Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

المقالة الأولى من كتاب جالينوس في أصناف الحمّيات ترجمة حنين بن إسحاق

١ إنّ أخصّ أصناف الحمّيات وأولاها بها ما كان منها من نفس طبيعتها. وأمّا سائر أصنافها، فمن بعض الأعراض التي تلزمها. وليست طبيعة تلك الأعراض التي تلزمها واحدة، لكن منها ما هو أقرب إلی طبيعتها تلك التي تُقسّم وأخصّ بها، ومنها ما هو أبعد منها وأغرب. ولمّا كان ذلك كذلك، صارت الأصناف المأخوذة من تلك الأعراض ليست جنساً واحداً.

وأعظم الناس خطاء من ترك ذكر تلك الأصناف التي هي أخصّ أصناف الحمّيات وأولاها بها، وبعده من ذكر تلك الأصناف، ثمّ خلط بها جميع الأصناف المأخوذة من الأعراض كأنّها مساوية لها، ولم يميّز بين ما ينتفع به منها وبين ما لا ينتفع به. وليس في أجناس أصناف الحمّيات فقط غلط أكثر الأطبّاء، إمّا بأنّهم زادوا فذكروا ما لا يحتاج إليه منها، أو نقصوا فتركوا ذكر بعض الأصناف التي يحتاج إليها، لكنّهم غلطوا مثل ذلك الغلط أيضاً في تقسيم تلك الأجناس إلی أصنافها.

من ذلك أنّ أوّل جنس من أجناس أصناف الحمّيات وأخصّه وأولاه بها يؤخذ من نفس طبيعة ذلك الشيء الذي يقسّم، فنجد بعض الأطبّاء قد ألغوا ذكر هذا الجنس بأسره، ونجد بعضهم قد زاد في تقسيمه أو نقص منه، على أنّ بقراط قد استنظف هذه القسمة على أحسن الوجوه في المقالة السادسة من كتابه المسمّى إبيذيميا. وهذا كلامه فيها بلفظه:

الحمّيات منها ما يلذّع اليد، ومنها طيّبة المجسّ، ومنها ما لا تجدها لذّاعة ثمّ تتزيّد، ومنها ما تجدها حادّة ثمّ تخور عن اليد، ومنها ما تجدها شديدة الإحراق منذ أوّل لمسها، ومنها ما تجدها خامدة يابسة دائماً، ومنها مالحة، ومنها نفّاخيّة كريهة شنعة المنظر، ومنها نديّة المجسّ، ومنها شديدة الحمرة، ومنها شديدة الصفرة، ومنها إلی الخضرة والكمدة، وغير ذلك ممّا أشبهه.

فإنّ بقراط في هذا الكلام جرّد القول فجعل قسمة الشيء الذي قصد لتقسيمه إلی أصنافه الخاصّيّة من نفس طبيعته ومن طريق الاستدلال عليها. وذلك أنّ طبيعة الحمّيات هي في جنس الحرارة الخارجة من الطبيعة، وأصناف تلك الحرارة هي ما كان منها من طريق كثرتها وقلّتها، وما كان منها من طريق العنصر الذي تكون فيه تلك الحرارة الخارجة من الطبيعة، وما كان منها من طريق حركتها. فضمّن هذه الأصناف كلّها بطريق تعرّفها فوصفها في هذا الكلام، كما سنبيّن ذلك فيما يستأنف من القول.

فما كان من الأصناف من طريق كثرة تلك الحرارة وقلّتها، فهي بيّنة، ومن عادة الأطبّاء أن يقولوا في هذا الجنس من الأصناف حمّى كبيرة وحمّى صغيرة. وما يجري استعمالهم لهذه الأسماء، وهم يريدون أن يدلّوا بها على شيء من جنس الكيفيّة، على التحقيق، إذ كانت إنّما هي من الأسماء التي تدلّ على الكمّيّة. إلّا أنّه، وإن كان الأمر كذلك، فقد جرت عادتهم أن يفعلوا ذلك لا في الحمّيات فقط، لكن في غيرها من أشياء كثيرة هي من جنس الكيفيّة، وينسبونها إلی الكبر والصغر.

وأمّا الأصناف التي تكون من العنصر الذي تكون فيه تلك الحرارة الخارجة من الطبيعة، فهي من أخصّ الأصناف بتلك الحرارة. وذلك أنّها إمّا أن يكون تمكّنها من نفس جرم القلب، وإمّا من الأخلاط التي يحويها بطنا القلب.

والصنف الثالث الذي بقي من هذه الأصناف هو أن يكون الجوهر الهوائيّ وحده قد سخن سخونة كثيرة، والرطوبات والأعضاء الجامدة في حال ما يسخّن بعد، لا في حال ما قد سخن.

فإنّ الفرق بين أن يكون الشيء يسخّن بعد وبين أن يكون قد سخن ليس باليسير. وتقدر أن تفهم ما قلت بأوضح الطرق من هذه المثالات: توهّم ماء حارّاً قد ألقي في قدر باردة، وجرم القدر يسخّن من ذلك الماء بمجاورته له، ولم يصر بعد إلی الحال التي يكون فيها حارّاً قد استحوذت عليه بأسره الحرارة. ثمّ توهّم قدراً حارّة محميّة قد ألقي فيها ماء بارد، وذلك الماء يسخّن من تلك القدر بمجاورته لها، ولم يصر بعد حارّاً. فعلى هذا المثال الثاني يكون الصنف الأوّل من الحمّيات التي قلنا إنّها تتمكّن من نفس جرم القلب، وعلى المثال الأوّل يكون صنف الحمّيات التي تكون في الأخلاط التي في القلب.

وأمّا الصنف الثالث الذي بقي، فليس يوجد له مثال يشبهه في جميع حالاته. لكن كيما يضح لك وتفهمه، فتوهّم زقّ حدّاد يجتذب إليه هواء حارّاً جدّاً، وذلك الزقّ يسخّن بعد من ذلك الهواء ولم يصر بعد إلی حال ما قد سخن. وهذا المثال يكون أدلّ على طبيعة هذا الأمر الذي قصدنا للدلالة عليه، إن أنت توهّمت أنّ في ذلك الزقّ رطوبة محصورة، وخاصّة إن توهّمت مجاري الزقّ التي يجتذب بها الهواء ويخرجه قد جعلت بحال من الضيق لا يمكن معها أن تنفذ فيها الرطوبة المحصورة في الزقّ ويمكن أن ينفذ فيها الهواء. وهذا هو من أعظم ما تباين فيه أعمال الطبيعة أعمال الناس.

فإنّ الجوهر الهوائيّ مخالط للدم في جميع العروق الضوارب، إذ كانت تدخل الهواء وتخرجه بمسامّ كثيرة، وفي القلب أيضاً حاله تلك ليست بدون حاله في العروق، إذ كانت تلك العروق كلّها تنفذ إليه.