الطبيب، والمرض، والمريض. والطبيب والمرض ضدان، لأن الطبيب خادم للطبيعة، والمرض عدو الطبيعة. وأما المريض، فهو لا محالة إما أن يوالى الطبيب، فيعاونه على برئه، وإما أن يوالى المرض، فيعينه على نفسه. فإن هو والى الطبيب، فأطاعه فى جميع ما يأمر به، رجوت له العافية، لأنه يجتمع على محاربة واحد محاربان. وإن والى المرض، باتباعه الشهوات التى بجلبها عليه مرضه، جنى على الطبيب جنايتين: إحداهما أنه يتركه منفردا بالحرب، وقد كان يجب عليه أن يكون معه ثانى اثنين، والأخرى أن يصير مع مرضه محاربا ثانى اثنين، وقد كان يجب عليه أن يتركه مفردا.

وجميع ما قيل فى هذا القول، مجمل فى فصل أتى به بقراط فى المقالة الأولى من إبيديميا، وهذا قوله بلفظه،: قال بقراط: قوام الصناعة بثلاثة أشياء: المرض، والمريض، والطبيب. والطبيب خادم الطبيعة، وينبغى للمريض أن يقاوم المرض مع الطبيب. وبغير شك أنه قد يخفى كثير من ذلك، فيؤول الأمر إلى هلاك المريض، وسوء ذكر الطبيب. ولأجل ذلك ينبغى للطبيب أن لا يغفل ذلك، بل يهتم يتفقده، وينبه عليه. وفيما ذكرناه فى هذا الباب من ذلك كفاية لأهل الفطن.

الباب الحادى عشر فيما ينبغى أن يعمله المريض مع عواده

أما ما ينبغى أن يعمله العواد مع المريض، فقد ذكرنا جمله، فيما تقدم فى الباب الذى أفردناه لذلك. فأما ما ينبغى للمريض أن يعمله 〈مع عواده〉، وعن أى المسائل يجب أن يجيب، وعن أيها لا يجيب، فنحن نذكر من جمل ذلك أصولا، يستدل منها على فروعها، فنقول: إن العادات التى قد ألف الناس استعمالها، منها محمودة مستحسنة، ومنها غير محمودة، وإن استحسنها مستعملها. وإنما يفرق بين هذين الصنفين من العادات، أهل العلم والفضل.

فمن العادات المذمومة، ما قد جرت عليه عادات كثيرة من الناس، عند مساءلتهم للمرضى، إذا عادوهم، عن أحوالهم، أن يتبعوا ذلك بالمساءلة عن أمراضهم، حتى أن من العواد للمريض، من يبحث، ويستخبر، عن علامات المرض، وأسبابه، كأنه طبيب ذلك المريض، وليس ذلك لأنه طبيب، ولا لأنه يعلم من الطب شيئا، ولكن ليوهم من حضر، أنه عالم لا يخفى عليه شئ. ولعمرى أن من حضر من العقلاء، بذلك يستدل على جهله، وسوء عقله، إذ سأل عما لا يعنيه أمره، وبحث عما لا يصل إليه بفكره! وأقبح من هذه المساءلة للمريض، والبحث عن مرضه، من عائده، ما رأيته من مسارعة كثير من العواد إلى وصف أدوية المرضى، وأغذية، وأنواع من التدابير، يرسمونها، ويرتبونها لهم، حتى لا يكون بينهم فى ذلك وبين الطبيب، فى الظاهر، فرق بتة، كالذى حكيته من خبر ذلك الشيخ، العائد لبعض المرضى، فى الباب الخامس من أدب عواد المريض. وإنما ذكرت هذا الخبر من جملة أخبار مستظرفة كثيرة، جرت للعواد مع المرضى، لئلا أطيل بذكر أمثاله، وأنقطع بذلك عن غرضى. وأيضا فلعلمى بنفع المرضى 〈و〉عوادهم بذلك، وجب أيضا إحضاره.

فلنعد الآن إلى غرضنا فنقول: إن المريض إذا عاده عائد، فليس يجب أن يجيبه عن كل سؤال يسأله، كما لا يجب أن يجيب كل مسائل عن كل سؤال. وذلك أن من سأل عن مسألة هى محال، فإنه لا جواب له غير إفساد السؤال. ومثال ذلك سائل سأل طبيبا: لم صارت حمى الغب الخالصة تحدث عن عفن البلغم؟ أو لم صارت الحمى النائبة فى كل يوم تحدث عن عفن الصفراء؟ أو لم صارت حمى سوبوخس تحدث عن عفن السوداء؟ وأمثال هذه من المسائل المحالات. فإن الطبيب، إذا سمع هذه، وأمثالها، وعلم أنها محالات لا تستحق أجوبة، فإنه على المكان يعلم المسائل أنه قد سأل عما لا حقيقة له، وسقط جوابه. وكذلك أيضا ما ورد من المسائل فى غير موضعه، لم يلزم

المسؤول الجواب عنه.

ولأن مواضع المسائل تختلف، بحسب اختلاف السائل والمسؤول فى أغراضهما، ومواضعهما من العلم، وبحسب المكان، والزمان، ومرتبة السؤال فى جنسه، ونوعه، وشخصه، فلذلك يجب تفقد وضعها. ولما كان التمثيل على جميع ذلك، وتقصى شرحه، قد أتى عليه أهل الجدل — وقد ذكرت أصوله فى المدخل الذى ألفته للمبتدئين بعلم الجدل، ولا يمكننا إحضار الأمثلة على صنف صنف منها، لئلا نبعد من غرضنا، وقصدنا — فلذلك نكتفى بما لوحنا به فقط.

لكن ليكون ما قلنا هاهنا أوضح، فنحن نمثل على ذلك بأمر مشهور بين أهل الأدب، وهو أن الملوك تستثقل من عامتها، وحاشيتها، مساءلتهم لهم عن أحوالهم. وأثقل من ذلك على الملوك، تكلفهم الجواب عن ذلك. وإنما صار ذلك ثقيلا على الملك، لعلمه بأن السؤال له فى غير موضعه، إذ كان الملك يعلم أن السائل له عن حاله — وهو غير قادر على نفعه فى حفظ حالاته االمحمودة، أو إصلاح المذمومة — لا وجه لسؤاله. فلذلك، وما أشبهه، وجب ألا يجيب المريض عواده عن كل سؤال يسألونه 〈إياه〉، ولا يشرح حال مرضه، ولا شيئا من شكاويه، إلا لطبيبه، لأنه لا يرجو دفع ضرر، ولا اجتلاب نفع، إلا من جهته. وكذلك يجب أن يفعل خدم المريض، وأهله.

ولذلك ينبغى للمريض، إن أحس من نفسه باضطراب، وخشى سوء تمييزه، أن يوصى خدمه بكتمان حالاته، إلا عن طبيبه، لأن كشفها لمن لا يعلم حالات مرضه، ومع ما قدمت ذكره من عادات العواد، والعوام من الناس، التى قد جرت بغير احتشام، وهى مبادرة كل واحد منهم بوصف دواء وتدبير، يفسد على الطبيب تدبيره، وكثيرا ما يضر بالمريض، وربما كان ذلك سبب هلاكه.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فقد ينبغى للأصحاء أن يتيقظوا لما قلناه، ويكون منهم ببال، ويتقدموا به إلى أهلهم، وخدمهم، لتكون الوصية بذلك عتيدة لديهم، ومعلومة عندهم، لوقت المرض.

ولأن من الأمراض أمراضا، لا يصلح للمريض فيها استماع الكلام الكثير، كالصداع، والشقيقة، ونظائرهما من أمراض الدماغ، وكالإسهال، وما ماثله، فلذلك ينبغى للمريض، وأهله، أن ينفردوا بالموضع، لتدبيره، وأن لا يتشاغلوا عن تدبيره بمخاطبة عواده، إذ كانت أوقات عيادة العواد، هى بعينها أوقات تدبير المريض، وخاصة فى أدويته، ومشروباته. ويجب أن لا يكتموا الطبيب حادثة من الحوادث، كبرت أم صغرت، حسنت أم قبحت، كما يجب أن لا يكشفوا ذلك لغير طبيبه.

وأيضا فإن من المعلوم أن المرضى كثيرا 〈ما〉 تسوء أخلاقهم، فيكثر ضجرهم، ويسرع حردهم، وخاصة إذا طالت بهم أمراضهم. فلذلك يلحق خدمهم، وأهلهم، منهم الضجر، فيستثقلون خدمتهم، ويقصرون فى تدابيرهم. فربما آل ذلك إلى الفساد على الطبيب فى علاجه، وإلى هلاك المريض جملة. فالدواء لهذه البلية، والخلاص منها، هو أخذ الإنسان لنفسه، فى حال صحته، بضبطه لنفسه من الحرد والغيظ، ليألف الاحتمال، ويقتنى حسن الخلق، فيجد ذلك على نفسه فى وقت المرض سهلا، واحتماله قريبا.

وكذلك القول فيمن عود نفسه ألا يتبع لذاته، ولا يواتى شهواته، فى حال صحته. فإن احتماله لما ينهى عنه فى حال مرضه، من الأغذية والأشربة، يكون أسهل عليه، وأخف. فلنكتف بما ذكرناه من هذا الباب!

الباب الثانى عشر فى شرف صناعة الطب

ولما كان ذكرنا لشرف صناعة الطب، وتقدمها فى المرتبة على سائر الصنائع والمهن، يبعث أهل العقول والآداب على اقتنائها، أو ما تهيأ 〈لهم〉 منها، ويرغبهم فى اتباع أوامرها، والبعد عن نواهيها، ويحثهم على تشريف أهلها، وجب لذلك أن أذكر وجوها من شرفها، وعيونا من فضائلها، فأقول: إن سائر المهن والصنائع لا يتم ذكرها، ولا يوصل إلى غاياتها، إلا بعد تصور النفس العلم بها. ولما كان العلم للنفس الناطقة، والعمل للبدن، وكانت النفس إنما يتم لها العلم بالبدن، إذا كان صحيحا، والصحة إنما تنحفظ وتدوم، أو تجتلب وتقوم، بصناعة الطب، وجب لذلك أن تكون صناعة الطب هى أشرف الصنائع، والعلم بها هو أقدم العلوم.

وأيضا فإن الآلات التى بها تستخرج المهن والصنائع آلتان: إحداهما القياس، والأخرى التجربة، وغير ممكن من كل واحدة منهما، ولا من اجتماعهما، أن يقدرا على استخراج أصول صناعة الطب، إذ كان الحس لا يصل إلى ذلك، وذلك لما نذكره، وهو أنا ندرك أن أول شخص من المخلوقين، حين خلق محتاجا إلى الغذاء، ولم يعرف الغذاء من الدواء، وكانا كلاهما من نوع النبات، فإنه إن تناول أحدهما على أنه غذاء، فقد خاطر بنفسه، وغرر بخبرته، لأنه إن عمد إلى حشيشة السقمونيا مثلا، أو غيرها من الحشائش القاتلة، فأكلها، هلك. وإذا كان الحس لا يفى بعلم ذلك، و〈كان〉 العقل لا سبيل له إلى علم الأمور المحسوسة، ولا إلى تمييزها، إلا من جهة الحس، فغير ممكن إذاً أن تعلم أصول صناعة الطب، بطريق الاستدلال، والقياس.

فأما فروع هذه الأصول، فبغير شك أن استخراج ما استخرج منها، هاتان الآلتان استخرجتاه. ولا يوجد طريق آخر لاستخراجه، اللهم إلا أن يقول قائل إن الحلم والتكهن قد عرفا أدوية الأمراض، وتدابير علاج كان الشفاء من تلك الأمراض بها، وحفظت، واتخذت أصولا، كالذى حكاه جالينوس أنه رأى فى منامه قائلا يقول له: افصد العرق الذى فى ظهر كفك، بين السبابة والبنصر! فإنك تبرأ من المرض الذى تجده! وكان يجد مرضا قد أعياه علاجه،

ففصد ذلك العرق، وبرئ من مرضه.

فإنا نقول لهذا القائل: إن ما ذكرته من أمر الأشياء التى علمت من جهة الحلم، والتكهن، لسنا ننكره، لكنا نقول: إنه من نوع ما به علمت أصول صناعة الطب، الذى ذكره قصدنا، وهو أحد الأسباب لشرفها، وهذا النوع من التعليم الذى منه علمت أصول هذه الصناعة، هو الذى ذكره جالينوس فى تفسيره لكتاب عهود بقراط وايمانه، فإنا نقول: إن صناعة الطب تعليم من الله تعالى وهبة وتفضل على نوع الإنسان. ولأنا قد ذكرنا بعض ما قاله فى هذا المعنى فى صدر كتابنا هذا، فلذلك نستغنى بما قيل هنالك عن إعادته هاهنا.

وإذا كان الأمر على ما قلناه، فقد وجب أن تسمى صناعة الطب إلهية، وأن يسمى من اقتناها بالحقيقة، أو أخذ نفسه باقتنائها، وسلك طريقها، إلهيا. وكيف لا يستحق هذا الاسم الشريف، وهو حريص، مجتهد فى التشبه بأفعال البارئ جل وعز، إذ الكافة تعلم أن الخالق، تقدست أسماؤه، جواد، كريم، رؤوف، رحيم، شاف، معاف، واهب الصحة للأصحاء، وحافظها عليهم، وشافى المرضى من أمراضهم، وبلطفه يكفيهم، فهو بالحقيقة القادر القدرة التامة على حفظ صحة الأصحاء، وعلى شفاء المرضى.

〈أما〉 الطبيب، فمعلوم أيضا أن قصده التماس الصحة، وغايته إحرازها، ولا يقدر على ذلك، إلا بصناعة الطب التى هذا قصدها، وغايتها، وهى موهوبة من الله تعالى لخواص من خلقه، بأفعاله يقتدون، ومن حكمته يستمدون. فبذلك يجب على كل عاقل يعرف قدر نفسه، ويؤثر الصحة لجسمه، أن يشرف الصناعة الإلهيةر المصلحة للبدن، المقوية لأخلاق النفس، إذ أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن.

ومما يوضح شرف الصناعة الطبية أيضا، ما تثمره للناس كافة، من المنافع التى تؤديها 〈لهم〉 على مقادير أفهامهم إليها. فأول نفع يصل إليه الفهم بها، هو الإقرار بتوحيد البارئ، والمعرفة للطيف حكمته، وعلو قدرته، وحسن عنايته بسائر خلائقه، وذلك عند تأمله مزج الممتزجات، وتركيب المركبات، من سائر المحسوسات الجامدات، على اختلاف أصنافها، والناميات على كثرة فنونها، والحيوانات مع تباين أنواعها، ثم ما يختص به كل نوع من ذلك، وخاصة نوع الإنسان.

فإن من انصرف من الناس إلى معرفة ذاته، وتأمل مزاجه، وما أعضاؤه عليه من أشكالها، ومقاديرها، ووضعها، واتصالها، وانفصالها، وأفعالها، ومنافعها، وأشباه ذلك، علم بالحقيقة من حكمة الخالق تبارك وتعالى ما يوضح له، ويبرهن عنده على أن له خالقا، واحد،ا قادرا، حكيما، قصد بخلائقه الأحكم، والأوثق، والأحسن، والأصلح. وحسب العاقل لذاذة هذه الثمرة، ونفع هذه الفائدة

ولها نفع ثان، وهو أنها أعظم معين فى القيام بالشرائع، لأنها إذا صححت الأبدان، تمكن الإنسان 〈من〉 اقتناء العلم، وقدر على العمل، من صوم وصلاة وغير ذلك. وإلى هذا أشار القائل أن العلم علمان، علم الأبدان، وعلم الأديان. فلشرف الطب عنده، قدمه، ولنفعه فى علم الأديان، بدأ به. وحسبك بصناعة هذه حالها شرفا ونفعا! ولها نفع ثالث، وهو أن من التمسها لذاتها، ولنفع الناس بها، لا للتكسب، أكسبته اللذة الدائمة، والمال النافع، والذكر الجميل، والثواب الجزيل.

فكفاك شرفا مما قرب إلى الله، وأرضاه، وأوصل إلى دنياه، ونعماه! أترى 〈أحدا〉 من العقلاء لا يقر بصناعة الطب، وشرفها، وأهل المذاهب المختلفة مجمعون على صحتها، متفقون على نفعها؟! وأيضا فأهل اللغات المتباينة، وسكان البلدان المتباعدة، والملوك من هذه الطوائف، والرؤساء، والعلماء فيهم، مع سائر متوسطيهم، وعامتهم، مذعنون بالإقرار بالحاجة إلى صناعة الطب، والاضطرار إليها، وإلى أهلها، فهم لأجلها مشرفون.

وكيف لا يقر لها بالنفع، والشرف، من يرى الأفاضل من أهلها، وهم متقدمون بالإنذار بما يكون، وخاصة فى أيام البحارين من الأيام المنذرة بها، وفيما يقضون به على المرض، من طوله وقصره، وسلامته وخطره، وسكونه وحركته، وذلك بمعرفتهم بطبيعة المرض، منذ أول حدوثه، فينذرون بما يحدث من حركات المرض، فى الأزواج والأفراد، 〈و〉حالات النضج، والإخبار بسلامة من يسلم، وعطب من يعطب؟!

وكيف لا يزداد الناس بالطبيب الحاذق عجبا، ولصناعته تشريفا، إذا رأوه قد قضى فأصاب، وأنذر فكان، وأخبر بما كان، كالذى أخذ جالينوس به لغلوقن الفيلسوف، لما حدثت به حمى ربع فأعطاه أطباؤه درياقا قبل النضج، أن حماه تتركب؟، فتركبت. فتعجبوا من حكمه، حتى قالوا: ليس هذا من صناعة الطب، بل من جنس النبوة.

وكذلك أيضا ما حكاه من قصة الجارية، العاشقة، التى أخذ ينبضها، فأخبر بحالها. فذلك، وكثير من أمثاله قد حكاه جالينوس فى مقالة له مفردة، عنونها ﺑ: نوادر تقدمة المعرفة، يقدر أن يقف عليه، من أحب علم ذلك من تلك المقالة. 〈و〉جميع 〈ذلك〉، وسائر ما جانسه، لم يقدر عليه، إلا من قوة هذه الصناعة. فبذلك وأمثاله استحقت الشرف، والتقدم على غيرها من الصنائع.

ألا ترى إلى طاعة أهل المملكة لملكها، وطاعة الملك لطبيبه، ما لا يطيع أبويه، ولا أحدا من حشمه، وأهله، وكشف سره إليه، ما لا يكشفه إليهم، لما يرجوه عنده من النفع، والمصلحة؟! ولقد حكى عن جبريل طبيب المأمون أنه قال له يوما: يا أمير المؤمنين! أنا مصلح أدمغة الملوك، والقضاة، منذ خمسين سنة، فكيف أقاس بغيرى؟! فاستحسن ذلك منه. وأيضا فإنك ترى حرم الملوك، وغيرهم، يكشفون للطبيب من أسرارهم، ما لا يستجيزون كشفه لرجالهم. فبذلك، وأشباهه، وجب لصناعة الطب الشرف، ولأهلها التقدم على سائر أهل الصنائع والمهن.

ولعل قائلا يقول: إن الفلسفة التى هى مقومة النفوس أشرف من صناعة الطب! فنقول له: إن الفلسفة لعمرى شريفة لشرف موضوعها، غير أنك لا تقدر 〈أن〉 تخرجها عن أن تكون طبا للنفوس. فإذاً كل فيلسوف طبيب، وكل طبيب فاضل فيلسوف. فالفيلسوف لا يقدر على إصلاح غير النفس، والطبيب الفاضل يقدر على إصلاح النفس والبدن جميعا. فإذن الطبيب يستحق أن يقال فيه: إنه المتشبه بأفعال البارئ تعالى، بحسب طاقته. وهذا هو بعض حدود الفلسفة. وفيما ذكرناه من هذا الباب كفاية.

الباب الثالث عشر فى أن الطبيب يجب له التشريف بحسب مرتبته من صناعة الطب من الناس كافة ولكن تشريفه من الملوك وأفاضل الناس ينبغى أن يكون أكثر

ونقول إن من ذم الطبيب فى نفسه، فمن الفضل كشف جهله، لأنه من أدون طبقات الناس. والدليل على ذلك أنك لا تجده يستغيث — إذ عرض له مرض — بأهل، ولا بإخوان، لكن بالطبيب فقط، فعند ذلك يفتضح رأيه هذا، ويبين جهله. وأيضا فقد تقدم لنا القول بأن الله تعالى هو الشافى للمرضى، الحافظ لصحة الأصحاء، فهو الطبيب حقاً، وهو تبارك علم الناس ما به يحفظون صحتهم، وما به يعالجون أمراضهم. فمن ذم صناعة الطب، فقد ذم أفعال البارئ عز وجل.

وأما من ذم، من أهل صناعة الطب، القوم الذين قد رضوا منها بالاسم، والتكسب، فقط فإنى لا ألومه على ذمهم، لأنهم قد جعلوا ترسمهم بها خدعا، ومخاريق، وشباكا، ومصايد، يصطادون بها كثيرا من الناس، ويكتسبون بذلك دراهمهم. ولعمرى إنهم للذم، والسب، مستحقون، لما لم يجهدوا أنفسهم فى إصابة حقيقة صناعتهم. ولما عدموا حقيقتها، صاروا يدبرون المرضى بجهل. فهم على المرضى أشد من الأمراض، بما يكسبونهم من الآفات، والعطب.

