Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: Topica (Topics)

〈تبكيت الحجة وتبكيت الخصم〉

فأما تبكيت القول فى نفسه، وتبكيته إذا كان على طريق السؤال، فليس هو واحداً بعينه. وذلك أن كثيراً ما يكون سبب فساد القول من قبل السائل لتركه التسليم والانقياد للأشياء التى عنها الإصابة فيه تلقاء الوضع. وذلك أن العمل المشترك لا يكمل أفضل كما له من قبل أحد الاثنين فقط. ولذلك قد تدعو الحاجة فى بعض الأوقات إلى أن يجعل الحجة موجهة نحو القائل دون الوضع متى كان المجيب مستعدا لما يأتى به السائل من المتضادات التى تقدر أن تقوده إليها قسراً. وإذا انتهيا إلى هذه الحال من المشاكسة فإنهما يجعلان الجدل أحيانا مجاهدة لا مجادلة. — ولما كان ما يجرى هذا المجرى من الأقاويل إنما ينتفع به فى الارتياض والتدرب دون التعليم، كان من البين أنه ليس إنما ينبغى أن تنتج الأشياء الصادقة فقط، بل قد ينبغى أن تنتج الأشياء الكاذبة أيضا. وذاك أن السائل قد يضع أحياناً أشياء هى حق فيضطر الذى يكون القول معه إلى فسخه. ولذلك قد ينبغى أن يتقدم فيضع الأشياء الكاذبة. وربما وضع شىء كاذب، وكان الوجه يفسخ بكذب مثله، لأنه لا شىء يمنع أن تكون الأشياء الكاذبة تسبق إلى ظن بعض الناس أكثر من الصادقة حتى يكون القول متى الف من تلك الأشياء التى يظنها كان أشد إقناعا وأدنى بالقبول. وقد ينبغى لمن أحب أن يكون مصيبا فى الانتقال أن يجعل انتقاله على طريق الجدل، لا على طريق المرائى، بمنزلة المنتقل على طريق الهندسة، كان ما ينتج كاذبا أوصادقا. فأما أى القياسات هى القياسات الجدلية، فقد قصصنا ذلك فيما سلف.

ولما كان الوضيع من الشركاء هو الذى يقصد للعوق عن العمل المشترك، كان معلوما أن الأمر فى الأقاويل يجرى هذا المجرى. وذلك أن الأمر الموضوع فيها هو الشىء المشترك، إلا فيما كان يجرى من المجادلة على طريق المجاهدة؛ فإنه غير ممكن أن يقبل كل واحد من الفريقين شيئاً واحداً يعينه، لأنه غير ممكن أن تكون الغلبة لأكثر من واحد. ولا فرق أصلا فى أن بفعل ذلك فى حال الجواب أو فى حال السؤال. وذاك أن الذى يسأل على طريق المراء طريقته فى الجدل طريقة خسيسة، وكذلك حاله إذا تعاطى الجواب، فإنه لا يعطى الشىء الذى يظهر، ولا يأتى ليعلم ما الشىء الذى يريد السائل أن يعلمه.

فقد علم إذن من الأشياء التى قيلت أنه ليس يجب أن يكون التبكيت للقول فى نفسه على الانفراد، وللسائل على مثال واحد. وذاك أنه لا شىء يمنع أن يكون القول خسيسا وأن يكون السائل يخاطب المجيب بأفضل ما يتهيأ له مخاطبته به. فأما فى محاورة الذين يعتاصون فخليق ألا يمكن الإنسان فى اول وهلة أن يؤلف القياسات بحسب ما يريده ويختار، وإنما يؤلفها بحسب ما يمكن ويتهيأ.

ولما كان بعض الناس قد يستعمل المتضادات فى حال، والأشياء التى فى بدء الأمر فى أخرى، استعمالا غير محصل ولا مميز، (ولما كانوا إذا انفردوا بالقول مع أنفسهم أحيانا قالوا أشياء متضادة، وإذا أنكروا أولاً أوجبوا أخيراً، ولذلك صاروا إذا سئلوا استجابوا وانقادوا للأشياء المتضادة والتى فى بدء الأمر)، وجب صرورةً أن تكون هذه الأوقاويل رذلة خسيسة. والسبب فى ذلك هو المجيب، لأنه لم يعط هذه الأشياء وأعطى ما يجرى من الأمور هذا المجرى. — فقد استبان إذن أنه ليس ينبغى أن يكون التبكيت للسائل وللأقاويل على مثال واحد.

