Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Elementis ex Hippocrate (On the Elements According to Hippocrates)

إلا أن كثيرا من الناس لما لم يفهموا معانى أسماء مشتركة جرت فى قوله، ارتبكوا، واضطربوا.

كالذى أصاب أثيناوس من أهل أطاليا. فإنه ادعى أن أسطقسات بدن الإنسان: الحار، والبارد، واليابس، والرطب.

ثم قال مع ذلك إن الاسطقسات ظاهرة فى العيان، حتى لا تحتاج إلى أن يؤتى عليها ببرهان أصلا. وربما سماها كيفيات، وقوى. وربما سلم أنها أجسام. ويخاف أن يقر بأنها الماء، والهواء، والنار، والأرض.

هذا على أنه لم يبلغ أحد من الأطباء الحدث فى الشرح لجميع الكلام فى الطب ما بلغه أثيناوس.

إلا قد نجده على حال قد أخطأ فى هذا، وفى أشياء كثيرة غيره.

وكذلك سائر جميع الأطباء الحدث.

فما أعلم أن أحدا منهم استقصى علم الطب القديم، ولا شرح، وتمم تلك السبيل التى أفادناها القدماء، ورسموها لنا.

لكن إن كان الحق أولى، فقد ألغوا ذكر أشياء كثيرة مما قيل فيها بالصواب فأبطلوها.

ومن ذلك أن أثيناوس قال: إن الاسطقسات ظاهرة فى العيان، لا تحتاج إلى برهان.

فياليت شعرى هذا الظهور فى العيان الذى يشهد به لها. أ من طريق ما هى استقصات يشهد به لها، أم من طريق الجواهر التى لزمها أن كانت استقصات؟

فإنه إن كان إنما يشهد بذلك لها من طريق ما هى جوهر، فما باله لم يزعم أن أسباب الصحة، وأسباب الأمراض ظاهرة لجميع الناس لا تحتاج لظهورها فى العيان لا إلى شرح، ولا إلى برهان.

وذلك أن جميع الناس يعرفون الخبز، والعدس، وكشك الشعير، واللحم، وماء العسل، إلا أنهم لا يعلمون لمن، ومتى من شأن كل واحد من هذه أن ينفع، أو يضر، ومن هذا الطريق كان لكل واحد منها أن يكون سببا للصحة، أو المرض. فقد بان أنهم يعرفون الخبز، واللحم، والكشك، ولا يعرفون سبب الصحة منها من سبب المرض.

وكذلك فى الأدوية أيضا. فإن الخريق، وقتاء الحمار، والسقمونيا، والأفتيمون، وأصل السوسن، والخاريقون، ليس من أحد إلا وهو يقدر أن يراها عيانا، ويشمها، ويلمسها، ويذوقها. فأما منافعها، ومضارها فليس يعرفها عوام الناس.

فقد بان أنهم لا يعرفون سبب الصحة منها من سبب المرض.

وكذلك أيضا الأرض، والهواء، والماء، والنار، ليس من أحد إلا وهو يعرفها معرفة شافية بحواسه كلها، إلا أن عوام الناس لا يعلمون هل هى اسطقسات، أم لا. ولم يعجز عن معرفة ذلك عوام الناس فقط، لكن قد عجز عن معرفتها كثير من الفلاسفة.

وأخلق بأصحاب أثيناوس أن يقولوا إنهم هم أيضا لا يحكمون فى هذه بشىء، وذلك أنها مجاوزة لحد الطب. لكنهم يكتفون بالحار، والبارد، واليابس، والرطب التى قد يقدرون أن يوجدونا إياها فى أبدان الحيوان عيانا. ويمكنهم أن يحعلوها استقصات للأبدان، وللطب كله.

وما بى حاجة الآن إلى أن أصف ما عليه قولهم من الشناعة، والبعد من القياس فى تصييرهم الحار، والبارد، واليابس، والرطب استقصات للطب، كما صيروها اسطقسات أبدان الحيوان، إذ كان هذا القول قد شهر بالشناعة عند كثير من الناس، وألزموا صاحبهم القديم به الذم، والهزاء الشديد، وصيروه فى حد من لا يوثق به.