ولذلك وجب على أهل العقول إكرام المتحققين بصناعة الطب، وقاصدى حقيقتها. ومن المعلوم أن هؤلاء هم أصحاب عدل، وعفة، وشجاعة، ورأفة، وقناعة، ونصفة يؤثرون الصدق، ويأبون الكذب، ويكرهون الآثام، ويبعدون عن الحرام. فكل عادل، عفيف، منصف، رؤوف، ذى أخلاق فاضلة، فهو يعرف، بما فيه من الفضل، فضل صناعة الطب، وأهلها.

ولما كان الملوك والرؤساء، بما خصهم الله به من أنواع السعادات، يؤثرون السعادات، ويحبون الفضائل، وأهل الفضل، أكثر من غيرهم، ممن دونهم، وجب لذلك أن تكون عنايتهم بتقويم هذه الصناعة، أكثر من غيرهم، لتتضح حقيقتها، ويظهر نفعها للخاص، والعام، فيبين شرفها، فتكون الملوك العانيون بتقويمها، وبكشف حقيقة ما فيها، أعظم نفعا للناس منها،

مشكورين، محمودين، من سائر الناس، وعند الله مقدمين، ومنه مثابين. هذا مع ما يخلص لهم من النفع لأجسامهم، والفضل لنفوسهم. وحسب من حصلت له هذه الفوائد شرفا بها، ونفعا منها! وحسب الطبيب هذا الشرف، وهذه المنزلة الجليلة عند الله، وعند أوليائه، وسائر أبناء نوعه، التى لا يفى بها غلاء الجواهر، ولا كثير الأموال!

فأما من لم يكتف بهذه المرتبة العالية من الأطباء، لكنه رغب فى منافسة أهل الدنيا عليها، فطلب جمع الذهب والفضة، وتشاغل بجمعهما عن اكتساب فضائل صناعته، والبحث عن دقيق معانيها، ولطيف أسرارها، فقد بان بذلك جهله بمنزلتها، لأنه باع النفيس بالخسيس، والشريف، الباقى، الدائم، بالحقير، الزائل، الداثر، وانكشف بذلك قلة معرفته بسير أفاضل الأطباء، وبما يؤول إليه حال من رغب فى علم هذه الصناعة، وعمل بعلمها، من الدنيا والآخرة.

فأما جهله بسير أفاضل أهلها، ومخالفته لآرائهم فيها، فيبين بما نذكره من سيرهم فى هذا الباب الآن، وفيما يأتى بعد فى الأبواب الآتية، من سيرهم، وأخبارهم، مع ملوك اليونانيين، وغيرهم، وإن كان ما نذكره قليلا من كثير.

من ذلك ما حكاه جالينوس عن بقراط، لما وجه بعض الملوك إليه بقناطير كثيرة من الذهب، وبذل له كرامات كثيرة، ليصير إليه، ولم يكن ذلك صوابا عنده، لضرب من السياسة، فكبرت نفسه عن ذلك، ولم يلتفت إليه.

ومن ذلك أيضا 〈أن〉 جالينوس لما سلك طريق صناعة الطب، فى علاجه برومية لأولاد يمس الفيلسوف، ولابن خاريلمبس، صاحب المراقد، ولغيرهما، ممن شفاهم الله على يديه، وبان فضله، وعرف قدر منزلته من الصناعة، فحسده أطباء رومية، وأخذوا فى عناده، فلم ير مقاومتهم، وسلوك طرقهم، ولا التفت إلى مكاسبه، ورياسته، بل رأى الانصراف إلى بلده، ليستعمل هناك الواجب، مع قناعته بأهل بلده الذين كانوا أفاضل، علماء، أخبارا، لأن العالم الفاضل يرى أن موته خير له من كونه بين جهال أشرار، وإن سعدوا بالجد.

وقد حكى جالينوس عن قدماء اليونانيين أنهم كانوا يصورون التابعين لذاتهم، وأهل الكسل والتراخى، وهم المتكلون على جدهم فقط، بصورة تدل على العجز، وقلة الفهم، ورداءة الطبع، وكثرة الجهل، والشر، وهى صورة امرأة عمياء، قائمة على كرة، بيدها سكان سفينة، تدبر أهل تلك السفينة، عند شدة قد لحقتهم. فلسوء بختهم، اتكلوا فى تدبيرهم على تدبير عاجز شرير. فإنهم عن قليل

سيهلكون، ولا ينفعهم من اتكلوا على تدبيره شيئا، بل يهزأ بهم، ويضحك عليهم. وكذلك حال من اتكل على سعادة بخته من الأطباء، وغيرهم. فإنه عند زوال سعادته يبقى صفرا من الفضائل، وخاصة عند الشيخوخة.

ويصورون الحريص على اقتناء الفضائل، والعلوم، والصنائع الشريفة، بصورة تدل على العفة، والعدل، والخير، وحب الجميل، وهى صورة شاب جميل الصورة جمالا طبيعيا، لا اكتسابيا، حسن الهيئة، جالس على جسم ذى ست سطوح معتدلة متساوية، ووجهه طلق، وحوله تلاميذه، وطالبو العلم، مطيعون له، لا خلاف بين بعضهم وبعض، ولا يحسد بعضهم بعضا على الأمور الخسيسة، كحسد أهل المراتب الدنياوية، وذوى اليسار بعضهم بعضا.

قال: وذلك أن الله تبارك وتعالى ليس يختار الفضيلة فى الغناء واليسار. لكن يؤثر ويقدم من حسنت سيرته، وكان فى صناعته متقدما عاليا، وكان تابعا لوصايا الله تعالى، لازما لها، ويعالج صناعته على المذهب اللازم للسنة والشريعة. فذلك هو الذى يكرمه الله، وبحبوه، ويؤثره، ويقدمه فى المرتبة على سائر من يقف بين يديه، ولا يزال حافظا له دائما.

قال: وهذا الجمع إذا تفكرت فيه، وأخطرت ببالك كيف هو، دعتك نفسك مع ما تدعوك إليه من التقبل له، والامتثال لآثاره، إلى أن تسجد لهم، فضلا عمن سوى ذلك، نحو سقراطيس، واوميرس، وابقراط، وفلاطون، ومحبى هؤلاء، وأصدقائهم، الذين يكرمهم، كما يكرم المتألهين. وأما سائر من يتبع الله، ويلزم سبيله، فليس منهم أحد يخذله الله، لأنه ليس تشتمل عنايته من فى المدن من الناس المقيمين فقط، لكنه يعنى بمن يسير أيضا فى البحر.

فهذا من كلام جالينوس، وأمثاله، مما يدل على أن أهل هذه الصناعة خاصة ينبغى أن يكونوا فى الغاية القصوى من هذه الأوصاف المحمودة، ولا يرغبون فى الدنيا، ولا يتكلون على سعادة الجد فقط، بل يأخذون نفوسهم باقتناء الفضائل علما وعملا، كسيرة قدمائهم، ليكونوا عند الملوك، وسائر الناس، بالصورة التى يستحقونها، الجليلة، الرفيعة. وكيف لا تكون منزلتهم عندهم كذلك، وقد ملك الملك الطبيب نفسه، وجسمه، واطمأن إليه، فى روحه، ومهجته، ووثقه على حرمه، وأولاده، ولا شئ أعز من ذلك عند الملك. ولذلك يجب على الملك، وعلى جميع من لاذ به، أن يعرفوا حق الطبيب، وقدر صنعته، فيجلونه ويكرمونه ويأنسون به، ولا يدخلون على قلبه رعبا، ولا يستقبلونه بما لا يجب ولا يقبلون فيه قول واش، ولا حاسد، ولا يتهمونه، بل يفعل

معه كما فعل الإسكندر، لما وجهت إليه أمه تحذره من طبيبه، لئلا يسمه. فدعا بالطبيب عند ورود الكتاب عليه بذلك، فقال له: جئنى بشربة، لأشربها! فلما أحضر له الطبيب الدواء، تناول الإسكندر الشربة من طبيبه بيمينه، وناوله الكتاب بيساره، وقال له: هذه منزلتك عندى، وهذه ثقتى بك! فازداد ذلك الطبيب من صرف همته، وشغله ليله ونهاره، بما يصلح شأنه، من حفظ صحته، وعلاجه.

وكذلك يجب على الطبيب أن تكون همته، ليله ونهاره، الدرس، والاهتمام بعلم صناعته، ليوجد عنده ما يفرغ إليه فيه، وبذلك ينال الرتب عند الله، وعند الملوك، حتى يشركهم فى رتبهم، وأموالهم، كما حكى جالينوس عن ماليقوس الطبيب، أنه عالج بنات أوفروطس اللواتى وسوسن، بشرب خربق، وغيره، وبرأن، أنه صار ختنا للملك، وشريكا فى الملك.

وكذلك نال قوراليس الطبيب، لما حملت الريح السفينة فى البحر، وصار إلى بلد فاريقى، وعالج ابنة الملك لذلك البلد، زوجه الملك بابنته، وورثه ملكه بعده.

وكذلك حكى عن ارسطراطس، حين دعاه بعض ملوك الروم، لعلاج ابنه، ولم يكن له سواه، فنظر الفتى، وجس عرقه، ورأى ترتيب مجسته ترتيبا مستويا، بانقباض وانبساط. فخمن أن ألمه فى نفسه، لا فى بدنه. فأمر الطبيب بكراس، جلس الملك، والفتى، والطبيب، عليها. وأمر بإعراض كل غلام، وجارية، فى الدار عليهم، ونبض الفتى فى يد الطبيب، وهو لازم لترتيبه، إلى أن مرت بعض الجوارى، فتغيرت المجسة، واضطربت، وفسد الترتيب، وارتعد الفتى، وتغير لونه. فلما فطن الطبيب لذلك، وعلم أنه عاشق لها، أمسك حتى انقضى المجلس، وسأل الطبيب عن تلك الجارية، فاخبر بأنها حظية الملك التى لا يرى الدنيا إلا بها. فانصرف، ووعد الملك بالعود فى غد، فلم يعد كراهة أن يلقى الملك بذلك. فأحضره الملك، وسأله عن تأخره، وقال له: أنت تعلم شغل قلبى بابنى، وهو وارث الملك بعدى، ومحله من نفسى! قال له الطبيب: تأخرت حتى وقفت على دائه. قال: وما هو؟ قال: عاشق لامرأتى! فأطرق الملك، ثم قال للطبيب: فماذا ترى؟ قال: الرأى للملك، لا لى! قال: أرى لك أن تؤثرنى لها! قال له: أيها الملك! وتستحسن هذا؟ فقال: نعم! إن الملك يعوضك مكانها، ويخلفها عليك، ويعطيك أملك! فقال: إن كان الملك يرى هذا، ويستحسنه، فإن الفتى إنما هو عاشق جارية الملك! فأورد على الملك من ذلك أمرا عظيما. فأطرق الملك مفكرا طويلا. قال له الطبيب: أيد الله الملك! إن من النساء عوضا، وهن موجودات فى كل وقت، ووارث الملك، وولده، المجيب، العاقل، اللبيب، ليس فى كل دهر يتهيأ، ويوجد، وليس منه عوض! فركن الملك إلى قوله، وزوج الفتى جاريته، فبرأ. فأمر الملك بحمل الطبيب على مركوب من مراكيبه، وساق إليه عدة من

دوابه، ووصله بعشرة أرطال من الذهب، وخلع سنية.

وحكى عيسى بن ماسه الطبيب، أنه أخبره يوحنا بن ماسويه، أن الرشيد رحمه الله قال لجبريل بن بختيشوع، وهو حاج بمكة: يا جبريل! علمت مرتبتك عندى؟ قال: يا سيدى! وكيف لا أعلم؟! قال له: دعوت لك والله فى الموقف دعاءً كثيرا! ثم التفت إلى بنى هاشم فقال: عسى أنكرتم قولى له؟ فقالوا له: يا سيدنا! ذمى! فقال: نعم، ولكن صلاح بدنى، وقوامه، به، وصلاح المسلمين بى، فصلاح المسلمين بصلاحه، وبقائه! فقالوا: صدقت، يا أمير المؤمنين!

قال: وأخبرنى يوحنا بن ماسويه أنه اكتسب من صناعة الطب ألف ألف درهم، وعاش بعد قوله هذا ثلاث سنين أخر. وكان الواثق مشغوفا، ضنينا به. فشرب يوما عنده، فسقاه الساقى شرابا غير صاف، ولا لذيذ، على 〈غير〉 ما جرت به العادة. وهذا من عادة السقاة، إذا قصر فى برهم. فلما شرب القدح الأول، قال: يا أمير المؤمنين! أما المذاقات، فقد عرفتها، وعددتها، ومذاق هذا الشراب خارج عن طبع المذاقات كلها! فوجد أمير المؤمنين على السقاة، وقال: تسقون أطبائى، وفى مجلسى، بمثل هذا الشراب؟! وأمر ليوحنا لهذا السبب، وفى ذلك الوقت، بمائة ألف درهم، ودعا بسمانة الخادم، فقال له: احمل إليه المال الساعة! فلما كان وقت العصر، سأل سمانة، هل حمل مال الطبيب، أم لا؟ فقال: لا بعد. فقال: يحمل إليه مائتا ألف درهم الساعة! فلما صلوا العشاء، سأل عن حمل المال، فقيل له: لم يحمل بعد. فدعا سمانة، وقال له: احمل إليه ثلثمائة ألف درهم! فقال سمانة لخازن بيت المال: احملوا مال يوحنا، وإلا لم يبق فى بيت المال شئ! فحمل إليه من ساعته.

قال: وأخبرنى يوحنا أيضا عن المعتصم أنه قال: سلمويه طبيبى، أكبر عندى من قاضى القضاة، لأن هذا قاض، وهو يحكم فى مالى، والطبيب عندى يحكم فى نفسى، ونفسى أشرف من مالى، وملكى!

ولما مرض سلمويه الطبيب، أمر المعتصم ولده أن يعوده، فعاده، ثم قال: أنا أعلم، وأتيقن، أن لا أعيش بعده! ولم يعش بعده تمام السنة.

وحكى عن اسرائيل بن زكريا الطيفورى أنه وجد على أمير المؤمنين المتوكل، لما احتجم، بغير إذنه، ولا عن أمره. فافتدى غضبه بثلاثة آلاف دينار، وضيعة تغل فى السنة خمسين ألف درهم، وهبها له، وسجل له بها.

قال: ورأيت المتوكل وقد عاده يوما آخر، وقد غشى عليه. فصير بيده، تحت رأسه، مخدة ديباج،

ثم قال للوزير: يا عبيد الله! هذا يحينى، وحياتى معلقة بحياته، إن عدمته، لا أعيش! ثم اعتل، فوجه إليه بسعيد بن صالح حاجبه، وموسى بن عبد الملك كاتبه، يعودانه.

قال: ورأيت بختيشوع بن جبريل، وقد اعتل، فأمر أمير المؤمنين المتوكل، المعتز أن يعوده، وهو إذ ذاك ولى عهد. فعاده ومعه محمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف التركى.

قال: وأخبرنى إبراهيم بن محمد المعروف بابن المدبر إن المتوكل أمر الوزير، وقال له شفاها: اكتب فى ضياع بختيشوع، فإنها ضياعى، وملكى! فإن محله منا، محل أرواحنا من أبداننا.

قال: ورأيت إبراهيم بن أيوب الأبرش وقد عالج إسماعيل أخا المعتز، وبرئ. فكلمت أمه قبيحة المتوكل أن يجزيه. فقال لها: لم لا تجزينه؟ ليس عندك ما تعطينه، حتى أعطيه أنا مثله؟ وإبراهيم واقف بين أيديهما. فأمرت قبيحة، فاحضرت بدرة دراهم لإبراهيم، وأمر المتوكل بإحضار مثل ذلك. فأحضرت قبيحة بدرة أخرى، فأمر المتوكل بإحضار مثلها. فلم يزالا يأمران بإحضار بدرة وبدرة، حتى احضر ست عشرة بدرة. فأومأت قبيحة إلى جاريتها أن تمسك. فقال إبراهيم سرا: لا تقطعى، وأنا أرد عليك! فقالت له: أملأ الله عين الآخر! فقال لها المتوكل: والله لو أعطيته إلى الصباح، لأعطيته مثل ذلك. فحملت البدر إلى منزل إبراهيم.

قال: وأخبرنى يوحنا بن ماسويه أن إسرائيل الكبير المعروف بأبى قريش كان صيدلانيا، يجلس على باب قصر الخليفة، وكان دينا صالحا فى نفسه، وأن الخيزران، جارية المهدى، وجهت بمائها، مع جارية لها، إلى طبيب. فخرجت الجارية من القصر، فأرت إسرائيل الماء. فقال لها: هذا ماء امرأة حبلى بغلام. فرجعت جارية الخيزران بالبشارة، فقالت لها: ارجعى إليه، واستقصى المسألة عليه! فرجعت. فقال لها: ما قلت حق. ولكن لى عليك البشرى! قالت: كم تريد من البشرى؟ فقال لها:جام فالوذج وخلعة سرية! فقالت له: إن كان هذا حقا، فقد سقت إلى نفسك خير الدنيا، ونعيمها! وانصرفت. فلما كان بعد أربعين يوما، أحست الخيزران بالحبل، فوجهت إليه ببدرة دراهم، وكتمت الخبر عن المهدى. فلما مضت الأيام، ولدت موسى، أخا هارون الرشيد. فعند ذلك أعلمت المهدى، وقالت له: إن طبيبا على الباب، أخبرنى بهذا منذ تسعة أشهر! وبلغ الخبر جورجس بن جبريل، فقال: كذب ومخرقة! فغضبت له

الخيزران، وأمرت، فاتخذ له بين يديها، وهى قائمة مشدودة الوسط، مائة خوان فالوذج، ووجهت بذلك إليه، مع مائة ثوب، وفرس بسرجه، ولجامه.

وما مضى بعد ذلك إلا قليل، حتى حبلت بأخيه هارون الرشيد. فقال جورجس للمهدى: جرب أنت هذا الطبيب! فوجه إليه بالماء. فلما نظر إليه، قال: هذا ماء ابنتى أم موسى، وهى حبلى بغلام آخر. فرجعت الرسالة بذلك إلى المهدى، وأثبت اليوم عنده. فلما مضت الأيام، ولدت هارون. فوجه المهدى إلى إسرائيل، فأحضره، واقيم بين يديه. فلم يزل يطرح عليه الخلع، وبدر الدنانير والدراهم، حتى علت على رأسه، وصير هارون وموسى فى حجره، وكناه أبا قريش، أى: أبا العرب. فقال لجورجس: هذا شئ أنا بنفسى جربته. فصار أبو قريش نظير جورجس بن جبريل، بل أكثر منه، حتى تقدمه فى المرتبة. وتوفى المهدى، واستخلف هارون الرشيد، وتوفى جورجس وصار جبريل ابنه تبع أبى قريش فى خدمة الرشيد، وخلف اثنين وعشرين ألف دينار، مع نعمة سنية.

وقالوا: إن فى ذلك الوقت ورد ماسويه أبو يوحنا مدينة السلام، وكان جبريل مع الرشيد، وكان تلميذا فى بيمارستان جندى سابور ثلاثين سنة، فلما ارتفع جبريل. قال ماسويه يوما من ذلك: هذا جبريل قد بلغ الصكاك، ونحن فى البيمارستان! فبلغ ذلك جبريل، فوجه، وأخرجه من البيمارستان. فبقى منقطعا منه. فصار إلى بغداد ليعتذر إلى جبريل، ويخضع. فلم يزل على بابه دهرا طويلا، فلم يأذن له. ويتراءى له، إذا ركب، فلا يكلمه. فلما ضاق به الأمر، ولم يبق معه نفقة، صار إلى دار الروميين التى فى الجانب الشرقى. فقال لقس البيعة: اكرز لى، لعل يقع لى شئ، وأنصرف، فإن أبا عيسى ليس يرضى عنى، ولا يكلمنى! فقال له القس: كنت فى البيمارستان ثلاثين سنة، ولست تحسن شيئا من الطب؟! قال: بلى! أنا كحال، وأعالج الجراحات! فاتخذ له صندوقا، وأعطاه لبدا، وأجلسه على باب المحرم، على باب الفضل بن الربيع الوزير. فلم يزل يكتسب الخمسة، والعشرة الدراهم، والأقل، والأكثر، إلى أن حسنت حاله قليلا. فاشتكت عين خادم الفضل بن الربيع، وكان يعزه. فوجه إليه جبريل بالكحالين، فعالجوه بكل صنف من العلاج، فلم ينتفع به. واشتد وجعه، حتى طار النوم عن رأسه، وأصابه أرق شديد. فخرج من القصر هائما على وجهه من الضجر، فرأى ماسويه، فقال له: يا شيخ! ما تصنع هاهنا؟ إن كنت تحسن شيئا من الكحل، عالجنى، وإلا فقم من هاهنا! فقال: يا سيدى! أحسن وأجيد! فقال: داونى! فدخل إليه، وقلب

جفنه، وكحله، وسكب على رأسه، وسعطه. فنام الخادم، وهدأ. فلما أصبح، وجه إلى ماسويه بساف خبز سميد، وجام حلوى، وجدى، ودجاجة، ودينارين، وعشرة دراهم، فقال: هذا لك فى كل يوم، والديناران والدراهم فى كل شهر. فبكا ماسويه فرحا، وتوهم الرسول أنه قد استقله، فقال: لا تغتم، فإنا نزيدك! فقال: يا سيدى! رضيت منك أن تذر على هذا، ولا أريد منك الزيادة! فلما رجع الفضل، أخبره خادمه بما كان. فكان بين مصدق، ومكذب.