والتبكيت بالقول بعينه على الانفراد يكون على خمسة أوجه:

(فالأول) منها إذا كان لا تلزم من الأشياء المسئول عنها نتيجة: لا نحو الأمر الموضوع ولا نحو شىء من الأشياء أصلا، كانت الأشياء التى عنها تحدث النتيجة كاذلةً أو غير محمودة: إما جميعها أو جمهورها. ولا إن زيدت أشياء أو نقصت، ولا إن حذف بعض هذه الأشياء أو أضيف بعضها تحدث نتيجة؛

(والثانى) ألا يكون القياس، المؤلف من أمثال هذه الأشياء ومن هذه حاله بحسب ما قلنا فيما سلف، موجها نحو الأمر الموضوع؛

(والثالث) متى كان حدوث القياس بأشياء ما تزاد أو تنقص، إلا أنها تكون أخس من الأشياء التى يسأل عنها ودون النتيجة فى الإحماد. — وذاك أنهم أحيانا يستعملون فى القياس أشياء تزيد على ما يحتاج إليه فيه لئلا يحدث عن وجودها قياس. — وأيضا فإذا كان القياس من أشياء هى أقل إحمادا وصدقا من النتيجة، أو كان من أشياء صادقة إلا أنه يحتاج فى تبيينها من العمل إلى أكثر ما يحتاج إليه فى الأمر المطلوب.

وليس ينبغى أن يلتمس فى جميع المسائل أن تكون حال المقاييس التى يؤتى بها فى تبيينها حالا واحدة فى الإحماد والإقناع. وذاك أنا قد نجد فى الطبع فى أول وهلة أن من الأشياء المطلوبة ما هو سهل جدا، ومنها ما هو صعب جداً. ولذلك صار متى أمكن أن يكون ما ينتجه من الأشياء التى هى أحمد، كان قوله أفضل وأصوب.

فقد وضح إذاً وبان التبكيت للقول فى نفسه. والتبكيت له من حيث هو سؤال ليس واحدا بعينه، إذ كان لا شىء يمنع أن يكون القول فى نفسه وعلى انفراده مذموما؛ وإذا جعل سؤالا كان محموداً أو يكون محموداً، فاذا جعل سؤالا كان مذموما، لا سيما متى كان تنتجه من أشياء كثيرة محمودة صادقة تنتجا سهلا. وقد يكون القول المنتج فى حال أخسن كثيراً من القول غير المنتج متى كان المنتج قد ينتج من أشياء أخس وكان المطلوب ليست هذه حاله، وكان غير المنتج محتاجا إلى أن يزاد عليه من الأشياء ما كان محمودا صادقا، وإن كان القول غير موجود فى الأشياء المزيدة. وما كان من المقاييس ينتج الصدق من مقدمات كاذبة، فمن العدل أن يبكت. وذاك أن الكذب إنما ينتج لا محالة من الأشياء الكاذبة. فأما الصدق فربما ينتج من الأشياء الكاذبة، وهذا يتبين من كتاب «أنالوطيقا». فأما إن كان القول برهانا على شىء من الأشياء وكان لا يناسب النتيجة فى حال من الأحوال، فذلك القول ليس قياسا على تلك النتيجة. وإن كان يخيل أنه بهذه الحال فإنما ذلك تضليل، لا برهان. — فأما الفلسفى فهو قياس مبرهن. فأما الاحتجاجى فهو قياس جدلى. وأما المغالط فهو قياس مراىى. وأما المشكك فهو قياس جدلى بالنقيض.

فإن برهن شىء كم شيئين هما جميعا مظنون، إلا أنه ليست حالهما فى ذلك حالا واحدة، فلا شىء يمنع أن يكون الأمر المبرهن عليه مظنونا أكثر من كل واحد من ذينك الشيئين. وإن كان أحدهما مظنونا، وكان الآخر لا يجرى نجراه فى ذلك المعنى، أو كان أحدهما مظنونا والآخر غير مظنون، فإن الأمر أيضا فى النتيجة يكون فى أنه موجود أو غير موجود بتلك الحال. وإن كان أحدهما أكبر من الاخر فى ذلك، فإن النتيجة تتبع الأمر الأكثر.

وقد نجد فى القياسات أيضا هذا الضرب من الغلط: وهو أن يبين بأشياء أكثر ما يتهيأ تبيينه بأشياء أقل، وهى مع ذلك موجودة فى القول: بمنزلة قولنا إنه قد يكون ظن أفضل من ظن، فإنه متى سأل سائل فقال إن كل واحد من الأمور هو أفضل فى الوجود من غيره، لأنه مظنون على الحقيقة، فيجب إذن أن يكون أفضل مما ليس كذلك من الأشياء، إذ كان إنما يقال أفضل بالإضافة إلى ما هو أفضل منه، وقد يوجد ظن ما صادقا، وهو الذى يكون أصح من غيره من الظنون. وقد كنا أعطينا أنه قد يكون ظن ما صادقا، وأنه قد يوجد فى كل واحد من الأمور ما هو أفضل، فيجب أن يكون الظن الصادق هو أصح وأشد تحقيقا. فأما من أين أتى الفساد، فإنه أتى من قبل أنه جعل الشىء الذى منه صدر القول سبباً لأن تخفى العلة ولا يشعر بها.