ومن أعظم جناية عليه ممن قال إنه لا يحتاج إلى أن يأتى بالبرهان على الاسطقسات لظهورها فى العيان، وأوجب مع ذلك أن يصيرها اسطقسات للطب، ولأبدان الحيوان.

وما أرانى إلا سأبين أنه لم يدع أثيناوس إلى أن خاف، وتوقى أن يقول: النار، والماء، والهواء، والأرض، وقال: الحار، والبارد، والرطب، واليابس، شىء سوى أن لم يشعر بما فى هذه الأسماء من المعانى المشتركة.

وما قصدى فى ذلك أن أبين أن أثيناوس أخطأ، لكن قصدى فى ذلك أن أحوط غيره من أن يخطىء مثل خطائه. وأبين بنفس الأشياء الموجودة أنه لا يمكن أن يثبت قول من الأقاويل أصلا إلا بعلم المنطق.

ومن ذلك أنى أروم الاقتصاص لك عن شىء عرض لى.

وأقسم بالله أنى أتوخى أن أحكيه لك كما كان.

وذلك أنى قصدت رجلا من المعلمين لمقالة أثيناوس لأتعلمها عنه.

فلما بدأ يعلمنيها، سألته أن يلخص لى على الاستقصاء معانى الأسماء المشتركة فى قوله.

فقلت: إنى لا أعلم على أى المعانى الموجودة يستعمل أثيناوس اسم الحار، والبارد والرطب؛ واليابس.

وذلك أنه كما يقال: أبيض، فمرة يراد به اللون، والكيفية، حتى يقال إن بعض الألوان أبيض، وبعضها أسود، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، ومرة يراد به الجسم القابل للون، فيقال: إن الثلج واللبن أبيضان، وإن الغراب والحبشى أسودان.

كذلك فإنى أسمع الناس يقولون حارا، فمرة يريدون به الجسم نفسه مثل النار فى المثل؛ ومرة يريدون به الكيفية التى فيه فقط.

فلست أدرى إذا قلتم حارا، أى شىء تريدون به؟ أ تريدون به الكيفية وحدها، أو تريدون به الجسم القابل لها؟

فعند مسئلتى إياه عن هذا، أسرع جدا، فبادرنى بالجواب، فأقر أنه ليس يعنى بقوله حارا الكيفية وحدها، لكنه يعنى الجسم كله بأسره.

ثم إنى سألته بعد هذا، فقلت له: هل تعنى بقولك اسطقس حار ذلك الجسم الذى هو فى غاية الحرارة؛ أو قد تسمى ما ليس هو فى غاية الحرارة اسطقسا حارا؟

وكذلك سألته فى البارد، واليابس، والرطب.

فلما أوردت عليه هذه المسئلة، اضطرب، وجعل يتلكا فى الجواب، فلا يسرع فيه كما أسرع أولا.

ثم قال لى:

وما أدركك فى هذا الذى تسأل عنه؟

فقلت له:

إنى إنما سألتك عن هذا، لأن بين أن تضع عددا من الاسطقسات لا نهاية له وبين أن تضع لها عددا متناهيا فرقا عظيما.

وإن نحن جعلنا ما هو من الحرارة، أو من البرودة ليس فى غايتها استقسا، وجب من ذلك أن يكون عدد الاستقصات لا نهاية له.

وإن نحن جعلنا ما هو من الحرارة، أو من البرودة فى الغاية هو الاسطقس، لم يكن عددها غير متناه، لأنه إنما يصير فى كل واحد من الأجناس اسطقس واحد. حتى يصير عدد الاسطقسات كلها أربعة.

فأجابنى قائلا: فإذا كان هذا الأمر كذلك، فافهم منى أنها متناهية، وأنها أربعة.

فقلت له:

فقد بان إذا أنها من الكيفيات فى غايتها مفردة، بسيطة، أولية.

فقال لى:

وما حاجتك إلى التغلغل فى البحث إلى هذا أيضا؟

فقلت له:

حتى استقصى فهم ما تقول.