فلم تمض الأيام والليالى، حتى اشتكت عين الفضل بن الربيع نفسه. فوجه إليه جبريل الكحالين، فلم يزالوا يعالجونه، فلم ينتفع بشئ من ذلك. فأدخل الخادم ماسويه إليه ليلا، فلم يزل يكحله إلى ثلث الليل، ثم سقاه حب الأيارج، فحركه خمسة مجالس، وأصبح وقد برأت عينه. فحضر جبريل، فقال الفضل: يا أبا عيسى! هاهنا رجل طبيب، يقال له ماسويه من أقره الناس بالكحل! فقال جبريل: ومن هذا؟ أهو الذى يجلس على الباب؟ قال: نعم! قال: كان أكارا لى، فلم يصلح للأكارين، فطردته، وما عالج الطب قط! فإن شئت فأحضره، وأنا حاضر! وتوهم جبريل حين يدخل، يسجد، ويقف بين يديه. فأمر، فأحضر ماسويه، فدخل، وسلم، وجلس بحذائه. فقال له جبريل: ماسويه! صرت طبيبا! فقال له: ألم أزل طبيبا. أنا خادم فى البيمارستان منذ أربعين سنة، 〈و〉تقول لى هذا القول؟! وانصرف جبريل، وهو خجل. وأجرى الفضل على ماسويه ثلثمائة درهم فى كل شهر، وعلوفة دابتين، ونزل خمس أنفس. ووجه، فحمل عياله من جنديسابور، ويوحنا معهم صبيا حينئذ.

فما مضت الأيام والليالى، حتى اشتكت عين الرشيد، فقال له الفضل: يا أمير المؤمنين! طبيبى ماسويه ليس له نظير! وأخبره بقصته فى نفسه، وبقصة غلامه. فأمر الرشيد، فأحضر ماسويه. فقال له: تحسن شيئا من الطب سوى الكحل؟ قال له: يا أمير المؤمنين! وكيف لا أحسن، وأنا أخدم المرضى فى البيمارستان منذ أربعين سنة؟! فقال: أدن منى! فدنا، ونظر إلى عينه، فقال: الحجامة، يا أمير المؤمنين! فحجمه على ساقيه، وكحله، وقطر فى عينه، فبرئ بعد يومين. فأجرى له ألفى درهم فى كل شهر، وعلوفة، ومنزلا، فألزمه الخدمة، فصار نظير جبريل فى الدار، ويحضر بحضوره، ويصل حيث يصل، إلا أن أرزاق جبريل كانت فى ذلك الوقت خمسة آلاف، ومعونة خمسين ألف درهم، وأنزاله ضعف ما اجرى لماسويه.

واعتلت بانو أخت الرشيد، فلم يزل جبريل يعالجها بأنواع العلاج، فلم تنتفع به. فاغتم الرشيد بعلتها، فقال ذات يوم: إن ماسويه الكحال قال لنا أنه خدم فى البيمارستان للمرضى، أربعين سنة، فليدخل على عليلتنا! فلعل عنده فى أمرها حيلة. فأحضر جبريل وماسويه. فقال ماسويه لجبريل: بماذا عالجتها منذ أول يوم اعتلت إلى هذا اليوم؟ فلم يزل جبريل يصف ما عالجها به. فقال ماسويه: أما العلاج فصالح، والتدبير مستو، ولكنى أحتاج أراها. فأدخل إليها. فلما نظر إليها، وتأملها، وجس عرقها، قال لأمير المؤمنين: طول البقاء لك، يا أمير المؤمنين! هذه تقضى بعد غد، ما بين ثلاث ساعات إلى نصف الليل. فقال جبريل: لا بل تعيش، وتبرأ! فأمر الرشيد أن يجلس ماسويه فى بعض دوره، فى القصر. فقال: والله لأغرفن ذلك، ولأسبرنه! فوالله ما رأينا بعلم الشيخ بأسا. فلما حضر الوقت الذى حده، توفيت. فلم يكن للرشيد همة حين دفنها، حتى جلس، وأحضر ماسويه، فساءله، وأعجب به، وكان أعجمى اللسان، ولكن كثير التجارب. فصيره نظير جبريل بن بختيشوع فى الرزق، والمعونة، والأنزال، والمرتبة، وغير ذلك.

ثم اتخذ ماسويه علماء، وحكماء، يعلمون ابنه يوحنا، فخرج فاضلا فى أهل عصره فى العلم. وكذلك جبريل أيضا علم بختيشوع ابنه، فخرج أديبا، فاضل النفس. فلما توفى الرشيد، وتوفى ماسويه، وأفضت الخلافة إلى المأمون، صار يوحنا طبيب المملكة، وأقر الناس أنه ما خدم ولد العباس قبله مثله.

فما ذكرته من هذه الأخبار فى هذا الباب كفاية فى الدلالة على منزلة الأطباء، بحسب مراتبهم من صناعة الطب عند الملوك، وأفاضل الناس.

الباب الرابع عشر فى نوادر جرت لبعض الأطباء، بعضها من جنس تقدمة المعرفة وهى تحث الطبيب على تعرف طرق الإنذار، وبعضها مستطرفة تحث الطبيب على اختبار تحصيل مستطبه لئلا ينسب الفساد إلى الطبيب

إن من أعظم آفات الطبيب والمريض جميعا، سوء تحصيل المريض، ومن يخدمه. إذ كان من الناس من هم قليلو التحصيل، فى حال صحتهم، لا يفهمون ما يخاطبون به، ولا يعون ما يشار به عليهم، فكيف فى حال المرض؟! فلذلك يجب على الطبيب، قبل أن يشير على المريض بمشورة، أن يختبر عقله، وتحصيله، وعقل خادمه المتولى لخدمته. فإن وثق بجودتهما، أشار بما يراه من الأدوية، والتدابير، وإن لم يثق بصحتهما، أمسك، لئلا يقع التصحيف، والاشتباه فى أسماء الأدوية، وفى مقاديرها، وفى إصلاحها، وفى أوقات استعمالها، فيهلك بذلك المريض، وتنساق إلى الطبيب التهمة، وسوء الذكر، مع ما يضيع من تعبه، كالذى يعرض لمن بذر بذرا جيدا نقيا فى أرض رديئة، فإن بذره يهلك، وتعبه يضيع.

وما ذكرناه من هذا المعنى، هو داخل فى قول بقراط الذى أمر به الطبيب، أن لا يقتصر على أن يعمل ما ينبغى أن يعمله الطبيب من المشورة بما يجب فقط على القوانين التى رسمها له ابقراط، وغيره، ويهمل ما يحتاج إليه المريض من الأمور النافعة فى علاجه. فإن ذلك غير كاف فى علاج المريض، ولا تصدق حينئذ القوانين، ولا تصح الأحكام، إلا مع إحكام جميع تلك الأشياء التى أحدها ما ذكرناه من تحصيل المريض، وخدمه، مع ثقتهم على المريض، ومحبتهم لصلاح حاله.

وهذا قول بقراط بلفظه، قال بقراط: وقد ينبغى لك ألا تقتصر على توخى فعل ما ينبغى، دون أن يكون المريض، ومن يحضره، كذلك، والأشياء التى من خارج!

ولا يشك من يفهم، أن قوله «المريض ومن يحضره»، أنه إلى ما قلناه أشار. ولما كانت هذه المشورة التى أشار بها بقراط قد أهملها كثير من المتوسمين بصناعة الطب، إما لجهل بها، أو لتغافل عنها بقصد، لتسوغ لهم الحيلة على التكسب، والانتفاع بالعامة. وساعدهم على ذلك، تركهم وما يعملونه من أنواع الخطأ المفسد لمحاسنها، 〈من جهة〉 الملوك، ومن إليه النظر فى مصالح الناس. فإنهم لما أهملوا النظر فى هذه الصناعة الجليلة، المصلحة لنفوس الناس، وأجسامهم، اتسعت الحيلة

لأهل الشر بها، وقلت المبالاة بالفساد الداخل من جهة إفساد الداخلين فيها.

من ذلك ما نشاهده من مشورة الأطباء، بغير توقف، ولا بحث، ولا قانون صناعى، على كل من جاءهم، من أى أصناف الناس كان. 〈و〉قد جرت عادات كثير من الناس، أن يوجهوا بقارورة الماء إلى الطبيب، مع أدون خدم المنزل، إما صبى، أو عجوز، أو مملوك عجمى، وقصدهم بذلك أن يفهم عن الطبيب كل ما يحتاج إليه المريض. 〈فـ〉ـبغير شك أن الطبيب لا يمكنه أن يشير بشئ، أو يفهم جميع حالات المريض. أفترى، ليت شعرى! من يفهم ذلك: الصبى، أم العجوز، أم الأعجمى؟! فما يتمالك الطبيب 〈عن〉 أن ينظر إلى القارورة، حتى يبادر بالصفة، ويأمر أيضا غلامه بدفعها إلى الرسول، إن كان ممن يرجى أخذ فضته. فأقسم بالله أن كثيرا من هؤلاء الأطباء، لو سأل سائل 〈أحدهم〉: ما الذى علمته من العلامات، من هذا الماء الذى رأيته، ولم وصفت ما وصفته؟ لما وجد عنده جوابا يقنع به السائل له.

ولا فيهم أيضا من يتوقف، إلى أن يجد من فيه تحصيل، لئلا تفوته الفضة، ولا من يخشى من عتب عاتب، ولا يخاف لوم لائم. ولذلك قد فشا فيهم الكسل، وسهل عليهم التوانى، فلا ناظر فى علم، ولا قارئ لكتاب! ولا تجد منهم من يسأل عن تعلم شئ من الصناعة، ولا من يذاكر صاحبه فى مسئلة، أو فى أمر دواء، أو غيره، لكن 〈منهم〉 من يفرغ من كسب الدراهم، 〈ﻓﻴـ〉تشاغل بشرب الأقداح الكبار، واللعب بالشطرنج وأشباه ذلك.

وإذا كان الأمر على ما حكيناه، فلذلك يكون الأطباء مسرورين بقلة فهم من يشاورهم، فرحين بسوء تحصيلهم. فأما إن جاءهم أحد يستفهم أمر مرض من الأمراض، أو أمر سبب علامة، أو يناظرهم فى دواء من الأدوية، أو بعض أجزاء الطب، هربوا من كلامه، واجتهدوا فى أن لا يجتمعوا معه فى موضع من المواضع، لئلا ينكشف بذلك جهلهم عند العامة، وتفتضح دهثمتهم، وكيف لا يهرب هؤلاء الأطباء من الآحاد المناظرين لهم على صناعتهم، وهم يخدمون ألوفا من الناس لا يعرفون من أخطائهم شيئا يتصورونه بصورة الصواب، ويعتقدون فى أطبائهم أنهم حذاق، بسبب صناعة الطب؟! والسبب فى ذلك، مع جهلهم، وقلة انتقادهم، أنهم يجدونهم يتولونهم، ويكثرون الترداد إلى منازلهم، ويرخصون عليهم الأدوية، وكثير منها يأخذونها بغير ثمن. فهم لذلك أفاضل عندهم، ولا يفكرون فى أنهم 〈قد〉 يهلكون عند مرضهم، بتدبير هؤلاء الأطباء لهم.

وكيف لا يكون بهذا الجهل، وسوء العقل، والبحث، قوم لم يتأدبوا، ولا عرفوا من أمور الدنيا شيئا، إلا مباكرتهم إلى التكسب بالصنائع، وتشاغلهم نهارهم أجمع بالحيلة على جمع الدراهم، ثم إذا انصرفوا إلى منازلهم، تعشوا وناموا؟! كذلك يجرى أمرهم طول زمانهم. أترى من أين يقتنى أمثال هؤلاء أدبا أو علما؟ وهل منزلة هؤلاء، ومن هم بصورتهم من الأطباء، إلا بصورة البهائم التى هى سائرة مع طبعها؟!

ولقد سألنى شيخ من أبناء سبعين سنة، وفوقها، يوما، وقد كنت أشرت عليه بأن يغذى مريضا كان له، كنت أعوده، بمزورة، وهو واقف بين يدى قصاب قد ذبح شاة مسنة هرمة. فقال لى: هل آخذ من هذا اللحم؟ فقلت له: ولم تسألنى عن ذلك؟ فقال: أردت هل يصلح للمزورة التى أشرت بها؟ فنظرت إليه متعجبا منه. فقال لى: أراك تنظر إلى، ولا تجيبنى! قلت: نظرى إليك تعجبا منك، وأنت شيخ، لك فوق السبعين سنة، ولا تعلم أن المزورة لا تكون باللحم! ولو صلح أن تكون بلحم، هل كان يجوز أن تكون من هذا اللحم؟ ليس العجب منك، العجب ممن يدبر مريضا لك! ولم أعد إلى مريضه، خوفا أن يجيئنى ما هو أعظم من هذا، فينسب إلى.

ومثل ذلك أيضا جرى لى مع آخر من السوقة بحلب، كان به إسهال، دفعت إليه سفوفا، وأشرت عليه أن يتغذى بمزورة نيرباج. فلما جاءنى فى الغد شكا وقوف حاله. فأمرته بمعاودة تدبيره بعينه. فأخذ يذم المزورة، ويحلف أنه لن يعاودها. فقلت: لأى سبب؟ فقال: لأنها لم تكن طيبة. فعلمت أنه لم يهتد إلى جودة عملها، لأنه لم يكن خبيرا بالطبيخ، وكان عازبا. فقلت: صف لى كيف عملتها! فقال: أترانى لا أحسن إصلاح مزورة؟ فقلت: وما يضرك أن تعرض على ما عملته؟ قال: دققت الزبيب، وحب الرمان وعزلتهما، ثم وضعت الماء على النار، وثردت الخبز، وقطعت البصلة، وطرحتها مع قليل 〈من〉 الملح، وذلك الزبيب، وحب الرمان، على الخبز المثرود، وصببت عليه الماء الحار، وغطيته قليلا، وأكلته، فما كان طيبا. أحب ألا تصف لى مرة أخرى مزورة، فإنى ما أصبر على عملها!

ولقد حكى 〈أحد〉 الثقات من أفاضل من بالرقة عن طبيب كان بها، يقال له موسى، أنه أمر يوما لعليل شكا إليه مرضا وجده، فأمر أن يحبس ماءه، ويجيئه به باكرا. فلما كان فى السحر، وإذا بصائح فى باب داره يصيح: يا أبا عمرو! الحقنى، الله، الله فى! أغثنى! فقال لغلامه: بادر! فإن بعض

الأهل استقفى! وخرج، وتبع هو غلامه. فإذا بذلك الإنسان إحليله فى يده، وهو يصيح، ويضج،. فقال له موسى الطبيب: يا هذا الرجل! ما شأنك؟ قال: قلت لى: إحبس الماء! ولى من الثلث الأخير حابسه، وهو ذا أموت! فقال له: بادر يا هذا بل! فلما بال، وفرج عنه، واستراح قال له: يا هذا! إنما قلت: تبول فى إناء، وتحبس ماءك فيه، ليس هكذا! فقال: ما علمت! أجيئك غدا به! فلما كان من الغد، جاءه بالماء فى كوز من خزف!

فمن هذه مقادير أفهامهم، هل يجوز للطبيب أن يعول على تحصيلهم فى أمور أدوية المرضى وتدابيرهم؟!

وأعجب مما ذكرته، ما جرى ليهوذا بن أبى الشايا الطبيب مع امرأة جاءته بماء فى قدح. فنظر إليه، فأشار بما رأى فى الوقت. فانحرفت المرأة إلى ورائه قليلا، ثم أخرجت القدح ثانية. فأنكر أمرها، ثم قال: أليس قد رأيت هذا، وأشرت؟ فقالت: ليس هذا ذاك! فأشار بما رأى أيضا. ثم انتظرت قليلا، وعاودته بالقدح. فزاد إنكاره فى الأمور، وأخذ فى تقصى أمرها، فقالت: يا سيدى! لا تنكر أمرى! فإن لى جماعة من جيرانى أعلاء، فلما علموا أنى أريد أن أبكر إلى الطبيب، حملونى قواريرهم، فلم أطق حملها، فجمعتها كلها فى هذه القنينة، ومنها هو ذا أصب فى القدح، وأريك إياه! فلما سمع ذلك، قال لمن حضر عنده: يلومونى، إذا امتنعت عن الوصف لكل من جاءنى، ولعله أن ينسب ذلك منى إلى بخل، أو كسل. أيجوز للطبيب، مع ما هو ذا ترون، أن يصف لكل واحد؟

وحكى فى الوقت أنه امتحن فهم إنسان، جاءه يتشكى فى الوقت وجعا به. فأشار عليه بقرص، يأخذ يومه ذلك نصفه، ولغده نصفه، وبعد غده نصفه. فسمع ذلك الإنسان قوله، ولم ينكر منه شيئا، ومضى. فقال: يا قوم! كيف أشير على من لا يعلم أن القرص لا يجوز 〈أن〉 يكون له ثلاثة أنصاف!؟

ومن النوادر التى جرت لبعض الأطباء ببغداد مع بعض الناس، أنه جاء ذلك الإنسان إلى الطبيب، فشكا إليه أنه يجد مغصا، فسأله الطبيب: أى شئ أكلت؟ فقال: خبزا محترقا. فأخرج الطبيب من حقيبته مكحلة، وميل، وتقدم ليكحله. فقال له: يا هذا! وما الذى ينفع الكحل للمغص؟ قال: قصدى أعالج عينك! قال: عينى صحيحة، لا علة بها! قال له الطبيب: لو كان الأمر كما ذكرت، لكنت حين رأيت الخبز محترقا، لم تأكله!

ومن طرائف ما يجرى على الأطباء من العامة الجهال، مع كثرتها، وامتناع إحصائها، ما حكاه لى من أثق بقوله، أنه جرى بالموصل لرجل من المياسير مع طبيب كان له، وقال: أصلح له طبيبه شربة

مطبوخة، ووجه بها إليه فى قدح مسدود، وتقدم إليه أن يشربها نصف الليل، ولا يتحرك بعد شربها، بل ينضجع على فراشه. فتقدم إلى جاريته أن تضع القدح فى كوة فى البيت الذى هو نائم فيه، ليقوم نصف الليل، ويشرب الدواء. فاتفق أنه قام، وتشاغل، ونسى أن يشربها، وعاد إلى نومه، وأصبح وهو يظن أنه قد شربها. فلما أضحى النهار، ولم يقم شئ، وجه إلى الطبيب: إن الشربة لم تعمل شيئا، فما الذى تراه؟ فأمر بالمشى، والانتظار. فلما انتصف النهار، جاءه الطبيب، فوجده عاتبا عليه، ويقول: إنك قد قصرت فى إصلاح الشربة! فحلف له الطبيب، أنه لم يقصر فيها، 〈وقال〉: ولكن ادفعوا إلى الغلام القدح لأوجه فيه ما يحرك فعل الدواء! فلما طلبوا القدح، وجدوه والشربة فيه بحالها. فقال: أنسيت 〈أن〉 تشربها؟!

فهذه الأشياء، وأمثالها، مما تدل على قلة التحصيل، وهى توجب على الطبيب التوقى، والتحرز. ولذلك ذكرناها هاهنا. فيجب أن يتأدب بها، وبأمثالها، عقلاء الأطباء، ولا يستهينوا بها.

الباب الخامس عشر فى أن صناعة الطب لا يصلح أن يعملها كل من التمسها، لكن اللائقة بهم فى خلقهم وأخلاقهم

وكما أن الخمرة الفائقة فى الجودة، أيها الحبيب، لا يصلح أن تحفظ فى أى إناء اتفق، لكن الحافظ عليها لذيذ مذاقها، وصفاء لونها، وطيب رائحتها، وبالجملة سائر حالاتها المحمودة، إنما هو إناء موافق محمود، فكذلك الحال فى سائر العلوم، وأصناف الحكم. فإنه ليس يصلح أن تودع فى سائر النفوس، لكن فى النفوس الموافقة لها.

ولأن النفوس فى قواها، وأفعالها، تتبع أمزجة أبدانها، فلذلك ينبغى للمعلم، أن يختبر من المتعلم، حالات نفسه، قبل أن يعلمه. فإن وجدها موافقة للتعليم، أخذ فى تعليمه. وإن وجدها غير موافقة، رام إصلاحها. فإن تهيأ صلاحها، وإلا صان العلم، كالذى يعمله الزراع الحاذق، المشفق على الحب، فإنه متى لم يجد الأرض نقية، ولم يطمع فى تنقيتها، حفظ حبه، ولم يضيعه.