فقال:

هكذا أقول. وهكذا فافهم عنى.

فقلت له:

فكيف تأمرنى؟ .. أن أفهم عنك أن الاسطقس هو الشىء الذى هو فى غاية الحر، أو فى غاية البرد؟

فلما قلت له هذا القول، غضب غضبا شديدا، واضطرب، ثم قال لى:

إنى أسمى الجسم الذى قد غلب عليه الحر حارا، والجسم الذى قد غلب عليه البرد باردا وكذلك أقول فى اليابس، وفى الرطب: إن كل واحد منهما هو الجسم الذى قد غلب عليه اليبس، أو الرطوبة.

فقلت له:

فما يمنعك مانع من أى تسمى هذه الأجسام بهذه الأسماء. فقد يسمى الخبز حارا، والعدس، والكشك، والحمام، لكنى لا أحسبك تقول: إن كل واحد من هذه اسطقس. لكن أحسبك إنما تعنى بالاسطقس الحار ذلك الجسم الذى هو فى غاية الحرارة فقط. وكذلك تعنى بالاسطقس البارد الجسم الذى هو من البرودة فى غايتها. وعلى هذا القياس يسمى اليابس، والرطب. وذلك أن الاسطقس ينبغى أن يكون مفردا، بسيطا، لا يخالطه، ولا يشوبه شىء. ولا ينبغى أن يكون مركبا، ولا مختلطا.

فقال:

فهكذا فافهم. فإنى لست أقول إن الكشك، والعدس استقصات.

فقلت له:

إن توهمت أن الجسم الذى هو فى غاية الحرارة هو الاسطقس الحار، لم يقع وهمى على شىء سوى النار.

فقال:

فافهم عنى أنه النار.

فقلت له:

فكهذا تريد أن أفهم أن الاسطقس الرطب إنما هو الماء.

فأقر بذلك، ولكن بعد كد شديد.

فقلت له:

فقد جئنا من الرأس إلى النار، والهواء، والماء، والأرض التى كنا هربنا منها فى أول الأمر.

فقال لى:

فأنت الذى صيرت كلامنا إلى هذه الحال من الاضطراب.

ثم أقبل مع قوله ذلك على سائر تلاميذه، فقال لهم: إن هذا تربى بين أصحاب المنطق، فامتلأ من نفاقهم، فجاء يبطل كل صحيح، ويعوج كل مستو، ويثور كل صاف، ويغالطنا كيما يتحجج عندنا بما عنده من العدة والقوة فى المنطق.

ومن ذلك أنه جاء يؤدى بنا إلى أن نتوهم أن اسم الحار اسم مشترك يدل على معان شتى، أحدها: كيفية. كما نقول: أبيض. والثانى: الجسم الذى قد قبل الغاية من تلك الكيفية. والثالث: الجسم الذى تلك الكيفية غالية عليه كالحمام.

قال:

فأما نحن فلم نتعلم نقض المغالطات. فهو إذا أولى بنقضها، إذ كان هو الذى عقدها.

وكان هذا وقد أتت على من السن تسع عشرة سنة.

فأنا منذ ذلك أستعمل فى أكثر الأمر السكوت، كيما لا يظن بى أن شأنى اللجاجة، والمراء، وأتفكر فيما بينى وبين نفسى، فأبحث عن القول فى الاسطقسات، وعن سائر الأقاويل.

وأعجب كيف لم يشعر أثيناوس بتناقض قوله فيما ادعى من أن الاسطقسات إنما هى الحار، والبارد، والرطب، واليابس. وأبى أن يزعم أنها النار، والأرض، والماء، والهواء. لكن قال:

إنى إنما أقصد قصد الاسطقسات القريبة التى تخص الحيوان، وليس أقصد قصد الاستقصات البعيدة التى تعم جميع الأجسام.

ويعنون بالقريبة التى هى كأنها خاصة للشىء الذى تنسب إليه. وليست هى بشىء غيره أصلا من جميع الأشياء.