ولأن الأسباب التى تعوق المعلم عن التعليم، خاصة لصناعة الطب، هى عدة أسباب، والعلم بها ضرورى، فلذلك ينبغى أن تضم إلى الأصول التى هى ضامة لها، لكى تسهل معرفتها، وهذه الأصول هى ثلاثة: أحدها خروج مزاج البدن عن الاعتدال، وأعنى بخروج المزاج عن الاعتدال، الخروج الذى معه تتغير أفعال النفس وأخلاقها. والثانى الف العادات المذمومة، فى مصاحبة الأشرار، ومؤانسة الجهال، واتباع أفعالهم، واستحسان أخلاقهم. والثالث هو اجتماع الأمرين جميعا، وذلك هو أعظم فسادا، وأعسر صلاحا، وأن ينضاف إلى ذلك، أن يكون طالب تعلم صناعة الطب خاصة ليس قصده تعلمها، لشرفها فى نفسها، ولا لحلاوة منافعها لذاته، ولجسمه، ولأجسام أبناء نوعه، لكن قصده ليتعلمها، إنما هو لأسباب دنياوية من مال، وسلطان، أو غير ذلك. فإنه من الأحرى، ألا ينال منها كثير منال، ولا يحظى بما رجاه، بل لا يؤمن عليه ضد ذلك، مما أمل، لأنه دائما يخجل بين العلماء، ويفتضح فى أعماله عند الأدباء، والرؤساء. وإذا علم منه أنه معرض لما لا يقوم به تيقن علمه، كان تحت أخطار تقوده إلى الهلاك.

ومن المشهور أن اليسير من علم صناعة الطب يضر ولا ينفع. وذلك لأن أصغر فروعها متشبث بأعظم أصولها، بل مشتبك بجملة أصولها. وليست كسائر الصنائع التى من تعلق منها بأصل، أو فرع، لم يتعلق ذلك بغيره، فهو لذلك ينتفع، وينفع الناس بما يعمله، ولا يلحقهم مما جهله ضرر. ومثال ذلك صائغ، علم من الصياغة عمل خاتم، فهو دائما يعمل خواتم، ولا يضره، ولا غيره، جهله

بعمل الأسورة، والحانات مثلا.

فلذلك قال بقراط: الصناعة طويلة. ولذلك يجب أن يكون ملتمس هذه الصناعة من أولاد أهلها، قد عنى أبواه بتقويم مزاجه، وأخذاه بالعادات المحمودة فى تدابيره، وإصلاح أخلاقه، وبتلقينه، وتبصيره، ليكون بذلك معدا للتعليم بأيسر سعى.

فأما ملتمس هذه الصناعة من أبناء أهل الصنائع الأخر، فيكد، وما ينجح فى تعلمها، لأن النجار، والحداد، والدباغ، والحائك، مثلا، كل واحد منهم منصرف إلى صناعته، لا خبرة له بصناعة الطب، فيلقن ولده من أصولها، ما يلقنه الطبيب لولده ليله ونهاره. فإذا المقومون الذين قد راضهم أباؤهم من أهل صناعة الطب هم الذين يصلحون لتعلمها، لاكل من التمس تعلمها، كما قال جالينوس، فإنه قال: كما لا يصلح اتخاذ التمثال من كل حجر، ولا ينتفع بكل كلب فى محاربة السباع، كذلك أيضا لا تجد كل إنسان يصلح لقبول صناعة الطب، لكنه ينبغى أن يكون البدن والنفس ملائمين لقبولها.

وأيضا فقد بين إبقراط كيف ينبغى أن يكون البدن. من ذلك قوله فى شكل الأصابع، قال: شكل الأصابع ممن يعنى بصناعة الطب يجب أن يكون الذى فيما بينها واسعا، وأن تكون الإبهام مقابلة السبابة.

وأما النفس التى تليق لقبول الطب، فإنه جعل المحنة لها، بما أمر به من الأيمان. فمتى وجد الإنسان يمكنه حفظ ما أمر به فى كتاب الأيمان، علم أنه ملائم لقبول الصناعة، ومتى كان ممن لا يمكنه حفظ ما فى ذلك الكتاب لم يدن إلى تعلمها.

قال جالينوس: إن أحد الأسباب التى وضع إبقراط 〈من أجلها〉 كتاب الأيمان هو ما ذكرناه من امتحان الإنسان المريد تعلم صناعة الطب فى جسمه، ونفسه. ولأنا قد قدمنا فى الباب الأول من كتابنا هذا أوصاف الجسم المحمود، والنفس الفاضلة، فلذلك يستغنى عن إعادته هاهنا.

وأما السبب الثانى، فهو أن كثيرا من الصناعات، لا يمكن فيها أشياء، يمكن أن تضر من يستعملها. وأما صناعة الطب، فممكن فيها تلك الأشياء بأعيانها التى ينتفع بها، أن تضر أيضا. وللطبيب فى أكثر الأمراض أن يخلص المرضى، إن شاء، أو يقتلهم.

فلأن لا يدنى الطبيب فى وقت من الأوقات — بسبب منفعة من المنافع، ينالها على غير الواجب — مكان الأشياء التى ينتفع بها، أشياء تضر، تقدم بقراط، فعقد فى عنقه هذه الأيمان، فأحلفه أن

يكون دخوله إلى المرضى، طلبا لمنفعتهم، لا الإضرار بهم. من ذلك أنه قال لهذا السبب فى ذلك الكتاب، هذا القول قال، بقراط: وجميع المنازل التى أدخلها لمنفعة المرضى، وأنا بحال خارجة عن كل جور، وفساد.

ثم ذكر جالينوس سببا ثالثا لوضع بقراط لكتاب العهود والأيمان، وهو هذا القول، قال جالينوس: إن الذى قد كان فيما تقدم من معلم الطب إلى أسقليبيوس عهود وأيمان، تمنعهم من تعليم صناعة الطب أحدا خلا أولادهم. وكانت المواضع التى يتعلم فيهالطب ثلاثة، أحدها فى مدينة رودس، والآخر بمدينة قو، والثالث بمدينة قنيدس. إلا أن التعليم الذى كان بمدينة رودس، وبمدينة قنيدس، باد بسرعة، لأنه لم يكم لأبنائهم نظر، وذلك لأن الوارثين له كانوا نفرا يسيرا. وأما الذى بمدينة قو، فثبت منه بقايا يسيرة، لثبات الوارثين له. فلما نظر بقراط إلى صناعة الطب، قد قربت من التلف، بسبب هذه الأجناس الثلاثة، ونقصانهم، أحب أن يذيعها فى جميع الناس، كيلا تبيد. ولئلا يظن أنه قد أخطأ، فيما بينه وبين ربه، جعل المتعلمين للطب أبناءً له، بما عقد فى رقابهم من الأيمان. وبيان ذلك فى قوله فى كتاب الأيمان هذا القول، قال بقراط: وأرى أن المعلم لى هذه الصناعة بمنزلة أبى، والجنس المتناسل منه مساو لأخوتى.

قال جالينوس: فبعد أن جعل المتعلمين للصناعة أبناءً، علمهم إياها، من غير أن يكون فى ذلك على ذم وخطأ فيما بينه وبين الله تعالى.

وإذ قد اتضح بما حكيناه عن القدماء، كيف شرف صناعة الطب فى الدهور السالفة، فلنقل بعد ذلك ما الأسباب التى قد أوجبت فى هذا الزمان سقوطها، فنقول: إن لذلك أسبابا نذكر جملتها. أحدها هو ما قد دخل 〈على〉 الداخلين فيها من الطمع، والثقة بإنه لا يفتقد عليهم منها علم، ولا عمل. فسهلوا على نفوسهم، فتركوا النظر، والقراءة، والخدمة، ومالوا إلى الملق، والمخرقة، والتغلغل فى أنواع الحيل. فضاعت الحقائق، وافتقد الناس فى علاج ذلك الملوك، ومن لهم القدرة على افتقاد ذلك واصلاحه.

والسبب الثانى استهانة الناس بحقوق الأطباء، فى ضروب الإكرام، والمكافأة. فاحتاج الأطباء أن يحتالوا لهم، مع الطب، معاشا آخر، من تجارة، ودكان، وحيلة. فعرض من ذلك استهانة بالصنائع، لما خست ثمرتها. ولما فعلوا ذلك، خسوا، وأسقطوا الصناعة، فكان الأمر فى ذلك شبيها بالشئ الدائر على ذاته بالعكس، أعنى أنهم كلما هربوا هانوا، وكلما هانوا هربوا.

والسبب الثالث دخول من لا يليق بها، وليس من أهلها، فيها. فلقلة معرفتهم بأصولها، وبقدرها، وبحقوقها، أفسدوا محاسنها، فخست بهم. ولطمع أهل الشره فى صنعتهم، انصرفوا إليهم، رغبة فى استخدامهم مجانا، وأخذ حوائجهم بأيسر ثمن. ولما علم أولائك الأطباء المحتالون، أن ذلك يجر إليهم من غير أولائك نفعا، ويوقع فى شباكهم المرأة، والضعيف، والغريب، سمحوا لهم، ليتخذوا بهم باب الحيلة، ومجرا للصيد. فكان ذلك سببا لهلاك الضعفاء، وسقوط أهل هذا الشأن، وتركهم الاهتمام بقراءة، أو تعليم.

وأيضا فلألف أكثر الناس لهذا الطمع، صار من خرج عن هذه الطبقة المحتالة، وقصد لتوفية الصناعة حقها، مذموما، مسبوبا، إذا لم يؤات الجهال إلى ما يريدونه.

والسبب الأعظم الذى قد سهل فى هذا الوقت على كل أحد الدخول فى صناعة الطب، والجسارة عليها، هو الرأى الذائع المشهور أن كل ما يفعله الإنسان من الأفعال المحمودة، والمذمومة، فذلك الفعل عن الله تباركل، لا عن الإنسان. فلما سمع الأشرار، وأصحاب الحيل، أن من سرق، أو قتل، أو زنا، أو فعل أى فعل كان، كان ذلك منسوبا إلى الله تعالى، إذ هو فاعل وداع لذلك، وثق الداخلون فى صناعة الطب بذلك، واطمأنوا. فجسر كل أحد على الدخول فيها، والتعرض لسقى الأدوية، والفصد، والشق، والبزل، وغير ذلك، بغير معرفة، لعلمهم بأن الناس، عند هلاك من يهلك على أيدى الأطباء، يعذرونهم، ويردون ذلك إلى قضاء البارئ.

ولو كان الأمر جاريا على القوانين المتقدمة، من قديم، فى زمان اليونانيين، بأن لا يطلق لأحد الدخول فى صناعة الطب، إلا على ما قدمنا ذكره، وإذا دخل فيها داخل، لم يؤذن له فى التصرف بها، إلا بعد محنته بطرق المحن التى نذكر جملها فى الباب الذى يلى هذا الباب، وهو الذى نصف فيه محنة الأطباء، لما جسر على الدخول فيها، إلا من يصلح لها. وأيضا بعد محنة الطبيب، ومعرفة ما قرأه، ومقدار خدمته، فقد كان يوضع له قانون، يعمله مع المرضى، يتبين منه صوابه، من خطئه، عظيم قدره، ونفعه، أنت تعلمه من الباب الذى بعد هذا. فتدبره، واكتف فى هذا الباب بما قد أثبتناه! ففيه كفاية لمن تدبره.

الباب السادس عشر فى امتحان الأطباء

وأما بعد ما قدمته من الأقاويل النافعة للأطباء، ولسائر الناس، فإنى قائل فى محنة الطبيب قولا، ليس بدون نفع الأقاويل المتقدمة. وذلك أن محنة الطبيب واجبة، لأسباب أقدمها شرف الموضوع لصناعة الطب، والموضوع هو الإنسان المحتاج إلى استعمال الطب. فإن الغلط من الطبيب إذا وقع بالإنسان، كان أعظم كثيرا من أغلاط أصحاب الصنائع الأخر، لأن النجار، والصائغ، وغيرهما من أهل الصنائع، والمهن، لا تبلغ مقادير أغلاطهم مقدار غلط الطبيب، كما لا يبلغ قدر موضوعاتهم قدر موضوعه، وهو نفس الإنسان، وجسمه. وأيضا فإن الصائغ مثلا، متى غلط فى صناعة الخاتم، أمكنه كسره، وإعادته، وكذلك النجار فى عمل السرير، والإسكاف فى عمل الخف. فأما غلط الطبيب، فليس كذلك، وخاصة إن كان غلطه مهلكا، فاليأس من الصلاح واقع. فلذلك وجب تمييز الأطباء بالمحنة، وانتقادهم بالنظر، والبحث، ليظهر فضل الأفاضل، فتسلم إليهم النفوس، ويظهر جهل المدعين لها، فيحذر على النفوس منهم.

ومن الأسباب الموجبة لمحنة الطبيب، صعوبة الصناعة، وطولها. أما صعوبتها، فلكثرة أصولها، ومن الأحرى أن تكون فروعها أكبر كثيرا. وأيضا لاشتباك أصولها، وفروعها، بعضها ببعض. فلذلك اتسعت الأقاويل فيها، ووضع أهلها فى علمها أصنافا من الكتب، فاستصعب لذلك دركها، وخاصة على أهل الكسل والتوانى، وعلى من غلظت قريحته، وقنع منها بالتكسب باسمها، وبالحيل التى قد نصبها الأشرار، وأصحاب الحيل للناس كالشباك، والأفخاخ، لصيد الحيوانات.

فلذلك يجب أن يفتش عمن ادعاها، لينظر هل هو من أهلها بالحقيقة، لأنه قد أفنى زمانه فى درس كتبها، وفى صحبة أهلها، وفى خدمة المرضى، وعانى من أمرها ما يستحق معه أن يوثق به فى تدبير الأبدان والنفوس، أو هو ممن ينبغى أن يحذر على النفوس منه.

وأيضا فإن من أسباب المحنة للأطباء، ما يظهر من نفعها للأطباء خاصة، ولسائر الناس عامة. أما للأطباء، فتنبه من كان ساهيا، وتحث من كان متشاغلا بغيرها، وتحركه على اقتنائها. وأما لمن كان قاصدا للحيلة فيها على الناس، فتفضحه المحنة، ويظهر خزيه. فيكون بذلك النفع لسائر الناس، شاملا عاما.

ولولا أن محنة الأطباء واجبة، ونفعها ظاهر، لما وضع القدماء فيها كتبا، يحثون بها أهل القدر،

والسلاطين على الناس، وأفاضلهم، على تعليمهم أولادهم هذه الصناعة، ليقدروا أن يفرقوا بين أهلها، والمدعين لها، لكى لا يسلموا نفوسهم إلى من لا يستحق ذلك، كالذى وضعه جالينوس من طرق محنة الأطباء، فى كتابه الذى ألفه لذلك. وقد ألف غير جالينوس فى ذلك كتبا. 〈و〉لولا أنى قد تضمنت إثبات جمل ذلك فى باب من هذا الكتاب، لكان 〈يجب〉 أن أرشد إلى تلك الكتب، أعنى من التمس ذلك، وخاصة وقد كتبت أنا رسالة إلى بعض من تولى أمور بلد الرقة، بإلزام ألزمتيه فى ذلك، وصفت له فيها كيف ينبغى أن يمتحن الطبيب. غير أنى أذكر من ذلك هاهنا جملا، ليكون ما تضمنته قد وفيت به، وليكون غرضى تاما كاملا.

فأقول: أما بعد ما قد وضح من الأسباب الموجبة لامتحان الأطباء، فإنه ينبغى أن ينظر كيف ينبغى أن يمتحن الأطباء. وأول ما ينبغى أن يمتحن به المدعى لصناعة الطب، هو أن يسأل على رأى أى فرقة هو من فرق الأطباء. فإن من جوابه، يبين هل يعلم كم أجناس فرق الأطباء، أم لا، وما الذى تراه كل فرقة، وما الفروق التى بين الفرق. ومن ذلك يبين أيضا منه، هل علم، إلى كم نوع ينقسم كل جنس من أجناس الفرق، وفيما اتفقت الفرق، وفيما اختلفت. ولأن الطبيب لا يسعه جهل ذلك، ولا يجوز له الخروج عنه، فلذلك صنف جميع ذلك الفاضل جالينوس فى كتاب عنونه بكتاب فرق الأطباء، وجعله أول ما يقرأ من كتبه.

ثم إذا وقع الجواب منه بتحصيل، وانفرد برأى أى فرقة من الفرق، إما برأى أصحاب التجارب، وبمذهب من مذاهبهم الخمسة، وإما برأى أصحاب الحيل، وإما برأى أصحاب القياس، فيجب أن يسأل أى أجزء الصناعة ينتحل، إذ كانت الصناعة أعظم مقدارا، من أن ينالها الإنسان فى مدة عمره، كما قال الجليل بقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة. ولذلك يكون من ادعى جملتها، من الجهل، بحيث لا يحتاج أن يمتحن،؟ 〈و〉لا يفتش عن عمله.

فأما إذا ادعى جزءا منها، فيجب أن يسأل عنه: أى جزء هو الذى أحكمته، وقرأت كتبه، وخدمت فيه؟ ولأن لصناعة الطب جزئين أولين، أحدهما علمى، والآخر عملى، فلذلك ينبغى أن يعلم، هل توفره على أحدهما فى الجزء الذى يدعيه من صناعة الطب، أم توفره عليهما.

ولأن لصناعة الطب، بعد هذين الجزئين الكبيرين، أجزاء أصغر منهما، ولتلك 〈الأجزاء〉 أجزاء أخر هى أصغر، يحتاج الطبيب إلى علمها، وإحكامها، فلذلك وضع جالينوس فى أجزاء الطب مقالة مفردة، ليحكم علم ذلك منتحل هذه الصناعة، فيعلم من ذلك أجزاء الجزء الذى يدعيه من صناعة الطب!

ومثال ذلك أن علاج الطبايعى هو جزء علمى، وعلاج العين جزء عملى. وكذلك علاج الجبر وعلاج الشق، وعلاج جميع أعمال الحديد، من بط، وكى، وبزل، وحقن، وفصد، وجميع ذلك هى أجزاء عملية، مرتبطة بعلم يتقدمها، يلزم من ادعى أحدها، أن يعلم موضوع عمله: أى جزء هو من أجزاء الجسم، ومماذا هو مركب، ووضع أجزائه، واتصالها، وكم أجناس الأمراض العارضة لذلك الجزء، وكم الأسباب المحدثة لتلك الأمراض، والعلامات الدالة عليها، وأجناس الأدوية الموافقة فى أمراض ذلك العضو، وبالجملة يلزمه معرفة سائر التدابير التى تلاءم علاج أمراضه، وحفظ صحته، وأوقات ذلك، وما أشبهه، مما لابد من علمه. فلذلك أجمع، يجب أن يمتحن منتحل كل جزء من الصناعة، بمساءلتة عما يعمه 〈ذلك الجزء〉، وغيره من أجزاء أخر، إذا كان لها بأسرها أمور تعمها. ثم يساءل كل واحد منهم عما يخصه علمه.

ومثال ذلك، أنه حضر من يدعى علاج العين، فيجب أن يسأل من أى الأعضاء البسيطة ركبت العين، ولم احتيج إلى جزء جزء من أجزائها فى تركيبها. فإنه إن لم يعلم ذلك، لم يعلم بأى الأجزاء يكون الإبصار، ولا بأى الأجزاء يكون الصون والستر، ولا بأيها يكون الحفظ، والتغذية، وبالجملة سائر الأفعال، والمنافع. ومتى لم يعلم مزاج عضو عضو من أجزاء العين البسيطة، مع ما ذكرناه، وكيف وضع تلك الأجزاء، واتصالها، لم يمكنه أن يعلم أنواع جنس جنس من أجناس أمراضها. وإذا لم يعلم ذلك، لم يعلم العلامات الدالة على نوع نوع، وإذا فاته علم العلامات، فاته أيضا علم الأسباب، وإذا فاته علم الأسباب، فاته ماذا يعالج، ولا بماذا يعالج.

وبعد ما ذكرناه، وإحكام علمه، فيجب أن يعلم معالجها قوى الأدوية المفردة، والمركبة، المستعملة فى علاج أمراض العين، وما مبلغ قوى الدواء الواحد، إذ كانت كل قوة بفعل، فيصير بذلك للدواء الواحد المفرد أفعال مختلفة، ولذلك يكون للدواء المركب أفعال أكثر كثيرا من ذلك، وذلك بحسب ما فيه من الأدوية المفردة، والكثرة، والقلة.

ومع أن معالج العين، لا يسعه جهل شئ من ذلك، فإنه مضطر أيضا إلى علم إصلاح الأدوية، المعدنية منها، والنباتية، والحيوانية، 〈و〉ما منها يصلح بالعسل، وما منها يصلح بالحرق، وما منها يصلح بخلط بعضه مع بعض. وبالجملة فهو شديد الحاجة إلى معرفة تراكيب أدوية العين، ما عمل منها

شيافا وما عمل منها كحلا، وما عمل منها قطورا، وضمادا، وغير ذلك من أدويتها. وإذا كان معالجا بالحديد لعلل العين المحتاجة إلى ذلك، فيلزمه أن يعلم صور الآلات التى يعالج بها، ولم صورت 〈هكذا〉، واتخذت ذلك الشكل، كالمهت المستعمل فى قدح العين من الماء النازل إليها. فإنه مع علمه بذلك، فقد علم موضع الماء، وكيف يسهل ثقب المهت، بقرنه الثلاثة، ونفوذه فى الطبقة القرنية، وكيف يحدر بتلك القرن الماء، ويستقصى إحدار ما لا يتم، بما له قرنتان، أو أربع، أو أكثر من ذلك.

وهكذا ينبغى أن يعلم ذلك فى آلة آلة. فليكتف ذو الفطنة بما ذكرته من ذكر هذه الجمل، والمسائل، وليعلم أن بمثل هذه الطرق، يقدر على محنة صنف صنف من أصناف الأطباء.