وأما أنا فقد بينت منذ أول قولى أن الفرق بين ما يظهر عيانا أنه اسطقس وبين ما هو بالحقيقة اسطقس عظيم جدا.

وأخلق بى أن أتكلم فى ذلك الآن أيضا كلاما أبلغ من الأول، فأقول:

إنه إن كان الاسطقس إنما هو جزء لا يكون أقل منه، ولا أبسط منه، وجب أن يكون عند الحس اسطقسات بدن الإنسان: العظم، والغضروف، والرباط، والظفر، والشعر، والشحم، واللحم، والعصب، والمخ، والليف، والأغشية. وبالجملة: جميع الأعضاء المتشابهة الأجزاء.

أفترى أثيناوس جعل هذه فى شىء من أقاويله هى الاسطقسات؟

ما نجده حقا جعلها كذلك، بل وجدناه قد كتب فى بعض كتبه أن كل واحد من الأعضاء المتشابهة الأجزاء إنما كان حدوثه من الاستقصات الأول. ومن الأعضاء المتشابهة الأجزاء كان تركيب سائر أعضاء بدن الحيوان.

فإن سأله سائل عن الاستقصات الأول التى حدث عنها اللحم فى المثل، أو الشحم، فبين أن جوابه فى ذلك هو أن يقول: إنها الحار، والبارد، واليابس، والرطب.

وكذلك أيضا يزعم أن اسطقسات العظم، والغضروف، والشعر هى الحار، والبارد، والرطب، واليابس.

وإذا قال ذلك، فقد وجب لك عليه أن تسئله: ما الذى يعنى بالحار، والبارد، واليابس، والرطب؟ وذلك أن كل واحد من هذه قد يقال بالغالب، وقد يقال على الانفراد.

فأما بالغالب، فيقال. إن اللحم رطب، ويقال: إن الغضروف يابس. ويقال: إن اللحم حار، ويقال: إن الغضروف بارد. وكذلك يقال فى العظم: إنه بارد، يابس، ويقال فى الشحم: إنه بارد، رطب. وكل واحد من سائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء يوصف بحال من الأحوال بحسب غلبة الاستقصات المفردة، البسيطة عليه.

فإن قال قائل: إن الجسم الذى يقال إنه حار أو بارد، أو رطب، أو يابس بالغالب فيه هو الاسطقس، وجب من قوله أن تكون استقصات بدن الإنسان: العظم، والغضروف، والعصب، وما أشبه ذلك من سائر الأعضاء.

وليس يزعم أثيناوس أن هذه هى اسطقسات بدن الإنسان، لكنه يزعم أن تلك الأشياء التى عنها ركبت هى الاستقصات بالحقيقة.

فقد بان من ذلك أنه قد تجاوز الحس، وتراقى بالروية، والفكر إلى الأشياء الأول التى هى بالحقيقة مفردة، بسيطة، التى لا يمكن أن يقال فيها إنها بالغالب صارت بالحال التى توصف بها.

لأنه إن قيل فيها أيضا إنها كذلك بالغالب، وجب أن تكون تلك أيضا مركبة.

وكنا قد أخطأنا ما أردناه من وجهين:

أحدهما: أنا فارقنا الأشياء المحسوسة فى طلب شىء أبسط منها.

والثانى: أنا لم نجد، ولا فى الأشياء الخفية، ذلك الشىء المفرد، البسيط.

فأما عند التماستا كان للأشياء الظاهرة عيانا، فقد كنا على حال نجد فيها شيئا متفقا عليه بأنه بسيط مفرد.

وإن كنا لا نجد غير ذلك، فإنه ليس أحد من الناس يأبى أن الغضروف، والشحم، والغشاء، وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء كلها أجزاء أول من بدن الإنسان هى أبسط أجزائه.

فالذى يدع هذه لأنها عند الطبيعة مركبة، وإن كانت تظهر فى الحواس بسيطة، ثم لا يأتى بعد بشىء مفرد، بسيطا، فما عذره عند من ينسبه فى ذلك إلى دعوى الفضول، والباطل؟

وإن كنت أيضا تعنى بالحار، والبارد، والرطب، واليابس ما هو كذلك بالغالب، فقد نجد استقصات موجودة عيانا معروفة، وهى العصب، والغشاء، والغضروف، والرباط، واللحم، وكل واحد من سائر الأعضاء التى ذكرناها.