ومن ذلك أن المجبر يلزمه أن يعلم ما فى كل عضو من العظام، وشكل عظم عظم، ووضعه، وبأى صنف من أصناف التركيب هو مقارن لقرينه، أو لقرنائه، من عظام ذلك العضو، وما الذى يحيط بتلك العظام من العضل، ولأى الحركات هى محركة، وكم مبلغ عددها، وكيفية أشكالها. فإن المجبر إذا فاته معرفة ما ذكرناه، عجز من أمر علاج الجبر، بحسب ما فاته من ذلك. وكذلك إن جهل صورة شد كل عضو، وأنواع رفائده، وأضمدته ولطوخاته لم يتم له علاجه، وكذلك ما سوى ذلك مما ذكرناه.

وكذلك القول فى الفصد. فإنه من أجزاء الطب جزء قد أكثر الناس استعماله، وتعاطاه كل أحد من أهل صناعة الطب، حتى أحداثهم، ومن ليس له خبرة بواجباته. قد أعدوا لهم مواضع، يقصدهم إليها كل أحد، من صلح له، ومن لا يصلح، فيفصد كل من أتاه، بغير توقف، ولا حذر، بسبب العوض الحقير. ولو كان الفاصد بغير علم، يعرف قدر ما يستخرجه من جسم الإنسان من الدم، وعظم نفعه، ويعلم أن قوام بدن الإنسان هو بالدم، أكثر من سائر أخلاطه، وأن الطبيعة لم تعمل

ما عملته من الدم، الذى قد استخرجه هو فى ساعة واحدة، إلا فى زمان طويل، وبعمل طويل، لشفق من إخراجه، ولم يسارع إلى إخراج مثل هذا الجوهر النفيس، بذلك العوض الخسيس. ولأن النفع بالفصد، إذا وضع موضعه، عظيم جداً، حتى أنه قد يخلص من التلف، ومن الوقوع فى أمراض طويلة، فلذلك يجب أن يكون الفاصد عارفا بعدة أمور:

أولها: هل يفصد الفاصد أم لا؟ والثانى: ما المرض الذى يصلح فيه الفصد؟ والثالث: كيف ينبغى أن يكون؟ والرابع: لم يفصد الفاصد؟

وهذه الأصول الأربعة هى مسائل يتفرع عنها مسائل كثيرة. ويلزم الفاصد معرفتها جملتها. ومتى لم يكن عارفا بجملتها، فينبغى له أن لا يفصد أحدا، إلا برأى من هو خبر بها. من ذلك أن الفاصد، إذا علم هل يصلح الفصد لمرض، أم لا، لم يقنعه ذلك، دون أن يعلم من حال السن، والمزاج، والبلد، وحال الهواء فى الوقت الحاضر، وحال الفصل من السنة، وحال العمل، والعادة، والتدبير، والسحنة. هل يوجب كل واحد من هذه الأمور الفصد، كما أوجب ذلك المرض، أم يمنعه؟ ويعلم هذه الأمور بقدر أن يغلب بعضها، ويتبع الأغلب من هذه الفروع.

وأما ما يضطره الأمر إلى علمه من فروع الأصل الثانى، وهو العلم بما الحالة التى توجب الفصد، فإن من فروعها أن يعلم، ما الحال الطبيعية للبدن، وما حال حال من الحالات الغير طبيعية، وما الحالات منها التى توجب الفصد، وما المقدار الذى ينبغى أن يخرجه الفاصد من الدم، وما تبع ذلك من فروع هذا الأصل الثانى.

فأما فروع الأصل الثالث، فيلزمه أن يعلم منها، كيف ينبغى أن يكون الفصد عند شق العرق، طولا، أم عرضا، أم ورابا؟ وكيف ينبغى أن يخرج الدم، أدفعة، أم اثنتين، أم ثلاثة؟ وكيف ينبغى أن يدبر ويساس من فصد، بحسب مرض مرض؟ ويجب أن يعلم كيف الدم فى لونه، وكيف هو فى قوامه، وكيف هو فى رائحته، وكيف حركته فى خروجه. فإنه متى 〈لم〉 يتقن علم ما ذكرناه، لم يقدر أن يفرق بين ما يخرج من الدم من عرق، 〈و〉ما يخرج من شريان. إذ كان ما يخرج من الشريان أصفى، وأشرق، وأرق، وأحمى، من دم العروق.

وأما فروع المسألة الرابعة، — وهى معرفة كميات الفصد — فهى كثيرة جداً. لتعلق هذه الفروع بجميع المسائل المقدم ذكرها. ولئلا يطول هذا الكتاب، والباب، نحن نذكر منها جملا تغنى معرفتها عن إحضار الكل، لأن من علم أجوبة ما نحضره من المسائل الآن، وقام بشرحها، علم بذلك منه، أنه يقوم بفروعها. وأول هذه المسائل التى ينبغى أن يسأل عنها الفاصد، العالم بصنعة

الفصد بالحقيقة، هى هذه المسألة: لم احتيج إلى الفصد فى صناعة الطب؟ ثم: لم صار الفصد مخصوصا بعروق وشرايين دون أخر؟ ولم صار علم العشرة أشياء، المقدم ذكرها، ضروريا فى استعمال الفصد؟ ولم أمر القدماء بإخراج الدم فى بعض الناس من أعلى البدن، وفى بعضها من أسفله، وفى بعضهم من ناحية اليسار، وفى بعضهم من ناحية اليمين؟ ثم لم صارت العروق النوابض التى فى الرأس، دون التى فى البدن، تفصد، وهى عرق اليافوخ، وعرق الجبهة، وعرقا الصدغين، وعرقا المأقين، وعرق الأرنبة، وعرقا الشفة السفلى، وعرقا الشفة العليا، وعرقا اللسان، وعرقا الوداجين.

ومما يبين به فضل الفاصد، هو أن يعلم لم صار فصد هذه العروق يشفى من أمراض بأعيانها، وما هى 〈تلك〉 الأمراض؟ ولم صار الخطأ — إذا وقع بها — أحدث مضارا مختلفة، وأمراضا متباينة، كالذى يحدث من الخطأ فى فصد عرق الجبهة، فإنه يحدث تارة دورانا، وتارة شقيقة، وتارة غشاوة البصر، وضعف الأجفان، وتارة الصمم؟

ومثل ذلك نجد — إذا وقعت ضربة الفاصد لعرقى الصدغين فى غير موضعها — من الأمراض المختلفة. فإنه إن أصاب الحديد العصب، بطلت بذلك حركة الشفتين، وإن أصاب العظم، أورث ورم الوجه، وإن أصاب الليف، أضر ذلك بالسمع، فإن أصاب العضل، أحدث الخدر، وقلة الصياح.

وهكذا ينبغى أن يعلم ما يحدث خطأه فى عرق عرق، وفى أى الأعضاء المجاورة للعرق وقعت الضربة، ليعلم بماذا يصلح ذلك الخطأ، ويتلافاه، وأى المواضع يفصد. ولو ذهبت إلى ذكر ما يحدث من أصناف المضار، عند الخطأ فى جملة العروق المفصودة، ومبلغها خمسة عشر زوجا، وثلاثة مفردة، لطال بذلك الكلام. لكنه شديد الاضطرار إلى أن يعلم لم تفصد هذه الخمسة عشر زوجا، وفى الأمراض، وفى أى المواضع تحدث، إذ كانت هى التى يقع الفصد دائما بأكثرها. ويجب أن نعدها لتكون معروفة عند من قصد لمحنة الفصاد، ليسألهم عن موضع واحد واحد منها، ومبلغ منافعه. ولأن قد تقدم تعديد الشرايين المفصودة التى فى الرأس، وهى من جملة ما يفصد، فلنذكر الآن الباقية،

وهى: القيفلان، والباسيليقان، والإبطيان، والأكحلان، والحبلان، والأسيلمان، والماحصان، والصافنان، والنسآن.

فإذ كان ما قد ذكرناه من هذه المسائل كافيا فى هذا الباب، فقد ينبغى أن نتبع ذلك بالوصايا التى ذكرها قدماء الأطباء، ليستوصى بها الفاصد. وينبغى أن يتفقد عليه، وتجعل بعض محنته، فإن التزمها، وثق به، وبعمله، واطرحها، لم يوثق بعمله.

فأولها أن يكون خبرا بمعرفة التشريح، وخاصة تشريح العروق الضوارب، وغير الضوارب، ليعلم من علم التشريح ما حول كل عرق من العظام، والغضاريف، والأعصاب، والأوتار، والعضل. ويجب أن يكون قد درس كتب التشريح، وكتاب الأسطقسات، وكتاب المزاج، وكتاب الفصد، وأشير بذلك إلى كتب جالينوس فيما ذكرته، وأن يكون قد شاهد أسلافه يعانون الفصد، وأن يكون ورعا عن الكسب، إلا فى حقه، وعن النظر إلى ما

لا يجوز له النظر إليه، إلا بمقدار ما يحتاج إليه عمله، وأن يكون حافظا للأسرار، متعاهدا لحديده بالسقى والسن، لا يفصد فى موضع مظلم، ولا موضع ريح، ولا لمملوك، إلا عن رأى مولاه، ولا لغير بالغ، إلا عن إذن والديه، ومتجنبا الأغذية المبخرة بخارا رديئا، والمضعفة لنور البصر، كأكل البصل، والإكثار من شرب الشراب، متفقدا بعض بدنه من فضوله، فى أوقات التنقية. فبهذه الأشياء، وما جانسها، يمتحن الفاصد.

وأيضا من تعاطى الشق، والبزل، والكى، وسائر أعمال الحديد، فبمثل هذه المسائل يمتحن، وبمثل المساءلة له عن الآلات المصنوعة لأعمال العلاج، كالفاناطير وكيف يبول به، والمهت،

والفاسهان، والمرودى، والفأس، وغير ذلك من آلات الأعمال، ويسأل عن مواضع الكى لمرض مرض، وأشباه ذلك. فاكتف بما ذكرته! ففيه غناء ومقنع.

وقد تبقى على ذكر ما به يمتحن من ادعى علم الطبائع، إذ ذلك أشرف أجزاء صناعة الطب، وبكمال ذلك يكمل هذا الباب، وبعون الله تعالى.

فأقول: أول ما يسأل عنه الطبائعى من الأطباء: ما المعنى الذى يقع عليه اسم الطبيعة؟ إن كان واحدا، وإن كان يقع على أكثر من واحد، فكم هى، وما هى؟ فإنا نجدك، أيها الطبائعى، تسأل دائما من أفعال الطبيعة، فتقول: كيف طبع هذا المريض؟ وما الذى كان منه؟ وماذا فعل؟ وتقول أيضا: طبع هذا الغذاء، وطبع هذا الدواء. ومن المعلوم أن من جهل من الأطباء ما الطبيعة، فأحرى أن يجهل قواها. ولذلك يكون بأفعالها أجهل! ومن جهل أفعالها، لم يقدر أن ينذر بشئ منها قبل حدوثه، لأنه لا يعلم العلامات المنذرة بأفعالها. ومن كان كذلك، لم يستحق أن يسمى باسم الطبيعة، ولا يجب أن يوثق به فى علاج المرضى.

ولذلك قال بقراط: إن الطبيب إذا تقدم، فعلم، وسبق، فأخبر المرضى بالشئ الحاضر، مما بهم، وما مضى، وعبر عن المريض، كل ما قصر عن صفته، وثق منه بخبرته، وبصيرته فى أمر المرضى. ودعا ذلك المرضى إلى سكون أنفسهم، 〈و〉إلى الاستسلام فى يديه، وكان علاجه لهم على أفضل الوجوه، إذ كان يتقدم، فيعلم من العلل الحاضرة، ما سيكون من أمرهم.

قال جالينوس: وليس يشك أحد، أن الذى يعلم أمور المرضى، على ما ينبغى، هو أولى الناس بأن يثق به المرضى، ليس لمعرفته بأمورهم فقط، لكن لأنه، مع ذلك أيضا، حرى بأن يستعد للشئ المزمع بأن يحدث بهم، قبل وقت حدوثه بزمان طويل. وكما أن الحاذق بتدبير السفن فى البحر عندنا، ليس الذى يجهد نفسه فى تدبير السفينة، إذا عرض للبحر اضطراب — وذلك أنه لا يؤمن عليه أن تغلبه شدة قوة الرياح، وحركة البحر — لكن الحاذق عندنا 〈هو〉 القادر على أن يعلم كون تلك الحركة، قبل وقت حدوثها بمدة طويلة، بالمخايل الدالة عليها، فإن وجد مرسى قريبا، بادر إليه، فأرسى. وإن منعه من ذلك عظم اللجة، احتال بكل حيلة لإحراز سفينته، وحياطتها من الآفات. وهو فى مهلة، قبل أن يقع الهول، والاضطراب. كذلك أفضل الأطباء، من علم ما سيحدث بالمريض، فاستعد له، قبل ذلك بمدة طويلة. وتأهب، وهيأ ما يحتاج إليه، لشئ شئ مما

يحدث.

فقد اتضح مما قاله جالينوس، ومما قاله بقراط، أنه لا يتم للطبيب التقدم بالإنذار، إلا من بعد علمه بطبيعة المرض. ولا يتم له ذلك، أو يعلم كم أجناس الأمراض، وأنواع كل جنس، وفصوله، وعلاماته، وأسبابه. ولا يتم له إحكام علم ذلك، أو يعلم ما الأمور الطبيعية، وكم هى، ويقسمها بفصولها، ويخصها بخواصها، لأن بعلم هذه الأمور الطبيعية، يعلم الأمور الخارجة عن الطبيعة، إذ علم الضدين معا من المضاف. فلذلك من جهل أحدهما، جهل الآخر. وبغير شك أن المرض ضد الصحة، والصحة طبيعية، وكذلك أسبابها، وعلاماتها. فالمرض، وأسبابه، وعلاماته، إذا غير طبيعية. وليس عمل الطبائعى خاصة شيئا، غير حفظ الصحة، إذا وجدها لبدن الإنسان، أو التماسها، إذا وجد المرض قد نفاها، وأعدمها.

ولذلك قال جالينوس: إن قصد الطب التماس الصحة، وغايته إحرازها. وإذا كان الأمر على هذا، فقد بان أن من لم يعلم قوى الطبيعة، وأفعالها، على الإطلاق، لم يكن طبيعيا، لأنه لا يعلم أمزجة أنواع الحيوان، والنبات، والجماد. ومن لم يعلم ذلك، لم يعلم كيف قوام الحيوان بالنبات ولا كيف قوام النبات بالجماد، ولا كيف يستحيل، ويغتذى بعضه ببعض. وإذا كان ذلك عند الطبيعى مجهولا، فأجدر أن يكون بهذه الأجناس من الاسطقسات، واستحالة بعض الاسطقسات إلى بعض، وتولد ما تولد من امتزاجها من الأجسام، وما يعرض لجوهرها من الأعراض، أجهل. وإذا جهل ذلك، كان من الواجب ألا يعلم هذه الأشياء المقدم ذكرها فى بدن الإنسان، لأن الإنسان جزئى لهذه الكائنات، والجزئيات المتشابهة الأجزاء أبدا تابعة لكلياتها.

ولما علم معلمنا الفاضل جالينوس أن ذلك واجب ضرورة، وأن بقراط، وسائر قدماء الأطباء، بهذه الأصول تمسكوا، وعليها بنوا كتبهم، وبفروعها تعلقوا، فى حفظ الصحة، وفى شفاء الأمراض، اللذين هما غرض صناعة الطب، ومقصدها، عمد جالينوس إلى أصل أصل من هذه الأصول الطبيعية التى لا قوام لعلم حالات بدن الإنسان، إلا بعلمها، فميزها، ووضع فى كل أصل منها كتابا، ونسبه إلى ذلك الأصل، وسماه باسمه، لأنه يشتمل على ذلك الأصل، وفروعه، ولم يزل يفعل فى أصل أصل كذلك، حتى أتى على أصول الطب بأسرها.

ولما رأى الإسكندرانيون، وهم أفاضل، علماء، من أهل هذه الصناعة — حين كانوا يجتمعون ويجمعون المتعلمين لصناعة الطب — أن أحداث زمانهم لا تبلغ بأكثرهم هممهم إلى قراءة جميع تلك الكتب، وخاصة التى وضعها جالينوس، وأرادوا تقريب صناعة الطب من المتعلمين لها، رتبوا من كتب جالينوس ستة عشر كتابا، وجمعوا أيضا جوامع لأكثرها، طلبا منهم للإيجاز،

والاختصار، وكانوا يقرؤونها فى الأسكول، أعنى موضعا كان لهم للتعليم. ولذلك يجب الآن على من ادعى علم طبيعة بدن الإنسان، وأنه قيم يحفظ صحته، وبعلاج أسقامه، أن يكون خبيرا بهذه الكتب، على ترتيبها، وأن يكون قد قرأها على أستاذ عالم بها. ومن ادعى علم ذلك، فيجب أن يبدأ معه بالبحث، والمساءلة من أولها. وأولها كتاب فرق الأطباء لجالينوس. فيسأل عن غرض جالينوس فى هذا الكتاب الذى يدعى قراءته، وعن عنوانه، وعن مرتبته، وعن منفعته، وعن قسمته، وعن صحة نسبته، وعن أى أجزاء علم صناعة الطب منه، وأى أنحاء التعاليم سلك فيه. فإنه إن أجاب عن هذه الثمانية الأوجه بالصواب، علم منه أنه قد قرأ ذلك الكتاب، وإن لم يعلم ذلك، لم يتعب معه فى السؤال عما داخل الكتاب، وأحرى، وأجدر، ألا بعلم ما بعده من الكتب.

وكذلك يجب أن يمتحن من ادعى قراءة باقى الكتب، فى واحد واحد منها. فلنسم هذه الكتب، ونعددها، إذ كانت الضرورة قائدة إلى ذلك، فنقول: إن أولها كتاب الفرق لجالينوس، والثانى كتابه الذى عنونه الصناعة الصغيرة، والثالث كتابه فى النبض إلى طوثرن، والرابع كتابه إلى غلوقن فى جمل من علاج الأمراض. ولأن هذه الأربعة كتب، تشتمل على كثير من أصول صناعة الطب، رأيت جمعها نافعا جداً، على الطريق الذى سلكته فى جمعها لى أولا، ثم لبعض الراغبين فى علم هذه الصناعة. فجعلتها فصولا، بدأت فى أول كل فصل، من فصول الكتاب الأول، بحرف ألف، وفى فصول الكتاب الثانى، بحرف باء، وفى فصول الكتاب الثالث، بحرف جيم، وفى فصول الكتاب الرابع، بحرف دال، لئلا تختلط فصول الكتاب الأول بالثانى، إذ لم أفصلها مقالات، وأيضا لئلا تختلط بغيرها من جوامع هذه الكتب. فإن الإسكندرانيين قد جمعوها، بطريق لهم سلكوه، غير هذا. وقد جمعها أيضا حنين وثابت.

فلكى يسهل حفظها — فتكون للمتعلمين أصولا باعثة، ومشوقة لهم، إلى قراءة الكتب، ولتكون للعلماء، ولمن قرأ الأصول، مذكرة — جعلتها فصولا. فمن أحب أن يمتحن طبيبا شئ من فصولها، فهو يستغنى عن كل محنة، لأن كل فصل مسألة بنفسها، ولذلك ذكرتها فى هذا الباب.

والكتاب الخامس من كتب جالينوس الستة عشر هو كتاب الأسطقسات، والسادس منها كتابه فى المزاج، والسابع منها كتابه فى القوى الطبيعية، والثامن كتابه فى التشريح، والتاسع كتابه فى منافع الأعضاء، والعاشر كتابه فى البحران، والحادى عشر كتابه فى أيام البحران، والثانى عشر كتابه فى النبض الكبير، والثالث عشر كتابه فى الأدوية المفردة، والرابع عشر كتابه فى الأدوية المركبة، والخامس عشر كتابه فى حيلة البرء، والسادس عشر كتابه فى البرهان.

وقد رأى قوم تقديم بعض هذه الكتب، لأسباب ليس هذا موضع ذكرها. فمن أراد محنة طبيب، فليختبر أمره، هل قرأ هذه الكتب، إن كان فاضلا فيلسوفا، أو جلها، وأكثرها، بل لا غناء له بتة عن علم الخمسة عشر، إن كان طبيبا طبائعيا بالحقيقة. وإنما أفردنا كتاب البرهان فقط من جملة الستة عشر، لأنه لا يقوم بقراءته، ولا يفهم جل ما فيه، إلا من قد تفلسف، وقرأ منطقا، وهندسة. وإذا علم منه القيام بفهم أصول صناعة الطب التى تتضمنها هذه الكتب، فقد صح أنه عالم بأصولها، ويبقى عليه القيام بالخدمة. والمحنة له فى ذلك، هى أن يسأل: كيف تركب الأدوية المركبة؟ وأى شئ يدق مع أى شئ؟ وأى شئ يخلط بأى شئ؟ وكيف يعجن ما يعجن؟ وكيف يحبب، ويقرص، ما رسم عمله كذلك؟ ولم عجنت بعض المركبات بمياه، وبعضها بعسل؟ ولم عملت بعض الحبوب كبارا، وبعضها صغارا؟ ولم عملت بعض الجوارشنات جريشة، وبعضها دقيقة ناعمة؟ ولم لتت بعض الأدوية بدهن، وبعضها لا؟ وأمثال هذه الأعمال التى يضطر الطبائعى إلى علمها. فإنه متى جهل علم ذلك، وعمل مثلا الحب الكبار صغارا، والجريش من الجوارشنات ناعما، ضر ضررا عظيما. ولجهله بذلك أيضا، لا يقدر على إصلاح ما أفسده. فهذه الأشياء التى ذكرناها فى هذا الباب، إنما ينبغى أن يمتحن بها من التبس أمره.