وإن كنت تطلب الشىء الذى هو عند الطبيعة بسيط، مفرد، فقد ينبغى أن يكون ذلك خالصا صرفا، لا يشوبه شىء. وتكون الكيفية فيه على غايتها.

فقد جئت من الرأس إلى النار، والهواء، والماء، والأرض، لأنك لا تجد الكيفيات على غايتها لا يشوبها ولا يخالطها شىء إلا فى هذه فقط.

وذلك أنا نجد فى النار غاية الحر، وغاية اليبس، ونجد فى الأرض غاية البرد، وغاية اليبس. ونجد الكيفيات الأخر فى كل واحد من الاثنين الباقيين بحسب طبيعته التى تخصه.

فإن لم تشأ أن تقول إن هذه الأربعة هى الاستقصات، لكن اثنين منها، أو ثلاثة، فلعلك ستجد فى ذلك بعض الحجة.

فأما بأن تقر أن الاسطقس الرطب هو فى غاية الرطوبة، ثم تتوهم مع ذلك أنك تعنى به شيئا غير الماء، فذاك منك غاية الجهل. إلا أن تزعم أن الكيفيات أنفسها هى الاستقصات، لا الأجسام القابلة لها، فإنك إن قلت ذلك، صار الاسطقس الرطب ليس هو الماء، لكن الرطوبة. وصار الاسطقس الحار ليس هو النار، لكن الحرارة التى هى فى الغاية.

فإن قلت ذلك، فقد لزمك أمران:

أما الأول: فإنك قد تجاوزت النار، والهواء، والماء، والأرض، وتراقيت بالقول إلى ما هو أعلى منها. وقد كان غرضك أن تقصر دونها، ولا تبلغ إليها. لأنها بزعمك بعيدة عن الطب.

وأما الثانى: فإنه ينكشف بذلك من جهلك أنك لا تعلم ما الفرق بين الاسطقس وبين المبدأ.

وقد اتفق جميع الفلاسفة الذين اثيناوس حريص على اتباعهم على أن الحرارة التى هى فى الغاية أبسط من النار، وأن تلك الحرارة إذا صارت فى العنصر، تولدت منها النار.

وكذلك اتفقوا أيضا على أن مبدأ كون النار يكون من العنصر الذى لا كيفية له، المشترك لجميع الاسطقسات، وعن الحرارة التى هى فى الغاية الحادثة فى ذلك العنصر. وأن العنصر موجود الدهر كله، لا يقبل كونا، ولا فسادا. والذى يحدث فيه، ويبطل عنه إنما هو الكيفية، وأن الاسطقس ينبغى أن يكون من جنس ما هو له اسطقس.

وهذا هو الفرق بين المبدأ وبين الاسطقس:

أن المبدأ ليس يجب ضرورة أن يكون مساويا فى الجنس للشىء الذى هو له مبدأ.

أما الاسطقسات فهى لا محالة موافقة فى الجنس لما هى له اسطقسات.

فالكيفية البسيطة، المفردة اسطقس للكيفية المركبة. والجسم البسيط، المفرد اسطقس للجسم الذى ليس ببسيط، ولا مفرد.

وإن كان الحار، والبارد، والرطب، واليابس يقال كل واحد منهما على ثلثة أوجه:

إما على أنه كيفية، وإما على أنه جسم مفرد لا يخالطه، ولا يشوبه شىء، وإما على أنه جسم مختلط.

ووجدنا أن الاسطقس ليس هو الكيفية، ولا الجسم المختلط، الممزوج، فقد بقى أن يكون الاسطقس إنما هو الجسم الذى هو مفرد، غير ممتزج، ولا مختلط، لكنه فى كيفياته بسيط.