فإن الحال فيمن ادعى علم صناعة الطب، وليس من أهلها، كحال الدرهم الزيف الذى لا يمكن لصاحبه أن يظهره بين النقاد، ولا ينفقه، إلا ليلا، وعلى من ضعف بصره عن النقد، فأما إن جهل، وتجاسر، وأظهره، وخلطه بالدراهم الجياد النقية، فإنه سريعا 〈ما〉 يظهره النقاد، وتبين فضيحته.

وفيما ذكرته من هذا المثال كفاية، لمن لم يقدر أن يمتحن من تزيا بزى الأطباء، وليس منهم، لكنه قد جعل زيه، وزينته، كالشبكة للصياد، بما أذكره من ظاهر أمره، فإنها محنة كافية، وذلك بأن ينظر فى أفعاله بنفسه، وبجسمه، و〈فى〉 أفعاله مع غيره. فإن ذلك كاف، للدلالة على عقله، وفهمه.

فأما فى نفسه، فهل هو آخذ نفسه منذ صباه بالتأدب، والتعلم، ومجالسة الأدباء والعلماء، أم هو متشاغل بالأكل، والشرب، واللعب بالشطرنج مثلا، وغيرها من الأمور الشاغلة عن العلم، وقراءة الكتب و〈هل هو متشاغل〉 بمصاحبة الجهال، والسفهاء، والرعاع. وهل تراه كثير الدرس للكتب، مذاكرا لأهل العلم، ومجالسهم، أم همته التجارة، والاهتمام بكسب الدراهم، وطلب اللذات من حيث اتجه ذلك، فإن من كان كذلك، فلا خير فيه فى هذه الصناعة، ولا نفع عنده.

وأما فى أمر جسمه، فإنك تعلم ذلك من أغذيته فى أوقاتها، وفى توسطها، وفى اتخاذه لنفسه الجيد

من الأطعمة والأشربة، ومن تعاهده لجسمه بتنقيته، وغسله، وإصلاحه، وطيبه. فإن من لم يقدر على صلاح جسمه، ونفسه، فأجدر ألا يقدر على ذلك فى غيره.

وأما من أفعاله مع الناس، ففى وطاءة أخلاقه، وقلة رغبته فى التقدم، والترأس، وطلب الغلبة، واستعمال المحك، واللجاج. وأيضا ففى استعماله العدل فى معاملاته، وأن يريد للناس ما يريد لنفسه، 〈وأن يكون〉 كثير الرحمة والمعروف، لا على طريق البذخ بذلك، والتصيد به، لكن يريد الخيرات لذات الخير.

〈و〉فيما ذكرناه، وأمثاله، يجب أن تفرق بين الأفاضل، وأبناء العلم، وبين أضدادهم. فإن الأفاضل، على الأكثر، للناس كالغذاء، وأحيانا كالدواء. والجهال الأدنياء دائما كالداء، وأحيانا كالسم. فمن وهب الله له سعادة نافعة، فقد وجب عليه إخلاص المحبة للواهب تبارك، والشكر دائما. جعلنا الله وإياكم من الشاكرين، النافعين، بجوده وإحسانه! فإذ قد أخذ هذا الباب بحقه، فليكمل هاهنا، ولنتبعه بما بعده، بمعونة الله تعالى!

الباب السابع عشر فى الوجه الذى به يقدر الملوك على إزالة الفساد الداخل على الأطباء، والمرشد إلى صلاح سائر الناس من جهة الطب، وكيف كان ذلك قديما

وأما على أثر ما تقدم من القول فى شرف صناعة الطب، وانتقاد أهلها، وتمييزهم، بالطرق المبينة للمحق منهم، من المبطل، فإنه يجب أن نذكر من الذى يلزمه، من الناس، إلزام كل واحد من المحقين مرتبته، لئلا يدخل على الناس الفساد، من تعدى بعض المتغطرسين إلى غير مرتبته، وهى المدعون لها محالا، ليظهر بذلك العدل، ويتبين به الحق، ويكون النفع عاما، والصلاح شاملا، وبالله أستعين.

فنقول: إن الخالق تعالى شرف الإنسان بالجزء الإلهى، وهو العقل، على سائر ما فى عالم الكون، لينال بعقله — إذا علم العلوم، ورتب الأمور مراتبها على نظام مستقيم — الشرف الأكمل، والرئاسة العالية. ولما كان الإنسان مخلوقا من إسطقسات متعادية، وكيفيات متضادة، لم يجز بقاؤه بشخصه، مدة بقاء العالم. فأوجبت حكمة الصانع تعالى، بقاءه بنوعه، وجعل ذلك بالتناسل، ولم يكن التناسل يتم، إلا بما فرقه البارئ تبارك من اللذة بالحركة إليه. ولأن الحكمة أيضا أوجبت بقاء الإنسان بشخصه، مدة ما، وكان الإنسان دائما يتحلل من جسمه ما كان يهلكه بسرعة، لو لا ما لطف له الخالق، تقدست أسماؤه، من الغذاء، فلذلك جعل مغتذيا، ولم يكن ليشتاق إلى الغذاء، لولا لذته. فلهذين السببين العظيمين، خلقت اللذة فى الحيوان، فصار الحيوان بطبعه، لأجل اللذة، يغتذى، ويجامع، ولما لم يكن له عقل، صار يأخذ من ذلك بطبعه، حسب الكفاية تارة، وحسب ما تهيأ 〈تارة〉 أخرى. وبين الحيوان فى ذلك اختلاف، وتفاضل.

فأما الإنسان الفاضل، فلا يأخذ من الغذاء، ولا من الجماع، إلا بحسب حاجته فقط، والمقدر لذلك هو العقل. ولأجل أن الطبع يغتر باللذات، فيريد من الأمور اللذيذة أكثر من حاجة الجسم فى بقائه، وصلاحه، والعقل يريه قبح ذلك، وفساده، وقعت بينهما محادثة، ومناظرة، وحرب، لا يقدر

الإنسان العاقل، الفاضل، على توسطها، وتعديلها، وطفى نارها، إلا بقوة عظيمة نالته، جعلها البارئ تعالى كالآلة للحرب، ليقدر بها المحارب على مقارعة محاربه. فإن بادر العقل إليها، واستعان بها على محاربة الطبع، قهره، وظهرت رئاسته، وقدر على إظهار عدله، وأمكنه وضع الأمور مواضعها، لأن الملك والرئاسة قد حصلت له وحده، وانهزم الطبع الذى هو ضده. وهذه الآلة هى القوة الغضبية، التى جعلت كالسيف للمحارب. فمن قوى على خصمه، استعان بها فى حربه.

ولما كانت حكمة البارئ تعالى واحدة، لا اختلاف فيها، شابهت بعضها بعضا، ولذلك يوجد فى الإنسان من الحكم والنظر، مثل ما فى العالم بأسره. ولهذه العلة قالت القدماء: الإنسان هو العالم الأصغر. ولذلك يجد العاقل من الناس من قدرة البارئ تعالى، ولطفه بخلقه، وجوده عليهم، ما لا يجده الجاهل. فيكون العاقل بذلك فى نور دائم، ولذة لا تنقطع، ونعمة لا تفارقه، من فردوس الحكمة التى هو دائما منها فى سرور، والجاهل فى ظلمات وشقاء.

فالعاقل لذلك يعلم أن الملك فى ملكه، والرئيس فى رئاسته، والعالم فى علمه، لم يميزهم البارئ تعالى من سائر خلقه، إلا بقوة وسعادة من عنده، خصهم بها، لنفع البرايا، وصلاح الكل، كما ميز العقل من الطبع.

ولذلك وجب عليهم أن يقوموا للعالم بما نصبوا له. فكما أن العاقل يجتهد فى تقويم الطبع، كذلك على الملك أن يجهد نفسه فى صلاح رعيته. وكما أن العقل، إذا خالفه الطبع، يستعين على مقاومته بالقوة الغضبية، كذلك ينبغى للملك أن يستعين بهذه القوة بعينها، عند الخلاف عليه، إذا كان سالكا فى تدابيره طرق العدل. وكما أن المحارب لا يصلح له تجريده سيفه، إلا عند الخوف من عدو، فكذلك الملك، لا يصلح له استعمال الغضب، إلا عند خوفه على فساد ملكه، لأن له قوى نافذه، يمكنه بها تدبير 〈شئونه〉، بغير غضب.

فإذن أعظم ما احتيج إلى الملك فيه، هو حفظ ملكه، واستجلاب المنافع له، ولرعيته. ولا يتم ذلك للملك، أو يكون متيقظا مستضيئا بنور العقل، والشريعة، مستمداً الرأى والتدبير من أهلها. وبذلك يظهر شرفه، ويزين ملكه، فيكون أهل العلم، والدين، فى ملكه، مشرفين أعزاء، وأهل الشر والجهل، مرذولين أذلاء.

وإذا كان الأمر على ما قلناه، فمن البين أن التوانى فى كثير من الصغائر، وإهمال أمرها، ربما أدخل الفساد على الإمور العظام. فإن الحقير من شرار النار ربما أهلك الخطير من المنازل والمدن. فلذلك يجب على القيم برعاية عامة، والمدبر ملك، أو مدينة، ألا يهمل من مصالحهم حقيرها، فكيف

شريفها، وعظيمها!

ومن المعلوم أن لا شئ من المكونات، أشرف من نفس الإنسان، ومن جسمه. وإذا كانت المنافع لهما بطلت، ولا 〈يوجد〉 شئ أنفع من حفظهما وإصلاحهما، فالملك أولى الناس باختيار من عنده هذه المنافع، والمصالح الشاملة، والعامة، ليس لنفسه وجسمه 〈فحسب〉، بل لسائر الناس 〈أيضا〉. وبغير شك أن الحافظ لصحة الأصحاء، والمعالج للمرضى، حتى تعود إليهم صحتهم، هم الذين وهب الله تبارك وتعالى لهم من حكمته علما، يقدرون به على ذلك، مع إرادته. وهؤلاء هم الأطباء. ولما كان قوم قد تغطرسوا على هذه الصناعة، فادعوها بغير معرفة بها، وجب لذلك على الملك خاصة إزالتهم عما غصبوه أولا، ثم ثانيا لأجل ما يدخل على الخاص والعام منهم من الضرر، إذا تميز لهم قليل عددهم، فلا يمكن للمرأة، والسوقى، والغريب، تمييزهم من غيرهم، فيجتنبوهم. فلذلك يكون الضرر، بل القتل، منهم شائعا، وهو بالحقيقة خفى.

〈فيجب على〉 الملك أن يدفع هذه البلية عن جنده، ورعيته، 〈و〉عن نفسه أيضا. إذ كان فى أحايين، قد يصير الملك إلى من لا خبرة عنده بأمور الطب، فربما اضطر الأمر إلى إحضار طبيب، ولا يعلم بأنه غير موثوق به، فيخطئ عليه، ويهلك، فيكون إغفاله اعتقاد ذلك، فى حال صحته، سبب هلاكه. وكذلك يتسبب دائما على خواصه، وعوامه.

فقد اتضح بما قلناه، أن النطر فى أمر الطب خاصة، وإلزام الأطباء بعد محنتهم، واختبار أمورهم، واجب على الملوك أولا، ثم على الرؤساء، ومن إليهم النظر فى مصالح الناس، والعلماء، وأهل العقول.

ولما كان من ذكرناهم بعد الملك، هم أكثر مشاهدة للأطباء وغيرهم من الملك، ويسمعون من أخبارهم ما لا يسمعه الملك، وكان فى إنهاء ذلك، وشرحه للملك، مصلحة للملك أولا، ولهم، ولسائر الناس، وجب عليهم تعريف الملك، وحثه على القيام بصلاحه.

ولخطر ما ذكرنا، وشدة الاهتمام به، كان قدماء اليونانيين يسلكون مع الأطباء طرق الاحتياط، وشدة التفقد. فلذلك كان أطباؤهم على شدة حذر، وتوق شاف من الخطأ. من ذلك ما حكاه عنهم الثقات، وذلك أن الطبيب لم يكن ليتمكن من الجلوس للطب، إلا بعد ما ذكرنا جمله من المحنة، والاختبار. فإذا كان أطلق له ذلك، فقد كان عمل قدماء الأطباء لهم كرسيا يسمى كرسى الحكمة، لما فيه من المنافع، وحسب الشكل، فكان لا يجلس عليه إلا طبيب، وإلى الآن ذلك

الكرسى ينصبه قوم من الأطباء بالشام، ويجلسون عليه. فكان قديما من جلس فى ذلك المجلس، فقد علم منه أنه مرضى 〈عنه〉 ممتحن.

وكان الطبيب، إذا دخل إلى مريض يعوده ويطبه، يستدعى أول دخوله عليه ورقا أبيض، فيكتب فيه، بعد تأمل حال المريض، دخلت إلى المريض الفلانى، فى اليوم الفلانى، وهو اليوم الأول من مرضه، أو الثانى، أو الثالث، بحسب ما تهيأ، فوجدت مرضه المرض الفلانى، والذى دلنى على ذلك، الحالات الفلانية، من حالات قارورته، ونبضه، والعلامة الفلانية والفلانية، فأشرت عليه من الدواء بكذا وبكذا، ومن الغذاء بكذا وكذا. ويدع ما كتبه عند أهل المريض، وعند العودة، ينظر ما تغير، وحدث، 〈و〉يثبته، على ما ذكرناه. وكذلك فى كل دخلة. وإن رأى علامة منذرة ببحران، ذكرها. وإذا وافى البحران بما أنذره، أثبته، إلى نهاية حال المريض، والمرض. فإن كان للمريض برء، أخذ ذلك الدستور إليه، ليكون تذكرة عنده، وأصلا لحال أخرى، إن حدثت بذلك الإنسان. وإن مات المريض، وذكر ذاكر طبيبه، بأنه قد غلط عليه، حضر الطبيب مع أهل البصيرة، وأظهر ذلك الدستور من عند أهل المريض، وافتقد من حضر من العلماء بصناعة الطب ما ذكره. فإن يكن المرض على ما حكاه، والعلامات هى العلامات الخاصة بذلك المرض، وبمثلها يعلم، والعلاج والتدبير موافقين، انصرف مشكورا. وإن كان الأمر بخلاف ذلك، ناله مايستحقه، ولم يعد إلى الصناعة، إن كان الغلط أوجب القتل.

وإنما حكيت هذه الحكاية، ليعلم القارئ لها، كيف كانت العناية بأمر هذه الصناعة، وكيف كان الاحتياط على النفوس. ولعل الله تعالى يسبب للناس صلاحا بما ذكرته، فأكون قد سقت إليهم خيرا، وهو المطلع على سرى، وعلى قصدى، وإياه أسأل أن يوفقنى إلى استعمال ما ذكرته من الحق، ويسهل طرق الحق والخير لعباده أجمعين، وليكمل هذا الباب هاهنا بمعونة الله تعالى.

الباب الثامن عشر فى التحذير من خدع المحتالين الذين يتسمون باسم الطب والفرق بين خدعهم والحيل الطبية

ليس غرضى فى هذا الباب، أيها الحبيب، ذم الحيلة على الإطلاق، إذ كان معنى هذا الاسم إنما تلطف الإنسان بلطيف فطنة العقل فى إصابة ما بعد، واعتاص عن عرضه. وبهذا المعنى، أعنى طريق الحيلة، قدر الإنسان أن يستخرج دقيق العلوم والصنائع، لأن الموجودات لم يكشفها البارئ تبارك بأسرها للإنسان، لئلا تسقط عن الناس كلفة النظر والبحوث، ويذهب تفاضلهم بمعرفة العلوم والمهن، فتسقط المراتب والرئاسات بذلك. وهذا هو سلب نوع الإنسان ما به 〈من〉 شرف، وعدم حكمته التى بها فضل على أنواع الحيوان.

فلذلك جعل الله تعالى بعض الأمور ظاهرة جلية، وبعضها خفية، ليتوصل 〈الإنسان〉 بلطيف حيلة العقل، وتدقيق ذهنه، من الأمور الظاهرة، إلى معرفة الأمور الباطنة. كالذى فعله أصحاب الرياضات، فإن المهندسين إنما علموا أن الثلاث زوايا من كل مثلث مساوية لقائمتين، من المصادرات التى قدمها اقليدس فى أول كتابه فى الأصول التى علمها ظاهر عندهم. ومن ذلك ترقوا إلى علم حالات المقادير بأسرها، والسطوح، والأجسام، وبذلك أمكنهم مساحتها، ومن ذلك ترقوا إلى علم مقادير الأقاليم، ومساحة جملة الأرض، ثم الأفلاك، وبذلك علموا مواضع ما تهيأ لهم رصده من الكواكب، وحركاتها، وأبعادها.

وهذا الطريق سلك أصحاب علم الحساب فى استخراج الجذور، وغيرها. كذلك جرى أمر أصحاب علم النجوم، فإنهم قفوا آثار الأمور الطبيعية فى كثير من أمورهم، واستعملوا التشبيه، والمماثلة، والحدس، جميع ذلك قصد العلم الخفى بالظاهر.

وأما أصحاب المهن، فأمرهم فى استعمال الحيل لاستخراج محاسنها ظاهر، حتى أن أكثر الناس يعجبون مما يعمله أصحاب الحركات والخيالات، وما يظهره أصحاب السحر من العجائب التى تدهش كثيرا من الناس، لاستتار أسبابها وعللها عنهم، حتى أن قوما منهم يظنون أن الجن

تفعل ذلك، وآخرون يرون أن قوى إلاهية تخدمهم فى ذلك.

فهذه الأشياء وأمثالها لم تتم للناس، إلا بلطيف حيلة للعقل. ألا ترى أن صناعة الطب لم يستخرج 〈أهلها〉 محاسن ما فيها من العلاج والأعمال، إلا بطريق الحيلة، كقدحهم للعين حتى يبصر من قد عمى، وكبزلهم الماء من المستسقين، ومن أصحاب العلل المائية، وكاستخراجهم الأخلاط الرديئة المفسدة، بأدوية معلومة، وبتقدير معلوم، لكى يصيبوا الغرض، ويستخرجوا ذلك الخلط بعينه. ولأن لذلك طرقا وقوانين، قد تفضل الله بها على نوع الإنسان، وضع العلماء بهذه الطرق فيها كتبا، ليعلمها من أراد التعرض لذلك، لئلا يسلك غيرها، فيهلك الناس، كالذى فعله قدماء الأطباء. من ذلك ما وصفه الفاضل جالينوس من كتبه التى رتبها ترتيبا طبيعيا، وعلى مذهب التعليم، فبدأ من أول ما ينبغى أن يتعلمه الطبيب، وسار على نظام، حتى بلغ إلى نهاية ما فيه صناعة الطب، وهو أعوص ما فيها، وألطفه، وأحسنه. فوضع طرق ذلك، وما استخرجه القدماء من الأطباء بتلك الطرق اللطيفة، فوضع جميع ذلك من أربع عشرة مقالة، وسمى ذلك الكتاب حيلة البرء. فإذن بهذه الحيل ينتفع الناس، وهى نتائج العقول، وثمرات الفضائل، التى يستحق أهلها المدح والتشريف.

وأما من سلك طرق الحيل فى الوصول إلى كسب الدراهم، على غير الواجب، وبلوغه لذاته فقط، فما مثله إلا كذئب قد ستر نفسه، ليفترس ما أمكنه افتراسه. وليس الضرر الداخل على الناس من أصحاب هذه الحيل، كالضرر الداخل عليهم من الحيوانات المؤذية، بل أعظم كثيرا، لأن الحيوانات لا تقدر على التقلب من فعل إلى فعل، لكن لكل واحد منها فعلا طبيعيا يخصه، 〈و〉به تكون أذيته. فأما الإنسان الشرير المؤذى الحيول، فإنه يؤذى بطرق مختلفة، ويتقلب فى الأفعال المؤذية، بحسب اتساع حيلته. فلذلك هذه الطائفة على نوع الإنسان أشر من السبع، والذئب، والنمر، والأفعى، والعقرب، وغير هذه من المؤذيات.

ولما كانت صناعة الطب أجل المهن قدرا فى نفع الإنسان، وأهلها السالكون طرقها بالحقيقة هم عند الناس فى مرتبة شريفة عالية، يكرمونهم ويجلونهم، وكانت أيضا هذه الصناعة مخصوصة بأقوام خواص، فكانت بذلك مصابة، لا يمكن لكل من التمسها الدخول فيها، ولا وسع كل

من طلبها الدخول فيها، وكان الناس بطبعهم يحبون نيل المراتب السنية، والتشريف، والتبجيل، ولم يكن ذلك ليوجد لمهنة من المهن فوق صناعة الطب، طلبها غير أهلها، حسدا لهم، ولما لم ينالوا حقيقتها، لينالوا بها العلو، والمنزلة الرفيعة، لسوء أمزجتهم، وغلظ قرائحهم، عدلوا إلى الحيلة على الناس، بضروب من الخدع والدهثمة، ستروها بما أظهروه من الزى، واللباس، والتصنع، لمشابهة أهل الصناعة بالحقيقة، فى ألفاظهم، وكثير من أمورهم. فكانوا بذلك، وبما جملوا به دكاكينهم، وأظهروه من آلاتهم، لتصيد الناس، كمن نصب الفخاخ، وبسط الشباك، لصيد الحيوانات. ولأن هذه الآفة الداخلة على هذه الصناعة، 〈عظيمة الضرر عليها〉، وعلى أهلها، حتى أوقعت فى بعضهم الشك، وأكسبتهم سوء الظن بهم من كثير من الناس، لما يرونهم عليه من صونها وتوفيتها حقوقها — نعم! — حتى أن جهال الناس، وأشرارهم، يعتقدون فيهم البغضة ويضمرون لهم الشر، فلذلك وصف جالينوس من خدع هؤلاء، وحيلهم التى يعملونها، لينفقوا بها على الناس، ما أذكر هاهنا بعضه، لتعلم به جمل ما قصدت لذكره، فتأمله!