فقد رجعنا من الرأس إلى النار، والماء، والأرض، والهواء. إذ كنا إنما نجد أولا الحرارة التى هى فى الغاية، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة فيها.

وأما خوف من خاف أن يقر بأن هذه هى الاستقصات من قبل أنا ليس نخرج من البدن شيئا منها، ولا نورد على البدن شيئا منها، فغاية الجهل.

وذلك أنا إذا أوردنا على البدن ما كان حدوثه عن الاستقصات، فقد أوردنا عليه لا محالة الاسطقسات أنفسها.

فإن قالوا: إنكم فى تلك الحال ليس توردونها على البدن خالصة، ولا مفردة، قلنا لهم: فبئس ما قلتم: إنكم ليس تخرجون من البدن شيئا منها، ولا توردون على البدن منها شيئا. وذلك أنه لم يكن ينبغى لكم أن تطلقوا قولكم هذا الإطلاق، لكنه إنما كان ينبغى لكم أن تقولوا: إنكم ليس توردون على البدن شيئا من الاستقصات مفردا، ولا غير مختلط، ولا على حدته.

على أن هذا أيضا شىء لا يحصل لهم منه شىء، ولا ينتج لهم شيئا، وذلك أنه لا يجب أن يكون النظر فى الاسطقسات شيئا لا ينتفع به، من قبل أنه ليس نورد على أبداننا شيئا منها مفردا على حدته، ولا يخالطه غيره.

ولا يجب أن يكون من قال إن النار، والهواء، والماء، والأرض هى الاسطقسات، قد أساء فى قوله، وأخطأ من قبل أنا إنما نستعمل ما حدوثه منها. فأما كل واحد منها مفردا، على حدته، فليس ينتفع به.

على أنا قد استعملنا كثيرا استقصات العالم وهى فى حال تكاد أن تكون فيها خالصة، مفردة.

أما الماء فشربنا له كل يوم، واستحمامنا به، وسائر استعمالنا إياه. وأما الهواء فباحاطته بأبداننا من جميع النواحى، واجتذابنا له باستنشاق. وقد نحتاج كثيرا إلى النار، إذا نالنا البرد.

فلست أدرى ما الذى يريدون أن ينتجوا من قولهم إنا ليس نخرج من أبداننا ولا نورد عليها لا نارا، ولا ماء، ولا هواء، ولا أرضا.

وأما أنا فأقول: إن الذى يناله القر، فيصطلى بالنار قد يورد على بدنه نارا، وأن الذى يشرب الماء قد يورد الماء على بدنه، وكذلك أقول إن الذى يتنفس إنه يورد على بدنه هواء. وأقول أيضا فى الحيوان الذى يأكل الرمل، أو التراب، أو الحجارة، أو الحمأة، والعظام، إن كل واحد منها يورد على بدنه أرضا ورودا بينا.

فإن كان إنما يزعمون أنا ليس نورد على أبداننا شيئا من الاسطقسات من قبل أن الذى يصطلى بالنار ليس يمعن فى الاصطلاء بها حتى يحترق، والشارب الماء ليس يمعن فى شربه حتى ينفطر، فهم أحق بأن نعجب من حكمتهم، إذ كان فهمهم قد قصر عن أن يعلموا أنه إن باد من بدن الحيوان أصل واحد من الاسطقسات، أيها كان، وجب أن يهلك ذلك الحيوان مع عدمه لذلك الاسطقس. وأته يبيد من البدن إذا احترق الاسطقس البارد. وإن برد غاية البرد، باد منه الاسطقس الحار. وكذلك إن جففت البدن غاية الجفاف، أبدت منه الاسطقس الرطب. وإن بلغت منه غاية الترطيب، أبدت منه الاسطقس اليابس.

فالأمر إذا على ضد ما قال أولئك.

وذلك أنه قد ينقص من بدن الحيوان ويزيد فيه دائما شىء من الاستقصات. إلا أن ذلك يكون بمقدار قصد ممن لا يقصد إلى فساد بدن الحيوان. وذلك أن استعمال الاسطقسات إذا كان مفرطا، خارجا عن القصد، أهلك الحيوان.