قال جالينوس فى كتابه فى نوادر تقدمة المعرفة هذا القول: أما بحسب ما يراه كثير من الأطباء، يا افنخاس، فإنه غير ممكن أن يتقدم واحد، فينذر بما هو حادث بالمرضى، فى كل واحد من أمراضهم. وذلك أنه منذ كثر من غايته أن يظن به ما يقدره، من غير أن يعنى بمعرفة ذلك حق معرفته، لا فى الطب فقط، لكن فى سائر الصناعات، استهين بأحسن ما فى الصناعات، واصرفت العناية إلى الأشياء التى يشتهر ويكبر بها الإنسان عند الكثير، فقصد 〈هؤلاء القوم〉 قصد معرفة الأقاويل والأفعال التى تنحو نحو اللذة، والتملق، والمساعدة بالقحة، والتسليم فى كل يوم على ذوى اليسار، والمتسلطين فى المدن، وتشييع من يريد الشخوص إلى ناحية من النواحى، واستقبالهم، إذا قدموا من البلدان، والحيلة لطلب الضحك فى المجالس.

ومنهم قوم لم يقنعوا بهذه الأشياء فقط، لكنهم راموا أيضا أن يقنعوا العوام أنهم يستحقون 〈أكثر من ذلك〉، بسراة لباسهم، وكثرة ثمنه، وحسن خواتيمهم، وسراتها، وكثرة من معهم من

التباع، وما يوجد لهم من الأوانى الفضة.

فهذا القول كاف فى التنبيه على خدع هؤلاء بالأقاويل والأفعال. ولو ذهبت إلى إحضار 〈كل〉 ما قاله جالينوس فى ذلك، لكثر وطال به الباب.

وأما خدع صنف آخر من هؤلاء بالأعمال، فإنها كثيرة أيضا، وقصدهم فى جملتها أن يعملوا أعمالا تشبه فى الظاهر الأعمال الصحيحة من أعمال الطب، ليقنع بها الناس، ويشهدوا لهم بالحذق فى الصناعة، مع ما ينالونه من الكسب. وإذا تأمل المتأمل باطن تلك الأعمال، وجدها مخرفة، وحيلة، وباطنا، لا حقيقة له، لا فى علاج المرضى، ولا فى حفظ الأصحاء، بل على أكثر الأمر إنما تكون أعمالهم سببا لمرض الأصحاء. وذلك بما يقدم عليه قوم منهم من شق، وكى، وغيرهما من البطش باليد لأعضاء لا تحتاج إلى ذلك. فيحدثون بالصحيح علة تحتاج 〈أن〉 تعالج وتدبر مدة من الزمان، وربما آل أمرها إلى الهلاك.

وكذلك قال 〈جالينوس〉: يركب منهم قوم أصنافا من الأدوية، لعلاج العين، وغيرها من علل الجسم، تراكيب من أكحال، وأقراص، وسفوفات، يدفعونها إلى المرضى، ليستربحوا بها الفائدة. 〈و〉ليست 〈هذه التراكيب〉 مما يصلح لعللهم، لكنها فى الظاهر تشبه الأدوية المركبة بالحقيقة للعلاج. فكم من قد عمى من أكحالهم! وكم من هلك من سفوفاتهم، وأقراصهم!

ولأنى لا أرى وصف كيفية أعمالهم، وحيلهم، لئلا يتعلمها الأشرار، فأكون من حيث قصدت النفع، أوقعت الضرر. وأيضا، فإنى أرجو ممن له أدنى دين وعقل، إذا رآنى قد عدلت عن إظهار العيوب، وكشف القبائح، 〈أن〉 يغار من قبحها، ويزهد فى دناياها، فيكون ذلك سببا لمصلحته، وانتقاله إلى التعلم، والتأدب. فلذلك تركت كشفها، ولأكون على الوجهين جميعا مشكورا.

ولكنى لرغبتى فى أن يكون التحذير أبلغ، والحذر أنفع، فإنى، مع ما لا أكشف كيفيات الحيل فى عملها، واستعمالها، أرى أن أذكر من أسمائها، ما به يلوح للمحتالين بها، أننى عن علم بها تركتها. ويكون مع ذلك مفتاحا، وبابا ينفتح لأهل الفطنة، ليدخلوا إلى معرفتها منه، إن اخبروا ذلك، ليكون لهم بذلك من حيلهم أتم حذر.

فأقول: إن أخلاط البدن الأربعة، إذا كثرت، وانصبت إلى بعض أعضاء البدن، ولم يمكن تلك الأعضاء إحالتها بالنضج ليغتذى 〈بها الجسم〉، أحالتها إحالة لا تصلح للغذاء، فتتعفن،

وتحدث ضروبا من الأورام، والنزل، والسلع، بحسب جواهرها. ولابد من أن يكون لها ألوان، بحسب ألوان الأخلاط الطبيعية، والمناسبة لها. والعلاج الصحيح لهذه، هو إخراجها من الأعضاء بطرق مختلفة، من إنضاج، وتليين، ليمكن الطبع فتحها، أو ليتهيأ للمعالج باليد فتحها، وشقها، وبطها، وإخراج المواد، واستنظافها.

فلعلم أهل الحيل المموهة، وهم الذين يسمون الدستكارية، بذلك احتالوا بلطف حيلة، لعمل أجسام تشبه تلك المواد، والأجسام التى تكون فى النزلات والأورام، واحتالوا أيضا فى إخفائها فى أفواههم، وفى أيديهم، وبين آلاتهم، ليدكوها، ويظهرون أنهم يستخرجونها، إذا شاؤوا، بعد شق العضو الذى يقصدون لعلاجه. ويعملون الحيلة فى إظهار ذلك المستور المشابه للخلط، بمصه بآلة لهم تسمى «الماذوقة». فيخرجون ما يشبه المادة السوداوية، ويسمون ذلك «السورك». ويستخرجون من آخرين ما يشبه فى قوامه البلغم، والمدة المتغيرة، وكذلك ما يماثل الخام فى بياضه، ويسمون ذلك «البركاب». ولعلمهم بأن الأورام الصلبة، والسلع، قد يكون داخلها مواد صلبة، وعصبية، وقد يتكون فيها دود أيضا، وتتكون أورام تشبه السراطين فى شكلها، فلذلك احتالوا فى عمل ما شابه ذلك، وإخفائه، ثم استخراجه بعد الدك، من حيث أخفوه، كأنه من العضو قد استخرج، وأسموا ذلك «القدسان». وأما الدود المستخرج من الآذان، وغيرها، خاصة، فاسمه عندهم «الهقمان». وأما ما يستخرجونه من أمثال هذه الأشياء بالقئ، فيسمونه «اللوى». وكذلك أيضا قد يستخرجون من آناف الصبيان شيئا من جنس الأغذية، ويسمونه «بلعا». وليس أحتاج أن أعدد تسميات هؤلاء لأعمالهم هذه التى يسمونها «التحرير»، مثل «الأرول» الذى يستخرج به النواصير، و«كرداروك» الذى يظهر من حيلته استخراج مدة من أجفان العين، فى الجرب العارض لها، وغيره.

وقد يستعين هؤلاء فى حيلهم بإعطاء أدوية قد اتخذوها معهم، مخدرة، ومنومة، ليظهر لأهل المريض، ومن حضره، الراحة للمريض، وسكونه من مرضه، وبرؤه بعلاجهم. فيستريحون بالفائدة بذلك. وكذلك قد يفعلون فى إعطائهم أدوية مسهلة حادة، كالشبرم ولينه، والمازريون، وأشباه هذه، بغير علم منهم بإصلاحها، فيقتلون بذلك، عاجلا وآجلا.

ولست أقول أن جميع الدستكارية يستعملون ما ذكرته بغير علم، وبطريق المحال، لكنى أشرت إلى

المموهين منهم. فأما حذاقهم الفره، أصحاب البطش بالأعمال الصحيحة، فإنهم، وإن استعملوا حينا شيئا مما ذكرته، لم يستعملوه على طريق المخرفة، لكن بحيلة طيبة نافعة، يكون بها برء المريض من طريق الوهم، كالذى فعله جالينوس من هذه الأعمال بعينها، فكان بها برء المريض.

وذلك أن جالينوس حكى أن إنسانا توهم أنه قد بلع حية، فعولج بكل دواء، فلم ينجح فيه. فلما وقف جالينوس على خبره سأله: هل تعرف لون تلك الحية؟ فقال: هو اللون الفلانى، ومقدارها المقدار الفلانى. فأمر، سرا من العليل، بمن صاد له حية بتلك الصورة. وأخفاها بلطيف الحيلة، وسقى المريض دواء، قذفه، وشد عينيه حين أخذ يقذف، وسرح الحية المذكورة مع القذف. وأمر من حضر أن يعلوا أصواتهم بالتباشير بخروج الحية بالقذف. فحين فض عن عينى المريض، قال: هذه هى الحية التى ابتلعتها بعينها، وقد وجدت الراحة! فبرئ برءا تاما من توهمه.

وقد جرى له، ولغيره، أمثال ذلك كثيرا مع قوم من أصحاب المالنخوليا، وغيرهم، ممن تداخلهم الرعب، والفزع من أشياء، فذابت أبدانهم، واصفرت ألوانهم، فلم يقدر فيهم على علامة تدل على مرض. فلما علم منهم أن ذلك لفزع، عملت الحيلة لإدخال السرور على قلوبهم، فبرئوا.

وذلك لا يكون بصنف واحد من التدبير والحيلة، لأن منه ما يكون من جهة الأخبار المسموعة، والكتب التى ترد فيها و〈منه ما يكون〉 من جهة المنظورات. وكذلك من باقى الحواس. فيحتاج أن يكون الطبيب لذلك ذكيا فطنا، لاستخراج السبب، ولمقابلته بالحيلة. كالذى استخرجه جالينوس 〈من〉 سبب ذلك المملوك، الذى كان خازنا لمال مولاه، وقد كان بدنه آخذا فى الذبول، والنقصان. فطال سهره، فشغل ذلك قلب مولاه. فلما بحث جالينوس عن سببه، لم يجد علامة لمرض بجسمه. فتقصى أمره، فعلم أن سببه خوف الفضيحة من نقصان ذلك المال. فأعلم مولاه بذلك، وقال له: أظهر له أنه ثقة، وأنه 〈لا〉 يحاسب! فلما وثق الغلام بأنه لا يحاسب، عاد بدنه، وقوى، وبرئ فى ثلاثة أيام.

وقد حكى جالينوس فى أمثال هذه الحيل النافعة حكايات كثيرة فى كتابه فى نوادر تقدمة المعرفة، وفى كتابه فى حيلة البرء، وفى غيرهما، من أقاويله، من التمس ذلك وجده. وأما هاهنا، ففى ما كتبناه فى هذا الباب كفاية.

وقد بقى أن أقول قولا نافعا، أختم بذكره هذا الباب. وهو نافع فى التفرقة بين الدستكارية الحذاق، والمتشبهين بهم. فأقول: إنك تجد الصنفين جميعا، إذا دخلوا المدن، قصدوا إظهار ما يدعونه من أعمالهم، بضروب من الحيل. فمنهم من يلاطف سلطان ذلك البلد بمعاجين و〈أدوية〉، حسنة فى

منظرها، وفى فعلها، على ما يدعونه من المنافع التى يرغب كثير من الناس فيها. فيدعى فى بعضها أنها تقوى وتجود الهضم، وتحسن اللون، وفى أخر أنها تحفظ سواد الشعر، وآخر يسوده، وآخر يحرك شهوة الباه، ويزيد فى الإنعاظ. 〈و〉من المعلوم أن فيما ذكرناه، وأمثاله، يرغب كثير من الناس. فبهذه 〈الأشياء〉، وأشباهها، يتوصلون إلى ذوى الرئاسات واليسار، ليتوسطوا بذلك مجالسهم، ويقربوا منهم، ويفاوضوهم، ليشهدوا لهم بالتقدم، وخاصة مع ما يسمعون منهم من الدعاوى. وأحرى وأجدر إن عملوا عملا من أعمال اليد، بحضرة بعضهم، كالبطش بخنزير يقلع، أو قدح عين، أو بزل ماء، وما جانس ذلك. فإنهم بذلك يتم لهم الحيلة على باقى من فى البلد. وأيضا فإن لهم أقاويل ينادون بها فى المدن، يسمونها التقربة.

فإذا ترتب لواحد منهم مع من فى البلد، من السلطان، أو القاضى، أو من له التقدم بما تقدم ذكره من الملاطفة والحيلة، استعار حينئذ منه مركوبا، ونادى بقوة قلب وثقة بتلك التقربة. وأكثر ما ينتفعون بالتقربة فى المدن الصغار، لأنها عليهم أسهل مراما، وأقرب مأخذا. ولذلك صار أكثرهم يسلك هذه الحيلة، وهذه التقربة، من العلاج، وغيره مما يدعيه لنفسه. وليس تنكشف هذه الحيلة، وتظهر، إلا عند الأعمال. فإن كثيرا منهم — مع ما يعمل أعماله، فيشق، ويقدح، ويسقى أدوية، وغير ذلك من البطش، ويستربح الفائدة، ويخاف كشف عيوب أعماله، وفضيحته من تكربك عين، أو رواج هلاك بعض المعالجين — يبادر إلى الهرب، فهو فى كل يوم فى ضيعة، أو مدينة، لأنه لا يقدر 〈أن〉 يقيم فى مدينة واحدة لزمان طويل، فيكشف عليه ما يهلكه.

〈و〉أيضا فإن كثيرا منهم يضيف إلى 〈ما〉 يدعيه من أعمال الطب، دعاوى أخر، يسرق بها عقول النساء، ومن يطمع فيه من قروى، وبدوى، وغير هؤلاء ممن لا تحصيل له، فيستلبون منهم ما يتهيأ لهم اختطافه. وهذه الدعاوى هى أصناف. فمنهم من يدعى العزائم، والرقى، وكتب الكتب التى يهيجون بها، ويعقدون ويحلون، ويجلبون الغائب، ويسمون هذه الكتب سراميط. ومنهم من يدعى أنه يخرج الكنوز، بصنوف من الدك، ترك شرحها أولى، وكثير من هذه الحيل لا أطيل بذكرها.

وهؤلاء هم الذين يجب امتحان دعاويهم، واختبار أمرهم، والحذر منهم، قبل أن تمكنهم الفرصة، لأنهم يسيرون نفوسهم كالذئاب، ويدورون 〈على〉 السكك والشوارع، ويطلبون خلو المنازل من

رجالها، فيستعرضون ذلك لأعمالهم الشنعة. فعلى من إليه حفظ العوام، والرعايا، وبالجملة سائر من فى مدينته، أن يحفظها من هؤلاء الذئاب، واللصوص الذين قد استتروا عن عيون الناس بظاهر زيهم، وعظيم دعواهم. والمقدم ذكره من الأشياء التى يمتحن بها المدعون لهذه الصناعة، هى فى هؤلاء نافعة جداً، وهى المخلصة من بلاياهم، وبها يقدر السلطان على التفرقة بينهم وبين الحذاق من الدستكارية، إن أحب ذلك، هو، أو غيره.

الباب التاسع عشر فى العادات المذمومة التى قد اعتادها كثير من الناس، فهى تضر بالمرضى والأطباء

ولما كان الطبع يميل إلى اللذات، وكانت اللذات كثيرة أصنافها، مختلفة أنواعها، صار الطبع يحب اجتماع أصنافها له، ويؤثر ألا يفوته نوع من أنواعها. ولذلك وقعت الألفة بين الناس، والمحبة بين المتصادقين، لأجل ما يجده أحدهما عند صاحبه من اللذة، أو اللذات.

ولما كان أهل المروءة واليسار، وأصحاب الرئاسات، قد وهب 〈الله〉 لهم من سعادات الدنيا ما حرمه من سواهم من الناس، وكانت تلك السعادات أعظم اللذات عند الطبع، وأجلها قدرا، طلبت 〈لهذا السبب〉. لذلك 〈فإن〉 من فاتته تلك السعادات، 〈احتال〉 للوصول إليها بضروب من الحيل والخدع. فسلك كل من التمس المال من أهل اليسار والمرتبة من السلطان طرقا توصلهم إلى ذلك. فمن هؤلاء من التمس تلك السعادات بالعلوم، والآداب، والصنائع الجليلة القدر، العظيمة النفع، وهؤلاء هم الذين يلتمسون سعادة ما بسعادة هى أشرف منها، لأن سعادة العلم والأدب هى للنفس، وسعادة المال وما جانسه للجسم. وكما أن النفس أشرف من الجسم، كذلك سعادة النفس أشرف من سعادة الجسم.

وأما طالبو السعادات الدنياوية بغير العلم والأدب، كطالبى المال، وغيره من المقتنيات الجسمانية، بالمهن، والصنائع، فهم طالبو سعادة بما جانسها. وإذا كان ذلك كذلك، فقد بقى من القسمة طلب شئ شريف، وسعادة نافعة، بما ليس هو شريف، ولا نافع. والطالبون للشئ الشريف بالشئ الحقير هم الذين يداخلون أهل المروءة واليسار، والرؤساء، باللعب، واللهو، والأمور المضحكة، وأصناف الحيل المقدم ذكرها فى الباب الذى قبل هذا، لينالوا من رتبهم وأموالهم ما يحبونه.

ولذلك نجد كثيرا من الأطباء يداخلون المياسير، وكثيرا من السلاطين، بلعب الشطرنج، والنرد. وقوم يداخلون قوادا وأعاجم، بما يعرفونه من لغتهم، لكى يأنسوا بهم. وقوم يساعدون المياسير، والرؤساء، بتبليغهم، وإيصالهم إلى لذاتهم، وشهواتهم، فى ضروب من الأمور الضارة لهم فى حال الصحة، وحال المرض.

فلذلك يكون هؤلاء مقدمين عندهم، موثوقا بآرائهم، مسموعة أقاويلهم. وبغير شك أنه إذا مرض

أحد هؤلاء المياسير، فإنه لا يأنس، إلا بمن قد ألفه، واعتاده، من هؤلاء المحتالين.

ولأن ذلك الطبيب يحب أن يؤثر أثرا يصل إليه منه فائدة رابحة، فهو يبادر إلى فصد ذلك المريض، أو إلى سقيه دواء مسهلا، بغير علم منه بما أتاه، لأنه لا يعلم أن للأمراض أوقاتا أربعة، فإن الاستفراغ لا يصلح أن يكون فى أيها اتفق. ولأنه لا يعلم أيضا أن أخلاط الأبدان لا يصلح استفراغها، إلا بعد نضجها، وبعد إصلاح الطرق لنفوذها، وبعد معرفة أشياء كثيرة قد تقدم القول فيها بما يغنى عن إعادته. فلذلك يكون ما أقدم عليه ذلك الطبيب من الفصد، أو الاستفراغ بالدواء لمريضه وصاحبه، سببا لزيادة مرضه، ووقوعه فى مكروه هو أعظم من المرض، وربما كان سائقه بجهله وحيلته إلى تلفه. ولأجل إفراط أنس المريض بطبيبه ذلك، لا يتهمه فيما دبره به، ولو بان له الضرر، وظهرت له الزيادة! لكن تدبيره له يتتابع يوما بعد يوم، والمريض فى زيادة من سوء الحال، إلى أن يعظم جهد المريض، فتكثر عليه الأقاويل، ويشير عليه أهله، وعواده، وأصدقاؤه، بإحضار طبيب موثوق به، يعرف مرضه، ويقوم بعلاجه. فبغير شك أن ذلك يدعوهم إلى إحضار طبيب آخر، ولا يقنعهم أيضا أن يكون مرتهنا، لكن أفضل من فى بلدهم. فعند حضور الطبيب، ونظره إلى المريض، لتفقده لجميع ما أمكنه من حالاته، ومساءلته لمن يصلح عن جميع ما دبر به، وما جرى من أمره، ووجوده لجميع ذلك، قد جرى على غير نظام، ولا ترتيب، وقد وصل المريض من المرض، وسوء الحال، إلى فساد، يعسر عليه إصلاحه، أو لعله لا يمكنه ذلك.

فحينئذ يفكر ذلك الطبيب فيما قد انساق إليه من وجوه المكروه، وذلك أنه يصادف المريض، لطول مرضه، وكثرة ما قد سقاه طبيبه الأول من الأدوية، قد عظم ضجره، وضجر من يخدمه، من كثرة التعب والمؤونة التى قد كانوا التزموا 〈بها〉 لذلك الطبيب الأول، ولأدويته، وتدابيره. ولعمرى إن الفائدة من جميع ذلك لم تكن إلا لذلك الطبيب. وأيضا فإن جميع ما كان المريض، وأهله، يتكلفونه من ذلك مع الطبيب الأول، كانوا فيه بنشاط، لأن المريض فى ابتداء مرضه. ثم لما تطاول الأمر، وساءت حال المريض، وعلموا أن جميع ما تعبوه، وأنفقوه، ضائع، صاروا يحذرون على أكثر الحالات من الطبيب الثانى، وإن لم يكن عندهم بصورة ذلك، فهم يتوقون الإقدام على دوائه بسرعة، ويتوقفون بالجملة فى جميع ما كانوا يعملونه من مصالح المريض، وتوفية الطبيب حقه، انتظارا لما يكون من أثره، لئلا يجرى أمره كما جرى مع الأول.

ولو برئ المريض بعد التعب الشديد، لقد كان فى قحة ذلك الطبيب الأول ما

يحمله على أن يقول: إن البرء إنما حصل له بتدبيرى الأول! فيكون ما عمله الثانى تحت الشك. وأما إن مات المريض، فقد كان ما انساق إليه من البلاء أشد وأعظم، لأن ذلك الطبيب الأول يكون قد فاز بالفائدة، وتخلص من الورطة التى كان فيها، والتى كان يخشاها فيما بعد، من سوء الذكر، وغيره. ووقع ذلك الطبيب الثانى فى جميع ذلك، وتوسم به. ولعل من له من الحساد والأعداء، يجدون الفرصة من التشنيع عليه، بأنه أخطأ عليه، وقتله. ويقول أيضا الأول: لو كانوا تركونى وتدبيرى، لقد كان برئ! ومع جميع ذلك يذهب تعب الثانى، وإن كان أعطى أدوية من عنده، لم يحصل على شئ من ثمنها.

فلجميع هذه الأسباب، يرى الطبيب أن الصواب له — وخاصة إن رأى أن المريض لا برء له — ألا يعود إلى ذلك المريض. فإذا هو انصرف من عنده، ولم يعد، جاءته الرسل، لتعلق قلب المريض، وأهله، به. فحينئذ يقع فى المكروه الرائج، لأنه — إن كان ذلك المريض سلطانا، أو من حاشيته — أخذ قهرا، وربما سيق إلى حتفه. وإن كان المريض من متقدمى البلد، ومشائخه، لم يتهيأ له الامتناع عليه، لئلا يتسبب إليه أنواع المكاره، بذم ذلك الشيخ، وأصدقائه، له. فإذا تتابع عليه مثل ذلك الذم، مرة بعد مرة، لم يمكنه المقام معهم فى بلدهم. هذا إن سلم من رائج المكاره. وإن كان ذلك المريض من أشرار الناس، كان الفزع أشد، وأروج، لأن الأشرار لا يفكرون فيما يأتون به من القبيح، ولا يتوقفون 〈عن〉 عمله. وإن كان ذلك المريض من ضعفاء الناس، وفقرائهم، قيل عنه أنه لم يعن به لفقره، ولأنه لا يرجو منه فائدة.

فتأمل — أيها الحبيب! — هذه البلايا الرديئة، والمكاره العظيمة، التى تنساق، وتتسبب على الأطباء، وخاصة الأفاضل 〈منهم〉، من سوء عادات الناس، وتدابيرهم الرديئة لنفوسهم، فكيف تتسبب أيضا على المريض، فتهلكه، بل كيف تتسبب أمثالها على الصحيح، حتى تمرضه، وتهلكه! وإنما كان مبدأ جميع ذلك الطمأنينة إلى غير الثقة، والقبول منه، والانبساط إليه، وإلى ملقه، وحلاوة حديثه، ومسارعته فى الخدمة، وإظهاره النصيحة، والمحبة. وإنما كان جميع ذلك حيلة، لفائدة ينالها. فلذلك يجب على عقلاء الناس، ألا يركنوا إلى ظواهر الناس، ولا يوثقوا كل من داخلهم، كما لا ينبغى لهم أن يأكلوا الطعام من يد كل أحد، ولو كان حسنا، حلوا، لذيذا. فإن الحيلة فى مثل ذلك تتم، والسم فى لذاذته خفى! وأيضا فلو سلم الملوك، والروساء، من الأمور المتلفة من السباع الأشرار، لما أمنوا من جهلهم، وشرهم، سوء الذكر!

فإذاً قد وجب مما قد اتضح، ألا يركن العاقل من الناس فى حال صحته، إلا إلى طبيب فاضل، ثقة، يكون له عدة. وكما أن صاحب السيف أكثر، وأوفر 〈له أن〉 يصون سيفه المرهف، سائر زمانه، ليوم الحاجة، كذلك ينبغى للإنسان أن يصون ذلك الطبيب الفاضل، بأوجه الصون، لوقت الحاجة إليه، وعلى أنه لا غناء له عنه، فى وقت من الأوقات، إذ كان لحفظ صحته، أحوج منه إلى علاج مرضه، إذ زمان الصحة أطول من زمان المرض، والصحة أشرف. وما كان أدوم، وأشرف، فتدبيره ينبغى أن يكون أكثر، وأوفر.

فأما من حقن سيفه، ورذله، ولم يصنه، فإنه عند حاجته إليه، يجده صدئا، كالا، لا ينتفع به. ولذلك يتمكن منه عدوه، فيهلكه. فإذا كان الأمر على ما قلناه، فقد اتضح عذر الطبيب فى هربه من الآفات، ولم يلمه على صونه لنفسه، ولصناعته، إلا جاهل غبى. وفيما ذكرناه... 〈كفاية〉...

〈بقية هذا الباب ساقط من الأصل〉

〈فى الأمانة والاعتقاد الذى ينبغى أن يكون الطبيب عليه والآداب التى يصلح بها نفسه وأخلاقه〉

... فضيلة الإنسان على سائر الحيوان، ووجب لفضله أن يجتهد فى إصابة منافعه، ومصالحه، وإعدادها، أكثر مما يفعله الحيوان. فإن وجد من هو ناقص العقل، قليل الأدب والفضيلة، فلا أقل من أن يتخذ له مصالحه، ويعدها، كما يعمل أحقر الحيوان، وأصغر المواشى، أعنى النمل، ولا بأس بأن يتعلم العاجز منه. فإنه على صغر جسمه، وقلة قوته، يعد له، من بعد إحكام بيوته، فى زمان الصيف للشتاء قوتا كثيرا، ويخدم قوته فى بيوته من تكسير ما كان حبا لما يخاف نباته، ونشر ما قد ندى فى الشمس، وما أشبه ذلك.

فإن تفقد هذه الأعمال من الحيوان، تحرك العاقل إلى اتخاذ مصالحه، فى أوقات إمكانها، قبل فوتها، وتبعثه أيضا على فكره بعقله فى تعرف عللها. ومن ذلك يترقى إلى حكمة العلة الأولى التى هى فوق كل حكمة، وعند نوره، وجوده، يسكن العقل حينئذ 〈إلى〉 الذى يمده بالفضائل، وهو فوق كل جود.

وإذا كان العقل هو أتم المخلوقات، وأكمل المكونات، فعلى العاقل من الناس أن يتبع أوامره، وينتهى عما نهاه، لأن البارئ تعالى جعله السراج لخلقه، فبه يستفيدون، وبنوره يهتدون إلى توحيده، وجوده، وحكمته، وشرائعه، وبالجملة إلى جميع ما يصلحهم فى دنياهم وآخرتهم.

فوجب إذاً — إذ كان العاقل يجد جميع حالات الجسم تتغير، وتنتقل من محمود إلى مذموم، كالذى نجد من ضعف القوة عند الشيخوخة، بعد قوة الشباب، ومن سوء حال المرض، بعد حال الصحة، ومن قبح الفقر، بعد جمال اليسار، ومن كثرة الحاجة مع العائلة، بعد قلتها مع الوحدة، ونظائر هذه الانتقالات، وما جانسها، مثل الفاقة إلى مصالح الشتاء، وما يرد من برده، بعد الغناء عن ذلك بحر الصيف — فلذلك، وأمثاله، ينبغى للعقلاء كافة أن يعدوا مصالحهم، ويدخروا منافعهم، من صيفهم لشتائهم، ومن صحتهم لوقت مرضهم، ومن وقت شبابهم لوقت شيخوختهم.

وإذا كان ذلك واجبا على سائر الناس، نافعا لهم بأسرهم، فذلك للطبيب أنفع، وعليه الاهتمام بذلك أوجب، لأن المقصر فى ذلك من سائر الناس، إنما يدخل الضرر عليه، وعلى عائلته فقط. فأما الطبيب، فإنه إذا عدم مصالحه، عدم صواب رأيه، لتقسم فكره لطلب حاجته، فيدخل من ذلك

الضرر على تدبيره الأصحاء والمرضى. فلذلك ينبغى لمن احتاج إلى تدبيره، أن يعينه على مصالحه، ويجتهد له فى كفايته، لتكون نفسه هادئة، ساكنة، وعقله منصرف إلى مصالح الناس.

ولأجل ذلك، ينبغى للطبيب، ألا يدبر صحيحا، ولا مريضا، إلا بعد خلو فكره، وإعطائه لنفسه وجسمه ما يحتاجان إليه من مصالحهما. فأما نفسه، فسكونها هو بما قدمناه من الأمن من الفاقة، والأمور المفزعة. وأما جسمه، فبأن تكون سائر حواسه قد أخذت بحظها النافع لها من محسوساتها، وذلك بأن لا يكون جائعا، ولا عطشان، وقد استعمل من الطيب ما يوافقه، ولا يشتاق معه إلى ما يشتمه من الطيب فى منازل الناس.

ومثل ذلك القول فى باقى حواسه، لتكون بذلك نفسه مسرورة، وعقله صافيا، وحواسه نقية من كل كدر، فيصفو له بذلك رأيه، وتصح مشورته.

وإذا كان قد اتضح لك مما قيل — أيها الطبيب السعيد — وجوب حفظ مصالحك، وإعدادك لجميع منافعك، كوجوب ذلك على مدبرى السفينة، من إعداد مراسيها، وقلوعها، وحبالها، ورجالهم، وتيقظهم قبل سيرهم، وقبل هجوم هول الريح عليهم، فقد لزمك أن تعلم ما تعده لنفسك، ولغيرك، ممن تريد حفظه، وعلاجه، إذ كانت الأمور النافعة فى ذلك، لا يمكن اتخاذها بأسرها، وقت الحاجة إليها، كما لا يمكن عمل الدرياق وقت حاجة الملسوع إليه. فيجب أن تكون الدرياقات، وغيرها من الأدوية، معدة للمرضى، والأغذية، والأشربة، وغيرها من المصالح، معدة للأصحاء والمرضى. ففيما ذكرته من هذه الأمثلة الجزئية، الدالة على المعانى الكلية، كفاية لذوى الفطن والقرائح.

فأما من لم يكتف بهذه الجمل، فالتمس تشخيص جميع ما بعده، فإن ذلك ممتنع، لأجل اختلاف أمزجة المحتاجين. ولكنى آخذ به فى تعريفه أنواع تلك الجمل التى لم يكتف بها، فإنها أبسط، وهى جامعة لما التمسه من علم الأشخاص، فأقول:

إن جميع ما ينبغى أن يدخر، ويقتنى، قبل فوت وجوده، نوعان: أحدهما تحثه جميع مصالح النفس، وآدابها، وذلك مأخوذ من معدنين: أحدهما الكتب الشرعية. فإنها جامعة لآداب النفوس، ومصالح الأخلاق، ومقومة للإنسان. فعليك بها أولا، وخذ نفسك وولدك بحفظها، بعد درسها على العلماء بها، ثم تأمل لغتها، وتدبر معانيها، فإنك تظفر 〈منها〉 بما أنا حاث لك عليه من آداب النفس.

والنوع الثانى هو الشامل لجميع مصالح الجسم، وما يقوم عضوا عضوا من أعضائه. ومعرفة ذلك مأخوذة من علم صناعة الطب، ووصولك إلى ذلك يتم بدرس كتبها على أهلها، فى حال الشبيبة،

وزمان الحداثة، ثم الخدمة لهم فى أعمال الصناعة، لتقتنيها اقتناء صحيحة. فإن منها تترقى إلى صلاح نفسك أيضا، إن كان قد فاتتك الدربة الشافية بكتب الشرائع.

ولأن أهلها، لما علموا أن الإنسان مؤلف من شيئين، هما النفس والجسم، وأرادوا إصلاح الإنسان، أثبتوا فى كتبهم، مع مصالح الجسم، مصالح النفس، والأخلاق أيضا. ولذلك لما رمت فى هذا الكتاب جمع ما ذكروه فى مواضع متفرقة، من آداب النفس، وتقويم الأخلاق، مع مصالح الجسم، قفوت أثرهم، وسرت فى طريقهم، لكى ينساق القليل الرياضة بما قالوه فى طرقهم، ويسلك سبلهم، فيصل بذلك إلى علمهم.

فإن تكن ممن يترقى على نظام، وقد شوقه ما قرأه من هذه الجمل إلى معرفة أصولها، ومن أين هى مأخوذة، فإنى أرشدك إلى ذلك من حيث أنت طبيب. فعليك من كتب معلمنا الفاضل جالينوس بكتابه فى الأخلاق وهو أربع مقالات، وبمقالته فى أن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وبمقالته فى تعرف المرء عيوب نفسه، وبمقالته فى أن الأخيار ينتفعون بأعدائهم، وبما شاكل هذه المعانى من أقاويله.

وأما إن علوت منزلة الأطباء، وأردت أن تكون طبيبا فاضلا، فعليك بمقالته التى بين فيها أن الطبيب الفاضل فيلسوف، ثم بكتابه فى آراء بقراط وفلاطن، ثم بكتابه فى البرهان. فإنك تبلغ المراد من آداب النفس ومصالحها. ولست أقول لك أنك لا تجد هذه الآداب، 〈إلا فى تلك الكتب〉 فقط، لكن جميع أهل العقول فى الملل المختلفة، والأمم السالفة، قد قالوا فى ذلك أقاويل كثيرة، 〈و〉وصفوا أصولها، وفروعها، لأنها عقلية. وإنما أرشدتك، من كتب الآداب، إلى كتب معلميك، وخاصة منهم إلى كتب جالينوس، إذ كنت طبيبا، وبكتب هذا الفاضل تعنى، فلك بها غنىً عن غيرها.

ومن كتبه أيضا تعلم ما تتعمده لجسمك من مصالحه، إن كنت قد تنبهت إلى ذلك، مما أوجب به لك فى الباب الأول من كتابى هذا. فإن أول كتبه التى منها تعلم ما لابد لك من علمه من حفظ الصحة، هو كتابه فى تدبير الأصحاء، وله من جزئيات ذلك مقالات، تقف عليها من ذلك الكتاب، ومن كتابه فى مراتب قراءة كتبه، ومن مقالته فى الحث على تعلم صناعة الطب، ومن مقالته فى أجزاء الطب، ومن غير هذه من أقاويله.

ومن قراءتك أقاويله هذه، تعلم أن بقاءك بنوعك، لا يتم إلا بالزوجة، لتنسل. والزوجة، والنسل، لا يتم بقاؤهما، إلا بمثل ما به تبقى شخصك، من قوت، وكسوة، ومنزل، وسائر ما به يتم البقاء، وتنحفظ الصحة. وبغير شك أنه يجب أن تعنى باكتساب جميع ذلك، وحفظه لوقت الحاجة إليه. ولاكتساب ذلك طريقان: أحدهما بمباشرتك الأعمال التى منها يقتنى ويوصل إليه بجسمك،

كالذى يعمله ملتمس ذلك من الأرض، ليعد له من الحبوب قوتا، ومن القطن مثلا كسوة، وما أشبه ذلك. وذلك لا يتم إلا بفلاحتها، والعناية بتنقيتها، وسائر مصالحها، وزراعتها، وسقيها، وما لا يتم له غرض، إلا به من أعمالها، فبذلك يكتسب قوتا، وكسوة، يكفى له، ولمن سواه.

ومن كان من الأطباء يحتاج أن يعانى تدابير أهل المدن، ويغدو إلى عيادة مرضاهم، مع كثرتهم، وترفهم، فبغير شك أنه لا يمكنه اقتناء مصالحه بجسمه، ولا بمعاناة صناعة أخرى، غير صناعة الطب، فيكتسب منها أقواته، لأنه بذلك ينقطع من عمله، وصناعته، ويصير ضارا، قتالا، أكثر من ضرر الأمراض! فقد بقى إذا أن يكون للطبيب مادة يكتسبها من جهة صناعته، وممن يدبرهم بها، فى حفظ صحة أصحائهم، وفى معالجة مرضاهم.

ومن المعلوم أن من الناس فقراء، ومنهم مياسير، وقد أوجب المنعم تبارك وتعالى على أهل النعم الإحسان، والإفضال، على الفقراء، والمساكين، بما غرس فى قلوبهم، وعقولهم، من العدل، والرحمة. فلذلك يجب على الموسر الذى قد أسبغ الله عليه نعمة، وعلى الطبيب الذى قد شرفه الله بفضل علمه، أن يستعملا العدل مع الفقراء، والضعفاء، ليكون نفع صناعة الطب عاما، شاملا، للقوى والضعيف!

ووجه العدل وابتداؤه ينبغى أن يكون من الطبيب أولا، وذلك بأن يروض نفسه، ويأخذها دائما باستعمال الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية، من الرحمة، والرأفة، والرفق، والعفة، والقناعة، والشجاعة، والسخاء، والصدق، وكتمان السر، وجميع ما جانس ذلك من فضائل النفس، وآدابها، مع الاجتهاد فى اقتناء صناعته، ودرس كتبها، والمعاناة لأعمالها، وبذلها للناس كافة، ولا يفرق فى ذلك بين صديقه وعدوه، ولا بين موافقه ومخالفه.

وأما وجه العدل من الموسر، فهو أن يستعمل النصفة مع طبيبه، وإذا كان يعلم أن اجتهاده فى إصابة المال، وسائر مصالحه، إنما هو لأجل حاجته، وحاجة عائلته إليه، ويعلم أيضا أن الطبيب محتاج إلى مثل ذلك، وقد انتفع الموسر بما يملكه الطبيب من صناعته، فى نفسه، ونفوس أهله، فمن الواجب إذا، أن يقوم الموسر للطبيب بمصالحه، من قوته، وكسوته، ودراهمه التى بها يصل إلى مصالح نفسه، وجسمه. ومتى لم يستعمل الموسر ماذكرناه من العدل، اضطر الأمر الطبيب إلى أن يستعين على إصابته مصالحه من أوجه أخر. فإن تشاغل بصناعة أخرى، ليكتسب منها وبها الدراهم، عدل عن صناعة الطب، فقل فهمه وعلمه بها، ودخل الضرر على الموسر، والضعيف، فى نفوسهما، وأجسامهما. وإن التمس كسب الدراهم من الضعفاء، وتعذر ذلك من جهتهم لفقرهم، ثم امتنع

عليهم، كان فى ذلك إضرار بهم. فتأمل، أيها الموسر، ما يدخل على الضعيف، والطبيب، وعليك فى نفسك، من الضرر الذى لا يتلافى، من استعمال الشح، والجور، واحذره! فإن هلاك النفوس مقرون به! فاحذر، أيها الطبيب، من الشح بصناعتك، إن شح ذوو اليسار بمالهم عليك، وعلى ضعفائهم! فإن مالهم ينفد، ومالك باق ما بقيت. فلذلك يكون يسارك، وعزك، والحاجة إليك، مبقين دائما عليك.

فاحذر من استعمال الجور! فإنه عن جنبتى العدل. فإن أصبت المال ومصالحك، فلا تفرط فى ذلك، فتستعمل التبذير، بل صن الدرهم، واحفظه لوقت حاجتك إليه، إذ كنت إنما تصل إلى مصالحك به! فإنك إن احتجت فى وقت الشيخوخة، أو وقت المرض، إليه، ولم تجده مذخورا عندك، ثم التمسته من الناس، وخاصة من أشحائهم، حل بك ما هو أعظم من ألم الشيخوخة، والمرض. ففى الخروج عن الاعتدال إلى التبذير من المضار ما ذكرته، وحسبك به بلاءً!

وأما الخروج عن العدل إلى الضبط، والشح على النفس، والأهل، بما كسبته، أيها الطبيب، من الدراهم، ففيه من المضار ما لا يحصى كثرة. فأولها أنك تكون فقيرا من مصالحك أنت، وأهلك، وولدك، مدة حياتك. ومن تخلف له مالك، وما تعبت فيه، فإنه يصفك بشحك، ويذمك دائما.

وأيضا فإنك متى كنت للمال جامعا، عرضت نفسك للمكاره، بل للتلف، إذ كان طالبوه كثيرا، فلعلمهم بشحك عليه، يهلكونك، مع أخذه. فصن نفسك، وجسمك، بلزوم العدل، واستعمال الاعتدال فى تكسبك للمال، وفى نفقته، بل فى سائر أفعالك، تنج بذلك من الآثام، وتكون منزلتك منزلة الكرام!

والله بجوده وكرمه يبلغنا، وإياك، أفضل الرتب الشريفة عنده، وهو حسبنا وحده.

تم الكتاب بمعونة الله تعالى، وحسن توفيقه، وله الحمد دائما سرمدا.

كتبه لنفسه، ولمن شاء الله بعده، العبد الراجى رحمة ربه، وغفرانه، عبد الله بن المكين عبد الله بن عبد السلم بن ربيع اللاوى، عفا الله عنه، وعن والديه، وعمن ترحم عليه. وذلك فى مدة عشرين يوما، فى ساعات مفردة منها، آخرهن ليلة الجمعة، ثانى عشر شعبان، سنة ثمان وأربعين وسبع مائة.